الكتاب: غرائب القرآن ورغائب الفرقان المؤلف: نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري (المتوفى: 850هـ) المحقق: الشيخ زكريا عميرات الناشر: دار الكتب العلميه - بيروت الطبعة: الأولى - 1416 هـ   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] ---------- تفسير النيسابوري = غرائب القرآن ورغائب الفرقان النيسابوري، نظام الدين القمي الكتاب: غرائب القرآن ورغائب الفرقان المؤلف: نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري (المتوفى: 850هـ) المحقق: الشيخ زكريا عميرات الناشر: دار الكتب العلميه - بيروت الطبعة: الأولى - 1416 هـ   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] [ المجلد الاول ] مقدمة المصنف بسم الله الرّحمن الرّحيم إلى الله الكريم أرغب في إبداع غرائب القرآن، وبفضله العميم أتأهّب لإيداع رغائب الفرقان، فإليه منتهى الأمل والسؤال، وهذا حين أفتتح فأقول: الحمد لله الذي جعلنا ممن شرح صدره للإسلام فهو على نور من ربّه وجبلني ذا نفس أبيّة وهمّة عليّة لا تكاد تستأنس إلا بذكر حبه. أعاف سفساف الأمور، وأخاف الموبقات الموجبات للثبور. أميل عن زخرف الدنيا وزبرجها، وأكبح النفس أن تحوم حول مخرجها ومولجها. هي النفس ما حمّلتها تتحمّل إن أرسلت استرسلت وإن قدعت انقدعت في الأول. ولله درّ السلف الشرر العيون إلى الأماني الفارغة الفانية، والأضاليل الملهية المنبئة عن السعادات الباقية. تاقت قلوبهم إلى الكرامات الدائمات واشتاقت أرواحهم إلى اللذّات الحقيقيات، وتاهت ضمائرهم في بيداء عظمة الملك والملكوت وتلاشت سرائرهم في دأماء ديمومية العزة والجبروت، فخلصوا من الناسوت ووصلوا إلى اللاهوت، وفنوا بشهوده وبقوا بوجوده ورضى كل منهم بقضاء معبوده، فتجلت لهم الذات واتحدت عندهم المختلفات فطابت لهم الغدوات واعتدلت لهم العشيات، ولم تطمح أعينهم إلا إلى تحصيل لما يقرّب إلى الله زلفى وما جرت ألسنتهم إلا بذكر الحق طوبى لهم وبشرى. أسألك اللهم الاقتداء بأولئك، والتوفيق لشكر ما أسبغت عليّ من عطائك وأتممت من نعمائك، وأعوذ بك أن أزلّ أو أضلّ فيما آتي وأذر، وأن أركن إلى الذين ظلموا فتمسني النار يوم العرض الأكبر. ثبّت أقدام أقلامي على الصدق، ولا تقض أن ينطق فمي بكلام سوى الحق، واجعلني بفضلك ممن لا ينظر إلا إليك ولا يرغب إلا فيما لديك. بريتني من غير سابقة علم مني، وربيتني من غير حق يوجب ذلك عليك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 فإن افتخرت فيما أنعمت عليّ وقد أمرت وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11] ، وإن استغفرت فمما أسرفت على نفسي وقد قلت وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 110] . فيا من لا يوجد في جوده شوب غرض ولا علّة، شرفني في الآخرة بالعزّة، واحرسني في دنياي من الذلّة، ولا تؤاخذني بالنقصان الإمكاني ولا تعاقبني بالنسيان الإنساني حتى يكون لك الفضل في الآخرة والأولى، والثناء في المبدأ والمحمدة في العقبى. أدعوك دعاء البائس الفقير المستعين، وأتضرّع إليك تضرّع الذليل المهين المستكين الماثل بين يدي مولاه الآيس بالكلية عمن سواه فاسمع فإنك سميع الدعاء وأجب فإنك قادر على ما تشاء. والصلاة والسلام على عبيدك، المخصوصين بتأييدك، المنزهين عن الأدناس الجسميّة، المطهرين عن الأرجاس النفسية، الفائزين بأشرف مراتب الأنس، الواصلين إلى أعلى مدارج الأنس، الضاربين في أرقى معارج القدس، ولا سيما المصطفى محمد الذي أشرق في سماء النبوة بدرا، وأشرف على بساط الرسالة صدرا، سيد الثقلين وسند الخافقين، إمام المتقين ورسول رب العالمين الكائن نبيا وآدم بين الماء والطين، المعفّر له جباه الأملاك، المشرف بلولاك لما خلقت الأفلاك، صلى الله عليه وعلى آله مفاتيح الجنة وأصحابه مصابيح الدحنة وسلم تسليما كثيرا. وبعد، فإن المفتقر إلى عفو ربه الكريم الحسن بن محمد القمي المشتهر بنظام النيسابوري نظم الله أحواله في أولاه وأخراه يقول: من المعلوم عند ذوي الأفهام أن كلام الملوك ملوك الكلام، وبقدر البون بين الواجب الذات والممكن الذات يوجد التفاوت بين كلام الله تعالى وكلام المخلوقات. ولا سيما إذا وقع في معرض التحدي الذي يظهر النبي هنا لك من المتنبي، وهذا شأن القرآن العظيم والفرقان الكريم الذي أخرس شقاشق المناطق، قضّهم بقضيضهم، وأوقر مسامع المصاقع فيما بين أوجهم وحضيضهم حتى اختاروا المقارعة بالسيوف على المعارضة بالحروف، والمقاتلة بالأسنّة على المقاولة بالألسنة، والملاكمة باللهاذم على المكالمة باللهازم، ومبارزة الأقران على الإتيان بأقصر سورة من القرآن. قال الله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء: 88] وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود: 13] وقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] . درج لهم الأمر فأوقع التحدي على القرآن جملة ثم على عشر سور ثم على سورة، فاضطرهم التعجيز إلى إيثار الأصعب على الأسهل فتبين أن الأسهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 في النظر هو الأصعب في نفس الأمر. وذلك من أذلّ دليل على حقية المنزّل وصدق المنزّل عليه وكيف لا وفيه نبأ الأولين وخبر الآخرين وحكم ما بين الخلائق أجمعين؟! قال صلى الله عليه وسلم في وصفه: «هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله. هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. هو الذي لم ينته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به. من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن ناظر به فلج، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» . ولقد انتصب جمّ غفير وجمع كثير من الصحابة والتابعين ثم من العلماء الراسخين والفضلاء المحققين والأئمة المتقنين في كل عصر وحين، للخوض في تيار بحاره والكشف عن أستار أسراره والفحص عن غرائبه والاطلاع على رغائبه نقلا وعقلا وأخذا واجتهادا، فتباينت مطامح همّاتهم، وتباعدت مواقع نياتهم، وتشعبت مسالك أقدامهم وتفنّنت مقاطر أقلامهم فمن بين وجيز وأوجز ومطنب وملغز، ومن مقتصر على حل الألفاظ، ومن ملاحظ مع ذلك حظ المعاني والبيان ونعم اللحاظ، فشكر الله تعالى مساعيهم وصان عن إزراء القادح معاليهم. ومنهم من أعرض عن التفسير وأقبل على التأويل، وهو عندي ركون إلى الأضاليل وسكون على شفا جرف الأباطيل إلا من عصمه الله وإنه لقليل، ومنهم من مرج البحرين وجمع بين الأمرين. فللراغب الطالب أن يأخذ العذب الفرات ويترك الملح الأجاج، ويلقط الدرّ الثمين ويسقط السبج والزجاج. وإذ وفقني الله تعالى لتحريك القلم في أكثر الفنون المنقولة والمعقولة كما اشتهر بحمد الله تعالى ومنّه فيما بين أهل الزمان. وكان علم التفسير من العلوم بمنزلة الإنسان من العين والعين من الإنسان. وكان قد رزقني الله تعالى من إبان الصبا وعنفوان الشباب حفظ لفظ القرآن وفهم معنى الفرقان. وطالما طالبني بعض أجلّة الإخوان وأعزة الأخدان ممن كنت مشارا إليه عندهم بالبنان في البيان- والله المنان يجازيهم عن حسن ظنونهم ويوفّقنا لإسعاف سؤلهم وإنجاح مطلوبهم- أن أجمع كتابا في علم التفسير مشتملا على المهمات مبنيا على ما وقع إلينا من نقل الأثبات وأقوال الثقات، من الصحابة والتابعين ثم من العلماء الراسخين والفضلاء المحققين المتقدمين والمتأخرين- جعل الله تعالى سعيهم مشكورا وعملهم مبرورا- فاستعنت بالمعبود وشرعت في المقصود، معترفا بالعجز والقصور في هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الفن وفي سائر الفنون، لا كمن هو بابنه وبشعره مفتون. كيف وقد قال عز من قائل وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: 122] وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا [النساء: 45] وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء: 81، 132، 171 والأحزب 3، 48] ولما كان التفسير الكبير المنسوب إلى الإمام الأفضل والهمام الأمثل، الحبر النحرير والبحر الغزير، الجامع بين المعقول والمنقول الفائز بالفروع والأصول، أفضل المتأخرين فخر الملة والحق والدين محمد بن عمر بن الحسين الخطيب الرازي تغمده الله برضوانه وأسكنه بحبوحة جنانه، اسمه مطابق لمسماه وفيه من اللطائف والبحوث ما لا يحصى، ومن الزوائد والغثوث ما لا يخفى، فإنه قد بذل مجهوده ونثل موجوده حتى عسر كتبه على الطالبين وأعوز تحصيله على الراغبين، فحاذيت سياق مرامه، وأوردت حاصل كلامه، وقربت مسالك أقدامه، والتقطت عقود نظامه، من غير إخلال بشيء من الفرائد أو إهمال لما يعدّ من اللطائف والفوائد، وضممت إليه ما وجدت في الكشاف وفي سائر التفاسير من اللطائف المهمات، أو رزقني الله تعالى من البضاعة المزجاة، وأثبت القراآت المعتبرات والوقوف المعللات، ثم التفسير المشتمل على المباحث اللفظيات والمعنويات، مع إصلاح ما يجب إصلاحه وإتمام ما ينبغي إتمامه من المسائل الموردة في التفسير الكبير والاعتراضات، ومع حل ما يوجد في الكشاف من المواضع المعضلات سوى الأبيات المعقدات، فإن ذلك يوردها من ظن أن تصحيح القراآت وغرائب القرآن إنما يكون بالأمثال والمستشهدات كلا، فإن القرآن حجة على غيره وليس غيره حجة عليه، فلا علينا أن نقتصر في غرائب القرآن على تفسيرها بالألفاظ المشتهرات وعلى إيراد بعض المتجانسات التي تعرف منها أصول الاشتقاقات. وذكرت طرفا من الإشارات المقنعات والتأويلات الممكنات والحكايات المبكيات والمواعظ الرادعة عن المنهيات الباعثة على أداء الواجبات، والتزمت إيراد لفظ القرآن الكريم أوّلا مع ترجمته على وجه بديع وطريق منيع مشتمل على إبراز المقدّرات وإظهار المضمرات وتأويل المتشابهات وتصريح الكنايات وتحقيق المجازات والاستعارات فإن هذا النوع من الترجمة مما تسكب فيه العبرات وترن «1» المترجمون هنا لك إلى العثرات، وقلما يفطن له الناشئ الواقف على متن اللغة العربية فضلا عن   (1) هكذا في النسخة المطبوعة وفي نسخة أخرى ويزن في نسخة ثالثة وذن ولعل الصواب ويزل وليتحرر اه- مصححة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الدخيل القاصر في العلوم الأدبية. واجتهدت كل الاجتهاد في تسهيل سبيل الرشاد، ووضعت الجميع على طرف التمام ليكون الكتاب كالبدر في التمام وكالشمس في إفادة الخاص والعام، من غير تطويل يورث الملام ولا تقصير يوعر مسالك السالك ويبدد نظام الكلام، فخير الكلام ما قل ودل، وحسبك من الزاد ما بلغك المحل. والتكلان في الجميع على الرحمن المستعان والتوفيق مسؤول ممن بيده مفاتيح الفضل والإحسان وخزائن البر والامتنان. وهذا أوان الشروع في تفسير القرآن، ولنقدم أمام ذلك مقدمات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 المقدمة الأولى في فضل القراءة والقارئ، وآداب القراءة وجواز اختلاف القراآت، وذكر القراء المشهورين المعتبرين عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن فاستظهره وأحلّ حلاله وحرّم حرامه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار» «1» وعنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه» «2» . وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ قال: «الحالّ المرتحل» ، قال: وما الحالّ المرتحل؟ قال: «يضرب من أول القرآن إلى آخره كلّما حلّ ارتحل» «3» . وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاقّ، له أجران» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تبارك وتعالى يتلون كتاب الله عز وجل ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده» «4» . وعن سهل بن معاذ الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ القرآن وعمل به ألبس والداه تاجا يوم القيامة ضوءه أحسن من   (1) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 13. أحمد في مسنده (1/ 148) . (2) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب 21. أبو داود في كتاب الوتر باب 14. الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 15. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 16. أحمد في مسنده (1/ 57، 58) . (3) رواه الترمذي في كتاب القرآن باب 11. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 33. (4) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث 37، 38. أبو داود في كتاب الوتر باب 14. الترمذي في كتاب القرآن باب 10. أحمد في مسنده (2/ 252) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ضوء الشمس في بيوت الدنيا وكانت فيكم، فما ظنكم بالذي عمل بهذا؟» «1» وفي الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثل صاحب القرآن مثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت» «2» . وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن» «3» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقال لصاحب القرآن أقرأ وراق ورتّل كما كنت ترتّل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرأ» «4» . وفي الصحاح كلها عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره في الصلاة، فتربّصت حتى سلّم فلبيته بردائه فقلت: «من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها على غير ما قرأت. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسله اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هكذا أنزلت» . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأ يا عمر» فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هكذا أنزلت، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه» . إذا تقرر ذلك فنحن نذكر في الكتاب من القراآت السبع المنسوبة إلى القراء السبعة، والأربع المنسوبة إلى الأئمة المختارين، ونرى أن نفصّل هاهنا أساميهم وأسامي رواتهم ليتعين ما نسب في أثناء التفسير إلى كل منهم والله ولي التوفيق. ذكر القراء السبعة وتسمية نقلتهم من الرواة وطرقهم من الثقات: 1- أبو عمرو زبان بن العلاء البصري. روى عن مجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات سنة أربع وخمسين ومائة. ورواته ثلاثة: أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي، روى عنه أبو عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز الدوري طريق أبي الزعراء، عبد الرحمن بن عبدوس، وأبو الفتح عامر بن صالح الموصلي   (1) أبو داود في كتاب الوتر باب 14. أحمد في مسنده (3/ 440) . (2) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب 23. مسلم في كتاب المسافرين حديث 226. النسائي في كتاب الافتتاح باب 37. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 52. أحمد في مسنده (2/ 7، 23) . (3) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 32. مسلم في كتاب المسافرين حديث 232. أبو داود في كتاب الوتر باب 20. الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 17. (4) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 18. أحمد في مسنده (2/ 192، 471) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 المعروف بأوقية طريق أبي قبيصة حاتم بن إسحق الموصلي، وأبو شعيب صالح بن زياد السوسي طريق أبي الحرث محمد بن أحمد الرقي، وأبو إسحق إبراهيم بن حماد طريق أبي عيسى موسى بن عبد الله الهاشمي. وأبو نعيم شجاع بن أبي نصر الخراساني، روى عنه أبو جعفر محمد بن غالب طريق أبي علي الحسن بن الحسين الصواف. وعباس بن فضل الأنصاري، روى عنه أبو عمرو محمد بن رومي طريق أبي إسحق إبراهيم بن كعب الموصلي وطريق شباب بن خليفة، وهو الأصح، وطريق أبي إسحق أيضا عن أوقية. 2- ابن كثير هو أبو محمد عبد الله بن كثير المكي. روى عن مجاهد بن جبر عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي سنة عشرين ومائة، ورواته أربعة: أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع بن أبي بزة البزي، وبينه وبين ابن كثير رجال لأنه يروي عن عكرمة بن سليمان بن كثير عن شبل بن عباد، وإسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين عن ابن كثير. وروى عن البزي أبو ربيعة محمد بن إسحق بن أعين الربعي طريق الزينبي- وهو الهاشمي- وطريق أبي بكر محمد بن الحسن المعروف بالنقاش الموصلي، وأبو محمد الهاشمي- وطريق أبي بكر محمد بن الحسن المعروف بالنقاش الموصلي، وأبو محمد إسحق بن أحمد الخزاعي المكي طريق ابن شنبوذ وطريق الهاشمي وطريق أبي بكر أحمد بن محمد الطوابيقي وطريق أبي القاسم السرنديبي وطريق أبي الحسن علي بن زوابة القزاز وطريق أبي بكر محمد بن عيسى بن بندار الجصاص، وأبو علي الحسين بن محمد الحداد طريق الهاشمي عن البزي. عبد الله بن فليح عن رجاله عن ابن كثير، ورجاله: محمد بن سبعون، وداود بن شبل عن إسماعيل بن عبد الله عن ابن كثير. وروى عن ابن فليج أبو علي الحداد طريق النقاش وطريق الهاشمي وطريق الخزاعي وطريق ابن شنبوذ. أبو الحسن أحمد بن محمد بن عون القواس، وبينه وبين ابن كثير أيضا رجال، لأنه يروي عن أبي الاخريط وهب بن واضح عن إسماعيل بن عبد الله عن عبد الله بن عامر الأموي ومعروف بن مشكان، وشبل بن عباد عن ابن كثير. وروى عن القواس قنبل طريق الزينبي طريق أبي ربيعة طريق أبي نجاح طريق ابن أبي عون القاضي طريق ابن شنبوذ طريق أبي القاسم السرنديبي. زمعة بن صالح عن ابن كثير طريق عبد الله بن سعوة وطريق شعيب بن مرة. 3- نافع بن أبي نعيم المدني، قرأ على أبي جعفر القاري وعلى سبعين من التابعين على ابن عباس وأبي هريرة على أبيّ بن كعب على النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي سنة تسع وستين ومائة، ورواته ثلاثة: إسماعيل بن جعفر بن كثير الأنصاري، روى عنه أبو الزعراء وأبو بكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الحسن بن علي بن بشار النحوي، وأبو جعفر أحمد بن فرج الضرير. ورش، اسمه عثمان بن سعيد المصري، روى عنه محمد بن عبد الرحيم الأصفهاني طريق أبي الحسن محمد بن أحمد المروزي وطريق أبي القاسم هبة الله بن جعفر بن محمد بن الهيثم، وأبو عبد الله محمد بن إسحق البخاري طريق أبي الأسد أحمد بن إبراهيم الفقيه وطريق أبي بكر محمد بن مرثد التميمي. قالون: واسمه عيسى بن مينا النحوي، روى عنه أبو علي الحسن بن عباس الرازي طريق أبي بكر أحمد بن حماد المقري، وأبو إبراهيم مصعب بن إبراهيم الزهري طريق أبي بكر محمد بن عبد الله بن فليح، وأبو نشيط محمد بن هارون المروزي طريق أبي حسان محمد بن أحمد بن الأشعث الجيزي، وأبو الحسن أحمد بن يزيد الحلواني طريق الحسن بن العباس الرازي وطريق أبي عون القاضي. 4- عبد الله بن عامر اليحصبي الشامي، قرأ على المغيرة بن أبي شهاب المخزومي على عثمان بن عفان رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي رضي الله عنه سنة ثمان عشرة ومائة وله راويان. روى عنه من رجاله أبو محمد عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان الدمشقي، ورجاله أيوب بن تميم عن يحيى بن الحرث عن ابن عامر، روى عنه أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد طريق الحسن بن عبد الله المقري، وأبو بكر محمد بن الحسن النقاش الموصلي المفسر طريق الحسن بن عبد الله أيضا، وأبو الحسن محمد بن النضر بن مرّ بن الحر الربعي المعروف بابن الأخرم عن الأخفش عن ابن ذكوان. هشام بن عمار عن رجاله عن ابن عامر، ورجاله أيوب بن تميم وسويد بن عبد العزيز عن يحيى بن الحرث، روى عنه البخاري عن الحلواني عن هشام طريق أبي علي الحسن بن مهران، وأبو الحسين أحمد بن يزيد الحلواني الصفار طريق أبي عبد الله الحسين بن علي بن حماد الأزرق، وأبو إسحق إبراهيم بن يونس الرازي طريق البخاري. 5- عاصم بن بهدلة الأسدي، قرأ عاصم على زر بن حبيش على عبد الله بن مسعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ أيضا على أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي معلم الحسن والحسين على علي رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتوفي سنة ثمان وعشرين ومائة ورواته أربعة: أبو عمر حفص ابن أبي داود سليمان بن المغيرة البزاز الأسدي وكان شريك أبي حنيفة. روى عنه أبو محمد هبيرة بن محمد التمار طريق الحسنون بن الهيثم طريق أحمد بن علي الخرّاز وأبو حفص عمرو بن الصباح طريق عبد الصمد بن محمد. أبو بكر شعبة بن عياش روى عنه عبد الحميد بن صالح البرجمي طريق جعفر بن غالب اليشكري، وأبو زكريا يحيى بن آدم القرشي طريق أبي حمدون الطيب بن إسماعيل وطريق شعيب بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 أيوب بن زريق الصريفيني، وأبو يوسف يعقوب بن خليفة بن سعد بن هلال الأعشى وله راويان، روى عنه أبو جعفر محمد بن غالب ومحمد بن حبيب الشموني. حماد بن أبي زياد طريق يحيى بن محمد العليمي الأنصاري رحمه الله تعالى. المفضل بن محمد الضبّي روى عنه جبلة بن مالك النضري طريق أبي زيد عمرو بن شيبة، وأبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري طريق محمد بن يحيى القطفي رحمه الله تعالى. 6- حمزة بن حبيب الزيات العجلي: قرأ على سليمان بن مهران الأعمش على يحيى بن وثاب على زر بن حبيش على علي بن أبي طالب وعثمان وابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي سنة ست وخمسين ومائة، ورواته أربعة: أبو إسحق إبراهيم بن زربي طريق أبي المستنير رجاء بن عيسى بن رجاء الجوهري. عبد الرحمن قلوقا طريق أبي المستنير أيضا. أبو محمد عبد الله بن صالح العجلي طريق أبي حمدون الطيب بن إسماعيل وطريق أبي إسحق إبراهيم بن نصر بن عبد العزيز المقري ويروى نصير بن عبد الله المقري وهو الأصح. سليم بن عيسى الحنفي، روى عنه خلاد بن خالد الصيرفي طريق محمد بن شاذان الجوهري وطريق القاسم بن يزيد الوزان، وأبو محمد خلف بن هشام البزاز طريق أبي الحسين إدريس بن عبد الكريم الحداد، وأبو جعفر محمد بن سعدان النحوي طريق محمد بن سليمان وطريق أبي واصل أحمد بن واصل، وأبو عمرو الدوري طريق أبي الزعراء. 7- علي بن حمزة الكسائي: قرأ على حمزة بن حبيب على يحيى بن وثاب على زر بن حبيش على عثمان وعلي وابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم، توفي سنة تسع وثمانين ومائة رضي الله عنه وله ستة رواة: أبو عبد الرحمن قتيبة بن مهران الآزاذاني، روى عنه أبو الفرج محمد بن أحمد بن إبراهيم المقرئ طريق أبي الفضل العباس بن الوليد بن مرداس، وأبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران طريق أحمد بن حدي. أبو المنذر نصر بن يوسف النحوي روى عنه محمد بن إدريس الأشعري المعروف بالديداني طريق أبي عبد الله الحسين بن علي بن حمّاد المعروف بالأزرق وأبو عبد الله محمد بن عيسى الأصفهاني طريق أبي علي الحسن بن العباس الرازي، وأبو جعفر أحمد بن محمد بن رستم الطبري طريق بكّار بن أحمد المقري، وأبو جعفر علي بن أبي نصير النحوي طريق الأزرق المذكور. أبو الحرث الليث بن خالد طريق أبي عبد الله محمد بن يحيى الكسائي. حمدويه بن ميمون الزجاج طريق أبي العباس أحمد بن يعقوب السمسار. أبو حمدون الطيب بن إسماعيل طريق أبي علي الحسن بن الحسين الصواف. أبو عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز الدوري روى عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 أبو بكر الحسن بن علي بن بشار النحوي طريق أبي الفرج محمد بن أحمد بن إبراهيم، وأبو الزعراء طريق أبي بكر بن مجاهد، وأبو الحسن علي بن سليم طريق أبي القاسم هبة الله بن جعفر، وطريق إبراهيم بن أحمد الخرقي، وأبو جعفر أحمد بن فرح الضرير طريق أبي بكر النقاش الموصلي. ذكر الأئمة المختارين وتسمية رواتهم: أبو جعفر يزيد بن القعقاع القاري المدني، وقار موضع من المدينة، ورواته اثنان: أبو موسى عيسى بن وردان الحذاء طريق قالون عيسى بن مينا النحوي، وأبو مسلم سليمان بن مسلم الجماز الزهري طريق أبي عبد الرحمن قتيبة بن مهران. أبو محمد يعقوب بن إسحق الحضرمي توفي في ذي الحجة سنة خمس ومائتين، وقرأ على أبي المنذر سلام بن سليمان الطويل على عاصم وأبي عمر، ورواته ثلاثة: روح بن عبد الملك طريق أحمد بن يحيى المعدل، أبو بكر محمد بن المتوكل اللؤلؤي الملقب برويس طريق أبي بكر محمد بن هارون وطريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مقسم الفقيه، أبو أحمد زيد بن أحمد بن إسحق طريق المعدل أيضا وطريق محمد بن هارون. أبو محمد خلف بن هشام بن ثعلب البزار طريق أبي الحسن إدريس بن عبد الكريم، ونقله أبو بكر محمد بن يعقوب بن مقسم العطار، وقرأ خلف على سليم على حمزة. أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني طريق أبي علي الحسن بن تميم وطريق أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد وطريق مسيح بن حاتم، وقرأ سهل على يعقوب وأيوب بن المتوكل. فهذا هو المعول عليه من القراآت وأما الشواذ فلا نتعرض منها إلا لما فيه نكتة أو غرابة وذلك في أثناء التفسير لا في خلال القراآت. والله أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 المقدمة الثانية الاستعاذة المندوب إليها في قوله عز من قائل: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98] قرأها أبو عمرو ويعقوب وابن كثير غير الهاشمي وعاصم غير هبيرة: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم» ، وروى الهاشمي عن ابن كثير: «أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم» ، وروى هبيرة عن حفص عن عاصم: «أعوذ بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم» ، وقرأها أبو جعفر ونافع وابن عامر وحمزة وعلي الكسائي وخلف: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم» . وقد يروى عن حمزة: «أستعيذ بالله» أو «نستعيذ بالله» مخيّرا. وقرأ سهل: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم» . ومنشأ هذه الاختلافات أنه قد جاء في سورة النحل فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ [النحل: 98] الآية وفي حم السجدة فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 36] وروى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة قال: «الله أكبر كبيرا- ثلاث مرات- والحمد لله كثيرا- ثلاث مرات- وسبحان الله بكرة وأصيلا- ثلاث مرات-» ثم قال: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه» . وروى البيهقي في كتاب السنن عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبّر ثلاثا وقال: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» . وروى الضحاك عن ابن عباس أنّ أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: قل يا محمد أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، اقرأ باسم ربك الذي خلق. ثم في المقدمة مسائل: الأولى: الأكثرون على أن وقت الاستعاذة قبيل القراءة، إذ المراد من قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [النحل: 98] : إذا أردت قراءة القرآن كما في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة: 6] المراد: إذا أردتم القيام إلى الصلاة. والأخبار المذكورة أيضا تؤيد ذلك. وعن النخعي وقد يروى عن حمزة وابن سيرين أيضا، أن وقتها بعيد القراءة نظرا إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ظاهر اللفظ، ولأنه قد يدخل المرء إعجاب بسبب القراءة حيث إنها طاعة موجبة للثواب فيناسب أن يستعيذ من ذلك. الثانية: الأكثرون على أن الاستعاذة مندوبة، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلّم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة، وزيف بأن الخبر غير مشتمل على بيان جملة واجبات الصلاة، فلا يلزم من عدم ذكر الاستعاذة فيه عدم وجوبها. وعن عطاء أن الاستعاذة واجبة في كل قراءة في الصلاة وغيرها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليها. وقال تعالى: فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153 و 155] «1» ولأن الأمر في «فاستعذ» للوجوب. وإنما تجب عند كل قراءة لأنه قال: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدلّ على التعليل، والحكم يتكرّر بتكرّر العلّة. ولأن الاستعاذة لدفع شر الشيطان، ودفعه واجب، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب. وعن ابن سيرين وجوبها في العمر مرة واحدة وعن مالك أنه لا يتعوّذ في المكتوبة إلا في قيام رمضان. الثالثة: المستحبّ فيها الإسرار في الصلاة وإن كانت جهرية إلحاقا لها بما قبلها من الذكر وهو دعاء الاستفتاح، ولأن الجهر كيفية وجودية، والإخفاء عبارة عن عدم تلك الكيفية والأصل هو العدم، وأنها تستحبّ في كل ركعة لما مرّ من أنّ الحكم يتكرر بتكرر العلة لكنها آكد في الأولى. الرابعة: اعلم أن الكلام في معنى قول القائل: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ، يتعلق بخمسة أركان: الاستعاذة، والمستعيذ، والمستعاذ له، والمستعاذ منه، وما لأجله الاستعاذة. فههنا أبحاث: البحث الأول: معنى العوذ الالتجاء أو الالتصاق. قال الجوهري: أطيب اللحم عوّذه وهو ما التصق منه بالعظم. أي التجئ إلى رحمة الله، أو التصق بفضله. والباء في «بالله» للإلصاق، كما أن «من» في «من الشيطان» للابتداء، لأنه ابتدأ بالتبري من الشيطان والتصق برحمة الله تعالى وإعانته. واستعاذة لا تتمّ إلا بأن يعلم العبد كونه عاجزا عن جلب المنافع الدينية والدنيوية ودفع المضارّ العاجلة والآجلة، وأن الله تعالى قادر على إيصال المنافع   (1) إن الضمير في أمر قوله تعالى فَاتَّبِعُوهُ عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفقا لسياق كلام المؤلف. وعلى هذا تكون الآية التي أرادها المؤلف هي 158 من سورة الأعراف، وهي قوله تعالى: ... فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. فاقتضى التنويه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ودفع المضار لا قدرة على ذلك لأحد سواه تعالى. ويتولد عن هذا العلم في القلب حالة هي انكسار وخضوع، ويحصل منها في القلب أن يصير العبد مريدا لأن يصونه الله تعالى عن الآفات ويفيض عليه الخيرات، ثم يصير بلسانه طالبا لذلك فيقول: «أعوذ بالله» . فالركن الأعظم في الاستعاذة هو أن يعلم العبد أنّ الله تعالى عالم بكل المعلومات، وإلا جاز أن لا يعلم حاله فتقع الاستعاذة عبثا وأن يعلم أنه قادر على جميع الممكنات، وإلّا فربّما كان عاجزا عن تحصيل مراد العبد وأن يعلم أنه جواد معطاء، وإلا لجاز أن يبخل بمقصوده وأن يعلم أنه لا يقدر أحد سوى الله على تحصيل مرامه، وإلا لم يكن صادق الرغبة في الاستعاذة به. والحاصل أن العبد ما لم يعرف عزة الربوبية وذلّة العبودية لم تصح منه الاستعاذة. ومما يدلّ على ذلّة الإنسان وعجزه أن بعض الأكياس ربما يبقى في شبهة واحدة طول عمره ولا تنكشف له إلى أن يجيء بعده من يحلها. ولهذا وقع الاختلاف في الأديان والمذاهب، ولولا إعانة الله تعالى وإرشاده لم تتخلص سفينة فكره من أمواج الضلالات. وأيضا كل واحد يريد أن يحصل له الدين الحق ولا يرضى لنفسه الجهل والكفر، ولكم من مضلّ مبطل في الدنيا، فلا خلاص من ظلمات الشبهات إلا بإعانة رب الأرض والسموات. ولا يقع الحد الأوسط للمطالب في الذهن إلّا بهداية من بيده مفاتيح الخيرات. وأيضا البدن يشبه الجحيم وعليها تسعة عشر من الزبانية وهي: الحواس الخمس الظاهرة، والخمس الباطنة، والقوى الطبيعية السبع، والشهوة، والغضب ومجال تصرّف كلّ منها غير متناه بحسب الشخص والعدد، ويحصل من كل منها أثر في القلب يجرّه من أوج عالم الروحانيات إلى حضيض الجسمانيات فلا خلاص للقلب عن هذه الظلمات إلا بنور الله تعالى. وأيضا كما أنه لا نهاية لمراتب الكمالات فلا نهاية لدرجات الحرص على اللذات الحسيات والخيالات، وكما أنه لا يمكن تحصيل الكمالات التي لا نهاية لها فكذا لا يمكن إزالة مرض الحرص على اللذات فيجب الرجوع إلى واهب السعادات الحقيقات. وفي بعض الكتب الإلهية قال الله تعالى: «وعزّتي وجلالي لأقطعنّ أمل من يؤمل غيري باليأس، وألبسنه ثوب المذلة عند الناس، ولأجنبنه من قربي، ولأبعدنه من وصلي، ولأجعلنه متفكرا حيران يؤمل غيري في الشدائد، والشدائد بيدي وأنا الحي القيوم، ويطرق بالفكر أبواب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب، وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني» . ثم الكلام في صحة الاستعاذة كالكلام في سائر الأدعية والعبادات التي جعلها الله تعالى سببا وواسطة لحصول الكمالات العاجلة والآجلة للعبد. وذلك أنه تعالى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [هود: 107] خالق لما يشاء كما يشاء لا اعتراض لأحد من خلقه عليه وعلى أفعاله وعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 النظام الذي اخترعه، الكل منه وبه، وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه، إذا أمرك بالاستعاذة فاستعذ، لأنه جعلها سببا لدفع الوساوس والهواجس. كما أنه إذا جعل الأكل والشرب سببا لدفع الجوع والعطش فإنك تأكل وتشرب ولا تقول ما الفائدة في الأكل والشرب إن كان الإشباع والإرواء من الله تعالى وإن كانا بقدرة الله تعالى. وبهذا التحقيق تسقط الاعتراضات المشهورة للجبرية والمعتزلة لأنها تحوم حول ما أشرنا إليه. ولا ينبئك على سر الاستعاذة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» . البحث الثاني: المستعيذ ليس شخصا معينا بل كل مخلوق مفتقر إلى الاستعاذة به. ولهذا قال نوح: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هود: 47] ، فأعطي السلام والبركات في قوله: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ [هود: 48] وقال يوسف: مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يوسف: 23] ، فصرف عنه السوء والفحشاء وقال موسى: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ [غافر: 27] فأغرق الله تعالى عدوّه وأورثه أرضهم وديارهم وأموالهم وقالت امرأة عمران: إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [آل عمران: 36] «1» فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً [آل عمران: 37] . وقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق: 1] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس: 1] فوقي شر النفاثات في العقد وكفي شر الوسواس الخناس. البحث الثالث: المستعاذ له إنما هو الله أو كلمات الله كما جاء في الأخبار: «أعوذ بكلمات الله التامة» . أما البحث عن اسم الله فسيجيء في تفسير البسملة. وأما كلمات الله فالمراد بها المبدعات الصادرة عنه تعالى بكلمة كُنْ [البقرة: 217 آل عمران: 47 و 59 الأنعام: 73 النحل: 40 مريم: 35 يس: 82 غافر: 68] من غير مادة ومدة، فكأن الأرواح البشرية تستعيذ وتستعين بالأرواح العلوية المقدسة في دفع شرور الأرواح الخبيثة. وإنما تحسن الاستعاذة بالكلمات إذا كان قد بقي في نظره التفات إلى ما سوى الله تعالى. وأما إذا تغلغل في بحر التوحيد لم يستعذ إلا بالله ومن الله كما قال صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بك منك» ، وإذا فني عن نفسه وفني أيضا عن فناء نفسه قال: «أنت كما أثنيت على نفسك» . البحث الرابع: المستعاذ منه الشيطان، وما لأجله الاستعاذة دفع شره. فنقول: أما   (1) تنقص «الواو» في «إني» ، فتمام الآية قوله تعالى: وَإِنِّي أُعِيذُها ... الآية. تفسير غرائب القرآن/ مجلد 1/ م 2 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 اشتقاقه فمن ش ط ن، ويقال شطن الدار أي بعدت، والشيطان بعيد عن السداد والرشاد، وقد يسمى كل متمرّد من إنس أو دابة شيطانا. قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: 112] وركب عمر برذونا فطفق يتبختر فجعل يضربه ولا يزداد إلا تبخترا فنزل عنه فقال: ما حملتموني إلا على شيطان. هذا أحد قولي سيبويه. وعلى هذا ف «نونه» أصلية، ووزنه «فيعال» ، وقد جعل سيبويه في موضع آخر النون زائدة وجعله فعلان من شاط يشيط إذا بطل. ولما كان كل متمرد كالباطل في نفسه لأنه مبطل لوجوه مصالح نفسه سمّي شيطانا. والرجيم معناه المرجوم كاللعين بمعنى الملعون. ومعنى المرجوم إما الملعون من قبل الله تعالى، وإما لأنه تعالى أمر الملائكة برمي الشيطان بالشهب الثواقب، ثم وصف بذلك كل شرير متمرد. وأما من ضم إلى الاستعاذة قوله: «إن الله هو السميع العليم» فوجه ذلك بعد الاقتداء بما ورد في القرآن أن العبد كأنه يقول: يا من يسمع كل مسموع ويعلم كل سرّ خفي أنت تسمع وسوسة الشيطان وتعلم غرضه فيها، وأنت القادر على دفعها عني، فادفعها عني بفضلك. ولنتكلم في الجن والشياطين فنقول: من الناس من أنكرهم لوجوه: الأول: لو كان موجودا فإن كان جسما كثيفا لوجب أن يراه كلّ من كان سليم الحس، لكنّا لا نراه وإن كان جسما لطيفا لوجب أن يتمزّق ويتفرّق عند هبوب الريح العاصفة، ولزم أيضا أن لا يقدر على الأعمال الشاقة التي ينسبها إليه المثبتون. والجواب أنه لم لا يجوز أن يكون جوهرا مجردا وبتقدير أن يكون جسما كثيفا فلم لا يجوز أن يصرف الله تعالى عنه أبصار الإنسان لحكمة في ذلك، كما قال عز من قائل: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف: 27] . وعلى تقدير كونه جسما لطيفا فلم لا يجوز أن يكون تركيبه محكما كالأفلاك. الوجه الثاني: قالوا: الظاهر الغالب أنهم لو كانوا في العالم لخالطوا الناس وشوهدت منهم العداوة والصداقة وليس كذلك، وأهل التعزيم إذا تابوا من صنعتهم يكذبون أنفسهم فيما نسبوه إليهم. ومجال المنع في هذا الوجه لا يخفى لثبوت الاختلاط والعداوة والصداقة منهم بالنسبة إلى كثيرين. قال عز من قائل: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: 27] ، قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 1] وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ [سبأ: 12] امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الأنعام: 130 والرحمن: 33] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وقال صلى الله عليه وسلم: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا» «1» «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» «2» «ما منكم أحد إلا وله شيطان» . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن الله أعانني عليه فاسلم» «3» . الوجه الثالث: قالوا: إخبار الأنبياء عنهم لا تفيد إثباتهم، إذ على تقدير ثبوتهم يجوز أن يقال: كل ما أتى به الأنبياء فإنما حصل بإعانة الجن فمن الجائز أن حنين الجذع كان بسبب نفوذ الجن في الجذع، وكلّ فرع أدّى إلى إبطال الأصل فهو باطل. والجواب أن الدليل الدال على صحة نبوة الأنبياء، كما يجيء، يدلّ على صدق أخبارهم. ومن جملة ما أخبروا عنه وجود الجن والشياطين فصحّ وجودهم. واعلم أن كثيرا من الناس أثبتوا موجودات لا متحيزة ولا حالة في المتحيز وزعموا أنها مجردات عن شوائب الجسمانيات وهم الملائكة المقربون الذين لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [الأنبياء: 19] ، ويليها مرتبة الأرواح المتعلّقة بتدبير الأجسام وأشرفها حملة العرش، ثم الحافّون من حول العرش، ثم ملائكة الكرسي، ثم ملائكة السموات طبقة فطبقة، ثم ملائكة كرة الأثير، ثم ملائكة كرة النسيم، ثم ملائكة كرة الزمهرير، ثم الملائكة المسلطة على البحار، ثم على الجبال ثم مرتبة الأرواح السفلية المتصرفة في هذه الأجسام النباتية والحيوانية. وهذه الأرواح قد تكون مشرقة خيرة وهم من قبيل الملائكة، وقد تكون مظلمة شريرة وهم شياطين الإنس والجن. ولفظ الجن مأخوذ من الاجتنان وهو الاستتار لاستتارهم عن العيون، ومنه المجنون لاستتار عقله، والجنة لكونها ساترة للإنسان. وطوائف المكلفين أربعة: الملائكة والإنس والجن والشياطين. والاختلاف بين الجن والشياطين قيل بالذاتيات كما بين الإنسان والفرس، وقيل بالعوارض، فالجن خيارهم والشياطين أشرارهم. والمشهور أن الجن لهم قدرة على النفوذ في بواطن البشر، لأنهم لو كانوا مجردين فلا استبعاد في كونهم متصرفين في باطن الإنسان وإن كانوا أجساما لطيفة، فكذلك لا يبعد نفودهم في باطن الآدمي. كيف وقد ورد في القرآن: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: 275] ،   (1) رواه مالك في الموطأ في كتاب الاستئذان حديث 33. (2) رواه البخاري في كتاب الأحكام باب 21. أبو داود في كتاب الصوم باب 78. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 65. الدارمي في كتاب الرقاق باب 66. أحمد في مسنده (3/ 156، 285) . (3) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث 69، 70. الترمذي في كتاب الرضاع باب 17. النسائي في كتاب النساء باب 4. الدارمي في كتاب الرقاق باب 25، 66. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وفي الحديث: «إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» «1» ولا خلاف في أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأما الجن والشياطين فخلاف ذلك. قال صلى الله عليه وسلم في العظم: «إنه زاد إخوانكم من الجن» «2» وفي القرآن أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي [الكهف: 50] . وأما كيفية الوسوسة فيروى أن عيسى عليه السلام دعا ربه أن يريه موضع الشيطان من بني آدم، فأراه ذلك فإذا رأسه الحية واضع رأسه على قلبه فإذا ذكر الله خنس وأيس، وإذا لم يذكره وضع رأسه على حبة قلبه. وقال صلى الله عليه وسلم: «لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات» «3» وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: «إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأمّا لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ثم قرأ صلى الله عليه وسلم الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ [البقرة: 268] الآية، فمن الخواطر ما هو أصل العادة، ومنها ما هو أصل الشقاوة. وسبب اشتباه خطأ الخواطر بصوابها أحد أربعة أشياء: إما ضعف اليقين، أو قلة العلم بصفات النفس وأخلاقها، أو متابعة الهوى بخرم قواعد التقوى، أو محبة الدنيا وجاهها ومالها. فمن عصم من هذه الأربعة يفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان، ومن ابتلى بها فلا. واتّفق المحقّقون على أن من كان أكله من الحرام لا يفرق بين الإلهام والوسوسة وفرقوا بين هواجس النفس ووسوسة الشيطان بأن النفس تطالب وتلحّ، فلا تزال كذلك حتى تصل إلى مرادها. والشيطان إذا دعا إلى زلّة ولم يجب، يوسوس بأخرى إذ مراده الإغواء كيف أمكن. وحقيقة الوسوسة راجعة إلى أن الإنسان بينما هو ذاهل عن الشيء ذكره الشيطان ذلك فيحدث له ميل، ويترتب الفعل على حصول ذلك الميل فكأن الذي أتى به الشيطان من خارج ليس إلا ذلك التذكير. وإليه الإشارة في القرآن حكاية عن إبليس وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: 22] ، ولا يتسلسل هذا التذكير وإنما يقدم   (1) رواه البخاري في كتاب الأحكام باب 21. أبو داود في كتاب الصوم باب 78. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 65. الدارمي في كتاب الرقاق باب 66. أحمد في مسنده (3/ 156، 285) . (2) رواه أحمد في مسنده (1/ 436، 458) . الترمذي في كتاب تفسير سورة 46 باب 3. (3) رواه أحمد في مسنده (2/ 353) بلفظ: « ... يحومون على بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السموات والأرض» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الشيطان على ذلك لعدم قابلية دفع في فطرته الأولى لحكمة علمها الله تعالى فيه. والمقصود من الاستعاذة لا ينحصر في دفع وسوسة الشيطان إلا أن ذلك معظم المقاصد ولهذا خص بالذكر في القرآن، ولو نوى المستعيذ دفع جميع المضار الدنيوية والأخروية فلا ضير. نكت في الاستعاذة الأولى: «أعوذ بالله» ، عروج من الخلق إلى الحق ومن الممكن إلى الواجب، لأن «أعوذ» إشارة إلى الحاجة التامة وب «الله» إشارة إلى المعبود القادر على تحصيل كل الخيرات ودفع كل الآفات ومن عرف نفسه بالضعف والقصور عرف الله بأنه قادر على كل مقدور. ومن عرف نفسه باختلال الحال عرف ربه بالجلال والكمال، ومن عرف نفسه بالإمكان عرف ربه بالوجوب. الثانية: سر الاستعاذة الالتجاء إلى قادر يدفع عنك الآفات، وقراءة القرآن من أعظم الطاعات. ولذلك جاء: «من شغله قراءة القرآن عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» «1» ، فلهذا خصت الاستعاذة بالقراءة. الثالثة: عند الفرار من العدوّ الغدّار يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وبعد الاستقرار في حضرة الملك الجبار يقول: بسم الله الرحمن الرحيم. الرابعة: الاستعاذة تطهر اللسان عما جرى عليه من ذكر غير الله، وإذا حصل الطهور استعد للصلاة الحقيقية وهي ذكر الله فيقول: بسم الله. الخامسة: العبد مأمور بمحاربة العدوّ الظاهر: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29] ، وبمحاربة العدوّ الباطن: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6] فإذا حاربت العدوّ الظاهر كان مددك الملك: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران: 125] وإذا حاربت العدوّ الباطن كان مددك الملك إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: 42] ومحاربة العدوّ الباطن أولى لأنّ العدوّ الظاهر إن غلب بقي الدين واليقين وكنا مأجورين، وإن غلب العدوّ الباطن كنا مفتونين، ومن قتله العدوّ الظاهر كان شهيدا، ومن قتله العدوّ الباطن كان طريدا، ولا خلاص من شره إلا بأن يقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» .   (1) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة آل عمران باب 35. رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 25. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 السادسة: قال الله تعالى: «يا عبدي قلبك بستاني وجنتي بستانك فلما لم تبخل عليّ ببستانك بل أنزلت معرفتي فيه لم أبخل عليك ببستاني وأنزلك فيه» . وهاهنا لطيفة وهي أن الله تعالى كأنه يقول للعبد أنت الذي أنزلت سلطان المعرفة في حجرة قلبك ومن أراد أن ينزل سلطانا في حجرة نفسه يجب عليه كنس الحجرة وتنظيفها فنظّف حجرة قلبك من تلوّث الوسوسة وقل: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» . السابعة: أقسم في حق أبويك أنه لمن الناصحين فدلاهما بغرور، وأقسم فيك لأغوينهم أجمعين. فما ظنك بعاقبة معاملته معك فقل: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» . الثامنة: إنما اختص اسم الله للاستعاذة به من بين سائر الأسماء لأن العدوّ كلما كان أشدّ احتيج إلى عدة أكثر، والاسم الجامع لجميع الصفات الكمالية إنما هو الله فكأنّ العبد قال: أعوذ بالقادر العالم الحكيم الذي لا يرضى بشيء من المنكرات من الشيطان الرجيم. التاسعة: الشيطان اسم والرجيم صفة له. ثم إنه تعالى لم يقتصر على الاسم بل ذكر صفته تنبيها للعبد أن الشيطان بقي في الخدمة ألوفا من السنين ولم يقدر على مضرّتنا، ومع ذلك رجمناه وطردناه. وأنت لو صاحبك الشيطان لحظة واحدة أخلدك في النار فكيف لا تشتغل بطرده فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. العاشرة: يقول الله تعالى: «عبدي إنه يراك وأنت لا تراه فينفذ كيده فيك» ، فتمسّك بمن يرى الشيطان ولا يراه الشيطان، وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. الحادية عشرة: الألف واللام في «الشيطان» للجنس لتفيد الاستعاذة من هذا الجنس مطلقا مرئيا وغير مرئي، ولو جعل للعهد جاز وتدخل ذرّيته فيه تبعا. الثانية عشرة: الشيطان بعيد وأنت قريب وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] فكما أن الشيطان لا يجعله الله قريبا لقوله تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب 62 والفتح: 23] فاعرف أنه لا يجعلك الله تعالى بعيدا حين جعلك قريبا. الثالثة عشرة: إن الشيطان رجيم، وإن الله رحمن رحيم، فاحذر من الشيطان الرجيم لتصل إلى الرحمن الرحيم. الرابعة عشرة: الشيطان عدوّ غائب إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف: 27] والله تعالى حبيب غالب وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ [يوسف: 21] فإذا قصدك العدوّ الغائب فافزع إلى الحبيب الغالب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 المقدمة الثالثة في مسائل مهمة المسألة الأولى: القراآت السبع متواترة لا بمعنى أن سبب تواترها إطباق القراء السبعة عليها، بل بمعنى أن ثبوت التواتر بالنسبة إلى المتفق على قراءته من القرآن كثبوته بالنسبة إلى كل من المختلف في قراءته، ولا مدخل للقارىء في ذلك إلا من حيث أن مباشرته لقراءته أكثر من مباشرته لغيرها حتى نسبت إليه. وإنما قلنا: إن القراآت متواترة لأنه لو لم تكن كذلك لكان بعض القرآن غير متواتر كملك ومالك ونحوهما إذ لا سبيل إلى كون كليهما غير متواتر، فإن أحدهما قرآن بالاتفاق، وتخصيص أحدهما بأنه متواتر دون الآخر تحكّم باطل لاستوائهما في النقل، فلا أولوية فكلاهما متواتر. وإنما يثبت التواتر فيما ليس من قبيل الأداء كالمدّ والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوها. الثانية: اتفقوا على أنه لا تجوز القراءة في الصلاة بالوجوه الشاذة، لأن الدليل ينفي جواز القراءة بها مطلقا لأنها لو كانت من القرآن لبلغت في الشهرة إلى حدّ التواتر عدلنا عن الدليل في جواز القراءة خارج الصلاة للاحتمال، فوجب أن تبقى قراءتها في الصلاة على أصل المنع. الثالثة: السبعة الأحرف التي نزل بها القرآن في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، لكل آية منه ظهر وبطن ولكل حدّ مطلع» . عند أكثر العلماء أنها سبع لغات من لغات قريش لا تختلف ولا تتضادّ بل هي متفقة المعنى. وغير جائز عندهم أن يكون في القرآن لغة لا تعرفها قريش لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] وذلك أن قريشا تجاور البيت، وكانت أحياء العرب تأتي إليهم للحج ويستمعون لغاتهم ويختارون من كل لغة أحسنها، فصفا كلامهم واجتمع لهم مع ذلك العلم بلغة غيرهم. ومما يدلّ على أن السبعة الأحرف هي سبع لغات متفقة المعنى ما روي عن ابن سيرين أن ابن مسعود قال: اقرءوا القرآن على سبعة أحرف وهو كقول أحدكم هلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وتعال وأقبل. وقال بعضهم: إنها سبع قبائل من العرب قريش وقيس وتميم وهذيل وأسد وخزاعة وكنانة لمجاورتهم قريشا. وقيل سبع لغات من أي لغة كانت من لغات العرب مختلفة الألفاظ متفقة المعاني لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنه قد وسع لي أن أقرئ كل قوم بلغتهم» . وقيل: معناه أن يقول في صفات الرب تبارك وتعالى مكان قوله غفورا رحيما عزيزا حكيما سميعا بصيرا لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اقرءوا القرآن على سبعة أحرف ما لم تختموا مغفرة بعذاب أو عذابا بمغفرة، أو جنة بنار أو نارا بجنة» . وقيل: إن لفظ «السبعة» في الخبر جاء على جهة التمثيل، لأنه لو جاء في كلمة أكثر من سبع قراءات جاز أن يقرأ بها. وعن مالك بن أنس أنه كان يذهب في معنى «السبعة الأحرف» إلى أنه كالجمع والتوحيد في مثل: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ و «كلمات ربك» [الأنعام: 115 والأعراف: 137 وهود: 119] وكالتذكير والتأنيث في مثل: وَلا يُقْبَلُ ولا «تقبل» [البقرة: 48] وكوجوه الإعراب في مثل: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ و «غير الله» [فاطر: 3] وكوجوه التصريف في مثل: يَعْرِشُونَ و «يعرشون» [الأعراف: 137] وكاختلاف الأدوات في مثل قوله: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ [البقرة: 102] بالتشديد ونصب ما بعدها، وبالتخفيف والرفع وكاختلاف اللفظ في الحروف نحو: يَعْلَمُونَ بالتاء والياء [يونس: 123] ، ونُنْشِزُها [البقرة: 259] بالراء والزاي وكالتخفيف والتفخيم والإمالة والمدّ والقصر والهمز وتركه والإظهار والإدغام ونحوها. وذهب جماعة إلى حملها على المعاني والأحكام التي ينتظمهما القرآن دون الألفاظ من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وأمر ونهي، ومواعظ وأمثال واحتجاج، وغير ذلك، واستبعده المحققون من قبل أن الأخبار الواردة في مخاصمة الصحابة في القراءة تدلّ على أن اختلافهم كان في اللفظ دون المعنى. قال بعض العلماء: إني تدبرت الوجوه التي تتخالف بها لغات العرب فوجدتها على سبعة أنحاء لا تزيد ولا تنقص وبجميع ذلك نزل القرآن. الوجه الأول: إبدال لفظ بلفظ ك «الحوت» ب «السمك» وبالعكس، وكَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [المعارج: 9 والقارعة: 5] قرأها ابن مسعود «كالصوف المنفوش» . الثاني: إبدال حرف بحرف ك التَّابُوتُ و «التابوة» [البقرة: 248 وطه: 39] . الثالث: تقديم وتأخير إما في الكلمة نحو «سلب زيد ثوبه» و «سلب ثوب زيد» ، وإما في الحروف نحو: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ [الرعد: 31] و «أفلم يأيس» . الرابع: زيادة حرف أو نقصانه نحو: مالِيَهْ [الحاقة: 28] وسُلْطانِيَهْ [الحاقة: 29] وفَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ [هود: 109] . الخامس: اختلاف حركات البناء نحو تَحْسَبَنَّ [آل عمران: 169 و 188 وإبراهيم: 42 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 و 47 والنور: 57] بفتح السين وكسرها. السادس: اختلاف الإعراب نحو: ما هذا بَشَراً [يوسف: 31] وقرأ ابن مسعود «بشر» بالرفع. السابع: التفخيم والإمالة وهذا اختلاف في اللحن والتزيين لا في نفس اللغة، والتفخيم أعلى وأشهر عند فصحاء العرب. فهذه الوجوه السبعة التي بها اختلفت لغات العرب قد أنزل الله باختلافها القرآن متفرقا فيه ليعلم بذلك أن من زلّ عن ظاهر التلاوة بمثله، أو من تعذّر عليه ترك عادته فخرج إلى نحو مما قد نزل به فليس بملوم ولا معاقب عليه. وكل هذا فيما إذا لم تختلف فيه المعاني فإن قيل: فما قولكم في القراآت التي تختلف بها المعاني؟ قلنا: إنها صحيحة منزلة من عند الله ولكنها خارجة من هذه السبعة الأحرف، وليس يجوز أن يكون فيما أنزل الله من الألفاظ التي تختلف معانيها ما يجري اختلافها مجرى التضاد والتناقض، لكن مجرى التغاير الذي لا تضاد فيه. ثم إنها تتجه على وجوه: فمنها أن يختلف بها الحكم الشرعي على المبادلة بمنزلة قوله: وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة: 6] بالجر والنصب جميعا، وإحدى القراءتين تقتضي فرض المسح والأخرى فرض الغسل، وقد بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجعل المسح للابس الخف في وقته، والغسل لحاسر الرجل وهذا الضرب هو الذي لا تجوز قراءته إلا إذا تواتر نقله وثبت من الشارع بيانه، وليس يعذر من زل في مثله عما هو المنزل حتى يراجع الصواب ويفزع إلى الاستغفار. وقد يكون ما يختلف الحكم فيه على غير المبادلة لكن على الجمع بين الأمرين بمنزلة وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة: 222] من الطهر و «حتى يطّهرن» مشددة الطاء من التطهّر، فإن القراءتين هاهنا تقتضيان حكمين مختلفين يلزم الجمع بينهما، وذلك أن الحائض لا يقربها زوجها حتى تطهر بانقطاع حيضها وحتى تطهر بالاغتسال. ولا تجوز القراءة في أمثال هذه إلا بالنقل الظاهر. ومن زل في مثله إلى ما يقتضي أمرا وقد علم ثبوته ولم يقرأ به، لم يلزمه فيه حرج كقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء: 32] لو صحّفه أحد فقرأه «الربا» بالراء، والباء من الربا في المال، فإنه منهي عنه كالزنا فإن كان عدوله عن ظاهر التلاوة على سبيل التعمّد فهو ملوم على ذلك. وأما التضاد والتنافي فغير موجود في كتاب الله. والنسخ ليس من هذا القبيل لأن اتحاد الزمان شرط التنافي وعند ورود الناسخ ينتهي المنسوخ، ويتبين أن في علم الله حكم المنسوخ كان مؤجلا إلى ورود الناسخ، والله أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: «لكل آية ظهر وبطن» أي ظاهر وباطن، فالظاهر ما يعرفه العلماء، والباطن ما يخفى عليهم. فنقول في ذلك كما أمرنا ونكل علمه إلى الله تعالى وقيل: هو أن نؤمن به باطنا كما نؤمن به ظاهرا. وقوله: «ولكل حد مطلع» أي لكل طرف من حدود الله التي يوقف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 هنالك ولا يتجاوز عنه من مأمور أو منهي أو مباح، مصعد ومأتي يؤتى منه ويفهم كما هو، أو مقدار من الثواب والعقاب يعاينه في الآخرة ويطلع عليه، كما قال عمر: «لو أن لي ما في الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع» يعني ما يشرف عليه من أمر الله بعد الموت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 المقدمة الرابعة في كيفية جمع القرآن روي عن زيد بن ثابت أنه قال: «أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وإذا عنده عمر. فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ بقراء القرآن يوم اليمامة وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قال: فقلت: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له فرأيت فيه الذي رأى عمر. قال زيد بن ثابت: قال لي أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتّهمك قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبّع القرآن فاجمعّه فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف ومن صدور الرجال، وكانت الصحف عند أبي بكر حتى مات، ثم كانت عند عمر حتى مات، ثم كانت عند حفصة مدّة إلى أن أرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إليّ بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها عليك. فأرسلت إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وإلى عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام، فأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف. ثم قال للرهط القرشيين الثلاثة: ما اختلفتم فيه أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم. قال: ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان في كل أفق بمصحف من تلك المصاحف، وأمر بما سوى ذلك من القرآن أن يحرق أو يخرق. قال زيد بن ثابت: فرأيت أصحاب محمد يقولون: أحسن والله عثمان، أحسن والله عثمان. وقال عليّ: لو وليت لفعلت في المصاحف الذي فعل عثمان. إلا أن عبد الله بن مسعود كره أن ولي زيد بن ثابت نسخ المصاحف، فقال: يا معشر المسلمين أأعزل عن نسخ كتاب الله ويولاها رجل، والله، لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر، يعني زيدا، فكان أوّل من أمر بجمع القرآن في المصحف أبو بكر مخافة أن يضيع منه شيء غير أنه لم يجمع الناس عليه. وكان الناس يقرءون بقراءات مختلفة على سبيل ما أقرأهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى وقت عثمان. ثم إن عثمان جمع الناس على مصحف واحد وحرف واحد، ولذلك نسب المصحف إليه وجعل ذلك إماما. واعلم أن القرآن كان مجموعا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ما أنزلت آية إلا وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان يكتب له أن يضعها في موضع كذا من سورة كذا، ولا نزلت سورة إلا وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكاتب أن يضعها بجنب سورة كذا. روي عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب فقال: ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا. وعن أنس قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد. قيل لأنس: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي. غير أنهم لم يكونوا قد جمعوها فيما بين الدفتين ولم يلزموا القراء توالي سورها وذلك أن الواحد منهم إذا حفظ سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتبها، ثم خرج في سرية فنزلت في وقت مغيبه سورة، فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه وكتابته ويتتبع ما فاته على حسب ما يتسهل له، فيقع فيما يكتبه تقديم وتأخير من هذا الوجه. وقد كان منهم من يعتمد على حفظه فلا يكتب على ما كان من عادة العرب في حفظ أنسابها وأشعار شعرائها من غير كتابة. ومنهم من كان كتبها في مواضع مختلفة من قرطاس وكتف وعسب ثقة منهم بما كانوا يعهدونه من جد المسلمين في حفظ القرآن، فلا يرون بأكثرهم حاجة إلى مصحف ينظر فيه. فلما أن مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبيله، وجند المهاجرون والأنصار أجنادا فتفرقوا في أقطار الدنيا واستحرّ القتل في بعضهم، كما مر، خيف حينئذ أن يتطرق إليه ضياع فأمروا بجمعه في المصحف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 المقدمة الخامسة في معاني المصحف والكتاب والقرآن والسورة والآية والكلمة والحرف وغير ذلك المصحف: مفعل من أصحف أي جمع فيه الصحف، والصحف جمع الصحيفة، والصحيفة قطعة من جلد أو ورق يكتب فيه. وقد يقال: «مصحف» بكسر الميم. وروي أن أبا بكر الصديق استشار الناس بعد جمع القرآن في اسمه فسمّاه مصحفا. والكتاب معناه ضم الحروف الدالة على معنى بعضها إلى بعض لأنه مصدر «كتب» أي جمع. قال الله تعالى: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: 22] أي جمع حتى آمنوا بجميع ما يجب عليهم. فالكتاب فعل الكاتب، ولكنه قد يسمّى الشيء باسم الفعل نحو: هذا الدرهم ضرب الأمير، وهذا خلق الله. والقرآن اسم للكتاب المنزل على نبينا محمد، كما أن التوراة اسم للكتاب المنزل على موسى، والإنجيل للمنزل على عيسى، والزبور للمنزل على داود عليه السلام. والقرآن يهمز ولا يهمز فمن همزه، وهو الأكثر، فوزنه «فعلان» مثل قربان. والتركيب يدلّ على الجمع والضم، ومنه «القرء» للحيض لاجتماع الدم في ذلك الوقت، ومنه قولهم: قرأت الماء في الحوض. فالقرآن نزل شيئا بعد شيء فلما جمع بعضه إلى بعض سمّي «قرآنا» . وقيل: سمي «قرآنا» لأنه جمع السورة وضمها. قال تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة: 17] أي تأليفه وضم بعضه إلى بعض. وقولك: «قرأت» معناه جمعت الحروف بعضها إلى بعض. ومن لم يهمز القرآن، وهو قراءة أهل مكة، فإما على تخفيف الهمزة فأصله كما مر، وإما على أن وزنه «فعال» من «قرنت» والنون لام الكلمة سمي بذلك لأنه قرن السورة وما فيها بعضها إلى بعض. وقيل: إن «القرآن» اسم موضوع على «فعال» من غير اشتقاق كالتوراة والإنجيل. ويسمى القرآن «فرقانا» لأنه يفرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر، والحلال والحرام. وأما السورة من القرآن فإنها تهمز ولا تهمز وهذا أكثر وعليه القراءة. والسورة اسم لآي جمعت وقرنت بعضها إلى بعض حتى تمت وكملت وبلغت في الطول المقدار الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أراد الله تعالى، ثم فصل بينها وبين سورة أخرى ب «بسم الله الرحمن الرحيم» . ولا تكون السورة إلا معروف المبتدأ معلوم المنتهى. قيل: اشتقاقها من سورة البناء والمدينة، لأن السور يوضع بعضه فوق بعض حتى ينتهي إلى الارتفاع الذي يراد، فالقرآن أيضا وضع آية إلى جنب آية حتى بلغت السورة في عدد الآي المبلغ الذي أراد الله تعالى. وقيل: سميت سورة لأنها وصفت بالعلو والرفعة، كما أن سور المدينة سمّي سورا لارتفاعه. قال النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب أي شرفا ورفعة. وقيل سميت سورة لإحاطتها بما فيها من الآيات كما أن سور المدينة محيط بمساكنها وأبنيتها. وجمع سورة القرآن سور بفتح الواو مثل «جملة وجمل» ، وجمع سورة البناء «سور» بالسكون مثل «صوفة وصوف» . ومن همز «سورة» جعلها من أسأرت في الإناء سؤرا أي أفضلت منه بقية، ومنه «سؤر الدواب» إذ كلها قطعة من القرآن على حدة. وأما الآية فقد قال جمع من العلماء: إنها في القرآن عبارة عن كلام متصل إلى انقطاعه وانقطاع معناه «فصلا فصلا» ، ولا يخفى توقف الآية على التوقيف. وقال غيرهم: معناها العلامة، لأنها تدل على نفسها بانفصالها عن الآية المتقدمة عليها والمتأخرة عنها. وقيل معناه «جماعة حروف» من قولهم: «خرج القوم بآيتهم» ، أي بجماعتهم ولم يدعوا وراءهم شيئا. وقيل: معناها «العجيبة» لأنها عجيبة لمباينتها كلام المخلوقين من قولهم: «فلان آية من الآيات» واختلف في وزنها، فقال الفراء: وزنها «فعلة» بالفتح وبسكون العين، وأصلها «أية» فاستثقلوا التشديد فأتبعوه الفتحة التي قبله وقال الخليل وأصحابه: وزنها «فعلة» بالفتح والأصل «أيية» قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وقال الكسائي: أصلها «آيية» «فاعلة» كضاربة وكان يلزمه للياءين الإدغام على نحو «دابة وخاصة» ويكون مستثقلا فحذفوا إحدى الياءين. وأما الكلمة، فإن تراكيب ك ل م تفيد القوة والشدة وتقاليب هذه الحروف الثلاثة بحسب الاشتقاق الكبير ستة، واحد مهمل والبواقي معتبرة منها «ك ل م» فمنه الكلام لأنه يقرع السمع ويؤثر فيه، وأيضا يؤثر في الذهن بواسطة إفادة المعنى، ومنه الكلم للجرح وفيه شدة ومنها «ك ل م» لأن الكامل أقوى من الناقص ومنها «ل ك م» ومعنى الشدة فلي اللاكم واضح، ومنها «م ك ل» ومنه «بئر مكول» إذا قلّ ماؤها، وإذا كان كذلك كان ورودها مكروها فيحصل نوع شدة عند ورودها، وأيضا إنها تدل على شدة منابعها ومنها «م ل ك» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ملكت العجين إذا أنعمت عجنه ومنه «ملك الإنسان» لأنه نوع قوة. ولفظ «الكلمة» قد يستعمل في اللفظة الواحدة وقد يراد بها الكلام الكثير المرتبط بعضه ببعض، ومنه قولهم للقصيدة «كلمة» ، ومنه «كلمة الشهادة» و «كلمة الطيبة صدقة» . ولأن المجاز خير من الاشتراك فإطلاق الكلمة على الكلام المركب مجاز إما من باب إطلاق الجزء على الكل، وإما من باب المشابهة، لأن الكلام المرتبط يشبه المفرد في الوحدة. وأفعال الله تعالى كلماته إما لأنه حدث بقوله كُنْ أو لأنه حدث في زمان قليل كما تحدث الكلمة كذلك. وعند النحويين الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد. وفائدة القيود تذكر في ذلك العلم والكلام ما تضمن كلمتين بالإسناد. ومنكر والكلام النفسي اتفقوا على أن الكلام اسم لهذه الألفاظ والكلمات. والأشاعرة يثبتون الكلام النفسي ويقولون: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا وقد تسمى الكلمات والعبارات أحاديث لأن كلّ واحدة منها تحدث عقيب صاحبتها، قال تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطور: 34] وجمع الكلمة «كلم» والتاء في الكلمة ليست للوحدة كاللبنة واللبن، والرطبة والرطب، لأن الرطب واللبن مذكر، والكلم مؤنث. وتصغير رطب «رطيب» ، وتصغير «كلم» «كليمات» بالرد إلى كلمة، ثم جمعه بالألف والتاء. وقد يكون الكلام مصدرا بمعنى التكليم كالسلامة بمعنى التسليم، قال تعالى: يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ [البقرة: 75] فسّره ابن عباس بتكليم الله موسى وقت المناجاة وأما الحرف، فهو الواحد من حروف المعجم سمّي «حرفا» لقلته ودقته، ولذلك قيل: «حرف الشيء» لطرفه، لأنه آخره والقليل منه. والحرف أيضا الناقة المهزولة، وقد يقال للسمينة أيضا حرف فهو من الأضداد. والحرف اللغة أيضا، قال عليه السلام: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» «1» . والحرف أيضا القراءة بكمالها والقصيدة بتمامها. والحرف أيضا أحد أقسام الكلمة، وذلك أن الكلمة إن احتاجت في الدلالة على معناها الإفرادي إلى ضميمة نحو «من وقد» فهو حرف، وإلا فإن كانت في أصل الوضع بهيئتها التصريفية على أحد الأزمنة الثلاثة الماضي والحال والاستقبال فهو فعل نحو «نصر وينصر» ، وإلا فهو اسم كالإنسان فإنّ معناه لا يقترن بالزمان أصلا، ومثل «اليوم والساعة والزمان» فإن الزمان كل معناه، ومثل «الصبوح والغبوق» لأن الزمان جزء معناه، ومثل «علم وجهل وضرب» فإن   (1) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب 5، 27. مسلم في كتاب المسافرين حديث 27. أبو داود في كتاب الوتر باب 22. الترمذي في كتاب القرآن باب 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 معناه يدل على الزمان عقلا لا بحسب الهيئة، ومثل «ضارب ومضروب» فإنه لو سلم أن معناه يدل على الزمان بحسب الهيئة إذ لكل منهما هيئة مخصوصة لكنها ليست في أصل الوضع ولا يخرج من حد الفعل نحو عسى مما لا يدل على زمان لأن تجرده عن الزمان عرض لغرض الإنشاء، ولا الفعل المستقبل لكونه معناه مقترنا بزمانين الحال والاستقبال لأن قولنا بأحد الأزمنة تحديد لأدنى درجات الاقتران ولو سلم أنه يجب الاقتران بأحد الأزمنة فقط فذلك في أصل الوضع ولا مانع من اقترانه بعد ذلك بزمان آخر مجازا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 المقدمة السادسة في ذكر السبع الطول والمثاني والمئين والطواسيم والحواميم والمفصّل والمسبحات وغير ذلك فالسبع الطول، مضمومة الطاء مفتوحة الواو وجمع الطولى كالفضلى والفضل، هي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف، والأنفال مع التوبة لأنهما نزلتا جميعا في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانتا تدعيان القرينتين ولذلك لم يفصل بينهما بالبسملة. وقال بعضهم: السابعة من السبع سورة يونس لا الأنفال مع التوبة. وأما المثاني فسبع سور تتلو السبع الطول: أولها سورة يونس وآخرها سورة النحل، لأنها ثنت الطول أي تلتها، واحدها مثنى مثل معنى ومعان. وقد يكون المثاني سور القرآن كلها طوالها وقصارها من قوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: 33] وقوله: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87] . وقيل: المثاني في هذه الآية آيات الفاتحة لأنها نزلت مرتين أو لأنها تثنى في كل صلاة. وأما المئون فهن سبع: أولها سورة بني إسرائيل وآخرها سورة المؤمنون، لأن كل سورة منها نحو من مائة آية، وقيل: المئون ما ولي السبع الطول ثم المثاني بعدها، وقيل: إن ما بعد السبع الطول من المئين إلى الحواميم، وبعد الحواميم المفصل. وأما الطواسيم فإن شئت قلت هكذا، وإن شئت قلت الطواسين قال الراجز: وبالطواسين التي قد ثلثت وفي الحديث: «وأعطيت طه والطواسيم من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب» . وأما الحواميم فإن شئت قلت هكذا وإن شئت قلت آل حم. قال ابن عباس: إن لكل شيء لبابا وإن لباب القرآن آل حم وقال: الحواميم. فكأن من قال «آل حم» نسب السور كلها إلى «حم» وهو من أسماء الله تعالى بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «إن بيتم الليلة فقولوا حم لا ينصرون» وتسمى الحواميم عرائس القرآن عن عاصم عن زر بن حبيش الأسدي قال: قرأت على عليّ بن أبي طالب القرآن في المسجد الجامع بالكوفة فلما بلغت الحواميم قال: يا زر بن حبيش عرائس القرآن، فلما بلغت رأس العشرين من حم عسق وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [الشورى: 22] بكى حتى ارتفع نحيبه، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: يا زر أمن على دعائي، ثم قال: اللهم إني أسألك إخبات المخبتين وإخلاص الموقنين ومرافقة الأبرار واستحقاق حقائق الإيمان، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم ووجوب رحمتك وعزائم مغفرتك، والفوز بالجنة والخلاص من النار يا زرّ إذا ختمت القرآن فادع بهؤلاء الدعوات فإن حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أدعو بهن عند ختم القرآن. وأما المفصل فما بعد الحواميم من قصار السور إلى آخر القرآن لكثرة التفصيل فيها بالبسملة. وأما المسبحات، فسورة الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن والأعلى، لأن في فواتحهن ما يدل على التسبيح. وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ المسبحات ويقول: «إن فيها آية كألف آية» . وأفضل المسبحات سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] فقد كان العلماء يقرءون هذه السورة في التهجد والجمعة ويتعرفون بركتها. وأما المقشقشتان فسورة الكافرون والإخلاص، لأنهما تبرئان من النفاق والشرك. يقال: قشقشه إذا برأه، وقشقش المريض من علته إذا أفاق منها وبرىء. وأما المعوّذتان فالفلق والناس وقد يضم إليهما الإخلاص فيقال المعوذات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 المقدمة السابعة في ذكر الحروف التي كتب بعضها على خلاف بعض في المصحف وهي في الأصل واحدة. فأول ذلك «بسم الله» كتب بحذف «الألف» التي قبل «السين» . وكتب اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ [الأعلى: 1] ، وبِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ [الحجرات: 11] ، ومنه اسْمُهُ بالألف. والأصل في ذلك كله واحد وهو أن يكتب بالألف، وإنما حذفت من «باسم الله» فقط لأنها ألف وصل ساقطة من اللفظ. كثيرا قد كثر استعمال الناس إياها في صدور الكتب وفواتح السور وعند كل أمر يبدأ به، فأمنوا أن يجهل القارئ معناها. وكتب «فيما» موصولا في كل القرآن إلا في «البقرة» فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [الآية: 234] ، وفيها [سورة البقرة] . فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ [الآية: 240] وفي «الأنعام» : فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الآية: 145] وفيها [سورة الأنعام] لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ [الآية: 165] وفي «الأنفال» فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الآية: 68] وفي «الأنبياء» فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ [الآية: 102] وفي «النور» فِيما أَفَضْتُمْ [الآية: 14] وفي الشعراء في ما هاهنا آمنين وفي الروم في ما رزقناكم وفي «الزمر» فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الآية: 3] وفيها [سورة الزمر] فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الآية: 46] وفي الواقعة فِي ما لا تَعْلَمُونَ [الآية: 61] . فذلكن اثنا عشر حرفا مقطوع «1» ، وما سوى ذلك موصول. وكتب «ممّا» موصولا في كل القرآن إلا ثلاثة مواضع: في «النساء» فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [الآية: 25] ، وفي «الروم» مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [الآية: 28] ، وفي «المنافقين» مِنْ ما رَزَقْناكُمْ [الآية: 10] . وكتب «أنما» موصولا في كل القرآن إلا في   (1) إن ما ذكره المؤلف عن عدد الحرف المقطوع في (في ما) مخالف للخط العثماني. فقد وردت «فيما» موصولة في الآية 234 من سورة البقرة، وفي الآية 68 من سورة الأنفال، مما يجعل عدد الحرف المقطوع عشرة. فاقتضى التنويه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 «الحج» وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ [الآية: 62] ، وفي «لقمان» وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ [الآية: 30] ، وفيها [سورة الحج] وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ [الآية: 27] . وكتب «إنما» موصولة في كل القرآن إلا في «الأنعام» إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ [الآية: 134] . وكتب «لكي لا» مقطوعة في كل القرآن إلا ثلاثة مواضع: في «الحج» لِكَيْلا يَعْلَمَ [الآية: 5] ، وفي «الأحزاب» لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ [الآية: 50] ، وفي «الحديد» لِكَيْلا تَأْسَوْا [الآية: 23] . وكتب «بئس ما» مقطوعا حيث كان إلا ثلاثة مواضع: في «البقرة» بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ [الآية: 93] ، وفيها [سورة البقرة] وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ [الآية: 102] ، وفي «الأعراف» بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي [الآية: 150] «1» . وكتب «أينما» مقطوعا في جميع القرآن إلا أربعة مواضع: في «البقرة» فَأَيْنَما تُوَلُّوا [الآية: 115] ، وفي «النحل» أَيْنَما يُوَجِّهْهُ [الآية: 76] ، وفي «الشعراء» أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الآية: 92] ، وفي «الأحزاب» أَيْنَ ما ثُقِفُوا [الآية: 61] . وكتب «ألّا» موصولا في كل القرآن إلّا عشرة مواضع: في «الأعراف» أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الآية: 105] ، وفيها [سورة الأعراف] أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الآية: 169] ، وفي «التوبة» أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [الآية: 118] ، وفي «هود» أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [الآية: 26] ، وفيها [سورة هود] وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الآية: 14] ، وفي «الحج» أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً [الآية: 26] ، وفي «يس» أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ [الآية: 60] ، وفي «الدخان» وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ [الآية: 19] وفي «الممتحنة» أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً [الآية: 12] ، وفي القلم أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ [الآية: 24] ، واختلف في «يوسف» أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الآية: 40] . وما سواهن فهو «ألّا» مدغما بغير «نون» . وكتب «إلّا» بإسقاط ال «نون» في كل القرآن من غير استثناء مثل: إِلَّا تَفْعَلُوهُ [الأنفال: 73] وإِلَّا تَغْفِرْ لِي [هود: 47] . وكتب «ألم» موصولا في كل القرآن إلا في «الأنعام» أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ [الآية: 131] ، وفي «البلد» أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ [الآية: 7] . وكتب في «هود» فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ [الآية: 14] موصولا مدغما، وفي «القصص» فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ [الآية: 50] مقطوعا. وكتب «أمّن» موصولا في كل القرآن إلا أربعة مواضع: في سورة «النساء» أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا وفي «التوبة» أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ وفي «الصافات» أَمْ مَنْ خَلَقْنا [الآية: 11] ، وفي «حم السجدة» أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً   (1) وجاء في سورة البقرة الآية 90: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 [فصّلت: 40] چ وكتب «إمّا» و «أمّا» موزصولا إلا في «الرعد» وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ [الآية: 40] . وكتب «عمّا» موصولا في «الأعراف» عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ [الآية: 166] . وكتب «أن لّن» مقطوعا إلا ثلاث مواضع: في «الكهف» لَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً [الآية: 48] . وكتب «كلما» موصولا إلا في خمسة مواضع: في «النساء» كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا [الآية: 91] ، وفي «الأعراف» كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ [الآية: 38] ، وفي «سبحان» كُلَّما خَبَتْ [الإسراء: 97] ، وفي «الملك» كُلَّما أُلْقِيَ فِيها [الآية: 8] ، وفي «نوح» كُلَّما دَعَوْتُهُمْ [الآية: 7] . وكتب «يومهم» موصولا إلا في «المؤمن» يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ [غافر: 16] ، وفي «الذاريات» يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الآية: 13] . وكتبت «الرحمة» في مواضع القرآن بالهاء إلا سبعة مواضع: في «البقرة» أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ [الآية: 218] ، وفي «الأعراف» إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الآية: 56] ، وفي «هود» رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ [الآية: 73] ، وفي «مريم» ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ [الآية: 2] ، وفي «الروم» إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ [الآية: 50] ، وفي «الزخرف» أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الآية: 32] ، فإنها [المواضع السبعة] بالتاء. وكتبت «النعمة» بالهاء إلا أحد عشر موضعا: في «البقرة» وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [الآية: 231] ، وفي «آل عمران» وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [الآية: 103] ، وفي «المائدة» اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ [الآية: 7] ، وفي «إبراهيم» بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [الآية: 28] ، وفيها [سورة إبراهيم] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ [الآية: 34] ، وفي «النحل» وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [الآية: 72] ، وفيها [سورة النحل] يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ [الآية: 83] ، وفيها [سورة النحل] وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ [الآية: 114] ، وفي «لقمان» فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ [الآية: 31] ، وفي «الملائكة» اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ [فاطر: 3] ، وفي «الطور» بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ [الآية: 29] . وكتب «امرأة» بالهاء إلا سبعة مواضع: في «آل عمران» إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ [الآية: 35] ، وفي «يوسف» امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها [الآية: 30] ، وفيها [سورة يوسف] امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ [الآية: 51] ، وفي «القصص» وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ [الآية: 9] ، وفي «التحريم» امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ [الآية: 10] وامْرَأَتَ فِرْعَوْنَ [الآية: 11] . وكتب «سنّة» بالهاء في كل القرآن إلا خمسة مواضع: في «الأنفال» مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ [الآية: 38] ، وفي «فاطر» إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [الآية: 43] ، وفي «المؤمن» سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ [غافر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 85] . وكتب «معصية» بالهاء حيث كانت إلا موضعين: في «المجادلة» وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ [الآيتان: 8 و 9] . وكتب «لعنة» بالهاء في كل القرآن إلا في «آل عمران» فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ [الآية: 61] ، وفي «النور» أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ [الآية: 7] . وكتب «جنة» بالهاء إلا في «الواقعة» وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الآية: 89] . وكتب «شجرة» بالهاء إلا في «الدخان» إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ [الآية: 43] . وكتب «قرّة» بالهاء إلا في «القصص» قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [الآية: 9] . وكتب «بقية» بالهاء إلا في «هود» بَقِيَّتُ اللَّهِ [الآية: 86] . وكتب «من ثمرة» بالهاء إلا في «حم السجدة» مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها [فصلت: 47] . وكتب «كلمة» بالهاء إلا في أربعة مواضع: في «الأنعام» وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ [الآية: 115] ، وفي «يونس» حرفان كَلِمَةُ رَبِّكَ [الآيتان: 33 و 96] ، وفي «المؤمن» حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ [غافر: 6] . وكتب غَيابَتِ الْجُبِّ بالتاء [يوسف: 10 و 15] ، فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بالتاء [فاطر: 40] . وكتب كل ما في القرآن من ذكر «الآية» بالهاء إلا في «العنكبوت» لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ [الآية: 50] فإنها بالتاء. وكتب فِطْرَتَ [الروم: 30] وعِفْرِيتٌ [النمل: 39] واللَّاتَ وَالْعُزَّى [النجم: 19] ولاتَ حِينَ مَناصٍ [ص: 3] وذاتَ بَهْجَةٍ [النحل: 60] وهَيْهاتَ [المؤمنون: 36] ومَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ [التحريم: 12] ومَرْضاتِ [البقرة: 207 و 265، والنساء: 114، والتحريم: 1] كلها بالتاء. وكتب «الملأ» بالألف إلا أربعة مواضع: في «المؤمنون» فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية: 24] ، وفي «النمل» يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي [الآية: 29] ويا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي [الآية: 32] ويا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي [الآية: 38] ، فإنها كتبت بالواو. وكتب في «البقرة» يَبْصُطُ [الآية: 245] بالصاد، وما سواه بالسين. وكتب في «البقرة» بَسْطَةً [الآية: 247] بالسين، وفي «الأعراف» [الآية: 69] بالصاد. وكتب في «آل عمران» مِنْهُمْ تُقاةً [الآية: 28] بالياء، وحَقَّ تُقاتِهِ [الآية: 102] بالألف. وكتب في أول «يوسف» و «الزخرف» قُرْآناً عَرَبِيًّا بغير ألف، وسائر القرآن قُرْآناً بألف. وكتب في الأعراف» [الآية: 112] و «يونس» [الآية: 79] بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ بغير ألف، وفي «الشعراء» سَحَّارٍ عَلِيمٍ [الآية: 37] بالألف بعد الحاء. وكتب في «الذاريات» ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الآية: 39] بالألف، وما سواه بغير ألف. وكتب في «يونس» لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الآية: 14] بنون واحدة. واختلف في قوله: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا في «المؤمن» [غافر: 51] . وكتب في «يونس» نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ [الآية: 103] بنونين وحذف الياء، وفي آخر «يوسف» فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ [الآية: 110] بنون واحدة، وفي «الأنبياء» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الآية: 88] بالياء وبنون واحدة. وكتب جميع ما في القرآن من ذكر ال «أيدي» بياء واحدة إلا في «الذاريات» وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الآية: 47] فإنها كتبت بياءين، والأصل كتبه بياء واحدة. وكتب «الن» بغير ألف في كل القرآن إلا في «الجن» فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ [الآية: 9] فإنه بالألف. وكتب في «حم السجدة» سَماواتٍ [فصلت: 12] بالألف، وما سواه كتب «سموت» بغير ألف. وكتب في أول «سبأ» علم الغيب [الآية: 3] بغير ألف. وكتب في «البقرة» خَطاياكُمْ بحرف واحد بين الطاء والكاف، وفي «الأعراف» خَطاياكُمْ [الآية: 261] بحرفين بينهما. وكتب «رأ» بغير ياء في كل القرآن إلا في «النجم» لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [الآية: 18] وما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [الآية: 11] . وكتب في «يونس» وَما تُغْنِي الْآياتُ بالياء على الأصل، وفي «القمر» فَما تُغْنِ النُّذُرُ [الآية: 5] بغير ياء على اللفظ. وكتب في «البقرة» يُؤْتِي الْحِكْمَةَ [الآية: 269] بالياء، وفي «النساء» وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ [الآية: 146] بغير ياء. وكتب وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ [الشورى: 24] بغير واو، ويَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ [الرعد: 39] بالواو والألف. وكتب الداع بغير ياء حيث كان إلا قوله أجيبوا داعي الله وكتب «ثمود» بالألف في حال النصب وهي في أربعة مواضع: في «هود» [الآية: 68] ، و «الفرقان» [الآية: 38] ، و «العنكبوت» [الآية: 38] ، و «النجم» [الآية: 51] . وكتب ثَمُودَ النَّاقَةَ [الإسراء: 59] بغير ألف. وكتب في «النمل» وَما أَنْتَ بِهادِي [الآية: 81] بالياء، وفي «الروم» بِهادِ [الآية: 53] بغير ياء، والأصل فيهما الياء. وكتب في «الحج» وَلُؤْلُؤاً [الآية: 23] بألف، وفي «فاطر» [الآية: 33] بألف، وفي «فاطر» [الآية: 33] بغير ألف. وكتب في «الأعراف» قالَ ابْنَ أُمَّ [الآية: 150] بالألف مقطوعا، وفي «طه» ابْنَ أُمَ بالواو موصولا. وكتب في «الحجر» [الآية: 78] و «ق» [الآية: 14] أَصْحابُ الْأَيْكَةِ بالألف، وفي «الشعراء» [الآية: 176] و «ص» [الآية: 13] ليكة بغير ألف. وكتب في «يوسف» لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ [الآية: 68] ، وفي «المؤمن» ذُو الْعَرْشِ [غافر: 15] ، وفي «السجدة» لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ [فصلت: 43] ، وفي «الجمعة» ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الآية: 4] ، وفي «البروج» ذُو الْعَرْشِ [الآية: 15] . بغير ألف في هذه المواضع، وما سواها «ذوا» بالألف. وكتب «الرّبوا» بواو بعدها ألف في كل القرآن إلا قوله: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً [الروم: 39] فإنه بغير واو. وكتب لَدَى الْبابِ [يوسف: 25] بالألف، ولَدَى الْحَناجِرِ [غافر: 18] بالياء. وكتب وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ [التوبة: 47] ولَأَذْبَحَنَّهُ [النمل: 21] بزيادة ألف، وفي مصاحف الشام وَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ [البقرة: 221] بزيادة ألف أيضا. وكتب أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [النور: 31] وأَيُّهَا السَّاحِرُ [الزخرف: 49] وأَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: 31] بغير ألف، وما سواها «يا أيها» و «يا أيتها» بالألف. وكتب في «الأحزاب» الظُّنُونَا [الآية: 10] والرَّسُولَا [الآية: 66] والسَّبِيلَا [الآية: 67] بالألف، وفي «الفرقان» أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ [الآية: 17] وفي «الأحزاب» وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الآية: 4] وهما رأس آية. وكتب في «الإنسان» قَوارِيرَا [الآية: 15] بالألف، قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ [الآية: 16] بغير ألف. وكتب في «الأنعام» أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ [الآية: 19] ، وفي «الأعراف» إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ [الآية: 81] ، وفي «العنكبوت» أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ [الآية: 29] ، وفي «حم السجدة» أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ [فصلت: 9] بالياء، وما سواها بغير ياء. وكتب في «الأعراف» إِنَّ لَنا لَأَجْراً [الآية: 113] بغير ياء، وفي «الشعراء» أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً [الآية: 41] بالياء. وكتب في «النمل» أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ [الآية: 67] بالياء، وكذلك في «الصافات» أَإِنَّا لَتارِكُوا [الآية: 36] ، وما سواهما فهو «أءنا» بغير ياء. وكتب في «الواقعة» أَإِذا [الآية: 47] بالياء، وفي سائر القرآن «أءذا» بغير ياء. وكتب في «هود» فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا [الآية: 87] بالألف بعد الواو، ومثله في «الأنعام» يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ [الآية: 5] ، وفيها [سورة الأنعام] أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ [الآية: 94] . وفي «حم عسق» أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ [الشورى: 21] ، وفي «الروم» مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ [الآية: 13] ، وفي «إبراهيم» فَقالَ الضُّعَفاءُ [الآية: 21] ، وفي «الشعراء» فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا [الآية: 6] وفيها [سورة الشعراء] أيضا أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ [الآية: 197] ، وفي «فاطر» مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [الآية: 28] ، وفي «الصافات» لَهُوَ الْبَلاءُ [الآية: 106] . وفي «حم» الأولى وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ [غافر: 50] ، وفي «الدخان» ما فِيهِ بَلؤُا [الآية: 33] بالواو، وفي «الممتحنة» . إِنَّا بُرَآؤُا [الآية: 4] . وكتب «جزاؤ» بالواو إلا في «الكهف» فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى [الآية: 88] . وكتب إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ [النساء: 176] ، ويَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ [النحل: 48] ، ويَعْبَؤُا بِكُمْ [الفرقان: 77] ، وأَتَوَكَّؤُا عَلَيْها [طه: 18] ، وتَفْتَؤُا تَذْكُرُ [يوسف: 85] ، ووَ يَدْرَؤُا عَنْهَا [النور: 8] ، ونَبَؤُا الَّذِينَ [التوبة: 70 إبراهيم: 9 والتغابن: 5] ، ونَبَأُ الْخَصْمِ [ص: 21] ، ويُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ [الزخرف: 18] ، ولا تَظْمَؤُا فِيها [طه: 119] ، ويَبْدَؤُا الْخَلْقَ [يونس: 4 و 34 النمل: 64 والروم: 11 و 27] وما أشبهها بواو وألف ليقوّوا بها الهمزة المضمومة، أو على لغة من لا يهمز، ولو كتب كلها بالواو وحدها أو بالألف وحدها لجاز وكتب في «الأنعام» مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الآية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 34] بياء بعد الهمزة، وكذلك في «يونس» تِلْقاءِ نَفْسِي [الآية: 15] ، وفي «النحل» وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى [الآية: 90] ، وفي «طه» وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ [الآية: 130] ، وفي «حم عسق» أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى: 51] . وكتب ما في القرآن من كل ذوات الواو بالألف مثل «دعا، عفا، وتلا» إلا دَحاها [النازعات: 30] وتَلاها [الشمس: 2] ، وضُحاها [الشمس: 6] ، وسَجى [الضحى: 2] وما زَكى [النور: 21] ، وذوات الياء يكتب بالياء مثل «هدى، ورمى، وقضى» إلا أحرفا هي: وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ [الزخرف: 8] ، وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ [الرحمن: 54] وطَغَى الْماءُ [الحاقة: 11] ، وأَقْصَا الْمَدِينَةِ [القصص: 20 ويس: 20] ، وأَحْيَا النَّاسَ [المائدة: 32] . وكل ياءين اجتمعتا في كلمة مثل «الدنيا» و «العليا» جعلت الأخيرة ألفا كراهة الجمع بين الياءين إلا في قوله تعالى «يحيي» و «أمات» و «أحيي» في بعض المصاحف. وكتب «الزكوة» و «الحيوة» و «منوة» و «مشكوة» و «بالغدوة» بالواو. وكتب «الصلاة» بالواو إلا في «الأنعام» وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [الآية: 92] إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي [الآية: 162] ، وفي «الأنفال» وَما كانَ صَلاتُهُمْ [الآية: 35] ، وفي أول «المؤمنين» فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [الآية: 2] ، وفي «المعارج» عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ [الآية: 23] ، وفيها [سورة المعارج] عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [الآية: 34] ، وفي «أرأيت» عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون: 5] . وكتب فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً [النساء: 53] ، وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف: 32] ، ولَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ [العلق: 15] ، بالألف والوقوف عليها بالألف. وكتب في «البقرة» وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ [الآية: 150] بالياء، وفي «المائدة» وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ [الآية: 3] وَاخْشَوْنِ وَلا [الآية: 44] بغير ياء. وكتب في «يوسف» وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ [الآية: 108] بالياء، وفي «آل عمران» وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ [الآية: 20] بغير ياء. وكتب في «سبحان الذي» لَئِنْ أَخَّرْتَنِ [الآية: 10] بغير ياء وفي المنافقون لَوْلا أَخَّرْتَنِي بالياء. وكتب في يوسف ما نَبْغِي [الآية: 65] بالياء، وفي «الكهف» ما كُنَّا نَبْغِ [الآية: 64] بغير ياء، وفي «هود» يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ [الآية: 105] بغير ياء، وفي «النحل» يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ [الآية: 111] بالياء، وفي «الدخان» يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ [الآية: 10] بالياء. وفي «الأنعام» وَقَدْ هَدانِ [الآية: 80] بغير ياء، وإِنَّنِي هَدانِي [الآية: 161] بالياء، وفي «الأعراف» ثُمَّ كِيدُونِ [الآية: 195] بغير ياء، وفي «هود» فَكِيدُونِي جَمِيعاً [الآية: 55] بالياء. وفي «هود» فَلا تَسْئَلْنِ [الآية: 46] بغير ياء، وفي «الكهف» فَلا تَسْئَلْنِي [الآية: 70] بالياء. وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 «الكهف» أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي [الآية: 34] بغير ياء، وفي «القصص» أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ [الآية: 22] بالياء. وفي «طه» فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي [الآية: 90] بالياء، وفي «الزخرف» وَاتَّبِعُونِ هذا [الآية: 61] بغير ياء. وكذلك في «المؤمن» وفي «الأعراف» فَهُوَ الْمُهْتَدِي [غافر: 38 والأعراف: 178] بالياء، وفي «سبحان الذي» وسورة الكهف فَهُوَ الْمُهْتَدِ [الإسراء: 97 والكهف: 17] بغير ياء. وفي «إبراهيم» قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا [الآية: 31] بالياء، وفي «الزمر» فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ [الآية: 17] بغير ياء. وكتب «الذي» و «الذين» بلام واحدة، و «اللذان» و «اللذين» بلامين. وكتب «جزاء» بغير واو، و «هزوا» و «كفوا» بالواو. وكتب بَيْنَ الْمَرْءِ [البقرة: 152 والأنفال: 24] ، وجُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 44] ، ويُخْرِجُ الْخَبْءَ [النمل: 25] ، ومِلْءُ الْأَرْضِ [آل عمران: 91] ، ودف [النحل: 5] بإسقاط الهمزة. ومن غرائب الهجاء ونوادره ما كتب في «الفرقان» وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الآية: 21] بغير ألف، وفي «سبأ» وَالَّذِينَ سَعَوْا [الآية: 5] بغير ألف، وفي «الحشر» وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ [الآية: 9] بواوين من غير ألف، وفي «المعصرات» نْتُ تُراباً [النبأ: 40] بغير ألف، وفي «القلم» بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ [الآية: 6] بياءين، وفي «آل عمران» أَفَإِنْ ماتَ [الآية: 144] بالياء، وفي «الأنبياء» أَفَإِنْ مِتَّ [الآية: 34] بغير ياء. وكتب اثَّاقَلْتُمْ [التوبة: 38] ونحوه بالألف. وكتب فَادَّارَأْتُمْ [البقرة: 72] ليس بين الدال والراء، ولا بين الراء والتاء، ألف في جميع المصاحف. وكتب في «الحاقة» لبيان الحركة كِتابِيَهْ [الآية: 19] وحِسابِيَهْ [الآيتان: 20 و 26] ومالِيَهْ [الآية: 28] وسُلْطانِيَهْ [الآية: 29] ، وفي «القارعة» ما هِيَهْ [الآية: 10] بإثبات الهاء. واختلف في لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة: 259] وفَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] أن الهاء فيها لبيان الحركة أو لغير ذلك. وكتب في سورة النساء فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ [الآية: 78] ، وفي «الكهف» مالِ هذَا الْكِتابِ [الآية: 49] ، وفي «الفرقان» مالِ هذَا الرَّسُولِ [الآية: 7] ، وفي «المعارج» فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية: 36] باللام مع «ما» مقطوعة عما بعدها. واعلم أن هجاء المصحف كثير وقد ذكرنا منها ما هو أنفع للقارىء وأكثر فائدة. وأما الحركات كلها فقد راعيناها إلا ما شاء الله في كتابة متن القرآن من هذا الكتاب كما بلغنا عمن تقدمنا من السلف الصالحين والعلماء المتقين ورووا أنهم وجدوها في الإمام كذلك، وستراها في مواضعها إن شاء الله. وإنما كتبت هذه الحروف بعضها خلاف بعض وفي الأصل واحدة، لأن الكتابة بالوجهين كانت جائزة عندهم فكتبوا بعضها على وجه وبعضها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 على وجه آخر جمعا بين المذهبين، على أنهم كتبوا أكثرها على الأصل. وكل ما كتب في المصحف على أصل لا يقاس عليه غيره من الكلام، لأن القرآن يلزمه لكثرة الاستعمال ما لا يلزم غيره. واتباع المصحف في هجائه واجب ومن طعن في شيء من هجائه فهو كالطاعن في تلاوته لأنه بالهجاء يتلى، والفائدة للقارىء في معرفته أن يكون على يقين أن الذي يقرأ هو القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بلا خلل فيه من جهة من الجهات. وقال جماعة من الأئمة: إن الواجب على القراء والعلماء وأهل الكتاب أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف فإنه رسم زيد بن ثابت وكان أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاتب وحيه، وعلم من هذا العلم بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعلم غيره فما كتب شيئا من ذلك إلا العلة لطيفة وحكمة بليغة، وإن قصر عنها رأينا. ألا ترى أنه لو كتب على صلواتهم وان صلواتك بالألف بعد الواو أو بالألف من غير واو لما دل ذلك إلا على جه واحد وقراءة واحدة؟ وكذلك وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ وكتب وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ بغير ألف قبل الفاء ولا بعدها ليدل على القراءتين والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 المقدمة الثامنة في أقسام الوقف الوقف قطع الكلمة اسما أو فعلا أو حرفا عما بعدها ولو فرضا، وله عند أكثر الأئمة خمس مراتب: لازم، ومطلق وجائز، ومجوّز لوجه، ومرخّص ضرورة. فاللازم من الوقف ما لو وصل طرفاه غيّر المرام وشنّع الكلام، كقوله تعالى: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8] إذ لو وصل بقوله يُخادِعُونَ اللَّهَ [البقرة: 9] صارت الجملة صفة «للمؤمنين» ، فانتفى الخداع عنهم وتقرّر الإيمان خالصا عن الخداع، كما تقول: ما هو بمؤمن مخادع. ومراد الله جلّ ذكره نفي الإيمان وإثبات الخداع. وفي نظائر ذلك كثرة يوصلك المرور بها إلى العثور عليها. والمطلق ما يحسن الابتداء بما بعده كالاسم المبتدأ به، نحو اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ [الشورى: 13] وكالفعل المستأنف مع السين، نحو سَيَقُولُ السُّفَهاءُ [البقرة: 142] سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق: 9] وبغير السين، نحو يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً [النور: 55] إلى غير ذلك من النظائر. والجائز ما يتجاذب فيه طرفا الوصل والوقف، مثل وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [النساء: 60] ، لأن واو العطف تقتضي الوصل، وتقديم المفعول على الفعل يقطع النظم فإن التقدير: ويوقنون بالآخرة. والمجوّز لوجه، مثل أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ [البقرة: 86] لأن الفاء في قوله فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ [البقرة: 86] والتعقيب يتضمن معنى الجواب والجزاء وذلك يوجب الوصل. إلا أن نظم الفعل على الاستئناف يرى للفصل وجها. والمرخّص ضرورة، ما لا يستغني ما بعده عما قبله، لكن يرخص الوقف ضرورة انقطاع النفس لطول الكلام، ولا يلزمه الوصل بالعود، لأن ما بعده جملة مفهومة، كقوله وَالسَّماءَ بِناءً [البقرة: 22] لأن قوله «وأنزل» لا يستغني عن سياق الكلام فإن فاعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ضمير يعود إلى الصريح المذكور قبله. غير أنها جملة مفهومة لكون الضمير مستكنّا، وإن كان لا يبرز إلى النطق. وأما ما لا يجوز الوقف عليه ففي مواجبه ومواقعه كثرة. وسيتلى عليك مواقع الفصل والوصل في جميع القرآن مع علل ذلك مفصّلة إن شاء الله تعالى. وبعضهم قسم مراتب الوقوف إلى ثلاث: التام، والكافي، والحسن. ولا مشاحة في الاصطلاحات بعد رعاية المعنى. وليكن علامة اللازم «م» وعلامة المطلق «ط» والجائز «ج» ، والمجوز «ز» والمرخص «ص» ، وما لا وقف عليه فعلامته «لا» وعلامة الآية دائرة صغيرة هكذا «هـ» . وإنما التزمنا إيراد هذه الوقوف لدقة مسلكها وبلوغها في الغموض إلى حيث قصروا البلاغة على معرفة الفصل والوصل، إلا أن ذلك بحسب الصياغة وما نحن فيه بطرق الصناعة وكل منهما تابع لارتباط المعنى بالمعنى وانفصاله عنه بالكل أو بالبعض. وسيتلى عليك تفاصيلها وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 المقدمة التاسعة في تقسيمات يعرف منها اصطلاحات مهمة اللفظ إما أن يعتبر دلالته على تمام مسمّاه، أو على جزء مسماه، أو على لازمه الذهني. الأول: دلالة مطابقة كدلالة البيت على مجموع الحائط والسقف، والثاني: دلالة تضمّن كدلالة البيت على السقف أو الحائط والثالث: دلالة الالتزام كدلالة السقف على الحائط. والدلالة الأولى وضعية صرفة، والباقيتان بمشاركة من الوضع والعقل. تقسيم آخر: اللفظ إما أن يقصد بجزء منه دلالة على جزء معناه، وهو المركب، كعبد الله غير علم أو لا يقصد، وهو المفرد، ويشمل ما لا جزء له أصلا، مثل ق علما، وما كان له جزء ولكن لا يدلّ على معنى أصلا، نحو زيد وما كان له جزء دال على معنى لكن لا في ذلك المسمى، نحو: أسد الله علما لشخص إنساني، وما له جزء دالّ على معنى في ذلك المسمى لكنه لم يقصد، مثل عبد الله علما له. تقسيم آخر: اللفظ المفرد باعتبار وحدته ووحدة مدلوله وتعددهما أربعة أقسام: الأول: اللفظ واحد والمدلول واحد. الثاني: مقابل ذلك أي اللفظ كثير والمعنى كثير. الثالث: اللفظ واحد والمعنى كثير. الرابع: عكسه المعنى واحد واللفظ كثير. فالأول: إن اشترك في مفهومه كثيرون مجردا عن سبب من خارج فهو الكلي، ويقال له اسم الجنس وهو أقسام ستة، لأنه إما موجود أو معدوم. والموجود إما واحد أو كثير. والواحد إما أن يكون مثله ممكنا كالشمس، أو غير ممكن كالإله. والكثير إما متناه كالكواكب، أو غير متناه كالعدد. والمعدوم إما ممكن الوجود في الخارج كجبل من ذهب، أو غير ممكن كشريك الإله. وعلى التقادير، فإن تفاوت وقوعه على أفراده بأن يكون لبعضها أولى أو أوّل أو أشد، كالوجود للخالق والمخلوق فإنّ وقوعه على الخالق أوّل وأولى وأشد، وكالأبيض على الثلج والعاج فإن وقوعه على الثلج أشد. فاللفظ مشكك لأنه يشكك بالنسبة إلى السامع في أنه متواطىء نظرا إلى اشتراك الكل في أصل المعنى، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 مشترك نظرا إلى اختلافها في ذلك. وإن لم يكن في وقوعه تفاوت فمتواطئ، كالإنسان بالنسبة إلى أفراده فإنّ كلّها متوافقة في الإنسانية مستوية فيها. وإن لم يشترك في مفهومه كثيرون فهو الجزئي: علم إن استقلّ في الدلالة بحيث لا يحتاج إلى أمر ينضم إليه من قرينة التخاطب والتكلم وتقدم الذكر ولام العهد والإشارة، مضمر، إن احتاج إلى إحدى القرائن الثلاث الأول، ومبهم إن احتاج إلى شيء من الباقيتين. والعلم إما اسم كإبراهيم وموسى وعيسى، وإما أن يكون لقبا اشتهر المسمى به مدحا أو ذمّا كإسرائيل، أو كنية ويختص بما في أوله الأب أو الأم أو البنت أو الابن نحو: أبي لهب، وأم القرى، وابنة عمران، وابن مريم. وقد يكون العلم علما لجنس بأسره بحيث لا يكون بعض أفراده الخارجة أولى بذلك من بعض، لكونه للحقيقة الذهنية ليس فيها معنى الاستغراق ولا الوحدة الخارجية. وإذا أطلق على فرد من أفراده الخارجية، نحو هذا أسامة مقبلا، فليس ذلك بالوضع بل لمطابقة الحقيقة الذهنية لكل فرد خارجي مطابقة كل كلي طبيعي لجزئياته. فهذه تمام أقسام القسم الأول، وهو أن اللفظ واحد والمعنى واحد. الثاني: من الأربعة متباينة، كالإنسان والفرس. الثالث: إن كان اللفظ حقيقة للمتعدد من مدلولاته بأن كان موضوعا للجميع فمشترك، وإلا فمنقول إن نقل من الموضوع له إلى معنى آخر لعلاقة واشتهر فيه: عرفي إن كان الناقل هو العرف العام، واصطلاحي إن كان العرف الخاص، وشرعي إن كان الشرع. وإلا فبالنسبة إلى المنقول عنه حقيقة، وبالنسبة إلى المنقول إليه مجاز إن انتقل من الملزوم إلى اللازم، وكناية إن كان العكس، وإن نقل لا لعلاقة فمرتجل. الرابع: من الأقسام: مترادفة، كالليث والأسد. ولا يخفى أن القسمين الأولين والقسم الرابع ثلاثتها نصوص في معناها أما الأول فلاتحاد المعنى الموجب لعدم احتمال الغير وهو معنى النص. وأما المتكثر في اللفظ والمعنى، فلأنه حينئذ يكون لكل معنى لفظ فيتحد المعنى فلا يحتمل اللفظ غير ذلك. وأما الرابع فلاشتراط الاتحاد في المعنى. وأما القسم الثالث، وهو أن اللفظ واحد والمعنى كثير، فينقسم إلى مجمل وظاهر ومؤوّل لأن اللفظ بالنسبة إلى تلك المعاني إن كان متساوي الدلالة فهو المجمل وبإزائه المبين، وإن كانت متفاوتة فالراجح هو الظاهر والمرجوح هو المؤوّل. فالأول كقول تعالى ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] ، فإن دلالة القرء بالنسبة إلى الطهر والحيض على السواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 والثاني نحو أَقِيمُوا الصَّلاةَ [الأنعام: 72] فإن الأمر كما يحتمل الوجوب يحتمل الندب، والصلاة كما يحتمل ذات الأركان يحتمل الدعاء، إلا أن الأمر بالنسبة إلى الوجوب راجح، والصلاة بالنسبة إلى الهيآت المخصوصة راجحة. والثالث نحو يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] فإن اليد تحتمل القدرة والجارحة لكنها بالنسبة إلى القدرة مرجوحة فالرجحان مشترك بين النص والظاهر ويسمى بالمحكم، وعدم الرجحان مشترك بين المجمل والمؤوّل ويشملهما المتشابه. والنص يمتاز عن الظاهر بأنه لا يحتمل الغير، والظاهر يحتمله احتمالا مرجوحا، والمجمل يتميز بكونه غير مرجوح، والمؤوّل مرجوح، والتأويل اشتقاقه من آل يؤول أي رجح. وفي الاصطلاح، كما تقرر، حمل الظاهر على المحتمل المرجوح فيشمل التأويل الفاسد والتأويل الصحيح فإن أريد التأويل الصحيح فقط فقد زيد في الرسم بدليل يصيره راجحا أي بحسب ذلك الدليل وإن كان مرجوحا بحسب مفهوم اللفظ وضعا أو عرفا كما قلنا في اليد بمعنى القدرة. وإذا عرفت الأقسام الأربعة بأسرها فنقول: كلّ منها قد يكون مشتقا إن وجد له أصل يرجع إليه كالموجود والضارب بالإضافة إلى الوجود والضرب فإن معنى الاشتقاق أن تحدّ بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب، فترد أحدهما إلى الآخر. وقد يكون غير مشتق إن فقد له أصل كالوجود والإنسان. وغير المشتق صفة إن دلّ على معنى قائم بالذات كالعلم والكتابة، وغير صفة إن لم يدل كالجسم مثلا. تنبيه: العلاقة المعتبرة في المجاز إنما تقع بحكم الاستقراء على نيف وعشرين وجها منها الاشتراك في صفة ظاهرة كالأسد على الرجل الشجاع لا على الأبخر لخفاء ذلك. وهذا معظم أنواع المجاز لأنه إطلاق اسم الملزوم على اللازم. وأكثر المجازات بل جميعها يرجع إلى ذلك. ومنها الاشتراك في الشكل كالإنسان للصورة المنقوشة. ومنها كونه آئلا إلى ذلك كالخمر للعصير، أو كائنا عليه كالعبد على من أعتق. ومنها المجاورة مثل جرى الميزاب إذ الجاري في الحقيقة هو الماء لا الميزاب المجاور له. ومنها إطلاق اسم الحال على المحل مثل وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [آل عمران: 107] أي في الجنة لأنها محل الرحمة. ومنها عكسه كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يفضض الله فاك» أي أسنانك، إذ الفم محل الأسنان. ومنها إطلاق اسم السبب على المسبب كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «بلّوا أرحامكم ولو بالسلام» أي صلوها فإنهم لما رأوا بعض الأشياء يتصل بالنداوة استعار صلى الله عليه وسلم البلّ للوصل. ومنها عكس ذلك كقولهم للخمر إثم، ليكون الإثم مسببا عنها. ومنها إطلاق الكل على الجزء، نحو يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ [البقرة: 19] أي أناملهم. ومنها العكس نحو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] أي ذاته. ومنها اسم المطلق على المقيّد كقوله: فيا ليت كل اثنين بينهما هوى ... من الناس قبل اليوم يلتقيان أي قبل يوم القيامة. ومنها العكس كقول شريح: أصبحت ونصف الخلق عليّ غضبان، يريد المحكوم عليهم وظاهر أنهم ليسوا النصف سواء. ومنها اسم الخاص على العام كقوله سبحانه وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] أي رفقاء له تعالى. ومنها العكس، كقوله سبحانه حكاية عن محمد صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 163] لأن الأنبياء قبله كانوا كذلك. ومنها كون المضاف محذوفا نحو وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ومنها كون المضاف إليه محذوفا كقوله: «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا» . أي أنا ابن رجل جلا. ومنها إطلاق اسم آلة الشيء عليه مثل وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ [الشعراء: 84] أي ذكرا حسنا، لأن اللسان آلة الذكر. ومنها إطلاق اسم الشيء على بدله، كما يقال: فلان أكل الدم، أي ديته قال: «يأكلن كل ليلة إكافا» . أي ثمن إكاف. ومنها إطلاق النكرة للعموم كقوله عز من قائل عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] أي كل نفس. ومنها إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر مثل وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] إذ جزاء السيئة حسنة، ومنه قولهم: قاتله الله ما أحسن ما قال، يريدون الدعاء له. ومنها إطلاق المعرّف باللام وإرادة واحد منكر كقوله تعالى ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً [النساء: 154] ، أي بابا من أبوابها وسيجيء. ومنها الحذف نحو يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] ، أي لئلا تضلوا. ومنها الزيادة نحو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] . واعلم أن المجاز بالحقيقة فرع من فروع التشبيه لأنك إذا قلت: زيد أسد، فكأنك قلت: زيد كالأسد في الجراءة، فيستدعي مشبها ومشبها به ووجه شبه بينهما. والمشبه والمشبه به قد يكونان حسيين كقولك: خدّه كالورد أو عقليين كالعلم إذا شبه بالحياة أو أحدهما محسوسا والآخر معقولا كالعطر إذا شبه بخلق كريم، أو كالعدل إذا شبه بالقسطاس، والخياليات كالشقيق إذا شبه بأعلام ياقوت منشرة ملزوزة في قرن، والوهميات في قولك: نطقت الحال بشيء هو لها شبيه باللسان، فإنه صورة وهمية محضة. وكذا الوجدانيات كاللذة والألم والشبع والجوع ملحقة بالعقليات. ووجه التشبيه إما أن يكون أمرا واحدا أو لا، وحينئذ إما أن لا يكون في حكم الواحد كما إذا شبهت إنسانا بالشمس في حسن الطلعة ونباهة الشأن وعلو الرتبة، أو يكون. وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 لكونه إما حقيقة ملتئمة من أوصاف، كسقط النار إذا شبه بعين الديك في الهيئة الحاصلة من الحمرة والشكل الكروي والمقدار المخصوص، وإما أوصافا مقصودا من مجموعها هيئة واحدة كقوله: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه فليس المراد تشبيه النقع بالليل ثم تشبيه السيوف بالكواكب، إنما المراد تشبيه الهيئة الحاصلة من النقع الأسود والسيوف البيض حال كون السيوف متفرقات فيه، بالهيئة الحاصلة من الليل المظلم والكواكب المشرقة في جوانب منه. ويسمى هذا تشبيه المركب بالمركب. ومتى كان وجه التشبيه وصفا غير حقيقي وكان منتزعا من عدة أمور خصّ باسم التمثيل كما في قوله عز من قائل: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً الآية [البقرة: 17] وسيجيء تفسيرها. ثم إن التشبيه التمثيلي إذا فشا استعماله على سبيل الاستعارة لا غير سميّ مثلا، كقولك لمن تردد في أمر: يقدّم رجلا ويؤخر أخرى. وذلك أن الاستعارة هي أن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر مدّعيا دخول المشبه في جنس المشبه به، دالّا على ذلك بإثباتك للمشبه ما يخصّ المشبه به، كما تقول: في الحمام أسد، وأنت تريد به الشجاع مدّعيا أنه من جنس الأسد، فتثبت للشجاع ما يخصّ المشبه به وهو اسم جنسه، أعني الأسد مع سدّ طريق التشبيه بإفراده في الذكر، لأن التشبيه لا بد له من طرفين: مشبه ومشبه به. فإذا أفردت بالذكر أحدهما فكأنك قد سددت طريق التشبيه. فإذن الاستعارة نوع من المجاز لأن المستعار له، وهو زيد مثلا في قولك: زيد أسد، يبرز في معرض المستعار منه، وهو الأسد، نظرا إلى الدعوى. وهذا شأن العارية. وإنما جرأهم على الدعوى ما رأوا بينهما من الاشتراك في اللازم وهو الشجاعة. والاستعارة في نحو: عندي أسد، إذا لم تعقب بصفات ملائمة أو تفريع كلام لا تكون مجردة ولا مرشحة لفقد موضوعي التجريد والترشيح. وإنما يلحقها التجريد والترشيح إذا عقبت بذلك. فمتى عقبت بصفات ملائمة للمستعار له سميت مجردة، نحو: ساورت أسدا شاكي السلاح طويل القناة: وإذا عقبت بصفات ملائمة للمستعار منه سميت مرشحة، نحو: ساورت أسدا وافي البراثن هصورا. وقد بقي من الاصطلاحات قولهم: هذا عام أو خاص أو مطلق أو مقيد. فالعام: ما دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربة. فقولنا «ما دل» ليشمل العموم باللفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 والمعنى جميعا، فإن العموم من عوارض المعاني أيضا حقيقة، كقولهم: عمّ المطر والخصب، وكذلك المعنى الكلي كالإنسان لشموله الجزئيات التي تحته. وقولنا «على مسميات» ليخرج المسمى وليدخل في العام المعدوم والمستحيل، إذ لو قلنا «على أشياء» لخرجا بناء على أنهما ليسا بشيء: وقولنا «باعتبار أمرا اشتركت تلك المسميات فيه» ليخرج نحو عشرة وغيرها من أسماء العدد النكرات، فإنها وإن دلّت على مسميات هي آحادها لكن لا باعتبار أمر اشتركت هي فيه بل باعتبار وضع اسم العدد للمجموع. وكذا الكلام في كل ذي أجزاء حسية أو عقلية. وقولنا «مطلقا» ليخرج الرجال المعهودون فإنها بقرينة العهد، و «ضربة» احتراز من نحو رجل فإنه وإن دلّ على مسميات باعتبار كون كل منها ذكرا من بني آدم مطلقا، لكن لا دفعة بل على سبيل البدل. ولهذا يخرج نحو رجال. إذا تأملت فهذا حدّ العام والخاص بخلافه، وهو ما دلّ لا على مسميات إلى آخره. فمن صيغ العموم أسماء الشرط والاستفهام مثل «من وما» ، والموصلات نحو «الذي والتي» ، والجموع المعرّفة تعريف جنس ك «الرجال والمسلمات» والجموع المضافة نحو «عبيدي أحرار» ، واسم الجنس المضاف أو المعرف تعريف الجنس مثل «غلامي والغلام» ، والنكرة في سياق النفي نحو ما في الدار أحد. والتخصيص قصر العام على بعض مسمياته. وقد يطلق التخصيص أيضا على قصر اللفظ على بعض ما يتناوله وإن لم يكن ذلك اللفظ عاما. كما يطلق عليه أيضا أنه عام لتعدّده وتكثره وإن لم يكن من صيغ العموم كعشرة والمسلمين للمعهودين، وكضمائر الجمع. ولا يستقيم تخصيص إلا فيما يستقيم توكيده بكل لكونه ذا أجزاء يصح افتراقها حسّا أو حكما، إلا النكرة مثل قوله تعالى تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة: 196] ونحو: جاءني رجال كرماء. والمخصّص أحد أربعة أشياء: الأول الاستثناء ب «إلّا» ونحوها. والثاني الشرط، وهو ما يتوقّف تأثير المؤثر عليه لا وجوده كالإحصان، فإنه يتوقف عليه اقتضاؤه الرجم لا وجود الزنا. والثالث الصفة، مثل فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء: 92] والرابع الغاية نحو أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] هذا هو التخصيص بالمتصل. وقد يخص بالمنفصل وذلك إما العقل كقوله تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16 والزمر: 62] وإما الحس نحو: أوتيت من كل شيء. وإما الدليل السمعي كقوله تعالى وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] خصصته الآية الأخرى وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] ويُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11] خصصه قوله صلى الله عليه وسلم: «القاتل لا يرث» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 والمطلق هو اللفظ الدال على الماهية، من حيث هي هي. ويلزم منه تمكّن المأمور من الإتيان بفرد منها، أي فرد كان، لأنه لا يمكن الإتيان بالماهية إلا بالإتيان بفرد منها. وذلك إما في معرض الأمر مثل: أعتق رقبة، أو مصدر الأمر كقوله تعالى فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [النساء: 92] أو الإخبار عن المستقبل مثل سأعتق رقبة. ولا يتصوّر الإطلاق في معرض الخبر المتعلق بالماضي، مثل رأيت رجلا، ضرورة تعينه بإسناد الرؤية إليه. والمقيّد بخلاف المطلق فهو لفظ دال على مدلول غير شائع في جنسه فيدخل فيه الدال على المتعين مطلقا، نحو زيد وهذا الرجل وأنا وأنت، والدال على الشائع لا في جنسه بل في أفراده كالعامّ فهو مقيد لغة لا اصطلاحا. ويطلق المقيد على ما أخرج من شياع بوجه بأن يذكر الدال على الماهية بوصف زائد عليها ك رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء: 92] ، فإنها، وإن كانت مطلقة في جنسها من حيث هي رقبة مؤمنة، إلا أنها مقيدة بالنسبة إلى مطلق الرقبة، فهي مطلقة من وجه ومقيدة من وجه. وتقييد المطلق شبيه بتخصيص العام. فيجوز التقييد بالمتصل، استثناء كان أو صفة أو شرطا أو غاية أو بدل بعض، وبالمنفصل، عقلا كان أو نقلا كتابا وسنة. وتقسيم آخر: التركيب المفيد، أعني الكلام، قسمان: أحدهما الذي يحتمل أن يقال لقائله صدقت أو كذبت من حيث ذات التركيب لا من أمر خارج عن ذات التركيب. ويقال له الخبر. وإذا بلغ رواة الخبر مبلغا أحال العقل تواطؤهم على الكذب فهو متواتر، وإلا فخبر الواحد. والثاني ما لا يحتمل ذلك، ويقال له الطلب. والأول عبارة عن الجمل الأربع: الاسمية والفعلية والشرطية والظرفية. والثاني نوعان: نوع لا يستدعي في مطلوبه إمكان الحصول وهو التمني. ونوع يستدعي في مطلوبه ذلك. ثم إن كان طلب فعل فأمر، وإن كان طلب ترك فنهي. وإن كان طلب فهم فاستفهام. وإن كان طلب إقبال فنداء. فمتى امتنع إجراء هذه الأبواب على الأصل تولد منها ما ناسب المقام كالاستبطاء والإغراء والتعجب والتوبيخ ونحو ذلك. تقسيم آخر: الحكم خطاب الله أو من أذن له الله متعلقا بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. أما التخيير فيراد به الإباحة. وأما الاقتضاء فإما اقتضاء فعل مع امتناع الترك وهو الوجوب، أو مع جواز الترك وهو الندب وإما اقتضاء ترك مع امتناع الفعل، وهو الحظر والتحريم، أو مع جوازه وهو الكراهة وأما الوضع فيراد به ما جعله الشارع بوضعه دليلا على شيء كدلوك الشمس على وجوب الصلاة، أو سببا لشيء كالزنا لوجوب الحد، أو شرطا كالوضوء لصحة الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وأما الصحة والبطلان أو الحكم بهما فأمر عقلي لا حكم شرعي، لأن صحة العبادات إما كون الفعل مسقطا للقضاء كالفقهاء، وإما موافقة أمر الشرع كالمتكلمين. ولا شك أن العبادات إذا اشتملت على أركانها وشرائطها حكم العقل بصحتها بكل من التفسيرين سواء حكم الشارع بها أو لا. والصحة في المعاملات أيضا حكم عقلي لأنها فيها كون الشيء بحيث يترتّب عليه أثر. وإذا كان البيع مشتملا على الأسباب والشرائط وارتفاع الموانع حكم العقل بترتب أثره عليه سواء حكم الشرع بها أو لم يحكم. وقس البطلان والفساد على ما قلنا. وكل حكم ثبت على خلاف الدليل لعذر فهو رخصة كحلّ الميتة للمضطر، والقصر والفطر للمسافر واجبا ومندوبا ومباحا وإلا فعزيمة. وإذا عرفت ما ذكرنا من التقسمات لا يخفى عليك المقصود من إيرادها لأن معاني كتاب الله تعالى منها محكم ومتشابه، ومنها مجمل ومبين، ويندرج فيهما المنسوخ والناسخ باعتبار، لأن النسخ بيان انتهاء أمد الحكم الشرعي ومنها عام وخاص، ومنها مطلق ومقيد ومنها أمر ونهي ومنها ظاهر ومؤوّل ومنها حقيقة ومجاز ومنها تشبيه وتمثيل ومنها كناية وتصريح ومنها الكلي والجزئي، ومنها الخبر والطلب بأقسامهما ومنها الأحكم بأصنافها. ولا ريب أن تصوّر هذه الاصطلاحات وتذكرها في علم التفسير أمر مهم والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 المقدمة العاشرة في أن كلام الله تعالى قديم أولا ذكر قوم من أئمة الأمة أن كلام الله تعالى قديم بعد أن عنوا بكلامه هذه الحروف المنتظمة المسموعة أما أن كلامه تعالى هو هذه الحروف فلقوله تعالى وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة: 6] . ومعلوم أن المسموع ليس إلا هذه الحروف. وأما أنها قديمة فلأن الكلام صفة الله تعالى، ومن المحال قيام الحادث بالقديم. وأيضا كلّ حادث متغيّر والتغير على ذات الله تعالى وصفاته محال. وزعم قوم أن الكلام المؤلف من الحروف والأصوات يمتنع أن يكون قديما بالبديهة وكيف لا وإنها أصوات تحدث قارئها يئا بعد شيء فلو قلنا: إنها عين كلام الله تعالى لزمنا القول بأن الصفة الواحدة بعينها قائمة بذات الله تعالى، وحالّة في بدن هذا الإنسان وهذا معلوم الفساد. وجمع قوم بين المذهبين فقالوا: للشيء وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في العبارة، ووجود في الكتابة. فللقرآن وجود عيني وهو القائم بذات الله تعالى، وأنه قديم لا محالة لا يتطرق إليه شيء من سمات النقص ووجود ذهني كالحافظ للقرآن، ووجود في العبارة وهو على لسان القارئ ووجود كتابي وهو المثبت في المصاحف. ولا ريب أن القرآن من حيثيات هذه الوجودات حادث بل القرآن إنما يطلق على المحفوظ والمتلو والمكتوب بالمجاز من حيث إنها دالة على الكلام القائم بذات الله تعالى. واعلم أنه لا برهان على أن كل صوت فإنه يقوم بجسم ولا على أن كلّ حرف فإنما يقدر عليه ذو جارحة بل لعلّ في ذلك الشاهد فقط. فالكلام للقديم كمال قديم نطق وسمع وبصر ولا آلة ولا جارحة كما أنّه إدراك وعلم من غير ما قوى وعضو، ومن لم يدركه كما ينبغي لم يدرك إدراكه كما ينبغي فلا يلومنّ إلا نفسه. كلامه كتاب، وكتابه صواب، وقوله فصل، وحكمه عدل، ونوره ظهور، ووجوده شهود، وعيانه بيان، والكفر بما سواه إيمان كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: 26 و 27] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 المقدمة الحادية عشرة في كيفية استنباط المسائل الكثيرة من الألفاظ القليلة إذا شرعنا مثلا في تفسير قول القائل «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فههنا مباحث لفظية ومباحث معنوية. أما اللفظية فمنها ما يتعلق بالقراءة، ومنها ما يتعلق باللغة، ومنها ما يتعلق بعلم الاشتقاق، ومنها ما يتعلق بعلم الصرف، ومنها ما يتعلق بالنحو، ومنها ما يتعلق بعلم البديع أعني المحسنات اللفظية. وأما المعنوية فمنها ما يتعلق بالمعاني، ومنها ما يتعلق بالبيان، ومنها ما يتعلق بالاستدلال، ومنها ما يتعلق بأصول الدين، ومنها ما يتعلق بأصول الفقه، ومنها ما يتعلق بالفقه، ومنها ما يتعلق بعلم الأحوال. أما القراءة فكما مر. وأما اللغة فإذا قلنا العوذ كذا، واسم الله معناه كذا والشيطان كذا، والرجيم كذا، والباء ومن واللام معانيها هاهنا كذا، فكل واحد منها مسألة. وأما الاشتقاق فإن اعتبرنا الاشتقاق الكبير وقلنا: إن التراكيب الستة الممكنة من ع وذ هل هي مستعملة أو مهملة؟ وكذا كل من تراكيب ال ش ط ن، أو ش ي ط، ومن تراكيب ر ج م، وإذا كانت مستعملة، فأصل المعنى في كل من المستعملات كيف يعتبر فيحصل مسائل كثيرة، وإن اعتبرنا الاشتقاق الصغير فهل للعوذ معنى آخر غير الالتجاء وإن كان فما له الاشتراك بينهما أي شيء هو؟ فيحصل مسائل. وأما الصرف فكأن نقول: «أعوذ» فعل مضارع متكلم وأصله أعوذ مثل أطلب، نقلت الضمة من الواو إلى ما قبلها تخفيفا. والله أصله الإله كالناس أصله الإناس فعال بمعنى مفعول، نقلت الكسرة من الهمزة إلى اللام وحذفت الهمزة للتخفيف فاجتمعت لامان فأسكنت الأولى وأدغمت في الثانية. وقالوا: يا الله، في النداء خاصة بالقطع لأنها كالعوض من المحذوفة، فكأنك قلت: يا إله. وقيل: أصله لاه، ألحقوا بها الألف واللام وأنشدوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 كحلفة من أبي رياح ... يسمعها لاهه الكبار ولو عدّ هذه المسألة من اللغة جاز، لأنها غير قياس. والشيطان فعلان أو فيعال، والرجيم فعيل بمعنى مفعول، وكلاهما للمبالغة. فهذه مسائل. وأما النحو ف «أعوذ» فعل فاعله ضمير المتكلم المستتر وهو أنا، والمجموع جملة فعلية. وبالله متعلق به. وكذا من الشيطان الرجيم، نحو سرت من البصرة إلى الكوفة. والرجيم صفة للشيطان معرف مثله، وشيطان منصرف لأنه اسم جنس لا علم. فهذه مسائل. وأما البديع فأن نقول: إنما اختير الرجيم دون اللعين أو المرجوم مثلا ليوافق الفاصلة الأخرى وهو الرحيم إذا ابتدأ القارئ بعد الاستعاذة بالبسملة، وهو الأكثر، مع أن أول القرآن أيضا البسملة واعتبار الاستعاذة هاهنا أولى ليكون تجنيسا خطيا وترصيعا. وأما المعاني فأن نقول: إنما اختير المضارع على الماضي ليدل على الاستمرار والدوام. أي: شأني أني أعوذ، كقولك: يشرب الخطيب. وإنما لم يقل: أنا أعوذ وأنا عائذ، وإن كانت الجملة الاسمية تدل على الثبات، لأن المراد أني على تجدد هذا القول مني لحظة فلحظة ثابت مستمر، لا أن عوذي مستمر. ويمكن أن يقال: المراد أني أعوذ في حال القراءة لقوله تعالى فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ [النحل: 98] فتعين إيراد لفظ المضارع لأنه مشترك بين الحال والاستقبال. وإنما لم يقل «بالله أعوذ» ليفيد الحصر، كما يقال في «بسم الله أبتدىء» لأن الاستعاذة هاهنا أهم امتثالا للأمر، ولأنه لا يعوذ إلا بالانقطاع عن الغير والتبري عن سوى الحق جل ذكره، فلا حاجة إلى التخصيص ولأنه موافق لما ورد في القرآن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: 98] . وإنما اختير اسم «الله» لأنه كالعلم والمقام مقام إحضار له في ذهن السامع بعينه ليكون أدلّ على انقطاعه عما سواه. وإنما ذكر «الشيطان» معرفا باللام الجنسي ليدل على هذه الحقيقة التي هي مادة كل شر، ويشمل كل فرد منها ضرورة وجود الحقيقة في أي فرد يفرض. ولو أريد العهد أيضا جاز كما مر. ولو نكرت بأن قلت: «من شيطان رجيم» لم يفد العموم وإن قلت: «من كل شيطان» لأطلت، والمقام مقام اختصار. وإنما وصف ب «الرجيم» لأن المقام مقام تأكيد وذم، ولا ذم أبلغ من البعد عن حضرة من هو منشأ كل كمال ومصدر كل خير. وأما البيان، فإن قوله «أعوذ» معناه ألتصق. ولا ريب أن الالتصاق بالله محال لأن ذلك من شأن الأجسام. والمراد: ألتصق برحمة الله وفضله. فهو إذن مجاز لغوي. وفي نفس الالتصاق أيضا بعد تقدير الرحمة تجوّز بعيد على ما لا يخفى. ولو أريد بالشيطان شيطان الإنس أيضا ويثبت كون اللفظ موضوعا لشيطان الجن فقد كان استعارة. وإذا قدّرنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الاستعاذة من شر الشيطان، كما مر، كان مجازا بالنقصان أيضا. وأما ما يتعلق بالاستدلال فإما من جهة التصوّر وإما من جهة التصديق. أما الأول فنحو كيفية اقتناص التصوّرات الواقعة في التركيب من مفهوم العوذ ومفهوم اسم الله ومفهوم الشيطان ومفهوم الرجيم وأن كلّا منها كيف يعرّف بالحدّ أو الرسم فإن عرف بالحد فكيف يرتب جنسه وفصله؟ وإن عرّف بالرسم فكيف يركب لوازمه؟ وأما معرفة الجنس والفصل واللوازم أنفسها لكل منها فمن الأمور العامة. وأما الثاني فإن قولنا: «أعوذ» لفظه خبر ومعناه إما دعاء أي اللهم أعذني، وإما إنشاء نحو بعت واشتريت. وإذا كان كذلك فلا يتطرق إليه احتمال الصدق والكذب فلا يحتاج إلى البرهان على أحدهما. واستعمال الخبر في معنى الطلب من مسائل علم المعاني أيضا. وأما ما يتعلق بأصول الدين فأن تعلم ذات الله تعالى وصفاته من أنه قادر مختار عليم إلى غير ذلك من الصفات التي بها يتمكن المستعاذ به من دفع المضار والشرور عن المستعيذ بحيث لا يمنعه مانع ولا يغلبه منازع، وتصور الشيطان ولوازمه وكيفية وسوسته بنحو مما سبق في المقدمة الثانية. وأما ما يتعلق بأصول الفقه فأن يعرف أن الاستعاذة الواردة في الكتابة والسنة واجبة أم لا بل مندوبة، وإن كانت واجبة فتتكرر بتكرر القراءة أم لا، وإنها تقتضي الفور أو تحتمل التراخي. وأما ما يتعلق بالفقه فإنها تستحب في الصلاة أم لا، وإن استحبّت فتجوز في المكتوبة أم لا، وإن جازت ففي كل ركعة أم في الأولى وحدها، ويسرّ بها أم يجهر؟ وأما ما يتعلق بعلم الأحوال فكالنكت التي ذيلنا بها المقدمة الثانية وأنها لا تكاد تنحصر. فهكذا يجب أن تستنبط المسائل من كل كلام يراد تفسيره من غير أن يتخطى في شيء من ذلك إلى ما ليس من العلم، كأن تقول في كل قراءة الاستعاذة، والقراآت المشهورة سبع هي كذا وكذا، ورواة كل قراءة من هم وما منشأ كل قراءة؟ وفي اللغة أن واضعها من هو؟ وكيف نشأت اللغات؟ وما معنى الاشتقاق؟ وما فائدته؟ وفي الصرف أنه معرفة أحوال الكلم التي ليست بإعراب. ومن جملة الأحوال صيغة المضارع وما معناها، وما حد الفعل والكلمة؟ إلى غير ذلك من قواعد الصرف بل ما فوق ذلك من مباحث الحرف والصوت بل مقولة الكيف. وفي النحو أن التركيب مشتمل على الاسم والفعل والحرف، والاسم معرب منصرف وغير منصرف، ومبني، وما سبب الإعراب والبناء والصرف ومنع الصرف، وأنواع الإعراب كم هي؟ وكل منها يختص بأي شيء من الفاعل والمفعول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 والمضاف إليه ولم يختص بكل صنف ما يختص، وأصناف الفعل كم هي؟ وأصناف الحرف كم هي، ولا سيما حروف الجر، وما معنى كل منها؟ إلى غير ذلك. وبالجملة فمن كل علم يؤخذ نكت مخصوصة بهذه المادة يلزمنا إيرادها فقط إذ لو تعدّينا إلى ما فوق ذلك من القواعد والقوانين لزم إيراد كل العلوم أو أكثرها في تفسير كلام واحد، وإنه محال شنيع إذ يلزم تداخل العلوم واضطراب القوانين. وأيضا لو فسر «الشيطان الرجيم» بما يلزمه من أنواع الضلالات والجهالات والعقائد الفاسدة والمذاهب الباطلة في الملة الإسلامية وغيرها، أو فسر بما هو مباين عنه كأنواع الآفات وأصناف المخافات حتى يلزم تكثير المسائل، لم يخل عن التعسف والإعنات. ومن ارتكب شيئا من ذلك فقد نطق بالخلف وزاغ عن الجادة وانحرف عن سواء السبيل. نعم لو أورد طرف من الاصطلاحات أو المسائل على سبيل التصوير من غير إشارة إلى مآخذها الأصلية ودلائلها الكلية إلا نادرا، جاز ما لم يتجاوز حد الضرورة ومقدار الواجب، كما أشرنا إليها في المقدمات. وقد بقي مما يمكن أن يعد من المقدمات ذكر ابتداء الوحي وكيفية نزول القرآن شيئا بعد شيء، وبيان كيفية إعجاز القرآن. ونحن قد رأينا الأليق بها إيرادها في مواضعها إذا أفضت النوبة إليها. فلنشرع الآن في المقصود وهو التفسير المسمى بغرائب القرآن ورغائب الفرقان والله المستعان وعليه التكلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 (سورة فاتحة الكتاب) (مكية ويقال مدنية وهي سبع آيات إلا أن المكي والكوفي عدّا التسمية آية دون أنعمت عليهم ومذهب المدني والبصري والشامي بالعكس وكلماتها خمس وعشرون وحروفها مائة وثلاثة وعشرون.) [سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) القراآت: «مالك» : بالألف سهل ويعقوب وعاصم وعلي وخلف، والباقون ملك: الرحيم ملك مدغما: أبو عمرو، كذلك يدغم كل حرفين التقيا من كلمتين إذا كانا من جنس واحد مثل قالَ لَهُمْ [البقرة: 249] أو مخرج واحد مثل وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ [النساء: 102] أو قريبي المخرج مثل خَلْقُكُمْ [لقمان: 28] ولَقَدْ جاءَكُمْ [البقرة: 92] سواء كان الحرف المدغم ساكنا مثل أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ [البقرة: 261] ويسمى بالإدغام الصغير، أو متحركا فأسكن للإدغام مثل قِيلَ لَهُمْ [البقرة: 11] ولَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ [البقرة: 20] ويسمى بالإدغام الكبير إلا أن يكون مضاعفا نحو أُحِلَّ لَكُمْ [البقرة: 187] ومَسَّ سَقَرَ [القمر: 48] أو منقوصا مثل وَما كُنْتَ تَرْجُوا [القصص: 86] ونْتُ تُراباً [النبأ: 40] ونعني بالمنقوص الأجوف المحذوف العين أو مفتوحا قبله ساكن مثل الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا [النحل: 14] والْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [النحل: 8] إلا في مواضع أربعة كادَ يَزِيغُ [التوبة: 117] وقالَ رَبِّ [المؤمنون: 26] في كل القرآن والصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: 114] وبَعْدَ تَوْكِيدِها [النحل: 91] أو يكون الإظهار أخف من الإدغام نحو أَفَأَنْتَ تَهْدِي [يونس: 43] أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ [الزخرف: 40] وعن يعقوب إدغام الجنسين في جميع القرآن إذا التقيا من كلمتين. «الصراط» بإشمام الراء هاهنا وفي جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 القرآن: حمزة. وعن يعقوب بالسين في كل القرآن، وعن الكسائي بإشمام السين كل القرآن، والباقون بالصاد. «عليهم» : وإليهم ولديهم بضم الهاءات كل القرآن: حمزة وسهل ويعقوب. ضم كل ميم جمع يزيد وابن كثير غير ورش، بضم الميم عند ألف القطع فقط نحو أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ [يس: 10] . الوقوف: العالمين (لا) لاتصال الصفة بالموصوف. الرحيم (لا) لذلك. الدين (ط) للعدول عن الغائب إلى المخاطب. نستعين (ط) لابتداء الدعاء. المستقيم (لا) لاتصال البدل بالمبدل. أنعمت عليهم (لا) لاتصال البدل أو الصفة. الضالين (هـ) . التفسير: روي عن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ» «1» وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» » فذكر العلماء أن النهي عن تفسير القرآن بالرأي لا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط، أو المراد به أمر آخر، وباطل أن يكون المراد به أن لا يتكلم أحد في تفسير القرآن إلا بما سمعه فإن الصحابة رضي الله عنهم قد فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه. وليس كل ما قالوه سمعوه، كيف وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» «3» فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك؟! وإنما النهي يحمل على وجهين: أحدهما: أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأوّل القرآن على وفق هواه ليحتج على تصحيح غرضه، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى. وهذا قد يكون مع العلم بأن المراد من الآية ليس ذلك، ولكن يلبس على خصمه. وقد يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويترجح ذلك الجانب برأيه وهواه، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه. وقد يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلا من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما   (1) رواه الترمذي في كتاب التفسير باب 1. مسلم في كتاب المنافقين حديث 40. الدارمي في المقدمة باب 20. أحمد في مسنده (5/ 115) . (2) رواه الترمذي في كتاب التفسير سورة الفاتحة. (3) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 10. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث 138. أحمد في مسنده (1/ 266، 314) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أريد به كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول: المراد بفرعون في قوله تعالى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [النازعات: 17] هو النفس. الوجه الثاني: أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغريب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير. فالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير أوّلا ليتقي به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع للتفهم والاستنباط. والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة كقوله تعالى وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها [الإسراء: 59] معناه آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها. فالناظر إلى ظاهر العربية يظن المراد أن الناقة كانت مبصرة ولم تكن عمياء، وما يدري بما ظلموا وإنهم ظلموا غيرهم أو أنفسهم. وما عدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهي إليه ما دام على قوانين العلوم العربية والقواعد الأصلية والفرعية. واعلم أن مقتضى الديانة أن لا يؤوّل المسلم شيئا من القرآن والحديث بالمعاني بحيث تبطل الأعيان التي فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح مثل: الجنة والنار والصراط والميزان والحور والقصور والأنهار والأشجار والثمار وغيرها، ولكنه يجب أن يثبت تلك الأعيان كما جاءت. ثم إن فهم منها حقائق أخرى ورموزا ولطائف بحسب ما كوشف فلا بأس، فإن الله تعالى ما خلق شيئا في عالم الصورة إلا وله نظير في عالم المعنى، وما خلق شيئا في عالم المعنى وهو الآخرة إلا وله حقيقة في عالم الحق وهو غيب الغيب، وما خلق في العالمين شيئا إلا وله أنموذج في عالم الإنسان والله تعالى أعلم. والتفسير أصله الكشف والإظهار وكذلك سائر تقاليبه. من ذلك: سفرت المرأة كشفت عن وجهها، والسفر لأنه يكشف به عن وجوه الحوائج، ومنه السرف لأنه يكشف به عن ماله حينئذ. والرفس لأنه يكشف عن عضوه وانكشاف حال المقيد في رسفانه واضح. فمن التفسير ما يتعلق باللغة ومنه ما يتعلق بالصرف أو النحو أو المعاني أو البيان إلى غير ذلك من العلوم كما أشرنا إلى ذلك في آخر المقدمة العاشرة، ومنه أسباب النزول وذكر القصص والأخبار وغير ذلك. ونحن على أن نورد بعد القرآن مع الترجمة القراءة ثم الوقوف ثم أسباب النزول ثم التفسير الشامل لجميع ذلك، ثم التأويل إن كان، ولم نذكره في التفسير ونذكر منه ما هو أقرب إلى الإمكان والله المستعان. فلنشتغل بتفسير الفاتحة فنقول: في البسملة مسائل: الأولى: الجار والمجرور لا بد له من متعلق وليس بمذكور فيكون مقدرا وأنه يكون فعلا أو اسما فيه رائحة الفعل. وعلى التقديرين فإما أن يقدر مقدما أو مؤخرا نحو: أبدأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 بسم الله، أو ابتدائي بسم الله، أو بسم الله أبتدىء، أو بسم الله ابتدائي أو الابتداء، وتقدير الفعل أولى من تقدير الاسم لأن كل فاعل يبدأ في فعله ببسم الله يكون مضمرا ما جعل التسمية مبدأ له، فيكون المراد أن إنشاء ذلك الفعل إنما هو على اسم الله فيقدر هاهنا بسم الله أقرأ أو أتلو أو أبدأ، لأن الذي يتلو التسمية مقروء ومبدوء به كما أن المسافر إذا حل وارتحل فقال: بسم الله متبركا، كان المعنى بسم الله أحل أو ارتحل وكذلك الذابح. ونظيره في حذف متعلق الجار قولهم في الدعاء للمعرس: بالرفاء والبنين، أي بالرفاء أعرست، وتقدير المحذوف متأخر أولي على نحو قوله تعالى بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود: 41] لأن تقديم ذكر الله أدخل في التعظيم، ولأن ما هو السابق في الوجود يستحق السبق في الذكر، ولهذا قال المحققون: ما رأينا شيئا إلا ورأينا الله تعالى قبله. ولأنهم كانوا يبدأون بأسماء آلهتهم فيقول: باسم اللات باسم العزى، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عز وجل بالابتداء وذلك بتقديمه وتأخير الفعل كما في إِيَّاكَ نَعْبُدُ صرح بتقديم الاسم إرادة الاختصاص. قال في الكشاف: وإنما قدم الفعل في اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] لأن تقديم الفعل هناك أوقع لأنها أول سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم. وقال صاحب المفتاح: الصواب أن يقال: معنى اقرأ أوجد القراءة، ثم يكون باسم ربك متعلقا باقرأ الثاني. وذكر في معنى تعلق اسم الله بالقراءة وجهان: إما تعلق القلم بالكتبة في قولك «كتبت بالقلم» كان فعله لا يجيء معتدا به شرعا إلا بعد تصديره بذكر الله قال صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر» وإما تعلق الدهن بالإنبات في قوله تعالى تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] أي متبركا باسم الله أقرأ كما في قوله «بالرفاء والبنين» أي أعرست متلبسا بالرفاء وهذا أعرب وأحسن. أما كونه أدخل في العربية فلأنه لا يعرفه إلا من له دربة بفنون الاستعمالات بخلاف الأول فإنه مبتذل. وأما كونه أحسن فلأن جعل اسم الله كالآلة خروج عن الأدب، لأن الآلة من حيث إنها آلة غير مقصود بالذات، واسم الله تعالى عند الموحد أهم شيء وأنه مقول على ألسنة العباد تعليما لهم كيف يتبركون باسمه وكيف يعظمونه، وكذلك الحمد لله رب العالمين إلى آخره. الثانية: أنهم استحسنوا تفخيم اللام وتغليظها من لفظ «الله» بعد الفتحة والضمة دون الكسرة أما الأول فللفرق بينه وبين لفظ اللات في الذكر، ولأن التفخيم مشعر بالتعظيم، ولأن اللام الرقيقة تذكر بطرف اللسان والغليظة تذكر بكل اللسان فكان العمل فيه أكثر، فيكون أدخل في الثواب وهذا كما جاء في التوراة: أحبب ربك بكل قلبك. وأما الثاني فلأن النقل من الكسرة إلى اللام الغليظة ثقيل على اللسان لكونه كالصعود بعد الانحدار. وإنما لم يعدّوا اللام الغليظة حرفا والرقيقة حرفا آخر كما عدوا الدال حرفا والطاء حرفا آخر مع أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 نسبة الرقيقة إلى الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء، فإن الدال بطرف اللسان والطاء بكل اللسان، لإطراد استعمال الغليظة مكان كل رقيقة ما لم يعق عائق الكسرة وعدم إطراد الطاء مكان كل دال. الثالثة: طولوا الباء من بسم الله إما للدلالة على همزة الوصل المحذوفة، وإما لأنهم أرادوا أن لا يستفتحوا كتاب الله إلا بحرف معظم. وكان يقول عمر بن عبد العزيز لكتابه: طولوا الباء وأظهروا السين ودوّروا الميم تعظيما لكتاب الله. وقال أهل الإشارة: الباء حرف منخفض في الصورة، فلما اتصل بكتابة لفظ «الله» ارتفعت واستعلت. فلا يبعد أن القلب إذا اتصل بحضرة الله يرتفع حاله ويعلو شأنه. الرابعة: إبقاء لام التعريف في الخط على أصله في لفظ الله كما في سائر الأسماء المعرفة، وأما حذف الألف قبل الهاء فلكراهتهم اجتماع الحروف المتشابهة في الصورة عند الكتابة ولأنه يشبه اللات في الكتابة. قال أهل الإشارة: الأصل في قولنا «الله» الإله وهو ستة أحرف ويبقى بعد التصرف أربعة في اللفظ: ألف ولامان وهاء، فالهمزة من أقصى الحلق، واللام من طرف اللسان، والهاء من أقصى الحلق، وهذه حال العبد يبتدىء من النكرة والجهالة ويترقى قليلا قليلا في مقامات العبودية حتى إذا وصل إلى آخر مراتب الوسع والطاقة ودخل في عالم المكاشفات والأنوار، أخذ يرجع قليلا قليلا حتى ينتهي إلى الفناء في بحر التوحيد كما قيل: النهاية رجوع إلى البداية. وأما حذف الألف قبل النون من لفظ «الرحمن» فهو جائز في الخط ولو كتب كان أحسن. الخامسة: الاسم أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون، وهو عند البصريين في الأصل سمو بدليل تكسيره على أسماء وتصغيره على سمّي وتصريفه على سميت ونحوه، فاشتقاقه من السمو وهو العلو مناسب لأن التسمية تنويه بالمسمى وإشادة بذكره. وقيل: لأن اللفظ معرف للمعنى، والمعرف متقدم على المعرف في المعلومية فهو عال عليه حذفوا عجزه كما في «يد» و «دم» فبقي حرفان أو لهما متحرك والثاني ساكن، فلما حرك الساكن للإعراب أسكن المتحرك للاعتدال فاحتيج إلى همزة الوصل إذ كان دأبهم أن يبتدؤا بالمتحرك ويقفوا على الساكن حذرا من اللكنة والبشاعة. ومنهم من لم يزد الهمزة وأبقى السين بحاله فيقول: سم كما قال: باسم الذي في كل سورة سمه. وقد يضم السين فيقال: «سم» كأن الأصل عنده «سمو» . وعند الكوفيين اشتقاق الاسم من الوسم والسمة، لأن الاسم كالعلامة المعرّفة. وزيف بأنه لو كان كذلك لكان تصغيره وسيما وجمعه أو ساما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 السادسة: قال بعض المتكلمين ومنهم الأشعري: إن الاسم غير المسمى وغير التسمية وهو حق، لأن الاسم قد يكون موجودا والمسمى معدوما كلفظ المعدوم والمنفي ونحو ذلك، وقد يكون بالعكس كالحقائق التي لم توضع لها أسماء، ولأنّ الأسماء قد تكون كثيرة مع كون المسمى واحدا كالأسماء المترادفة وكأسماء الله التسعة والتسعين، أو بالعكس كالأسماء المشتركة، ولأن كون الاسم اسما للمسمى وكون المسمى مسمى له من باب الإضافة كالمالكية والمملوكية، والمضافان متغايران لا محالة. ولا يشكل ذلك بكون الشخص عالما بنفسه لأنهما متغايران اعتبارا، ولأن الاسم أصوات وحروف هي أعراض غير باقية والمسمى قد يكون باقيا بل واجب الوجود لذاته، ولأنه لا يلزم من التلفظ بالعسل وجود الحلاوة في اللسان، ومن التلفظ بالنار وجود الحرارة. وقال المعتزلة: الاسم نفس المسمى لقوله تعالى تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرحمن: 78] مكان «تبارك ربك» : والجواب أنه كما يجب علينا تنزيه ذات الله تعالى من النقائص يجب تنزيه اسمه مما لا ينبغي. وأيضا قد يزاد لفظ الاسم مجازا كقوله: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما. قالوا: إذا قال الرجل: زينب طالق. وكان له زوجة مسماة بزينب طلقت شرعا. قلنا: المراد الذات التي يعبر عنها بهذا اللفظ طالق فلهذا وقع الطلاق عليها، والتسمية أيضا مغايرة للمسمى وللاسم لأنها عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف الذات المعينة، وذلك التعيين معناه قصد الواضع وإرادته، والاسم عبارة عن ذلك اللفظ المعين فافترقا. السابعة: وضع الأسماء والأفعال سابق على وضع الحروف، لأن الحروف رابطة بينهما. والظاهر أن وضع الأسماء سابق على وضع الأفعال لأن الاسم لفظ دال على الماهية والفعل لفظ دال على حصول الماهية لشيء من الأشياء في زمان معين، فكأن الاسم مفرد والفعل مركب والمفرد سابق على المركب طبعا فيكون سابقا عليه وضعا وأيضا الفعل مفتقر إلى الفاعل، والفاعل لا يفتقر إلى الفعل. وأيضا الاسم مستغن في الإفادة عن الفعل دون العكس، والأظهر أن أسماء الماهيات سابقة بالرتبة على الأسماء المشتقات، لأن الأولى مفردة والثانية مركبة، ويشبه أن تكون أسماء الصفات سابقة بالرتبة على أسماء الذوات القائمة بأنفسها لأنا لا نعرف الذوات إلا بتوسط الصفات القائمة بها والمعرف معلوم قبل المعرّف فيناسب السبق في الذكر. الثامنة: أقسام الأسماء الواقعة على المسميات تسعة: أولها: لاسم الواقع على الذات. ثانيها: الاسم الواقع على الشيء بحسب جزء من أجزائه كاليحوان على الإنسان ثالثها: الواقع عليه بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته كالأسود والحارّ. رابعها: الواقع عليه بحسب صفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 إضافية كقولنا للشيء إنه معلوم ومفهوم ومالك ومملوك. خامسها: الواقع عليه بحسب صفة سلبية كالأعمى والفقير. سادسها: الواقع عليه بحسب صفة حقيقية مع صفة إضافية كالعالم والقادر عند القائل بأن العلم صفة حقيقية، ولها إضافة إلى المعلومات وكذا القدرة. سابعها: صفة حقيقية مع صفة سلبية كالمفهوم من مجموع قولنا قادر لا يعجز عن شيء وعالم لا يجهل شيئا. ثامنها: صفة إضافية مع صفة سلبية كالأول، فإن معناه سابق غير مسبوق. تاسعها صفة حقيقية مع صفة إضافية وصفة سلبية، فهذه أقسام الأسماء لا تكاد تجد اسما خارجا عنها، سواء كان لله تعالى أو لمخلوقاته. التاسعة: هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا؟ ذكر بعضهم أن حقيقته تعالى لما كانت غير مدركة للبشر فكيف يوضع له اسم مخصوص بذاته؟ وما الفائدة في ذلك؟ أقول: لا ريب أن الإدراك التام عبارة عن الإحاطة التامة، والمحاط لا يمكن أن يحيط بمحيطه أبدا، وأنه تعالى بكل شيء محيط فلا يدركه شيء مما دونه كما ينبغي، إلا أن وضع الاسم للذات لا ينافي عدم إدراكه كما ينبغي، وإنما ينافي عدم إدراكه مطلقا. فيجوز أن يقال الشيء الذي تدرك منه هذه الآثار واللوازم مسمى بهذا اللفظ، وأيضا إذا كان الواضع هو الله تعالى وأنه يدرك ذاته لا محالة على ما هو عليه، فله أن يضع لذاته اسما مخصوصا لا يشاركه فيه غيره حقيقة، وإذا كان وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة ممكنا فينبغي أن يكون ذلك الاسم أعظم الأسماء وذلك الذكر أشرف الأذكار، لأن شرف العلم والذكر بشرف المعلوم والمذكور. فلو اتفق لعبد من عبيده المقربين الوقوف على ذلك الاسم حال ما يكون قد تجلى له معناه، لم يبعد أن تنقاد له عوالم الجسمانيات والروحانيات. ثم القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على وجوه. منهم من قال: هو ذو الجلال والإكرام ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» «1» ورد بأن الجلال من الصفات السلبية والإكرام من الإضافية، ومن البين أن حقيقته المخصوصة مغايرة للسلوب والإضافات. ومنهم من يقول: إنه الحي القيوم لقوله صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كعب حين قال له: ما أعظم آية في كتاب الله؟ فقال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. فقال صلى الله عليه وسلم: «ليهنك العلم يا أبا المنذر» . وزيف بأن الحي هو الدرّاك الفعال وهذا ليس فيه عظمة ولأنه صفة، وأما القيوم فمعناه كونه قائما بنفسه مقوّما لغيره، والأول مفهوم سلبي وهو استغناؤه عن غيره، والثاني إضافي. ومنهم من قال: إن أسماء الله تعالى كلها عظيمة لا ينبغي أن يفاوت بينها، ورد بما مرّ من أن اسم الذات   (1) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 91. أحمد في مسنده (4/ 177) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 أشرف من اسم الصفة، ومنهم من قال: إن الاسم الأعظم هو الله وهذا أقرب، لأنا سنقيم الدلالة على أن هذا الاسم يجري مجرى اسم العلم في حقه سبحانه، وإذا كان كذلك كان دالا على ذاته المخصوصة، ويؤيد ذلك ما روت أسماء بنت زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163] وفاتحة سورة آل عمران الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران: 1- 2 ] وعن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال: «والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي بهن أجاب وإذا سئل به أعطى» . ولا شك أن اسم الله في الآية والحديث أصل والصفات مرتبة عليه هذا، وأما الاسم الدال على المسمى بحسب جزء من أجزائه فمحال في حق الله تعالى، لأن ذاته تعالى مبرأ عن شائبة التركيب بوجه من الوجوه. وأما الاسم الدال بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته المخصوصة، فتلك الصفة إما أن تكون هي الوجود، وإما أن تكون كيفية من كيفيات الوجود، وإما أن تكون صفة أخرى مغايرة للوجود ولكيفيات الوجود، فهذه ثلاثة أقسام: القسم الأول: الأسماء الدالة على الوجود منها الشيء ويجوز إطلاقه على الله تعالى عند الأكثرين لقوله تعالى قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الأنعام: 19] أي ذاته. وفي الخبر «كان الله ولم يكن شيء غيره» ولأن الشيء عبارة عما يصح أن يعلم ويخبر عنه وذاته تعالى كذلك. حجة المخالف قوله تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16] فلو كان الله تعالى شيئا لزم أن يكون خالق نفسه. ومثله وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن: 1] قلنا: خص بالدليل العقلي. قالوا: ليس من صفات المدح. قلنا: نعم هو خير من لا شيء، وإن كان سائر الأشياء مشتركة معه في ذلك كالموجود والكريم والحليم، فإن كلا منها مدح بالنسبة إلى من لا وجود له ولا كرم ولا حلم، بل الشيء بالحقيقة هو وباقي الأشياء شيئيتها مستعارة كوجودها ومنها الموجود. وأطبق المسلمون على جواز إطلاقه عليه تعالى وكيف لا؟ ومعنى قول الموحد لا إله إلا الله أي لا إله في الوجود إلا الله. ومنها الذات ولا شك في جواز إطلاقه عليه إذ يصدق على كل حقيقة أنها ذات الصفات أي صاحبة الصفات القائمة بها، ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم لم يكذّب إلا في ثلاث: ثنتين في ذات الله» «1» - أي في   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 8. مسلم في كتاب الفضائل حديث 154. أبو داود في كتاب الطلاق باب 16. الترمذي في كتاب تفسير سورة 21 باب 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 طلب مرضاته- ومنها النفس قال تعالى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116] وقال صلى الله عليه وسلم «أنت كما أثنيت على نفسك» أي على ذاتك وحقيقتك. ومنها الشخص قال: «لا شخص أغير من الله تعالى ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» «ولا شخص أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين» «ولا شخص أحب إليه المدحة من الله» «1» والمراد بالشخص الحقيقة المتعينة الممتازة عما عداها. ومنها النور قال عز من قائل: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35] وليس المراد به ما يشبه الكيفية المبصرة وإنما المراد أنه الظاهر في نفسه المظهر لغيره. وإذ لا ظهور ولا إظهار فوق ظهوره وإظهاره فإنه واجب الوجود لذاته أزلا وأبدا، ومخرج جميع الممكنات من العدم إلى الوجود. فإذن هو نور الأنوار تعالى وتقدس، وسوف يأتيك تمام التحقيق إذا وصلنا إلى سورة النور وهو أعلم بحقائق الأمور. ومنها الصورة وقد ورد في الخبر «أن الله خلق آدم على صورته» «2» فقيل: معناه خلق آدم على صورته التي كان عليها يعني ما تولد من نطفة ودم وما كان جنينا، ورضيعا بل خلقه الله تعالى رجلا كاملا دفعة واحدة. وقيل في حديث آخر «لا تقبحوا الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن» المراد من الصورة الصفة كما يقال: صورة هذه المسألة كذا أي خلقه على صفته في كونه خليفة في أرضه متصرفا في جميع الأجسام الأرضية كما أنه تعالى نافذ القدرة في جميع العالم. ويمكن أن يقال: الصورة إشارة إلى وجه المناسبة التي ينبغي أن تكون بين كل علة ومعلولها، فإن الظلمة لا تصدر عن النور وبالعكس، وكنا قد كتبنا في هذا رسالة. ومنها الجوهر وأنه لا يطلق عليه بمعنى موجود لا في موضوع، أي إذا وجد كان وجودهن بحيث لا يحتاج إلى محل يقوم به ويستغني المحل عنه، لأن ذلك ينبىء عن كون وجوده زائدا على ماهيته. وإنما يمكن أن يطلق عليه بمعنى آخر وهو كونه قائما بذاته غير مفتقر إلى شيء في شيء أصلا لكن الإذن الشرعي حيث لم يرد بذلك وجب الامتناع عنه. ومنها الجسم ولا يطلقه عليه إلا المجسمة، فإن أرادوا الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة فمحال للزوم التركيب والتجزي، وإن أرادوا معنى يليق بذاته من كونه موجودا قائما بالنفس غنيا عن المحل فالإذن الشرعي لم يرد به فلزم الامتناع. ومنها الماهية والآنية أي الحقيقة التي يسأل عنها بما هي   (1) رواه مسلم في كتاب اللعان حديث 17. (2) رواه أحمد في مسنده (2/ 244، 251) . البخاري في كتاب الاستئذان باب 1. مسلم في كتاب البر حديث 115. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وثبوته الدال عليه لفظ «ان» ، ولا بأس بإطلاقهما عليه إذا أريد بهما الحقيقة والذات المخصوصة إلا من حيث الشرع. ومنها الحق فإنه تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم، إما بحسب ذاته فلأنه الموجود الذي يمتنع عدمه وزواله، والحق يقال بإزاء الباطل والباطل يقال للمعدوم قال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وإما بحسب ما يقال إن هذا الخبر حق وصدق فهذا الخبر أحق وأصدق، وإما بحسب ما يقال إن هذا الاعتقاد حق فلأن اعتقاد وجوده ووجوبه أصوب الاعتقادات المطابقة. القسم الثاني في الأسماء الدالة على كيفية الوجود منها القديم وهو في اللغة يفيد طول المدة، وفي الشرع يرادفه الأزلي، ويراد بهما ما لا أول له في الطرف الماضي كالأبدي في الطرف المستقبل. وكذا السرمدي واشتقاقه من السرد التوالي والتعاقب، زيدت الميم للمبالغة. ونعني بالنسبة في هذه الألفاظ أنه تعالى منسوب إلى عدم البداية والنهاية في كلا طرفي الامتداد الوهمي المسمى بالزمان. ومنها الممتد والمستمر ونعني بهما تلاحق الأجزاء وتعاقب الأبعاض، ولا يخفى أن أمثال هذه الألفاظ إنما يصح إطلاقها بالحقيقة على الزمان والزمانيات، وأما في حق الله جل ذكره فلا يصح إلا بالمجاز بعد التوقيف. ومنها الباقي قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: 26، 27] وأنه تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم. ومنها الدائم وهو كالباقي. ومنها واجب الوجود لذاته أي ذاته اقتضى وجوده، وما بالذات لا ينفك عنه أبدا فهو ممتنع الفناء والعدم أزلا وأبدا ولهذا قيل: خداي معناه خوداي أي أنه جاء بنفسه. ومنها الكائن قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [الفتح: 4] وفي بعض الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم «يا كائنا قبل كل كون، ويا حاضرا مع كل كون، ويا باقيا بعد انقضاء كل كون» واعلم: أن لفظة «كان» تفيد الحصول والثبوت والوجود، إلا أن هذا قسمان: منه ما يفيد حصول الشيء في نفسه، ومنه ما يفيد حصول موصوفية شيء بشيء. والأول يتم باستناده إلى ذلك الشيء وهي التامة، والثاني لا يتم إلا بذكر شيئين وهي الناقصة نحو: كان زيد عالما أي حصل موصوفية زيد بالعلم وكلا القسمين يجوز إطلاقه عليه تعالى. القسم الثالث في الصفات الحقيقية المغايرة للوجود ولكيفيات الوجود. الفلاسفة والمعتزلة أنكروا قيام مثل هذه الصفات بذات الله تعالى أشد إنكار لأن واجب الوجود لذاته يجب أن يكون واحدا من جميع جهاته، ولأن تلك الصفة لو كانت واجبة الوجود لزم شريك للباري مع أن الجمع بين الوجود الذاتي وبين كونه صفة للغير، والصفة مفتقرة إلى الموصوف محال، وإن كانت ممكنة الوجود فلها علة موجدة، ومحال أن يكون هو الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 لأنه قابل لها فلا يكون فاعلا لها، ولأن ذاته لو كانت كافية في تحصيل تلك الصفة فتكون ذاته بدون تلك الصفة كاملة في العلية وهو المطلوب، وإن لم تكن كافية لزم النقص المنافي لوجوب الوجود. حجة المثبتين أن إله العالم يجب أن يكون عالما قادرا حيا، ثم إنا ندرك التفرقة بين قولنا: «ذات الله تعالى ذات» وبين قولنا: «ذاته عالم قادر» وذلك يدل على المغايرة بين الذات وهذه الصفات. وإذا قلنا بإثبات الصفة الحقيقية فنقول: العلم صفة يلزمها كونها متعلقة بالمعلوم، والقدرة صفة يلزمها صحة تعلقها بإيجاد المقدور. والصفة الحقيقية العارية عن النسب والإضافات في حقه تعالى ليست إلا صفة الحياة إن لم نقل إنها عبارة عن الدرّاكية والفعالية، بل يقال: إنها صفة باعتبارها يصح أن يكون عالما وقادرا، والتحقيق أن الحياة عبارة عن كون الشيء بحيث يصدر عنه ما من شأنه أن يصدر عنه كما ينبغي أن يصدر عنه، ولا ريب أن واجب الوجود تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم، لأن وجوب الوجود يقتضي اتصافه بجميع الصفات الكمالية وصدور الأشياء الممكنة عنه على النحو الأفضل، ولهذا مدح الله تعالى به نفسه قائلا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه: 111] وأما الأسماء الدالة على الصفات الإضافية، فمنها التكوين وهو عند المعتزلة والأشعري نفس المكوّن. وقال غيرهم: إنه غيره. حجة الأولين أن الصفة المسماة بالتكوين إما أن تؤثر على سبيل الصحة وهي القدرة لا غير، أو على سبيل الوجوب. ويلزم كونه موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار. وأيضا إن كانت قديمة لزم قدم الآثار، وإن كانت حادثة افتقرت إلى تكوين آخر وتسلسل الآخرون. قالوا: كونه خالقا رازقا ليس عبارة عن الصفة الإضافية فقط، بل هو عبارة عن صفة حقيقية موصوفة بصفة إضافية، لأن المعقول من كونه موجدا مغاير للمعقول من كونه قادرا، فإن القادر على الفعل قد يوجد وقد لا يوجد. ومنها كونه تعالى معلوما ومذكورا مسبحا ممجدا فيقال: يا أيها المسبح بكل لسان، ويا أيها الممدوح عند كل إنسان، ويا أيها المرجوع إليه في كل حين وأوان. ولما كان هذا النوع من الإضافات غير متناه كانت الأسماء الممكنة لله بحسب هذا النوع من الصفات غير متناهية. ومنها ألفاظ متقاربة تدل على مجرد كونه موجدا مثل الموجد ومعناه المؤثر في الموجود، والمحدث وهو أخص لأنه الذي جعله موجودا بعد العدم، والمكوّن وهو كالموجد والمنشئ ومعناه ينشىء على التدريج والمبدع والمخترع ويفهم منهما الإيجاد الدفعي، وكذا الفاطر مثل الصانع ويفهم منه تكلف، وأما الخلق فهو التقدير وأنه في حق الله تعالى يرجع إلى العلم، وأما الباري فهو الذي يحدثه على الوجه الموافق للمصلحة. يقال: برى القلم إذا أصلحه وجعله موافقا لغرض معين. ومنها ألفاظ تدل على إيجاد شيء بعينه وأنها تكاد تكون غير متناهية. ومنها ألفاظ تدل على إيجاد النوع الفلاني لأجل الحكمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الفلانية، فإذا خلق المنافع سمي نافعا، وإذا خلق الألم سمي ضارا، وإذا خلق الحياة سمي محييا، وإذا خلق الموت سمي مميتا، وإذا خصهم بالإكرام سمي برا لطيفا، وإذا خصهم بالقهر سمي قهارا جبارا، وإذا أقلّ العطاء سمي قابضا، وإذا أكثر سمي باسطا، وإذا جازى الذنوب بالعقاب سمي منتقما، وإذا ترك ذلك الجزاء سمي عفوّا غفورا رحمانا رحيما، وإذا حصل المنع والإعطاء في المال سمي قابضا باسطا، وإذا حصلا في الجاه والحشمة سمي خافضا رافعا. وأما الصفات السلبية فمنها ما يعود إلى الذات كقولنا إنه ليس جوهرا ولا جسما ولا مكانيا ولا زمانيا ولا حالا ولا محلا ولا مفتقرا إلى شيء غيره، تعالى في ذاته وفي صفاته، وإنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. ومنها ما يعود إلى الصفات، ولا يخفى أن كل صفة من صفات النقص يجب تنزيه الله عنها، وذلك إما راجع إلى أضداد العلم كنفي النوم لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255] وكنفي النسيان وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم: 64] وكنفي الجهل لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ: 3] وكأن لا يمنعه العلم ببعض المعلومات عن العلم بغيره لا يشغله شأن عن شأن. وإما راجع إلى أضداد القدرة ككونه منزها في أفعاله عن التعب والنصب وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38] وإنه لا يحتاج في فعله إلى الآلات وتقديم المادة والمدّة إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] وأنه لا يتفاوت في قدرته القليل والكثير وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل: 77] وأنه لا تنتهي قدرته إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم: 19] وإما راجع إلى صفة الوحدة كنفي الأنداد والأضداد لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ [المؤمنون: 91] أو إلى صفة الاستغناء وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ [الأنعام: 14] ومنها ما يعود إلا الأفعال لا يخلق الباطل وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: 27] لا يخلق اللعب وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الأنبياء: 17] لا يخلق العبث أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنون: 115] لا يرضى بالكفر، لا يريد الظلم، لا يحب الفساد لا يؤذي من غير سابقة جرم ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء: 146] لا ينتفع بطاعات المطيعين ولا يتضرر بمعاصي المذنبين إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: 7] ليس لأحد أن يعترض عليه في أفعاله وأحكامه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 23] لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران: 9] ومن أسماء السلوب القدوس والسلام لأنه منزه وسالم من نقائص الإمكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ومنها العزيز وهو الذي لا يوجد له نظير أو لا يغلبه شيء، والحليم الذي لا يعاجل بالعقوبة ولا يمنع من إيصال الرحمة، والصبور الذي لا يعاقب المسيء مع القدرة عليه، وربما يفرق بينهما بأن المكلف يأمن العقوبة في صفة الحليم دون صفة الصبور. وأما الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية فمنها: القادر والقدير والمقتدر والمالك والملك ومالك الملك والمليك والقوي وذو القوة ومعانيها ترجع إلى القدرة ومنها ما يرجع إلى العلم وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة: 255] عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [التغابن: 18] وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 29] عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة: 109] اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ [البقرة: 187] وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ [النحل: 19] وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ [البقرة: 31] ولم يرد علامة وإن كان يفيد المبالغة لأن ذلك بتأويل أمة أو جماعة. والخبير يقرب من العليم وكذا الشهيد إذا فسر بكونه مشاهدا لها، وإذ أخذ من الشهادة كان من وصف الكلام. والحكمة تشارك العلم من حيث إنه إدراك حقائق الأشياء كما هي وتباينه بأنها أيضا صدور الأشياء عنه كما ينبغي. واللطيف قد يراد به إيصال المنافع إلى الغير بطرق خفية عجيبة، والتحقيق أنه الذي ينفذ تصرفه في جميع الأشياء. ومنها ما يرجع إلى الكلام وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: 164] وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [الشورى: 51] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ [البقرة: 30] ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: 30] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: 122] إِنَّما أَمْرُهُ [يس: 81] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ [النساء: 58] وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا [النساء: 122] فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 9] وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً [النساء: 147] كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً [الدهر: 22] وذلك أنه أثنى على عبده بمثل قوله كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 18، 19] وهذا صورة الشكر. ومنها ما يرجع إلى الإرادات يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة: 185] رضي الله عنهم أي صار مريدا لأفعالهم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة: 108] يريد إيصال الخير إليهم كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء: 38] . الأشعرية: الكراهية عبارة عن إرادة عدم الفعل. المعتزلة: له صفة أخرى غير الإرادة. ومنها ما يرجع إلى السمع والبصر إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء: 1] لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام: 103] وأما الصفات الإضافية مع السلبية فكالأول لأنه مركب من معنيين: أحدهما أنه سابق على غيره، والثاني لا يسبق عليه غيرهن وكالآخر فإنه الذي يبقى بعد غيره ولا يبقى بعد غيرهن، وكالقيوم فإنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الذي يفتقر إليه غيره ولا يفتقر هو إلى غيره، والظاهر إضافة محضة وكذا الباطن، أي أنه ظاهر بحسب الدلائل باطن بحسب الماهية. وأما الاسم الدال على مجموع الذات والصفات الحقيقية والإضافية والسلبية فالاله، ولا يجوز إطلاق هذا اللفظ في الإسلام على غير الله وأما الله، فسيأتي أنه اسم علم. وقد بقي هاهنا أسماء يطلقها عليه تعالى أهل التشبيه ككونه متحيزا أو حالا في المتحيز استبعادا منهم أنه كيف يكون موجود خاليا عن كلا الوصفين وهو عند أهل التقديس محال للزوم الافتقار، اللهم إلا أن يقال استصحاب المكان لا يستلزم الافتقار إلى المكان ومنها العظيم والكبير وهما متقاربان لقوله تعالى في موضع وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255] وفي آخر وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23] وقد يفرق بينهما بأنه ورد «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري» «1» والرداء أرفع من الإزار. وأيضا اختص تحريم الصلاة بالله أكبر دون الله أعظم. ولا ريب أن إطلاق العظمة والكبر على الله تعالى بحسب الحجمية والمقدار كما للأجسام محال للزوم التبعيض والتجزئة. ومنها العلي والمتعالي، فإن العلو بالمعنى المستلزم للتمكن محال على الله فإما أن يراد بمثل هذه الألفاظ مزيد الرتبة والشرف على الممكنات، وإما أن يقال: إنا نطلق هذه الأسماء للإذن الشرعي فنكل معانيها إلى مراد الله تعالى، وإما أن نستمد في إدراكها بضرب من الكشف والعيان. (العاشر في الأسماء المضمرة) قال عز من قائل: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا [طه: 14] ولا يصح لغيره هذا الذكر إلا حكاية. وما جاء من قول بعض أهل الكمال: أنا من أهوى ومن أهوى أنا. إشارة إلى كمال المحبة وغاية إرادة الاتصاف بصفة المحبوب وفناء إرادته في إرادته، وقال: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] ولا يصح هذا إلا من العبد بشرط الحضور والمشاهدة. وقال لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [البقرة: 255] وإنما يصح هذا من الغائبين. واعلم أن درجات الحضور مختلفة بالقرب والبعد وكمال التجلي ونقصانه، فكل حاضر غائب بالنسبة إلى ما فوق تلك الدرجة، ورب غائب حاضر كما قيل: أيا غائبا حاضرا في الفؤاد ... سلام على الغائب الحاضر   (1) رواه أبو داود في كتاب اللباس باب 25. مسلم في كتاب البر حديث 126. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 16. أحمد في مسنده (2/ 248، 376) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وفي لفظة «هو» أسرار عجيبة منها: أن العبد إذا قال: يا هو فكأنه يقول: ما للتراب ورب الأرباب؟ وما المناسبة بين المتولد من النطفة والدم وبين الموصوف بالأزلية والقدم؟ فلهذا ينادي نداء الغائبين ويقول: يا هو. ومنها أنه إذا قال: يا هو فقد حكم على كل ما سوى الله تعالى بأنه نفي محض، لأنه لو حصل في الوجود شيئان لكان قوله «هو» صالحا لهما جميعا فلا يتعين النداء. ومنها إذا قال: يا رحمن فكأنه يتذكر رحمته أو يطلب رحمته، وكذا إذا قال: يا كريم وغيره من الصفات. فأما إذا قال: «يا هو» فكأنه استغرق في بحر العرفان وفني عما سوى الذات. ومنها إذا قال: «يا هو» فكأنه يقول: أجلّ حضرتك أن أمدحك، وأثني عليك بسلب نقائص المخلوقات عنك وهي صفات الجلال نحو: لا جسم ولا جوهر ولا عرض ولا في المحل، أو بإسناد كمالات الممكنات إليك وهي صفات الإكرام ككونه مرتبا للموجودات على النحو الأكمل، بل لا أمدحك ولا أثني عليك إلا بهويتك من حيث هي. ومنها أن هذا الذكر يفيد أن المنادي بسيط محض لا طريق إلى تصوره إلا بالإشارة العقلية. ومنها أن العبد كأنه دهش حتى ذهل عن كل ما يوصف به مالكه إلا عن هذه الإشارة. ولاختصاص هذا الذكر بهذه الأسرار ذكر الغزالي لا إله إلا الله توحيد العوام، ولا إله إلا هو توحيد الخواص. وذلك أن قوله «لا هو» معناه كل شيء هالك، وقوله «إلا هو» معناه إلا وجهه. ومن جملة الأذكار الشريفة: يا هو يا من لا هو إلا هو، يا أزل يا أبد يا دهر يا ديهور يا من هو الحي الذي لا يموت. ولقد لقنني بعض المشايخ من الذكر: يا هو يا من هو هو يا من لا هو إلا هو يا من لا هو بلا هو إلا هو. فالأول فناء عما سوى الله، والثاني فناء في الله، والثالث فناء عما سوى الذات، والرابع فناء عن الفناء عما سوى الذات. الحادي عشر في بقية مباحث الأسماء اختلفوا في أسماء الله تعالى توقيفية أم لا. فمال بعضهم إلى التوقيف لأنا نصف الله تعالى بكونه عالما ولا نصفه بكونه طبيبا وفقيها ومستيقنا، فلولا أن أسماءه توقيفية لوصف بمثلها وإن كان على سبيل التجوز. القائلون بعدم التوقيف احتجوا بأن أسماء الله تعالى وصفاته مذكورة بالفارسية والتركية وأن شيئا منها لم يرد في القرآن ولا في الأخبار، مع أن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها. والجواب أن عدم التوقيف في غير اللغة العربية لا يوجب عدمه في العربية، وبأن الله تعالى قال: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف: 180] وكل اسم دل على صفات الكمال ونعوت الجلال كان حسنا ويجوز إطلاقه. والجواب أنه يجوز ولكن بعد التوقيف لم قلتم إنه ليس كذلك؟ والغزالي فرق بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 اسم الذات وبين أسماء الصفات فمنع الأول وجوّز الثاني. واعلم أنه قد ورد في القرآن ألفاظ دالة على معان لا يمكن إثباتها بالحقيقة في حق الله تعالى منها: الاستهزاء اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] والاستهزاء مذموم لكونه جهلا قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [البقرة: 67] . ومنها المكر وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54] ومنها الغضب وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الفتح: 6] ومنها التعجب بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصافات: 12] فيمن قرأ بضم التاء. والتعجب حالة للقلب تعرض عند الجهل بسبب الشيء ومنها التكبر الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر: 23] ومنها الحياء إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا [البقرة: 26] والحياء تغير يعرض للقلب والوجه عند فعل شيء قبيح. والقانون في تصحيح هذه الألفاظ أن يقال لكل واحدة من هذه الأحوال أمور توجد معها في البداية وآثار تصدر منها في النهاية مثاله: الغضب حالة تحصل في القلب عند غليان دمه وسخونة مزاجه، والأثر الحاصل منها في النهاية إيصال الضرر إلى المغضوب عليه. فالغضب في حقه تعالى محمول على الأثر الحاصل في النهاية لا الأمر الكائن في البداية، وقس على هذا. قيل: إن لله تعالى أربعة آلاف اسم، ألف منها في القرآن والأخبار، وألف في التوراة، وألف في الإنجيل، وألف في الزبور. وقد يقال: ألف آخر في اللوح المحفوظ ولم يصل ذلك إلى البشر وهذا غير مستبعد، فإن أقسام صفات الله تعالى بحسب السلوب والإضافات لا تكاد تنحصر، وكل من كان اطلاعه على آثار حكمة الله تعالى في تدبير العالم العلوي والعالم السفلي أكثر كان اطلاعه على أسماء الله أكثر. وإن قلنا: إن له بكل مخلوق اسما وكذا بكل خاصية ومنفعة فيه كمنافع الأعضاء والحيوان والنبات والأحجار، خرجت الأسماء عن حيز العد والإحصاء كما قال عز من قائل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34] فإن قلت: إنا نرى في كتب العزائم أذكارا غير معلومة ورقى غير مفهومة وقد تكون كتابتها أيضا غير معلومة، فما بال تلك الأذكار والرقى؟ قلت: لا نشك أن تلك الكلمات إن لم تدل على شيء أصلا لم تفد، وإن دلت فأحسن أحوال تلك الكلمات أن تكون شيئا من هذه الأدعية. ولا ريب أن الأذكار المعلومة أدخل في التأثير من قراءة تلك المجهولات، إلا أن أكثر الناس إذا قرأوا هذه الأذكار المعلومة ولم يكن لهم نفوس مشرقة تجذب بهم إلى عالم القدس ويلوح عليهم أثر الإلهيات، لم يكد يظهر عليهم شروق أنوارها ولهذا قد ورد «رب تال للقرآن والقرآن يلعنه» نعوذ بالله من هذه الحالة. أما إذا قرأوا تلك الألفاظ المجهولة ولم يفهموا منها شيئا وحصلت عندهم أوهام أنها كلمات عالية، استولى الفزع والرعب على قلوبهم فيحصل لهم بهذا السبب نوع تجرد عن الجسمانيات وتوجه إلى الروحانيات فتتأثر نفوسهم وتؤثر، وهذا وجه مناسب في قراءة الرقى المجهولة. واعلم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 بين الخلق وبين أسماء الله تعالى مناسبات عجيبة، والنفوس مختلفة والجنسية علة الضم، فكل اسم يغلب معناه على بعض النفوس فإذا واظب صاحبه على ذلك الاسم كان انتفاعه به أسرع والله الموفق. حكي أن الشيخ أبا النجيب البغدادي كان يأمر المريد بالأربعين مرة أو مرتين بقدر ما يرى مصلحته فيه، ثم يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين. وكان ينظر إلى وجهه فإن رآه عديم التأثر عند قراءتها عليه قال له: اخرج إلى السوق واشتغل بمهمات الدنيا فإنك ما خلقت لهذا الطريق، وإن رآه تأثر مزيد تأثر عند سماع اسم خاص أمره بالمواظبة على ذلك الذكر وقال: إن أبواب المكاشفات تنفتح عليك من هذا الطريق. وذلك أن الرياضة والمجاهدة لا تغلب النفوس عن أحوالها الفطرية، ولكنها تضعف بحيث لا تستولي على الإنسان ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة» «1» «الأرواح جنود مجندة» «2» «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» «3» فهذا تمام البحث عن مطلق الأسماء. (الثاني عشر في الأبحاث المختصة باسم الله) المختار عند الخليل ومتابعيه وعند أكثر الأصوليين والفقهاء أن هذا اللفظ ليس بمشتق البتة، وأنه اسم علم له سبحانه وتعالى. لأنه لو كان مشتقا لكان معناه معنى كليا لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه، وحينئذ لا يكون قولنا «إلا الله» موجبا للتوحيد المحض. فلا يدخل الكافر بقوله: «أشهد أن لا إله إلا الله» في الإسلام كما لو قال: «أشهد أن لا إله إلا الرحمن» أو «إلا الملك» لا يدخل بذلك في الإسلام بالاتفاق. وأيضا الترتيب العقلي ذكر الذات ثم تعقيبه بالصفات نحو: زيد الفقيه الأصولي النحوي. ثم إنا نقول: الله الرحمن الرحيم العالم القادر ولا نقول بالعكس، فدل ذلك على أن «الله» اسم علم. وقراءة من قرأ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [إبراهيم: 1، 2] بخفض اسم الله ليست لأجل أن جعله وصفا وإنما هو للبيان، فوازنه وزان قولك: «مررت بالعالم الفاضل الكامل زيد» . وأيضا قال تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65] وليس المراد به الصفة والإلزام خلاف الواقع، فوجب أن يكون المراد اسم العلم وليس ذلك إلا الله. حجة القائلين باشتقاقه قوله عز من قائل   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 539) . (2) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 2. مسلم في كتاب البر حديث 159، 160. أحمد في مسنده (2/ 295، 527) . (3) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 92 باب 3- 5. مسلم في كتاب القدر حديث 6- 8. أبو داود في كتاب السنة باب 16. الترمذي في كتاب القدر باب 3. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 10. أحمد في مسنده (1/ 6، 29) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام: 3] فإنه لا يجوز أن يقال هو زيد في البلد وإنما يقال هو العالم في البلد. قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك جاريا مجرى قولك «هو زيد الذي لا نظير له في البلد» ؟ قالوا: لما كانت الإشارة ممتنعة في حقه تعالى، كان اسم العلم له ممتنعا. وأيضا العلم للتمييز ولا مشاركة فلا حاجة إلى التمييز. قلنا: وضع العلم لتعيين الذات المعينة ولا حاجة فيه إلى الإشارة الحسية، ولا يتوقف على حصول الشركة، وكأن النزاع بين الفريقين لفظي، لأن القائلين بالاشتقاق متفقون على أن الإله مشتق من أله بالفتح إلاهة أي عبد عبادة، وأنه اسم جنس كالرجل والفرس يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا، وكذلك السنة على عام القحط والبيت على الكعبة والكتاب على كتاب سيبويه. وأما «الله» بحذف الهمزة فمختص بالمعبود الحق لم يطلق على غيره. وينبغي أن يكون المراد من كون الله تعالى معبودا كونه مستحقا ومستأهلا لأن يعبده كل من سواه كما يليق بحال العابد، فإن اللائق بحال المعبود لا يقدر عليه أحد من المخلوقات. ولا يخفى أن الاستحقاق والاستئهال حاصل له أزلا وأبدا، فيكون إلها أزلا وأبدا وإن كل من سواه عابد له بقدر استعداده وعلى حسب حاله، حتى النبات والجماد والكافر والفاسق وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44] إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم: 93] والعبد الصالح من يعبد الله تعالى لذاته لا لغرض رغبة في الثواب ورهبة من العقاب، حتى لو فرض حصول المرغوب أو فقد المرهوب لم يكن عابدا، ومع ذلك فينبغي أن يقطع النظر عن عبادته أيضا. وقيل: اشتقاقه من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه. فالنفوس لا تسكن إلا إليه تعالى، والعقول لا تقف إلا لديه، لأن الكمال محبوب لذاته أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا [الرعد: 28- 29] وقيل: من الوله وهو ذهاب العقل سواء فيه الواصلون إلى ساحل بحر العرفان والواقفون في ظلمات الجهالة وتيه الخذلان. وقيل: من لاه ارتفع لأنه تعالى ارتفع عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات. وقيل: من أله في الشيء إذا تحير فيه، لأن العقل وقف بين إقدام على إثبات ذاته نظرا إلى وجود مصنوعاته، وبين تكذيب لنفسه لتعاليه عن ضبط وهمه وحسه، فلم يبق إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن إدراك كنه الجلال والجمال، وهاهنا العجز عن درك الإدراك إدراك. وقيل: من لاه يلوه إذا احتجب، لأنه بكنه صمديته محتجب عن العقول. فإنا إنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 نستدلّ على كون الشعاع مستفادا من الشمس بدورانه معها وجودا وعدما وشروقا وأفولا، ولو كانت الشمس ثابتة في كبد السماء لما حصل اطمئنان بكون الشعاع مستفادا منها، ولما كان ذاته تعالى باقيا على حاله وكذا الممكنات التابعة له، فربما يخطر ببال الضعفاء أن هذه الأشياء موجودة بذواتها فلا سبب لاحتجاب نوره إلا كمال ظهوره، فالحق محتجب والخلق محجوب. وقيل: من أله الفصيل إذا ولع بأمه، لأن العباد مولعون بالتضرع إليه في البليات وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [الروم: 33] هذا شأن الناقصين، وأما الكاملون فهو جليسهم وأنيسهم أبدا. شكا بعض المريدين كثرة الوسواس فقال الشيخ: كنت حدّادا عشر سنين وقصارا عشرا وبوابا عشرا. فقيل: وكيف وما رأينا منك؟ قال: القلب كالحديد ألينه بنار الخوف عشرا، ثم شرعت في غسله عن الأوضار والأوزار عشرا، ثم وقفت على باب القلب عشرا أسل سيف «لا إله إلا الله» فلم أترك حتى يخرج منه حب غير الله ويدخل فيه حب الله، فلما خلت عرصة القلب من غيره وقويت فيه محبته سقطت من بحر عالم الحلال قطرة من النور فغرق القلب فبقي في تلك القطرة وفني عن الكل ولم يبق فيه إلا محض سر «لا إله إلا الله» . وقيل: من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره. والمجير للخلائق من كره المضارّ هو الله وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ [المؤمنون: 88] ومن لطائف اسم الله أنك إذا لم تتلفظ بالهمزة بقي «الله» وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الفتح: 4] فإن تركت من هذه البقية اللام الأولى بقيت البقية على صورة «له» لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [البقرة: 255] وإن تركت اللام الباقية أيضا بقي الهاء المضمومة من «هو» قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع هما هم. هذا بحسب اللفظ، وأما بحسب المعنى فإذا دعوت الله به فكأنك دعوته بجميع الصفات بخلاف سائر الأسماء ولهذا صحت كلمة الشهادة به فقط والله تعالى أعلم. (الثالث عشر فيما يتعلق بالرحمن الرحيم) الرحمن فعلان من رحم، والرحيم فعيل منه واشتقاقه من الرحمة وهي ترك عقوبة من يستحقها أو إرادة الخير لأهله. وأصله الرقة والتعطف ومنه الرحم لرقتها وانعطافها على ما فيها. واختلف في منع صرف رحمن إذ ليس له مؤنث على فعلى كعطشى، ولا على فعلانة كندمانة، فمن شرط في منع صرف فعلان صفة وجود فعلي صرفه، ومن شرط فيه انتفاء فعلانة لم يصرفه، وإذا تساقط الدليلان للتعارض فللصرف وجه، وهو أن الأصل في الأسماء الصرف ولمنع الصرف وجه وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 القياس على أخوته من بابه نحو: عطشان وغرثان. وزعم قوم أنهما بمعنى واحد كندمان ونديم، وجمع بينهما للتأكيد والاتساع كقولهم جاد مجدّ قال طرفة. متى أدن منه ينأ عني ويبعد وقال قوم: الرحمن أشد مبالغة استدلالا بالزيادة في اللفظ على الزيادة في المعنى. قالوا: ولهذا جاء رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا، وربما يقال رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، لأن رحمته في الدنيا عمت المؤمن والكافر والبر والفاجر، وفي الآخرة اختصت بالمؤمنين. فالرحمن خاص اللفظ عام المعنى والرحيم بالعكس. أما خصوص الرحمن فمن حيث لا يسمى به إلا الله تعالى لأنه من الصفات الغالبة كالدبران والعيوق، وأما عمومه فمن حيث إنه يشمل جميع الموجودات من طريق الخلق والرزق والنفع. وأما عموم الرحيم فاشتراك تسمية الخلق به، وأما خصوصه فرجوعه إلى اللطف بالمؤمنين والتوفيق. الضحاك: الرحمن بأهل السماء حيث أسكنهم السموات وطوقهم الطاعات وأنطق ألسنتهم بأنواع التسبيحات وجنبهم الآفات وقطع عنهم المطامع واللذات، والرحيم بأهل الأرض حيث أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب. فقال عكرمة: الرحمن برحمة واحدة والرحيم بمائة رحمة كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن لله تعالى مائة رحمة وإنه أنزل منها رحمة واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه فيها يتعاطفون وبها يتراحمون وأخر تسعا وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة» «1» قال ابن المبارك: الرحمن الذي إذا سئل أعطى، والرحيم الذي إذا لم يسأل غضب. قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يسأل الله يغضب عليه» «2» الرحمن بالنعماء وهي ما أعطى وحبا، والرحيم باللأواء وهي ما صرف وزوى. الرحمن بالإنقاذ من النار وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمران: 103] والرحيم بإدخالهم الجنان ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر: 46] الرحمن الراحم القادر على كشف الضر، والرحيم الراحم وإن لم يقدر على كشف الضر. وتسمية مسيلمة الكذاب بالرحمن تعنت منهم واقتطاع من أسماء الله تعالى. قال عطاء: ولذلك قرنه الله تعالى بالرحيم لأن هذا المجموع لم يسم غيره. وإنما قدم الرحمن وهو الأعلى على الرحيم، والعادة التدرج من الأدنى إلى الأعلى، لأن الرحمن يتناول عظائم النعم وأصولها، فإردافه بالرحيم كالتتمة ليتناول ما دق منها ولطف. واعلم أن الأشياء التي أنعم الله تعالى بها على الخلق أربعة أقسام:   (1) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 19. مسلم في كتاب التوبة حديث 17، 19. الترمذي في كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 35. (2) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الأول: ما يكون نافعا وضروريا معا وذلك في الدنيا التنفس، فإنه لو انقطع لحظة واحدة مات، وفي الآخرة معرفة الله فإنها إذا زالت عن القلب لحظة واحدة مات القلب واستوجب عذاب الأبد. الثاني: أن يكون نافعا لا ضروريا كالمال في الدنيا وكسائر العلوم والمعارف في الآخرة. الثالث: أن يكون ضروريا لا نافعا كالآفات والعلل ولا نظير لهذا القسم في الآخرة الرابع: أن لا يكون نافعا ولا ضروريا كالفقر في الدنيا والعذاب في الآخرة. وبالجملة فكل نعمة أو نقمة دنيوية أو أخروية فإنما تصل إلى العبد أو تندفع عنه برحمة الله تعالى وفضله من غير شائبة غرض ولا ضميمة علة، لأنه الجواد المطلق والغني الذي لا يفتقر، فينبغي أن لا يرجى إلا رحمته ولا يخشى إلا عقابه. (الرابع عشر في نكت شريفة) . الأولى: كل العلوم تندرج في الكتب الأربعة، وعلومها في القرآن، وعلوم القرآن في الفاتحة، وعلوم الفاتحة في «بسم الله الرحمن الرحيم» ، وعلومها في الباء، من بسم الله، وذلك أن المقصود من كل العلوم وصول العبد إلى الرب، وهذه الباء للإلصاق، فهو يوصل العبد إلى الرب وهو نهاية المطلب وأقصى الأمد. وقيل: إنما وقع ابتداء كتاب الله تعالى بالباء دون الألف، لأن الألف تطاول وترفع والباء انكسر وتساقط ومن تواضع لله رفعه الله. الثانية: مرض موسى عليه السلام واشتد وجع بطنه، فشكا إلى الله فدله على عشب في المفازة فأكله فعوفي بإذن الله، ثم عاوده ذلك المرض في وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه، فقال: يا رب أكلته أوّلا فاشتفيت به وأكلته ثانيا فضرني. فقال: لأنك في المرة الأولى ذهبت مني إلى الكلأ فحصل فيه الشفاء. وفي الثانية: ذهبت منك إلى الكلأ فازداد المرض. أما علمت أن الدنيا كلها سم وترياقها اسمي. الثالثة: باتت رابعة ليلة في التهجد والصلاة، فلما انفجر الصبح نامت فدخل السارق دارها وأخذ ثيابها، وقصد الباب فلم يهتد إلى الباب فوضعها فوجد الباب، وفعل ذلك ثلاث مرات فنودي من زاوية البيت: ضع القماش واخرج فإن نام الحبيب فالسلطان يقظان. الرابعة: كان بعض العارفين يرعى غنما فحضر في غنمه الذئب ولا يضر أغنامه، فمر عليه رجل وناداه متى اصطلح الغنم والذئب؟ قال الراعي: من حين اصطلح الراعي مع الله. الخامسة: روي أن فرعون قبل أن ادعى الإلهية قصد أو أمر أن يكتب باسم الله على بابه الخارج، فلما ادعى الإلهية وأرسل الله إليه موسى ودعا فلم ير به أثر الرشد قال: إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيرا، فقال تعالى: يا موسى لعلك تريد إهلاكه، أنت تنظر إلى كفره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وأنا أنظر إلى ما كتبه على بابه. والنكتة أن من كتب هذه الكلمة على بابه الخارج صار آمنا من الهلاك وإن كان كافرا، فالذي كتبه على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره كيف يكون حاله!؟ السادسة: سمى نفسه رحمانا ورحيما فكيف لا يرحم؟ روي أن سائلا وقف على باب رفيع فسأل شيئا فأعطي قليلا فجاء بفأس وأخذ يخرب الباب، فقيل له: لم تفعل؟ قال: إما أن تجعل الباب لائقا بالعطية أو العطية لائقة بالباب. إلهي كما أثبت في أول كتابك صفة رحمتك فلا تجعلنا محرومين من فضلك. السابعة: إذا اشترى العبيد شيئا من الدواب أو المتاع وضعوا عليه سمة الملك لئلا يطمع فيه العدوّ، فالله تعالى يقول: عبدي عدوّك الشيطان فإذا شرعت في عمل وطاعة فاجعل عليها سمتي وقل: «بسم الله الرحمن الرحيم» . الثامنة: اجعل ذكر الله قرينك حتى لا تبعد عنه في أحوالك. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع خاتما إلى أبي بكر وقال: اكتب فيه «لا إله إلا الله» فدفعه إلى النقاش وقال: اكتب فيه «لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم» فكتب النقاش ذلك، فأتى أبو بكر بذلك الخاتم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى النبي فيه «لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق» فقال: يا أبا بكر ما هذه الزوائد؟ فقال: يا رسول الله ما رضيت أن أفرق اسمك من اسم الله فما رضي الله أن يفرق اسمي عن اسمك. التاسعة: أن نوحا صلى الله عليه وسلم لما ركب السفينة قال: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود: 41] فنجا بنصف هذه الكلمة، فما ظنك بمن واظب على الكلمة طول عمره كيف يبقى محروما عن النجاة؟ العاشرة: الناس ثلاثة: سابق بالخيرات ومقتصد وظالم لنفسه. فقال: الله للسابقين، الرحمن للمقتصدين، الرحيم للظالمين. الله معطي العطاء، الرحمن المتجاوز عن زلات الأولياء، الرحيم الساتر لعيوب الأغنياء. يعلم منك ما لو علمه أبواك لفارقاك، ولو علمت المرأة لجفتك، ولو علمت الأمة لأقدمت على الفرار، ولو علم الجار لسعى في تخريب الدار. الله يوجب ولايته اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 257] الرحمن يستدعي محبته إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا [مريم: 96] الرحيم يفيض رحمته وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 43] هو رحيم بهم في ستة مواضع: في القبر وحسراته، والقيامة وظلماته، وقراءة الكتب وفزعاته، والصراط ومخافاته، والنار ودركاته، والجنة ودرجاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الحادية عشرة: مر عيسى عليه السلام بقبر فرأى ملائكة العذاب يعذبون ميتا، فلما انصرف من حاجته مر بالقبر فرأى ملائكة الرحمة معهم أطباق من نور. فتعجب من ذلك فصلى ودعا الله فأوحى الله تعالى إليه: يا عيسى، كان هذا العبد عاصيا وكان قد ترك امرأة حبلى فولدت وربت ولده حتى كبر فسلمته إلى الكتاب فلقنه المعلم «بسم الله الرحمن الرحيم» فاستحييت من عبدي أن أعذبه بناري في بطن الأرض وولده يذكر اسمي على ظهر الأرض. الثانية عشرة: كتب عارف «بسم الله الرحمن الرحيم» وأوصى أن تجعل في كفنه. فقيل له في ذلك؟ فقال: أقول يوم القيامة: إلهي بعثت كتابا وجعلت عنوانه «بسم الله الرحمن الرحيم» فعاملني بعنوان كتابك. الثالثة عشرة: «بسم الله الرحمن الرحيم» تسعة عشر حرفا والزبانية تسعة عشر، فالله تعالى يدفع بليتهم بهذه الحروف التسعة عشر. الرابعة عشرة: اليوم بليلته أربع وعشرون ساعة، ثم فرض خمس صلوات في خمس ساعات فبقي التسعة عشرة ساعة لا تستغرق بذكر الله تعالى، وهذه التسعة عشر حرفا تقع كفارات للذنوب الواقعة في تلك التسع عشرة. الخامسة عشرة: لما كانت سورة التوبة مشتملة على القتال والبراءة لم يكتب في أولها «بسم الله الرحمن الرحيم» وأيضا السنة أن يقال عند الذبح: «بسم الله والله أكبر» ولا يقال: «بسم الله الرحمن الرحيم» فلما وفقك الله لذكر هذه الكلمات كل يوم سبع عشرة مرة في الصلوات المفروضة دل ذلك على أنه ما خلقك للقتل والعذاب وإنما خلقك للرحمة والثواب. السادسة عشرة: قال صلى الله عليه وسلم: «من رفع قرطاسا من الأرض فيه بسم الله الرحمن الرحيم إجلالا لله تعالى كتب عند الله من الصدّيقين وخفف عن والديه وإن كانا من المشركين» وعن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت «بسم الله الرحمن الرحيم» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول ما نزلت هذه الآية على آدم قال: أمن ذريتي من العذاب ما داموا على قراءتها، ثم رفعت فأنزلت على إبراهيم عليه السلام فتلاها وهو في كفة المنجنيق فجعل الله عليه النار بردا وسلاما، ثم رفعت بعده فما أنزلت إلا على سليمان وعندها قالت الملائكة: الآن تم والله ملكك، ثم رفعت فأنزلها الله تعالى عليّ، ثم يأتي أمتي يوم القيامة وهم يقولون: «بسم الله الرحمن الرحيم» فإذا وضعت أعمالهم في الميزان ترجحت حسناتهم. وعن أبي هريرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 أنه صلى الله عليه وسلم قال «يا أبا هريرة إذا توضأت فقل: «بسم الله الرحمن الرحيم» فإن حفظتك لا يستريحون أن يكتبوا لك الحسنات حتى تفرغ، وإذا غشيت أهلك فقل: «بسم الله الرحمن الرحيم» فإن حفظتك يكتبون لك الحسنات حتى تغتسل من الجنابة، فإن حصل من تلك المواقعة ولد كتبت له من الحسنات بعدد نفس ذلك الولد وبعدد أنفاس أعقابه إن كان له عقب حتى لا يبقى منهم أحد. يا أبا هريرة إذا ركبت دابة فقل: «باسم الله والحمد لله» يكتب لك الحسنات حتى تخرج منها» وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا نزعوا ثيابهم أن يقولوا بسم الله الرحمن الرحيم» والإشارة فيه إذا صار هذا الاسم حجابا بينك وبين أعدائك من الجن في الدنيا أفلا يصير حجابا بينك وبين الزبانية في العقبى؟. كانت لنفسي أهواء مفرّقة ... فاستجمعت إذ رأتك النفس أهوائي فصار يحسدني من كنت أحسده ... وصرت مولى الورى مذ صرت مولاي تركت للناس دنياهم ودينهم ... شغلا بذكرك يا ديني ودنيائي هذا تمام الكلام في تفسير البسملة. وأما تفسير الفاتحة ففيه أيضا مسائل: الأولى: في أسماء هذه السورة وهي كثيرة، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى. فالأول: فاتحة الكتاب سميت بذلك لأنه يفتتح بها في المصاحف وفي التعليم وفي القراءة في الصلاة، ولأن الحمد فاتحة كل كتاب كما هي فاتحة القرآن. وقيل: لأنها أول سورة نزلت من السماء. الثاني: سورة الحمد لأن أولها الحمد. الثالث: أم الكتاب وأم القرآن لأنها أصل القرآن وأصل كل كتاب منزل لاشتمالها على الإلهيات والمعاد وإثبات القضاء والقدر والنبوات، أو لأن فيها حاصل جميع الكتب السماوية وذلك هو الثناء على الله والاشتغال بالخدمة والطاعة وطلب المكاشفات والمشاهدات، أو لأن المقصود من جميع العلوم معرفة عزة الربوبية وذلة العبودية، أو لأنها أفضل سور القرآن كما أن مكة وهي أم القرى أشرف البلدان، أو أصل لجميع البلدان حيث دحيت من تحتها، وكما أن الحمى سميت أم ملدم لأنهم جعلوها معظم الأوجاع واللدم الضرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الرابع: السبع المثاني لأنها سبع آيات ولأنها تثنى في كل صلاة، أو لأن نصفها ثناء العبد للرب والنصف الآخر إعطاء الرب العبد، أو لأنها مستثناة لهذه الأمة قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة والإنجيل ولا في الزبور مثل هذه السورة وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم» «1» أو لأنها نزلت مرتين، أو لأنها أثنية ومدائح لله تعالى. الخامس: الوافية لأنها تجب قراءة كلها ولا يجزىء بعضها في الصلاة. السادس: الكافية قال صلى الله عليه وسلم: «أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضا عنها» . السابع: الشفاء والشافية لقوله صلى الله عليه وسلم «فاتحة الكتاب شفاء من كل سقم» «2» . الثامن: الأساس لأنها أول سور القرآن فهي كالأساس، أو لأنها تشتمل على أساس العبادات والمطالب. قال الشعبي: سمعت عبد الله بن عباس يقول: أساس الكتب القرآن، وأساس القرآن فاتحة الكتاب، وأساس الفاتحة «بسم الله الرحمن الرحيم» فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالأساس تشف بإذن الله تعالى. التاسع: الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» «3» . يعني الفاتحة وهو من باب تسمية الشيء بمعظم أركانه. ومنه يعلم وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة. العاشر: سورة تعليم المسألة لأن الله تعالى علم عباده فيها آداب السؤال فبدأ بالثناء ثم بالإخلاص ثم بالدعاء. الحادي عشر: سورة الكنز لما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش ولهذا قال أكثر العلماء: إنها مكية وخطؤا مجاهدا في قوله: إنها مدنية، وكيف لا؟ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب أنها من أول ما نزل من القرآن وأنها السبع المثاني، وسورة الحجر مكية بلا خلاف وفيها قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87] ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب. وقد جمع طائفة من العلماء بين القولين فقالوا إنها   (1) رواه مالك في الموطأ في كتاب النداء حديث 37. (2) رواه الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 12. (3) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 38، 40. أبو داود في كتاب الصلاة باب 132. الترمذي في كتاب تفسير سورة الفاتحة باب 1. النسائي في كتاب الافتتاح باب 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 نزلت بمكة مرة وبالمدينة أخرى، وعلى هذا فإنها لم تثبت في المصحف مرتين لأنه لم يقع التواتر على نزولها مرتين. ومن فضائل هذه السورة أنه لم يوجد فيها الثاء وهو الثبور لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان: 14] والجيم وهو جهنم وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 43] والخاء وهو الخزي يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم: 8] والزاء وهو الزفير والزقوم. والشين وهو الشهيق لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود: 106] والظاء وهو لظى كَلَّا إِنَّها لَظى [المعارج: 15] والفاء وهو الفراق وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: 14] فلما أسقط الله تعالى من الفاتحة هذه الحروف الدالة على العذاب وهي بعدد أبواب جهنم لقوله تعالى: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 44] غلب على الظن أن من قرأ الفاتحة نجا من جهنم ودخول أبوابها وتخلص من دركات النار وعذابها. الثانية: في المباحث اللفظية. الحمد مبتدأ والله خبره أي الحمد ثابت لله. وأصله النصب الذي هو قراءة بعضهم بإضمار فعله كقولهم شكرا وعجبا وسبحانك ومعاذ الله، فعدل إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره نحو قوله تعالى فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [الذاريات: 25] ولهذا كان تحية إبراهيم عليه السلام أحسن من تحيتهم كما جاء وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها. [النساء: 86] ومما يدل على أن أصله النصب أن قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ بيان لحمدهم فكأنه قيل: كيف يحمدون؟ فقيل: إياك نعبد. والأصل توافق الجملتين. واللام في «الحمد» لتعريف الجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو. والاستغراق وهم لأنه لو سلم كونه اللام للاستغراق فحمد أبويه مثلا لا يدخل فيه. وأيضا نحو نحمد الله لا يفهم منه إلا حقيقة الحمد من حيث هي فكذا ما ناب منابه وهو الحمد لله. وقرأ بعضهم بكسر الدال اتباعا، وبعضهم بضم اللام. الرب المالك، ربه يربه فهو رب، أو مصدر وصف به للمبالغة كالعدل. وهو مطلقا مختص بالله تعالى، ومضافا يجوز إطلاقه على غيره نحو: رب الدار ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ [يوسف: 50] وقرىء بالنصب على المدح أو بتقدير نحمد. والعالم اسم موضوع للجمع كالأنام والرهط، وهو ما يعقل من الملائكة والثقلين قاله ابن عباس والأكثرون. وقيل: كل ما علم به الخالق من الجواهر والأعراض كقوله تعالى قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا [الشعراء: 23، 24] فعلى الأول مشتق من العلم وخصوا بالذكر للتغليب، وعلى الثاني من العلامة وجمع ليشمل كل جنس مما سمي به، وجمع بالواو والنون تغليبا لما فيه من صفات العقلاء. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ صفة أخرى. واليوم هو المدة من طلوع نصف جرم الشمس إلى غروب نصف جرمها، أو من ابتداء طلوعها إلى غروب كلها، أو من طلوع الفجر الثاني إلى غروبها، وهذا في عرف الشرع. ويراد به في الآية الوقت لعدم الشمس ثمة. والدين الجزاء بالخير والشر «كما تدين تدان» «1» وإضافة اسم الفاعل إلى الظرف اتساع وإجراء للظرف مجرى المفعول به مثل: يا سارق الليلة أهل الدار. وإنما أفادت التعريف حتى جاز وقوعه صفة للمعرفة لأنه إما بمعنى الماضي نحو وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ [الأعراف: 48] وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [الزمر: 73] أو بمعنى الاستمرار نحو: زيد مالك العبيد. فيكون بمعنى من يملك المفيد للاستمرار نحو: فلان يعطي ويمنع. وحينئذ لا تعمل، فتكون الإضافة حقيقية، وقرىء بنصب الكاف ورفعها مدحا، وبسكون اللام مخفف ملك مكسور اللام وبجعله فعلا ماضيا ونصب يوم ومليك رفعا ونصبا وجرا. «ايا» ضمير منصوب منفصل ولا محل لكاف الخطاب نحو «أرأيتك» وهو مذهب الأخفش والمحققين وحكاية الخليل «إذا بلغ الرجل الستين فإياه وايا الشواب» شاذ. والأصل نعبدك ونستعينك، فلما قدم الضمير المتصل للاختصاص صار منفصلا. وقرىء إياك بتخفيف الياء، وأياك بفتح الهمزة والتشديد، وهياك بقلب الهمزة هاء، قال طفيل: فهياك والأمر الذي إن تراحبت ... موارده ضاقت عليك مصادره فإن قيل: لم عدل عن الغيبة إلى الخطاب؟ قلنا: هذا يسمى الالتفات في علم البيان وذلك على عادة افتنانهم في الكلام والتنقل من أسلوب إلى أسلوب تطرية لنشاط السامع. وقد يختص مواقعه بفوائد وسننظم لك في سلك التقرير فائدته في هذا الموضع. والعبادة أقصى غاية الخضوع. طريق معبد أي مذلل، وثوب ذو عبدة في غاية الصفاقة وقوة النسج هدى يتعدى باللام أو بإلى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] فعومل معاملة اختار في قوله تعالى وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] والأصل فيه الإمالة ومنه إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف: 156] أي ملنا والهدية لأنها تمال من ملك إلى ملك والهدي للذي يساق إلى الحرم أي أمل   (1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة الفاتحة باب 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 قلوبنا إلى الحق. والصراط الجادة، وأصله السين من سرط الشيء ابتلعه لأنه يسرط السابلة إذا سلكوه كما سمي لقما لأنه يلتقمهم، ومثله مسيطر ومصيطر. والصراط يذكر ويؤنث كالطريق والسبيل وصِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بدل الكل من الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وفائدته التوكيد كقولك: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم فلان؟ ويكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل، لأنك بينت ذكره مجملا أوّلا ومفصلا ثانيا. وقراءة ابن مسعود صراط من أنعمت عليهم وغير المغضوب بدل من «الذين» أو صفة. وإنما جاز وقوعه صفة للمعرفة لأنه تعريف الذين كلا تعريف كقوله: «ولقد أمر على اللئيم يسبني» . أو لأن المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم فهو كقولك: عليك بالحركة غير السكون ويجوز أن يكون بدلا وإن كان نكرة من معرفة ولا نعت للإفادة. والفرق بين عليهم الأولى والثانية، أن الأولى محلها النصب على المفعولية، والثانية محلها الرفع على أنها مفعول أقيم مقام الفاعل. وأصل النعمة المبالغة والزيادة يقال: دققت الدواء فأنعمت دقه أي بالغت في دقه. وكل ما في القرآن من ذكر النعمة بكسر النون فهي المنة والعطية. والنعمة بفتح النون التنعم وسعة العيش وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ [الدخان: 27] والغضب في اللغة الشدة وقد عرفت معناه بحسب إطلاقه على الخلق وعلى الخالق. وأصل الضلال الغيبوبة ضل الماء في اللبن إذا غاب فيه، وضل الكافر غاب عن الحق. قال تعالى: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السجدة: 10] و «غير» هاهنا بمعنى «لا» و «لا» بمعنى «غير» ولذلك جاز عطف أحدهما على الآخر. تقول: أنا زيدا غير ضارب كما تقول: أنا زيدا لا ضارب. ويعضده ما قرىء وغير الضالين وقرأ أيوب السختياني ولا الضألين بالهمزة كما قرأ عمرو بن عبيد ولا جأن وآمين مدا وقصرا معناه استجب، كما أن رويد معناه أمهل. وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معناه إفعل. (الثالث في المباحث الفقهية) . البحث الأول: أجمع الأكثرون ومنهم الشافعي على أن قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة وإن ترك منها حرفا واحدا وهو يحسنها لم تصح صلاته. وعند أبي حنيفة قراءتها غير واجبة لنا أنه صلى الله عليه وسلم واظب طول عمره على قراءتها في الصلاة فتجب علينا لقوله تعالى فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] وأيضا أقيموا الصلاة معناه الصلاة التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه كان يقرأ الفاتحة فيها فتجب. وأيضا روي في ذلك أخبار كثيرة مثل «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» «كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج» «1»   (1) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 38، 41. أبو داود في كتاب الصلاة باب 132. الترمذي في كتاب الصلاة باب 116. النسائي في كتاب الافتتاح باب 23. ابن ماجه في كتاب الاقامة باب 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وروى رفاعة بن مالك أن رجلا دخل المسجد وصلى، فلما فرغ من صلاته وذكر الخبر إلى أن قال الرجل: علمني الصلاة يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: إذا توجهت إلى القبلة فكبر واقرأ بفاتحة الكتاب، وظاهر الأمر للوجوب ولا سيما في معرض التعليم. وأيضا الخلفاء الراشدون واظبوا على قراءتها طول العمر وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين» «1» وأيضا المواظبة على قراءة الفاتحة توجب هجران سائر السور وذلك غير جائز إن لم تكن واجبة فثبت أنها واجبة. حجة أبي حنيفة فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] قلنا: الفاتحة هي المتيسرة المحفوظة على جميع الألسنة. ثم قال: إذا قرأ آية واحدة كفت مثل الم أو حم [الدخان: 1] وَالطُّورِ [الطور: 1] ومُدْهامَّتانِ [الرحمن: 64] . أبو يوسف ومحمد: لا بد من قراءة ثلاث آيات أو آية واحدة طويلة مثل آية الدين. البحث الثاني: قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وإنما كتبت للفصل والتبرك وهو مذهب أبي حنيفة ومن تابعه، ولذلك لا يجهر بها عندهم في الصلاة. وقراء مكة والكوفة وفقهاؤهما على أنها آية من كل سورة وعليه الشافعي وأصحابه لما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد «بسم الله الرحمن الرحيم» آية، «الحمد لله رب العالمين» آية، «الرحمن الرحيم» آية، «مالك يوم الدين» آية، «إياك نعبد وإياك نستعين» آية، «اهدنا الصراط المستقيم» آية «صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين» آية. وعن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن «بسم الله الرحمن الرحيم» «2» وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري؟ فقلت: بلى فقال: بأي شيء تفتتح القرآن إذ افتتحت الصلاة؟ قلت: ببسم الله الرحمن الرحيم. قال: هي هي. وبإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة؟ قال: أقول «الحمد لله» قال: قل «بسم الله الرحمن الرحيم» وبإسناده عن علي بن أبي طالب أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» وكان يقول: من ترك قراءتها فقد نقص في صلاته وبإسناده عن ابن عباس في قوله وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87] قال: فاتحة الكتاب. فقيل لابن عباس: فأين السابع؟ فقال: «بسم الله الرحمن الرحيم» . وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:   (1، 2) رواه أبو داود في كتاب السنّة باب 5. الترمذي في كتاب العلم باب 16. ابن ماجه في المقدمة باب 6. الدارمي في المقدمة باب 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 يقول الله سبحانه «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين. فإذا قال العبد «بسم الله الرحمن الرحيم» قال الله: مجدني عبدي وإذا قال: «الحمد الله رب العالمين» قال الله: حمدني عبدي وإذا قال: «الرحمن الرحيم» قال الله: أثنى عليّ عبدي وإذا قال: «مالك يوم الدين» قال الله: فوّض إلي عبدي وإذا قال: «إياك نعبد وإياك نستعين» قال الله: هذا بيني وبين عبدي وإذا قال: «اهدنا الصراط المستقيم» قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» «1» إلى غير ذلك من الأخبار. وأيضا التسمية مكتوبة بخط القرآن في مصاحف السلف مع توصيتهم بتجريد القرآن عما ليس منه ولذلك لم يثبتوا «آمين» . وأيضا قال صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: ما أعظم آية في كتاب الله؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فصدّقه النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أنها ليست آية تامة في قوله إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل: 30] فتكون آية في غير هذا الموضع. وأيضا إن أكثر الأنبياء أوجبوا على أنفسهم الابتداء بذكر الله قال نوح عند ركوب السفينة: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود: 41] وكتب سليمان إلى بلقيس «بسم الله الرحمن الرحيم» وقوله إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ من قول بلقيس قبل فتح الكتاب، فلما فتحت الكتاب قرأت التسمية فقالت: وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ولما ثبت الابتداء بالتسمية في حقهم ثبت في حق نبينا أيضا أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] وعن عبد الله بن مسعود قال: كنا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى تنزل «بسم الله الرحمن الرحيم» . وعن ابن عمر قال: نزلت «بسم الله الرحمن الرحيم» في كل سورة. وأيضا البسملة من القرآن في النمل ثم إنا نراه مكررا بخط القرآن فوجب أن نعتقد كونه من القرآن مثل فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: 13] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 15] حجة المخالف خبر أبي هريرة أيضا في رواية أخرى قال: يقول الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد «الحمد لله رب العالمين» يقول الله حمدني عبدي» «2» إلى آخره. قال: لم يذكر التسمية، ولو كانت آية من الفاتحة لذكرها. قلنا: إذا تعارضت الروايتان فالترجيح للمثبت لا للنافي. قالوا: التنصيف إنما يحصل إذا لم تعد التسمية آية حتى يحصل للرب ثلاث آيات ونصف وللعبد ثلاث ونصف من «إياك نستعين» إلى آخر السورة. أما إذا قلنا التسمية آية صار القسم الأول أربع آيات ونصفا فينخرم التنصيف. قلنا: نحن نعد التسمية آية ولا نعد «أنعمت عليهم» وهذا أولى رعاية لتشابه المقاطع، ولأن غير صفة أو بدل ويختل الكلام بجعله   (1) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 38، 40. أبو داود في كتاب الصلاة باب 132. الترمذي في كتاب تفسير سورة الفاتحة باب 1. النسائي في كتاب الافتتاح باب 23. أحمد فى مسنده (2/ 241، 285) . (2) المصدر السابق. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 منقطعا عما قبله لأن طلب الاهتداء بصراط المنعم عليهم لا يجوز إلا بشرط كون المنعم عليه غير مغضوب عليه ولا ضالا بدليل قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [إبراهيم: 28] فهذا المجموع كلام واحد، وهذا بخلاف «الرحمن الرحيم» فإنا لو قطعنا النظر عن الصفة كان الكلام مع الموصوف غير مختل النظام. قالوا: روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين. قلنا: قال الشافعي: لعل عائشة جعلت «الحمد لله رب العالمين» اسما لهذه السورة كما يقال قرأ فلان «الحمد لله الذي خلق السموات والأرض» . قالوا: لو كانت من الفاتحة لزم التكرار في «الرحمن الرحيم» قلنا: التكرار للتأكيد غير عزيز في القرآن. فإن قيل: إذا عد التسمية آية من كل سورة على ما يروى عن ابن عباس، فمن تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله. فما وجه ما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سورة الملك: إنها ثلاثون آية وفي الكوثر إنها ثلاث آيات مع أن العدد حاصل بدون التسمية؟ قلنا: إما أن تعد التسمية مع ما بعدها آية وذلك غير بعيد، ألا ترى أن قوله «الحمد لله رب العالمين» آية تامة، وفي قوله وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] بعض آية؟ وإما أن يراد ما هو خاصة الكوثر ثلاث آيات، فإن التسمية كالشيء المشترك فيه بين السور. البحث الثالث: عن أحمد بن حنبل أن التسمية آية من الفاتحة، ويسرّ بها في كل ركعة. أبو حنيفة: ليست بآية ويسر بها. مالك: لا ينبغي أن يقرأها في المكتوبة لا سرا ولا جهرا. الشافعي: آية ويجهر بها لأنها بعد ما ثبت كونها من الفاتحة والقرآن لا يعقل فرق بينها وبين باقي الفاتحة حتى يسر بهذه ويجهر بذلك. وأيضا إنه ثناء على الله وذكر له فوجب أن يكون الإعلان به مشروعا لقوله عز من قائل فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة: 200] وأيضا الإخفاء والسر إنما يليق بما فيه نقيصة ومثلبة لا بما فيه مفخرة وفضيلة. قال صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن مات ولسانه رطب من ذكر الله» وكان علي بن أبي طالب يقول: يا من ذكره شرف للذاكرين. وكان مذهبه الجهر بها في جميع الصلوات، وقد ثبت هذا منه تواترا ومن اقتدى به لن يضل. قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم أدر الحق معه حيث دار» «1» وروى البيهقي في السنن الكبرى عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم. وروي عن عمر وابنه وابن عباس وابن الزبير مثل ذلك، وروى الشافعي بإسناده أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار: يا معاوية سرقت من   (1) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الصلاة أين «بسم الله الرحمن الرحيم» أين التكبير عند الركوع والسجود؟ ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير. قال: وكان معاوية شديد الشكيمة ذا شوكة، فلولا أن الجهر بالتسمية كان مقررا عند كل الصحابة لم يجسروا على ذلك حجة المخالف ما روى البخاري في صحيحه عن أنس قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين. وفي رواية ولم أسمع أحدا منهم قال: «بسم الله الرحمن الرحيم» وفي رواية ولم يجهر أحد منهم ببسم الله الرحمن الرحيم. وعن عبد الله بن المغفل أنه قال: سمعني أبي وأنا أقول «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال: أي بني، إياك والحدث في الإسلام! وقد صليت خلف أبي بكر فقال: «الحمد لله رب العالمين» وصليت خلف عمر فقال: «الحمد لله رب العالمين» . وصليت خلف عثمان فقال: «الحمد لله رب العالمين» فإذا صليت فقل: «الحمد لله رب العالمين» . والجواب أن حديث أنس معارض بما يروى عنه أيضا أن معاوية لما ترك التسمية في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار. وروى أيضا أبو قلابة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. ويروى أيضا أنه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به فقال: لا أدري هذه المسألة، وإذا اضطربت الروايات عنه وجب الرجوع إلى سائر الدلائل. وأيضا ففيها تهمة أخرى وهي أن عليا رضي الله عنه كان يبالغ في الجهر بالتسمية ، فلما كان زمن بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعيا في إبطال آثار علي بن أبي طالب، فلعل أنسا خاف منهم فلهذا اضطربت أقواله. وأيضا من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم أولى الأحلام والنهي والأكابر والعلماء على غيرهم، ولا شك أن عليا وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالا من أنس وابن المغفل وأقرب موقفا، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يبالغ في الجهر لقوله تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [الإسراء: 110] فلهذا لم يسمعا. ورواية المثبت أولى من رواية النافي، والدلائل العقلية معنا ويؤيدها عمل علي بن أبي طالب كما مر. البحث الرابع: تقديم التسمية على الوضوء سنة عند عامة العلماء وليست بواجبة خلافا لبعض أهل الظاهر حيث قالوا: لو تركها عمدا أو سهوا لم تصح صلاته لنا قوله صلى الله عليه وسلم «توضأ كما أمرك الله» والتسمية غير مذكورة في آية الوضوء. والصحيح عندنا أن الجنب والحائض لا يقولها بقصد القراءة، والتسمية عند الذبح وعند الرمي إلى الصيد وعند إرسال الكلب مستحبة، فلو تركها عامدا أو ناسيا، لم تحرم الذبيحة عند الشافعي ولكن تركها عمدا مكروه، وعند أبي حنيفة إن ترك التسمية عمدا لم يحل، وإن نسي حل. والعلماء أجمعوا على أنه يستحب أن لا يشرع في عمل من الأعمال إلا أن يقول: باسم الله، فإذا نام قال باسم الله، وإذا انتبه قال: باسم الله، وإذا قام من المقام قال: باسم الله، وإذا أكل أو شرب قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 باسم الله، وإذا أعطى أو أخذ قال: باسم الله، ويستحب للقابلة إذا أخذت الولد من الأم أن تقول باسم الله وهذا أول أحواله من الدنيا وإذا مات وأدخل القبر قيل باسم الله وهذا آخر أحواله من الدنيا، وإذا قام من القبر قال: باسم الله، وإذا حضر الموقف قال: باسم الله، فلا جرم يدخل الجنة ببركة اسم الله. البحث الخامس: قال الشافعي: ترجمة القرآن لا تكفي في صحة الصلاة لا في حق من يحسن القراءة ولا في حق من لا يحسنها. وقال أبو حنيفة: إنها كافية في حق القادر والعاجز. وقال أبو يوسف ومحمد: كافية في حق العاجز لا القادر لنا أنه صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده وجميع الصحابة ما قرأوا في الصلاة إلا هذا القرآن العربي فوجب علينا اتباعهم، وكيف يجوّز عاقل قيام الترجمة بأي لغة كانت وهي كلام البشر مقام كلام خالق القوى والقدر؟ وقالوا: وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يعلم رجلا أن شجرة الزقوم طعام الأثيم والرجل لا يحسنه. فقال: قل طعام الفاجر، ثم قال عبد الله: ليس الخطأ في القرآن أن تقرأ مكان العليم الحكيم إنما الخطأ بأن تضع آية الرحمة مكان آية العذاب. قلنا: الظن بابن مسعود غير ذلك. قالوا وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الأعلى: 18، 19] ولا ريب أن القرآن بهذا اللفظ ما كان في زبر الأولين لكن بالعبرية والسريانية. قلنا: إن القصص والمواعظ موجودة لا باللفظ بل بالمعنى، ولا يلزم من ذلك أن يكون الموجود فيها قرآنا، فإن النظم المعجز جزء من ماهية القرآن والكل بدون الجزء مستحيل. البحث السادس: الشافعي في القول الجديد قال: تجب قراءة الفاتحة على المقتدي سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها. وفي القديم: تجب إذا أسر الإمام ولا تجب إذا جهر وهو قول مالك وأحمد أبو حنيفة: تكره القراءة خلف الإمام بكل حال لنا قوله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] وقوله «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» «1» يشمل المنفرد والمقتدي، وأيضا روى الترمذي في جامعه بإسناده عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف صلى الله عليه وسلم قال: إني أراكم تقرءون خلف إمامكم قلنا: أي والله، قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها. قال: وهذا حديث حسن. وأيضا قراءتها لا تبطل الصلاة عندهم ولكن يجوّزون تركها ويبطلها عدم القراءة عندنا، فالأحوط قراءتها. احتج المخالف بقوله تعالى وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الأعراف: 204]   (1) رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب 69. الدارمي في كتاب الصلاة باب 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وبأخبار بين ضعفها البيهقي في كتابه، ونحن نقول: أما القرآن فمخصوص بغير الفاتحة لما مر، وأما الأخبار فهب أنها صحيحة إلا أن الترجيح معنا لأن الاشتغال بقراءة القرآن من أعظم الطاعات ولأنه أحوط. البحث السابع: مذهب الشافعي أن الفاتحة واجبة في كل ركعة فإن تركها في ركعة بطلت صلاته، وبه قال أبو بكر وعمر وعلي عليهم السلام وابن مسعود ومعظم الصحابة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأوها في كل ركعة، ولأنه قال للأعرابي الذي علمه الصلاة وكذلك فأفعل في كل ركعة. وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة فريضة كانت أو نافلة. وأيضا القراءة في كل ركعة أحوط فيجب المصير إليها. وقيل: غير واجبة أصلا، وقيل: تجب في كل صلاة في ركعة واحدة فقط وبه يحصل امتثال قوله «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» «1» وعند أبي حنيفة القراءة تجب في الركعتين الأوليين لقول عائشة: فرضت الصلاة في الأصل ركعتين فأقرّت في السفر وزيدت في الحضر. فهما أصل والزائد تبع. قلنا: ما ذكرنا أحوط، وقيل: تجب الفاتحة في الأوليين وتكره في الآخرتين. وعند مالك تجب في أكثر الركعات، ففي الثنائية فيهما وفي الثلاثية في اثنتين وفي الرباعية في ثلاث. البحث الثامن: إذا ثبت أن القراءة شرط في الصلاة فلو تركها أو حرفا من حروفها عمدا بطلت صلاته وكذا سهوا على الجديد. وما روي أن عمر بن الخطاب صلى المغرب فترك القراءة فقيل له: تركت القراءة. قال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا: حسنا. قال: فلا بأس، معارض بما روى الشعبي عنه أنه أعاد الصلاة. وأيضا لعله ترك الجهر بالقراءة لا نفس القراءة. البحث التاسع: يجب رعاية الترتيب في أجزاء الفاتحة وما وقع غير مرتب فغير محسوب. البحث العاشر: إن لم يحفظ شيئا من الفاتحة قرأ بقدرها من غيرها من القرآن، ثم من ذكر من الأذكار، ثم عليه مثل وقفة بقدرها فإن تعلم قرأ ما لم يفرغ منه. البحث الحادي عشر: نقل عن ابن مسعود أنه كان ينكر أن تكون الفاتحة والمعوذتان من جملة القرآن والظن به أن هذا النقل عنه كذب وإلا فجحد المتواتر كيف يليق بحاله؟   (1) المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الرابع فيما يختص بتفسير الحمد لله من الفوائد. الفائدة الأولى في الفرق بين الحمد والمدح والشكر. المدح للحي ولغير الحي كاللؤلؤة والياقوتة الثمينة، والحمد للحي فقط. والمدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده، والحمد إنما يكون بعد الإحسان. والمدح قد يكون منهيا عنه قال صلى الله عليه وسلم: «احثوا التراب في وجوه المداحين» «1» والحمد مأمور به مطلقا قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يحمد الناس لم يحمد الله» والمدح عبارة عن القول الدال على أنه مختص بنوع من أنواع الفضائل باختياره وبغير اختياره، والحمد قول دال على أنه مختص بفضيلة اختيارية معينة وهي فضيلة الإنعام إليك وإلى غيرك، ولا بد أن يكون على جهة التفضيل لا على سبيل التهكم والاستهزاء، والشكر على النعمة الواصلة إليك خاصة وهو باللسان، وقد يكون بالقلب والجوارح قال الشاعر: أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا والحمد باللسان وحده فهو إحدى شعب الشكر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده» وإنما جعله رأس الشكر لأن ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها أشيع لها وأدل على مكانها من الاعتقاد وأداء الجوارح لخفاء عمل القلب، وما في عمل الجوارح من الاحتمال بخلاف عمل اللسان وهو النطق الذي يفصح عن كل خفي. والحمد نقيضه الذم ولهذا قيل: الشعير يؤكل ويذم. والمدح نقيضه الهجاء، والشكر نقيضه الكفران، إذا عرفت ذلك فنقول: إذا قال المدح لله لم يدل ذلك على كونه تعالى فاعلا مختارا لما مر أن المدح قد يكون لغير المختار. ولو قال: الشكر لله كان ثناء بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل. وإذا قال: الحمد لله فكأنه يقول سواء أعطيتني أو لم تعطني فإنعامك واصل إلى كل العالمين وأنت مستحق للحمد العظيم، ولا ريب أن هذا أولى. وقيل: الحمد لله على ما دفع من البلاء، والشكر لله على ما أعطى من النعماء، والنعمة في الإعطاء أكثر من النعمة في دفع البلاء، فكأنه يقول: أنا شاكر لأدنى النعمتين فكيف بأعلاهما؟ ويمكن أن يقال: إن المنع غير متناه والإعطاء متناه، والابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له أولى، وأيضا دفع الضرر أهم من جلب النفع فتقديمه أحرى. الثانية: لو قال: أحمد الله أفاد كون ذلك القائل على حمده، وإذا قال: الحمد لله أفاد أنه كان محمودا قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين. وأيضا الحمد لله معناه أن مطلق الحمد   (1) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث 68، 69. أبو داود في كتاب الأدب باب 9. الترمذي في كتاب الزهد باب 55. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 36. أحمد في مسنده (2/ 94) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 والثناء حق لله وملكه كما ينبىء عنه اللام الجنسية واللام الجارة وذلك بسبب كثرة إيلائه أنواع آلائه على عبيده وإمائه. ولا يخفى أن هذا أولى من أن يحمده شخص واحد فقط، ولهذا لو سئلت هل حصل لفلان عليك نعمة؟ فإن قلت نعم فقد حمدته ولكن حمدا ضعيفا، ولو قلت في الجواب بل نعمه على كل الخلائق كان أكمل. فإن قيل: أليس أن المنعم يستحق الحمد من المنعم عليه؟ فالأستاذ يستحق الحمد من التلميذ، والسلطان العادل يستحق الحمد من الرعية، وقال صلى الله عليه وسلم: «من لم يحمد الناس لم يحمد الله» ؟ قلنا: المنعم في الحقيقة هو الله لأنه خلق تلك الداعية في ذلك المنعم بعد أن خلق تلك النعمة وسلط المنعم عليها ومكن المنعم عليه من الانتفاع وأمنه من فوات الانقطاع، ولهذا قال عز من قائل وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] وأيضا كل مخلوق ينعم على غيره فإنه يطلب بذلك الإنعام عوضا إما ثوبا أو ثناء، أو تحصيل خلق أو تخلصا من رذيلة البخل. وطالب العوض لا يكون منعما ولا مستحقا للحمد في الحقيقة، أما الله سبحانه فإنه كامل لذاته والكامل لذاته لا يطلب الكمال، لأن تحصيل الحاصل محال فكان عطاؤه جودا محضا، فثبت أن لا مستحق للحمد إلا الله تعالى. الثالثة: إنما لم يقل «احمدوا الله» لأن الإنسان عاجز عن الإتيان بحمد الله وشكره فلم يحسن أن يكلف فوق ما يستطيعه، وذلك أن نعم الله على العباد غير محصورة وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34] وإذا امتنع الوقوف عليها امتنع اقتداره على الشكر والثناء اللائق بها. وأيضا إنما يمكنه القيام بحمد الله وشكره إذا أقدره الله على ذلك الحمد والشكر وخلق في قلبه داعية ذلك وأزال عنه العوائق والصوارف، وكل ذلك إنعام من الله فيتسلسل. وأيضا الاشتغال بالحمد والشكر معناه أن المنعم عليه يقابل إنعام المنعم بشكر نفسه، ومن اعتقد أن حمده وشكره يساوي نعمة الله فقد أشرك، وهذا معنى قول الواسطي «الشكر شرك» أما إذا قال: «الحمد لله» فالمعنى أن كمال الحمد حقه وملكه سواء قدر الخلق على الإتيان به أو لم يقدروا. ونقل أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك وشكري لك لا يتم إلا بإنعامك علي وهو أن توفقني لذلك الشكر؟ فقال: يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني بحسب قدرتك وطاقتك. الرابعة: عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا أنعم الله على عبد فقال: «الحمد لله» يقول الله تعالى: انظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة لا» ومعناه أن ما أنعم الله على العبد شيء واحد، وإذا قال: الحمد لك فمعناه المحامد التي أتى بها الأولون والآخرون من الملائكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 والثقلين لله تعالى، وكذا المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قوله تعالى دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] وإلى أبد الآبدين ودهر الداهرين فالمنعم به متناه والحمد غير متناه، وإذا أسقط المتناهي من غير المتناهي بقي غير المتناهي. فالذي بقي للعبد طاعات غير متناهية فلا بد من مقابلتها بنعم غير متناهية، فلهذا يستحق العبد الثواب الأبدي والخير السرمدي. الخامسة: لا شك أن الوجود خير من العدم، وأن وجود كل ما سوى الله فإنه حصل بإيجاد الله وجوده، فإنعام الله تعالى واصل إلى كل من سواه، فإذا قال العبد: «الحمد لله» فكأنه قال: الحمد لله على كل مخلوق خلقه، وعلى كل محدث أحدثه من نور وظلمة وسكون وحركة وعرش وكرسي وجني وإنسي وذات وصفة وجسم وعرض من أزل الآزال إلى أبد الآباد، وأنا أشهد أنها بأسرها لك لا شركة لأحد فيها معك. السادسة: التسبيح مقدم على التحميد لأنه يقال: سبحان الله والحمد لله. فما السبب في وقوع البداءة بالتحميد؟ والجواب أن التسبيح داخل في التحميد دون العكس، فإن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص، والتحميد يدل على كونه محسنا إلى العباد، ولا يكون محسنا إليهم إلا إذا كان عالما بجميع المعلومات ليعلم مواقع الحاجات وإلا إذا كان قادرا على المقدورات ليقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه، وإلا إذا كان غنيا في نفسه وإلا شغله حاجة نفسه عن حاجة غيره، فثبت أن كونه محسنا لا يتم إلا بعد كونه منزها عن النقائص والآفات. السابعة: الحمد له تعلق بالماضي وهو وقوعه شكرا على النعم السابقة، وتعلق بالمستقبل وهو اقتضاء تجدد النعم لقوله تعالى لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7] فبالأول يغلق عنك أبواب النيران، وبالثاني يفتح لك أبواب الجنان، فإن الحمد لله ثمانية أحرف بعدد أبواب الجنة. الثامنة: الحمد لله كلمة جليلة لكنه يجب أن تذكر في موضعها ليحصل المقصود. قال السري: منذ ثلاثين سنة أستغفر الله لقولي مرة واحدة الحمد لله. وذلك أنه وقع الحريق في بغداد وأحرقت دكاكين الناس فأخبرني واحد أن دكاني لم يحترق فقلت: الحمد لله. وكان من حق الدين والمروءة أن لا أفرح بذلك، فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة. فالحمد على نعم الدين أفضل من الحمد على نعم الدنيا، والحمد على أعمال القلوب أولى من الحمد على أعمال الجوارح، والحمد على النعم من حيث إنها عطية المنعم أولى من الحمد عليها من حيث هي نعم، فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يقع الحمد في موضعه اللائق به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 التاسعة: أول ما بلغ الروح إلى سرة آدم عطس فقال: «الحمد لله رب العالمين» وآخر دعوى أهل الجنة «الحمد لله رب العالمين» . ففاتحة العالم مبنية على الحمد وخاتمته مبنية على الحمد، فاجتهد أن يكون أول أعمالك وآخرك مقرونا بكلمة الحمد. العاشرة: لا يحسن عندنا أن يقدّر قولوا: «الحمد لله» لأن الإضمار خلاف القياس، ولأن الوالد إذا قال لولده: أعمل كذا وكذا فلم يمتثل كان عاقا، فالأولى أن يقول الأمر الفلاني ينبغي أن يفعل. ثم إن كان الولد بارا فإنه يجيبه ويطيعه وإن كان عاقا كان إثمه أقل، فكذلك إذا قال: الحمد لله فمن كان مطيعا حمده ومن كان عاصيا كان إثمه أقل، بخلاف ما لو قدر «قولوا الحمد لله» . الحادية عشرة: شنعت الجبرية على المعتزلة ومن يجري مجراهم بأنكم تثبتون للعبد فعلا واختيارا، واستحقاق الحمد إنما يكون على أشرف النعم وهو الإيمان، فلو كان الإيمان بفعل العبد لكان المستحق للحمد هو العبد. والجواب أن الإيمان باختيار العبد لكن الاختيار أيضا مستند إلى الله تعالى فاستحق الحمد لذلك. وشنعت المعتزلة على الجبرية بأن قوله «الحمد لله» لا يتم إلا على مذهبنا لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبح في فعله ولا جور في قضيته، وعندكم لا قبح إلا وهو فعله، ولا جور إلا وهو حكمه. والجواب أن القبح والجور إنما يثبتان لو أمكن تصور الفعل المخصوص في القابل المخصوص أحسن وأتم مما صدر لكنه محال، فإنه تعالى حكيم وكل ما يصدر عن الحكيم كان على أفضل ما يمكن بالنسبة إلى المحل المخصوص. الثانية عشرة: اختلفوا في أن شكر المنعم واجب عقلا أو شرعا. فمنهم من قال عقلا ومن جملة أدلتهم قوله «الحمد لله» فإنه يدل على ثبوت الاستحقاق على الإطلاق. وأيضا عقبه بقوله «رب العالمين» وترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، فدل ذلك على أن استحقاقه للحمد ثابت بكونه ربا للعالمين قبل مجيء الشرع وبعده. والجواب أن استحقاقه لمثل هذا الحمد عرفناه من قبل الشرع. واعلم أن الحمد سبيله سبيل سائر الأذكار والعبادات في أنها إنما يؤتى بها لا لأن الله تعالى مستكمل بها ولا لأنه تعالى مجازي بها، ولكنها لتحقيق نسبة العبودية وإضافة الإمكان الله حسبي الخامس في فوائد قوله رب العالمين. الأولى: الموجود إما واجب لذاته وهو الله سبحانه وتعالى فقط، وإما ممكن لذاته وهو كل ما سواه ويسمى العالم كما مر، وذلك إما متحيز أو صفة للمتحيز أو لا هذا ولا ذاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 القسم الأوّل: إن كان قابلا للقسمة فهو الجسم وإلا فالجوهر الفرد. فالجسم إما علوي أو سفلي، والعلوي كالسماويات ويندرج فيها العرش والكرسي وسدرة المنتهى واللوح والقلم والجنة والكواكب، والسفلي إما بسيط وهو العناصر الأربعة: الأرض بما عليها وفيها والماء وهو البحر المحيط وما يتشعب منه في القدر المكشوف من الأرض، والهواء ومنه كرة البخار وكرة النسيم ومنه الهواء الصافي والنار. وإما مركب وهو المعادن والنبات والحيوان على تباين أنواعها وأصنافها. القسم الثاني: الأعراض بأجناسها وأنواعها. القسم الثالث: الأرواح وهي إما سفلية خيرة كالجن، أو شريرة كالشياطين. وإما علوية متعلقة بالأجسام كملائكة السموات قال صلى الله عليه وسلم: «ما في السموات موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو قاعد» أو غير متعلقة وهي الملائكة المقربون وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] ولأن كل موجود سوى الواجب يحتاج إلى الواجب في الوجود. وفي البقاء أيضا فهو إله العالمين من حيث إنه أخرجها من العدم إلى الوجود، ورب العالمين من حيث إنه يبقيها حال استقرارها. فكل من كان أكثر إحاطة بأحوال الموجودات وتفاصيلها كان أكثر وقوفا على تفسير قوله رَبِّ الْعالَمِينَ. الثانية: المربي قسمان: أحدهما أن يربي ليربح عليهم، والثاني أن يربي ليربحوا عليه. والأول شأن المخلوقين الذين غرضهم من التربية إما ثواب أو ثناء أو تعصب أو غير ذلك، والثاني دأب الحق سبحانه وتعالى كما قال: «خلقتكم لتربحوا عليّ لا لأربح عليكم» وكيف لا يربحون عليه وأنه متعال عن الاستكمال منزه عن أن يحدث في خزائنه بسبب التربية والإفادة والإفاضة اختلال يحب الملحين في الدعاء ويَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ [فاطر: 1] يكفي علمه من المقال ويغني كرمه عن السؤال وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [طه: 98] ويربي كل حي كرما وحلما وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 12، 13، 14] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [عبس: 24- 32] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً [النبأ: 6- 16] . الثالثة: لما كان الله أحسن الأسماء عقبه بأكمل الصفات وهو رَبِّ الْعالَمِينَ إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 معناه أن وجود ما سواه فائض عن تربيته، وإحسانه وجوده وامتنانه، فالأول يدل على التمام والثاني على أنه فوق التمام. الرابعة: رب العالمين ثم إنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك وهو الله الواحد الأحد الصمد، وأنت تخدمه كأنّ لك أربابا غيره فما إنصافك أيها الإنسان؟ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ [الأنبياء: 42] خلقت لعبادة الرب فلا تهدم حقيقتك بمعصية الرب، الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب. السادس: في فوائد قوله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الأولى: الرحمن بما لا يتصور صدوره من العباد، والرحيم بما يقدر عليه العباد. أنا الرحمن لأنك تسلم إليّ نطفة مذرة فأسلمها إليك صورة حسنة، أنا الرحيم لأنك تسلم إليّ طاعة ناقصة فأسلم إليك جنة خالصة. الثانية: ذهب بعضهم إلى ملك فقال: جئتك لمهم يسير. فقال: أطلب المهم اليسير من الرجل اليسير. فكأن الله تعالى يقول: لو اقتصرت على الرحمن لاحتشمت مني ولتعذر عليك سؤالي الأمور اليسيرة، فأنا الرحمن لتطلب مني الأمور العظيمة، وأنا الرحيم لتطلب مني شراك نعلك وملح قدرك. الثالثة: الولد إذا أهمل حال ولده ولم يؤدبه ظن أن ذلك رحمة وهو في الحقيقة عذاب. من لم يؤدبه الأبوان أدبه الملوان، وعكسه حال من تقطع يده لأكلة فيها، أو يضرب لتعليم حرفة، أو لتأدب بخصلة شريفة. فكل ما في العالم من محنة وبلية فهو في الحقيقة رحمة ونعمة وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة: 216] وقصة موسى مع الخضر كما تجيء في موضعها تؤيد ما ذكرناه، والحكيم المحقق هو الذي يبني الأمور على الحقائق لا على الظواهر، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير. الرابعة: أعطى مريم عليها السلام رحمة وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا [مريم: 21] فصارت سببا لنجاتها من توبيخ الكفار والفجار، وأعطانا رحمة وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] فكيف لا ننجو بسببه من عذاب النار. الخامسة: وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة فكان من حاله أنه لما كسرت أسنانه قال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعملون، وأنه يوم القيامة يقول: أمتي أمتي. فلما وصف نفسه بكونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 رحمانا رحيما أيضا فكأنه يقول: الرحمة الواحدة لا تكفي لصلاح المخلوقات فذرني وعبيدي فإني أنا الرحمن الرحيم، رحمتي غير متناهية ومعصيتهم متناهية والمتناهي لا يدرك غير المتناهي فستغرق معصيتهم في بحار رحمتي وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: 5] . السادسة: حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: كنت ضيفا لبعض القوم، فقدم المائدة فنزل غراب وسلب رغيفا فاتبعته تعجبا، فنزل في بعض التلال فإذا هو برجل مقيد مشدود اليدين، فألقى الغراب ذلك الرغيف على وجهه. وعن ذي النون أنه قال: كنت في البيت إذ وقعت في قلبي داعية أن أخرج من البيت، فانتهيت إلى شط النيل فرأيت عقربا قويا يعدو، فلما وصل إلى النيل فإذا هو بضفدع على طرف النهر، فقفز العقرب عليه وأخذ الضفدع يسبح، فركبت السفينة فاتبعته حتى إذا وصل الضفدع إلى الطرف الآخر نزل العقرب عن ظهره وأخذ يعدو، فتبعته فرأيت شابا نائما تحت شجرة وعنده أفعى يقصده، فلما قرب الأفعى من ذلك الشاب وصلت العقرب إلى الأفعى ولدغتها والأفعى أيضا لدغتها وماتتا معا. وفي أدعية العرب: يا رازق النعاب في عشه. وحكايته أن ولد الغراب لما يخرج من البيض يكون كأنه قطعة لحم فتهجره أمه تنفرا منه، حتى إذا خرج ريشه عادت إليه، فيبعث الله تعالى إليه في تلك المدة ذبابا يغتذي به. وروي أن فتى قربت وفاته واعتقل لسانه عن شهادة أن لا إله إلا الله، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه، فقام فدخل عليه وكان يعرض عليه الشهادة ولا يعمل لسانه فقال صلى الله عليه وسلم: أما كان يصلي أما كان يزكي أما كان يصوم؟ فقالوا: بلى. فقال: فهل عق والدته؟ قالوا: نعم. فقال: هاتوا أمه. فأتي بعجوز عوراء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا عفوت عنه؟ فقالت: لا أعفو عنه لأنه لطمني ففقأ عيني. فقال صلى الله عليه وسلم: هاتوا بالحطب والنار فقالت: وما تصنع بالنار؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أحرقه بالنار بين يديك جزاء بما عمل. فقالت: عفوت عفوت أللنار حملته تسعة أشهر أللنار أرضعته سنتين فأين رحمة الأم؟ فعند ذلك انطلق لسانه وذكر «أشهد أن لا إله إلا الله» والنكتة أنها كانت رحيمة فقط ولم تجوّز الإحراق، فالرحمن الرحيم كيف يجوز إحراق عبد واظب على ذكر الرحمن الرحيم سبعين سنة؟ قال صلى الله عليه وسلم: إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الإنس والجن والطير والبهائم والهوام فيها يتعاطفون ويتراحمون، وأخر تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة» «1» ولعل هذا على سبيل التفهيم والتمثيل وإلا فكرمه بلا غاية ورحمته بلا نهاية.   (1) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 19. مسلم في كتاب التوبة حديث 19. الترمذي في كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 السابع: في فوائد قوله «مالك يوم الدين» . الأولى: من قضية العدالة الفرق بين المحسن والمسيء، والمطيع والعاصي، والموافق والمخالف، ولا يظهر ذلك إلا في يوم الجزاء إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: 15] يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 6- 8] روي أنه يجاء برجل يوم القيامة وينظر في أحوال نفسه فلا يرى لنفسه حسنة البتة، فيأتيه النداء يا فلان ادخل الجنة بعملك. فيقول: إلهي ماذا عملت؟ فيقول الله: ألست لما كنت نائما تقلب من جنب إلى جنب ليلة كذا فقلت في خلال ذلك «الله» ، ثم غلبك النوم في الحال فنسيت؟ أما أنا فلا تأخذني سنة ولا ولا نوم، فما نسيت ذلك. ويجاء برجل وتوزن حسناته بسيئاته فتخف حسناته فتأتيه بطاقة فتثقل ميزانه فإذا فيها شهادة «أن لا إله إلا الله» فلا يثقل مع ذكر الله غيره. واعلم أن حقوق الله تعالى على المسامحة لأنه غني عن العالمين، وأما حقوق العباد فهي أولى بالاحتراز عنها. روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم يطرح في النار» «1» . الثانية: من قرأ «مالك» احتج بوجوه: الأول أن فيه حرفا زائدا فيكون ثوابه أكثر. الثاني: في القيامة ملوك ولا مالك إلا الله. الثالث: المالكية سبب لإطلاق التصرف والملكية ليست كذلك. الرابع: العبد أدون حالا من الرعية فيكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية. الخامس: الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك بالاختيار بخلاف المملوك. السادس: الملك يجب عليه رعاية حال الرعية «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» «2» ولا يجب على الرعية خدمة الملك، أما المملوك فيجب عليه خدمة مالكه وأن لا يستقل في الأمر إلا بإذنه حتى إنه لا يصح منه القضاء والإمامة والشهادة، ويصير مسافرا   (1) رواه مسلم في كتاب البر حديث 60. الترمذي في كتاب القيامة باب 2. أحمد في مسنده (2/ 303، 334) . (2) رواه البخاري في كتاب الجمعة باب 11. مسلم في كتاب الإمارة حديث 20. أبو داود في كتاب الإمارة باب 1. الترمذي في كتاب الجهاد باب 27. أحمد في مسنده (2/ 108) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 إذا نوى مولاه السفر، ومقيما إذا نوى الإقامة. حجة من قرأ «ملك» أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكا، والملك لا يكون إلا أعلاهم شأنا. وأيضا قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ [الناس: 1، 2] لم يقرأ فيه غير «ملك» فتعين. وأيضا الملك أقصر ومالك يلزم منه تطويل الأمل فإنه يمكن أن يدركه الموت قبل تمام التلفظ به. وأجيب بأن العزم يقوم مقام الفعل لو مات قبل الإتمام، كما لو نوى بعد غروب الشمس صوم يوم يجب صومه بخلاف ما لو نوى في النهار عن الغد. ثم يتفرع على كل من القراءتين أحكام، أما المتفرعة على الأول فقراءة «مالك» أرجى من قراءة «ملك» لأن أقصى ما يرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأسا برأس، والمالك يطلب العبد منه الكسوة والطعام والتربية والإنعام «يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم» «1» والملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه، والملك لا يختار من العسكر إلا كل قوي سويّ ويترك من كان مريضا عاجزا، والمالك إن مرض عبده عالجه، وإن ضعف أعانه. الملك له هيبة وسياسة، والمالك له رأفة ورحمة واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة. وأما المتفرعة على الثانية فإنه في الدنيا ملك الملوك قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ [آل عمران: 26] وفي الآخرة لا ملك إلا هو لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] وملكه لا يشبه ملك المخلوقين لأنهم إذ بذلوا قلّت خزائنهم ونفدت ذخائرهم، وأنه سبحانه كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكا. فإن أعطاك عشرة أولاد زاد في ملكه عشرة أعبد. ومن لوازم ملكه كمال الرحمة فلهذا قرن بقوله «ملك يوم الدين» قوله «رب العالمين الرحمن الرحيم» ومثله الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الفرقان: 26] قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ [الناس: 1، 2] فمن اتصف بهذه الصفة من ملوك الدنيا صدق عليه أنه ظل الله في الأرض. الكفر سبب لخراب العالم تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مريم: 90] والطاعة تتضمن صلاح المعاش والمعاد مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] فعلى الناس أن يطيعوا ملوكهم، وعلى الملوك أن يطيعوا مالك الملك حتى تنتظم أمور معاشهم ومعادهم لما وصف نفسه بأنه «ملك يوم الدين» أظهر للعالمين كمال عدله بنفي الظلم تارة وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 29] وبثبوت العدل أخرى وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الأنبياء: 47] فلا   (1) رواه مسلم في كتاب البر حديث 55. أحمد في مسنده (5/ 161) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 خلة للملك أعم نفعا وأتم وقعا من أن يكون عادلا. ومن هنا تظهر البركة في العالم أو ترتفع إن كان السلطان عادلا أو جائرا. يحكى أن أنوشروان خرج يوما إلى الصيد وانقطع عن عسكره واستولى عليه العطش، فرأى بستانا فيه رمان. فلما دخله قال لصبي فيه: أعطني رمانة، فأعطاه فعصرها وأخرج منها ماء كثيرا، فشربه وأعجبه ذلك، فعزم على أن يأخذ ذلك البستان من مالكه. ثم قال لذلك الصبي: أعطني رمانة أخرى، فأعطاه فعصرها فخرج منها ماء قليل فشربه فوجده عفصا. فقال: أيها الصبي، لم صار الرمان هكذا؟ فقال الصبي: فلعل ملك البلد عزم على الظلم فلشؤم ظلمه صار هكذا، فتاب أنو شروان في قلبه وأناب، وقال للصبي: أعطني رمانة أخرى فعصرها فوجدها أطيب من الأولى فقال للصبي: لم بدلت هذه الحالة؟ فقال: لعل الملك تاب عن ظلمه. فلما وجد أنو شروان مقالة الصبي مطابقة لأحواله في قلبه تاب بالكلية، فكان من ميامن عدله أن ورد في حقه قول نبينا صلى الله عليه وسلم «ولدت في زمن الملك العادل» . الثالثة: كونه مالكا وملكا معناه أنه قادر على ترجيح جانب وجود الممكنات على عدمها، وأنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة كما يشاء من غير مانع ولا منازع. وعلى قضية الحكمة والعدالة فهو الملك الحق وأنه ملك يوم الدين أيضا، لأن القدرة على إحياء الخلق بعد إماتتهم والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس لا يختص به أحد غيره، فإذا كان الحشر والنشور لا يتأتى إلا بعلم يتعلق بجميع المعلومات وقدرة تنفذ في كل الممكنات، فلا مالك ليوم الدين إلا الله. فإن قيل: لا يكون مالكا إلا إذا كان المملوك موجودا لكن القيامة غير موجودة فينبغي أن يقال «مالك يوم الدين» بالتنوين بدليل أنه لو قال: أنا قاتل زيد كان إقرارا، ولو قال: أنا قاتل زيدا كان تهديدا. قلنا: لما كان قيام القيامة أمرا حقا لا يجوز الإخلال به في الحكمة، جعل وجوده كالشيء القائم في الحال. ولو قيل: من مات فقد قامت قيامته زال السؤال. الرابعة: قالت القدرية: إن كان الكل من الله فثواب الرجل على ما لم يعمله عبث وعقابه على ما لم يفعله ظلم، فيبطل كونه مالكا ليوم الدين. قلنا: خلق الجنة وخلق أهلا لها، وخلق النار وخلق أهلا لها، وذلك أن له صفة لطف وصفة قهر كما ينبغي لكل ملك. فخلق لكل صفة مظهرا ولا يسأل عما يفعل، لأن كل سؤال ينقلب فهو باطل. الخامسة: في هذه السورة من أسماء الله تعالى خمسة: الله، الرب، الرحمن، الرحيم، المالك. كأنه يقول: خلقتك أولا فأنا الله، ثم ربيتك بأصناف النعم فأنا الرب، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 عصيت فسترت عليك فأنا الرحمن، ثم تبت فغفرت لك فأنا الرحيم، ثم أجازيك بما عملت فأنا مالك يوم الدين وذكر الرحمن الرحيم مرة في التسمية ومرة أخرى في السورة دليل على أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأوصاف، ومع ذلك عقبها بقوله «مالك يوم الدين» كيلا يغتروا بها. ونظيره غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ [غافر: 3] . السادسة: الحمد والمدح والتعظيم فيما بين الناس إنما يكون لكونه كاملا في ذاته وإن لم يكن له إحسان إليك، وإما لكونه محسنا إليك، وإما رجاء وطمعا في المستقبل، وإما خوفا ورهبة، فكأنه سبحانه يقول: إن كنتم تعظمون للكمال الذاتي فاحمدوني فإني أنا الله، وإن كنتم تعظمون للإحسان السالف فأنا رب العالمين، وإن كنتم تعظمون للإحسان المترقب فأنا الرحمن الرحيم، وإن كنتم تعظمون رهبة عن العقاب فأنا مالك يوم الدين. الثامن: في فوائد قوله «إياك نعبد» . الأولى: لا شك أن تقديم المفعول مفيد للاختصاص أي لا نعبد أحدا سواك والحاكم فيه الذوق السليم. واستحقاق هذا الاختصاص لله تعالى ظاهر، لأن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم فلا تليق إلا لمن صدر منه غاية الإنعام وهو الله تعالى. وذلك أن للعبد أحوالا ثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. أما الماضي فقد كان معدوما فأوجده وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم: 9] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: 122] وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: 28] وكان جاهلا فعلمه أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النحل: 78] ثم أسمعه وأبصره وأعقله وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ [الملك: 23] فهو إله بهذه المعاني. وأما الحاضر فحاجاته كثيرة، ووجوه افتقاره غير محصورة من أول عمره إلى آخره مع انفتاح أبواب المعصية وانخلاع ربقة الطاعة، فهو رب رحمن رحيم من هذه الوجوه. وأما المستقبل فأموره المتعلقة بما بعد الموت وأنه مالك يوم الدين بهذه الحيثية، فلا مفزع للعبد في شيء من أحواله إلا إليه، فلا يستحق عبادة العبد إلا هو. وأيضا ثبت بالدلائل القاطعة وجوب كونه تعالى عالما قادرا جوادا غنيا حكيما إلى غير ذلك من الصفات الكمالية، وأما كون غيره من الفلكيات والطبائع والنفوس كذلك فمشكوك فيه وإن كنا نجزم بأنه لا تأثير لها فوجب طرح المشكوك والأخذ باليقين، فلا معبود بالحق إلا الله سبحانه، وأيضا العبودية ذلة ومهانة، فكلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية أهنأ وأمرأ. ولما كان الله تعالى أشرف الموجودات وأعلاها وأولاها بالصفات العلى، فعبوديته أولى، وأيضا كل ما سوى الواجب الغني ممكن فقير، والفقير مشغول بحاجة نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 فلا يمكنه إفادة غيره. فدافع الحاجات هو الله فلا يستحق العبادة إلا هو وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23] . الثانية: تقديم ذكر الله تعالى يورث الخشية والمهابة حتى لا يلتفت في العبادة يمينا وشمالا بخلاف العكس. (يحكى) أن واحدا من المصارعين الأستاذين صارع بعض من هو دونه ولا يعرفه، فصرع الأستاذ مرارا فقيل له: فلان الأستاذ فانصرع في الحال وما ذاك إلا لاحتشامه بعد عرفانه. وأيضا ذكره تعالى أوّلا مما يورث العبد قوة يسهل بها عليه ثقل العبودية فوجب تقديمه، كما أن من أراد حمل ثقيل يقدم عليه دواء أو غذاء بعينه على ذلك، كما أن العاشق يسهل عليه جميع الآلام عند حضور معشوقه. وأيضا إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201] فالنفس إذا مسها طائف الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة طلع لها جلال الله من مشرق «إياك نعبد» فتصير مبصرة مستعدة لأداء حق العبودية. وأيضا إن بدأ بالعبادة فض إبليس قلبه أن المعبود من هو فيلقي في نفسه وساوس، أما إذا غير هذا الترتيب وقال: «إياك نعبد» كان بعيدا عن احتمال الشرك. وأيضا الواجب لذاته متقدم في الوجود فيناسب أن يكون مقدما في الذكر. وأيضا المحققون نظرهم على المعبود لا على العبادة، وعلى المنعم لا على النعمة، ولهذا قيل لبني إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [البقرة: 40] ولأمة محمد فَاذْكُرُونِي [البقرة: 152] فذكر المعبود عندهم أولى من ذكر العبادة. الثالثة: النون في قوله «نعبد» فيه وجوه من الحكمة منها: أنه تشريف من الله تعالى للعبد حيث لقنه لفظا ينبىء عن التعظيم والتكريم كقوله حكاية عن نفسه نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 2] كأنه قال: لما أظهرت عبوديتي ولم تستنكف أن تكون عبدا ليّ جعلناك أمة إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] ومنها أنه لو قال: إياك أعبد كان إخبارا عن كونه عبدا فقط، ولما قال: «إياك نعبد» صار معناه إني واحد من عبيدك، ولا ريب أن الثاني أدخل في الأدب والتواضع. ومنها أن يكون تنبيها على أن الصلاة بالجماعة أولى قال صلى الله عليه وسلم: «التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها» وهاهنا نكتة وهي أن الإنسان إذا أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة كيلا يتأذى منه جاره، وإذا كان ثواب الجماعة لا يفي بهذا القدر من الإيذاء فكيف يفي بما هو أكثر من ذلك إيذاء للمسلمين من الغيبة والتهمة والنميمة والسعاية وسائر أنواع الظلم؟ ومنها أن يكون المراد أعبدك والملائكة معي والحاضرون بل جميع عبادك الصالحين. ومنها أن المؤمنين إخوة فكأن الله تعالى قال: لما أثنيت عليّ بقولك «الحمد صلى الله عليه وسلم رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ارتفعت منزلتك عندنا، فلا تقتصر على إصلاح حالك بل عليك بالسعي في إصلاح حال جميع إخوانك فقل: «إياك نعبد وإياك نستعين» . ومنها أن العبد يقول: إلهي عبادتي مخلوطة بالتقصير وإني أخلطها بعبادة جميع العابدين، فلا يليق بكرمك أن تميز بين العبادات، ولا أن ترد الكل وفيها عبادة الأنبياء والأولياء بل الملائكة المقربين. وهذا كما أن الرجل إذا باع من غيره عشرة أعبد، فالمشتري إما أن يقبل الكل أو يرد الكل وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة. الرابعة: من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها وثقل عليه الاشتغال بغيرها لأن الكمال محبوب لذاته وأكمل أحوال الإنسان اشتغاله بخدمة مولاه، فإنه يستنير قلبه بنوره ويشرق عليه من جماله ولهذا قد ورد «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» وأيضا التكاليف أمانة إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الأحزاب: 72] وأداء الأمانة واجب عقلا وشرعا إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء: 58] وأداء الأمانات من أحد الجانبين سبب لأدائها من الجانب الآخر. قال بعض الصحابة: أتى أعرابي باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء فتعجبنا، فلما خرج لم يجد الناقة فقال: إلهي أديت أمانتك فأين أمانتي؟ قال الراوي: فزدنا تعجبا، فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وقد قطع يده وسلم الناقة إليه. وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «يا غلام احفظ الله في الخلوات يحفظك في الفلوات» . وأيضا الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى دار السرور، وركون من الخلق إلى حضرة الحق، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة. (يحكى) عن أبي حنيفة أن حية سقطت من السقف وتفرق الناس وهو في الصلاة فلم يشعر به. ووقعت الأكلة في بعض أعضاء عبد الله بن الزبير واحتاجوا إلى قطع ذلك العضو فقطع وهو في الصلاة ولم يشعر به. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان حين يشرع في الصلاة كانوا يسمعون من صدره أزيزا كأزيز المرجل. ومن استبعد فليقرأ قوله تعالى فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف: 31] فإذا كان لجمال البشر مثل هذا التأثير فكيف جلال الله وعظمته إذا تجلى على قلب الموحد العابد؟! وقد تحدث الحيرة والدهش عن رؤية بعض السلاطين فكيف إذا كان الوقوف بين يدي رب العالمين؟! واعلم أن العبادة لها ثلاث درجات، لأنه إما أن يعبد الله رغبة في ثوابه أو رهبة من عقابه، ويختص باسم الزاهد حيث يعرض عن متاع الدنيا وطيباتها طمعا فيما هو أشرف منها وأدوم، وهذه مرتية نازلة عند المحققين. وإما أن يعبد الله تشرفا بعبادته أو بقبول تكاليفه أو بالانتساب إليه، وهذه مرتبة متوسطة وتسمى بالعبودية. وإما أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 يعبد الله لكونه إلها ولكونه عبدا له، والإلهية توجب العزة والهيبة، والعبودية تقتضي الخضوع والذلة، وهذه أعلى الدرجات وتسمى بالعبودية وإليها الإشارة بقول المصلي: أصلي لله فإنه لو قال: أصلي لثواب الله أو هربا من عقابه فسدت صلاته. (يحكى) أن عابدا في بني إسرائيل اعتزل وعبد الله تعالى سبعين سنة، فأرسل الله تعالى إليه ملكا فقال: إن عبادتك غير مقبولة فلا تشق على نفسك ولا تجاهد، فأجاب العابد بأن الذي عليّ هو العبودية وإني لا أزال أفعل ما عليّ، فأما القبول وعدم القبول فموكول إلى المعبود. فرجع الملك فقال الله: بم أجاب العابد؟ فقال: أنت أعلم يا رب، إنه قال كذا وكذا. فقال الله تعالى: ارجع إليه وقل له: قبلنا طاعتك بسبب ثبات نيتك. والتحقيق أن إثبات نسبة الإمكان هو قصارى مجهود العابدين ونهاية مطامح أبصار العارفين. وفي العبادة انشراح صدور المؤمنين وإنها عاقبة حال المتقين. قال عز من قائل وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 97- 99 ] ولأن العبودية أشرف المقامات. مدح الله تعالى نبيه في قوله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] وافتخر عيسى بذلك أول ما نطق فقال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم: 30] وكان عليّ يقول: كفاني فخرا أن أكون لك عبدا وكفاني شرفا أن تكون لي ربا. اللهم إني وجدتك إلها كما أردت، فاجعلني عبدا كما أردت. ومنهم من قال: العبودية أشرف من الرسالة، فبالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق، وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق، وبالعبودية ينعزل عن التصرفات، وبالرسالة يقبل على التصرفات، ولهذا نال شرف التقدم في قول الموحد «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 172] . التاسع: في فوائد قوله «وإياك نستعين» . الأولى: لا شك أن للعبد قدرة بها يتمكن من الفعل والترك، وإنما يحصل الرجحان بمرجح. ولو كان ذلك المرجح من عند العبد عاد التقسيم، فلا بد أن ينتهي إلى الله تعالى. وأيضا كل الخلائق يطلبون طريق الحق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب، ولا يفوز به إلا بعضهم، فليس ذلك إلا بإعانة الحق. وأيضا قد يطلب الإنسان حاجة من غيره ويدافعه مدة مديدة ثم يقضي حاجته، فإلقاء تلك الداعية في القلب ليس إلا من الله، فثبت أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله. وتظهر فائدة الاستعانة في أنه ربما جعل الله تعالى ذلك واسطة إلى نيل المطلوب كالشبع الحاصل عقيب أكل الطعام ونحوه، فيسقط اعتراض الجبري والقدري فافهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الثانية: لقائل أن يقول: الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع فيه لا بعده، فهلا قدّمت الاستعانة على ذكر العبادة؟ والجواب كأنه يقول: شرعت في العبادة فأستعين بك على إتمامها حتى لا يمنعني مانع ولا يعارضني صارف، فإن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن. وأيضا إن قيل: الاستعانة مطلقة تتناول كل مستعان فيه فذكر العبادة كالوسيلة إلى طلب الإعانة على الحوائج وتقديم الوسيلة مناسب. الثالثة: لا أريد بالإعانة غيرك اقتداء بالخليل صلّى الله عليه وسلّم حيث قيد نمروذ يديه ورجليه ورماه إلى النار فجاءه جبرائيل وقال: هل لك حاجة؟ فقال له: أما إليك فلا. قال: فاسأل الله. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. وهاهنا نكتة وهي أن المؤمن في الصلاة مقيدة رجلاه عن المشي، ويداه عن البطش، ولسانه إلا عن القراءة والذكر، فكما أن الله قال يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء: 69] فكذلك تقول له نار جهنم: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي. الرابعة: لا أستعين غيرك لأن الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته، فأنا أقطع الواسطة ولا أنظر إلا إلى إعانتك. الخامسة: «إياك نعبد» تورث العجب بالعبادة فأردفه بقوله «وإياك نستعين» لإزالة ذلك. السادسة: هاهنا مقامان: معرفة الربوبية ومعرفة العبودية، وعند اجتماعهما يحصل الربط المذكور في قوله أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40] أما معرفة الربوبية فكمالها مذكور في قوله «الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين» فانتقال العبد من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلها، وحصول الفوائد للعبد حال وجوده يدل على كونه ربا رحمانا رحيما، وأحوال معاده تدل على أنه مالك يوم الدين، وأما معرفة العبودية فمبدؤها «إياك نعبد» وكمالها «إياك نستعين» في جميع المطالب، وإذا تم الوفاء بالعهدين ترتبت عليه الثمرة وهو قوله: «اهدنا» إلى آخره. وهذا ترتيب لا يتصور أحسن منه. السابعة: في الالتفات الوارد في السورة وجوه: منها أن المصلي كان أجنبيا عند الشروع في الصلاة، فلا جرم أثنى على الله بالألفاظ الغائبة إلى قوله: «مالك يوم الدين» . ثم الله تعالى كأنه يقول: حمدتني وأقررت بأني إله، رب العالمين، رحمن رحيم، مالك يوم الدين، فنعم العبد أنت يا عبد. رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل «إياك نعبد» . ومنها أنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام من كونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ربا لا يخرج شيء من ملكوته منعما على الخلق بأنواع النعم- جلائلها ودقائقها- مالكا للأمر كله في العاقبة، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بغاية الخضوع والاستعانة في المهام، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل «إياك» يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة، ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به. ومنها أن الدعاء بالحضور أولى كما أن الثناء في الغيبة أوقع وأحرى، وهكذا فعل الأنبياء عليهم السلام رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً [الشعراء: 83] رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] رَبِّ أَرِنِي [الأعراف: 143] رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ [الأنبياء: 89] ومنها أنه إذا شرع في الصلاة نوى القربة فأثنى على الله بما هو أهله، فاستجاب الله دعاءه في تحصيل تلك القربة ونقله إلى مقام الحضور من مقام الغيبة. الثامنة: اعلم أن المشركين طوائف، منهم من اتخذ إلهه من الأجسام المعدنية كالحجر والذهب والفضة والنحاس، ومنهم من اتخذه من النبات كالشجر المعين، ومنهم من اتخذه من الإنسان كعبدة المسيح وعزير، ومنهم من اتخذه من الأجسام البسيطة، إما السفلية كعبدة النار وهم المجوس، أو العلوية كعبدة الشمس والقمر وسائر الكواكب. ومنهم من قال: مدبر العالم نور وظلمة وهم الثنوية، ومنهم من قال: الملائكة عبارة عن الأرواح الفلكية ولكل إقليم روح من الأرواح الفلكية يدبره وكذا لكل نوع من أنواع هذا العالم، فيتخذون لتلك الأرواح صورا وتماثيل ويعبدونها وهم عبدة الملائكة. ومنهم من قال: للعالم إلهان، أحدهما خير وهو الله، والآخر شرير وهو إبليس. إذا عرفت ذلك فنقول: قد مر أن «الحمد لله» يتضمن التسبيح له وسائر الصفات منبئة عن سبب إثبات جميع أنواع «الحمد لله» «وإياك نعبد» يدل على التوحيد المحض والبراءة من كل ما يعبد من دون الله، وأن الله أكبر من جميع المعبودين، فيقوم مقام قوله «لا إله إلا الله والله أكبر» «وإياك نستعين» يدل على قوله «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» فثبت أن سورة الفاتحة مشتملة إلى هنا على الذكر المشهور «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» . العاشر في فوائد قوله «اهدنا الصراط المستقيم» . الأولى: سئل أن طلب الهداية من المؤمن وهو مهدي تحصيل للحاصل. وأجيب بأن المراد منه صراط الأولين في تحمل ما يشق، وكان تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى. يحكى أن نوحا عليه السلام كان يضرب في كل يوم مرات بحيث يغشى عليه وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 يقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. وأيضا إن في كل خلق من الأخلاق طرفي إفراط وتفريط هما مذمومان، والحق هو الوسط والصواب. فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مهتديا، لكنه لا بد مع ذلك من حصول الملكات والأخلاق الفاضلة التي هي وسط بين الطرفين ومستقيم بين المنحرفين. ففي القوة الشهوية طرف الإفراط فجور وطرف التفريط خمود وهما مذمومان، والوسط وهو استعمالها في مواضعها على قضية العدالة والشريعة محمود وهو العفة، وكذا في القوة الغضبية طرفا التهور والجبن مذمومان والوسط وهو الشجاعة محمود، وفي القوة النفسانية الجربزة والبله مذمومان والوسط وهو الحكمة محمود. وبالجملة فإنه يحصل من توسيط استعمال القوة الشهوية الحياء والرفق والصبر والقناعة والورع والحرية والسخاء، ومن توابع السخاء الكرم والإيثار والعفو والمروءة والمسامحة، ويلزم من توسط استعمال القوة الغضبية كبر النفس وعلو الهمة والثبات والحلم والسكون والتحمل والتواضع والحمية والرقة، ومن توسط استعمال القوة النطقية الذكاء وسرعة الفهم وصفاء الذهن وسهولة التعلم وحسن التعقل والتحفظ والتذكر، ويحصل من كمال التوسط في القوى الثلاث كمال العدالة ويتبعها الصداقة والألفة والوفاء والشفقة وصلة الرحم والمكافأة وحسن الشركة والتسليم والتوكل وتعظيم المعبود الحق وملائكته وأنبيائه وأولي الأمر والانقياد لأوامرهم ونواهيهم. والتقوى تكمل هذه المعاني وتتممها، ولأن القوة النطقية ذاتية للإنسان، والشهوية والغضبية حصلتا له بواسطة التعلق البدني، فكمال التوسط في النطقية أن يستعملها بحيث لا يمكن أزيد منها. وكمال التوسط في الأخريين أن يستعملهما بحيث لا يمكن أقل من ذلك ليفضي إلى تحصيل سعادة الدارين. وأيضا العلم النظري يقبل الزيادة بمعنى تواصل أوقاته وقلة الفترات، وبمعنى زيادة الأدلة فليس من علم بدليل كمن علم بأدلة، فلا موجود من أقسام الممكنات إلا وفيه دلالة على وجود الله وعلمه وقدرته، وجوده ورحمته وحكمته. وربما صح دين الإنسان بالدليل الواحد وبقي غافلا عن سائر الدلائل فكأنه يقول: عرفنا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وعلمك وقدرتك. وأيضا قد يراد بالصراط المستقيم الاقتداء بالأنبياء، وهو أن يكون الإنسان معرضا عما سوى الله مقبلا بكلية قلبه وفكره وذكره على الله، حتى لو أمر بذبح ولده لأطاع كالخليل، ولو أمر أن يذبح لانقاد كإسماعيل، ولو أمر بإلقاء نفسه في البحر امتثل كيونس، ولو أمر بتلمذة من هو أعلم منه بعد بلوغه أعلى منصب ائتمر كموسى مع الخضر. وعن خباب قال: شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه ويجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 لحمه وعظمه ما يصدّه ذلك عن دينه. وأيضا كأن العبد يقول: الأحباب يدعونني إلى طريق، والأعداء إلى طريق ثان، والشيطان إلى ثالث. وكذا القول في الشهوة والغضب والاعتقادات والآراء، والعقل ضعيف، والعمر قصير، والقضاء عسير، فاهدني هذا الطريق السوي الذي لا أزيغ به. حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت الله، فإذا أعرابي على ناقة له. فقال: يا شيخ إلى أين؟ فقال: إلى بيت الله. قال: كأنك مجنون، لا أرى لك مركبا ولا زادا والسفر طويل! فقال إبراهيم: إن لي مراكب كثيرة ولكنك لا تراها. قال: وما هي؟ قال: إذا نزلت عليّ بلية ركبت مركب الصبر، وإذا أسديت إليّ نعمة ركبت مركب الشكر، وإذا ألم بي القضاء ركبت مركب الرضا، وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى. فقال الأعرابي: سر بإذن الله فأنت الراكب وأنا الراجل. وقيل: الصراط القرآن أو الإسلام وليس بشيء، إذ يصير المعنى اهدنا صراط المتقدمين، مع أنه لم يكن لهم قرآن ولا إسلام، اللهم إلا أن يراد أصول هذه الشريعة وقوانينها كما قال فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] . وعن علي كرم الله وجهه: ثبتنا على الهداية كقوله رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا [آل عمران: 8] فكم من عالم يزل ومهتد يضل. وفي اختيار لفظ الصراط دون الطريق أو السبيل، تذكير للصراط الذي هو الجسر الممدود بين طرفي جهنم، سهل الله تعالى علينا عبوره ووروده. الثانية: إنما قبل «اهدنا» بلفظ الجمع لأن الدعاء متى كان أعم كان إلى الإجابة أقرب، ولهذا قال بعض العلماء لتلميذه: إذا قلت قبل القراءة «رضي الله عنك، وعن جماعة المسلمين» فإياك وأن تنساني في قولك «وعن جماعة المسلمين» فإن ذلك أوقع عندي من قولك «رضي الله عنك» ، لأن هذا تخصيص بالدعاء ويجوز أن لا يقبل، وأما قولك «وعن المسلمين» فإنه أرجى لأنه لا بد أن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة، وإذا أجاب الله دعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي. ومن هنا ورد في السنة أن يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل كل دعاء وبعده ، لأن الدعاء في الطرفين مستجاب البتة لأنه في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم فيستجاب الوسط بتبعية ذلك لا محالة. وأيضا قال صلّى الله عليه وسلّم: «ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها» . قالوا: يا رسول الله، ومن لنا بتلك الألسنة؟ قال: يدعو بعضكم لبعض لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك» وأيضا «الحمد لله» شامل لحمد جميع الحامدين، و «إياك نعبد» لعبادة الجميع، «وإياك نستعين» لاستعانة الكل، فلا جرم لما طلب الهداية طلبها للكل كما طلب الاقتداء بالصالحين جميعا في قوله: «صراط الذين أنعمت عليهم» والفرار من الطالحين جميعا في قوله: «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» . وإذا كان كذلك في الدنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 يرجى أن يكون كذلك في الآخرة وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] . الثالثة: الخط المستقيم أقرب خط يصل بين النقطتين، والعبد عاجز فلا يليق بضعفه إلا الطريق المستقيم. وأيضا المستقيم واحد وما سواه معوجة يشبه بعضها بعضا في الاعوجاج، فكان أبعد من الخوف وأقرب إلى الخلاص. وأيضا ميل الطباع إلى الاستقامة أكثري فلهذه الأسباب سئل الصراط المستقيم. الحادي عشر في فوائد قوله «صراط الذين أنعمت عليهم» . الأولى: حد النعمة بأنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، لأنه لو قصد الفاعل منفعة نفسه أولا على جهة الإحسان لم يكن نعمة فلا يستحق الشكر. ثم نقول: كل ما يصل إلى الخلق من نفع أو دفع ضر فهو من الله تعالى لقوله وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] ولأن الواصل من جهة غير الله ينتهي إليه أيضا لأنه الخالق لتلك النعمة، وكذلك للمنعم ولداعية ذلك الإنعام فيه. والنعم الواصلة إلينا بطاعاتنا هي أيضا من الله تعالى لأنها بتوفيقه وإعانته بأن أتاح الأسباب وأزاح الأعذار. وأول نعمة من الله تعالى على عبيده نعمة الحياة التي بها يمكن الانتفاع بالمنافع والاحتراز عن المضارّ قال تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: 28] ثم عقب ذلك بقوله هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] . الثانية: هل لله تعالى على الكافر نعمة أم لا؟ أنكر ذلك بعض أصحابنا لوجوه منها: قوله «صراط الذين أنعمت عليهم» فإنه لو كان له على الكفار نعمة لزم طلب صراط الكفار لأن المبدل منه وهو الصراط المستقيم في حكم المنحى. والجواب أن قوله «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» يدفع ذلك، ومنها قوله وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران: 178] والجواب أنه لا يلزم من أن لا يكون الإملاء خيرا ونعمة لهم أن لا يكون أصل الحياة وسائر أسباب الانتفاع نعمة، فإن الإملاء تأخير النقمة بعد ثبوت استحقاقها، فما قبل هذه الحالة لا يكون كذلك. على أن نفس الإملاء أيضا تمتيع حالي قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ [البقرة: 126] وليس هذا كمن جعل السم في الحلواء على ما ظن، وإنما هو كمن ناول شخصا حلواء لذيذة غير مسمومة ولكن ذلك الشخص لفساد مزاجه أو لاستعماله الحلواء لا كما ينبغي أفسد مزاج الحلواء أيضا وصيره كالسم القاتل بالنسبة إليه، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «نعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 المال الصالح للرجل الصالح» «1» وكيف لا تعم نعم الله تعالى وقد قال على العموم: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً [البقرة: 21، 22] وقال: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: 28] كل ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم. وقال: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الأعراف: 17] والشكر لا يكون إلا بعد النعمة. الثالثة: ما المراد بالنعمة المذكورة في قوله «أنعمت عليهم» ؟ قلنا: يتناول كل من كان لله عليه نعمة دينية ودنيوية. ثم إنه يخرج بقوله «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» كل من عليه نعمة دنيوية فقط ويبقى الذين أنعم الله عليهم في الدنيا والآخرة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وكما أن أصل النعم الدنيوية هي الحياة المستتبعة لكل المنافع، فكذلك أصل النعم الدينية هو الإيمان المستلزم لجميع الخيرات والسعادات. وكما أن كمال البدن بالحياة فكمال النفس بالإيمان وموتها بفقده إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النمل: 80] وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر: 22] وكما أن حياة البدن من الله فكذا الإيمان منه وبتوفيقه. وإضافة الإيمان إلى العبد إضافة الأثر إلى القابل وبذلك القبول يستأهل الثواب. والمؤمن لا يبقى مخلدا في النار، فإن من شرفه الله تعالى بأعظم الأنعام لن يعاقبه بأشد الآلام، فما الإنعام إلا بالإتمام. قيل: لو كان رعاية الأصلح على الله واجبا لم يكن ذلك إنعاما لأن أداء الواجب لا يسمى إنعاما. قلت: النزاع لفظي لأن الأصلح لا بد أن يصدر عنه، ولا يليق بحكمته وكماله خلاف ذلك ثم ما شئت فسمه. الثاني عشر في فوائد قوله «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» . الأولى: من المغضوب عليهم ومن الضالون؟ قلت: المغضوب عليهم هم المائلون في كل خلق أو اعتقاد إلى طرف التفريط ومنهم اليهود، والضالون هم المائلون إلى طرف الإفراط ومنهم النصارى. وإنما خص الأولون بالغضب عليهم لأن الغضب يلزمه البعد والطرد، والمفرّط في شيء هو المعرض عنه غير مجد بطائل فهو بعيد عن ذلك. وأما المفرط فقد أقبل عليه وجاوز حد الاعتدال، فغاب عن المقصود ومني بالحرمان كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ [الأنعام: 71] فاليهود فرطوا في شأن نبي الله ولم يطيعوه وآذوه حتى قالوا بعد أن نجاهم الله من عدوّهم يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138] لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] ولهذا قال عز   (1) رواه أحمد في مسنده (4/ 197، 202) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 من قائل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا [الأحزاب: 69] والنصارى أفرطوا وقالوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة: 73] روي عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «غير المغضوب عليهم اليهود والضالون النصارى» وتصديق ذلك من كتاب الله حيث قال في اليهود وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران: 112] وفي النصارى وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77] هذا شأن الفريقين. وأما المؤمنون فطلبوا الوسط بين المنحرفين وذلك من لطف الله تعالى بهم وفضله عليهم وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] وخير الأمور أوسطها. الثانية: الآية تدل على أن أحدا من الملائكة والأنبياء ما أقدم على عمل أو اعتقاد يخالف الحق وإلا لكان ضالا لقوله تعالى فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس: 32] يصلح للاقتداء به والاهتداء بطريقه. الثالثة: ما الفائدة في أن عدل من أن يقول اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلى ما عدل؟ قلت: الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» فقوله «صراط الذين أنعمت عليهم» يدل على الرجاء، وباقي الآية يدل على الخوف، فيكمل الإيمان بطرفيه وركنيه. الثالث عشر: في تفسير السورة مجموعة وفيه مناهج: المنهج الأول: نسبة عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ونسبة الأصل إلى الفرع، والنور إلى الظلمة، فكل شاهد. فله في الغائب أصل وإلا كان كسراب زائل وخيال باطل، وكل غائب فله في الشاهد مثال وإلا كان كشجرة بلا ثمرة ومدلول بلا دليل، وكل شريف فهو بالنسبة إلى ما دونه مطاع كما قال عز من قائل ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 20، 21] والمطاع في عالم الروحانيات مطاع في عالم الجسمانيات، والمطاع في عالم الأرواح هو المصدر، والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر. ولا بد من أن يكون بينهما ملاقاة ومجانسة وبهما تتم سعادة الدارين لأنهما يدعوان إلى الله بالرسالة. وحاصل الدعوة أمور سبعة تشتمل عليها خواتيم سورة البقرة، أربعة منها تتعلق بالمبدأ وهي معرفة الربوبية أعني معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285] واثنان منها تتعلق بالوسط أحدهما مبدأ العبودية وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا [البقرة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 285] والثاني كمال العبودية وهو الالتجاء إلى الله وطلب المغفرة منه غُفْرانَكَ رَبَّنا [البقرة: 285] وواحد يتعلق بالمعاد وهو الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] ويتفرع على هذه المراتب سبع مراتب في الدعاء والتضرع أولها رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [البقرة: 286] فضد النسيان هو الذكر وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ [الكهف: 24] وهذا الذكر إنما يحصل بقوله «بسم الله الرحمن الرحيم» . وثانيها رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [البقرة: 286] ودفع الإصر والثقل يوجب «الحمد لله رب العالمين» . وثالثها: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ [البقرة: 286] . وذلك إشارة إلى كمال رحمته «الرحمن الرحيم» ورابعها وَاعْفُ عَنَّا [البقرة: 286] لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة في يوم الدين «مالك يوم الدين» . وخامسها وَاغْفِرْ لَنا [البقرة: 286] لأنا التجأنا بكليتنا إليك وتوكلنا في جميع الأمور عليك «إياك نعبد وإياك نستعين» . وسادسها وَارْحَمْنا [البقرة: 286] لأنا طلبنا الهداية منك «اهدنا الصراط المستقيم» وسابعها أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: 286] «صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين» . فهذه المراتب ذكرها محمد صلى الله عليه وسلم في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج، فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة، فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من المصدر إلى المظهر، فلهذا السبب قال صلى الله عليه وسلم: «الصلاة معراج المؤمن» . المنهج الثاني: المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة: الشهوة والغضب والهوى. الشهوة بهيمية، والغضب سبعية، والهوى شيطانية أرضية، ولهذا قال: فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منها، والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه. قال تعالى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ [النحل: 9] أي الشهوة، والمنكر الغضب، والبغي الهوى، فبالشهوة يصير الإنسان ظالما لنفسه، وبالغضب ظالما لغيره، وبالهوى لربه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه، فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله، والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضا، والظلم الذي عسى الله أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه» ونتيجة الشهوة الحرص والبخل، ونتيجة الغضب العجب والكبر، ونتيجة الهوى الكفر والبدعة. ويحصل من اجتماع هذه الست في بني آدم خصلة سابعة هي الحسد وهو نهاية الأخلاق الذميمة، كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة، ولهذا السبب ختم الله تعالى مجامع الشرور الإنسانية بالحسد في قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ [الفلق: 5] كما ختم جوامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة في قوله يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس: 5، 6] روي أن إبليس أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون: من هذا؟ قال: إبليس ولو كنت إلها ما جهلت. فلما دخل قال فرعون: أتعرف في الأرض شرا مني ومنك؟ قال: نعم، الحاسد، وبالحسد وقعت فيما وقعت. ثم نقول: الأسماء الثلاثة في التسمية دافعة للأخلاق الثلاثة الأصلية، والآيات السبع التي هي الفاتحة دافعة للأخلاق السبعة، بيان ذلك من عرف الله تباعد عنه شيطان الهوى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: 23] يا موسى خالف هواك فإني ما خلقت خلقا نازعني في ملكي إلا هواك. ومن عرف أنه رحمن لم يغضب لأن منشأ الغضب طلب الولاية والولاية للرحمن الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الفرقان: 26] ومن عرف أنه رحيم صحح نسبته إليه فلا يظلم نفسه ولا يلطخها بالأفعال البهيمية. وأما الفاتحة فإذا قال «الحمد لله» فقد شكر الله واكتفى بالحاصل فزالت شهوته، ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد وبخله فيما وجد، ومن عرف أنه «مالك يوم الدين» بعد أن عرف إنه «الرحمن الرحيم» زال غضبه، ومن قال: «إياك نعبد وإياك نستعين» زال كبره بالأول وعجبه بالثاني، وإذا قال «اهدنا الصراط المستقيم» اندفع عنه شيطان الهوى، وإذا قال «صراط الذين أنعمت عليهم» زال عنه كفره، وإذا قال «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» اندفعت بدعته، وإذا زالت عنه الأخلاق الستة اندفع عنه الحسد، ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة، فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة. وهنا نكتة دقيقة تتعلق بالرب والإله وبسببها ختم القرآن عليها، كأنه قال: إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل أعوذ برب الناس، وإن أتاك من قبل الغضب فقل ملك الناس، وإن أتاك من قبل الهوى فقل إله الناس. المنهج الثالث: في أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يفتقر إليه الإنسان في معرفة المبدأ والوسط والمعاد «الحمد لله» إشارة إلى إثبات الصانع المختار العليم الحكيم المستحق للحمد والثناء والتعظيم. «رب العالمين» يدل على أن ذلك الإله واحد وأن كل العالمين ملكه وملكه وليس في العالم إله سواه، ولهذا جاء في القرآن الاستدلال بخلق الخلائق كثيرا قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: 258] الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: 78] رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 26] اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 21] اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق: 1، 2] وهذه الحالة كما أنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 في نفسها دليل على وجود الرب فكذلك هي في نفسها إنعام عظيم، وذلك أن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع، وكل منها مطابق للمطلوب وموافق للغرض كما يشهد به علم تشريح الأبدان. فلا أحق بالحمد والثناء من هذا المنعم المنان الكريم الرحمن الرحيم الذي شمل إحسانه قبل الموت وعند الموت وبعد الموت. «مالك يوم الدين» يدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يقدر بعد هذا اليوم يوما آخر يظهر فيه تمييز المحسن من المسيء والمظلوم من الظالم، وهاهنا تمت معرفة الربوبية. ثم إن قوله «إياك نعبد» إشارة إلى الأمور التي لا بد من معرفتها في تقرير العبودية وهي نوعان: الأعمال والآثار المتفرعة على الأعمال أما الأعمال فلها ركنان: أحدهما الإتيان بالعبادة وهو قوله «إياك نعبد» والثاني علمه بأنه لا يمكنه ذلك إلا بإعانة الله وهو قوله «وإياك نستعين» . وأما الآثار المتفرعة على الأعمال فهي حصول الهداية والتحلي بالأخلاق الفاضلة المتوسطة بين الطرفين المستقيمة بين المنحرفين «اهدنا الصراط المستقيم» إلى آخره وفي قوله «صراط الذين أنعمت عليهم» دليل على أن الاستضاءة بأنوار أرباب الكمال خلة محمودة وسنة مرضية «هم القوم لا يشقى بهم جليسهم» قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] وفي قوله «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» إشارة إلى أن التجنب عن مرافقة أصحاب البدع والأهواء واجب. عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي والجمر يوضع في الرماد فيخمد المنهج الرابع: قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد «بسم الله الرحمن الرحيم» يقول الله: ذكرني عبدي. وإذا قال: «الحمد لله رب العالمين» يقول الله: حمدني عبدي وإذا قال: «الرحمن الرحيم» يقول الله: عظمني عبدي. وإذا قال: «مالك يوم الدين» يقول الله: مجدني عبدي- وفي رواية فوض إلي عبدي- وإذا قال: «إياك نعبد» يقول الله: عبدي عبدي وإذا قال: «وإياك نستعين» يقول الله: توكل عليّ عبدي- وفي رواية وإذا قال: «اهدنا الصراط المستقيم» يقول الله: هذا لعبدي ما سأل «1» فقوله «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي» إشارة إلى أن أهم مهمات العبد أن يستنير   (1) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 38، 40. أبو داود في كتاب الصلاة باب 132. الترمذي في كتاب تفسير سورة الفاتحة باب 1. النسائي في كتاب الافتتاح باب 23. أحمد في مسنده (2/ 241، 285) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 قلبه بمعرفة الربوبية ثم بمعرفة العبودية، لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40] فلا جرم أنزل الله تعالى هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه العبد في الوفاء بذلك العهد وقوله «إذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله ذكرني عبدي» مناسب لقوله تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «1» «أنا جليس من ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» والذكر مقام عال شريف ذكره الله تعالى في القرآن كثيرا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب: 41] وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [الأعراف: 205] تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201] الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191] ولهذا وقع الابتداء به. وقوله «ذكرني عبدي» دل على أن ذاته المخصوصة صارت مذكورة بقوله «بسم الله الرحمن الرحيم» وهذا يدل على أن الله اسم علم. وقوله «إذا قال: الله رب العالمين يقول الله: حمدني عبدي» يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر لأنه أو كلام في أول خلق العالم حيث قالت الملائكة: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: 30] وآخر كلام في الجنة وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] ولأن الفكر في ذات الله تعالى غير ممكن «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله» وكل من تفكر في مخلوقاته ومصنوعاته كان وقوفه على رحمته وفضله وإحسانه أكثر فيحمد الله تعالى أكثر، فقوله «حمدني عبدي» شهادة من الله تعالى على وقوف العبد بعقله وفكره على وجوه فضله وإنعامه في ترتيب العالم وتربية العالمين، وأنه أقر بقلبه ولسانه بكرمه وإحسانه. قوله «وإذا قال: الرحمن الرحيم» «يقول الله: عظمني عبدي» يدل ذلك على أن الإله الكامل المكمل المنزه عن الشريك والنظير والمثل والند والضد، هو في غاية الرحمة والفضل والكرم مع عباده. ولا شك أن غاية ما يصل العقل والفهم والوهم إليه من تصور معنى الكمال والجلال ليس إلا هذا المقام وهو التعظيم لله. وقوله «وإذا قال: مالك يوم الدين يقول الله: مجدني عبدي» أي نزهني وقدسني عن الظلم وعن شبهة الظلم حيث قضيت معادا يحشر إليه العباد ويقضي فيه بين الظالم والمظلوم والقوي والضعيف. أيحسب الظالم في ظلمه ... أهمله القادر أم أمهلا ما أهملوه بل لهم موعد ... لن يجدوا من دونه موئلا   (1) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث (3، 18) . البخاري في كتاب التوحيد باب 15. الترمذي في كتاب الدعوات باب 131. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 53. أحمد في مسنده (2/ 251، 405) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وقوله «وإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال الله هذا بيني وبين عبدي» معناه أن «إياك نعبد» يدل على إقدام العبد على الطاعة والعبادة ولا يتم ذلك إلا بإعانة الله بخلق داعية فيه خالصة عن المعارض، فإن العبد غير مستقل بالإتيان بذلك العمل فهو المراد من قوله «وإياك نستعين» وقوله «وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم يقول الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» تقريره أن أهل العلم مختلفون بالنفي والإثبات في جميع المسائل الإلهية أو أكثرها، وفي المعاد والنبوات وغيرها مع استواء الكل في العقل والنظر. فالاهتداء إلى ما هو الحق في الأمر نفسه ليس إلا بهداية الله تعالى وإرشاده كما قالت الملائكة سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: 32] وقال إبراهيم عليه السلام لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام: 77] وقال موسى رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: 25، 26] . المنهج الخامس: آيات الفاتحة سبع والأعمال المحسوسة في الصلاة أيضا سبعة: القيام والركوع والانتصاب منه والسجود الأول والانتصاب منه والسجود الثاني والقعدة. فهذه الأعمال كالشخص والفاتحة لها كالروح، وإنما يحصل الكمال عند اتصال الروح بالجسد، فقوله «بسم الله الرحمن الرحيم» بإزاء القيام، ألا ترى أن الباء في بسم الله لما اتصل باسم الله حصل قائما مرتفعا. وأيضا التسمية لبداية الأمور «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله أبتر» والقيام أيضا أول الأعمال. وقوله «الحمد لله رب العالمين» بإزاء الركوع لأن الحمد في مقام التوحيد نظرا إلى الحق وإلى الخلق والمنعم والنعمة، لأنه الثناء على الله بسبب الإنعام الصادر منه إلى العبد، فهو حالة متوسطة بين الإعراض والاستغراق، كما أن الركوع متوسط بين القيام والسجود، وأيضا ذكر النعم الكثيرة مما يثقل الظهر فينحني وقوله «الرحمن الرحيم» مناسب للانتصاب، لأن العبد لما تضرع إلى الله بالركوع فاللائق برحمته أن يرده إلى الانتصاب ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إذا قال العبد: سمع الله لمن حمده نظر الله إليه بالرحمة» وقوله «مالك يوم الدين» مناسب للسجدة الأولى لدلالته على كمال القهر والجلال والكبرياء وذلك يوجب الخوف الشديد المستتبع لغاية الخضوع. وقوله «إياك نعبد وإياك نستعين» مناسب للقعدة بين السجدتين لأن إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت و «إياك نستعين» استعانة بالله في أن يوفقه للسجدة الثانية، وقوله «اهدنا الصراط المستقيم» سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية ليدل على نهاية الخشوع. وقوله «صراط الذين أنعمت عليهم» إلخ. مناسب للقعود لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابله الله بالإكرام والقعود بين يديه وحينئذ يقرأ «التحيات لله» كما أن محمدا صلى الله عليه وسلم قرأها في معراجه فالصلاة معراج المؤمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 المنهج السادس: آيات الفاتحة سبع وأعمال الصلاة المحسوسة سبعة كما تقدم، ومراتب خلق الإنسان سبع وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 12- 14] فنور آيات الفاتحة يسري إلى الأعمال السبعة، ونور الأعمال السبعة يسري إلى هذه المراتب فيحصل في القلب نور على نور، ثم ينعكس إلى وجه المؤمن «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» . المنهج السابع: إنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم معراجان: من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم من المسجد الأقصى إلى عالم الملكوت. هذا في عالم الحس، وأما في عالم الأرواح، فمن الشهادة إلى الغيب، ثم من الغيب إلى غيب الغيب، فهذا بمنزلة قوسين متلاصقين، فتخطاهما محمد صلى الله عليه وسلم فكان قاب قوسين. وقوله «أو أدنى» إشارة إلى فنائه في نفسه. والمراد بعالم الشهادة كل ما يتعلق بعالم الجسم والجسمانيات، وبعالم الأرواح ما فوق ذلك من الأرواح السفلية، ثم المتعلقة بسماء سماء إلى الملائكة الحافين من حول العرش، ثم إلى حملة العرش ومن عند الله الذين طعامهم ذكر الله وشرابهم محبته وأنسهم بالثناء عليه ولذتهم في خدمته لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 19، 20] وهكذا يتصاعد إلى أن ينتهي إلى نور الأنوار وروح الأرواح ولا يعلم تفاصيلها إلا الله أو من ارتضاه، والمقصود أن نبينا صلى الله عليه وسلم لما عرج وأراد أن يرجع قال رب العزة: المسافر إذا عاد إلى وطنه أتحف أصحابه وإن تحفة أمتك الصلاة الجامعة بين المعراجين الجسماني بالأفعال والروحاني بالأذكار. فليكن المصلي ثوبه طاهرا وبدنه طاهرا لأنه بالوادي المقدس طوى. وأيضا عنده ملك وشيطان، ودين ودنيا، وعقل وهوى، وخير وشر، وصدق وكذب، وحق وباطل، وحلم وطيش، وقناعة وحرص، وسائر الأخلاق المتضادة والصفات المتنافية، فلينظر أيها يختار فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة، اختار الصديق صحبة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يفارقه في الدنيا وفي القبر ويكون معه في القيامة وفي الجنة، وصحب كلب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا والآخرة قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119] ثم إذا تطهر فليرفع يديه إشارة إلى توديع الدنيا والآخرة وليوجه قلبه وروحه وسره إلى الله ثم ليقل «الله أكبر» أي من كل الموجودات بل هو أكبر من أن يقاس إليه غيره بأنه أكبر منه، ثم ليقل «سبحانك اللهم وبحمدك» وفي هذا المقام ينكشف له نور سبحات الجلال، ثم ليقل «تبارك اسمك» إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء والإعدام ليطالع حقيقة الأبد في البقاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فيتجلى له نور الأزل والأبد، ثم ليقل «وتعالى جدك» إشارة إلى أنه أعلى وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله محصورة في القدر المذكور، ثم ليقل «ولا إله غيرك» إشارة إلى أن صفات الجلال وسمات الكمال له تعالى لا لغيره، فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو وفي الحقيقة لا هو إلا هو، وهاهنا يكل اللسان وتدهش الألباب، ثم عد أيها المصلي إلى نفسك وحالك وقل «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض» فقولك «سبحانك اللهم وبحمدك» معراج الملائكة المقربين حيث قالوا وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: 30] وهو أيضا معراج محمد صلى الله عليه وسلم لأن معراجه مفتتح بقوله «سبحانك اللهم وبحمدك» وقولك «وجهت وجهي» معراج الخليل صلى الله عليه وسلم، وقولك «إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي» معراج الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. فقد جمع المصلي بين معراج الملائكة المقربين ومعراج عظماء الأنبياء والمرسلين ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» لتدفع العجب عن نفسك، وفي هذه المقام يفتح لك أحد أبواب الجنة وهو باب المعرفة، وبقولك «بسم الله الرحمن الرحيم» يفتح باب الذكر، وبقولك «الحمد لله رب العالمين» يفتح باب الشكر، وبقولك «الرحمن الرحيم» يفتح باب الرجاء، وبقولك «مالك يوم الدين» يفتح باب الخوف، وبقولك «إياك نعبد وإياك نستعين» بفتح باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية وبقولك «اهدنا الصراط المستقيم» يفتح باب الدعاء والتضرع ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] وبقولك: «صراط الذين أنعمت» إلخ. يفتح باب الاقتداء بالأرواح الطيبة والاهتداء بأنوارهم، فجنات المعارف الربانية انفتحت لك أبوابها الثمانية بهذه المقاليد الروحانية، فهذا بيان المعراج الروحاني في الصلاة، وأما الجسماني فأولى المراتب أن تقوم بين يدي الله كقيام أصحاب الكهف إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الكهف: 14] بل قيام أهل القيامة يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: 6] ثم اقرأ «سبحانك اللهم وبحمدك» ثم «وجهت وجهي» ثم «الفاتحة» وبعدها «ما تيسر لك من القرآن» واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك حتى تستحقرها، وإياك أن تنظر من عبادتك إلى الله فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين وهذا سر قوله: «إياك نعبد وإياك نستعين» واعلم أن نفسك إلى الآن جارية مجرى خشبة عرضتها على نار خوف الجلال فلانت، فاجعلها منحنية بالركوع ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى، فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض طاعة الله إلى نفسك «فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بغاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو وقل: «سبحان ربي الأعلى» فإذا سجدت ثانية حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة. ركوع واحد وسجدتان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 فبالركوع تنجو من عقبة الشهوات، وبالسجود الأول من عقبة العضب الذي هو رئيس المؤذيات، وبالسجود الثاني تنجو من عقبة الهوى الداعي إلى كل المضلات. فإذا تجاوزت هذه الصفات وتخلصت عن هذه الدركات، وصلت إلى الدرجات العاليات وملكت الباقيات الصالحات، وانتهيت إلى عقبة جلال مدبر الأرض والسموات، فقل عند ذلك «التحيات المباركات» باللسان، و «الصلوات» بالأركان و «الطيبات» بالجنان وقوة الإيمان بالله، فيصعد نور روحك وينزل نور روح محمد صلى الله عليه وسلم فيتلاقى الروحان ويحصل هناك الروح والريحان فقل «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» فعند ذلك يقول محمد صلى الله عليه وسلم «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» فكأنه قيل لك: بم نلت هذه الكرامات؟ فقل: بقولي: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا رسول الله» فقيل: إن محمدا الذي هداك أي شيء هديتك له صلى الله عليه وسلم؟ فقل «اللهم صل على محمد وآل محمد» ، فقيل لك: إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة: 129] فما جزاؤك له صلى الله عليه وسلم؟ فقل «كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين» فيقال لك: هذه الخيرات من محمد وإبراهيم أو من الله؟ فقل: بل من الحميد المجيد «إنك حميد مجيد» . ثم إن العبد إذا ذكر الله تعالى بهذه الأثنية والمدائح ذكره الله تعالى في محافل الملائكة «إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه» «1» فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى العبد فقال الله تعالى: إن الملائكة اشتاقوا إلى زيارتك وقد جاؤوك زائرين فابدأ بالسلام عليهم لتكون من السابقين، فقل عن اليمين وعن الشمال «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» فلا جرم إذا دخل المصلون الجنة فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتهم فنعم عقبى الدار. المنهج الثامن: أعظم المخلوقين جلالة ومهابة المكان والزمان، فالمكان فضاء لا نهاية له، وخلاء لا غاية له، والزمان امتداد وهمي شبيه بنهر خرج من قعر جبل الأزل فامتد ودخل في قعر الأبد، فلا يعرف لانفجاره مبدأ ولا لاستقراره منزل. فالأول والآخر صفة الزمان، والظاهر والباطن صفة المكان، وكمال هذه الأربعة «الرحمن الرحيم» فالحق سبحانه وسع المكان ظاهرا وباطنا، ووسع الزمان أولا وآخرا، وهو منزه عن الافتقار إلى المكان والزمان، فإنه كان ولا مكان ولا زمان، فعقد المكان بالكرسي وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [البقرة: 255] وعقد الزمان بالعرش وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود: 7] لأن جري الزمان يشبه جري الماء، فالعلو صفة الكرسي وَسِعَ كُرْسِيُّهُ [البقرة: 255] والعظمة صفة العرش رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: 129] وكمال العلو والعظمة لله   (1) المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255] والعلو والعظمة درجتان من درجات الكمال إلا أن العظمة أقوى وفوق الكل درجة الكبرياء «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري» «1» ولا يخفى أن الرداء أعظم من الإزار وفوق جميع الصفات صفة الجلال وهي تقدسه في هويته المخصوصة عن مناسبة الممكنات وبه استحق الإلهية، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» «2» وفي التنزيل وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: 27] فالمصلي يبتغي وجه الله، والداخل على السلطان يجب أن يتطهر من الأدناس والأرجاس، وأولى المراتب التطهر من دنس الذنوب تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم: 8] ثم من الدنيا حلالها وحرامها وهو الزهد، ثم من الكونين الدنيا والآخرة وهو مقام المعرفة، ثم من الالتفات إلى أعماله وهو مقام الإخلاص، ثم من الالتفات إلى عدم الالتفات وهو مقام المحسنين، ثم من الالتفات إلى كل ما سوى الله وهو مقام الصديقين، ثم قم قائما فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، [الروم: 30] واستحضر في نفسك جميع أقسام العالم من الروحانيات والجسمانيات فقل «الله أكبر» أي من الكل كما مر، أو من لا يراني ولا يسمع كلامي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «الإحسان أن نعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «3» أو أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأفهامهم كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: التوحيد أن لا تتوهمه أو أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته فإذا قلت «الله أكبر» فأجل طرف عقلك في ميادين جلال الله وقل «سبحانك اللهم وبحمدك» ثم قل «وجهت وجهي» ثم انتقل إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لكي تبصر فيها عجائب الدنيا والآخرة، وتطلع منها على أنوار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والكتب الإلهية والشرائع النبوية فتصل إلى الشريعة ومنها إلى الطريقة ومنها إلى الحقيقة وتشاهد درجات الكاملين ودركات الناقصين، فإذا قلت «بسم الله الرحمن الرحيم» أبصرت به الدنيا فباسمه قامت السموات والأرضون، وإذا قلت «الحمد لله رب العالمين» أبصرت به الآخرة فبالحمد قامت الآخرة وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] وإذا قلت «الرحمن الرحيم» أبصرت به عالم الجمال المشتمل على أصول النعم وفروع النوال، وإذا قلت «مالك يوم الدين» أبصرت به عالم الجلال وما يحصل هناك من الأحوال والأهوال، وإذا قلت   (1) رواه مسلم في كتاب البر حديث 36. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 16. أبو داود في كتاب اللباس باب 25. أحمد في مسنده (2/ 248) . (2) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 91. أحمد في مسنده (4/ 177) . [ ..... ] (3) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 31 باب 2. مسلم في كتاب الإيمان حديث 57. الترمذي في كتاب الإيمان باب 4. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 59. أحمد في مسنده (1/ 27، 51) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 «إياك نعبد» أبصرت به عالم الشريعة، وإذا قلت «وإياك نستعين» أبصرت به عالم الطريقة، وإذا قلت «اهدنا الصراط المستقيم» أبصرت به عالم الحقيقة وإذا قلت «صراط الذين أنعمت عليهم» أبصرت به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات، وإذا قلت «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» لاحظت دركات أهل التفريط والإفراط فإذا انكشفت لك هذه المقامات فلا تظن أنك قد بلغت الغايات بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء ولنفسك بالهوان وقل «الله أكبر» ثم انزل من صفة الكبرياء إلى العظمة وقل «سبحان ربي العظيم» ثم انتصب ثانيا وادع لمن وقف موقفك وحمد حمدك وقل «سمع الله لمن حمده» فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم. ولا تكبير في هذا المقام لأن التكبير من الكبرياء والهيبة والخوف وهذا مقام الشفاعة، ثم عد إلى التكبير وانحدر به إلى غاية العلو وقل «سبحان ربي الأعلى» لأن السجود أكثر تواضعا . روي أن لله ملكا تحت العرش اسمه حزقيل. فأوحى إليه أيها الملك طر فطار ثلاثين ألف سنة، ثم ثلاثين ألف سنة، فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني فأوحى الله إليه: لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ إلى الطرف الثاني من العرش. فقال الملك عند ذلك: سبحان ربي الأعلى. أما فوائد السجدتين فالأولى الأزل والثانية الأبد، والقعدة بينهما هي الدنيا، فتعرف بأزليته أنه لا أول له فتسجد له، وبأبديته أنه لا آخر له فتسجد له ثانيا. وأيضا الأولى فناء الدنيا في الآخرة، والثانية فناء الآخرة في جلال الله تعالى، وأيضا الأولى فناء الكل في أنفسها، والثانية بقاؤها ببقائه، وأيضا الأولى انقياد عالم الشهادة لقدرته، والثانية انقياد عالم الأرواح لعزته أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] وأيضا الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته، والثانية سجدة الخوف مما فاتنا من أداء حقوق كبريائه. وأيضا صلاة القاعدة على النصف من صلاة القائم فتواضع السجدتين بإزاء تواضع ركوع واحد، وأيضا ليكونا شاهدين للعبد على أداء العبادة، وأيضا ليناسب الوجود الأخذ من الوحدة إلى الكثرة ومن الفردية إلى الزوجية، وأيضا الانتصاب صفة الإنسان والانحناء صفة الأنعام والجثوم صفة النبات. ففي الركوع هضم للنفس بمرتبة واحدة، وفي السجود بمرتبتين، ولعل ما فاتنا من الفوائد أكثر مما أدركنا. المنهج التاسع في اللطائف: عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم سأل ربه فقال: ما جزاء من حمدك؟ فقال تعالى: الحمد لله فاتحة الشكر وخاتمته. فقال أهل التحقيق: من هاهنا جعلها الله فاتحة كتابه وخاتمة كلام أحبائه في جنته وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] وعن علي عليه السلام أن أول ما خلق الله العقل من نوره المكنون، ثم قال له: تكلم فقال: الحمد لله فقال الرب: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز عليّ منك. ونقل عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 آدم عليه السلام لما عطس قال: الحمد لله فأول كلام لفاتحة المحدثات الحمد، وأول كلام لخاتمة المحدثات الحمد، فلا جرم جعلها الله تعالى فاتحة كتابه. وأيضا أول كلام الله «الحمد لله» وآخر أنبيائه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الأول والآخر مناسبة، فجعل «الحمد لله» أول آية من كتاب محمد رسول الله، ولما كان كذلك وضع لمحمد رسول الله من كلمة الحمد اسمان: محمد وأحمد. وعند هذا قال صلى الله عليه وسلم «أنا في السماء أحمد وفي الأرض محمد» فأهل السماء في تحميد الله ورسوله أحمدهم، والله تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء: 19] ورسول الله محمدهم. أخرى: الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالرحمة والنعمة، فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال فلهذا قال «سبقت رحمتي غضبي» «1» . أخرى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه أحمد أي أكثر الحامدين حمدا فوجب أن تكون رحمة الله في حقه أكثر فلهذا جاء رحمة للعالمين. أخرى: إن من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى اسمه محمد وأحمد الحامد والمحمود على ما جاء في الروايات، وكلها تدل على الرحمة، لأن الحمد يتضمن النعمة فقال تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر: 49] فقوله «نبىء» إشارة إلى محمد وهو مذكور قبل العباد، والياء في قوله «عبادي» ضمير الله سبحانه. وكذا في «أني» و «أنا» و «الغفور» و «الرحيم» صفتان لله، فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول صلى الله عليه وسلم مع خمسة أسماء تدل على الرحمة، وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء الله تعالى تدل على الرحمة، ورحمة الرسول كثيرة وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ورحمة الله تعالى غير متناهية وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] فكيف يضيع المذنب فيما بين هذه الأصناف من الرحمة؟!. أخرى: في الفاتحة عشرة أشياء، خمسة من صفات الربوبية: الله الرب الرحمن الرحيم المالك، وخمسة من صفات العبودية: العبادة الاستعانة طلب الهداية طلب الاستقامة طلب النعمة في قوله «أنعمت عليهم» وكأنه قيل «إياك نعبد» لأنك أنت الله «وإياك نستعين» يا رب اهدنا يا رحمن، وارزقنا الاستقامة يا رحيم، وأفض علينا سجال فضلك يا مالك.   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15، 22. مسلم في كتاب التوبة حديث 14- 16. الترمذي في كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 242، 258) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أخرى: الإنسان مركب من خمسة أشياء: بدن ونفس شيطانية ونفس سبعبة ونفس بهيمية وجوهر ملكي عقلي. فتجلى اسم الله للجوهر الملكي فاطمأن إليه أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] وتجلى للنفس الشيطانية باسم الرب فلان وانقاد لطاعة الديان رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [المؤمنون: 97] وتجلى للنفس السبعية باسم الرحمن وهو مركب من القهر واللطف الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الفرقان: 26] فترك الخصومة والعدوان. وتجلى للنفس البهيمية باسم الرحيم أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة: 4] فترك العصيان، وتجلى للأبدان بصفة القهر والمالكية لأن البدن غليظ كثيف فيحتاج إلى قهر شديد لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] فدان. فلمكان هذه التجليات انغلقت له أبواب النيران وفتحت عليه أبواب الجنان ورجع القهقرى كما جاء، فلطاعة الأبدان قال: «إياك نعبد» ولطاعة النفس البهيمية قال: «وإياك نستعين» على ترك اللذات وارتكاب المنكرات، ولطاعة النفس السبعية قال: «اهدنا وأرشدنا وعلى دينك ثبتنا» ولطاعة النفس الشيطانية طلب الاستقامة فقال: «اهدنا الصراط المستقيم» ولجوهره العقلي الملكي طلب مرافقة الأرواح المقدسة لا المدنسة فقال: «صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين» . أخرى: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فشهادة أن لا إله إلا الله من تجلي نور اسم الله، وإقام الصلاة من تجلي نور اسم الرب لأن الرب من التربية، والعبد يربي أمانة عدد الصلاة، وإيتاء الزكاة من تجلي اسم الرحمن لأن الزكاة سببها الرحمة على الفقراء، وصوم رمضان من تجلي اسم الرحيم لأن الصائم إذا جاع يذكر جوع الفقراء فيعطيهم (يحكى) أن يوسف حين تمكن من مصر كان لا يشبع فقيل له في ذلك؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجياع. وأيضا الصائم يرحم نفسه لأنه إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات، فعند الموت يسهل عليه مفارقتها. ووجوب الحج من تجلي اسم «مالك يوم الدين» لأن الحج يوجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد وذلك يشبه سفر القيامة. وأيضا الحاج يكون عاريا حافيا حاسرا وهو يشبه أحوال القيامة. أخرى: الحواس خمس ولكل أدب فأدب البصر ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2] وأدب السمع الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 18] وأدب الذوق يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون: 51] وأدب الشم إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ [يوسف: 94] وأدب المس وَالَّذِينَ هُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: 6] فاستعن بأنوار الأسماء الخمسة: الله الرب الرحمن الرحيم المالك، على تأديب هذه الحواس الخمس. أخرى: الشطر الأول من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة لله فيفيض أنوارها على الأسرار، والشطر الثاني مشتمل على الصفات الخمس للعبد فتصعد منها أسراره إلى تلك الأنوار ويحصل للعبد معراج في قراءته، وتقرير الأسرار أن حاجة العبد إما لدفع ضر أو جلب خير، وكل منهما إما في الدنيا وإما في الآخرة، فهذه أربعة، وهاهنا قسم خامس هو الأشرف وذلك الإقبال على طاعة الله وعبوديته لا لأجل رغبة أو رهبة، فإن شاهدت نور اسم الله لم تطلب منه شيئا سوى الله، وإن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة، وإن طالعت نور الرحمن طلبت منه خيرات الدنيا، وإن طالعت نور الرحيم طلبت منه العصمة عن مضار الآخرة، وإن طالعت نور «مالك يوم الدين» طلبت منه الصون عن آفات الدنيا الموقعة في عذاب الآخرة أعاذنا الله منها. أخرى: للتجلي ثلاث مراتب: تجلي الذات قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام: 91] وهذا لعظماء الأنبياء والملائكة المقربين وهذه نهاية الأحوال ويدل عليه اسم الله، وتجلي الصفات وهو في أواسط الأحوال ويكون للأولياء وأولي الألباب الذين يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا [آل عمران: 191] ويدل عليه اسم الرحمن. وتجلي الأفعال والآيات وهو في بداية الأحوال ويكون لعامة العباد الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى [طه: 53- 54] ويدل علي لفظ الرحيم رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غافر:] . أخرى: في الفاتحة كلمتان مضافتان إلى اسم الله «بسم لله» و «الحمد لله» بسم الله لبداية الأمور والحمد الله لخواتيم الأمور، «بسم الله» ذكر «والحمد الله» شكر ببسم الله أستحق الرحمة رحمن الدنيا، وبالحمد لله أستحق رحمة أخرى رحيم الآخرة. كلمتان أضيف إليهما اسمان لله «رب العالمين» «مالك يوم الدين» فالربوبية لبداية حالهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: 172] والملك لنهاية حالهم لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] وبينهما اسمان مطلقان لوسط حالهم «الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» «1» .   (1) رواه الترمذي في كتاب البر باب 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 المنهج العاشر: للخلق خمس أحوال: أولها: الإيجاد والتكوين والإبداع ويدل عليه اسم الله. وثانيها: التربية في مصالح الدنيا ويدل عليه اسم الرب. وثالثها: التربية في معرفة المبدأ ويدل عليها اسم الرحمن. ورابعها: في معرفة المعاد ويدل عليها اسم الرحيم كي يقدم على ما ينبغي ويحجم عما لا ينبغي. وخامسها: نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى المعاد ويدل عليه اسم «مالك يوم الدين» ثم إن العبد إذا انتفع بهذه الأسماء صار من أهل المشاهدة فقال: «إياك نعبد» لأنك أنت الله الخالق «وإياك نستعين» لأنك أنت الرب الرازق «إياك نعبد» لأنك الرحمن «وإياك نستعين» لأنك الرحيم «إياك نعبد» لأنك الملك «وإياك نستعين» لأنك المالك، «إياك نعبد» لأنا ننتقل من دار الشرور إلى دار السرور ولا بد من زاد وخير الزاد العبادة، «وإياك نستعين» لأن الذي نكتسب بقوتنا وقدرتنا لا يكفينا فإن السفر طويل والزاد قليل. ثم إذا حصل الزاد بإعانتك فالشقة شاسعة والطرق كثيرة، فلا طريق إلا أن يطلب الطريق ممن هو بإرشاد السالكين حقيق «اهدنا الصراط المستقيم» . ثم إنه لا بد لسالك الطريق الطويل من رفيق ودليل «صراط الذين أنعمت عليهم» فالأنبياء أدلاء والصديقون والشهداء والصالحون رفقاء، غير المغضوب عليهم ولا الضالين لأن الحجب قسمان: نارية وهي الدنيا بما فيها، ونورية وهي ما سواها. اللهم ادفع عنا كل ما يحجب بينك وبيننا إنك رب العالمين ومالك يوم الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 (سورة البقرة) (وقد يقال السورة التي تذكر فيها البقرة مدنية غير آية نزلت يوم عرفة بمنى قوله تعالى واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله حروفها 25500 كلماتها 6121 آياتها عند أهل الكوفة 286) [سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) القراآت: «لا ريب» بالمد خلف والعجلي عن حمزة وخلف لنفسه، وكذلك قوله تعالى لا خَيْرَ ولا جَرَمَ وذلك لاجتماع الفتحة مع الألف أو لتأكيد معنى النفي للجنس «فيهى» ابن كثير، وكذلك يشبع كل هاء كناية في جميع القرآن. «هدى للمتقين» مدغما من غير غنة: حمزة وعلي وخلف ويزيد وورش من طريق النجاري، والهاشمي عن ابن كثير. وكذلك يدغمون النون الساكنة والتنوين في الراء حيث وقعت. أبو عمرو بالوجهين: إدغام الغنة وإظهارها، والباقون بإظهار الغنة. ولا خلاف بين القراء في إدغام أصل النون والتنوين في اللام والواو والراء والياء والميم، وإنما الخلاف بينهم في إظهار الغنة وإسقاطها وهي صوت الخيشوم «يؤمنون» غير مهموز: أبو عمرو ويزيد وورش والأعشى وحمزة في الوقف، وكذلك ما أشبههما من الأفعال إلا في أحرف يسيرة تذكر في مواضعها. الباقون: بالهمز. (باب في المد) (بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) بالمد: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن ذكوان، فلا يفرقون بين مدّ الكلمة والكلمتين. وكذلك روى ورش عن نافع. والباقون يفرقون فيمدون الكلمة ولا يمدون بين الكلمتين. فأطول الناس مدا ورش عن نافع، وحمزة وخلف في اختياره والأعشى، ومدهم بمنزلة أربع ألفات. وأوسطهم مدا علي وابن ذكوان وعاصم غير الأعشى، وأقصرهم مدا ابن كثير وأبو جعفر ونافع غير ورش وأبو عمرو وسهل ويعقوب وهشام. وأصل المد ألف ساكنة على قدر فتحة فيك فتحا تاما، وبالآخرة بترك الهمزة ونقلها إلى الساكن الذي قبلها حيث كان ورش، وكذلك حمزة في الوقف فإن مذهبه أن يقف على كل كلمة مهموزة بغير همزة (باب السكتة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 روي عن حمزة وحماد والشموني أنهم يسكتون على كل حرف ساكن بعده همزة سكتة لطيفة نحو: الأرض، والأنهار، وقالوا: آمنا، وأشباه ذلك. والسبب فيه التمكين والمبالغة في تحقيقها، لأن الهمزة بعد السكتة كالمبتدأ بها. والاختيار في الكلمة الواحدة أن لا تسكت على ساكن غير لام التعريف احترازا عن قطع الكلمة. الوقوف: «ألمّ» (ج) للاختلاف «لا ريب» ج على حذف خبر «لا» تقديره لا ريب فيه، ثم يستأنف «فيه هدى» ومن وصل جعل فيه خبر «لا» أو وصف ريب وحذف خبر «لا» تقديره «لا ريب فيه عند المؤمنين» . والوقف على التقديرين على «فيه» و «هدى» خبر مبتدأ محذوف أي هو هدى، ومن جعل «هدى» حالا للكتاب بإعمال معنى الإشارة في «ذلك» على تقدير: أشير إلى الكتاب هاديا لم يقف قبل «هدى للمتقين» (لا) لأن الذين صفتهم «ينفقون» لا للعطف، ليدخل عبد الله بن سلام وأصحابه في المتقين، فإن القرآن لهم هدى، وليدخل الصحابة المؤمنون بالغيب في ثناء الهدى ووعد الفلاح. ولو ابتدأ «والذين» كان «أولئك على هدى» خبرهم مختصا بهم. واختص هدى القرآن واسم التقوى بالذين يؤمنون بالغيب. «من قبلك» ج لاختلاف النظم بتقديم المفعول. «يوقنون» (ط) لأن أولئك مبتدأ وليس بخبر عما قبله، وكذلك على كل آية وقف بها إلا ما أعلم بعلامة (لا) المفلحون. التفسير وفيه أبحاث: البحث الأول في «ألم» اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها في قولهم (ألف، با، تا، ثا) أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم، لأن الضاد مثلا لفظ مفرد دال بالتواطؤ على معنى مستقل بنفسه غير مقترن بأحد الأزمنة، وذلك المعنى هو الحرف الأول من ضرب مثلا، فيكون لفظ الضاد اسما، ولهذا قد يتصرف في بعضها بالإمالة نحو (با، تا) وبالتفخيم نحو (با، تا) وبالتعريف والتنكير والجمع والتصغير والوصف والإسناد إليه والإضافة. وقولهم (با، تا، ثا) متهجاة ومقصورة نحو (لا) ثم قولهم كتبت باء بالمد نحو كتبت (لا) لا يدل على أنها حروف مثل (لا) : فإنهم إنما قالوا كذلك في التهجي لكثرة الاستعمال واستدعائها التخفيف، والذي رواه ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف» وأيضا ما وقع في عبارات المتقدمين أنها حروف التهجي خليق بأن يصرف إلى التسامح والتجوز لأنه اسم للحرف وهما متلازمان، أو لأن الحرف قد يطلق على الكلمة تسمية للجنس باسم النوع. ويحكى عن الخليل أنه سأل أصحابه: كيف تنطقون بالباء التي في ضرب، والكاف التي في ذلك؟ فقالوا: نقول باء، كاف. فقال: إنما جثتم بالاسم لا الحرف. وقال: أقول: ب، ك. ثم إنهم راعوا في هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 التسمية لطيفة، وهي أنهم جعلوا المسمى صدر كل اسم منها إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها، لأنه لا يكون إلا ساكنا. ومما يضاهيها في إبداع اللفظ دلالة على المعنى البسملة والحيعلة والتهليل ونحوها. وحكم هذه الأسماء سكون الإعجاز ما لم تلها العوامل فيقال: ألف، لام، ميم موقوفا عليها لفقد مقتضى الإعراب نحو. واحد، اثنان، ثلاثة، دار، ثوب، جارية. فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب نحو: هذه ألف، وكتبت ألفا، ونظرت إلى ألف. والدليل على أن سكونها وقف وليس ببناء أنها لو بنيت لحذي بها حذو «كيف» و «أين» و «هؤلاء» ولم يقل صاد، قاف، نون. مجموعا فيها بين الساكنين. وللناس في «الم» وما يجري مجراه من فواتح السور قولان: أحدهما أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله به، والتخاطب بالحروف المفردة سنة الأحباب في سنن المحاب، فهو سر الحبيب مع الحبيب بحيث لا يطلع عليه الرقيب: بين المحبين سر ليس يفشيه ... قول ولا قلم للخلق يحكيه عن أبي بكر، في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور. وعن علي كرم الله وجهه: إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي، وقال بعض العارفين: العلم كبحر أجري منه واد، ثم أجري من الوادي نهر، ثم أجري من النهر جدول، ثم أجري من الجدول ساقية. فالوادي لا يحتمل البحر، والنهر لا يحتمل الوادي، ولهذا قال عز من قائل: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرعد: 17] فبحور العلم عند الله تعالى فأعطى الرسل منها أودية، ثم أعطى الرسل من أوديتهم أنهارا إلى العلماء، ثم أعطى العلماء إلى العامة جداول صغارا على قدر طاقتهم، ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم، وهذا مأخوذ مما ورد في الخبر «للعلماء سر وللخلفاء سر وللأنبياء سر وللملائكة سر ولله من بعد ذلك كله سر. فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم، ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم، ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم، ولو اطلع الأنبياء على سر الملائكة لاتهموهم، ولو اطلع الملائكة على سر الله لطاحوا حائرين وبادوا بائدين» والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش. وسئل الشعبي عن هذه الحروف فقال: سر الله فلا تطلبوه. وعن ابن عباس أنه قال: عجزت العلماء عن إدراكها. وقيل: هو من المتشابه. وزيف هذا القول بنحو قوله تعالى أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء: 82] تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] وإنما يمكن التدبر ويكون تبيانا وهدى إذا كان مفهوما، وبقول صلى الله عليه وسلم: «إني تركت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي» «1» فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم؟ وأيضا لا يخاطب المكلف بما لا يفهم كما لا يخاطب العربي بالعجمي، ولا يجوز التحدي بما لا يكون معلوما، وعورض بقوله تعالى وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 7] والوقف هنا لأن الراسخين لو كانوا عالمين بتأويله كان الإيمان به كالإيمان بالمحكم، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح، ولا يكون في قوله كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [آل عمران: 7] فائدة على ما لا يخفى، وبقوله صلى الله عليه وسلم «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وقد روينا عن أكابر الصحابة ما روينا. وأيضا الأفعال التي كلفنا بها منها ما يظهر وجه الحكمة فيه كالصلاة فإن فيها تواضعا للمعبود والصوم ففيه كسر الشهوة والزكاة ففيها سد خلة المساكين، ومنها ما لا يظهر فيه الحكمة ككثير من أفعال الحج، ويحسن من الله تعالى الأمر بالنوعين لظهور الامتثال بهما، بل كمال الانقياد في النوع الثاني أظهر وأكثر لأنه تعبد محض. فلم لا يجوز أن يكون في الأقوال أيضا مثل ذلك، مع أن فيه فائدة أخرى هي اشتغال السر بذكر الله والتفكر في كلامه؟ القول الثاني: إن المراد من هذه الفواتح معلوم، ثم اختلفوا على وجوه: الأول: أنها أسماء وهو قول أكثر المتكلمين واختاره الخليل وسيبويه، كما سموا بلام والد حارثة بن لام الطائي، وكقولهم للنحاس صاد، وللسحاب عين، وللجبل قاف، وللحوت نون، وسعود تمام الكلام في هذا القول. الثاني: أنها أسماء الله تعالى. روي عن علي عليه السلام أنه كان يقول: يا كهيعص، يا حم عسق، ويقرب منه ما روي عن سعيد بن جبير أنها أبعاض أسماء الله تعالى، فإن «الر، حم، ن» مجموعها اسم «الرحمن» لكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في الجميع. الثالث: أنها أسماء القرآن وهو قول الكلبي والسدي وقتادة. الرابع: كل واحد من الحروف دال على اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته، فالألف إشارة إلى أنه أحد أول آخر أزلي أبدي، واللام إشارة إلى أنه لطيف، والميم إلى أنه مجيد ملك منان، وفي «كهيعص» الكاف كاف لعباده، والهاء هاد، والياء من الحكيم والعين عالم، والصاد صادق. أو الكاف محمول على الكبير والكريم. والياء على أنه مجير، والعين على العزيز والعدل، ويروى هذا عن ابن عباس. وعنه أيضا في «ألم» أنا الله أعلم، وفي «المص» أنا الله أعلم وأفصل، وفي «المر» أنا الله أرى. الخامس: أنها صفات الأفعال. الألف آلاؤه، واللام لطفه، والميم مجده، قاله محمد بن كعب القرظي. السادس: الألف من الله، واللام من   (1) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب 31. أحمد في مسنده (3/ 14، 17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 جبرائيل، والميم من محمد صلى الله عليه وسلم. أي أنزل الله الكتاب بواسطة جبرائيل على محمد صلى الله عليه وسلم. السابع: الألف أنا، واللام لي، والميم مني قاله بعض الصوفية. الثامن: أن ورودها مسرودة هكذا على نمط التعديد ليكون كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدى بالقرآن، أي إن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم، فلولا أنه كلام خالق القدر لم يعجز معشر البشر عن الإتيان بمثل الكوثر قاله المبرد وجم غفير. والتاسع: كأنه تعالى يقول اسمعوها مقطعة حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك، وهذا على طريقة تعليم الصبيان قاله عبد العزيز بن يحيى. العاشر: إن الكفار لما قالوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] أنزل الله تعالى هذه الأحرف رغبة في إصغائهم ليهجم عليهم القرآن من حيث لا يشعرون قاله أبو روق وقطرب. الحادي عشر: قول أبي العالية إنه حساب على ما روى ابن عباس أنه مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو سورة البقرة «آلم ذلك الكتاب» ثم أتى أخوة حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه عن الم وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو، أحق أنها أتتك من السماء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، كذلك نزلت فقال حيي: إن كنت صادقا إني لأعلم أجل هذه الأمة من السنين، ثم قال: كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى مدته إحدى وسبعون سنة؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال حيي: فهل غير ذلك؟ فقال: نعم المص فقال حيي: مائة وإحدى وستون فهل غير هذه؟ فقال: نعم الر قال حيي: نشهد إن كنت صادقا ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة فهل غير هذا؟ قال: نعم المر قال حيي: ندري بأي أقوالك نأخذ! فقال أبو ياسر: أما أنا فأشهد أن أنبياءنا قد أخبروا عن ملك هذه الأمة ولم يبينوا أنها كم تكون، فإن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقا فيما يقوله إني لأراه يستجمع له هذا كله، فقام اليهود وقالوا: اشتبه علينا أمرك فأنزل الله تعالى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7] . الثاني عشر: تدل على انقطاع كلام واستئناف كلام آخر. الثالث عشر: قول الأخفش إن الله تعالى أقسم بهذه الحروف المعجمة لشرفها من حيث إنها أصول اللغات، بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه، واقتصر على البعض والمراد الكل كما تقول: قرأت الحمد وتريد السورة كلها، أقسم الله بها أن هذا الكتاب هو المثبت في اللوح المحفوظ. الرابع عشر: أن النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام، الأميون وأهل الخط، والكتاب بخلاف النطق بأسامي الحروف فإنه كان مختصا بمن خط وقرأ، فلما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بها من غير تعلم خط وقراءة كان ذلك دليلا على أنه استفاد ذلك من قبل الوحي. الخامس عشر: قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 القاضي الماوردي: معناه ألم بكم ذلك الكتاب أي نزل، وهذا لا يتأتى في كل فاتحة. السادس عشر: الألف إشارة إلى ما لا بد منه من الاستقامة على الشريعة في أول الأمر إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: 30] واللام إشارة إلى الحاصل عند المجاهدات وهو رعاية الطريقة وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا [العنكبوت: 69] والميم إشارة إلى صيرورة العبد في مقام المحبة كالدائرة التي يكون نهايتها عين بدايتها وهو مقام الفناء في الله بالكلية وهو الحقيقة قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الأنعام: 91] . السابع عشر: الألف من أقصى الحلق، واللام من طرف اللسان وهو وسط المخارج، والميم من الشفة وهو آخر المخارج، أي أول ذكر العبد ووسطه وآخره لا ينبغي إلا لله. الثامن عشر: سمعت بعض الشيعة يقول: هذه الفواتح إذا حذف منها المكررات يبقى ما يمكن أن تركب منه على صراط حق نمسكه، وهذا غريب مع أنه متكلف فلهذا أوردته. واعلم أن الباقي من الفواتح بعد حذف المكرر أربعة عشر، نصف عدد حروف المعجم بعد الكسر. وقد أورد الله الفواتح في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم، وهذه الباقية تشتمل على أصناف أجناس الحروف. من المهموسة نصفها، الصاد والكاف والهاء والسين والحاء، ومن المجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون، ومن الشديد نصفها اك ط ق، ومن الرخوة نصفها لمر صعهسحين، ومن المطبقة نصفها ص ط، ومن المنفتحة نصفها الر كهوس ج ق ي ن، ومن المستعلية نصفها ق ص ط. ومن المنخفضة نصفها الم ر ك هـ ي ع س ح ن، ومن حروف القلقة نصفها ق ط. وأكثر ألفاظ القرآن من هذه الحروف، وهذا دليل على أن الله تعالى عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم تبكيتا لهم وإظهارا لعجزهم كما مر في الوجه الثامن، ويؤيد ذلك أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين والله أعلم. التاسع عشر: قيل: معناه ألست بربكم. الألف واللام من أوله والميم من آخره أي أخذت منكم كتاب العهد في يوم الميثاق. والمختار من هذه الأقوال عند الأكثرين القول بأنها أسماء السور، ثم إنه عورض بوجوه: الأول: أنا نجد سورا كثيرة اتفقت في التسمية بالم وحم والمقصود من العلم رفع الاشتباه. الثاني: لو كانت أسماء لاشتهرت وتواترت. الثالث: العرب لم يتجاوزوا بما سموا به مجموع اسمين نحو: معد يكرب وبعلبك، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة، فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغتهم. الرابع: لو كانت أسماء لاشتهرت السور بها، لكنها اشتهرت بغيرها نحو سورة البقرة وآل عمران. الخامس: هذه الألفاظ داخلة في السور وجزء الشيء متقدم على الشيء بالرتبة، واسم الشيء متأخر عن الشيء، فلزم أن يكون متقدما متأخرا معا وهو محال. وليس هذا لتسميتهم صاد للحرف الأول منه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فإن هذا كتسمية المفرد بالمؤلف فلا يلزم إلا تأخر المركب عن المفرد بوجهين، وهذا تسمية المؤلف بالمفرد ويلزم المحال المذكور. وأجيب عن الأول بما يجاب عن الأعلام المشتركة من أنها ليست بوضع واحد، مع أنه لا يبعد أن تجعل مشتركا حتى يتميز كل واحد من الآخر بعلامة أخرى لحكمة خفية. وعن الثاني بأن تسمية السورة بلفظة معينة ليست من الأمور العظام التي تتوفر الدواعي على نقلها. وعن الثالث بأن التسمية بثلاثة أسماء خروج عن كلام العرب، ولكن إذا جعلت اسما واحدا فأما منثورة نثر أسماء العدد فلا استنكار لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية نحو برق نحره، وكما لو سمي ببيت شعر أو بطائفة من أسماء حروف المعجم. وعن الرابع أنه لا يبعد أن يصير اللقب أشهر من الاسم. وعن الخامس أن تأخر ما هو متقدم باعتبار آخر غير مستحيل، وفي لسان الصوفية أن هيئة الصلاة ثلاث: القيام والركوع والسجود. فالألف إشارة إلى القيام، واللام إلى الركوع، والميم إلى السجود أي من قرأ فاتحة الكتاب في الصلاة التي هي معراج المؤمن شرفه الله بالهداية في قوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وعلى هذا فيكون ذلك الكتاب إشارة إلى الفاتحة لأنها أم الكتاب. ثم إن هذه الأسماء ضربان: أحدهما ما لا يتأتى فيه الإعراب نحو كهيعص المر وثانيهما ما يتأتى فيه الإعراب لكونه اسما فردا كصاد وقاف ونون، أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كحم وطس ويس فإنها موازنة لقابيل وهابيل، وكقولك طسم إذا فتح نونها صار كدرابجرد. فالنوع الأول محكي ليس إلا، والثاني فيه أمران الإعراب والحكاية، فإذا أعرب منع الصرف للعملية والتأنيث قال الشاعر: يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم؟ والحكاية أن تجيء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته نحو قولك «بدأت بالحمد لله» قال ذو الرمة: سمعت الناس ينتجعون غيثا ... فقلت لصيدح انتجعي بلالا وأما من قرأ صاد وقاف ونون مفتوحات فبفعل مضمر نحو «اذكر» أو حركت لالتقاء الساكنين. واستكره جعلها مقسما بها على طريق قولهم «نعم الله لأفعلن» على حذف حرف الجر وإعمال فعل القسم، لأن القرآن والقلم بعدها محلوف بهما. واستكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم عليه واحد ولهذا قال الخليل: الواو الثانية في قوله عز من قائل وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى. وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل: 1، 2] واو العطف لا القسم نحو «وحياتي ثم حياتك لأفعلن» ولو كان انقضى قسمه بالأول على شيء لجاز أن يستعمل كلاما آخر نحو «بالله لأفعلن تالله لأخرجن» ولا سبيل فيما نحن بصدده إلى جعل «الواو» للعطف لمخالفة الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الأول في الإعراب، اللهم إلا أن تقدر مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها فقد جاء عنهم «الله لأفعلن» مجرورا غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة، وأما من قرأ صاد وقاف بالكسر فلالتقاء الساكنين. وهذه الفواتح جاءت في المصحف مكتوبة على صور الحروف أنفسها لا على صور أساميها، لأن المألوف أنه إذا قيل للكاتب اكتب «صاد» مثلا فإنه يكتب مسماها ص. وأيضا اشتهار أمرها بأن المراد بها هنا الأسامي لا المسميات أمن وقوع اللبس فيها، وأيضا خطان لا يقاسان، خط المصحف لأنه سنة، وخط العروض لأن المعتبر هناك الملفوظ. ومن لم يجعل هذه الفواتح أسماء السور فلا محل لها عنده كما لا محل للجمل المبتدأة والمفردات المعدودة، ومن جعلها أسماء للسور فسنخبرك عن تأليفها مع ما بعدها الله حسبي. البحث الثاني في قوله. «ذلك الكتاب» وفيه مسائل: الأولى: إنما صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد لأنه وقعت الإشارة بذلك إلى «الم» بعد ما سبق التكلم به، والمنقضي في حكم المتباعد ولهذا يحسب الحاسب ثم يقول فذلك كذا، أو لأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئا: احتفظ بذلك، أو لأنه وإن كان حاضرا نظرا إلى ألفاظه لكنه غائب نظرا إلى أسراره وحقائقه، أو لأنه على مقتضى الوضع اللغوي لا العرفي، أو لأنه إشارة إلى ما نزل بمكة قبل سورة البقرة. وقد يسمى بعض القرآن قرآنا، أو لأنه إشارة إلى ما وعد به الرسول عند مبعثه إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] أو لأنه إشارة إلى ما أخبر به الأنبياء أن الله سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل، أو المراد أن هذا المنزل هو ذلك المثبت في اللوح المحفوظ كقوله وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: 4] . الثانية: إنما ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة في بعض الوجوه نظرا إلى صفته وهو الكتاب كقولك «هند ذلك الإنسان» قال الذبياني: نبئت نعمي على الهجران عاتبة ... سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري وإن جعلت الكتاب خبرا فنظرا إلى أن ذلك في معناه ومسماه فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير كما أجري عليه في التأنيث في قولهم: «من كانت أمك» . الثالثة: للقرآن أسماء كثيرة منها: الكتاب- وقد تقدم- ومنها الفرقان تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ [الفرقان: 1] لأنه نزل متفرقا في نيف وعشرين سنة، أو لأنه يفرق بين الحق والباطل. ومنها التذكرة والذكرى والذكر وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [الحاقة: 48] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 [الذاريات: 55] وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] أي ذكر من الله تعالى به ذكر به عباده فعرفهم تكاليفه أو شرف وفخر. ومنها التنزيل وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 192] ومنها الحديث اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر: 23] شبهه بما يتحدث به فإن الله تعالى خاطب به المكلفين. ومنها الموعظة قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يونس: 57] ومنها الحكم والحكمة والحكيم والمحكم وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا [الرعد: 37] حِكْمَةٌ بالِغَةٌ [القمر: 5] يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 1، 2] كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [فصلت: 2] ومنها الشفاء والرحمة وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82] ومنها الهدى والهادي هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] ومنها الصراط المستقيم وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً [الأنعام: 153] ومنها حبل الله وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [آل عمران: 103] ومنها الروح وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] لأنه سبب لحياة الأرواح. ومنها القصص إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران: 62] ومنها البيان والتبيان والمبين هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ [آل عمران: 138] تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [يوسف: 1] ومنها البصائر هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 203] ومنها الفصل إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق: 13] ومنها النجوم فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: 75] لأنه نزل نجما نجما. ومنها المثاني مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر: 23] لأنه يثنى فيه القصص والأخبار. ومنها النعمة وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11] قال ابن عباس: أي القرآن. ومنها البرهان قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النساء: 174] ومنها البشير والنذير قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً [فصلت: 3، 4] ومنها القيم قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً [الكهف: 2] ومنها المهيمن مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: 48] ومنها النور وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الأعراف: 157] ومنها الحق وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ [الحاقة: 51] ومنها العزيز وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت: 41] ومنها الكريم إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة: 77] ومنها العظيم وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] ومنها المبارك كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ [ص: 29] فهذه جملة الأسماء وسيجيء تفاسيرها في مواضعها. الرابعة: في تأليف ذلك الكتاب مع «الم» اسما للسورة ففي التأليف وجوه: أن يكون «الم» مبتدأ أو «ذلك» مبتدأ ثانيا «والكتاب» خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول أي هو الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا كما تقول: هو الرجل أي الكامل في الرجولية وكقوله: هم القوم كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 القوم يا أم خالد. وأن يكون الكتاب صفة ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود، وأن يكون «الم» خبر مبتدأ محذوف أي هذه «الم» ، ويكون «ذلك» خبرا ثانيا أو بدلا على أن الكتاب صفة، وأن يكون هذه «الم» جملة، «ذلك الكتاب» جملة أخرى، وفقد العاطف لأن الثانية بيان للأولى. وإن جعلت «الم» بمنزلة الصوت كان «ذلك» مبتدأ خبره «الكتاب» أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، أو «الكتاب» صفة والخبر ما بعده، أو قدر مبتدأ محذوف أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف «ذلك الكتاب» . وفي قراءة عبد الله بن مسعود «الم تنزيل الكتاب» . البحث الثالث في قوله «لا ريب فيه» الريب مصدر رابني وحقيقته قلق النفس. روى الحسن بن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» «1» فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة أي كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق له النفس، وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له. ومنه ريب الزمان لنوائبه المقلقة، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بظبي حاقف أي معوج مضطجع وهم محرمون فقال: لا يريبه أحد بشيء أي لا يزعجه. والحاصل أن الريب شك وزيادة ظن سوء، فإن قلت: كيف نفي الريب على سبيل الاستغراق، وكم من شقي مرتاب فيه؟ قلت: ما نفي أن أحدا لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقا للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه ومثله وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] لم يقل «وإذا كنتم» مع وقوع الشك منهم في الواقع دلالة على أن الشك فيه مما لا ينبغي أن يوجد إلا على سبيل الفرض والتقدير، ولو فرض فوجه إزالته أن يجردوا أنفسهم ويبرزوا قواهم في البلاغة هل تتم للمعارضة أم تتضاءل دونها. فإن قلت: فهلا قدم الظرف على الريب كما قدم على الغول في قوله تعالى لا فِيها غَوْلٌ [الصافات: 47] قلنا: لأن المقصود منها ليس إلا نفي الريب عنه وإثبات أنه حق وصدق، ولو عكس لأفاد ذلك مع ما ليس بمراد ولا هو بصادق في نفس الأمر وهو التعريض بأن ريبا في غيره من الكتب كما أن في قوله: لا فِيها غَوْلٌ [الصافات: 47] تعريضا بأن خمور الدنيا تغتال العقول. وقرأ أبو الشعثاء «لا ريب» فيه بالرفع. قيل: والفرق بينها وبين المشهورة، أن المشهورة توجب الاستغراق، وهذه تجوزه. ويمكن أن يقال: كلاهما يوجب الاستغراق إلا أن الأول بطريق نفي الماهية، والثاني لأن قوله «لا ريب» جواب قول القائل هل ريب فيه، وهذا يفيد ثبوت فرد واحد فنقيضه يكون سلب جميع الأفراد.   (1) رواه البخاري في كتاب البيوع باب 3. الترمذي في كتاب القيامة باب 60. أحمد في مسنده (3/ 153) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 البحث الرابع في قوله «هدى للمتقين» وفيه مسائل: الأولى: في حقيقة الهدى هو مصدر على فعل كالسرى وهو على الأصح عبارة عن الدلالة. وقيل: بشرط كونها موصلة إلى البغية بدليل وقوعه في مقابل الضلالة أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: 16] ولأنه يقال مهدي في معرض المدح. فلو احتمل أن يقال هدى فلم يهتد لم يكن مدحا، ولأن مطاوعه «اهتدى» فيلزمه. وأجيب بأن مقابل الضلالة الاهتداء لا الهدى. وبأن قولنا «مهدي» إنما أفاد المدح لأنه من المعلوم أن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت كالعدم، وبالمنع من أن اهتدى لازم هدى لزوما كليا إذ يصح في العرف أن يقال: هديته فلم يهتد، قال عز من قائل: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: 17] وقال بعضهم: الهدى الاهتداء، فإن زعم مطلقا فخطأ لوقوع صفة للقرآن، وإن زعم حينا فصحيح لوقوعه في مقابلة الضلالة. الثانية: المتقي اسم فاعل من وقاه فاتقى. والوقاية فرط الصيانة، وهذه الدابة تقي من وجئها إذا أصابها طلع من غلظ الأرض ورقة الحافر فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء. وهو في الشرع المؤتمر للمأمورات المجتنب عن المحظورات. واختلف في الصغائر أنه إذا لم يتقها فهل يستحق هذا الاسم؟ روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس» فحقيقة التقوى الخشية يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ [لقمان: 33] وقد يراد بها الإيمان وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الفتح: 26] أي التوحيد. وقد يراد التوبة وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا [الأعراف: 96] أي تابوا. وقد يراد الطاعة أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل: 2] وقد يراد ترك المعصية وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة: 189] وقد يراد الإخلاص فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32] أي من إخلاصها والتقوى مقام شريف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا [النحل: 128] وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة: 197] إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] . وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده» وقال علي عليه السلام: التقوى ترك الإصرار على المعصية، وترك الاغترار بالطاعة. وعن إبراهيم بن أدهم: أن لا يجد الخلق في لسانك عيبا، ولا الملائكة المقربون في أفعالك عيبا، ولا ملك العرش في سرك عيبا. الواقدي: أن تزين سرك للحق كما زينت ظهرك للخلق. ويقال: التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك. ولله در القائل: خل الذنوب صغيرها. وكبيرها فهو التقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 كن مثل ماش في طري ... ق الشوق يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة ... إن الجبال من الحصى وفي قوله «هدى للمتقين» ثم في موضع آخر شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ [البقرة: 185] دليل على أن الناس محصورون في المتقين، والباقون كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: 179] . الثالثة: لم اختص كون القرآن هدى للمتقين، وأيضا المتقي مهتد فكيف يهتدي ثانيا؟ والجواب أن المتقين لما كانوا هم المنتفعين بالهداية خصوا بالذكر مدحا لهم كقوله تعالى إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45] إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: 11] مع أنه صلى الله عليه وسلم منذر كل الناس. وأيضا قوله «هدى للمتقين» كقولك للعزيز المكرم «أعزك الله وأكرمك» تريد طلب الزيادة واستدامة ما هو ثابت فيه. وبوجه آخر سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين نحو «من قتل قتيلا فله سلبه» «1» فهذا مجاز من باب تسمية الشيء بما هو آيل إليه واللطف فيه أنه لو قال هدى للصائرين إلى التقوى بعد الضلال كان إطنابا في غير موضعه، فإن تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده هو اللائق بالمقام، فاختص الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا. فإن قلت: كيف وصفت القرآن بأنه كله هدى وفيه مجمل ومتشابه لا يهتدي فيه إلى المقصود إلا بحكم العقل، فيكون الهدى في ذلك للعقل لا للقرآن؟ ومما يؤكد ما قلنا، ما نقل عن علي عليه السلام أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولا إلى الخوارج: لا تحتج عليهم بالقرآن فإنه خصم ذو وجهين. ولهذا كان فرق الإسلام المحق منهم والمبطل يحتجون به، قلنا: المتشابه لما لم ينفك عما يبين المراد معه على التعيين عقلا كان أو سمعا صار كله هدى. فإن قيل: كل ما يتوقف صحة كون القرآن هدى على صحته كمعرفة الله تعالى وصفاته وكمعرفة النبوة، فالقرآن ليس هدى فيه فكيف جعل هدى على الإطلاق؟ قلنا: المراد كونه هدى في تعريف الشرائع والمطلق لا يقتضي العموم، أو كونه هدى في تأكيد ما في العقول أيضا فيعم. الرابعة: محل «هدى للمتقين» الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف، أو خبر مع «لا ريب فيه» لذلك أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدم خبرا عنه، ويجوز أن ينتصب على الحال والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أنه يقال: «الم» جملة   (1) رواه البخاري في كتاب الخمس باب 18. مسلم في كتاب الجهاد حديث 42. أبو داود في كتاب الجهاد باب 136. الترمذي في كتاب السير باب 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، و «ذلك الكتاب» جملة ثانية، و «لا ريب فيه» ثالثة، و «هدى للمتقين» رابعة. وفقد العاطف بينها لمجيئها متآخية آخذا بعضها بحجرة بعض، لأنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقريرا لجهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان تسجيلا بكماله، فلا كمال أكمل مما للحق واليقين، ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، ثم في كل من الجمل نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه كما مر في الوجه الثامن، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة أي الكتاب الذي يستأهل أن يقال له الكتاب، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر الذي هو هدى موضع هاد وإيراده منكرا والإيجاز في ذكر المتقين. البحث الخامس في قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. الآية وفيه مسائل: الأولى: «الذين يؤمنون» إما موصول بالمتقين صفة، أو نصب على المدح، أو رفع كذلك بتقدير أعني الذين، أو هم الذين، أو مرفوع بالابتداء مخبر عنه «بأولئك على هدى» . الثانية: «الذين يؤمنون» على تقدير كونه صفة يكون إما واردا بيانا وكشفا وذلك إذا فسر المتقي بأنه الذي يفعل الحسنات ويجتنب السيئات، لأن الإيمان أساس الحسنات والصلاة أم العبادات البدنية قال صلى الله عليه وسلم: «الصلاة عمادة الدين» «1» «وبين العبد وبين الكفر ترك الصلاة» «2» والزكاة أفضل العبادات المالية قال صلى الله عليه وسلم: «الزكاة قنطرة الإسلام» فاختصر الكلام اختصارا بذكر ما هو كالعنوان لسائر الطاعات وكالأصول لبواقي الحسنات ويندرج فيها اجتناب الفواحش والمنكرات لقوله عز من قائل إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] وإما مسرودة مع المتقين مفيدة غير فائدتها وذلك إذا فسر المتقي بالمجتنب عن المعاصي فقط. ثم إنه يكون قد وصف بالإيمان وهو فعل القلب وبأداء الصلاة والزكاة وهما من أفعال الجوارح، وهذا ترتيب مناسب لأن لوح القلب يجب تخليته عن النقوش الفاسدة أولا، ثم تحليته بالعقائد الحقة والأخلاق الحميدة، وإما معدودة عدا على سبيل المدح والثناء وذلك إذا فرض المتقي موسوما بهذه السمات، مشهورا بهذه   (1) رواه الترمذي في كتاب الإيمان باب 8. أحمد في مسنده (5/ 231، 237) . بلفظ « .... وعموده الصلاة» . (2) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 134. أبو داود في كتاب السنّة باب 15. الترمذي في كتاب الإيمان باب 9. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الصفات، غير محتاج لذلك إلى البيان والإيضاح كصفات الله الجارية عليه تعالى تمجيدا وتعظيما. الثالثة الأيمان إفعال من الأمن. يقال: أمنته وآمنته غيري. ثم يقال: أمنه إذا صدقه. وحقيقته أمنه التكذيب. والمخالفة والتعدية بالباء لتضمينه معنى أقر واعتبر ووثق به. قال في التفسير الكبير: اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان على أربعة أقوال: الأول: قول المعتزلة والخوارج والزيدية وأهل الحديث أنه اسم الأفعال القلوب واللسان والجوارح، لكن المعتزلة قالوا: الإيمان إذا عدي بالباء فمعناه التصديق على تضمين الإقرار أو الوثوق كما مر من حيث اللغة وأما إذا ذكر مطلقا فمنقول إلى معنى آخر وهو أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه ويصدقه بعمله. فمن أخل بالاعتقاد وإن شهد وعمل فهو منافق، ومن أخل بالشهادة فهو كافر، ومن أخل بالعمل فهو فاسق. ثم اختلفوا فبعضهم- كواصل بن عطاء والقاضي عبد الجبار- قالوا: الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة، أو من باب الأقوال أو الافعال أو الاعتقادات. وبعضهم- كأبي علي وأبي هاشم- إنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل، وبعضهم- كأبي علي وأبي هاشم- إنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون يكون من الكبائر ما لم يرد فيه الوعيد، فالمؤمن عند الله من اجتنب كل الكبائر، والمؤمن عندنا من اجتنب كل ما ورد فيه لوعيد. والخوارج قالوا: الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله وبكل ما وضع الله عليه دليلا عقليا أو نقليا من الكتاب والسنة، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر به من الافعال والتروك صغيرا كان أو كبيرا. فمجموع هذه الأشياء هو الإيمان وترك خصلة من هذه الخصال كفر، وأهل الحديث ذكروا وجهين: الأول: أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة. وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيمانا إلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة. وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر، ثم كل معصية بعده كفر على حدة، ولم يجعلوا شيئا من الطاعات إيمانا ما لم توجد المعرفة والإقرار، ولا شيئا من المعاصي كفرا ما لم يوجد الجحود والإنكار. الثاني: أن الإيمان اسم للطاعات كلها فريضة أو نافلة إلا أنه إذا ترك فريضة انتقض إيمانه، وإن ترك نافلة لم ينتقض. ومنهم من قال: الإيمان اسم للفرائض دون النوافل. (القول الثاني) : قول من قال الإيمان بالقلب واللسان معا. ثم اختلفوا على مذاهب: الأول: أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالجنان وهو مذهب أبي حنيفة وعامة الفقهاء، ثم اختلفوا في موضعين: أحدهما في حقيقة هذه المعرفة، فمنهم من قال: هي الاعتقاد الجازم سواء كان اعتقادا تقليديا أو علما صادرا عن الدليل وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلد مسلم، ومنهم من فسرها بالعلم الصادر عن الاستدلال. وثانيهما في أن العلم المعتبر في تحقق الإيمان علم بماذا؟ قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 بعض المتكلمين: هو العلم بالله وبصفاته على سبيل التمام والكمال، ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى فلا جرم أقدم كل طائفة على تكفير من عداها من الطوائف، والإنصاف أن المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا العلم بكونه تعالى عالما بالعلم أو بذاته أو مرئيا وغير مرئي لا يكون داخلا في مسمى الإيمان. والمذهب الثاني: أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معا وهو مذهب أبي الحسن الأشعري وبشر المريسي، والمراد من التصديق الكلام القائم بالنفس. المذهب الثالث: كلام بعض الصوفية الإيمان إقرار باللسان وإخلاص بالقلب. (القول الثالث) : قول من قال الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط، فمن هؤلاء من قال: الإيمان معرفة الله بالقلب حتى إن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقر به فهو مؤمن كامل الإيمان وهو قول جهم بن صفوان، وزعم أن معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر غير داخلة في حقيقة الإيمان. وحكى الكعبي عنه أن الإيمان معرفة الله مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم. ومنهم من قال: الإيمان مجرد التصديق بالقلب. (القول الرابع) . قول من قال الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، ثم منهم من قال: شرط كونه إيمانا حصول المعرفة في القلب. ومنهم من قال: لا حاجة بنا إلى هذا الشرط أيضا بل المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة يثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة وهذا قول الكرامية، ثم قال الإمام رحمه الله تعالى: عندي أن الإيمان عبارة عن التصديق بكل ما عرف بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم مع الاعتقاد فههنا قيود: الأول أن الإيمان عبارة عن التصديق، وذلك أن الإيمان أكثر الألفاظ دورانا على ألسنة المسلمين، فلو صار منقولا إلى غير مسماه الأصلي لتوفرت الدواعي على نقل هذا النقل وتواتر وليس كذلك. وأيضا الإيمان المعدّى بالباء على أصله اتفاقا، فغير المعدى أيضا يكون كذلك كلما ذكر الله تعالى الإيمان في القرآن أضافه إلى القلب وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: 106] كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: 22] وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] وأيضا قرن الإيمان بالعمل الصالح، ولو كان العمل داخلا في الإيمان لزم التكرار. وأيضا قرن الإيمان بالمعاصي الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 83] وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا [الأنفال: 72] ومع عظيم الوعيد في ترك الهجرة. قال ابن عباس في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [البقرة: 178] إنما يجب القصاص على القاتل المتعمد، ومع ذلك يدخل في الخطاب. ثم قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة: 178] وهذه الأخوة ليست إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 أخوة الإيمان إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] ثم قال: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة: 178] وهذا لا يليق إلا بالمؤمن. القيد الثاني: أن الإيمان ليس عبارة عن تصديق اللسان لقوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 108] . القيد الثالث: ليس عبارة عن مطلق التصديق لأن من صدق بالجبت والطاغوت لا يسمى مؤمنا. القيد الرابع: لا يشترط التصديق بجميع صفات الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم «أعتقها فإنها مؤمنة» بعد قوله عليه الصلاة والسلام لها أين الله؟ قالت: في السماء. ويعلم مما ذكرنا أن من عرف الله بالدليل، ولما تم العرفان مات ووجد من الوقت ما أمكنه التلفظ بكلمة الشهادة لكنه لم يتلفظ بها كان مؤمنا، وكان الامتناع عن النطق جاريا مجرى المعاصي التي يؤتى بها مع الإيمان، وبهذا حكم الغزالي رضي الله عنه قلت- وبالله التوفيق-: التحقيق في المقام أن للإيمان وجودا في الأعيان ووجودا في الأذهان ووجودا في العبارة. ولا ريب أن الوجود العيني لكل شيء هو الأصل، وباقي الوجودات فرع وتابع. فالوجود العيني للإيمان هو النور الحاصل للقلب بسبب ارتفاع الحجاب بينه وبين الحق جل ذكره اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] وهذا النور قابل للقوة والضعف والاشتداد والنقص كسائر الأنوار وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً [الأنفال: 2] كلما ارتفع حجاب ازداد نورا فيتقوى الإيمان ويتكامل إلى أن ينبسط نوره فينشرح الصدر ويطلع على حقائق الأشياء وتتجلى له الغيوب وغيوب الغيوب فيعرف كل شيء في موضعه، فيظهر له صدق الأنبياء عليهم السلام ولا سيما محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين في جميع ما أخبروا عنه إجمالا أو تفصيلا على حسب نوره، وبمقدار انشراح صدره، وينبعث من قلبه داعية العمل بكل مأمور والاجتناب عن كل محظور، فينضاف إلى نور معرفته أنوار الأخلاق الفاضلة والملكات الحميدة نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [التحريم: 8] نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ [النور: 35] وأما الوجود الذهني فبملاحظة المؤمن لهذا النور ومطالعته له ولمواقعه، وأما الوجود اللفظي فخلاصته ما اصطلح عليه الشارع بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يخفى أن مجرد التلفظ بقولنا «لا إله إلا الله محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم» من غير النور المذكور لا يفيد إلا كما يفيد للعطشان التلفظ بالماء الزلال دون التروي به، إلا أن التعبير عما في الضمير لما لم يتيسر إلا بواسطة النطق المفصح عن كل خفي والمعرب عن كل مشتبه، كان للتلفظ بكلمة الشهادة ولعدم التلفظ بها مدخل عظيم في الحكم بإيمان المرء وكفره، فصح جعل ذلك وما ينخرط في سلكه من العلامات، كعدم لبس الغيار وشد الزنار دليلا عليهما، وتفويض أمر الباطن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 إلى عالم الخفيات المطلع على السرائر والنيات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» «1» . الرابعة: يجوز أن يكون بالغيب صلة للإيمان أي يعترفون أو يثقون به، وعلى هذا يكون الغيب بمعنى الغائب إما تسمية بالمصدر كما سمى الشاهد بالشهادة قال الله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الرعد: 9 المؤمنون: 92 التغابن: 18] والعرب تسمي المطمئن من الأرض غيبا، وإما أن يكون مخفف فيعل والمراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير، وإنما نعلم منه نحن ما أعلمناه أو نصب لنا دليل عليه، ولهذا لا يجوز أن يطلق فيقال: فلان يعلم الغيب، وذلك نحو الصانع وصفاته والنبوات وما يتعلق بها والبعث والنشور والحساب والوعد والوعيد وغير ذلك. ويجوز أن يكون بالغيب حالا، والغيب بمعنى الغيبة والخفاء أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به وحقيقته متلبسين بالغيب نحو الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الأنبياء: 49] لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف: 52] وفيه تعريض بالمنافقين حيث إن باطنهم يخالف ظاهرهم وغيبتهم تباين حضورهم وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة: 14] وقال بعض الشيعة: المراد بالغيب المهدي المنتظر الذي وعد الله في القرآن. وورد في الخبر وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور: 55] «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أمتي يواطىء اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما» «2» الخامسة: معنى إقامة الصلاة أحد ثلاثة أشياء: إما تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها من أقام العود إذا قومه، وإما الدوام عليها والمحافظة الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [المعارج: 23، 24] من قامت السوق إذا نفقت وأقامها. قال الأسدي: أقامت غزالة سوق الضراب. لأهل العراقين حولا قميطا. غزالة اسم امرأة شبيب الخارجي، قتله الحجاج فحاربته سنة تامة. والضراب القتال، والعراقان الكوفة والبصرة، وقميطا أي كاملا لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات، وإما التجلد والتشمر لأدائها وأن لا يكون في مؤديها فتور عنها ولا توان من قولهم: قام في الأمر   (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 32- 36. البخاري في كتاب الإيمان باب 17. أبو داود في كتاب الجهاد باب 95. الترمذي في كتاب تفسير سورة 88. النسائي في كتاب الزكاة باب 3. (2) رواه أبو داود في كتاب المهدي باب 1. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 34. أحمد في مسنده (1/ 99) (3/ 28) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 خلاف تقاعد عنه، فعبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت، والقنوت القيام- وبالركوع والسجود والتسبيح يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [آل عمران: 43] فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ [الصافات: 143] ولا يخفى أن إقامة الصلاة بجميع هذه المعاني تستحق المدح والثناء. السادسة: الصلاة في عرف الشرع عبارة عن إلهيات والأقوال المخصوصة التي مفتتحها التحريم ومختمها التسليم فرضا كانت أو نفلا، إلا أنه يحتمل أن يقال المراد بها في الآية الفرض لأن الفلاح قد نيط بها في قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي أفلح والله إن صدق بعد قول الأعرابي «والله لا أزيد على هذه ولا أنقص» أي على الصلوات المفروضة. واشتقاقها لغة إما من الصلاة بمعنى الدعاء قال الأعشى: وقابلها الريح في دنها ... وصلى على دنها وارتسم أي وضع عليها الرسم وهو الخاتم وإما من قولهم «صليت العصا بالنار» إذا لينتها وقومتها قال: فلا تعجل بأمرك واستدمه ... فما صلي عصاك كمستديم والمصلي يسعى في تعديل ظاهره وتقويم باطنه كالخشب الذي يعرض على النار. وإما من قولهم «صلى الفرس» إذا جاء مصليا أي ملازما للسابق، لأن رأسه عند صلاه، والصلا ما عن يمين الذنب وشماله، والمصلي ملازم لفعله من حين شروعه إلى أوان فراغه. والصلاة اسم وضع موضع المصدر يقال: صليت صلاة ولا يقال تصلية. قال في الكشاف: الصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى. وكتبها بالواو على لفظ المفخم. وحقيقة صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، ولا يخفى ما فيه من التعسف. السابعة: الرزق لغة هو ما ينتفع به، فيشمل الحلال والحرام والمأكول وغيره والمملوك وغيره، والمعتزلة ومن يجري مجراهم زادوا قيدا آخر وهو أن لا يكون ممنوعا عن الانتفاع به، وعلى هذا لا يكون الحرام عندهم رزقا. قال في الكشاف: إسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال المطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله تعالى ويسمى رزقا منه. وأدخل «من» التبعيضية صيانة لهم وكفا عن الإسراف والتبذير المنهي عنه، وقدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم كأنه قال: ويخصون بعض المال الحلال بالتصدق به، والحق أن التمكين من الانتفاع بالمرزوق مسند إلى الله تعالى على الإطلاق، إذ كل بقدرته إلا أن مذهب المعتزلة إلى الأدب أقرب، ولا سيما في هذا المقام ليستحقوا المدح بالإنفاق منه. الثامنة: أنفق الشيء وأنفده أخوان، وكل ما فاؤه نون وعينه فاء يدل على معنى الخروج والذهاب، وما يقرب منه ويدخل في هذا الإنفاق الواجب من الزكاة التي هي أخت الصلاة وشقيقتها، ومن الإنفاق على النفس وعلى من تجب نفقته، ومن الإنفاق في الجهاد. ويمكن أن يتناول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 كل منفق في سبيل الخير للإطلاق قال تعالى وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [المنافقون: 10] والمراد به الصدقة لقوله فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون: 10] . البحث السادس: في قوله تعالى و «الذين يؤمنون» الآية. وفيه مسائل: الأولى: يحتمل أن يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه الذين اشتمل إيمانهم على كل وحي نزل من عند الله، سالف أو مترقب سبيله سبيل السالف لكونه معقودا بعضه ببعض ومربوطا آتيه بماضيه، وأيقنوا بالآخرة إيقانا زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، وأن أهل الجنة لا يتلذذون إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيذ ونحو ذلك. فيكون المعطوف غير المعطوف عليه إما مغايرة المباينة وذلك إذا أريد بالأولين كل من آمن ابتداء بمحمد صلى الله عليه وسلم من غير إيمان قبل ذلك بموسى وعيسى عليهما السلام، وإما مغايرة الخاص للعام وذلك إذا أريد بالأولين كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم سواء كان قبل ذلك مؤمنا بموسى وعيسى عليهما السلام أو لم يكن. ويكون السبب في ذكر هذا الخاص بعد العام إثبات شرف لهم وترغيبا لأمثالهم في الدين، ويحتمل أن يراد بهؤلاء الأولون، ووسط العاطف على معنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه كقوله: إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم يا لهف زيابة للحارث ال ... صابح فالغانم فالآئب الثانية: قال في التفسير الكبير: المراد من إنزال الوحي أن جبريل سمع في السماء كلاما لله تعالى فنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم كما يقال: نزلت رسالة الأمير من القصر. والرسالة لا تنزل لكن المستمع يستمع الرسالة في علو فينزل فيؤدي في سفل. وقول الأمير لا يفارق داته، ولكن السامع يسمع فينزل ويؤدي بلفظ نفسه. قال: فإن قيل: كيف سمع جبريل كلام الله وكلامه ليس حرفا ولا صوتا عندكم؟ قلنا: يحتمل أن يخلق الله له سمعا لكلامه ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم. ويجوز أن يكون خلق الله في اللوح المحفوظ كتابه بهذا النظم المخصوص فقرأه جبرائيل فحفظه، ويجوز أن يخلق أصواتا مقطعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فيتلقفه جبرائيل ويخلق له علما ضروريا بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام. وأقول: إنك إذا تأملت ما أشرت إليه في المقدمة العاشرة من مقدمات الكتاب انكشف لك الغطاء عن هذه المسألة. الثالثة: الإيمان بجميع الكتب السماوية أعني التصديق بها واجب، لأن الفلاح منوط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 بذلك. فيجب تحصيل العلم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم التفصيل ليقوم بواجبه علما وعملا، لكنه فرض كفاية لقوله تعالى وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة: 122] الآية. وأما المنزل على الأنبياء المتقدمين فالإيمان به واجب على الجملة لأن الله تعالى ما تعبدنا الآن به حتى يلزمنا معرفتها مفصلة، لكنها إن عرفنا شيئا من تفاصيلها فهناك يجب علينا الإيمان بتلك التفاصيل. الرابعة: الآخرة صفة الدار تلك الدار الآخرة وهي من الصفات الغالبة تأنيث الآخر نقيض الأول وكذلك الدنيا تأنيث الأدنى لأنها أقرب، واليقين هو العلم بالشيء ضرورة أو استدلالا بعد أن كان صاحبه شاكا فيه، ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه متيقن ولا يقال تيقنت أن السماء فوقي أو أني موجود. وفي تقديم الآخرة وبناء «يوقنون» على «هم» تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته ومن غير إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل على محمد وعلى غيره من الأنبياء، وهذا في معرض المدح ومعلوم أنه لا يمدح بتيقن وجود الآخرة فقط، بل به وبما يتبعه من الحساب والسؤال وإدخال المؤمنين الجنة والكافرين النار. عن النبي صلى الله عليه وسلم «يا عجبا كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه، وعجبا ممن يعرف النشأة الأولى ثم ينكر النشأة الآخرة، وعجبا ممن ينكر البعث والنشور وهو كل يوم يموت ويحيا- يعني النوم واليقظة- وعجبا ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور، وعجبا من المتكبر الفخور وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة» . البحث السابع: في قوله تعالى «أولئك على هدى من ربهم» الآية وفيه مسائل: الأولى: في كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه: أحدها نوى الابتداء «بالذين يؤمنون بالغيب» على سبيل الاستئناف و «أولئك على هدى» الجملة خبره، كأنه لما قيل «هدى للمتقين» فخص المتقون بأن الكتاب لهم هدى، اتجه لسائل أن يسأل فيقول: ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فأجيب بأن الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم أحقاء بأن يهديهم الله ويعطيهم الفلاح. وهذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث نحو: قد أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان، وتارة بإعادة صفته مثل: أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك. فيكون الاستئناف بإعادة الصفة كما في الآية أحسن وأبلغ لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه. وثانيها: أن يجعل «الذين» و «الذين» تابعا للمتقين، ويقع الاستئناف على «أولئك» كأنه قيل: ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فقيل: أولئك الموصوفون غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا وبالفلاح آجلا. وثالثها: أن يجعل الموصول الأول صفة للمتقين ويرفع الثاني على الابتداء، و «أولئك» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 خبره، ويكون اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضا بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون في أنهم سيفلحون عند الله تعالى والفضل من هذه الوجوه لأولها لأن الكلام المبني على السؤال والجواب أكثر فائدة، ولأن الاستئناف بإعادة الصفة أبلغ ولأن السؤال على الوجه الأخير كالضائع، لأن موجبات اختصاصهم بالهدى قد علمت. وأيضا إنه يجعل الموصولين تابعا والوجه الأول يجعل الموصول الأول ركنا من الكلام. الثانية: الاستعلاء في قوله «على هدى» مثل لتمكنهم من الهدى كقولهم «هو على الحق وفلان على الباطل» وقد يصرح بذلك فيقال: جعل الغواية مركبا، وامتطى الحق، واقتعد غارب الهوى. ومعنى «هدى من ربهم» أي منحوه من عنده وأوتوه من قبله، وهو إما اللطف والتوفيق الذي اعتضدوا به على أعمال الخير والترقي من الأفضل لأفضل، وإما الإرشاد إلى الدليل الموجب للثبات على ما اعتقدوه والدوام على ما عملوه. ونكر «هدى» ليفيد ضربا من المبالغة أي هدى لا يبلغ كنهه. قال الهذلي: فلا وأبي الطير المربة بالضحى ... على خالد لقد وقعت على لحم أي لحم وأي لحم. وأربّ بالمكان إذا أقام به، والأب مقحم للاستعظام إذ الكنى إنما تكون للأشراف كما أن الإقسام بالطير أيضا لاستعظامهن لوقوعهن على لحم عظيم، وعن بعضهم الهدى من الله كثير ولا يبصره إلا بصير ولا يعمل به إلا يسير، ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء ولا يهتدي بها إلا العلماء؟ الثالثة: في تكرير «أولئك» تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح فتميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين. ووسط العاطف بينهما لاختلاف خبريهما بخلاف قوله أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف: 179] فإن التسجيل عليهم بالغفلة وعدّهم من جملة الأنعام شيء واحد. الرابعة: «هم» فصل وفائدته بعد الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة التوكيد، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره. ويحتمل أن يكون «هم» مبتدأ و «المفلحون» خبره، والجملة خبر «أولئك» . الخامسة: المفلح الفائز بالبغية، والمفلج بالجيم مثله كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر. وكذلك أخواته في الفاء والعين تدل على معنى الشق والفتح نحو: فلق، وفلذ، ومنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 سمي الزارع فلاحا. ومعنى التعريف في «المفلحون» إما العهد أي المتقون هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة، أو الجنس على معنى أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة كما تقول لصاحبك: هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام إن زيدا هو هو. فانظر كيف كرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة، فإن في ذكره إيذانا بأن ما يرد عقيبه. فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عددت لهم، وتكرير اسم الإشارة وتعريف المفلحين وتوسيط الفصل، اللهم زينا بلباس التقوى واحشرنا في زمرة من صدّرت بذكرهم أولى الزهراوين. قد ورد في الخبر «يحشر الناس يوم القيامة» ثم يقول الله عز وجل لهم: «طالما كنتم تتكلمون وأنا ساكت فاسكتوا اليوم حتى أتكلم، إني رفعت نسبا وأبيتم إلا أنسابكم قلت: إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأبيتم أنتم فقلتم: لا بل فلان ابن فلان، فرفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي، فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم، فسيعلم أهل الجمع من أصحاب الكرم أين المتقون» فليأخذ العاقل بحكمة الله تعالى وهو نوط الثواب وتعليق العقاب بالعمل الصالح والسيء إلا بما هو غير مضبوط من عفوه عن بعض المذنبين وردّة طاعة بعض المطيعين، كما أن حكمته لما اقتضت ترتب الشبع والري على الأكل والشرب لم يعهد الاتكال على ما يمكن أن يقع بالنسبة إلى قدرته من إشباع شخص أو إروائه من غير تناول الطعام والشراب أو بالعكس، وهذه نكتة شريفة ينتفع بها من وفق لها إن شاء الله. [سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) القراآت: «أأنذرتهم» بهمزتين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن ذكوان. وروى الحلواني عن هشام «آءنذرتهم» بهمزتين بينهما مدة، والباقون يهمزون الأولى ويلينون الثانية. والتليين جعل الهمزة بين بين أي بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركة الهمزة. «وعلى أبصارهم» ممالة: أبو عمرو وعلي غير ليث وابن حمدون وحمدويه وحمزة، وفي رواية ابن سعدان وأبي عمرو. كذلك قوله عز وجل بِقِنْطارٍ وبِالْأَسْحارِ وكَالْفَخَّارِ والْغارِ ومِنْ أَنْصارٍ وأَشْعارِها وأشباه ذلك حيث كان يعني إذا كان قبل الألف حرف مانع وبعدها راء مكسورة في موضع اللام، لأن الراء المكسورة تغلب الحروف المستعلية. «غشاوة» بالفصل. وقرأ حمزة في رواية خلف وابن سعدان وخلف لنفسه. وأبو إسحق إبراهيم بن أحمد عن أبي الحرث عن علي وورش من طريق البخاري مدغمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 النون والتنوين في الواو في جميع القرآن. «عظيم» بالإشمام في الوقف، وكذلك إذا كانت الكلمة مكسورة: حمزة وعلي وخلف وهو الاختيار عندنا. الوقوف: «لا يؤمنون» (هـ) «على سمعهم» (ط) لأن الواو للاستئناف. «غشاوة» (ز) لأن الجملتين وإن اتفقتا نظما فالأولى بيان وصف موجود، والثانية إثبات عذاب موعود. «عظيم» (هـ) . التفسير: وفيه مسائل: الأولى: فيما يتعلق بأن أما عمله من نصب الاسم ورفع الخبر فمعلوم من علم النحو. وأما فائدته فما ذكره المبرد في جواب الكندي من أن قولهم «عبد الله قائم» إخبار عن قيامه، وقولهم: «إن عبد الله قائم» جواب عن سؤال سائل، وقولهم: «إن عبد الله لقائم» جواب عن إنكار منكر لقيامه. وقد يضاف إليه القسم أيضا نحو «والله إن عبد الله لقائم. قال أبو نواس: عليك باليأس من الناس ... إن غنى نفسك في اليأس حسن موقع «إن» لأن الغالب على الناس خلاف هذا الظن، وقد يجيء إذا ظن المتكلم في الذي وجد أنه لم يوجد كقولك «إنه كان مني إليه إحسان فقابلني بالسوء» وكأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت وتبين الخطأ فيما توهمت كقوله تعالى حكاية عن أم مريم قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران: 36] وكذلك قول نوح رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ [الشعراء: 117] . الثانية: لما قدم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم الموجبة لامتداحه إياهم بها، عقب ذلك بذكر أضدادهم وهم المردة من الكفار الذين لا ينجع فيهم الهدى وسواء عليهم الإنذار وعدمه. وإنما فقد العاطف بين القصتين خلاف ما في نحو قوله تعالى إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار: 13، 14] لتباين الجملتين هاهنا في الغرض والأسلوب، إذ الأولى مسبوقة بذكر الكتاب وإنه هدى للمتقين، والثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت، وذلك إذا جعلت «الذين يؤمنون» مبتدأ و «أولئك» خبره، لأن الكلام المبتدأ على سبيل الاستئناف مبني على تقدير سؤال، وذلك إدراج له في حكم المتقين وتصييره تبعا له في المعنى، فحكمه حكم الأول. وكذا إذا جعلت الموصول الثاني مبتدأ و «أولئك» خبره، لأن الجملة برأسها من مستتبعات «هدى للمتقين» لارتباط بينهما من حيث المعنى. الثالثة: التعريف في «الذين» إما أن يراد به ناس معهودون بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم، وإما أن يراد به الجنس متناولا كل من صمم على كفره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 تصميما لا يرعوي بعده فقط دون من عداهم من الكفار الذين أسلموا بدليل الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم. الرابعة: الكفر نقيض الإيمان فيختلف تعريفه باختلاف تعريف الإيمان، وقد تقدم. وأصل الكفر الستر والتغطية ومنه الكافر لأنه يستر الحق ويجحده، والزارع كافر لأنه يستر الحب، والليل المظلم كافر لأنه بظلمته يستر كل شيء، والكافر الذي كفر درعه بثوب أي غطى ولبسه فوقه. قال في التفسير الكبير: «كفروا» إخبار عن كفرهم بصيغة الماضي فيقتضي كون المخبر عنه متقدما على ذلك الإخبار. فللمعتزلة أن يحتجوا بهذا على أن كلام الله محدث، فإن القديم يستحيل أن يكون مسبوقا بالغير. قلت: التحقيق في هذا وأمثاله أن كلامه تعالى أزلي إلا أن حكمته في باب التفهيم والتعليم اقتضت أن يكون كلامه على حسب وصوله إلى السامعين ضرورة كونهم متزمنين، فكل ما هو متقدم على زمان الوصول وقع الإخبار عنه في الأزل بلفظ الماضي، وكل ما هو متأخر عن زمان الوصول وقع الإخبار عنه بلفظ المستقبل نحو لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [الفتح: 27] سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران: 151] وإلا اختل نظام التفاهم والتخاطب. ومن هذا يعلم أن قوله سَنُلْقِي ليس كونه مستقبلا بالنظر إلى الأزل مقصودا بالنسبة إلى المخاطبين، وإنما المقصود استقباله بالنظر إلى زمان نزول الآية فافهم. الخامسة: «سواء» اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران: 64] فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت: 10] يعني مستوية، وارتفاعه على أنه خبر «إن» و «أأنذرتهم أم لم تنذرهم» في موضع الفاعل أي مستو عليهم إنذارك وعدمه نحو: إن زيدا مختصم أخوه وابن عمه. ويحتمل أن يكون «أأنذرتهم أم لم تنذرهم» في موضع الابتداء، و «سواء» خبر مقدم، والجملة خبر «إن» . وإنما صح وقوع الفعل مخبرا عنه مع أنه أبدا خبر نظرا إلى المعنى كقولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل، فإن «أن» مع الفعل في تقدير المصدر على الفعل وهو النهي، وقد جردت الهمزة. و «أم» لمعنى الاستواء وسلخ عنهما معنى الاستفهام رأسا. قال سيبويه: هذا مثل قولهم «اللهم اغفر لنا أيتها العصابة» يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام، كما أن ذاك جرى على صورة النداء ولا نداء. ومعنى الاستواء في الداخل عليهما «الهمزة» و «أم» استواؤهما في علم المستفهم، لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن لكن لا بعينه وكلاهما معلوم بعلم غير معين. والحاصل أن الاستفهام يلزمه معنيان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أحدهما استواء طرفي الحكم في ذهن المستفهم، والثاني طلب معرفة أحدهما فجرد هذا الترتيب لمعنى الاستواء وسلخ عنه الطلب. وفائدة العدول عن العبارة الأصلية وهي سواء عليهم الإنذار وعدمه، أن يعلم أن قطع الرجاء وحصول اليأس عنهم إنما حصل بعد إصرارهم وكانوا قبل ذلك مرجوا منهم الإيمان، لا في علم الله تعالى بل في علمنا، فنزلت الآية بحسب ما يليق بحالنا في باب التقرير والتصوير. أو نقول: فائدته أن يعلم أن استواء الطرفين بلغ مبلغا يصح أن يستفهم عنه لكونه خاليا عن شوب التخمين وترجيح أحد الطرفين بوجه، فإن قول القائل «الإنذار وعدمه مستويان عليهم» يمكن أن يحمل على التقريب لا التحقيق، بخلاف ما لو أخبر عن الأمرين بطريق الهمزة وأم فافهم. والإنذار التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي، وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن المقام مقام المبالغة، وتأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع. وقوله «لا يؤمنون» إما جملة مؤكدة للتي قبلها، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض. السادسة: الختم والكتم أخوان، لأن في الاستيثاق من الشيء يضرب الخاتم عليه كتما له وتغطية لئلا يتوصل إليه ولا يطلع عليه. والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل عليه كالعصابة والعمامة. والقلب يراد به تارة اللحم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر وهو محل الروح الحيواني الذي هو منشأ الحس والحركة وينبعث منه إلى سائر الأعضاء بتوسط الأوردة والشرايين، ويراد به تارة اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنسانا وبها يستعد لامتثال الأوامر والنواهي والقيام بمواجب التكاليف إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37] . وهي من عالم الأمر الذي لا يتوقف وجوده على مادة ومدة بعد إرادة موجده له إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] . كما أن البدن بل اللحم الصنوبري من عالم الخلق الذي هو نقيض ذلك أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] . وقد يعبر عنها بالنفس الناطقة وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: 7، 8] وبالروح قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: 72] والسمع قوة مرتبة في العصب المتفرق في سطح الصماخ، تدرك صورة ما يتأدى إليه بتموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاطا بعنف يحدث منه تموّج فاعل للصوت، فيتأدى إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ ويموّجه بشكل نفسه وتماس أمواج تلك الحركة تلك العصبة فتسمع قاله ابن سينا. ولعل هذا في الشاهد فقط، وأما البصر فقال ابن سينا: هي قوة مرتبة في العصبة المجوفة تدرك صورة ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ذوات اللون المتأدية في الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصيقلية. وزعم غيره أن البصر يخرج منه شيء فيلاقي المبصر ويأخذ صورته من خارج ويكون من ذلك إبصار. وفي الأكثر يسمون ذلك الخارج شعاعا. والحق عندي أن نسبة البصر إلى العين نسبة البصيرة إلى القلب، ولكل من العين والقلب نور. أما نور العين فمنطبع فيها لأنه من عالم الخلق، فهو نور جزئي ومدركه جزئي، وأما نور القلب فمفارق لأنه من عالم الأمر، وهو نور كلي ومدركه كلي. وإدراك كل منهما عبارة عن وقوع مدركه في ذلك النور، ولكل منهما بل لكل فرد من كل منهما حد ينتهي إليه بحسب شدته وضعفه. ويتدرج في الضعف بحسب تباعد المرئي حتى لا يدركه، أو يدركه أصغر مما هو عليه. ولا يلزم من قولنا «إن للبصر نورا يقع في المرئي» أن يشتد النور إذا اجتمع بصراء كثيرة في موضع واحد قياسا على أنوار الكواكب والسرج، فإن ذلك الانضمام من خواص الأنوار المحسوسات، والملزومات المختلفة لا تستدعي الاشتراك في اللوازم. وهذا القدر من التحقيق في تفسير القلب والسمع والبصر كاف بحسب المقام. ثم اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية، إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم لقوله تعالى وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [الجاثية: 23] ولهذا يوقف على «سمعهم» دون «قلوبهم» . وفي تكرير الجار إيذان باستقلال الختم على كل من القلب والسمع، وإنما وحد السمع لوجوه منها: أمن اللبس كما في قوله: كلوا في بعض بطنكم تعفوا. فإن زمانكم زمن خميص. إذ لا يلتبس أن لكل واحد بطنا، ولهذا إذا لم يؤمن نحو فرسهم وثوبهم والمراد الجمع رفضوه. ومنها أن السمع في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع فلمح الأصل، ولهذا جمع الأذن في قوله وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: 5] . ومنها أن يقدر مضاف محذوف أي على حواس سمعهم، ومنها الاستدلال بما قبله وبما بعده على أن المراد به الجمع مثل عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ [النحل: 48] يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] . السابعة: من الناس من قال: السمع أفضل من البصر، لتقديمه في اللفظ ولأنه شرط النبوة. فما بعث رسول أصم بخلاف البصر فمن الأنبياء من كان مبتلى بالعمى، ولأن السمع سبب وصول المعارف ونتائج العقول إلى الفهم، والبصر سبب وصول المحسوسات إلى المبصر. ولأن السمع يتصرف في الجهات الست دون البصر، ولأن فاقد السمع في الأصل فاقد النطق، بخلاف فاقد البصر. ومنهم من فضل البصر لأن متعلق الأبصار النور، ومتعلق الأسماع الريح. والبصر يرى من بعيد دون السمع، ولأن عجائب الله تعالى في تخليق العين أكثر منها في تخليق السمع. وقد أسمع الله كلامه موسى من غير سبق سؤال ونوقش في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الرؤية وفي المثل «ليس وراء العيان بيان» . وفي العين جمال الوجه دون السمع. والحق أن من فقد حسا فقد فقد علما وهو المتوقف على ذلك الحس. ولا ريب أن معظم العلوم يتوقف تحصيلها على البصر والإرشاد، والتعليم على الإطلاق يتوقف على السمع. فكل من الحواس في موضعه ضروري، وتفضيل البعض على البعض تطويل بلا طائل، فسبحان من دقت في كل مصنوع حكمته وأحسن كل شيء خلقه. الثامنة: الآية الأولى فيها الإخبار بأن الذين كفروا لا يؤمنون، والإنذار وعدمه عليهم سيان. والآية الثانية فيها بيان السبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم والتغشية، فاحتج أهل السنة بالآيتين ونظائرهما على تكليف ما لا يطاق، وعلى أن الله تعالى هو الذي خلق فيهم الداعية الموجبة للكفر وختم على قلوبهم وسمعهم ومنعهم عن قبول الحق والصدق، وكل بتقديره ولا يسأل عما يفعل. وأما المعتزلة وأمثالهم فيقولون: كيف ينشىء فيهم الكفر ثم يقول: لم تكفرون؟ وخلق فيهم ما به لبس الحق بالباطل ثم يقول لم تلبسون الحق بالباطل؟ ونحو ذلك من الآيات الدالة على أن الكفر باختيار العبد وقدرته. فتأولوا الآية على أنها جارية مجرى قولهم «فلان مجبول على كذا أو مفطور عليه» يريدون أنه بليغ في الثبات عليه، أو على أنها تمثيل لحال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليه حتى دخلوا في زمرة الأنعام لا تعي شيئا ولا تفقه كقولهم «سال به الوادي» إذا هلك، و «طارت به العنقاء» إذا أطال الغيبة. وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته، وإنما مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء، والشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر. إلا أن الله تعالى لما كان هو الذي أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب في قولهم «بنى الأمير المدينة» أو أنهم لما ترقى أمرهم في التصميم على الكفر إلى حدّ لا يتناهون عنه إلا بالقسر والإلجاء، ثم لم يقسرهم الله ولم يلجئهم لئلا ينتقض الغرض من التكليف، عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم. أو يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكما بهم من قولهم قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 5] ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال: لا، لأنهم نزهوه عما يشبه الظلم والقبيح ولا يليق بالحكمة. وسئل عن أهل الجبر فقال: لا، لأنهم عظموه حتى لا يكون لغيره قدرة وتأثير وإيجاد. وزعم الإمام فخر الدين أن إثبات الإله يلجىء إلى القول بالجبر لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع، وإثبات الرسول يلجىء إلى القول بالقدر لأنه لو لم يقدر العبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 على الفعل فأيّ فائدة فائدة في بعثة الرسل وإنزال الكتب؟ أو نقول: لما رجعنا إلى الفطرة السليمة وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه يترجح أحدهما على الآخر إلا المرجح، وهذا يقتضي الجبر. ونجد تفرقة ضرورية بين حركات الإنسان الاختيارية وبين حركات الجمادات والحركات الاضطرارية، وذلك يقتضي مذهب الاعتزال فلذلك بقيت هذه المسألة في حيز الإشكال. قلت- وبالله تعالى التوفيق-: عندي أن المسألة في غاية الاستنارة والسطوع إذا لو حظت المبادئ ورتبت المقدمات، فإن مبدأ الكل لو لم يكن قادرا على كل الممكنات وخرج شيء من الأشياء عن علمه وقدرته وتأثيره وإيجاده بواسطة أو بغير واسطة لم يصلح لمبدئية الكل. فالهداية والضلالة، والإيمان والكفر، والخير والشر، والنفع والضر، وسائر المتقابلات، كلها مستندة ومنتهية إلى قدرته وتأثيره وعلمه وإرادته. والآيات الناطقة بصحة هذه القضية كقوله تعالى وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: 9] وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة: 13] قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء: 78] كثيرة. وكذا الأحاديث «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» «1» «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» «2» «احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى» «3» الحديث. فهذه القضية مطابقة للعقل والنقل، وبقي الجواب عن اعتراضات المخالف. أما حكاية التنزيه عن الظلم والقبائح فأقول: لا ريب أنه تعالى منزه عن جميع القبائح، ولكن لا بالوجه الذي يذكره المخالف إذ يلزم منه النقص من جهة أخرى وهو الخلل في مبدئيته للكل وفي كونه مالك الملك. بل الوجه أن يقال: إن لله تعالى صفتي لطف وقهر، ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك. ولا سيما ملك الملوك، كذلك، إذ كل منهما من أوصاف الكمال ولا يقوم أحدهما مقام الآخر، ومن منع ذلك كابر وعاند. ولا بد لكل من الوصفين من مظهر، فالملائكة ومن ضاهاهم من الأخيار مظاهر اللطف، والشياطين ومن والاهم من الأشرار مظاهر القهر، ومظاهر اللطف هم أهل الجنة والأعمال المستتبعة لها، ومظاهر القهر هم أهل النار والأفعال المعقبة إياها. وهاهنا سر وهو أن اللطف والقهر والجنة والنار إنما يصح وجود كل من كل منهما بوجود الآخر،   (1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 92 باب 3- 5، 7. مسلم في كتاب القدر حديث 6- 8. أبو داود في كتاب السنّة باب 16. الترمذي في كتاب القدر باب 3. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 10. (2) رواه مسلم في كتاب القدر حديث 18. الموطأ في كتاب القدر حديث 4. أحمد في مسنده (2/ 110) . (3) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 31. مسلم في كتاب القدر حديث 13. أبو داود في كتاب السنّة باب 16، 17. الترمذي في كتاب القدر باب 2. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 فلولا القهر لم يتحقق اللطف، ولولا النار لم تثبت الجنة، كما أنه لولا الألم لم تتبين اللذة، ولولا الجوع والعطش لم يظهر الشبع والري. ولله در القائل: «وبضدها تتبين الأشياء» . فخلق الله تعالى للجنة خلقا يعملون بعمل أهل الجنة، وللنار خلقا يعملون بعمل أهل النار. ولا اعتراض لأحد عليها في تخصيص كل من الفريقين بما خصصوا به فإنه لو عكس الأمر لكان الاعتراض بحاله. وهاهنا تظهر حقيقة الشقاوة والسعادة فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود: 105] الآية: وقال صلى الله عليه وسلم: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد» «1» الحديث. وإذا تؤمل فيما قلت، ظهر أن لا وجه بعد ذلك لإسناد الظلم والقبائح إليه تعالى، لأن هذا الترتيب والتمييز من لوازم الوجود والإيجاد كما يشهد به العقل الصريح، ولا سيما عند المخالف القائل بالتحسين والتقبيح العقليين. وليت شعري لم لا ينسب الظلم إلى الملك المجازي حيث يجعل بعض من تحت تصرفه وزيرا قريبا وبعضهم كناسا بعيدا لأن كلا منهما من ضرورات المملكة، وينسب الظلم إليه تعالى في تخصيص كل من عبيده بما خصص به، مع أن كلا منهم ضروري في مقامه؟! فهذا القائل بهدم بناء حكمته، تعالى، ويدعي أنه يحفظه فأفسد حين أصلح. وأما قوله «أي فائدة في بعثة الرسل وإنزال الكتب» ففي غاية السخافة، لأنا لما بينا أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فكيف يبقى للمعترض أن يقول: لما جعل الله تعالى الشيء الفلاني سببا وواسطة للشيء الفلاني؟ كما أنه ليس له أن يقول مثلا لم جعل الشمس سببا لإنارة الأرض؟ غاية ما في الباب أن يقول إذا علم الله تعالى أن الكافر لا يؤمن فلم يأمره بالإيمان ويبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم فأقول: فائدة بعث الأنبياء وإنزال الكتب بالحقيقة ترجع إلى المؤمنين الذين جعل الله بعثهم وإنزالها سببا وواسطة لاهتدائهم إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45] كما أن فائدة نور الشمس تعود إلى أصحاب العيون الصحاح. وأما فائدة ذلك بالنسبة إلى المختوم على قلوبهم فكفائدة نور الشمس بالنسبة إلى الأكمه وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة: 125] غاية ذلك إلزام الحجة   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 28. مسلم في كتاب القدر حديث 16. الترمذي في كتاب القدر باب 4. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 10. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وإقامة البينة عليهم ظاهرا لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [القصص: 47] وهو بالحقيقة النعي عليهم بأنهم في أصل الخلقة ناقصون أشقياء. وهذا المعنى ربما لا يظهر لهم أيضا لغاية نقصانهم كما أن الأكمه ربما لا يصدق البصراء ولا يعرف أن التقصير والنقصان منه، وأن سائر الشرائط من محاذاة المرئي وظهور النير موجودة وإنما يعرف نقصانهم أرباب الأبصار. وأما حديث التفرقة الضرورية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية كالرعشة مثلا فأقول: لا ريب أن للإنسان إرادات وقوى بها يتم له حصول الملائم واجتناب المنافي، إلا أن تلك الإرادات والقوى مستندة إلى الله تعالى، فكأنه لا اختيار له. والتفرقة المذكورة سببها في أن الرعشة نقصت واسطة هي الداعية، وفي الحركة المسماة بالاختيارية زادت واسطة فافهم هذه الحقائق والإشارات واستعن بها في سائر ما يقرع سمعك من هذا القبيل، فلعلنا لا نكررها في كل موضع حذرا من التطويل. ومن لم يستضىء بمصباح لا يستفيد بإصباح وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب: 4] . التاسعة: العذاب مثل النكال بناء ومعنى، لأنك تقول: أعزب عن الشيء إذا أمسك عنه كما تقول: نكل عنه. ومنه العذاب لأنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده. ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذابا وإن لم يكن نكالا أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة. والفرق بين العظيم والكبير، أن العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، ويستعملان في المعاني والأعيان جميعا. تقول: رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره. ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعا من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات الله. ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله نعوذ بالله منه. العاشرة: اتفق المسلمون أكثرهم على أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار. وقال بعضهم: لا يحسن، وفسروا قوله «ولهم عذاب عظيم» وكذا كل وعيد ورد في القرآن بأنهم يستحقون ذلك، لكن كرمه يوجب عليه العفو. وذكروا أيضا دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح كقولهم: التعذيب ضرر خال عن المنفعة لأن الله تعالى منزه عن ذلك والعبد يتضرر به، ولو سلم أنه ينتفع به فالله قادر على إيصال النفع إليه من غير توسط ذلك العذاب، والضرر خال عن المنافع قبيح بالبديهة. وكقولهم: علم أن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان، فتكليفه أمرا متى لم يفعل ترتب عليه العذاب، وما كان مستعقبا للضرر من غير نفع كان قبيحا، فلم يبق إلا أن يقال: لم يوجد هذا التكليف، أو وجد لكنه لا يستعقب العقاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وكقولهم: إنه سبحانه هو الخالق لداعية المعصية، فيقبح أن يعاقب عليها. وكقولهم: إن العبد لو واظب على الكفر طول عمره فإذا تاب ثم مات عفا الله عنه. أترى هذا الكرم العظيم ما بقي في الآخرة، أو سلبت عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون عن معاصيهم، وإذا تابوا فلم لا يقبل الله منهم توبتهم؟ ولم كان في الدنيا بحيث قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] وفي الآخرة بحيث لا يجيب دعاءهم إلا بقوله اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] وأجيب بأن تعذيبهم نقل إلينا بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا مصير إلى إنكاره، والشبه التي تمسكتم بها تنهدم بانهدام قاعدة الحسن والقبح. وأقول: قد بينت بالبرهان النير في المسألة الثامنة أن وقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالى، وكل ما تقتضيه حكمته وكماله كان حسنا. ومن ظن أنه قبيح كان الخلل في عقله وقصور في فهمه، فلا قبيح في النظر إلا وهو حسن من جهات أخرى لا يعلمها إلا منشئها وموجدها. وهل يستقبح أحد وقوع بعض الأحجار للملوك تيجانا وبعضها للحشوش جدرانا، أو وقوع بعض من الحديد سيفا يتقلده الناس وبعضه نعلا يطؤها الأفراس، حيث يرى كلا منهما في مصالح الوجود ضروريا؟ ثم العذاب وهو بالحقيقة البعد من الله تعالى لازم للكفر والعصيان، والملزوم لا ينفك من اللازم. وأما سبب عدم انتفاع الكافر والعاصي بالإيمان والتوبة بعد المفارقة، فذلك أن محل الكسب هو الدنيا، والتكليف بامتثال الأوامر والنواهي إنما وقع فيها. فليس لأحد أن يؤخر الامتثال إلى الآخرة. ألا ترى أنه لو قال طبيب حاذق لمريض: اشرب الدواء الفلاني في اليوم الفلاني فقصر وأخر حتى إذا مضى وقته وأشرف على الهلاك قال: إني أشرب الآن، لم ينفعه ذلك الدواء ولا يسعه إلا الهلاك؟ وكذا لو قال ملك لواحد: افعل الأمر الفلاني في هذا الوقت ففعله في وقت آخر لم يعد ممتثلا ولا ينفعه الائتمار به لأن غرض الامتثال قد فات، ولا سيما إذا فعل بعد أن يرى أمارات الغضب وعلامات العذاب فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ [غافر: 85] . صدق الله العظيم. [سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 16] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 القراآت: و «من الناس» ممالة. قرأ قتيبة ونصير في القرآن ما كان مكسورا. «من يقول» مدغمة النون والتنوين في الياء حيث وقعت: حمزة وعلي وخلف وورش من طريق النجاري. «بمؤمنين» غير مهموز: أبو عمرو وغير شجاع ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف وكذلك ما أشبهها من الأسماء. «وما يخادعون» : أبو عمرو وابن كثير ونافع. «فزادهم الله» وبابه مما كان ماضيا بالإمالة: حمزة ونصير وابن ذكوان من طريق مجاهد والنقاش بن الأخرم هاهنا بالإمالة فقط. «يكذبون» خفيفا: عاصم وحمزة وعلي وخلف. قيل وَغِيضَ وَجِيءَ بالإشمام: علي وهشام ورويس. «السفهاء ألا» بهمزتين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. «السفهاء ولا» بقلب الثانية واوا: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وأبو جعفر ونافع. «السفهاء وألا» بقلب الأولى واوا. روى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة: وكذلك ما أشبهها مما اختلف الهمزتان فيها إلا أن تكون الأولى منهما مفتوحة مثل شُهَداءَ إِذْ وَجاءَ إِخْوَةُ وأشباه ذلك. «مستهزءون» بترك الهمزة في الحالين: يزيد وافق حمزة في الوقف وكذلك ما أشبهها، وعن حمزة في الوقف وجهان: الحذف والتليين شبه الياء والواو. «طغيانهم» حيث كان بالإمالة: قتيبة ونصير وأبو عمرو. «بالهدى» وما أشبهها من الأسماء والأفعال من ذوات الياء بالإمالة: حمزة وعلي وخلف. وقرأ أهل المدينة بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب، وكذلك كل كلمة تجوز الإمالة وفيها وذلك طبعهم وعادتهم. الوقوف: «بمؤمنين» (م) لما مر في المقدمة الثامنة: «آمنوا» (ج) لعطف الجملتين المتفقين مع ابتداء النفي. «يشعرون» (ط) للآية وانقطاع النظم والمعنى، فإن تعلق الجار بما بعده. «مرض» (لا) لأن الفاء للجزاء وكان تأكيدا لما في قلوبهم. «مرضا» (ج) لعطف الجملتين المختلفتين. «يكذبون» (هـ) في «الأرض» (لا) لأن «قالوا» جواب «إذا» وعامله. «مصلحون» (هـ) «لا يشعرون» (هـ) «كما آمن السفهاء» (ط) للابتداء بكلمة التنبيه، ومن وصل فليعجل رد السفه عليهم «لا يعلمون» (هـ) «آمنا» (ج) لتبدل وجه الكلام معنى مع أن الوصل أولى لبيان حالتيهم المتناقضتين وهو المقصود «شياطينهم» (لا) لأن «قالوا» جواب «إذا» «معكم» (لا) تحرزا عن قول ما لا يقوله مسلم، وإن جاز الابتداء بإنما. «مستهزءون» (هـ) «يعمهون» (هـ) «بالهدى» (ص) لانقطاع النفس ولا يلزم العود لأن ما بعده بدون ما قبله مفهوم «مهتدين» (هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 التفسير: وفيه مباحث: المبحث الأول: في قوله تعالى «ومن الناس من يقول» الآية. وفيه مسائل: الأولى: عن مجاهد قال: أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين، وآيتان بعدها نزلتا في الكافرين، وثلاث عشرة بعدها نزلت في المنافقين. فأقول: أحوال القلب أربع: الاعتقاد المطابق عن الدليل وهو العلم، والاعتقاد المطابق لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد المحق، والاعتقاد غير المطابق وهو الجهل، وخلو القلب عن كل ذلك. وأحوال اللسان ثلاث: الإقرار والإنكار والسكوت. كل منها بالاختيار أو بالاضطرار، فيحصل من التراكيب أربعة وعشرون قسما فلنتكلم في الأحوال القلبية ونجعل البواقي تبعا لها في الذكر. (النوع الأول) : العرفان القلبي إن انضم إليه الإقرار باللسان اختيارا فصاحبه مؤمن حقا بالاتفاق، أو اضطرارا فهو منافق، لأنه لولا الخوف لما أقرّ، فهو بقلبه منكر مكذب وجوب الإقرار. وإن انضم إليه الإنكار اضطرارا فهو مسلم لقوله تعالى إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: 106] أو اختيارا فهو كافر معاند. وإن انضم إليه السكوت اضطرارا فمسلم حقا لأنه خاف، أو كما عرف مات فجأة فيكون معذورا أو اختيارا فمسلم أيضا عند الغزالي وعند كثير من الأئمة لقوله صلى الله عليه وسلم «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان» . (النوع الثاني) : الاعتقاد التقليدي إن وجد معه الإقرار اختيارا فهو المسألة المشهورة من أن المقلد مؤمن أم لا، والأكثرون على إيمانه. أو اضطرارا فمنافق بالطريق الأولى كما مر في النوع الأول. وإن وجد معه الإنكار اختيارا فلا شك في كفره، أو اضطرارا فمسلم عند من يحكم بإيمان المقلد. وإن وجد معه السكوت اضطرارا فمسلم بناء على إسلام المقلد، أو اختيارا فكافر معاند. (النوع الثالث) : الإنكار القلبي مع الإقرار اللساني إن كان اضطرارا نفاق، وكذا اختيارا لأنه أظهر خلاف ما أضمر. ومع الإنكار اللساني كفر كيف كان، وكذا مع السكوت. (النوع الرابع) : القلب الخالي عن جميع الاعتقادات مع الإقرار اللساني إن كان اختيارا، فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر لكنه فعل ما لا يجوز له حيث أخبر عما لا يدري أنه هل هو صادق فيه أم لا. وإن كان لا في مهلة النظر ففيه نظر، أما إذا كان اضطراريا فلا يكفر صاحبه لأن توقفه إذا كان في مهلة النظر وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحا. والقلب الخالي مع الإنكار اللساني كيف كان نفاق، والقلب الخالي مع اللسان الخالي إن كان في مهلة النظر فذلك هو الواجب، وإن كان خارجا عن مهلة النظر وجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 تكفيره ولا نفاق. فظهر من التقسيم أن المنافق هو الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان في باطنه ما يضاد ظاهره أو كان باطنه خاليا عما يشعر به ظاهره، ومنه «النافقاء إحدى حجرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها» فإذا أتى من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق أي خرج. الثانية: زعم قوم أن الكفر الأصلي أقبح من النفاق، لأن الكافر جاهل بالقلب كاذب باللسان، والمنافق جاهل بالقلب صادق باللسان. وقال الآخرون: المنافق أيضا كاذب باللسان لأنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه. قال عز من قائل: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [المنافقون: 1] وأيضا إنه قصد التلبيس والكافر الأصلي لا يقصد ذلك. وأيضا الكافر الأصلي على طبع الرجال، والمنافق على طبيعة الخنائي. وأيضا الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه، والمنافق رضي بالكذب. وأيضا المنافق ضم إلى الكفر الاستهزاء والخداع دون الكافر الأصلي، ولغلظ كفر المنافقين قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] ووصف حال الكفار في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ونكرهم وفضحهم وسفههم واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم وعمههم ودعاهم صما بكما عميا وضرب لهم الأمثال الشنيعة. الثالثة: قصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة «الذين كفروا» كما تعطف الجملة على الجملة. وأصل ناس أناس بدليل إنسان وإنس وأناسي. حذفت الهمزة تخفيفا، مع لام التعريف كاللازم. وقوله «إن المنايا يطلعن على الإناس الآمنينا» قليل. ونويس من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان. سموا بذلك لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم. ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول كما يقال وزن ق أفعل وهو اسم جمع كرخال للأنثى من أولاد الضأن. وأما الذي مفرده رخل بكسر الراء فرخال بكسر الراء. «ومن» في «من يقول» موصوفة إن جعلت اللام في الناس للجنس كقوله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ [الأحزاب: 23] ليكون معنى الكلام أن في جنس الإنس طائفة كيت وكيت، فيعود فائدة الكلام إلى الوصف. وإن لم يكن مفيدا من حيث الحمل لأن الطائفة الموصوفة تكون لا محالة من الناس، ولا يجوز أن تكون «من» موصولة حينئذ، لأن الصلة تكون جملة معلومة الانتساب إلى الموصول فتبطل فائدة الوصف، فيبقى الكلام غير مفيد رأسا. وإن جعلت اللام للعهد فمن تكون موصولة نحو وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 [التوبة: 61] وتكون اللام إشارة إلى الذين كفروا لما ذكرهم، ولا يجوز أن تكون «من» موصوفة إذ ذاك، لأن فائدة الكلام تعود إلى الوصف أيضا، ولكن لا يجاوبه نظم الكلام إذ يصير المعنى أن من المختوم على قلوبهم طائفة يقولون كيت وكيت وما هم بمؤمنين. ومن البين أن مدلول قوله «وما هم بمؤمنين» معلوم من حال المطبوع على قلوبهم فيقع ذكره ضائعا، والضمير العائد إلى «من» يكون موحدا تارة باعتبار اللفظ نحو وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً [الأنعام: 25] ومجموعا أخرى باعتبار المعنى مثل وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يونس: 42] وقد اجتمع الاعتباران في الآية في «يقول» و «آمنا» . وإنما اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر لأنهما قطرا الإيمان، ومن أحاط بهما فقد حاز الإيمان بحذافيره. وفي تكرير الباء إيذان بأنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام. فإن قلت: إن كان هؤلاء المنافقون من المشركين فظاهر عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر، وإن كانوا من اليهود فكيف يصح ذلك؟ قلت: إيمان اليهود بالله ليس بإيمان لقولهم «عزير ابن الله» وكذلك إيمانهم باليوم الآخر لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته. فقولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق بل على عقيدتهم فهو كفر لا إيمان. فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة واستهزاء وتخييلا للمسلمين أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي كان خبثا إلى خبث وكفرا إلى كفر. والمراد باليوم الآخر إما طرف الأبد الذي لا ينقطع لأنه متأخر عن الأوقات المنقضية، أو الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، لأنه آخر الأوقات المحدودة التي لا حد للوقت بعده. فإن قلت: كيف طابق قوله «وما هم بمؤمنين» قولهم «آمنا» والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثاني بالعكس؟ قلت: لما أتوا بالجملة الفعلية ليكون معناها أحدثنا الدخول في الإيمان لتروج دعواهم الكاذبة، جيء بالجملة الاسمية ليفيد نفي ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل ألبت والقطع وأنهم ليس لهم استئهال أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين، فكان هذا أوكد وأبلغ من أن يقال: إنهم لم يؤمنوا. ونظير الآية قوله تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها [البقرة: 167] . ثم إن قوله «وما هم بمؤمنين» يحتمل أن يكون مقيدا وترك لدلالة التقييد في «آمنا» . ويحتمل الإطلاق أي أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط، لا من الإيمان بالله وباليوم الآخر ولا من الإيمان بغيرهما. البحث الثاني: في قوله يُخادِعُونَ اللَّهَ إلى يَكْذِبُونَ. اعلم أن الله ذكر من قبائح أفعال المنافقين أربعة أشياء: أحدها المخادعة وأصلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الإخفاء، ومنه سميت الخزانة المخدع. والأخدعان عرفان في العنق خفيان. وخدع الضب خدعا إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلا. والخديعة مذمومة لأنها إظهار ما يوهم السداد والسلامة وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير أو التخلص منه، فهي بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسية. فإن قيل: مخادعة الله والمؤمنين لا تصح لأن العالم الذي لا يخفى عليه خافية لا يخدع، والحكيم الحليم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع، والمؤمنين وإن جاز أن يخدعوا كما قال ذو الرمة: تلك الفتاة التي علقتها عرضا ... إن الحليم ذا الإسلام يختلب لم يجز أن يخدعوا. قلنا: كانت صورة صنعهم مع الله- حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون- صورة صنع الخادعين، وصورة صنع الله معهم- حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل من النار- صورة صنع الخادع، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم- حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم. ويحتمل أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن الله ممن يصح خداعه، لأنه من كان ادعاؤه الإيمان بالله تعالى نفاقا لم يكن عارفا بالله ولا بصفاته، فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله مخدوعا ومصابا بالمكروه من وجه خفي، أو تجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم. ويحتمل أن يذكر الله ويراد الرسول لأنه خليفته والناطق بأوامره ونواهيه مع عباده إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] . ويحتمل أن يكون من قولهم «أعجبني زيد وكرمه» فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا بالله، وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص. ولما كان المؤمنون من الله بمكان سلك بهم هذا المسلك ومثله وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 57] وقولهم «علمت زيدا فاضلا» الغرض ذكر الإحاطة بفضل زيد، لأن زيدا كان معلوما له قديما كأنه قيل: علمت فضل زيد ولكن ذكره توطئة وتمهيدا. ووجه الاختصار بخادعت على واحد أن يقال: عني به فعلت إلا أنه أخرج في زنة «فاعلت» لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه. «ويخادعون» بيان ليقول، ويجوز أن يكون مستأنفا كأن قيل: ولم يدعون الإيمان كاذبين؟ فقيل: يخادعون. وكان غرضهم من الخداع الدفع عن أنفسهم أحكام الكفار من القتل والنهب وتعظيم المسلمين إياهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم واطلاعهم على أسرار المسلمين لاختلاطهم بهم. والسؤال الذي يذكر هاهنا من أنه تعالى لم أبقى المنافق على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 حاله من النفاق ولم يظهر أمره حتى لا يصل من أغراض الخداع إلى ما وصل؟ وأرد على استبقاء الكفار وسائر أعداء الدين، بل على استبقاء إبليس وذريته وتنحل العقدة في الجميع بما سلف لنا من الحقائق ولا سيما في تفسير قوله تعالى خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7] وقراءة من قرأ وما يخادعون إلا أنفسهم [البقرة: 9] أي وما يعاملون تلك المعاملة المضاهية لمعاملة المخادعين إلا أنفسهم، لأن مكرها يحيق بهم ودائرتها تدور عليهم لأن الله تعالى يدفع ضرر الخداع عن المؤمنين ويصرفه إليهم كقوله إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النساء: 142] ويحتمل أن يراد حقيقة المخادعة لأنهم يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل، وأنفسهم أيضا تمنيهم وتحدثهم بالأكاذيب. وأن يراد «وما يخدعون» فجيء به على لفظ يفاعلون للمبالغة. والنفس ذات الشيء وحقيقته ولا يختص بالأجسام لقوله تعالى تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي [المائدة: 116] والشعور علم الشيء علم حس ومشاعر الإنسان حواسه. والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له. والمرض حالة توجب وقوع الخلل في الأفعال الصادرة عن موضوعها، واستعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة بأن يراد الألم كما تقول: في جوفه مرض. ومجازا بأن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الاعتقاد والغل والحسد والميل إلى المعاصي، فإن صدورهم كانت تغلي على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين غلا وحنقا وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران: 119] وناهيك بما كان من ابن أبي، وقول سعد بن عبادة لرسول صلى الله عليه وسلم اعف عنه يا رسول الله واصفح، فو الله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة- وذلك شيء منظوم بالجواهر شبه التاج- أي يجعلوه ملكا، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك. أو يراد ما يداخل قلوبهم من الضعف والخور لأنهم كانوا يطمعون أن ريح الإسلام تهب حينا ثم تركد، فكانت تقوى قلوبهم بذلك الطمع. فلما شاهدوا شوكة المسلمين وإعلاء كلمة الحق وما قذف الله في قلوبهم من الرعب ضعفت جبنا وخورا. ومعنى زيادة الله إياهم مرضا أنه كلما أنزل على رسوله الوحي فكفروا به ازدادوا كفرا إلى كفرهم، فأسند الفعل إلى المسبب له كما أسند إلى السورة في قوله فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125] وهذا كما قال الحكيم: البدن الغير النقي كلما فدوته زدته شرا. وكلما زاد رسوله نصرة وتبسطا ازدادوا حسدا وبغضا. ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع، ويحتمل أن يقال: الغل والحسد قد يفضي إلى تغير مزاج القلب ويؤدي إلى تلف صاحبه كقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 اصبر على مضض الحسو ... د فإن صبرك قاتله النار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله فإفضاء صاحبه إلى الهلاك هو المعني بالزيادة. والأليم الوجيع. ووصف العذاب به على طريقة قولهم «جد جده» والألم بالحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد. والمراد بكذبهم قولهم «آمنا بالله وباليوم الآخر» . وفي ترتب الوعيد على الكذب دليل على قبح الكذب وسماجته. وما يروى عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه كذب ثلاث كذبات أحدها قوله إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] وثانيها قوله لسارة حين أراد أن يغصبها ظالم «إنها أختي» وثالثها قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: 63] فالمراد التعريض «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» «1» ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به. والكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به، وقد يعتبر فيه علم المخبر بكون المخبر عنه مخالفا للخبر، والصدق نقيضه. وقراءة من قرأ «يكذبون» بالتشديد إما من كذبه الذي هو نقيض صدقه، وإما من كذب الذي هو مبالغة في كذب كما بولغ في صدق فقيل «صدق» نحو: بان الشيء وبين الشيء ومنه قوله: قد بين الصبح لذي عينين أو بمعنى الكثرة نحو «موتت البهائم» ، أو من قولهم «كذب الوحشي إذا جرى شوطا ثم وقف لينظر ما وراءه» لأن المنافق متوقف متردد في أمره مذبذب بين ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة» «2» وما في قوله «بما كانوا» مصدرية أي بكذبهم، وكان مقحمة لتفيد الثبوت والدوام أي بسبب أن هذا شأنهم وهجيراهم. البحث الثالث: في قوله تعالى «وإذا قيل لهم لا تفسدو في الأرض» إلى قوله «ولكن لا يشعرون» .   (1) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 116. (2) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث 16. النسائي في كتاب الإيمان باب 13. الدارمي في كتاب المقدمة باب 31. أحمد في مسنده (2/ 32) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال المنافقين. فقوله «وإذا قيل» إما معطوف على «كانوا يكذبون» أي ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وبما كانوا إذا قيل لهم كذا قالوا كذا، وإما على «يقول» أي ومن الناس من إذا قيل له. ويحتمل أن يقال الواو للاستئناف، وإسناد «قيل» إلى «لا تفسدوا» و «آمنوا» ليس من إسناد الفعل إلى الفعل فإنه لا يصح، ولكنه إسناد إلى لفظ الفعل. أي وإذا قيل لهم هذا القول نحو: زعموا مطية الكذب. والقائل لهم إما النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك نصحهم فأجابوا بما يحقق إيمانهم وأنهم في الصلاح، وإما بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبل منهم ويعظمهم، وإما بعض المؤمنين، ولا يجوز أن يكون القائل ممن لا يختص بالدين. والفساد خروج الشيء عن أن يكون منتفعا به، ونقيضه الصلاح وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة. عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي أن المراد بالإفساد المنهي عنه إظهار معصية الله تعالى، فإن الشرائع سنن موضوعة بين العباد، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه، فحقنت الدماء وضبطت الأموال وحفظت الفروج وكان ذلك صلاح الأرض وأهلها. وأما إذا أهملت الشريعة وأقدم كل واحد على ما يهواه، اشتعلت نوائر الفتن من كل جانب، وحدثت المفاسد. وقيل: هو مداراة المنافقين الكافرين ومخالطتهم إياهم لأنهم إذا مالوا إلى الكفار مع أنهم في الظاهر مؤمنون، أوهم ذلك ضعف أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيصير سببا لطمع الكفار في المؤمنين، فتهيج الفتن والحروب. وقيل: كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه ويلقون الشبه ويفشون أسرار المؤمنين، ولما نهوا عن الإفساد في الأرض كان قولهم «إنما نحن مصلحون» كالمقابل له. فههنا احتمالات: أحدها: أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين، فزعموا أنهم مصلحون. وثانيها: إذا فسر الإفساد بموالاتهم الكافرين أن يكون مرادهم أن الغرض من تلك الموالاة هو الإصلاح بين المسلمين كقولهم فيما حكى الله سبحانه إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً [النساء: 62] وثالثها: أن يكون المراد إنكار إذاعة أسرار المسلمين ونسبة أنفسهم إلى الاستقامة والسداد، وجيء بأداة القصر دلالة على أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت، أي حالنا مقصورة على الإصلاح لا تتعداه إلى غيره. «وألا» مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي، فيفيد التنبيه على تحقيق ما بعدها كقوله تعالى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ [القيامة: 40] ولإفادتها التحقيق لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم. وأختها التي هي «أما» من مقدمات اليمين وطلائعها. قال: أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 رد الله ما ادعوه من الانضمام في زمرة المصلحين أبلغ رد من جهة الاستئناف، فإن ادعاءهم ذلك مع توغلهم في الفساد مما يشوق السامع أن يعرف ما حكمهم، فرد الله عليهم. وكان وروده بدون الواو هو المطابق، ومن جهة ما في «ألا» وفي «أن» من التأكيد، ومن قبيل تعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله «لا يشعرون» . البحث الرابع: في قوله «وإذا قيل لهم آمنوا» الآية. هذا هو النوع الثالث من قبائح أفعال المنافقين، وذلك أن المؤمنين أتوهم في النصيحة من وجهين: أحدهما: تقبيح ما كانوا عليه مما يجرّ إلى الفساد والفتنة، والثاني: دعوتهم إلى الطريقة المثلى من اتباع ذوي الأحلام. وبعبارة أخرى أمروهم أولا بالتخلية عما لا ينبغي، وثانيا بالتحلية بما ينبغي لأن كمال حال الإنسان في هاتين. وكان من جوابهم فيما بينهم أو للقائل أن سفهوهم لتمادي سفههم، وفي هذا تسلية للعالم إذا لم يعرف حقه الجاهل. وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل وما في «كما» يجوز أن تكون كافة تصحح دخول الجار على الفعل وتفيد تشبيه مضمون الجملة بالجملة كقولك: يكتب زيد كما يكتب عمرو، أو زيد صديقي كما عمرو أخي. ويجوز أن تكون مصدرية مثلها في بِما رَحُبَتْ [التوبة: 25، 118] واللام في الناس للعهد أي كما آمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه وهم ناس معهودون أي ليكن إيمانكم ثابتا كما أن إيمان هؤلاء ثابت، أو ليحصل إيمانكم كحصول إيمان هؤلاء، أو آمنوا كما آمن عبد الله بن سلام وأتباعه لأنهم من جلدتهم أي كما آمن أصحابكم. ويحتمل أن تكون للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية من الإقرار اللساني الناشئ عن الاعتقاد القلبي، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس ومن عداهم كالنسناس في عدم التمييز بين الحق والباطل. والاستفهام في «أنؤمن» في معنى الإنكار، واللام في «السفهاء» مشار بها إلى الناس كقولك لصاحبك: إن زيدا قد سعى بك. فتقول: أو قد فعل السفيه؟ أو للجنس وينطوي تحته الجاري ذكرهم على زعمهم لأنهم عندهم أعرق الناس في السفه وهو ضد الحلم، وأصله الخفة والحركة يقال: تسفهت الريح الشجر إذا مالت به، قال ذو الرمة: جرين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم وإنما سفهو المؤمنين مع رجحان عقول أهل الإيمان، لأنهم لجهلهم وإخلالهم بالنظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الصحيح اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق، ولأنهم كانوا في رياسة وثروة وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال وخباب، فدعوهم سفهاء تحقيرا لشأنهم كما قال قوم نوح وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا [هود: 27] أو أرادوا عبد الله بن سلام وأشياعه لما غاظهم من إسلامهم وفتّ في أعضائهم. عن أنس أنه سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض مخترف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي. فما أوّل أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال صلى الله عليه وسلم: أخبرني بهن جبريل آنفا. أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت. وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الوالد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت. قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني. فجاءت اليهود فقال: أي رجل عبد الله فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام. قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا فانتقصوه. قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله. ثم إن الله تعالى ألقى عليهم هذا اللقب مقرونا بالمؤكدات التي بيناها في قوله «ألا إنهم هم المفسدون» وذلك أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفه فهو السفيه، وكذا من باع آخرته بدنياه. قال صلى الله عليه وسلم: «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» «1» . وأيضا من السفه معاداة المحمديين يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [الصف: 8] . كالطود يحقر نطحة الأوعال إنما فصلت هذه الآية «بلا يعلمون» والتي قبلها «بلا يشعرون» لأن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري، وأما النفاق وما يؤول إليه من الفساد في الأرض فأمر دنيوي مبني على العادات، وخصوصا عند العرب في جاهليتهم. وما كان قائما بينهم من التحارب والتجاذب فهو كالمحسوس المشاهد، ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقا له.   (1) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 25. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 31. أحمد في مسنده (4/ 24) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 البحث الخامس: في قوله وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا الآيات. هذا هو النوع الرابع من قبائح أفعالهم، والفرق بين هذه الآية وبين قوله «ومن الناس من يقول آمنا» أن تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم، وهذه في بيان معاملتهم مع المؤمنين من التكذيب لهم والاستهزاء بهم. عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن أبي: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم. فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، الباذل نفسه وماله، ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحبا بسيد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد علي عليه السلام فقال: مرحبا بابن عم رسول الله وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسول الله. ثم افترقوا فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت، فأثنوا عليه خيرا. فرجع المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك فنزلت. ويقال: لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريبا منه. وخلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه، ويجوز أن يكون من خلال بمعنى مضى، وخلاك ذم أي عداك ومضى عنك، ومنه القرون الخالية، أو من خلوت به إذا سخرت منه وهو من قولك «خلا فلان بعرض فلان» عبث به، ومعناه إذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها كما تقول: أحمد إليك فلانا أو أذمه إليك أي أنهي إليك حمدي لفلان أو ذمي. وعن ابن عباس: إني أحمد إليك عسل الإحليل أي أعلمكم أنه أمر محمود. وشياطينهم رؤساؤهم وأكابرهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم. وهم إما أكابر المنافقين فالقائلون. إنا معكم أي مصاحبوكم وموافقوكم على أمر دينكم أصاغرهم، وإما أكابر الكافرين فالقائلون يحتمل أن يكون جميع المنافقين. وإنما فسرنا الشياطين بالرؤساء لأنهم هم القادرون على الإفساد في الأرض، وإنما خاطبوا المؤمنين بأضعف الجملتين وهي الفعلية، وشياطينهم بأقواهما أعني الاسمية المحققة بان لأنهم في ادعاء حدوث الإيمان الناشئ عن صميم القلب منهم لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان كاملون، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه وهكذا كل قول لم يصدر عن صدق رغبة وباعث داخلي، وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على وجه التوكيد وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار القائلين «ربنا إننا آمنا» وإما مخاطبة إخوانهم فعن وفور نشاط ورغبة وفي حيز القبول والرواج فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتوكيد، وإنما فقد العاطف بين قوله «إنا معكم» وبين قوله «إنما نحن مستهزءون» الأوّل معناه الثبات على الكفر، والثاني ردّ للإسلام. لأن المستهزئ بالشيء منكر له دافع، ودفع نقيض الشيء إثبات وتأكيد للشيء. أو لأن الثاني بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر، أو لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 استئناف كأنه قيل: ما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أهل الإسلام؟ فقالوا: إنما نحن مستهزءون. والاستهزاء السخرية والاستخفاف، وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع. ثم إن الله تعالى أجابهم بأشياء: أحدها قول الله «يستهزىء بهم» وهو استئناف في غاية الجزالة والفخامة، كأنه سئل ما مصير أمرهم وعقبى حالهم؟ فقيل: الله يستهزىء بهم. وفي الالتفات من الحكاية إلى المظهر، أن الله عز وجل هو الذي يستهزىء بهم الاستهزاء الأبلغ الذي استهزاؤهم بالنسبة إلى ذلك كالعدم. وفي تخصيص الله بالذكر مع قرينة أن المؤمنين هم الذين استهزىء بهم دلالة على أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاما للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله. فإن قيل: الاستهزاء جهالة قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [البقرة: 67] فما معنى استهزاء الله بهم؟ قلنا: معناه إنزال الهوان والحقارة بهم وهو المقصد الأقصى للمستهزىء، أو سمي جزاء الاستهزاء استهزاء مثل فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] أو عاملهم الله معاملة المستهزئ في الدنيا لأنه كان يطلع الرسول على أسرارهم مع كونهم مبالغين في إخفائها، وفي الآخرة على ما روي عن ابن عباس: إذا دخل المؤمنون الجنة والكافرون النار، فتح الله من الجنة بابا على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحا أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة- وأهل الجنة ينظرون إليهم- فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب فذلك قوله تعالى فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ [المطففين: 34] فهذا هو الاستهزاء، وإنما لم يقل الله مستهزىء ليكون طبقا لقوله «إنما نحن مستهزءون» لأن المراد تجدد الاستهزاء بهم وقتا بعد وقت، وهكذا كانت نكايات الله فيهم ونزول الآيات في شأنهم أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ [التوبة: 26] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ [التوبة: 64] وثانيها قوله «ويمدهم في طغيانهم» هو من مد الجيش أمده إذا زاده وألحق به ما يقوّيه، وكذلك مد الدواة والسراج زادهما ما يصلحهما. وإنما قلنا: إنه من المدد لا من المد في العمر والإمهال لقراءة نافع في موضع آخر وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الأعراف: 202] على أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له مع اللام كأملى له قاله في الكشاف، وهو مخالف لنقل الجوهري مده في غيه أي أمهله. والطغيان الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتوّ، ومعنى مدد الله تعالى إياهم في الطغيان يعرف من تفسير خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وقد يوجه بأنه لما منعهم ألطافه التي منحها المؤمنين بقيت قلوبهم يتزايد الرين والظلمة فيها تزايد الانشراح والنور في صدور المؤمنين، فسمي ذلك التزايد مددا. أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 بأنه لم يقسرهم، أو بأنه أسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره، ولا يخفى ما في هذا التوجيه من التكلف، لأنه انتهاء الكل إلى مسبب الأسباب. ومن هذا القبيل ما قيل: إن النكتة في إضافة الطغيان إليهم هي أن يعلم أن التمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم، وأن الله بريء منه، فإن الانتهاء إلى الله تعالى لما كان ضروريا فكيف يتبرأ من ذلك؟ «ويعمهون» في موضع الحال. والعمه كالعمى، إلا أن العمى في البصر وفي الرأي، والعمه في الرأي خاصة وهو التحير والتردد لا يدري أين يتوجه. وثالثها: قوله «أولئك الذي اشتروا الضلالة بالهدى» أي اختاروها عليه واستبدلوها به، وهذه استعارة لأن الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر قال أبو النجم: أخذت بالجمة رأسا أزعرا ... وبالثنايا الواضحات الدردرا وبالطويل العمر عمرا جيدرا ... كما اشترى المسلم إذ تنصرا وعن وهب قال الله تعالى فيما يعيب به بني إسرائيل: تفقهون لغير الدين، وتعلمون لغير العمل، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة. جعلوا لتمكنهم من الهدى بحسب الفطرة الإنسانية الشخصية كأنه في أيديهم، فتركوه واستبدلوا به الضلالة وهي الجور عن القصد وفقد الاهتداء. وفي المثل «ضل دريص نفقة» أي جحره، والدرص ولد الفأرة ونحوها، يضرب لمن يعيا بأمره. فاستعيرت الضلالة للذهاب عن الصواب في الدين. والربح الفضل على رأس المال، والتجارة مصدر وإنما أسند الخسران إليها وهو لصاحبها إسنادا مجازيا لملابسة التجارة بالمشترين. وقد يقال: ربح عبدك وخسرت جاريتك مجازا إذا دلت الحال. ولما ذكر الله سبحانه شراء الضلالة بالهدى مجازا أتبعه ما يشاكله ويواخيه من الربح والتجارة لتكون الاستعارة مرشحة كقوله: ولما رأيت النسر عز ابن دأية ... وعشش في وكريه جاش له صدري لما شبه الشيب بالنسر، والشعر الفاحم بالغراب، أتبعه ذكر التعشيش والوكر. «وما كانوا مهتدين» لطرق التجارة لأن مطلوب التاجر في متصرفاته شيئان: سلامة رأس المال والربح. وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معا، لأن رأس مالهم كان هو الهدى فلم يبق لهم مع الضلالة، والضلالة أمر عدمي فلا عوض ولا معوّض، فلا ربح ولا رأس المال. وهكذا حال من يدعي الإرادة ولا يخرج من العادة ويريد الجمع بين مقاصد الدنيا ومصالح الدين، كالمنافق أراد الجمع بين عشرة الكفار وصحبة المسلمين، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وإذا أقبل الليل من هاهنا أدبر النهار من هاهنا نعوذ بالله من الغواية، ونسأله أن يعصمنا من الضلالة بعد الهداية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 [سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 20] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) القراآت: «آذانهم» وبابه بالإمالة: نصير وأبو عمر. «بالكافرين» وما أشبهها مما كان في محل الخفض بالإمالة: أبو عمر وقتيبة ونصير وأبو عمرو ويعقوب غير روح. «شاء الله» حيث كان بالإمالة: حمزة وعلي وخلف وابن ذكوان. الوقوف: «نارا» (لا) لأن جواب «لما» منتظر لما فيها من معنى الشرط مع دخول فاء التعقيب فيها. «لا يبصرون» (هـ) «لا يرجعون» (هـ) للعطف بأو وهو للتخيير، ومعنى التخيير لا يبقى مع الفصل. ومن جعل «أو» بمعنى الواو جاز وقفه لعطفه الجملتين مع أنها رأس آية. وقد اعترضت بينهما آية على تقدير ومثلهم كصيب. «وبرق» (ج) لأن قوله «يجعلون» يحتمل أن يكون خبر المحذوف، أي هم يجعلون، أو حالا عامله معنى التشبيه في الكاف، وذو الحال محذوف أي كأصحاب صيب. «الموت» (ط) «بالكافرين» (هـ) «أبصارهم» (ط) لأن كلما استئناف. «فيه» (لا) لأن تمام المقصود بيان الحال المضاد للحال الأول «قاموا» (ط) و «أبصارهم» (ط) «قدير» (هـ) . التفسير: لما جاء بحقيقة صفة المنافقين عقبها بضرب المثل تتميما للبيان. ولضرب الأمثال شأن ليس بالخفي في رفع الأستار عن الحقائق حتى يبرز المتخيل في معرض اليقين، والغائب كأنه شاهد، وفيه تبكيت للخصم الألد. ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتبه أمثاله وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ [الحشر: 21] وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم «مثل الدنيا مثل ظلك إن طلبته تباعد وإن تركته تتابع» «مثل الجليس الصالح كمثل الداري» وأمثال العرب أكثر من أن تحصى، حتى صنف فيها كتب مشهورة. والمثل في أصل كلامهم بمعنى المثيل وهو النظير، ثم قيل للقول السائر المشبه مضربه بمورده مثل. ولا يخلو من غرابة، ومن ثم حوفظ عليه من التغيير. وأما هاهنا فاستعير المثل للحال أو الصفة أو القصة التي فيها غرابة ولها شأن، شبهت حالهم العجيبة الشأن من حيث إنهم أوتوا ضربا من الهدى بحسب الفطرة، ولما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 نطقت به ألسنتهم من كلمة الإسلام فحقنوا دماءهم وأموالهم عاجلا، ثم لم يتوصلوا بذلك إلى نعيم الأبد باستبطانهم الكفر فيؤل حالهم إلى أنواع الحسرات وأصناف العقوبات بحال الذي استوقد نارا في توجه الطمع إلى تسني المطلوب بسبب مباشرة أسبابه القريبة مع تعقب الحرمان والخيبة لانقلاب الأسباب. والمراد بالذي استوقد إما جمع كقوله وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة: 69] وحذف النون لاستطالته بصلته، أو قصد جنس المستوقدين، أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد نارا، ولولا عود الضمير إلى الذي مجموعا في قوله «بنورهم وتركهم» لم يحتج إلى التكلفات المذكورة، على أنه يمكن أن يشبه قصة جماعة بقصة شخص واحد نحو، مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ [الجمعة: 5] ووقود النار سطوعها وارتفاع لهبها، وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضا. والنار جوهر لطيف مضيء حارّ محرق، والنور ضوءها وضوء كل نير واشتقاقها من نار ينور إذا نفر، لأن فيها حركة واضطرابا والإضاءة فرط الإنارة جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس: 5] وهي في الآية متعدية، ويحتمل أن تكون غير متعدية، مسندة إلى ما حوله، والتأنيث للحمل على المعنى، لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء، أو يستتر في الفعل اللازم ضمير النار ويجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها على أن «ما» مزيدة أو موصولة في معنى الأمكنة، و «حوله» نصب على الظرف، وتأليفه للدوران والإطافة، والعام حول لأنه يدور. وجواب «لما ذهب الله بنورهم» فالضمير يعود إلى الذي استوقد نظرا إلى المعنى، كما أن الضمير في «حوله» راجع إليه من حيث اللفظ. وقيل: الأولى أن يقال: جوابه محذوف مثل فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من الذكر في أداء المعنى، كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله كان ما كان من حصولهم خابطين في ظلام متحيرين خائبين فيها بعد الكدح في إحياء النار. ثم إن سائلا كأنه يسأل: ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل له: ذهب الله بنورهم أي بنور المنافقين، وعلى هذا يحتمل أن يكون الذي مفردا، ويمكن أن يكون بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان أي مثلهم كمثل الذي استوقد نارا، وكمثل الذي ذهب الله بنورهم. ومعنى إسناد الفعل إلى الله أنه إذا أطفئت النار بسبب سماوي كريح أو مطر فقد أطفأها الله وذهب بنور المستوقد، أو يكون المستوقد مستوقد نار لا يرضاها الله. ثم إما أن تكون نارا مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام، وتلك النار، متقاصرة مدة اشتعالها وإضاءتها، فمنافعها الدنيوية قليلة البقاء، وللباطل صولة، ثم تضمحل، ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت. ونار العرفج مثل لثروة كل طماح كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [المائدة: 64] وإما نارا حقيقية أو قدها الغواة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي ويهتدوا بها في طرق العيش فأطفأها الله وخيب أمانيهم. وإنما لم يقل ذهب الله بضوئهم على سياق «فلما أضاءت» لأن ذكر النور أبلغ في الغرض وهو إزالة النور عنهم رأسا وطمسه أصلا، فإن الضوء شدة النور وزيادته، وذهاب الأصل يوجب زوال الزيادة عليه دون العكس. والفرق بين «أذهبه» و «ذهب به» أن معنى «أذهبه» أزاله وجعله ذاهبا، ويقال: ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه. وذهب السلطان بماله أخذه وأمسكه. وما يمسك الله فلا مرسل له، فهو أبلغ من الإذهاب، وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد، وإذا علق بشيئين كان مضمنا معنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب كقول عنترة: «فتركته جزر السباع ينشنه» ومنه قوله تعالى وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ والظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير، وقيل: عرض ينافي النور واشتقاقها من قولهم «ما ظلمك أن تفعل كذا» أي ما منعك وشغلك لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية. وفي جمع الظلمة وتنكيرها وإتباعها ما يدل على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان، وفي قوله «لا يبصرون» دلالة على أن الظلمة بلغت مبلغا يبهت معها الواصفون. وكذا في إسقاط مفعول «لا يبصرون» وجعله من قبيل المتروك المطرح الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال، لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعد أصلا. ومحل «لا يبصرون» إما جر صفة لظلمات أي لا يبصرون فيها شيئا، وإما نصب مفعولا ثانيا، أو حالا من هم مثل وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف: 186] أي حال كونهم ليسوا من أهل الأبصار. عن سعيد بن جبير: نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج النبي صلى الله عليه وسلم واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلما خرج كفروا به. وكان انتظارهم له كإيقاد النار، وكفرهم به بعد ظهوره كزوال ذلك النور ثم إنه كان من المعلوم من حالهم أنهم يسمعون وينطقون ويبصرون، لكنهم شبهوا بمن إيفت مشاعرهم فقيل لهم: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، حيث سدوا عن الإصاغة إلى الحق مسامعهم، وأبوا أن تنطق به ألسنتهم، وأن ينظروا ويستبصروا بعيونهم. وإنما قلنا: إن ما في الآية تشبيه لا استعارة مع أن المشبه مطوي ذكره كما هو حق الاستعارة، لأن ذلك في حكم المنطوق به وإلا بقي الخبر بلا مبتدأ. ومعنى «لا يرجعون» لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها تسجيلا عليهم بالطبع، أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين لا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون وإلى حيث ابتدءوا منه كيف يرجعون. وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 «1» ومثله حال مريد طريقة الذي له بداية ولازم خلوته وصحبته حتى شرقت له من صفات القلب شوارق الشوق، وبرقت له من أنوار الروح بوارق الذوق، فطرقته الهواجس وأزعجته الوساوس فيرجع القهقري إلى ما كان من حضيض عالم الطبيعة، فغابت شمسه وأظلمت نفسه وفضل عن يومه أمسه. ثم إن الله تعالى ضرب للمنافقين مثلا آخر ليكون كشفا لحالهم بعد كشف، وإيضاحا غب إيضاح، لأن المقام مقام تفصيل وإشباع. فيكون تقدير الكلام «مثل المنافقين كمثل المستوقدين أو كمثل ذوي صيب» على معنى أن قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين فإنهما سواء في صحة التشبيه بهما، فأنت مخير في التشبيه بأيتهما شئت أو بهما جميعا نحو: جالس الحسن أو ابن سيرين. والتمثيلان جميعا من جملة التمثيلات المركبة دون المفردة، لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به، بل تراعى الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام وهي أنهم في مقام الطمع في حصول المطالب. ونجح المآرب لا يحظون إلا بضد المطموع فيه من مجرد مقاساة الأهوال وشدائد الأحوال، ولا يخفى أن التمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته، ولذلك أخرج تدرجا من الأهون إلى الأغلظ، وإنما قدرنا المضاف المحذوف حيث قلنا: أو كمثل ذوي صيب مع أنه لا يلزم في التشبيه المركب أن يلي حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به. ألا ترى إلى قوله تعالى إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ [يونس: 24] كيف ولي الماء الكاف إذ التشبيه مركب لأن الضمير في «يجعلون» لا بد له من راجع هذا هو التحقيق. وقد يقال: شبه دين الإسلام بالصيب، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وما يحوم حوله من شبه الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيب الكفرة من الإفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق. وعلى هذا يكون تقدير المضاف ضروريا ليصبح تشبيه المنافقين بهم، ويكون المعنى «مثلهم كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة، فلقوا منها ما لقوا» ويكون ذكر المشبهات مطويا على سنن الاستعارة. والصيب المطر الذي يصوب أي ينزل ويقع. ويقال للسحاب: صيب أيضا. وتنكير صيب للدلالة على أنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار في التمثيل الأول. والسماء هذه المظلة، والفائدة في ذكره، والصيب لا يكون إلا من السماء، أنه جاء بالسماء معرفة فنفى أن يتصوب من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق، ولكنه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء. وكما جاء بصيب وفيه مبالغات من جهة التركيب من ص وب والبناء على «فيعل» والتنكير أمد ذلك بأن جعله مطبقا، واعلم أنه إذا وقعت القوى الفلكية على العناصر بإذن الله تعالى فحركتها   (1) قوله ومثله حال مريد إلخ كذا في الأصل ولعل في العبارة سقطا أو تحريفا وحرر كتبه مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وخالطتها، حصل من اختلاطها موجودات شتى. فإذا هيج الفلك بإسخانه الحرارة بخر من الأجسام المائية، أو دخن من الأجسام الأرضية وأثار شيئا بين البخار والدخان من الأجسام المائية والأرضية. أما الدخان فإنه قد يتعدى صعوده حيز الهواء إلى أن يوافي تخوم النار فيشتعل، وربما سرى فيه الاشتعال فتراءى كأن كوكبا يقذف به، وربما لم يشتعل بل احترق وثبت فيه الاحتراق فرأيت العلامات الهائلة الحمرة والسواد. وأما البخار الصاعد فمنه ما يلطف ويرتفع جدا فيتراكم وتكثر مدته في أقصى الهواء عند منقطع الشعاع، فيبرد فيكثف فيقطر فيكون المتكاثف منه سحابا والقاطر مطرا. ومنه ما يقصر لثقله عن الارتفاع بل يبرد سريعا، فينزل كما يوافيه برد الليل قبل أن يتراكم سحابا وهذا هو الطل، وربما جمد البخار المتراكم في الأعالي أعني السحاب، فنزل وكان ثلجا، وربما جمد البخار الغير المتراكم في الأعالي أعني مادة الطل، فنزل وكان صقيعا وهو ما يسقط بالليل من السماء شبيها بالثلج، وربما جمد البخار بعد ما استحال قطرات ماء فكان بردا. وإنما يكون جموده في الشتاء وقد فارق السحاب، وفي الربيع وهو داخل السحاب، وذلك إذا سخن خارجه فبطنت البرودة إلى داخله فتكاثف داخله واستحال ماء وأجمده شدة البرودة، وربما تكاثف الهواء نفسه لشدة البرد فاستحال سحابا فاستحال مطرا. وأما الجواهر البخارية والدخانية المركبة من مادتي الرطوبة واليبوسة، فمنها ما يتخلص من الأرض فتكون منها الرياح وإذا تصعدت فتميز البخار من الدخان انعقد البخار سحابا فبرد فتغلغل فيه الدخان طلبا للنفوذ إلى العلو فحصل من تغلغله فيه ضرب من الرعد وهو صوت ريح عاصفة في سحاب كثيف، وربما امتد ذلك التغلغل لكثرة وصول المواد، ويكون أعالي السحاب أكثف لأن البرد هناك أشد، أو يكون هناك ريح مقاومة تعوقها عن النفوذ فيندفع إلى أسفل وقد أشعلته المحاكة والحركة نارا تبرق فتشق السحاب شعلة كجمر يطفأ فيسمع من ذلك ضرب من الرعد. وإن كان قويا شديدا غليظ المادة كان صاعقة، وربما وجد مندفعا فيه سهل الانشقاق فخرج بلا رعد واشتعال. فهذا القدر من الحقائق في هذا المقام لا ضير في معرفتها بعد أن يعتقد انتهاء أسبابها إلى مدبر الكل سبحانه وتعالى. ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: ارتفع «ظلمات» بالظرف على الاتفاق من سيبويه والأخفش لاعتماده على موصوف. والصيب إن كان سحابا فظلماته سمجته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل، وإن كان مطرا فظلماته تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر وظلمة إظلال الغمام مع ظلمة الليل. ثم إن كان الصيب سحابا فكونه مكانا للرعد والبرق ظاهر، وإن كان مطرا فكونهما متلبسين به في الجملة سوغ ذلك، وإنما لم يجمع الرعد والبرق كما قال البحتري: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 يا عارضا متلفعا ببروده ... يختال بين بروقه ورعوده وكما قيل ظلمات لأنهما في الأصل مصدران فروعي حكم الأصل، ويمكن أن يراد بهما الحدث كأنه قيل: وإرعاد وإبراق. ونكرت هذه الأشياء لأن المراد أنواع منها كأنه قيل في ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف. وجاز رجوع الضمير في «يجعلون» إلى أصحاب الصيب لأنه في حكم المذكور. قال حسان: يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل ذكر يصفق لأن المعنى ماء بردى وهي واد بدمشق. والبريص نهر من أنهارها. ويصفق أي يمزج والرحيق الخمر. ولا محل لقوله «يجعلون» لكونه مستأنفا كأنه قيل: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون أصابعهم. ثم سئل: فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فأجيب «يكاد البرق يخطف أبصارهم» وإنما لم يقل أناملهم مع أنها هي التي تجعل في الآذان لأن في ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل، ولأن اسم الكل قد يطلق على البعض نحو فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] والمراد إلى الرسغ. وليس بعض الأصابع- كالمسبحة مثلا بجعلها في الأذن- أولى من بعض حتى يقال لم ذكر العام والمراد الخاص؟ وقوله «من الصواعق» أي من أجل الصواعق نحو: سقاه من العيمة. وقد تحصل مما ذكرنا أن الصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة من نار تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف، ثم طفئت. ويقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته. فصعق أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق، وبناؤها إما أن يكون صفة لقصفة الرعد، أو للرعد والتاء للمبالغة كما في الرواية، أو مصدرا كالعافية والكاذبة. «وحذر الموت» مفعول له كقوله: وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما والموت فساد بنية الحيوان. وقيل: عرض معاقب للحياة لا يصح معه إحساس. وإحاطة الله بالكافرين مجاز أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة، والجملة معترضة لا محل لها. «يكاد» من أفعال المقاربة. كاد يفعل كذا يكاد كودا ومكادا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ومكادة وضعت لمقاربة الشيء، فعل أو لم يفعل. فمجرده ينبىء عن نفي الفعل، ومقرونه بالجحد ينبىء عن وقوع الفعل. وخبر كاد فعل مضارع بغير «أن» وهو هاهنا «يخطف» والبرق اسمه والخطف الأخذ بسرعة، «كلما أضاء لهم» استئناف ثالث كأنه قيل: كيف يصنعون في حالتي خفوق البرق وفتوره؟ وأضاء إما متعد بمعنى كلما نور لهم ممشى ومسلكا أخذوه والمفعول محذوف، وإما غير متعد بمعنى كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره. والمشي جنس الحركة المخصوصة وفوقها السعي وفوقه العدو. «وأظلم» إما لازم وهو الظاهر، وإما متعد منقول من ظلم الليل أي أظلم البرق الطريق عليهم بأن فتر عن لمعانه، ومعنى «قاموا» وقفوا وثبتوا في مكانهم من قام الماء جمد. وإنما قيل مع الإضاءة «كلما» ومع الإظلام «إذا» لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه، وكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها فخطوا خطوات يسيرة، وليس كذلك التوقف والتحبس، ولو شاء الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم، وفي الضوء البرق فأعماهم. ومفعول «شاء» محذوف، لأن الجواب يدل عليه. والمعنى ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها، وهذا الحذف في «شاء» و «أراد» كثير لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كقوله: فلو شئت أن أبكي دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع وقال عز من قائل لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ [الأنبياء: 17] وكلمة «لو» تفيد انتفاء الثاني لانتفاء الأول. وقد تجيء للمبالغة كقوله «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» والمراد أن عدم العصيان ثابت على كل حال لأنه على تقدير عدم الخوف ثابت، فعلى تقدير الخوف أولى. والشيء أعم العام كما أن الله أخص الخاص، يجري على الجوهر والعرض والقديم والحادث بل على المعدوم والمحال. وهذا العام مخصوص بدليل العقل، فمن الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل والواجب وجوده لذاته، وأما الممكن فإبقاؤه على العدم وكذا إيجاده وإبقاؤه على وجوده، لأن جميع ذلك بقدرة القادر فلا يستغنى آنا من الآنات ولحظة من اللحظات عن تأثير القادر فيه. وقدرة كل قادر على مقدار قوته واستطاعته، ونقضيها العجز. فلا قادر بالحق إلا هو سبحانه وتعالى. [سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22] يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) القراآت: «خلقكم» مدغما: أبو عمرو وكذلك كل ما كان قبلها متحرك. وازاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 عباس كل ما كان قبلها ساكن مثل ما خَلْقُكُمْ أَوْ صَدِيقِكُمْ وبِوَرِقِكُمْ ومِيثاقَكُمْ وأشباه ذلك. قال ابن مجاهد: يدغمها بإظهار صوت القاف. وقال غيره- وهو ابن مهران- لا يظهر ذلك وكل صواب. الوقوف: «تتقون» (هـ) لأن «الذي» صفة الرب تعالى. «بناء» (ص) لعطف الجملتين المتفقتين «لكم» (ج) لانقطاع النظم مع فاء التعيب. «تعلمون» (هـ) . التفسير: لما قدم الله تعالى أحكام فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر صفاتهم ومجاري أمورهم عاجلا وآجلا، أقبل عليهم بالخطاب وهو من جملة الالتفات الذي يورث الكلام رونقا وبهاء ويزيد السامع هزة ونشاطا. ومن لطائف المقام أنه تعالى كأنه يقول: جعلت الرسول واسطة بيني وبينك أولا، والآن أزيد في إكرامك وتقريبك فأخاطبك من غير واسطة، ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة شرف المخاطبة والمكالمة. وفيه إشعار بأن العبد مهما اشتغل بالعبودية زاد قربا وحضورا. وأيضا الآيات المتقدمة حكايات أحوالهم وهذه أمر وتكليف وفيه كلفة ومشقة، فلا بد من راحة وهي أن يرفع ملك الملوك الواسطة من البين ويخاطبهم بذاته، فيستطاب التكليف بالتكليم حينئذ ويستلذ هذا. وقد صح الإسناد عن علقمة أن كل شيء نزل فيه «يا أيها الناس» فهو مكي و «يا أيها الذين آمنوا» فهو مدني فقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ خطاب لمشركي مكة بحسب هذا النقل، وإن كان من الجائز أن يخاطب المؤمنون باسم جنسهم ويؤمروا بالاستمرار على العبادة والازدياد منها. «ويا» حرف وضع لأجل التخفيف مقام أنادي الإنشائية لا الإخبارية. وهاهنا نكتة وهي أن أقوى المراتب الاسم، وأضعفها الحرف، فظن قوم أنه لا يأتلف الاسم بالحرف، فكذا أقوى الموجودات هو الحق سبحانه وأضعفها البشر وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النساء: 28] فقالت الملائكة: ما للتراب ورب الأرباب أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30] فقيل لهم: قد يأتلف الاسم مع الحرف في حال النداء، فكذا البشر يصلح لحضرة الرب حال التضرع والدعاء ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة: 186] فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] و «يا» وضع في أصله لنداء ما ليس بقريب حقيقة أو تقديرا لكونه ساهيا أو غافلا أو نائما، أو لتبعيد المنادي نفسه عن ساحة عزة المنادى هضما واستقصارا كقول الداعي في جؤاره: يا رب يا الله. مع أنه أقرب إليه من حبل الوريد، ليتحقق الإجابة بمقتضى قوله «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي» وقد ينادي القريب. (3) المقاطن في غير هذه الصورة بيا ويكون المراد به أن الخطاب الذي يتلوه معنيّ به جدا نحو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 183] يا عِبادِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 [الزمر: 53] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأحزاب: 45] لأن ما يعقبها أمور عظام وخطوب جسام من الأوامر والنواهي والعظات، عليهم أن يتيقظوا لها ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها. وأي وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام، وهو اسم مبهم يوصف باسم جنس ليصح المقصود بالنداء مع ضرب من التأكيد المستفاد من الإبهام ثم التوضيح. وفي حرف التنبيه المقحم فائدتان: معاضدة حرف النداء بتأكيد معناه ووقوعها عوضا مما يستحقه أي من الإضافة. ثم إن قلنا: إن الخطاب عام لجميع المكلفين لأن الجمع المعرف باللام يفيد العموم بدليل صحة تأكيده «بكل» و «أجمعون» في مثل قوله فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [ص: 73] ، بدليل صحة الاستثناء، فالأقرب أنه لا يتناول إلا الموجودين في ذلك العصر، وإنما يتناول الذين سيوجدون بدليل منفصل هو ما عرف بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم، أن حكم الموجودين في عصره حكم من سيوجد إلى قيام الساعة. وإن قلنا: إن الخطاب لمشركي مكة فيدخل سائر الناس بالتبعية على قياس ما قلنا. والمراد من قوله «اعبدوا» صححوا نسبة العبادة، وذلك بأن يعرف نفسه بالإمكان ليعرف ربه بالوجوب، ويعرف نفسه بالمملوكية ليعرف ربه بالمالكية، ويعرف نفسه بالمقهورية والمقدورية ليعرف ربه بالقاهرية والقادرية، ويعرف نفسه بالمأمورية والذلة ليعرف ربه بالآمرية والعزة، فلا يتجاوز حده ولا يعكس هذه القضايا فلا يرى لنفسه تصرفا بوجه من الوجوه ولا قدرة بنوع من الأنواع، وإنما يكون عبدا ذليلا ماثلا بين يدي مولاه، طائعا له بكل ما يأمره وينهاه، لأنه إذا تصور كونه عبدا فلا بد أن يطلب لنفسه سيدا، وإذا وجد السيد فلا محالة يوطن نفسه لطاعته وانقياده، ولا يرى مخالفته في شيء أصلا إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [البقرة: 131] وإلا لم تصح نسبة عبوديته. عن الأصمعي أنه أتى بغلام ليشتريه فقال له: ما اسمك؟ قال: ما تسميني قال: أي شيء تأكل؟ قال: ما تطعمني. قال: ما تشرب؟ قال: ما تسقيني قال: تريد أن أشتريك؟ قال: العبد لا يكون له إرادة والأمر بالعبادة بهذا المعنى يشمل الكافر والمؤمن وكل من فيه أهلية الخطاب، ويندرج فيه المبادي والنهايات والأصول والفروع. ثم إنه تعالى لما علم القصور البشري وضعف قواهم الفطرية والفكرية أرشدهم إليه ونبههم عليه بقوله «ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم» واعلم أن الطريق إلى معرفة الواجب سبحانه وتعالى بعد ما قلنا من الرجوع إلى النفس والتنبه لسمة العبودية، إما الإمكان أو الحدوث أو مجموعهما، وكل منهما في الجواهر أو في الأعراض أما الاستدلال بإمكان الذوات فإليه الإشارة بقوله تعالى وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ [محمد: 38] وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42] وأما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الاستدلال بإمكان الصفات فإليه الإشارة بقوله خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [العنكبوت: 44] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وبحدوث الأجسام قول إبراهيم عليه السلام لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام: 76] وبحدوث الأعراض دلائل الأنفس ودلائل الآفاق، فإن كل أحد يعلم بالضرورة أنه كان معدوما قبل ذلك، والموجود بعد العدم له موجد وليس هو نفسه ولا الأبوان ولا سائر الناس لعجز الكل، ولا طبائع الفصول والأفلاك الآفلات في أفق الإمكان فهو شيء غير متسم بسمة الحدوث والنقصان، وهذا الطريق هو أقرب الطرق إلى الأفهام، فلهذا أورده الله تعالى في فاتحة كتابه لينتفع به الخاص والعام مع أن فيه تذكيرا لنعمه السابقة وعطيته السابغة عليهم وعلى آبائهم، وتذكير النعم مما يوجب المحبة والميل إلى الإنصاف وترك الجدال. وأما قوله «لعلكم تتقون» ففيه بحثان: الأول: كلمة «لعل» للترجي أو الإشفاق ولا يحصلان إلا عند الجهل بالعاقبة وهو على الله محال والجواب أن الترجي راجع إلى العباد لا إلى الله تعالى كقوله لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى أي اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما في إيمانه، ثم الله عالم بما يؤول إليه أمره. وأيضا فمن ديدن الملوك أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم لإنجازها على أن يقولوا «عسى» و «لعل» ، وحينئذ لا يبقى لطالب ما عندهم شك في الفوز والنجاح بالمطلوب، أو جاء على طريق الأطماع دون التحقيق لئلا يتكل العباد مثل تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [التحريم: 8] وقع «لعل» موقع المجاز لا الحقيقة لأن الله عز وجل خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف، وركب فيهم العقول والشهوات وأزاح العلة في إقدارهم وتمكينهم، وهداهم النجدين وأراد منهم الخير والتقوى، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المترجي بين أن يفعل وبين أن لا يفعل، ونظيره لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] وهذا الجواب مبني على أن قوله «لعلكم» متعلق بخلفكم» مثل وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] لا ب «اعبدوا» وقيل: «لعل» بمعنى «كي» ووجه بأنها للأطماع والكريم الرحيم إذا أطمع فعل، فجرى إطماعه مجرى وعده المحتوم فلهذا قيل: إنها بمعنى «كي» قال القفال: في «لعل» معنى التكرير والتأكيد إذ اللام للإبتداء نحو «لقد» ، ولقولهم علك أن تفعل كذا و «عل» يفيد التكرير ومنه العلل بعد النهل. فقول القائل «افعل كذا لعلك تظفر بحاجتك» معناه افعله فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 (البحث الثاني) : إذا كانت العبادة تقوى فقوله «لعلكم تتقون» جار مجرى قوله: اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون واتقوا ربكم لعلكم تتقون. والجواب المنع من اتحاد مفهوميهما وخصوصا على ما فسرنا إذ المعنى يعود إلى قولنا صححوا نسبة العبودية لتتصفوا بصفة التقوى وهي الاجتناب عن المعاصي فقط، أو هو مع الإتيان بالأوامر، وأما قوله: هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً الآية. فنقول: فيه لفظ «الذي» مع صلته، إما أن يكون في محل النصب بدلا من «الذي خلقكم» أو على المدح والتعظيم، وإما أن يكون رفعا على المدح أيضا أي «هو الذي» ، وكلمة «الذي» موضوعة للإشارة إلى مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة. فقوله «جعل لكم الأرض فراشا» قضية معلومة فأدخل عليها «الذي» كي يتنبهوا للجاعل ويعترفوا به. والحاصل أنه تعالى عدد في هذا المقام عليهم خمسة دلائل: اثنين من الأنفس وهما خلقهم وخلق أصولهم، وثلاثة من الآفاق جعل الأرض فراشا والسماء بناء والأمور الحاصلة من مجموعهما وهي إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات بسببه، وسبب هذا الترتيب ظاهر لأن أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه، ثم ما منه منشؤه وأصله، ثم الأرض التي هي مكانه ومستقره، يقعدون عليها وينامون ويتقلبون كما يتقلب أحدهم على فراشه، ثم السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المبّنية على هذا القرار، ثم ما يحصل من شبه الازدواج بين المقلة والمظلة من إنزال الماء عليها والإخراج به من بطنها أشباه النسل من الحيوان من ألوان الغذاء وأنواع الثمار رزقا لبني آدم. وأيضا خلق المكلفين أحياء قادرين، أصل لجميع النعم. وأما خلق الأرض والسماء فذاك إنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة، وذكر الأصول مقدم على ذكر الفروع. وأيضا كل ما في السماء والأرض من الدلائل على وجود الصانع فهو حاصل في الإنسان بزيادة الحياة والقدرة والشهوة والعقل، ولما كانت وجوه الدلالة فيه أتم كان تقديمه في الذكر أهم. (وهاهنا مسائل) : الأولى في منافع الأرض: الفراش اسم لما يفرش كالمهاد لما يمهد والبساط لما يبسط، وليس من ضرورات الافتراش أن يكون سطحها مستويا كالفراش على ما ظن، فسواء كانت كذلك أو على شكل الكرة فالافتراش غير مستنكر ولا مدفوع لعظم جرمها وتباعد أطرافها. ولكنه لا يتم الافتراش عليها ما لم تكن ساكنة في حيزها الطبيعي وهو وسط الأفلاك، لأن الثقال بالطبع تميل إلى تحت كما أن الخفاف بالطبع تميل إلى فوق، والفوق من جميع الجوانب ما يلي السماء، والتحت ما يلي المركز، فكما أنه يستبعد صعود الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فيما يلينا إلى جهة السماء، فليستبعد هبوطها في مقابلة ذلك، لأن ذلك الهبوط صعود أيضا إلى السماء، فإذن لا حاجة في سكون الأرض وقرارها في حيزها إلى علاقة من فوقها، ولا إلى دعامة من تحتها، بل يكفي في ذلك ما أعطاها خالقها وركز فيها من الميل الطبيعي إلى الوسط الحقيقي بقدرته واختياره إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر: 41] ومما منّ الله تعالى به على عباده في خلق الأرض أنها لم تجعل في غاية الصلابة كالحجر، ولا في غاية اللين والانغمار كالماء، ليسهل النوم والمشي عليها، وأمكنت الزراعة واتخاذ الأبنية منها ويتأتى حفر الآبار وإجراء الأنهار. ومنها أنها لم تخلق في نهاية اللطافة والشفيف لتستقر الأنوار عليها وتسخن منها فيمكن جوارها. ومنها أن جعلت بارزة بعضها من الماء مع أن طبعها الغوص فيه لتصلح لتعيش الحيوانات البرية عليها، وسبب انكشاف ما برز منها وهو قريب من ربعها أنها لم تخلق صحيحة الاستدارة بل خلقت هي والماء بحيث إذا انجذب الماء بطبعه إلى المواضع الغائرة والمنخفضة منها بقي شيء منها مكشوفا، وصار مجموع الأرض والماء بمنزلة كرة واحدة يدل على ذلك فيما بين الخافقين. تقدم طلوع الكواكب وغروبها للمشرقين على طلوعها وغروبها للمغربين، وفيما بين الشمال والجنوب ازدياد ارتفاع القطب الظاهر وانحطاط الخفي للواغلين في الشمال، وبالعكس للواغلين في الجنوب، وتركب الاختلافين لمن يسير على سمت بين السمتين إلى غير ذلك من الأعراض الخاصة بالاستدارة يستوي في ذلك راكب البر وراكب البحر. ونتوء الجبال وإن شمخت لا يخرجها عن أصل الاستدارة لأنها بمنزلة الخشونة القادحة في ملاسة الكرة لا في استدارتها. ومنها الأشياء المتولدة فيها من المعادن والنبات والحيوان والآثار العلوية والسفلية، ولا يعلم تفاصيلها إلا موجدها. ومنها أن يتخمر الرطب به فيحصل التماسك في أبدان المركبات. ومنها اختلاف بقاعها في الرخاوة والصلابة والدماثة والوعورة بحسب اختلاف الأعراض والحاجات وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ [الرعد: 4] ومنها اختلاف ألوانها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ [فاطر: 27] ومنها انصداعها بالنبات وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [الطارق: 12] ومنها جذبها للماء المنزل من السماء وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون: 18] ومنها العيون والأنهار العظام التي فيها وَالْأَرْضَ مَدَدْناها [ق: 7] ومنها أن لها طبع الكرم والسماحة تأخذ واحدة وترد سبعمائة كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة: 261] ومنها حياتها وموتها وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: 33] ومنها الدواب المختلفة وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [البقرة: 164] ومنها النباتات المتنوعة وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: 7] فاختلاف ألوانها دلالة، واختلاف طعومها دلالة، واختلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 روائحها دلالة، فمنها قوت البشر، ومنها قوت البهائم كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [طه: 54] ومنها الطعام، ومنها الإدام، ومنها الدواء، ومنها الفواكه، ومنها كسوة البشر نباتية كالقطن والكتان، وحيوانية كالشعر والصوف والإبريسم والجلود. ومنها الأحجار المختلفة بعضها للزينة وبعضها للأبنية، فانظر إلى الحجر الذي يستخرج منه النار مع كثرته، وانظر إلى الياقوت الأحمر مع عزته، وانظر إلى كثرة النفع بذلك الحقير وقلة النفع بهذا الخطير. ومنها ما أودع الله تعالى فيها من المعادن الشريفة كالذهب والفضة، ثم تأمل أن البشر استنبطوا الحرف الدقيقة والصنائع الجليلة واستخرجوا السمك من قعر البحر، واستنزلوا الطير من أوج الهواء، لكن عجزوا عن اتخاذ الذهب والفضة. والسبب فيه أن معظم فائدتهما ترجع إلى الثمنية، وهذه الفائدة لا تحصل إلا عند العزة والقدرة على اتخاذهما تبطل هذه الحكمة فلذلك ضرب الله دونهما بابا مسدودا، ومن هاهنا اشتهر في الألسنة «من طلب المال بالكيمياء أفلس» . ومنها ما يوجد على الجبال والأراضي من الأشجار الصالحة للبناء والسقف ثم الحطب، وما أشد الحاجة إليه في الخبز والطبخ. ولعل ما تركنا من المنافع أكثر مما عددنا، فإذا تأمل العاقل في هذه الغرائب والعجائب اعترف بمدبر حكيم ومقدر عليم إن كان ممن يسمع ويعي ويبصر ويعتبر. الثانية في منافع السماء: البناء مصدر سمي به المبني بيتا كان أو قبة أو خباء، وأبنية العرب أخبيتهم، ومنه بنى على امرأته لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديدا. ثم إن الله تعالى زين السماء الدنيا بالمصابيح وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الملك: 5] وبالقمر وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح: 16] وبالشمس وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نوح: 16] وبالعرش رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: 129] وبالكرسي وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [البقرة: 255] وباللوح فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 22] وبالقلم ن وَالْقَلَمِ [القلم: 1] وسماها سقفا محفوظا وسبعا طباقا وسبعا شدادا. وذكر أن خلقها مشتمل على حكم بليغة وغايات صحيحة رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا [آل عمران: 191] وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: 27] وجعلها مصعد الأعمال ومهبط الأنوار وقبلة الدعاء ومحل الضياء والصفاء، وجعل لونها أنفع الألوان وهو المستنير، وشكلها أفضل الأشكال وهو المستدير، ونجومها رجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وقيض للشمس طلوعا يسهل معه التقلب لقضاء الأوطار في الأطراف، وغروبا يصلح معه الهدوء والقرار في الأكنان لتحصيل الراحة وانبعاث القوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الهاضمة وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء، وأيضا لولا الطلوع لانجمدت المياه وغلبت البرودة والكثافة وأفضت إلى خمود الحرارة الغريزية وانكسار سورتها، ولولا الغروب لحميت الأرض حتى يحترق كل من عليها من حيوان ونبات، فهي بمنزلة سراج يوضع لأهل بيت بمقدار حاجتهم ثم يرفع عنهم ليستقروا ويستريحوا. فصار النور والظلمة على تضادّهما متظاهرين على ما فيه صلاح قطان الأرض، وهاهنا نكتة، كأن الله تعالى يقول: لو وقفت الشمس في جانب من السماء فالغني قد يرفع بناءه على كوة الفقير الجار فلا يصل النور إلى الفقير، لكني أدير الفلك وأسيرها حتى يجد الفقير نصيبه كما وجد الغني نصيبه. أما ارتفاع الشمس وانحطاطها فقد جعله الله سببا لإقامة الفصول الأربعة. ففي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد منه مواد الثمار، ويلطف الهواء ويكثر السحاب والمطر وتقوى أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزية في البواطن. وفي الربيع تتحرك الطباع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء، وينوّر الشجر ويهيج الحيوان للفساد. وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار وتتحلل فضول الأبدان ويجف وجه الأرض ويتهيأ للعمارة والزراعة. وفي الخريف يظهر البرد واليبس فتدرك الثمار وتستعد الأبدان قليلا قليلا للشتاء. وأما القمر فهو تلو الشمس وخليفتها وبه يعلم عدد السنين والحساب ويضبط المواقيت الشرعية، ومنه تحصيل النماء والرواء، وقد جعل الله تعالى في طلوعه مصلحة وفي غيبته مصلحة. يحكى أن أعرابيا نام عن جمله ليلا ففقده، فلما طلع القمر وجده فنظر إلى القمر فقال: إن الله صوّرك ونوّرك وعلى البروج دوّرك، فإذا شاء نورك وإذا شاء كوّرك، فلا أعلم مزيدا أساله لك، ولئن أهديت إليّ سرورا لقد أهدى الله إليك نورا ثم أنشأ يقول: ماذا أقول وقولي فيك ذو قصر ... وقد كفيتني التفصيل والجملا إن قلت لا زلت مرفوعا فأنت كذا ... أو قلت زانك ربي فهو قد فعلا وقد كان في العرب من يذم القمر ويقول: القمر يدرك الهارب، ويهتك العاشق، ويبلي الكتان، ويهرم الشاب، وينسي ذكر الأحباب، ويقرب الدين، ويدني الحين. وكيفية ارتباط القمر وسائر الكواكب بالشمس وكمية حركتها وبيان اختلافات أوضاعها وعلل كل منها، فن برأسه لا يحتمل إيراده هاهنا. قال الجاحظ: إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعدّ فيه كل ما يحتاج إليه. فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه، وضروب النبات مهيآت لمنافعه، وصنوف الحيوان متصرفة في مصالحه، فهذه جملة واضحة دالة على أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية. الثالثة في أن السماء أفضل أم الأرض: قال بعضهم: السماء أفضل لأنها متعبد الملائكة وما فيها بقعة عصي الله فيها، ولما أتى آدم عليه السلام بتلك المعصية أهبط من الجنة وقال الله تعالى: لا يسكن في جواري من عصاني. وقال تعالى: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الأنبياء: 32] وقال: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الفرقان: 61] وورد في الأكثر ذكر السماء مقدما على ذكر الأرض. والسماويات مؤثرة والأرضيات متأثرة، والمؤثر أشرف من المتأثر. وقال آخرون: بل الأرض أفضل لأنه تعالى وصف بقاعا من الأرض بالبركة إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً [آل عمران: 96] فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ [القصص: 3] إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ [الإسراء: 1] مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأعراف: 137] يعني أرض الشام. ووصف جملة الأرض بالبركة وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ [فصلت: 10] فإن قيل: وأيّ بركة في المفاوز المهلكة؟ قلنا: إنها مساكن الوحوش ومرعاها، ومساكن الناس إذا احتاجوا إليها، ومساكن خلق لا يعلمهم إلا الله تعالى، فلهذه البركات قال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذاريات: 20] تشريفا لهم لأنهم هم المنتفعون بها كما قال: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وخلق الأنبياء من الأرض مِنْها خَلَقْناكُمْ [طه: 55] وأودعهم فيها وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه: 55] وأكرم نبيه المصطفى فجعل الأرض كلها له مسجدا وطهورا. ولما خلق الله الأرض وكانت كالصدفة والدرة المودعة فيها آدم عليه السلام وأولاده، ثم علم الله أصناف حاجاتهم قال: يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم فقال: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [عبس: 25، 26] وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ [إبراهيم: 32] يا عبدي إن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة، ولو أني خلقت الأرض منهما هل كان يحصل منها هذه المنافع؟ ثم إني جعلت هذه الأشياء في الدنيا مع أنها سجن لك، فكيف الحال في الجنة؟ فالحاصل أن الأرض أمك بل أشفق من الأم، لأن الأم تسقيك نوعا واحدا من اللبن، والأرض تطعمك ألوانا من الأطعمة. ثم قال: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه: 55] معناه نردكم إلى هذه الأم وهذا ليس بوعيد، لأن المرء لا يتوعد بأمه وذلك لأن مقامك من الأم التي ولدتك أضيق من مقامك من الأرض، ثم إنك كنت في بطن الأم الصغرى تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش، فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى؟ ولكن الشرط أن تدخل بطن الأم الكبرى كما كنت في بطن الأم الصغرى، ما كانت لك زلة فضلا من أن يكون لك كبيرة، بل كنت مطيعا لله، فحيث دعاك مرة بالخروج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 إلى الدنيا خرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك، واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك. الرابعة: معنى إخراج الثمرات بالماء وإنما خرجت بقدرة الله ومشيئته أنه جعل الماء سببا في خروجها ومادة لها كالنطفة في خلق الولد وهو قادر على إنشاء الأشياء بلا أسباب ومواد كما أنشأ نفوس الأسباب والمواد، ولكن له في هذا التدريج والتسبب حكما يتبصر بها من يستبصر، ويتفطن بها من يعتبر و «من» في «من الثمرات» للتبعيض. كما أنه قصد بتنكير «ماء» و «رزقا» معنى البعضية لأنه مفرد في سياق الإثبات، فكأنه قيل: وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم وهذا معنى صحيح، لأنه لم ينزل من السماء الماء كله، ولا أخرج بالمطر جميع الثمرات، ولا جعل الرزق كله في الثمرات فيكون كل الثمرات بعض الرزق فضلا عن بعضها. ويجوز أن تكون للبيان كقولك «أنفقت من الدراهم ألفا» . ثم إن كانت «من» للتبعيض كان انتصاب «رزقا» بأنه مفعول له، وإن كانت للبيان كان مفعولا لا «خرج» و «لكم» صفة جارية على الرزق إن أريد به العين، وإن جعل مصدرا فهو مفعول به، كأنه قيل: رزقا إياكم. وإنما قيل: «الثمرات» على لفظ القلة وإن كان الثمر المخرج بماء السماء جما كثيرا لأنه قصد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك «فلان أدركت ثمرة بستانه» تريد ثماره كقولهم للقصيدة «كلمة» وللقرية «مدرة» ، أو لأن القلة وضعت موضع الكثرة نحو ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] أو تنبيها على قلة ثمار الدنيا في جنب ثمار الآخرة. الخامسة: قوله «فلا تجعلوا» إما أن يتعلق بالأمر أي اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له أندادا، لأن أصل العبادة وأساسها التوحيد، وأن لا يجعل لله ند ولا شريك، أو ب «لعل» فتنصب «تجعلوا» بعده مثل لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ [غافر: 37] في رواية حفص عن عاصم. أو «بالذي جعل لكم» إذا رفعته على الابتداء، أي هو الذي نصب لكم هذه الأدلة القاطعة والآيات الناطقة بالوحدانية فلا تتخذوا له تعالى شركاء. والند المثل، ولا يقال إلا للمثل المخالف المنادّ من ناددت الرجل خالفته ونافرته، وندّ ندودا إذا نفر. ومعنى قول الموحد «ليس لله ند ولا ضد» نفي ما يسد مسده ونفي ما ينافيه. وقوله «وأنتم تعلمون» بترك المفعول معناه وأنتم من أهل العلم والمعرفة بدقائق الأمور وغوامض الأحوال. وهكذا كانت العرب خصوصا قطان الحرم من قريش وكنانة، لا يشق غبارهم في الدهاء والفطنة. والتوبيخ فيه آكد أي أنتم العرافون المميزون، ثم ما أنتم عليه في أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ديانتكم من جعل الأصنام لله أندادا هو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل. ويجوز أن يقدر: وأنتم تعلمون أنه لا يماثل، أو وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت، وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله كقوله هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الروم: 4] واعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكا يساويه في الوجوب والعلم والقدرة والحكمة، ولكن الثنوية يثبتون إلهين: حكيم يفعل الخير، وسفيه يفعل الشر. أما اتخاذ معبود سوى الله ففي الذاهبين إليه كثرة: الفريق الأول: عبدة الكواكب وهم الصابئة فإنهم يقولون: إن الله تعالى خلق هذه الكواكب وهي المدبرات في هذا العلم، فيجب علينا أن نعبد الكواكب والكواكب تعبد الله تعالى. والفريق الثاني: عبدة المسيح عليه السلام. والفريق الثالث: عبدة الأوثان. فنقول: لا دين أقدم من دين عبدة الأوثان لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح عليه السلام، وهو إنما جاء بالرد عليهم وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح: 23] ودينهم باق إلى الآن. والدين الذي هذا شأنه يستحيل أن يعرف فساده بالضرورة، ولكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السماء والأرض علم ضروري، فيمتنع إطباق الجمع العظيم عليه، فوجب أن يكون لهم غرض آخر سوى ذلك. والعلماء ذكروا فيه وجوها: أحدها: ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي أن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يقولون بالله وملائكته، ويعتقدون أنه جسم ذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وكذا الملائكة، وأنهم كلهم قد احتجبوا عنا بالسماء، وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر على الهيئة التي كانوا يعتقدونها من صور الإله والملائكة فيعكفون على عبادتها قاصدين به طلب الزلفى إلى الله تعالى وملائكته، فعلى هذا السبب في عبادة الأوثان هو اعتقاد الشبه. وثانيها: ما ذكره أكثر العلماء، وهو أن الناس لما رأوا تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب، واعتقدوا ارتباط السعادة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس، بالغوا في تعظيمها. فمنهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذواتها وهي التي خلقت هذه العوالم، ومنهم من اعتقد أنها مخلوقة لله الأكبر لكنها خالقة لهذا العالم، وأنها الوسائط بين الله والبشر، فلا جرم اشتغلوا بعبادتها والخضوع لها. ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار، اتخذوا لها أصناما وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادة تلك الأجرام العالية، ومتقربين إلى أشباحها الغائبة. ولما طالت المدة تركوا ذكر الكواكب وتجردوا لعبادة تلك التماثيل، فهؤلاء بالحقيقة عبدة الكواكب. وثالثها: أن أصحاب الأحكام كانوا يرتقبون أوقاتا في السنين المتطاولة نحو الألف والألفين، ويزعمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 أن من اتخذ طلسما في ذلك الوقت على وجه خاص فإنه ينتفع به في أحوال مخصوصة نحو السعادة والخصب ودفع الآفات، وكانوا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عظموه لاعتقادهم أنهم ينتفعون به، فلما بالغوا في ذلك التعظيم صار ذلك كالعبادة، ثم نسوا مبدأ الأمر بتطاول المدة واشتغلوا بعبادتها. ورابعها: أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون فيه أنه مستجاب الدعوة ومقبول الشفاعة عند الله تعالى، اتخذوا صنما على صورته وعبدوها على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعا لهم يوم القيامة عند الله تعالى وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] وخامسها: لعلهم اتخذوها قبلة لصلاتهم وطاعاتهم ويسجدون إليها لا لها كما أنا نسجد إلى القبلة لا للقبلة، ولما استمرت هذه الحالة ظن جهال القوم أنه يجب عبادتها. وسادسها: لعلهم كانوا من المجسمة فاعتقدوا جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل. فهذه هي الوجوه التي يمكن حمل مذهبهم عليها حتى لا يصير بحيث يعلم بطلانه بالضرورة. فإن قيل: لما رجع حاصل مذاهب عبدة الأوثان إلى الوجوه التي ذكرت، فما وجه المنع عنها؟ قلنا: لما تقربوا إليها وعظموها وسموها آلهة أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله قادرة على مخالفته ومضادته، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم، وكما تهكم بهم بلفظ الند، شنع عليهم واستفظع شأنهم بأن جعلوا أندادا كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ند قط، ولا يفيد في طريق عبادته إلا الحنيفية والإخلاص ورفع الوسائط من البين. واعلم أن اليونانيين كانوا قبل خروج الإسكندر عمدوا إلى بناء هياكل لهم معروفة بأسماء القوى الروحانية والأجرام النيرة، واتخذوها معبودة لهم على حدة. وقد كان هيكل العلة الأولى وهي عندهم الأمر الإلهي، وهيكل العقل الصريح، وهيكل السياسة المطلقة، وهيكل النفس والصور مدورات كلها، وكان هيكل زحل مسدسا، وهيكل المشتري مثلثا، وهيكل المريخ مستطيلا، وهيكل الشمس مربعا، وهيكل الزهرة مثلثا في جوفه مربع، وهيكل عطارد مثلثا في جوفه مستطيل، وهيكل القمر مثمنا. وزعم أصحاب التاريخ أن عمرو بن لحيّ لما ساد قومه وترأس على طبقاتهم وولي أمر البيت الحرام، اتفقت له سفرة إلى البلقاء فرأى قوما يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا: هذه أوثان نستنصر بها فننصر، ونستسقي بها فنسقي، فالتمس منهم أن يأتوا بواحد منها فأعطوه الصنم المعروف بهبل، فصار به إلى مكة ووضعه في الكعبة، ودعا الناس إلى تعظيمه، وذلك في أول ملك سابور ذي الأكتاف. ومن بيوت الأصنام المشهورة (غمدان) الذي بناه الضحاك على اسم الزهرة بمدينة صنعاء وخربه عثمان بن عفان. ومنها (نوبهار) الذي بناه منوجهير الملك على اسم القمر. ثم كان لقبائل العرب أوثان معروفة مثل (ود) بدومة الجندل لكلب، و (سواع) لبني هذيل، و (يغوث) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 لمذحج، و (يعوق) لهمدان، و (نسر) بأرض حمير لذي الكلاع، و (اللات) بالطائف لثقيف، و (منات) بيثرب للخزرج، و (العزى) لكنانة بنواحي مكة، و (أساف) و (نائلة) على الصفا والمروة. وكان قصي جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن عبادتها ويدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، وكذلك زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق قومه وهو الذي يقول: أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور تركت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الرجل البصير [سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 24] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) القراآت: ما يتعلق بها من ضم ميم الجمع ومن إمالة الناس يعرف مما مر. الوقوف: «من مثله» (ص) «صادقين» «والحجارة» (ج) على تقدير هي أعدت للكافرين، والوصل أجود لأن قوله «أعدت» بدل الجملة الأولى في كونها صلة للتي «للكافرين» (هـ) . التفسير: لما نبه بالآيتين السابقتين على طريق الاعتراف بوجود الصانع ووحدانيته، أعقبهما بما يدل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحقية ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر في كون القرآن معجزا طريقان: الأول: أنه إما أن يكون مساويا لكلام سائر الفصحاء أو زائدا عليه بما لا ينقض العادة أو بما ينقضها. والأولان باطلان لأنهم- وهم زعماء وملوك الكلام- تحدّوا بسورة منه مجتمعين أو منفردين ثم لم يأتوا بها مع أنهم كانوا متهالكين في إبطال أمره حتى بذلوا النفوس والأموال، وارتكبوا المخاوف والمحن، وكانوا في الحمية والأنفة إلى حد لا يقبلون الحق فكيف الباطل؟ فتعين القسم الثالث. الطريق الثاني: أن يقال: إن بلغت السورة المتحدى بها في الفصاحة إلى حد الإعجاز فقد حصل المقصود وإلا فامتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجز، فعلى التقديرين يحصل الإعجاز. فإن قيل: وما يدريك أنه لن يعارض في مستأنف الزمان وإن لم يعارض إلى الآن؟ قلت: لأنه لا احتياج إلى المعارضة أشد مما في وقت التحدي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وإلا لزم تقرير المبطل المشبه للحق. وحيث لم تقع المعارضة وقتئذ علم أن لا معارضة، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله «ولن تفعلوا» كما يجيء. واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة فمدرك الإعجاز هو الذوق. ومن فسر الإعجاز بأنه صرف الله تعالى البشر عن معارضته، أو بأنه هو كون أسلوبه مخالفا لأساليب الكلام، أو بأنه هو كونه مبرأ عن التناقض، أو بكونه مشتملا على الأخبار بالغيوب وبما ينخرط في سلك هذه الآراء، فقد كذب ابن أخت خالته. فإنا نقطع أن الاستغراب من سماع القرآن إنما هو من أسلوبه، ونظمه المؤثر في القلوب تأثيرا لا يمكن إنكاره لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لا من صرف الله تعالى البشر عن الإتيان بمثله، كما لو قال أحد: معجزتي أن أضع الساعة يدي على رأسي ويتعذر ذلك عليكم. وكان كما قال، جاء الاستغراب من التعذر لا من نفس الفعل. وأيضا تسمية كل أسلوب غريب معجزا باطل، وكذا تسمية كل كلام مبرإ عن التناقض أو مشتملا على الغيب ككلام الكهان ونحوهم. فإن قيل: كيف نعتقد إعجاز القرآن بحيث يعجز عنه الثقلان فقط والزائد غير معلوم الحال، أو بحيث يعجز عنه المخلوقات بأسرها؟ قلنا: لا ريب أن الحق هو القسم الثاني، إلا أن التحدي لم يقع إلا بالقدر الأول وبه يثبت صحة النبوة. لكن النبي صادق وقد أخبر بأنه كلام الله تعالى، ونحن نعلم أن كلام صفته وصفته يجب أن تكون في غاية الكمال ونهاية الجلال. فالقرآن إذا في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة. والبلاغة هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، وهي فينا كأنها هيئة اجتماعية حاصلة من معرفة قوانين علمي المعاني والبيان. والفصاحة إما معنوية وهي خلوص الكلام عن التعقيد، والتعقيد أن يعثر صاحبه فكرك في متصرفه ويشيك طريقك إلى المعنى ويوعر مذهبك نحوه، حتى يقسم فكرك ويشعب ظنك فلا تدري من أين تتوصل وبأي طريق معناه يتحصل. وإما لفظية وهي أن تكون الكلمة عربية أصلية، وعلامة ذلك أن تكون على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدرب، واستعمالهم لها أكثر، وأن تكون أجرى على قوانين اللغة العربية، وأن تكون سليمة عن التنافر، عذبة على العذبات، سلسة على الأسلات. والحاكم في ذلك هو الذوق السليم والطبع المستقيم، فقلما ينجع هنالك إلا ذلك. ثم إنه قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة تقتضي نقصان الفصاحة، ومع ذلك فإنه بلغ في الفصاحة النهاية التي لا غاية وراءها، فدل ذلك على كونه معجزا. منها أن فصاحة العرب أكثرها في وصف المشاهدات كبعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 طعنة أو وصف حرب أو وصف غارة، وليس في القرآن من هذه الأشياء مقدار كثير. ومنها أنه تعالى راعى طريق الصدق وتبرأ عن الكذب، وقد قيل: أحسن الشعر أكذبه. ولهذا كان لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت لما أسلما وتركا سلوك سبيل الكذب والتخيل ترك شعرهما. ومنها أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح إنما يتفق في بيت أو في بيتين من قصيدة، والقرآن كله فصيح ككل جزء منه. ومنها أن الشاعر الفصيح إذا كرر كلامه لم يكن الثاني في الفصاحة بمنزلة الأول، وكل مكرر في القرآن فهو في نهاية الفصاحة وغاية الملاحة. أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوّع ومنها أنه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم المنكرات والحث على مكارم الأخلاق والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، ولا يخفى ضيق عطن البلاغة في هذه المواد. ومنها أنهم قالوا: إن شعر امرئ القيس يحسن في النساء وصفة الخيل، وشعر النابغة عند الخوف، وشعر الأعشى عند الطرب ووصف الخمر، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء والقرآن جاء فصيحا في كل فن من فنون الكلام. فانظر في الترغيب إلى قوله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] وفي الترهيب وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ [إبراهيم: 15- 17] وفي الزجر فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا [العنكبوت: 40] وفي الوعظ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء: 205] وفي الإلهيات اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ [الرعد: 8، 9] . ومنها أن القرآن أصل العلوم كلها كعلم الكلام وعلم أصول الفقه وعلم الفقه واللغة والنحو والصرف والنجوم والمعاني والبيان وعلم الأحوال وعلم الأخلاق وما شئت، ومن يطيق وصف القرآن وبلاغته فإنه كما أن الإتيان بأقصر سورة منه فوق حد البشر فوصفه كما هو فوق طاقة البشر. «فدع عنك بحرا ضل فيه السوابح» وإنما قيل: «وإن كنتم» دون إذ كنتم لما عرفت في تفسير لا رَيْبَ فِيهِ. وإنما اختير «نزلنا» على لفظ التنزيل دون الإنزال، لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم وهو من مجازه لمكان التحدي، وذلك أنهم كانوا يقولون: لو أنزله الله لأنزله جملة واحدة وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: 32] أي على خلاف ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقا شيئا فشيئا وحينا فحينا حسب ما يعنّ لهم من الأحوال المتجددة والحاجات السانحة، فقيل لهم: إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه، وهلموا نجما من نجومه أصغر سورة وهي الكوثر، ومعنى السورة مذكور في المقدمة الرابعة. وإنما قيل: «على عبدنا» دون أن يقال على محمد كقوله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ [محمد: 2] تشريفا له صلى الله عليه وسلم وإعلاما بأنه صلى الله عليه وسلم ممن صحح نسبة العبودية المأمور بها في قوله تعالى: «يا أيها الناس اعبدوا» وإضافة العبد إلى الضمير أيضا تؤيد ذلك كقوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الإسراء: 65] . وفيه أن السعادة كل السعادة في نسبة العبدية، فهي التي توصل إلى العندية فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 55] «وأنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي» وكمال العندية في كمال الحرية عما سوى الله. وأما فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سورا، فمن ذلك أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع واشتملت الأنواع على الأصناف، كان إفراز كل من صاحبه أحسن، ولهذا وضع المصنفون كتبهم على الأبواب والفصول ونحوها. ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر، كان أنشط له كالمسافر إذا قطع ميلا أو طوى فرسخا، ومن ثم جزأوا القرآن أسباعا وأجزاء وعشورا وأخماسا، ومنها أن الحافظ إذا حفظ السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها فيحل في نفسه، ومنه حديث أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا. ولهذا كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل. و «من مثله» متعلق بمحذوف أي بسورة كائنة من مثله، والضمير لما نزلنا أو لعبدنا. ويجوّز أن يتعلق بقوله «فأتوا» والضمير للعبد معناه، فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب والنظم الأنيق، أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشرا عربيا أو أميا لم يقرأ الكتب ولم يقصد إلى مثل ونظير معين، ولكنه كقول من قال للحجاج وقد توعده بقوله «لأحملنك على الأدهم مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب» أراد من كان على صفة الأمير من السلطان والقدرة وبسطة اليد، ولم يقصد أحدا يجعله مثل الحجاج. وردّ الضمير على المنزل أوجه وعليه المحققون. ويروى عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن، ولأن ذلك يطابق الآيات الأخر فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [البقرة: 23] فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود: 13] ، ولأن البحث إنما وقع في المنزل لا في المنزل عليه، إذ المعنى وإن ارتبتم أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا أنتم شيئا مما يماثله. ولو كان الضمير مردودا إلى الرسول اقتضى الترتيب أن يقال: وإن ارتبتم في أن محمدا صلى الله عليه وسلم منزل عليه، فأتوا بسورة ممن يماثله. وأيضا لو كان عائدا إلى القرآن اقتضى أن يكونوا عاجزين عن الإتيان بمثله، مجتمعين أو متفرقين، أميين أو قارئين. ولو عاد إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 النبي صلى الله عليه وسلم اقتضى أن يكون الشخص الواحد الأمي الذي هو مثله عاجزا، ولا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى، ولا سيما فإنه يلزم من الوجه الثاني تقرير نقص للنبي صلى الله عليه وسلم، وإيهام أنّ الإتيان بالقرآن ممن يكون قارئا ممكن. وأيضا الأول هو الملائم لقوله «وادعوا شهداءكم» إذ لو كان المراد فليأت واحد آخر أمي بنحو ما أتى به هذا الواحد، لم يحتج أن يستظهر بالشهداء وهي جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادات. والمراد بها إما آلهتهم كأنه قيل: إن كان الأمر كما تقولون من أنها تستحق العبادة لما أنها تنفع وتضر فقد دفعتم في منازعة محمد إلى فاقة شديدة فتعجلوا الاستعانة بها، وإلا فاعلموا أنكم مبطلون فيكون في الكلام محاجة من جهتين: من جهة إبطال كونها آلهة، ومن جهة إبطال ما أنكروه من إعجاز القرآن. وإما أكابرهم ورؤساؤهم أي ادعوهم ليعينوكم على المعارضة، أو ليحكموا لكم وعليكم. ومعنى «دون» أدنى مكان من الشيء، ومنه الشيء الدون وهو الحقير، ودوّن الكتب إذا جمعها بتقليل المسافة بينها. ويقال هذا دون ذلك إذا كان أحط منه قليلا، ودونك هذا أي خذه من دونك أي من أدنى مكان منك، فاختصر واستعير للتفاوت في الأحوال والرتب. وقيل: زيد دون عمرو في الشرف والعلم، ومنه قول من قال لعدوّه وقد كان يثني عليه رياء: أنا دون هذا وفوق ما في نفسك. واتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد وتخطى حكم إلى حكم. قال الله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 28] أي لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين. و «من دون الله» متعلق ب «شهداءكم» أو ب «ادعوا» وعلى الأول يحتمل ثلاثة معان: ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق، أو ادعوا الذين زعمتم أنهم يشهدون لكم بين يدي الله من قول الأعشى: تريك القذى من دونها وهي دونه أي تريك القذى قدام الزجاجة والحال أن الخمر قدام القذى لرقتها وصفائها، وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن المعجز بفصاحته غاية التهكم بهم، أو ادعوا شهداءكم من دون الله أي من دون أوليائه ومن غير المؤمنين ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله، وهذا من المساهلة وإرخاء العنان والإشعار بأن شهداءهم- وهم فرسان البلاغة- تأبى بهم الطباع وتجمح بهم الإنسانية والأنفة أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحة الفاسد. وعلى الثاني يحتمل معنيين: ادعوا من دون الله شهداءكم يعني لا تستشهدوا بالله ولا تقولوا الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 يشهد أن ما ندعيه حق كما يقول العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه، وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم ظاهرة تصحح بها الدعاوى عند الحكام، وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم وانخزالهم، وأن الحجة قد بهرتهم ولم تبق لهم متشبثا غير قولهم «الله يشهد إنا لصادقون» . سئل بعض العرب عن نسبه فقال: قرشي والحمد لله، فقيل له: قولك: «الحمد لله» في هذا المقام ريبة. أو المراد بالشهداء، الله تعالى، وكل من له أهلية الحضور من الجن والإنس. فكأنه قيل لهم ادعوا غير الله من الجن والإنس من أردتم كقوله قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء: 88] الآية وإنما استثنى الله لأنه القادر وحده على أن يأتي بمثله دون كل شاهد. واعلم أن التحقيق في التحدي هو أن النبي يقول: إني مخصوص من الله تعالى بمزيد الكرامة والنور، وجعلني واسطة بينكم وبين هدايتكم فاتبعون أهدكم سبيل الخير والرشاد، وإن كنتم في ريب مما أقول، فانظروا إلى هذا الذي أقدر عليه بإظهار الله تعالى إياه على يدي وأنتم لا تقدرون عليه لعدم إقداره، لتعرفوا أني خصصت بمزيد فضل من عنده وأني صادق فيما أقول، فإن أنصفوا من أنفسهم بمشيئة الله تعالى ونور هدايته اتبعوه واهتدوا، وإلا بقوا في الضلالة خائبين. وكل هذا من عالم الأسباب التي ربط الله تعالى بها الوقائع والحوادث حسب ما أراد، ولا يلزم من هذا أن يكون للعبد قدرة مستقلة يقع التحدي عليها، بل الله يهدي من يشاء وكل بقدر. وقوله «إن كنتم صادقين» قيد لقوله «فأتوا» ولقوله «وادعوا» المعطوف عليه. ويجوز أن يكون قيدا لقوله «وادعوا» لأن قوله «فأتوا» مقيد بقوله و «إن كنتم» وجواب الشرط الثاني محذوف لدلالة ما قبله وهو مثله عليه التقدير: وإن كنتم في ريب فأتوا، وإن كنتم صادقين في أن أصنامكم تعينكم، أو في أن القرآن غير معجز، فادعوا شهداءكم. وإنما قلنا: الجواب محذوف، لأن الجزاء لا يتقدم على الشرط، فإن للشرط صدر الكلام كالاستفهام، ولهذا لم يلزم الفاء في قولك «أنت مكرم إن جئتني» وإنما تقدم ما يدل عليه ومثله في القرآن كثير فاعتبره في كل موضع. وأما قوله «فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا» الآية. فأقول أولا: إنها تدل على إعجاز القرآن وصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من وجوه: أحدها: أنا نعلم بالتواتر أن العرب كانوا يعادونه صلى الله عليه وسلم أشد المعاداة، ويتهالكون في إبطال أمره وفراق الأوطان والعشيرة وبذل النفوس والمهج منهم من أقوى ما يدل على ذلك. فإذا انضاف إليه مثل هذا التقريع وهو قوله «فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا» فلو أمكنهم الإتيان بمثله لأتوا به، وحيث لم يأتوا به ظهر كونه معجزا. وثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم إن كان متهما عندهم فيما يتعلق بالنبوة، فقد كان معلوم الحال في وفور العقل. فلو خاف صلى الله عليه وسلم عاقبة أمره لتهمة فيه صلى الله عليه وسلم- حاشاه عن ذلك- لم يبالغ في التحدي إلى هذه الغاية. وثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم لو لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 يكن قاطعا بنبوته لكان يجوز خلافه، وبتقدير وقوع خلافه يظهر كذبه، فالمبطل المزوّر لا يقطع في الكلام قطعا، وحيث جزم دل على صدقه. ورابعها: أن قوله «ولن تفعلوا» وفي «لن» ، تأكيد بليغ في نفي المستقبل إلى يوم الدين، إخبار بالغيب. وقد وقع كما قال صلى الله عليه وسلم، لأن أحدا لو عارضه صلى الله عليه وسلم لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه عادة، لا سيما والطاعنون فيه صلى الله عليه وسلم أكثف عددا من الذابين عنه صلى الله عليه وسلم، وإذا لم تقع المعارضة إلى الآن غلب على الظن، بل حصل الجزم أنها لا تقع أبدا لاستقرار الإسلام وقلة شوكة الطاعنين. وإنما جيء ب «إن» الذي للشك دون «إذا» الذي للوجوب والقطع، مع أن انتفاء إتيانهم بالسورة واجب بناء على حسبانهم وطمعهم، فإنهم كانوا بعد غير جازمين بالعجز عن المعارضة لاتكالهم على بلاغتهم. وأيضا فيه تهكم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاويه: إن غلبتك لم أبق عليك. وإنما اختير قوله «فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا» على قوله «فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله، طلبا للوجازة، فإن الإتيان فعل من الأفعال، وحذف مفعول فعل كثير دون مفعول أتى فهو جار مجرى الكناية التي تعطيك اختصارا يغنيك عن طول المكنى عنه، كما لو قلت: أتيت فلانا وأعطيته درهما. فيقال لك: نعم ما فعلت. وقوله «ولن تفعلوا» جملة معترضة لا محل لها. وليس الواو للحال وإنما هو للاستئناف. والمعترضة تجيء بالواو وبدون الواو، وقد اجتمعتا في قوله: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة: 76] وإنما لم يقل فإن لم تفعلوا فاتركوا العناد كما هو الظاهر، لأن اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد، فوضع موضعه من حيث إنه من نتائجه، لأن من اتقى النار ترك المعاندة، ونظيره قول الملك لجيشه: إن أردتم الكرامة عندي فاحذروا سخطي. يريد فاتبعون وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط، فهو من باب الكناية. وفائدته الإيجاز الذي هو من حلية القرآن، وتهويل شأن العناد بأنه الموجب للنار، ولهذا شنع بتفظيع أمرها. والوقود ما ترفع به النار، وأما المصدر فمضموم وقد جاء فيه الفتح. فإن قلت: صلة «الذي» و «التي» يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطب، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟ قلنا: لا يمتنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب، أو سمعوه من رسول الله، أو يكون إشارة إلى ما نزلت بمكة قبل نزول هذه بالمدينة وذلك في سورة التحريم قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [التحريم: 6] ولهذا عرّفت هاهنا مشارا بها إلى ما عرفوه ثمة أوّلا، والمعنى: اتقوا نارا ممتازة عن غيرها من النيران بأنها لا تتقّد إلا بالناس والحجارة، أو بأنها توقد بنفس ما يراد إحراقه وإحماؤه، أو بأنها لإفراط حرها إذا اتصلت بما لا يشتعل به نار اشتعلت وارتفع لهبها. ولعل لكفار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الجن وشياطينهم نارا وقودها الشياطين جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب. والحجارة قيل: هي حجارة الكبريت. وقيل: هي ما نحتوها أصناما إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] لأنهم لما اعتقدوا فيها أنها شفعاؤهم عند الله، وأنهم ينتفعون بها ويدفعون المضارّ عن أنفسهم، جعلها الله عذابهم إبلاغا في إيلامهم وتوريثا لنقيض مطلوبهم، ونحوه ما يفعله بالذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، أي يمنعون حقوقها حيث يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التوبة: 35] والتاء في الحجارة لتأكيد التأنيث في الجماعة نحو: صقورة. وقد يدور في الخلد من هذه الآية، ومن قوله ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ [البقرة: 74] ومن قوله نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة: 6، 7] أن المراد بالحجارة هي الأفئدة أي وقودها الناس وقلوبهم. وتخصيص القلب بالذكر لأنه أشرف الأعضاء وأولى بالإحراق إن كان مقصرا في درك ما خلق الإنسان لأجله. ومعنى أعدت هيئت وجعلت عدّة لعذابهم، وإنما فقد العاطف لأنها بدل من الصلة أو استئناف، كأنه قيل لمن أعدّت هذه النار؟ فقيل: أعدت للكافرين. [سورة البقرة (2) : آية 25] وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) الوقوف: «الأنهار» (ط) «رزقا» (لا) لأن «قالوا» جواب «كلما» . «متشابها» (ط) «مطهرة» (ج) «خالدون» (هـ) . التفسير: إنه سبحانه لما ذكر دلائل التوحيد والنبوة وانجر الكلام إلى ذكر عقاب الكافرين، شفع ذلك بذكر ثواب المؤمنين جريا على سننه المعهود من ذكر الترغيب مع الترهيب، وضم البشارة إلى الإنذار والجمع بين الوعد والوعيد والجنة والنار. وهل هما الآن مخلوقتان أم لا؟ ظاهر الآية من نحو قوله أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ والأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث صلاة الخسوف «إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرا قط يدل على وجودهما» «1» وكذا سكنى آدم وحواء الجنة، وقد جمع الله في الآية جوامع اللذات من المسكن وهو الجنات، ومن المطعم وهو   (1) رواه مسلم في كتاب الكسوف حديث 9. أحمد في مسنده (3/ 353، 374) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الثمرات، ومن المنكح وهو الأزواج المطهرات، ثم زال عنهم نقص الزوال بقوله وَهُمْ فِيها خالِدُونَ إتماما للنعمة والحبور وتكميلا للبهجة والسرور. والبشارة الإخبار بما يظهر سرور المخبر به، ولهذا قال العلماء: إذا قال لعبيده: أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر فبشروه فرادى، عتق أوّلهم لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره ولو قال: مكان بشرني أخبرني عتقوا جميعا لأنهم جميعا أخبروه. ومنه البشرة لظاهر الجلد، وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه. فأما قوله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] فمن باب التهكم والاستهزاء، فإن قيل: علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه؟ قلنا: ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين على جملة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والإرهاق، وبشر عمرا بالعفو والإطلاق، ولك أن تقول معطوف على فَاتَّقُوا كقولك: يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم. وقال بعض المحققين: إنه معطوف على قل مقدرا قبل يا أَيُّهَا النَّاسُ فإن تقدير القول في القرآن مع وجود القرينة غير عزيز كقوله تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا أي يقولان: ربنا. ثم المأمور في قوله وَبَشِّرِ إما الرسول، وإما كل من له استئهال أن يبشر. والصالحة نحو الحسنة في جريها مجرى الاسم. قال الحطيئة: كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني واللام للجنس. والمراد بالصالحات جملة الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف. واستدل بهذه الآية من قال: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، وإلا لزم التكرار، ولمن زعم أن الإيمان هو المجموع أن يقول عطف بعض الأجزاء على الكل جائز لغرض من الأغراض كقوله تعالى وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] ثم هاهنا مذاهب: منهم من قال: إن العبد لا يستحق على الطاعة ثوابا ولا على المعصية عقابا استحقاقا عقليا واجبا وهو قول أهل السنة ولا يرد عليه إشكال. ومنهم من زعم أنه يستحق الثواب بالإيمان والعمل الصالح بشرط أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر، وبالندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية بدليل قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] . وإنما طوي ذكر هذا الشرط في الآية للعلم به فإنه قد ركز في العقول أن الإحسان إنما يستحق فاعله عليه المثوبة والثناء إذا لم يتعقبه بما يفسده ويذهب بحسنه، وهذا قول المعتزلة ومن يجري مجراهم. ومنهم من أحال القول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 بالإحباط، لأن من آمن وعمل صالحا استحق الثواب الدائم فلو فرض إحباط بكفره لاستحق العقاب الدائم والجميع بينهما محال، ولا يخفى ضعف هذا المذهب، فإن الأمور بخواتيمها قال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار» «1» وإنما الأعمال بالخواتيم. والجنة البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه والتركيب دائر على معنى الستر كأنها فعلة من جنه إذا ستره. وسميت دار الثواب كلها جنة فيها من الجنان على حسب استحقاقات العاملين لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان، فلهذا نكرت. والنهر: المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر. يقال لبردى نهر دمشق، وللنيل نهر مصر. واللغة العالية الغالبة النهر بفتح الهاء ومدار التركيب على السعة. وإسناد الجري إلى الأنهار من الإسناد المجازي، لأن الجاري هو الماء وكذا من تحتها أي من تحت أشجارها. وأنزه البساتين وأكرمها منظرا ما كانت أشجارها مظللة والأنهار في خلالها مطردة، ولو لاها كانت كتماثيل لا أرواح فيها، وصور لا حياة لها. وإنما عرفت الأنهار لأن المراد بها الجنس كما تقول لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب وألوان الفواكه تشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب، أو يراد بها أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة مثل وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4] أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد: 15] الآية. وكُلَّما رُزِقُوا إما صفة ثانية لجنات، أو خبر مبتدأ محذوف أي هم كلما رزقوا، أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس، فقيل: إن ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا أي أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله. و «من» في مِنْها وفي مِنْ ثَمَرَةٍ لابتداء الغاية كما لو قلت: رزقني فلان فيقال: من أين؟ فتقول: من بستانه. فيقال: من أي ثمرة؟ فتقول: من الرمان. فالرزق قد ابتدئ من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدئ من ثمرة وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة والرمانة الفذة على هذا التفسير، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار، ووجه اخر وهو أن يكون مِنْ ثَمَرَةٍ بيانا على منهاج قولك «رأيت منك أسدا» تريد أنت أسد. وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار والجناة الواحدة، لأن التفاحة الواحدة مثلا يصدق عليها أنها رزق، كما أن نوع التفاح يصدق عليه ذلك، بخلاف ابتداء الرزق من الجنات فإن ذلك إنما يكون بنوع التفاح أولا، وبالذات وبشخصه ثانيا، وبالعرص لأن   (1) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 التشخص أمر زائد على حقيقة الشيء فاعلم. وانتصاب رِزْقاً على أنه مفعول ثان رُزِقُوا ومعنى هذَا الَّذِي أي هذا مثل الذي رزقنا من قبل نحو «أبو يوسف أبو حنيفة» لأن ذات الذي رزقوه في الجنة لا تكون هي ذات الذي رزقوه في الدنيا. والضمير في قوله وَأُتُوا بِهِ يرجع إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعا، لأن قوله هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين. والغرض في تشابه ثمر الدنيا وثمر الآخرة أن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد، ورأى فيه مزية ظاهرة أفرط ابتهاجه وطال استعجابه وتبين كنه النعمة فيه. فإذا أبصروا الرمانة والنبقة في الدنيا وحجمها، ثم أبصروا رمانة الجنة تشبع السكن، والنبقة كقلال هجر، كما يرون الشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه، كان ذلك أبين للفضل وأزيد في التعجب من أن يفاجؤا ذلك الرمان وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما. وترديدهم هذا القول ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها، دليل على تناهي الأمر في ظهور المزية وكمال الاستغراب في كل أوان. عن مسروق: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وأنهارها تجري في غير أخدود، والعنقود اثنا عشر ذراعا. ويجوز أن يرجع الضمير في أُتُوا بِهِ إلى الرزق، كما أن هذا إشارة إليه. ويكون المعنى: إن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانسا في نفسه، إما لتساوي ثوابهم في كل الأوقات في القدر والدرجة حتى لا يزيد ولا ينقص، وإما لأن الإنسان إذا التذ بشيء وأعجب به لا تتعلق نفسه إلا بمثله فإذا جاءوه بما يشبه الأول من كل الوجوه كان ذلك نهاية اللذة. وعن الحسن أن الاشتباه في اللون فقط قال: يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بالأخرى فيقول: هذا الذي أتينا به من قبل. فيقول الملك: كل، فاللون واحد والطعم مختلف. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «والذي نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدل الله مكانها مثلها، فإذا أبصروها والهيئة هيئتها الأولى قالوا ذلك» ويحتمل أن يقال: إن كمال السعادة ليس إلا في معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله من الملائكة الكروبية والملائكة الروحانية وطبقات الأرواح وعالم السموات، بحيث يصير روح الإنسان كالمرآة المحاذية لعالم القدس، ثم إن هذه المعارف تحصل في الدنيا، ولكن لا يحصل بها كمال الالتذاذ والابتهاج لمكان العلائق البدنية، وإذا زال العائق بعد الموت وشاهد تلك المعارف قال: هذه هي التي كانت حاصلة لي في الدنيا، ووجد كمال اللذة والسرور. وقال أهل التحقيق: الجنة جنة الوصول، وأشجارها هي الملكات الحميدة والأخلاق الفاضلة، والثمرات ثمرات المكاشفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 والمشاهدات والأسرار والإشارات والإلهامات وغيرها من المواهب، وإنهم يشاهدون أحوالا شتى في صورة واحدة من ثمرات مجاهداتهم، فيقول بعض المتوسطين منهم: إن هذا المشهد هو الذي شاهدته قبل هذا، فتكون الصورة تلك الصورة ولكن المعنى حقيقة أخرى، كما أن موسى شاهد نور الهداية في صورة نار فتكون تارة تلك النار نار صفة غضبية كما كان لموسى، إذا اشتد غضبه اشتعلت قلنسوته نارا، وتارة تكون نار المحبة تقع في محبوبات النفس فتحرقها، وتارة تكون نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فتحرق عليهم بيت وجودهم فافهم. وأيضا، كل شيء له صورة في الدنيا فله في الآخرة معنى آخر غيبي كقوله صلى الله عليه وسلم في دماء الشهداء «اللون لون الدم والريح ريح المسك» «1» فاعلم. وقوله وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً جملة معترضة تفيد زيادة التقرير كقولك «فلان أحسن إلى فلان ونعم ما فعل» والمراد بتطهير الأزواج تطهيرهن من الأقذار والأدناس لا سيما التي تختص بالنساء، وكذا من الأخلاق الذميمة وعادات السوء. وهما لغتان فصيحتان «النساء فعلن» و «هن فاعلات» و «النساء فعلت» و «هي فاعلة» والمعنى: ولهم جماعة أزواج مطهرة. وفي مُطَهَّرَةٌ فخامة لصفتهن ليست فيما لو قيل طاهرة وهي الإشعار بأن مطهرا طهرهن وليس ذلك إلا الله عز وجل المريد لعباده أن يخولهم كل مزية فيما أعد لهم. وهاهنا نكتة وهي، أن المرأة إذا حاضت فالله تعالى يمنع من مباشرتها قال: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة: 222] مع أنها معذورة في تنجسها. فإذا كانت اللواتي في الجنة مطهرات فلأن يمنعك عنهن، إذا كانت نجسا بالمعاصي مع أنك غير معذور فيها كان أولى. وأيضا من قضى شهوته من الحلال فإنه يمنع من الدخول في المسجد الذي يدخل فيه كل بر وفاجر، فمن قضى شهوته من الحرام كيف يمكن من دخول الجنة التي لا يسكنها إلا المطهرون؟ وكفى دليلا على ذلك بإخراج آدم منها بسبب الزلة الصادرة عنه. وأيضا من كان على ثوبه ذرة من النجاسة لا تجوز صلاته أو تستكره، فكيف بمن صلى وعلى قلبه جبال من نجاسات الذنوب والمعاصي؟ والخلد عند المعتزلة الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع بدليل قوله تعالى وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء: 34] نفى الخلد عن البشر مع تعمير بعضهم وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [الحج: 5] وعند الأشاعرة: الخلد هو الثبات الطويل، دام أو لم يدم. ولو كان التأبيد داخلا في مفهوم الخلد كان قوله خالِدِينَ فِيها أَبَداً تكرارا. ويقال في العرف: حبسه حبسا مخلدا، أو وقف وقفا مخلدا. والحق أن خوف الانقطاع ينغص النعمة وذلك لا يليق بأكرم الأكرمين.   (1) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 40. الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب 21. النسائي في كتاب الجهاد باب 25. الموطأ في كتاب الجهاد حديث 29. أحمد في مسنده (5/ 231، 244) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 [سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 27] إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) الوقوف: فَما فَوْقَها (ط) مِنْ رَبِّهِمْ (ج) لأن الجملتين وإن اتفقتا فكلمة «أما للتفصيل بين الجمل مَثَلًا (م) لأنه لو وصل صار ما بعده صفة له وليس بصفة إنما هو ابتداء إخبار من الله عز وجل جوابا لهم. وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً (ط) الْفاسِقِينَ (لا) لأن الَّذِينَ صفتهم مِيثاقِهِ (ص) لعطف المتفقتين فِي الْأَرْضِ (ص) الْخاسِرُونَ (هـ) . التفسير: لما بين كون القرآن معجزا أورد شبهة أوردها الكفار قدحا في ذلك وأجاب عنها. عن ابن عباس: لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين- يعني قوله مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً [البقرة: 17] وقوله أَوْ كَصَيِّبٍ [البقرة: 19] قالوا: الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال، فأنزل الله هذه الآية. وعن الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله فنزلت. والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض؟ وهذه أمثال العرب بين أيديهم مسيرة في حواضرهم وبواديهم قد تمثلوا فيها بأحقر الأشياء فقالوا: «أجرأ من الذباب» و «أضعف من بعوضة» و «كلفتني مخ البعوض» . ولقد ضربت الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقرة كالزوان حب يخالط البر، وكحبة خردل، والمنخل والحصاة والأرضة والدود والزنابير. قال: مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان بين الحنطة، فلما نبت الزرع واشتد غلب عليه الزوان. فقال عبيد الزارع: يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك؟ فقال: بلى قالوا: فمن أين هذا الزوان؟ قال: لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان تقلعوا معه حنطة، دعوهما يتربيان جميعا حتى الحصاد. فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزما ثم يحرق بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الجرين، وأفسر لكم، ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة وهو أبو البشر، والقرية هي العالم، والحنطة الجيدة النقية هي أبناء الملكوت الذين يعملون بطاعة الله، والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس، والزوان المعاصي التي يزرعها إبليس وأصحابه، والحصادون هم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الملائكة يتركون الناس حتى تدنو آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله، وأهل الشر إلى الهاوية، وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار فكذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين وجميع عمال الإثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنالك البكاء وصريف الأسنان، ويكون الأبرار هنالك في ملكوت ربهم، من كانت له أذن تسمع فليسمع. وأضرب لكم مثلا آخر يشبه ملكوت السماء، رجل آخر أخذ حبة الخردل وهي أصغر الحبوب فزرعها في قرية، فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول، وجاء طير السماء فعشش في فروعها، فكذلك الهدى من دعا إليه ضاعف الله تعالى أجره وعظمه ورفع ذكره ونجا به من اهتدى. وقال: لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الطيب ويمسك النخالة، كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم، وقال: قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا ينسفها الرياح. وقال: لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسد، ولا في البرية حيث السموم واللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص، ولكن ادخروا ذخائركم عند الله. وقال: نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك رزقها وهن لا يغزلن ولا يشخصن، ومنهن ما هو في جوف الحجر الأصم وفي جوف العود، من يأتيهن بلباسهن وأرزاقهن إلا الله أفلا تعقلون؟! وقال: لا تثيروا الزنابير فتلدغكم، كذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم. هذا ونحن نرى أن الإنسان يذكر معنى فلا يلوح كما ينبغي، فإذا ذكر المثال اتضح وانكشف. وذلك أن من طبع الخيال حب المحاكاة، فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال، وإذا ذكر التشبيه معه أدركه العقل مع معاونة الخيال، ولا شك أن الثاني يكون أكمل، وإذا كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح وجب ذكره في الكتاب الذي أنزل تبيانا لكل شيء. ثم إن الله تعالى هو الذي خلق الكبير والصغير، وحكمته في كل ما خلق وبرأ عامة بالغة، وليس الصغير أخف عليه من الكبير، ولا الكبير أصعب عليه من الصغير. فالمعتبر إذن ما يليق بالقصة، فإذا كان اللائق بها الذباب والعنكبوت لخسة مضرب المثل ووهنه، فكيف يضرب بالفيل وبشيء مستحكم النسج والصفاقة؟ وهذا مما لا يخفى على من به أدنى مسكة، ولكن ديدن المحجوج المبهوت دفع الواضح وإنكار المستقيم، وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم والحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به، ويذم واشتقاقه من الحياة، يقال: حيي الرجل كما يقال نسي وحشي إذا اشتكى النسا والحشا، وكأن الحيي صار منتقص القوة منتكس الحياة وقد عرفت في الأسماء الحسنى، أن أمثال هذه الصفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 إنما يجوز أن تطلق على الله تعالى بعد الإذن الشرعي باعتبار النهايات لا باعتبار المبادئ. فحديث سلمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا» «1» إنما جاء على سبيل التمثيل لأنه مثل تركه تخييب العبد بترك من يترك رد المحتاج إليه حياء منه. ومعنى قوله إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها. ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا: أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت؟ فجاءت على سبيل المقابلة والطباق، وهو فن بديع قال أبو تمام: من مبلغ أفناء يعرب كلها ... أني بنيت الجار قبل المنزل فلولا بناء الدار لم يصح بناء الجار، وقد استعير الحياء فيما لا يصح فيه: إذا ما استحين الماء يعرض نفسه ... كر عن بسبت في إناء من الورد فيصف كثرة مياه الأمطار في طريقه، وأنه أينما ذهب رأى الماء وكأنه يعرض نفسه على النوق فتستحيي فتكرع فيه مشافر كأنها السبت وهو الجلد المدبوغ بالقرظ، وشبه الأرض وفيها الماء وحواليه الأزهار بإناء من الورد. وفيه لغتان: استحييت منه واستحييته وهما محتملتان هاهنا. وضرب المثل اعتماده وصنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم، وفي الحديث: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب. و «ما» هذه إبهامية، إذا اقترنت باسم نكرة زادته شياعا وعموما كقولك «أعطني كتابا ما» تريد أي كتاب كان، أو صلة للتأكيد كالتي في قوله فَبِما نَقْضِهِمْ [النساء: 155] أي مثلا حقا أو البتة. وانتصب بَعُوضَةً بأنها عطف بيان ومَثَلًا وذلك أن ما يضرب به المثل قد يسمى مثلا كما يقال: حاتم مثل في الجود. أو مفعول ل يَضْرِبَ ومَثَلًا حال عن النكرة مقدمة عليها، أو انتصبا مفعولين فجرى «ضرب» مجرى «جعل» . والبعوض في أصله صفة على فعول من البعض القطع فغلبت، ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه وفي معناه البضع والعضب. ومن غرائب خلقه أنه مع صغره أعطي كل ما أعطي الفيل مع كبره، ففيه إشارة إلى أن خلق أحدهما ليس أصعب من خلق الاخر، وإشارة إلى حالة الإنسان وكمال استعداده كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم على   (1) رواه أبو داود في كتاب الوتر باب 23. الترمذي في كتاب الدعوات باب 104. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب 13. أحمد في مسنده (5/ 438) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 صورته «1» أي على صفته فأعطاه على ضعفه من كل صفة من صفات جماله وجلاله أنموذجا ليشاهد في مرآة نفسه جمال صفات ربه. ومن العجائب أن خرطومه في غاية الصغر، ومع ذلك مجوف. ومع فرط صغره وكونه مجوفا يغوص في جلد الجاموس والفيل على ثخانته كما يضرب الرجل أصبعه في الخبيص، وذلك لما ركب الله تعالى في رأس خرطومه من السم. وقوله فَما فَوْقَها أي فالذي هو أعظم منها في الجثة كالذباب والعنكبوت والحمار والكلب، فإن القوم أنكروا تمثيل الله بكل هذه الأشياء، أو أراد فما فوقها في الصغر كجناح البعوضة حيث ضربه صلى الله عليه وسلم مثلا للدنيا، وهذا أولى لأن الآية نزلت في بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير، فيجب أن يكون المذكور ثانيا أحقر من الأول. والفاء هاهنا تفيد الترتيب في الذكر لأنه يذكر في هذا المقام الأخس فالأخس كقوله: «يا دار مية بالعلياء فالسند» لأنه يذكر في تعريف الأمكنة الأخص بعد الأعم، فكأن العلياء موضع وسيع يشتمل على مواضيع منها السند. وَأَمَّا حرف فيه معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء، وفائدته التوكيد. تقول: زيد ذاهب. فإذا قصدت التوكيد وأن الذهاب منه عزيمة قلت: أما زيد فذاهب ولذلك قال سيبويه في تفسيره. «مهما يكن من شيء فزيد ذاهب» وليس مراده من هذا التفسير أن «أما» بمعنى «مهما» «كيف» - وهذه حرف ومهما اسم- بل قصده إلى المعنى البحث أي إن يكن في الدنيا شيء يوجد ذهاب زيد فهذا، جزم بوقوع ذهابه لأنك جعلت حصول ذهابه لازما لحصول أي شيء في الدنيا، وما دامت الدنيا باقية فلا بد من حصول شيء فيها. ففي إيراد الجملتين مصدرتين به وإن لم يقل فالذين آمنوا يعلمون والذين كفروا يقولون إحماد عظيم لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم أنه الحق، ونعي على الكافرين ورميهم بالكلمة الحمقاء. والحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره وحق الأمر ثبت ووجب. والضمير في أَنَّهُ الْحَقُّ للمثل، أو ل أَنْ يَضْرِبَ وماذا فيه وجهان: أن يكون «ذا» اسما موصولا بمعنى الذي، فيكون كلمتين: «ما» مبتدأ وخبره «ذا» مع صلته، وأن تكون «ذا» مركبة مع «ما» مجعولتين اسما واحدا، فيكون منصوب المحل في حكم «ما» وحده لو قلت: ما أراد الله، وجوابه على الأول مرفوع وعلى الثاني منصوب. وقد يجيء على العكس   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 242، 251) . البخاري في كتاب الاستئذان باب 1. مسلم في كتاب البر حديث 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 كما تقول في جواب من قال: ما رأيت خير «أي المرئي خير» . وفي جواب: ما الذي رأيت خيرا «أي رأيت خيرا» . والإرادة نقيض الكراهة، قال الإمام الرازي: الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذته. والمتكلمون أنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر، لا في الوقوع بل في الإيقاع. واحترز بهذا القيد الأخير عن القدرة. واختلفوا في كونه تعالى مريدا مع اتفاق المسلمين على إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى. فزعم النجار أنه معنى سلبي ومعناه أنه غير ساه ولا مكره. ومنهم من قال: إنه أمر ثبوتي. ثم اختلفوا فالجاحظ والكعبي وأبو الحسين البصري: معناه علمه تعالى باشتمال الفعل على المصلحة أو المفسدة، ويسمون هذا العلم بالداعي أو الصارف. والأشاعرة وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهم: أنه صفة زائدة على العلم. ثم القسمة في تلك الصفة أنها إما أن تكون ذاتية وهو القول الآخر للنجار، وإما أن تكون معنوية، وذلك المعنى إما أن يكون قديما وهو قول الأشعري، أو محدثا وذلك المحدث إما أن يكون قائما بالله تعالى وهو قول الكرّامية، أو قائما بجسم آخر ولم يقل به أحد، أو موجودا لا في محل وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما. وفي قوله ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا استرذال واستحقار كما قالت عائشة في عبد الله بن عمرو بن العاص حين أفتى بنقض ذوائب النساء في الاغتسال «يا عجبا لابن عمرو هذا» محقرة له. ومَثَلًا نصب على التمييز كقولك لمن أجاب بجواب غث «ماذا أردت بهذا جوابا» ولمن حمل سلاحا رديئا «كيف تنتفع بهذا سلاحا» أو على الحال نحو هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [هود: 64] وقوله يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً جار مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين ب أَمَّا وأهل الهدى كثير في أنفسهم وحيث يوصفون بالقلة وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] وَقَلِيلٌ ما هُمْ [ص: 64] إنما يوصفون بها بالقياس إلى أهل الضلال. وأيضا فإن المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة. إن الكرام كثير في البلاد وإن ... قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا وإسناد الإضلال إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى السبب البعيد، لأنه لما ضرب المثل ازداد به المؤمنون نورا إلى نورهم فتسبب لهديهم، وازدادت الكفرة رجسا إلى رجسهم فتسبب لضلالهم عن الحق. والفسق الخروج عن القصد قال رؤبة: فواسقا عن قصدها جوائر ... يذهبن في نجد وغورا غائرا والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة، وهو عند أهل السنة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 أهل الإيمان إلا أنه عاص، وعند الخوارج كافر، وعند المعتزلة نازل بين المنزلتين، لأن حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، وهو كالكافر في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته وأن لا تقبل له شهادة. ومذهب مالك بن أنس والزيدية أن الصلاة لا تجزىء خلفه. ويقال للخلفاء المردة من الكفار الفسقة، وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله تعالى بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ [الحجرات: 11] يعني اللمز والتنابز إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ [التوبة: 67] والنقض: الفسخ وفك التركيب. وإنما ساغ استعمال النقض في إبطال العهد من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين، وهذا كقولك «عالم يغترف منه الناس» فتنبه بالاغتراف من العالم بأنه بحر، وتسكت عن المستعار لأنك رمزت إليه بذكر شيء من لوازمه. والعهد: الموثق. عهد إليه في كذا إذا أوصاه به ووثقه عليه. والمراد بالناقضين إما كل من ضل وكفر لأنهم نقضوا عهدا أبرمه الله بإراءة آياته في الآفاق وفي أنفسهم وبما ركز في عقولهم من إقامة البينة على الصانع وعلى توحيده وعلى حقية شريعته بعد إزاحة العلات وإزالة الشبهات، وإما قوم من أهل الكتاب وقد أخذ عليهم العهد والميثاق في الكتب المنزلة على أنبيائهم بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وبيّن لهم أمره وأمر أمته فنقضوا ذلك وأعرضوا عنه وجحدوا نبوته. وقيل: عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود: العهد الذي أخذه على جميع درية آدم وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ [الأعراف: 172] الآية. وعهد خص به النبيين أن يبلغو الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ [الأحزاب: 7] وعهد خص به العلماء وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران: 187] والضمير في مِيثاقِهِ للعهد. والميثاق إما مصدر بمعنى التوثقة كالميعاد والميلاد بمعنى الوعد والولادة، أو اسم لما وثقوا به عهد الله من قبوله وإلزامه أنفسهم، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله أي من بعد توثقته عليهم، أو من بعد ما وثق الله تعالى به عهده من آياته وكتبه ورسله. ومعنى قطعهم ما أمر الله به أن يوصل، إما قطعهم ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرابة والرحم، أو قطعهم موالاة المؤمنين إلى موالاة الكافرين، أو قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة والاتحاد والاجتماع على الحق في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض. والأمر طلب الفعل ممن هو دونك وبعثه عليه وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور، لأن الداعي الذي يدعو إليه من يتولاه شبه بآمر يأمره به، فقيل له: أمر تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به. وللأمر حرف واحد وهو اللام الجازم نحو «ليفعل» وصيغ مخصوصة للمخاطب نحو «انزل» و «نزال» و «صه» . وقد يستعمل في الدعاء والالتماس بمعونة القرينة وظاهره للوجوب، وغيره من الندب أو الإباحة يتوقف على القرينة. وقوله أَنْ يُوصَلَ بدل الاشتمال من الضمير المجرور، والجار الذي ينبغي أن يعاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 مقدر تقديره بأن يوصل أي بوصله. والإفساد في الأرض إما إظهار المعاصي، وإما التنازع وإثارة الفتن. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والإفساد بالإصلاح، وعقاب هذه الأمور بثوابها إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [العصر: 2، 3] الآية. [سورة البقرة (2) : الآيات 28 الى 29] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) القراآت: فَأَحْياكُمْ وبابه بإلامالة: علي تُرْجَعُونَ بفتح التاء وكسر الجيم كل القرآن: يعقوب. وهو وبابه بسكون الهاء: أبو جعفر ونافع غير ورش وعلي وأبو عمرو. الوقوف: فَأَحْياكُمْ (ج) للعدول أي ثم هو يميتكم مع اتحاد مقصود الكلام تُرْجَعُونَ (ط) سَماواتٍ (ط) عَلِيمٌ (هـ) . التفسير: هذه الآية مسوقة لبيان التعجب من حال الكفرة، وذلك أن الاستفهام من علام الغيوب يمتنع إجراؤه على أصله، فيتولد بمعونة قرائن الأحوال ما ذكرنا. ووجهه هو أن الكفار حين صدور الكفر منهم لا بد من أن يكونوا على أحد الحالين: إما عالمين بالله وإما جاهلين به فلا ثالثة. فإذا قيل لهم: كيف تكفرون بالله؟ ومن المعلوم أن «كيف» للسؤال عن الحال وللكفر مزيد اختصاص من بين سائر أحوال الكافر بالعلم بالصانع أو الجهل به، لأنه لا يمكن تصور كفر الكافر بالصانع مع الذهول عن كونه عالما بالله أو جاهلا به، بخلاف سائر أحواله المتقابلة كالقعود والقيام والسكون والحركة، فإنه يمكن تصور كفره مع الذهول عنها وإن كان لا ينفك الكافر في الوجود عنها كما لا ينفك من العلم بالصانع أو الجهل به في الوجود. وتوجه الاستفهام إلى ذلك الذي له مزيد اختصاص فأفاد الاستفهام، أفي حال العلم بالله تكفرون أم في حال الجهل به؟ لكن الجهل بعيد عن العاقل، لأن الحال حال علم بهذه القصة وهي أن كانوا أمواتا فصاروا أحياء، وسيكون كذا والحال كذا من الإماتة، ثم الإحياء ثم الرجع إليه، فبقي أن يكون الحال حال العلم بالصانع الموجبة للصرف عن الكفر. فصدور الفعل عمن له صورة اختيار في الترك مع الصارف القوي مظنة تعجب وتعجيب وإنكار وتوبيخ فكأنه قيل: ما أعجب كفركم والحال أنكم عالمون بهذه القصة وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 أن كنتم أمواتا نطفا في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء ثم يميتكم بعد هذه الحياة! وهذه مما لا يشك فيها لأنها من المشاهدات، ثم يحييكم حين ينفخ في الصور أو حين تسألون في القبور، ثم إليه أي إلى حكمه ترجعون أي بعد الحشر للثواب والعقاب أو من قبوركم. وهذه القضايا أيضا مما لا يشك فيها لنصب الأدلة وإزاحة العلة. والأموات جمع ميت كالأقوال جمع قيل، وقد يطلق الميت على الجماد كقوله بَلْدَةً مَيْتاً [ق: 11] ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس. ويحتمل أن يقال: المراد به خمول الذكر كقوله هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الدهر: 1] قال أبو نخيلة السعدي: وأحييت لي ذكري وما كنت خاملا ... ولكنّ بعض الذكر أنبه من بعض ولا يخفى أن الآية بالنسبة إلى العامة، فأما بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرات فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ [البقرة: 259] فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [البقرة: 242] ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 56] وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ [الكهف: 19] وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ [الأنبياء: 84] واعلم أن هذه الآية دالة على أمور منها: اشتمالها على وجود ما يدل على الصانع القادر العلم الحي السميع البصير الغني عما سواه. ومنها الدلالة على أنه لا قدرة على الإحياء والإماتة إلا الله، فيبطل قول الدهري وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] ومنها الدلالة على صحة الحشر والنشر مع التنبيه على الدليل القطعي الدال عليه، لأن الإعادة أهون من الإبداء. ومنها الدلالة على التكليف والترغيب والترهيب، ومنها الدلالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنه قال: فَأَحْياكُمْ أي بعقب كونكم نطفا من غير تخلل حالة أخرى بينهما، ثم يميتكم بعد انقضاء مهلة الحياة، ثم بيّن أنه لا يترك على هذا الموت بل لا بد من حياة ثانية للسؤال أو للحشر، ثم من الرجوع إليه للثواب أو العقاب. فبين سبحانه أنه بعد ما كان نطفة فإنه أحياه وصوّره أحسن صورة وجعله بشرا سويا وأكمل عقله وبصره بأنواع المضار والمنافع، وملكه الأموال والأولاد والدور والقصور. ثم إنه تعالى يزيل كل ذلك عنه بأن يميته ويصيره بحيث لا يملك شيئا ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر، ويبقى مدة مديدة في اللحد وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 100] ينادي فلا يجيب، ويستنطق فلا يتكلم، ثم لا يزوره الأقربون بل ينساه الأهل والبنون. يمرّ أقاربي بحذاء قبري ... كأن أقاربي لم يعرفوني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الهي إذا قمنا من ثرى الأجداث مغبرة رؤوسنا شاحبة وجوهنا جائعة بطوننا مثقلة من حمل الأوزار ظهورنا بادية لأهل القيامة سوآتنا، فلا تضغف مصائبنا بإعراضك عنا، يا واسع المغفرة، ويا باسط اليدين بالرحمة. ولما ذكر الله تعالى في الآية الأولى أصل جميع النعم وهو الإحياء الذي من حقه أن يشكر ولا يكفر، أعقبها بذكر ما هو كالأصل لسائر النعم وهو خلق الأرض بما فيها، وخلق السماء. ومعنى لَكُمْ لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم وذلك ظاهر، وفي دينكم من النظر في عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم، ومن التذكير بالآخرة وثوابها وعقابها لاشتماله على أسباب الإنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة البهية، وعلى أسباب الوحشة والألم من النيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف. فظاهر الآية لا يدل إلا على خلق ما في الأرض لأجلهم دون الأرض. فإن أريد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما يذكر السماء ويراد به الجهات العلوية جاز أن يراد خلق لكم الأرض وما فيها. وجَمِيعاً نصب على الحال من الموصول الثاني وهو «ما» أي مجموعة، والمجموع الذي جمع من هاهنا وهاهنا وإن لم يجعل كالشيء الواحد ويندرج فيها جميع البسائط من الماء والهواء والنار وجميع المواليد من المعادن والنبات والحيوان وجميع الصنائع والحرف. وبعضهم يستدل بهذا على أن الأصل في الأشياء الإباحة عقلا لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها ويمكن أن يقال بل بهذه الآية وإلا كان تصرفا في ملك الغير من غير إذنه. ولا يلزم من أنه تعالى خلق ما في الأرض لأجل المكلفين أن يكون فعله معللا بغرض، وإن كان لا يخلو من فائدة وغاية، وإلا كان عبثا لأنه لا يلزم من استتباع الفعل الغاية أن تكون تلك الغاية علة لعلية فاعلة، لأن هذا فيما إذا كانت فاعليته ناقصة لتتكمل بتلك الغاية، أما إذا كانت فاعليته تامة فإنه يوجد الشيء ذا الغاية من غير أن تكون تلك الغاية حاملة له على ذلك، وهذا فرق دقيق يتنبه له من يسر عليه قيل: إنه تعالى خلق الكل للكل، فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلا، قلنا: قابل الكل بالكل فيقتضي مقابلة الفرد للفرد، والتعيين يستفاد من دليل منفصل.. والاستواء بمعنى الانتصاب ضد الاعوجاج من صفات الأجسام، وإنه تعالى منزه عن ذلك. وأيضا «ثم» تقتضي التراخي، فلو كان المراد بهذا الاستواء العلو بالمكان لكان ذلك العلو حاصلا أزلا ولم يكن متأخرا عن خلق ما في الأرض، فيجب التأويل. وتقريره أن يقال: استوى العود إذا اعتدل، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء ومنه استعير قوله ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [فصلت: 11] أي قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر. والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل: ثم استوى إلى فوق، أو هذا كقولك لآخر «اعمل هذا الثوب» وإنما معه غزل. على أنها كانت دخانا ثم سواها سبع سموات. و «ثم» هاهنا إما للتراخي في الوقت والمراد أنه حين قصد إلى السماء لم يحدث فيما بين ذلك أي في تضاعيف القصد إليها خلقا آخر كما قلنا، أو للتفاوت بين الخلقين. وفضل خلق السموات على خلق الأرض كقوله فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14] وكقوله ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد: 17] وتفسير هذه الآية في قوله قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت: 9، 10] يعني تقدير الأرض في يومين، وتقدير الأقوات في يومين، كما يقول القائل: من الكوفة إلى المدينة عشرون يوما، وإلى مكة ثلاثون يوما، يريد أن جميع ذلك هو هذا القدر. ثم استوى إلى السماء في يومين آخرين، ومجموع ذلك ستة أيام كما قال خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [يونس: 3] فإن قيل: أما يناقض هذا قوله وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: 30] قلنا: أجاب في الكشاف لا، لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء، وأما دحوها فمتأخر. وعن الحسن: خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعه وبسط منه الأرض فذلك قوله كانَتا رَتْقاً [الأنبياء: 30] وهو الالتزاق، وزيف بأن الأرض جسم عظيم يمتنع انفكاك خلقها عن التدحية. وأيضا قوله تعالى خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ يدل على أن خلق الأرض وخلق ما فيها مقدم على خلق السماء، لأن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن إلا إذا كانت مدحوّة. وقال بعض العلماء في دفع التناقض قوله وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: 30] يقتضي تقدم خلق السماء على الأرض، ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدمة على خلق الأرض، وزيف أيضا بأن قوله أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها. وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: 27- 30] يقتضي أن يكون خلق السماء وتسويتها مقدما على تدحية الأرض، بل على خلقها لأنهما متلازمان. وحينئذ يعود التناقض والمعتمد عند بعضهم في دفعه أن يقال «ثم» ليس للترتيب هاهنا، وإنما هو على جهة تعديد النعم. مثاله: أن تقول لغيرك: ألست قد أعطيتك نعما عظيمة، ثم رفعت قدرك، ثم دفعت عنك الخصوم؟ ولعل بعض ما أخرته في الذكر مقدم في الوقوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 (قلت) : وهذا صحيح معقول من حيث ابتداء الوجود من الأشرف فالأشرف والألطف فالألطف إن ساعده النقل وإلا فلا إحالة في أنه تعالى خلق الأرض أولا في غاية الصغر وجعل فيها أصول الجبال ووضع فيها البركة وقدر الأقوات ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا ثم دحا الأرض بأن جعلها أعظم مما كانت عليه كهيئتها الآن والله تعالى أعلم. والضمير في فَسَوَّاهُنَّ ضمير مبهم، وسَبْعَ سَماواتٍ تفسيره نحو: ربه رجلا. وفائدة الإبهام أولا ثم البيان ثانيا أن الكلام هكذا أوقع في النفس، لأن المحصول بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب. وقيل: الضمير راجع إلى السماء، والسماء في معنى الجنس. وقيل: جمع سماءة والوجه العربي هو الأول. ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهن وهو بكل شيء عليم، فمن ثم خلقهن خلقا مستويا محكما من غير تفاوت مع خلق ما في الأرض على حسب الحاجات وكفاء المصالح، ومقتضى الحكمة والتدبير. وهذا عام لم يدخله التخصيص قط، وبه يهدم بناء من زعم أنه غير عالم بالجزئيات، لأنه تعالى لو لم يعرف تفاصيلها لم تكن مخلوقاته على غاية الإتقان والإحكام، فسبحانه من خبير يعلم الذرة في الأجواف، والدرة في الأصداف، والقطرة في البحر، والخطرة في النحر، وعلى هذا يدور نظام العالم وبه يحصل قوام مناهج بني آدم. ثم إن العقل قد يدل على وجود سبع سموات، وتخصيص عدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد، فأثبت أهل الأرصاد تسعة أفلاك على ما استقر عليه رأيهم، أولها من الجانب الأعلى للحركة اليومية، لأن هذه الحركة تشمل جميع الأجرام، فيجب أن يكون فلكها حاويا للكل. وثانيها للثوابت جميعها تحديدا لأدنى الدرجات لاتحاد الحركات وإن كان كونها على أفلاك شتى جائزا. والسبعة الباقية للسيارات السبعة جميع ذلك بوجود اختلاف المنظر وعدمه. وعلى ترتيب خسف بعضها بعضا، أولها مما يلينا للقمر وفوقه لعطارد ثم للزهرة ثم للشمس ثم للمريخ ثم للمشتري ثم لزحل. ونازعهم بعض الناس في زيادة الفلكين الثامن والتاسع فقال: من المحتمل أن تتصل نفس بمجموع السبعة فتحركها حركة الكل، ثم يكون لكل فلك نفس على حدة تحركه حركته الخاصة به، وتكون الثوابت على محدب ممثل زحل مثلا. وبالجملة فلم يتبين لأحد من الأوائل والأواخر كمية أعداد السموات على ما هي عليه لا عقلا ولا سمعا وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ [المدثر: 31] . [سورة البقرة (2) : آية 30] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 القراآت: خَلِيفَةً وأشباهها بالإمالة عند الوقف: أبو عمرو وحمزة وعلي والأعشى والبرجمي إلا أن يكون قبلها من الحروف الموانع السبع وهي: الصاد والضاد والطاء والظاء والغين والخاء والقاف نحو: خاصة، وفريضة، وحطة، وغلظة، وصبغة، وصاخة، وشقة. وأما العين والحاء والراء فعلى الاختلاف عند أهل المدينة، فأشدهم إمالة حمزة وعلي، فأما أبو عمرو والأعشى والبرجمي فإنهم يميلون بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب إِنِّي أَعْلَمُ بفتح الياء: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو. الوقوف: خَلِيفَةً (ط) بناء على أن عامل «إذ» محذوف أي اذكر. ومن جعل قالُوا عامل «إذ» وصل. الدِّماءَ (ج) لأن انتهاء الاستفهام على قوله وَيَسْفِكُ الدِّماءَ يقتضي الفصل، واحتمال الواو لمعنى الحال في قوله وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ يقتضي الوصل وَنُقَدِّسُ لَكَ (ط) ما لا تَعْلَمُونَ (هـ) . التفسير: هذا ابتداء الإخبار عن كيفية خلق آدم عليه السلام وعن كيفية تعظيمه إياه، فينخرط في سلك ما تقدمه من النعم، فإن النعمة على الآباء نعمة على الأبناء، وإذ هاهنا مجرد لمعنى الظرفية أي أذكر وقت قول ربك كقوله وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ [الأحقاف: 21] أي وقت إنذاره على أنه بدل من أخا عاد لأن الذكر في ذلك الوقت ممتنع. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل واحد من بني آدم، ويجوز أن ينتصب ب قالُوا فيكون للمجازاة. والملائكة جمع ملأك وأصله مألك بتقديم الهمزة من الألوكة هي الرسالة، ثم قلبت وقدمت اللام فقيل: ملأك، وجمع على فعائل مثل شمأل وشمائل، ثم تركت همزة المفرد لكثرة الاستعمال وألقيت حركتها على اللام. وإلحاق التاء لتأنيث الجمع نحو حجارة وقد لا تلحق. واعلم أن الملك قبل النبي صلى الله عليه وسلم بالشرف والعلية وإن كان بعده في عقولنا وأذهاننا، وقد جعله الله واسطة بينه وبين رسله في تبليغ الوحي والشريعة. وقدم ذكر الإيمان بالملائكة على ذكر الإيمان بالأنبياء وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة: 285] ولا خلاف بين العقلاء في أن شرف العالم العلوي بالملائكة كما أن شرف العالم السفلي بوجود الأنبياء فيه. وللناس في حقيقة الملائكة مذاهب: منهم من زعم أنها أجسام لطيفة هوائية تقدر على التشكل بأشكال مختلفة مسكنها السموات وهو قول أكثر المسلمين، ومنهم عبدة الأوثان القائلون إن الملائكة هي هذه الكواكب الموصوفة بالإسعاد والإنحاس وأنها أحياء ناطقة، فالمسعدات ملائكة الرحمة والمنحسات ملائكة العذاب. ومنهم معظم المجوس والثنوية القائلون بالنور والظلمة وإنهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 عندهم جوهران حساسان مختاران قادران، متضادا النفس والصورة، مختلفا الفعل والتدبير. فجوهر النور فاضل خير نقي طيب الريح كريم النفس يسر ولا يضر وينفع ولا يمنع ويحيى ولا يبلى، وجوهر الظلمة ضد ذلك، فالنور يولد الأولياء وهم الملائكة لا على سبيل التناكح بل كتولد الحكمة من الحكيم والضوء من المضيء، وجوهر الظلمة يولد الأعداء وهم الشياطين كتولد السفه من السفيه. ومنهم القائلون بأنها جواهر غير متحيزة، ثم اختلفوا فقال بعضهم وهم طوائف من النصارى- إنها هي الأنفس الناطقة المفارقة لأبدانها، فإن كانت صافية خيرة فالملائكة، وإن كانت خبيثة كثيفة فالشياطين. وقال آخرون- وهم الفلاسفة- إنها مخالفة لنوع النفوس الناطقة البشرية، وإنها أكمل قوة وأكثر علما، ونسبتها الى النفوس البشرية كنسبة الشمس إلى الأضواء، فمنها نفوس ناطقة فلكية، ومنها عقول مجردة ومنهم من أثبت أنواعا أخر من الملائكة وهي الأرضية المدبرة لأحوال العالم السفلي، خيرها الملائكة وشريرها الشياطين ولكل من الفرق دلائل على ما ذهب إليه يطول ذكرها هاهنا. وقد يستدل عليها أصحاب المجاهدات من جهة المكاشفة وأصحاب الحاجات والضرورات من جهة مشاهدة الآثار العجيبة والهداية إلى المعالجات النادرة الغريبة وتركيب المعجونات واستخراج صنعة الترياقات، كما يحكى أنه كان لجالينوس وجع في الكبد فرأى في المنام كأن امرأ يأمره أن يفصد الشريان الذي على ظهر كفه اليمنى بين السبابة والإبهام ففعل فعوفي، ومما يدل على ذلك حال الرؤيا الصادقة. ولا نزاع البتة بين الأنبياء عليهم السلام في إثبات الملائكة وذلك كالأمر المجمع عليه بينهم، وأما شرح كثرتهم فقد قال صلى الله عليه وسلم «أطّت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع» «1» وروي «إن بني آدم عشر الجن، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر، وهؤلاء كلهم عشر الطيور، وهؤلاء عشر حيوانات البحر وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الدنيا، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية، وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة، ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد من سرادقات العرش التي عددها ستمائة ألف طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرض وما فيها، فإنها كلها تكون شيئا يسيرا وقدرا قليلا، وما مقدار موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم، لهم زجل بالتسبيح والتقديس،   (1) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب 9. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 19. أحمد في مسنده (5/ 173) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ولا يعرف عددهم إلا الله، ثم مع هؤلاء ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل صلى الله عليه وسلم والملائكة الذين هم جنود جبريل وهم كلهم سامعون مطيعون لا يستكبرون عن عبادته ولا يسأمون» وأما أصنافهم فمنهم حملة العرش وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقة: 17] ومنهم أكابر الملائكة جبرائيل صاحب الوحي والعلم، وميكائيل صاحب الرزق والغذاء، وإسرافيل صاحب الصور، وعزرائيل ملك الموت، ومنهم ملائكة الجنة وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ [الرعد: 23] ومنهم ملائكة النار عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30] ومنهم لموكلون ببني آدم عن اليمين وعن الشمال قعيد. ومنهم الموكلون بأحوال هذا العالم وَالصَّافَّاتِ صَفًّا [الصافات: 1] وأما أوصافهم فكما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: منهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون، وصافون لا يتزايلون، ومسبحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا فترة الأبدان ولا غفلة النسيان، ومنهم أمناء على وحيه وألسنة إلى رسله ومختلفون بقضائه وأمره. منهم الحفظة لعباده والسدنة لأبواب جنانه، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار ركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم، ناكسة دونه أبصارهم، متلفعون بأجنحتهم، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة، لا يتوهمون ربهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدونه بالأماكن ولا يشيرون إليه بالنظائر. ثم إنه روى الضحاك عن ابن عباس أنه سبحانه إنما قال هذا القول للملائكة الذين كانوا محاربين مع إبليس، لأن الله تعالى لما أسكن الجن الأرض فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا، بعث الله إبليس في جند من الملائكة فأخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائر البحر، فقال تعالى لهم إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وقال الأكثرون من الصحابة والتابعين: إنه تعالى قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص، لأن لفظ الملائكة يفيد العموم والتخصيص خلاف الأصل. وجاعِلٌ من جعل الذي له مفعولان، معناه مصير في الأرض خليفة، وإنما لم يقل إني خالق كما قال إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ لأنه باعتبار الخلافة من عالم الأمر لا من عالم الخلق. والظاهر أن الأرض يراد بها ما بين الخافقين، وقد يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرض هاهنا أرض مكة التي دحيت الأرض من تحتها. والخليفة من يخلف غيره ويقوم مقامه، والخليفة اسم يصلح للواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وجمعه خلائف مثل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 كريمة وكرائم. وجاء خلفاء لأنهم جمعوه على إسقاط الهاء مثل: ظريف وظرفاء. والمراد به آدم صلى الله عليه وسلم إما لأنه صار خليفة لأولئك الجن الذين تقدموه، ويروى ذلك عن ابن عباس، وإما لأنه يخلف الله في الحكم بين خلقه كقوله يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص: 26] وهو المروي عن ابن مسعود والسدي. وعن الحسن، أن المراد بالخليفة أبناء آدم لأنه يخلف بعضهم بعضا ويؤيده قوله هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [فاطر: 39] وإنما وحد بتأويل من يخلف أو خلفا يخلف، وبالحقيقة الإنسان يخلف جميع المكونات من الروحانيات والجسمانيات والسماويات والأرضيات، ولا يخلفه شيء منها إذ لم يجتمع في شيء منها ما اجتمع فيه. وليس للعالم مصباح يضيء بنار نور الله فيظهر أنوار صفاته خلافة عنه إلا مصباح الإنسان، لأنه أعطى مصباح السر في زجاجة القلب، والزجاجة في مشكاة الجسد، وفي زجاجة القلب زيت الروح يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ [النور: 35] من صفاء العقل ولو لم تمسسه نار النور، وفي مصباح السر فتيلة الخفاء، فإذا استنار مصباحه بنار نور الله كان خليفة الله في أرضه، فيظهر أنوار صفاته في هذا العالم بالعدل والإحسان والرأفة والرحمة واللطف والقهر، ولا تظهر هذه الصفات لا على الحيوان ولا على الملك فاعلم. والفائدة في إخبار الملائكة بذلك، إما تعليم العباد المشاورة في أمورهم وإن كان هو بحكمته البالغة غنيا عن ذلك، وإما ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا. واعلم أن الجمهور من علماء الدين على أن الملائكة كلهم معصومون عن جميع الذنوب لقوله تعالى يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل: 50] فلا شيء من المأمورات بل ومن المنهيات- لأن المنهي مأمور بتركه- إلا ويدخل فيه بدليل صحة الاستثناء وأيضا لقوله بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء: 26، 27] يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 20] إلى غير ذلك من الآيات. وطعن فيهم بعض الحشوية بأنهم قالوا أتجعل، والاعتراض على الله من أعظم الذنوب. وأيضا نسبوا بني آدم إلى القتل والفساد وهذا غيبة وهي من أعظم الكبائر. وأيضا مدحوا أنفسهم بقولهم وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وهو عجب. وأيضا قولهم لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا اعتذار والعذر دليل الذنب. وأيضا قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ دل على أنهم كانوا كاذبين فيما قالوه. وأيضا قوله أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يدل على أنهم كانوا مرتابين في أنه تعالى عالم بكل المعلومات. وأيضا علمهم بالإفساد وسفك الدماء إما بالوحي وهو بعيد وإلا لم يكن لإعادة الكلام فائدة، وإما بالاستنباط والظن وهو منهي وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الأسراء: 36] وأيضا قصة هاروت وماروت وأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 إبليس كان من الملائكة المقربين ثم عصى الله وكفر. والجواب عن اعتراضهم على الله أن غرضهم من ذلك السؤال لم يكن هو الإنكار ولا تنبيه الله على شيء لا يعلمه فإن هذا الاعتقاد كفر، وإنما المقصود من ذلك أمور منها: أن الإنسان إذا كان قاطعا بحكمة غيره ثم رآه يفعل فعلا لا يهتدي ذلك الإنسان إلى وجه الحكمة فيه، استفهم عن ذلك متعجبا. فكأنهم قالوا إعطاء هذه النعم العظام من يفسد ويسفك لا تفعله إلا لوجه دقيق وسر غامض فما أبلغ حكمتك، ومنها أن إبداء الإشكال طلبا للجواب غير محذور، فكأنه قيل: إلهنا أنت الحكيم الذي لا يفعل السفه البتة، وتمكين السفيه من السفه قبيح من الحكيم، فكيف يمكن الجمع بين الأمرين؟ وهذا جواب المعتزلة، واستدلوا به على أن الملائكة لم يجوزوا صدور القبيح من الله تعالى فكانوا على مذهب أهل العدل قالوا: ومما يؤكد ذلك أنهم أضافوا الفساد وسفك الدماء إلى المخلوقين لا إلى الخالق. وأيضا قالوا وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ والتسبيح تنزيه ذاته عن صفة الأجسام وَنُقَدِّسُ لَكَ والتقديس تنزيه أفعاله عن صفة الذم ونعت السفه، ومنها أن الخيرات في هذا العالم غالبة على شرورها، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير. فالملائكة نظروا إلى الشرور فأجابهم الله تعالى بقوله إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ أي من الخيرات الكثيرة التي لا يتركها الحكيم لأجل الشر القليل وهذا جواب الحكيم. ومنها أن سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام الله تعالى، فإن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه. ومنها أن قولهم أَتَجْعَلُ مسألة منهم أن يجعل الأرض أو بعضها لهم إن كان ذلك صلاحا نحو قول موسى أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا [الأعراف: 155] أي لا تهلك، فقال تعالى إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ من صلاحكم وصلاح هؤلاء فبين أن الاختيار لهم السماء ولهؤلاء الأرض، ليرضى كل فريق بما أختار الله له. ومنها أن هذا الاستفهام خارج مخرج الإيجاب كقول جرير: ألستم خير من ركب المطايا؟ أي أنتم كذلك وإلا لم يكن مدحا، فكأنهم قالوا: إنك تفعل ذلك ونحن مع هذا نسبح بحمدك لأنا نعلم في الجملة أنك لا تفعل إلا الصواب والحكمة فقال تعالى إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ فأنتم علمتم ظاهرهم وهو الفساد والقتل، وأنا أعلم ظاهرهم وما في باطنهم من الأسرار الخفية التي تقتضي إيجادهم. وفيه أن استحقاق تلك الخلافة ليس بكثرة الطاعة ولكنه بسابق العناية، وأنه تعالى غني عن طاعة المطيعين كما أنه لا تضره معصية المذنبين. والجواب عن الغيبة أن من أراد إيراد السؤال وجب أن يتعرض لمحل الإشكال، فلذلك ذكروا الفساد والسفك لا للغيبة. وعن العجب أن مدح النفس غير ممنوع منه مطلقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11] فكأنهم قالوا ما سألناك للقدح في حكمتك يا رب فإنا نعترف لك بالإلهية والحكمة، بل لطلب وجه الحكمة. وعن الاعتذار، إنه لم يكن للذنب بل لأن ترك السؤال كان أولى. وروي عن الحسن وقتادة أن الله تعالى لما أخذ في خلق آدم همست الملائكة فيما بينهم وقالوا: ليخلق ربنا ما شاء أن يخلق، فلن يخلق خلقا إلا كنا خلقا أعظم منه وأكرم عليه، فلما خلق آدم عليه السلام وفضله عليهم وعلمه الأسماء كلها قال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين في أنه لا يخلق خلقا إلا وأنتم أفضل منه، ففزعوا إلى التوبة وقالوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا ثم إن العلماء ذكروا في إخبار الملائكة عن الفساد والسفك وجوها منها: أنهم قالوا ذلك ظنا إما لأنهم قاسوهم على حال الجن الذين كانوا قبل آدم عليه السلام في الأرض وهو مروي عن ابن عباس والكلبي، وإما لأنهم عرفوا خلقته وعلموا أنه مركب من الأركان المتخالفة والأخلاط المتنافية الموجبة للشهوة التي منها الفساد وللغضب الذي منه سفك الدماء. ومنها أنهم قالوا ذلك عن اليقين، ويروى عن ابن مسعود وناس من الصحابة، وذلك أنه تعالى لما قال للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: ربنا وما يكون الخليفة؟ قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. فعند ذلك قالوا: ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ أو أنه تعالى كان قد أعلم الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلق عظيم أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، أو لأنه لما كتب القلم في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة فلعلهم طالعوا اللوح فعرفوا ذلك، أو لأن معنى الخليفة إذا كان النائب لله في الحكم والقضاء والاحتياج إلى الحاكم إنما يكون عند التنازع والتظالم، كان الإخبار عن وجود الخليفة إخبارا عن وقوع الفساد والشر بطريق الالتزام وقيل: لما خلق الله النار خافت الملائكة خوفا شديدا فقالوا: لم خلقت هذه النار؟ قال: لمن عصاني من خلقي. ولم يكن يومئذ لله خلق إلا الملائكة، ولم يكن في الأرض خلق البتة. فلما قال: إني جاعل في الأرض خليفة، عرفوا أن المعصية منهم تظهر. وأما قصة إبليس وهاروت وماروت فسيجيء الكلام فيها. واختلف الناس في أن الملائكة لهم قدرة على المعاصي والشرور أم لا. فالفلاسفة وكثير من أهل الجبر قالوا: إنهم خير محض ولا قدرة لهم على الشر. والمعتزلة أثبتوا لهم قدرة على الأمرين، لأن قولهم أَتَجْعَلُ إما معصية أو ترك الأولى، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل، وأيضا قال تعالى وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 29] وهذا يقتضي كونهم مزجورين. وقال لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 [الأنبياء: 19] والمدح بترك الاستكبار إنما يحسن لو كان قدرا على الاستكبار. ويمكن إلزامهم بأن الثواب عندهم واجب على الله فيمتنع عليه تركه مع أنه يستحق المدح على الثواب. والواو في وَنَحْنُ نُسَبِّحُ للحال كقولك «أتحسن إلى فلان وأنا أحق بالإحسان» والتسبيح تبعيد الله من السوء وكذا التقديس، من سبح في الماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها أو أبعد. والتبعيد عن السوء إما في الذات ويحصل بنفي الإمكان المستلزم لنفي الكثرة المستلزمة لنفي الجسمية والعرضية والضد والند، وإما في الصفات بأن يكون مبرءا عن العجز والجهل والتغيرات محيطا بكل المعلومات قادرا على كل المقدورات، وإما في الأفعال بأن لا تكون أفعاله لجلب المنافع ودفع المضار، يقول الله تعالى: أنا المنزه عن النظير والشريك سبحانه هو الواحد القهار، أنا المدبر للسموات والأرض سبحان رب السموات والأرض، أنا المدبر لكل العالمين، سبحان الله رب العالمين أنا المنزه عن قول الظالمين سبحان ربك رب العزة عما يصفون، أنا الغني عن الكل سبحانه هو الغني، أنا السلطان الذي كل شيء سواي فهو تحت قهري وتسخيري فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء، أنا المنزه عن الصحابة والولد سبحانه أنى يكون له ولد، أنا الذي أخلق الولد من غير أب سبحانه إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 47] ، أنا الذي سخرت الأنعام القوية للبشر الضعيف سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف: 13] أنا الذي أعلم لا بعلم المعلمين ولا بإرشاد المرشدين سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: 32] أنا الذي أغفر معصية سبعين سنة بتوبة ساعة وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ [طه: 130] فإن أردت رضوان الله فسبح وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى [طه: 130] وإن أردت الخلاص من النار فسبح سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آل عمران: 191] وإن أردت الفرج من البلاء فسبح لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] أيها العبد، واظب على تسبيحي وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب: 42] وإلا فالضرر يعود إليك فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت: 38] يسبح لي الحجر والمدر والرمال والجبال والشجر والدواب والليل والنهار والظلمات والأنوار والجنة والنار والزمان والمكان والعناصر والأركان والأرواح والأجسام سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الحديد: 1] وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] أيها العبد، أنا الغني عن تسبيح هذه الأشياء، وهذه الأشياء ليست من الأحياء فلا حاجة بها إلى ثواب هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 التسبيح، ولا أضيع ثواب هذه التسبيحات، فإن ذلك لا يليق بي وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: 27] لكني أوصل ثواب هذه الأشياء إليك لتعرف أن من اجتهد في خدمتي أجعل كل العالم في خدمته «وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء» «1» أيها العبد أذكرني بالعبودية لتنتفع به لا أنا سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 180] فإنك إذا ذكرتني في الخلوات ذكرتك في الفلوات وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب: 35] أقرضني وإن كنت أنا الغني حتى أرد الواحد عليك عشرة إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ [التغابن: 17] لا حاجة لي إلى العسكر وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ [محمد: 4] ولكن إذا نصرتني نصرتك إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد: 7] اخدمني يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة: 21] لا لأني أحتاج إلى خدمتك فإني أنا الملك وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 189] ولكن أصرف في خدمتي عمرا قصيرا لتنال ملكا كبيرا وخيرا كثيرا وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 72] . قوله بِحَمْدِكَ في موضع الحال أي نسبحك ملتبسين بحمدك، فإنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق لم نتمكن من ذلك. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكلام أفضل؟ فقال: ما اصطفاه الله لملائكته: سبحان الله وبحمده. ويروى أن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأهل السماء الثالثة ركوع إلى يوم القيامة يقولون: سبحان الحي الذي لا ينام ولا يموت. وعن ابن عباس وابن مسعود: نسبح أي نصلي، والتسبيح الصلاة. وعن مجاهد: نقدس لك نطهر أنفسنا من ذنوبنا وخطايانا ابتغاء لمرضاتك. وقيل: نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك حتى تصير مستغرقة في أنوار معرفتك إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ معناه لا تعجبوا ولا تغتموا بأن فيهم من يفسد ويسفك فإني أعلم أن فيهم من لو أقسم على الله لأبرّه، وأعلم أن معكم إبليس وفي قلبه من الحسد والكبر والنفاق ما فيه، أو أنكم لما وصفتم أنفسكم بهذه المدائح فأنتم في تسبيح أنفسكم لا في تسبيحي. اصبروا حتى أخلق البشر فيكون فيهم من يعبدونني ثم يخشونني، يؤدون حق العبادات ثم لا   (1) رواه الترمذي في كتاب العلم باب 19. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 17. الدارمي في كتاب المقدمة باب 32. أحمد في مسنده (5/ 196) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 يتكلمون على تلك الطاعات إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون: 57] وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: 82] وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 19] أو أعلم من المصالح في ذلك ما هو خفي عليكم، ولكم في هذا الإجمال ما يغنيكم عن التفصيل، فإن أفعالي كلها حكمة ومصلحة، وإن خفي عليكم وجه كل واحد واحد على أنه قد بين لهم بعض ذلك في قوله: [سورة البقرة (2) : الآيات 31 الى 33] وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) القراآت: أَنْبِئُونِي وكذلك الْخاطِؤُنَ وخاسِئِينَ وفَمالِؤُنَ ونَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ ولِيُطْفِؤُا ولِيُواطِؤُا ومُتَّكِئِينَ وقُلِ اسْتَهْزِؤُا ومُتَّكَأً ويَسْتَنْبِئُونَكَ وبابه بَرِيئاً وبَرِيئُونَ وبابه، وكهيئة وأشباه ذلك، ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو. هؤُلاءِ ها بغير المد، أولاء بالمد: يزيد ويعقوب وأوقية ومصعب عن قالون. قال أبو إسحق: هما كلمتان لا يمدها ويمد أولاء. هؤُلاءِ إِنْ بهمزتين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. وقرأ أبو عمرو والبزي من طريق الهاشمي بترك الهمزة الأولى وإثبات الثانية، وكذلك في المفتوحتين والمضمومتين. وقرأ يزيد وورش والقواص وسهل ويعقوب بإثبات الهمزة الأولى وتليين الثانية. وعن نافع: تليين الأولى وإثبات الثانية، وكذلك في المضمومتين. وأما في المفتوحتين فكأبي عمرو. أَنْبِئْهُمْ عن ابن عامر روايتان: مهموزة مكسورة الهاء، وغير مهموزة مكسورة الهاء. الوقوف: صادِقِينَ (هـ) عَلَّمْتَنا (ط) الْحَكِيمُ (هـ) أَنْبِئْهُمْ (ج) بِأَسْمائِهِمْ (ج) لمكان فاء التعقيب. بِأَسْمائِهِمْ (لا) لأن «قال» جواب «فلما» تَكْتُمُونَ. التفسير: وفيه أبحاث: الأول: الأشعري والجبائي والكعبي على أن اللغات كلها توقيفية بمعنى أن الله تعالى خلق علما ضروريا بتلك الألفاظ وتلك المعاني، وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني بدليل قوله تعالى وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا وهذا يدل على أن الملائكة وآدم لا يعلمون إلا بتعليم الله تعالى إياهم. وخالفهم أصحاب أبي هاشم الذاهبون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 إلى أن اللغات اصطلاحية وضعها البشر واحد أو جماعة. وحصل التعريف للباقين بالإشارة والقرائن كالأطفال فقالوا: المراد ألهمه وبعث داعيته على الوضع مثل وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [الأنبياء: 80] . أي ألهمناه، أو المراد علمه ما سبق من اصطلاحات قوم كانوا قبل آدم. وأجيب بأن الأصل عدم العدول عن الظاهر: قالوا ثُمَّ عَرَضَهُمْ يدل على أن المراد بالأسماء المسميات، فإن عرض الأسماء غير معقول. فإذن المراد أسماء المسميات فعوض الألف واللام عن المضاف إليه كما في قوله وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4] أي علمه أسماء كل ما خلق من أجناس المحدثات من جميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها ولده اليوم من العربية والفارسية والرومية وغيرها، وكان ولد آدم يتكلمون بهذه اللغات، فلما مات وتفرق ولده في نواحي العالم تكلم كل واحد بلغة واحدة معينة من تلك اللغات، فلما طالت المدة ومضت القرون نسوا سائر اللغات. ثم لا يبعد بل ينبغي أن يكون الله تعالى قد علمه مع ذلك صفات الأشياء ونعوتها وخواصها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية، لأن اشتقاق الاسم إما من السمة أو من السمو. فإن كان من السمة فالاسم هو العلامة وصفات الأشياء وخواصها دالة على ماهياتها وعلامة عليها، وإن كان من السمو فدليل الشيء كالمرتفع على ذلك الشيء، فإن العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول. وإنما قلنا ينبغي ذلك لأن الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر من الفضيلة في معرفة أسمائها. ثم من الحقائق ما يتوقف إدراكها على آلة تدرك بها كالمبصرات والمسموعات وغيرها، فإذا كان لآدم تلك الآلات وقد عرفها بها، ولم يكن للملائكة ذلك لزم عجزهم. وأيضا العربي لا يحسن منه أن يقول لغيره تكلم بلغتي، لأن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات، بل إن حصل التعليم حصل العلم بها وإلا فلا. أما العلم بحقائق الأشياء، فالعقل يتمكن من تحصيله فصح وقوع التحدي به. وإنما قيل ثُمَّ عَرَضَهُمْ بلفظ الذكور، لأن في جملة المسميات الملائكة والثقلين وهم العقلاء، فغلب الكامل على الناقص، والتذكير على التأنيث. ومن الناس من تمسك بقوله أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ على جواز تكليف ما لا يطاق وهو ضعيف، لأنه إنما استنبأهم مع علمه بعجزهم تبكيتا لهم بدليل قوله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أني لا أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منهم. وقيل: أي في قولكم إنه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلا وأنتم تصلحون له وتقومون به وهو قول ابن عباس وابن مسعود. وقيل: أعلموني بأسماء هؤلاء إن علمتم أنكم تكونون صادقين في ذلك الإعلام. وقيل: أخبروني ولا تقولوا إلا حقا وصدقا، فيكون الغرض منه التوكيد لما نبههم عليه من القصور لأنه متى تمكن في أنفسهم العلم بأنهم إن أخبروا لم يكونوا صادقين ولا لهم إليه سبيل، لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 يجترءوا على الجواب. ثم إن الذين اعتقدوا معصية الملائكة في قولهم أَتَجْعَلُ قالوا: إنهم لما عرفوا خطأهم تابوا واعتذروا بقولهم سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا والذين أنكروا معصيتهم قالوا: إنهم قالوا ذلك على وجه الاعتراف بالعجز والتسليم كأنهم قالوا: لا نعلم إلا ما علمتنا، فإذا لم تعلمنا ذلك فكيف نعلمه؟ أو أنهم إنما قالوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] لأن الله تعالى أعلمهم ذلك. فكأنهم قالوا: إنك علمتنا أنهم يفسدون في الأرض فقلنا لك: أتجعل. وأما هذه الأسماء فإنك ما علمتنا فكيف نعلمها؟ ومعنى سبحانك نسبحك تسبيحا أي ننزهك تنزيها وهو مصدر غير متصرف أي لا يستعمل إلا محذوف الفعل منصوبا على المصدرية، فإذا استعمل غير مضاف كان «سبحان» علما للتسبيح، فإن العلمية كما تجري في الأعيان تجري في المعاني. قالت المعتزلة هاهنا: المراد أنه لا علم لنا إلا من جهتك إما بالتعليم وإما بنصب الأدلة. وقالت الأشاعرة: بل الجميع بالتعليم لأن المؤثر في وجود العلم ليس هو ذات الدليل بل النظر في الدليل، وأنه يستند إلى توفيق الله تعالى وتسهيله. ثم احتج أهل الإسلام بالآية، أنه لا سبيل إلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله، وأنه لا يمكن التوصل إليها بعلم النجوم والكهانة. وللمنجم أن يقول للمعتزلي: إذا فسرت التعليم بوضع الدليل فعندي حركات النجوم دلائل خلقها الله تعالى على أحوال هذا العالم، فيكون من جملة ما علمه الله تعالى أنك أنت العليم بكل المعلومات، فأمكنك تعليم آدم الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه. وعن ابن عباس: أن مراد الملائكة من الحكيم أنه هو الذي حكم بجعل آدم خليفة في الأرض. وقوله أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ استحضار لقوله تعالى لهم إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ إلا أنه تعالى جاء به على وجه أبسط وأشرح، فيندرج فيه علمه بأحوال آدم قبل أن خلقه. وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها، فيبطل مذهب هشام ابن الحكم أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وقوعها. وقد روى الشعبي عن ابن عباس وابن مسعود أنه يريد بقوله ما تُبْدُونَ قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وبقوله وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ما أسر إبليس في نفسه من الكفر والكبر وأن لا يسجد. وقيل: لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجيبا فقالوا: ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أكرم عليه منه، فهذا هو الذي كتموه. ويجوز أن يكون هذا القول منهم سرا أسروه بينهم فأبداه بعضهم لبعض وأسروه عن غيرهم، فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان. والظاهر أنه عام كقوله إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ [الأنبياء: 11] إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى [الأعلى: 7] . البحث الثاني: قالت المعتزلة: ما ظهر من آدم معجز دل على نبوته في ذلك الوقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 فكان مبعوثا إلى حواء أو إلى من توجه التحدي إليهم، لأنهم كانوا رسلا فقد يجوز الإرسال إلى الرسل كبعثة إبراهيم إلى لوط صلى الله عليه وسلم واحتجوا بأن حصول ذلك العلم له ناقض العادة ومنع بأن حصول العلم بالأسماء لمن علمه الله، وعدم حصوله لمن لم يعلمه ليس بناقض للعادة. وأيضا أهم علموا أن تلك الأسماء موضوعة لتلك المسميات أو لا؟ فإن علموا فقد قدروا على المعارضة وإلا فكيف عرفوا أن آدم أصاب فيما ذكر، اللهم إلا أن يقال: إن لكل صنف منهم لغة من تلك اللغات، ثم إن جميع الأصناف حضروا وإن آدم عرض عليهم جميع تلك اللغات فكان معجزا، أو يقال: إنه تعالى عرفهم قبل أن يسمعوا من آدم تلك الأسماء فاستدلوا به على صدق آدم. والظاهر أنهم قد عرفوا صدقه بتصديق الله تعالى إياه، ولئن سلم أنه ظهر منه فعل خارق للعادة فلم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات أو من باب الإرهاص وهما عندنا جائزان؟ القاطعون بأنه عليه السلام ما كان نبيا في ذلك الوقت قالوا: صدرت الكبيرة منه بعد ذلك، والإقدام عليها يوجب الطرد والتحقير، فوجب أن تكون النبوة متأخرة عنها، كيف وقد قال عز من قائل ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ [طه: 122] والرسالة هي الاجتباء، فيكون بعد الزلة. وأيضا لو كان رسولا، فإن لم يكن مبعوثا إلى أحد فلا فائدة، وإن كان مبعوثا فإما إلى الملائكة- وهم أفضل من البشر عند المعتزلة- ولا يجوز جعل الأدون رسولا إلى الأشرف، وإن المرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الأنعام: 9] وإما إلى الأنس، ولا إنسان إلا حواء، وإنها عرفت التكليف لا بواسطة آدم بدليل وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة: 35] وإما إلى الجن، وما كان في السماء أحد من الجن. البحث الثالث: في فضل العلم: لو كان في الإمكان شيء أشرف من العلم لأظهر الله تعالى فضل آدم بذلك الشيء، ومما يدل على فضيلته الكتاب والسنة والمعقول. أما الكتاب فمن ذلك ما يروى عن مقاتل، أن الحكمة في القرآن على أربعة أوجه: أحدها مواعظ القرآن وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة: 231] وثانيها الحكمة بمعنى الفهم والعلم وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم: 12] وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لقمان: 12] وثالثها الحكمة بمعنى النبوة فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء: 54] ورابعها القرآن يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269] وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم. ومن ذلك أنه تعالى فرق بين سبعة نفر في كتابه قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ [المائدة: 100] لا يَسْتَوِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر: 20] وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ [فاطر: 19- 22] فإذا تأملت وجدت كل ذلك مأخوذا من الفرق بين العالم والجاهل. ومن ذلك قوله أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] أي العلماء في أصح الأقوال، لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء. ولا ينعكس شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران: 18] جعلهم في الآيتين في المرتبة الثالثة، ثم زاد في الإكرام فجعلهم في المرتبة الثانية وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 70] قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد: 43] ومن ذلك قوله تعالى يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة: 11] ومن ذلك وصفهم بالإيمان وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران: 7] وبشهادة التوحيد شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران: 18] وبالبكاء والسجود والخشوع إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء: 107- 109] وبالخشية إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] . وأما الأخبار فمنها ما رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم «من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين، فو الذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب العالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة، وبنى له بكل قدم مدينة في الجنة، ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له، ويمسي ويصبح مغفورا له، وشهدت الملائكة لهم بأنهم عتقاء الله من النار» وعن أنس أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من طلب العلم لغير الله لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم فيكون لله، ومن طلب العلم لله فهو كالصائم نهاره والقائم ليله، وإن بابا من العلم يتعلمه الرجل خير له من أن يكون له أبو قبيس ذهبا فينفقه في سبيل الله» وعن الحسن مرفوعا «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة في الجنة» وعنه صلى الله عليه وسلم «رحمة الله على خلفائي فقيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله» وعن أبي موسى الأشعري مرفوعا «يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول: يا معشر العلماء إني لم أضع نوري فيكم إلا لعلمي بكم، ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم، انطلقوا فقد غفرت لكم» وقال صلى الله عليه وسلم «معلم الخير إذا مات بكى عليه طير السماء ودواب الأرض وحيتان البحر» وعن أبي هريرة مرفوعا «من صلى خلف عالم من العلماء فكأنما صلى خلف نبي من الأنبياء» وعن ابن عمر مرفوعا «فضل العالم على العابد بسبعين درجة بين كل درجة حضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الفرس سبعين عاما» وذلك أن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم ويزيلها والعابد يقبل على عبادته لا يتوجه إليها ولا يتعرف لها. وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما تطلع عليه الشمس أو تغرب» «1» وعن ابن مسعود مرفوعا «من طلب العلم ليحدث به الناس ابتغاء وجه الله أعطاه الله أجر سبعين نبيا» وعن عامر الجهني مرفوعا «يؤتى بمداد العلماء ودم الشهداء يوم القيامة لا يفصل أحدهما على الآخر» وفي رواية «فيرجح مداد العلماء» وعن أبي واقد الليثي أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر. فأما أحدهم فرأى فرجة في الحلقة فجلس إليها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فإنه رجع وفر. فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من كلامه قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ فأما الأول فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه. وعنه صلى الله عليه وسلم «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» «2» قال الراوي: فأعظم بمرتبة هي الواسطة بين النبوة والشهادة. وعن أبي هريرة مرفوعا «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له بالخير» «3» وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا سألتم الحوائج فاسألوها الناس. قيل: يا رسول الله ومن الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم: أهل القرآن. قيل: ثم من؟ قال: أهل العلم. قيل: ثم من؟ قال صلى الله عليه وسلم: صباح الوجوه» قال الراوي: والمراد بأهل القرآن من يحفظ معانيه. وقال صلى الله عليه وسلم «كن عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا ولا تكن الخامسة فتهلك» قال الراوي: وجه التوفيق بين هذه الرواية وبين الرواية الأخرى «الناس رجلان عالم ومتعلم وسائر الناس همج لا خير فيه» أن المستمع والمحب بمنزلة المتعلم، وما أحسن قول بعض الأعراب لولده: كن سبعا خالسا، أو ذئبا خانسا، أو كلبا حارسا، وإياك أن تكون إنسانا ناقصا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحدث إنسانا فأوحى الله تعالى إليه أنه لم يبق من عمر هذا الرجل الذي تحدثه إلا ساعة- وكان هذا وقت العصر- فأخبره الرسول بذلك فاضطرب الرجل وقال: يا رسول الله دلني على أوفق عمل لي في هذه الساعة. قال صلى الله عليه وسلم: اشتغل بالتعلم. فاشتغل بالتعلم وقبض قبل المغرب. قال الراوي: فلو كان شيء أفضل من العلم لأمره النبي صلى الله عليه وسلم به في ذلك الوقت. وأما الآثار، فإن مصعب بن الزبير قال لابنه: تعلم العلم   (1) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 102، 143. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث 35. أحمد في مسنده (5/ 238، 323) . (2) رواه ابن ماجه في كتاب الزهد باب 37. (3) رواه الدارمي في كتاب المقدمة باب 46. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فإنه إن يك لك مال كان لك جمالا، وإن لم يكن لك مال كان العلم لك مالا. وقال علي بن أبي طالب: لا خير في الصمت عن العلم كما لا خير في الكلام عن الجهل. وقيل: مثل العالم بالله كمثل الشمس لا يزيد ولا ينقص. وهو الجالس على الحد المشترك بين عالم المعقولات وعالم المحسوسات، فهو تارة مع الله بالحب له، وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة، فإذا رجع من ربه إلى الخلق صار كواحد منهم كأنه لم يعرف الله، وإذا خلا بربه مشتغلا بذكره وخدمته فكأنه لا يعرف الخلق، فهذا سبيل المرسلين والصديقين. ومثل العالم بالله فقط كمثل القمر يكمل تارة وينقص أخرى، وهو المستغرق في المعارف الإلهية غير متفرغ لتعلم علم الأحكام إلا ما لا بد منه، ومثل العالم بأمر الله فقط وهو العارف بالحلال والحرام دون أسرار جلال الله، كمثل السراج يحرق نفسه ويضيء لغيره. وقال شقيق البلخي: الناس يقومون من مجلسي على ثلاثة أصناف، وذلك أني أفسر القرآن فأقول عن الله وعن الرسول، فمن لا يصدقني فهو كافر محض، ومن ضاق قلبه منه فهو منافق محض، ومن ندم على ما صنع وعزم على أن لا يذنب كان مؤمنا محضا. وقال أيضا: ثلاثة من النوم يبغضها الله، وثلاثة من الضحك: النوم بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العتمة، والنوم في الصلاة، والنوم عند مجلس الذكر. والضحك خلف الجنازة، والضحك في المقابر، والضحك في مجلس الذكر. وقيل: العالم أرأف بالتلميذ من الأب والأم، لأن الآباء والأمهات يحفظونهم من نار الدنيا وآفاتها، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة وشدائدها. وقيل لابن مسعود: بم وجدت هذا العلم؟ قال: بلسان سؤل وقلب عقول. وقال بعضهم: سل مسألة الحمقى واحفظ حفظ الأكياس. وقيل: الدنيا بستان تزينت بخمسة أشياء: علم العلماء، وعدل الأمراء، وعبادة العباد، وأمانة التجار، ونصيحة المحترفين. فجاء إبليس بخمسة أعلام وأقامها بجنب هذه الخمس. فجاء بالحسد فركزه في جنب العلم، وجاء بالجور فركزه بجنب العدل، وجاء بالرياء فركزه بجنب العبادة، وجاء بالخيانة فركزها بجنب الأمانة، وجاء بالغش فركزه بجنب النصيحة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: العلم أفضل من المال لسبعة أوجه: العلم ميراث الأنبياء والمال ميراث الفراعنة، العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص، المال يحتاج إلى الحافظ والعلم يحفظ صاحبه، إذا مات الرجل خلف ماله والعلم يدخل معه قبره، المال يحصل للمؤمن والكافر والعلم لا يحصل الا للمؤمن، جميع الناس محتاجون إلى العالم في أمر دينهم ولا يحتاجون إلى صاحب المال، العلم يقوي الرجل عند المرور على الصراط والمال يمنعه منه. قال الفقيه أبو الليث: من جلس عند العالم ولا يقدر أن يحفظ من ذلك العلم شيئا فله سبع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 كرامات: ينال فضل المتعلمين، وكان محبوسا من الذنوب ما دام جالسا عنده، وإذا خرج من منزله طلبا للعلم نزلت الرحمة عليه، وإذا جلس في حلقة العلم فنزلت الرحمة عليهم حصل له منها نصيب، وما دام يكون في الاستماع تكتب له طاعة، إذا استمع ولم يفهم ضاق قلبه وانكسر فيكون في زمرة «أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي» ، إذا رأى إعزاز المسلمين للعالم وإذلالهم للفساق نفر عن الفسق ومال إلى طلب العلم. وقيل: ثلاثة لا ينبغي للشريف أن يأنف منها وإن كان أميرا: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته للعالم الذي يتعلم منه، والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه. (واعلم) أن الله تعالى علم سبعة نفر سبعة أشياء: علم آدم الأسماء كلها، وعلم الخضر علم الفراسة وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف: 65] وعلم يوسف علم التعبير وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [يوسف: 101] وعلم داود صنعة الدرع وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ وعلم سليمان منطق الطير عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل: 16] وعلم عيسى عليه السلام علم التوراة والإنجيل وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران: 48] وعلم محمدا صلى الله عليه وسلم الشرع والتوحيد وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء: 113] فعلم آدم كان سببا لحصول السجدة والتحية، وعلم الخضر كان سببا لوجود تلميذ مثل موسى ويوشع، وعلم يوسف لوجود الأهل والمملكة، وعلم سليمان لوجدان بلقيس والغلبة، وعلم داود للرياسة والملك، وعلم عيسى لزوال التهمة عن أمه، وعلم محمد صلى الله عليه وسلم لوجدان الشفاعة. ثم نقول: من علم أسماء المخلوقات وجد تحية الملائكة، فمن علم ذات الخالق وصفاته أما يجد تحية الملائكة بل تحية ربه سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] والخضر وجد بعلم الفراسة صحبة موسى، فأمة محمد بعلم الحقيقة يجدون صحبة محمد صلى الله عليه وسلم فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [النساء: 69] ويوسف بتأويل الرؤيا نجا من حبس الدنيا، فمن كان عالما بتأويل كتاب الله كيف لا ينجو من حبس الشبهات وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس: 25] وأيضا فإن يوسف عليه السلام ذكر منة الله على نفسه حيث قال وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [يوسف: 101] فأنت يا عالم، أما تذكر نعمة الله على نفسك حيث جعلك مفسرا لكلامه، وسميا لنفسه ووارثا لنبيه وداعيا لخلقه وواعظا لعباده وسراجا لأهل بلاده وقائدا للخلق إلى جنته وثوابه، وزاجرا لهم عن ناره وعقابه، كما جاء في الحديث «العلماء سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة» وإن سليمان لم يحتج إلى الهدهد إلا لعلمه بالماء. (وروي) عن نافع بن الأزرق أنه قال لابن عباس: كيف اختار سليمان الهدهد لطلب الماء؟ قال: لأن الأرض له كالزجاجة يرى باطنها من ظاهرها. فقال نافع: الفخ يغطى له بأصبع من التراب فلا يراه فيقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 فيه! فقال ابن عباس: إذا جاء القضاء عمي البصر. وقال لولده: يا بني عليك بالأدب، فإنه دليل على المروءة، وأنس في الوحشة، وصاحب في الغربة، وقرين في الحضر، وصدر في المجلس، ووسيلة عند انقضاء الوسائل، وغني عند العدم، ورفعه للخسيس، وكمال للشريف، وجلال للملك. (وقال) سقراط: من فضيلة العلم أنك لا تقدر على أن يخدمك فيه أحد كما تجد من يخدمك في سائر الأشياء بل تخدمه بنفسك، ولا يقدر أحد على سلبه عنك. وقيل لبعض الحكماء: لا تنظر فغمض عينيه وقيل له: لا تسمع فسد أذنيه، وقيل له: لا تتكلم فوضع يده على فيه، وقيل له: لا تعلم فقال: لا أقدر عليه. وعن بعض الحكماء: عظم العلم في ذاتك، وصغر الدنيا في عينك، وكن ضعيفا عند الهزل، قويا عند الجد، ولا تلم أحدا على فعل يمكن أن يعتذر منه، ولا ترفع شكايتك إلا إلى من ترى نفعه عندك حتى تكون حكيما فاضلا. ولبعضهم: آفة الزعماء ضعف السياسة، وآفة العلماء حب الرياسة. (وأما النكت) فالمعصية عند الجهل لا يرجى زوالها، وعند السهو يرجى زوالها انظر إلى زلة آدم فإنه بعلمه استغفر، والشيطان عصى وبقي في الغي أبدا، لأن ذلك كان بسبب الجهل، وإن يوسف عليه السلام لما صار ملكا احتاج إلى وزير فسأل جبريل عن ذلك فقال: إن ربك يقول لا تختر إلا فلانا، فرآه في أسوأ الأحوال. فقال لجبريل: كيف يصلح لهذا العمل مع سوء حاله؟ فقال له جبريل: إن ربه عينه لذلك لأنه ذب عنك بعلمه حين قال وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف: 27] والنكتة أن من ذب عن يوسف استحق الشركة في مملكته، فمن ذب عن الدين القويم بالبرهان المستقيم فكيف لا يستحق من الله الخير والإحسان؟ وقيل: أراد واحد خدمة ملك فقال الملك: اذهب وتعلم حتى تصلح لخدمتي فلما شرع في التعلم وذاق لذة العلم، بعث الملك إليه وقال: اترك التعلم فقد صرت أهلا لخدمتي. فقال كنت أهلا لخدمتك حين لم ترني أهلا لخدمتك، وحين رأيتني أهلا لخدمتك رأيت نفسي أهلا لخدمة الله، وذلك لأني كنت أظن أن الباب بابك لجهلي والآن علمت أن الباب باب الرب. (وقال الحكيم:) القلب ميت وحياته بالعلم، والعلم ميت وحياته بالطلب، والطلب ضعيف وقوته بالمدارسة، فإذا قوي بالمدارسة فهو محتجب، وإظهاره بالمناظر وإذا ظهر بالمناظرة فهو عقيم، ونتاجه بالعمل فإذا زوج العلم بالعمل توالد وتناسل ملكا أبديا لا آخر له. وإن نملة واحدة نالت الرياسة بمسألة واحدة علمتها وذلك قولها وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل: 18] كأنها إشارة إلى تنزيه الأنبياء عن المعصية وإيذاء البريء من غير جرم فقالت: لو حطمكم فإنما يصدر ذلك على سبيل السهو. فمن علم حقائق الأشياء من الموجودات والمعدومات، كيف لا يستحق الرياسة في الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 والدنيا؟ وإن الكلب المعلم يكون صيده ماهرا ببركة العلم مع أنه نجس في الأصل، فالنفس الطاهرة في الفطرة إذا تلوثت بأوزار المعصية، كيف لا تطهر ببركة العلم بالله وبصفاته؟ وإذا كان السارق عالما لا تقطع يده لأنه يقول: كان المال وديعة لي، وكذا الشارب يقول: حسبته حلالا، وكذا الزاني يقول: تزوجتها فإنه لا يحد. وأما الحكايات، (يحكى) أن هارون الرشيد كان بحضرته فقهاء فيهم أبو يوسف فأتي برجل فادعى عليه آخر أنه أخذ من بيتي مالا بالليل، ثم أقر الآخذ بذلك في المجلس، فاتفق العلماء على أنه تقطع يده، فقال أبو يوسف: لا قطع عليه لأنه أقر بالأخذ، وإنه لا يوجب القطع بل لا بد من الاعتراف بالسرقة فصدقه الكل في ذلك ثم قالوا للآخذ: أسرقتها؟ فقال: نعم. فأجمعوا على القطع لأنه أقر بالسرقة. فقال أبو يوسف: لا قطع عليه لأنه وإن أقر بالسرقة، لكن بعد ما أوجب الضمان عليه بإقراره بالأخذ، وإذا أقر بالسرقة بعد ذلك فهو بهذا الإقرار يسقط الضمان عن نفسه فلا يسمع إقراره فتعجب الكل. (وعن الشعبي) كنت عند الحجاج فأتي بيحيى بن يعمر- فقيه خراسان- من بلخ مكبلا في الحديد. فقال الحجاج: أنت زعمت أن الحسن والحسين من ذرية الرسول؟ فقال: بلى. فقال الحجاج: لتأتيني ببينة واضحة من كتاب الله أو لأقطعنك عضوا عضوا. فقال: آتيك ببينة واضحة من كتاب الله يا حجاج؟ قال: فتعجب من جرأته بقوله يا حجاج فقال له: ولا تأتيني بهذه الآية نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ [آل عمران: 61] فقال: آتيك بها واضحة من كتاب الله. قال تعالى: وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ إلى قوله وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى [الأنعام: 84] فمن أبو عيسى فقد ألحق تعالى عيسى بذرية نوح قال: فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال: كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله، حلوا وثاقه وأعطوه من المال كذا. (ويحكى) أن جماعة من أهل المدينة جاءوا إلى أبي حنيفة ليناظروه في القراءة خلف الإمام ويبكتوه ويسفهوا عليه، فقال لهم: لا يمكنني مناظرة الجميع ففوضوا أمر المناظرة إلى أعلمكم لأناظره، فأشاروا إلى واحد فقال: هذا أعلمكم؟ قالوا: نعم. قال: والمناظرة معه كالمناظرة معكم؟ قالوا: نعم. قال: والإلزام عليه كالإلزام عليكم؟ قالوا: نعم. قال: وإن ناظرته وألزمته الحجة فقد ألزمتكم الحجة؟ قالوا: نعم. قال: وكيف قالوا لأنا رضينا به إماما فكان قوله قولا لنا، قال أبو حنيفة فنحن لما اخترنا الإمام في الصلاة فقراءته قراءة لنا وهو ينوب عنا فأقروا له بالعلم. ويحكى أن المنصور دعا أبا حنيفة يوما فقال الربيع وهو يعاديه: يا أمير المؤمنين، هذا يخالف جدك حيث يقول الاستثناء المنفصل جائز وأبو حنيفة ينكره، فقال أبو حنيفة: هذا الربيع يقول ليس لك بيعة في رقبة الناس. فقال: كيف قال إنهم يعقدون البيعة لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 بيعتهم؟ فضحك المنصور وقال: إياك يا ربيع وأبا حنيفة، فلما خرج الربيع قال: سعيت في دمي قال: كنت البادي. ويحكى أنه دخل اللصوص على رجل وأخذوا متاعه واستحلفوه بالطلاق ثلاثا أن لا يعلم أحدا. فأصبح الرجل وهو يرى اللصوص يبيعون متاعه وليس يقدر أن يتكلم من أجل يمينه، فجاء الرجل يشاور أبا حنيفة، فقال: أحضر لي إمام مسجدك وأهل محلتك فأدخلهم جميعا في دار واحدة وأخرج واحدا واحدا. فقال للرجل: إن لم يكن لصك فقل: لا، وإن كان فاسكت. فلما سكت قبض على اللص ورد الله تعالى عليه جميع ما سرق منه. ويحكى أنه كان في جوار أبي حنيفة فتى يغشى مجلس أبي حنيفة، فقال يوما له: إني أريد التزوج من آل فلان وقد خطبتها إليهم فطلبوا مني من المهر فوق طاقتي. قال: استقرض وادخل عليها فإن الله تعالى يسهل الأمر عليك بعد ذلك. فأقرضه أبو حنيفة ذلك القدر ثم قال له بعد الدخول: أظهر أنك تريد الخروج من هذا البلد إلى بلد بعيد، وأنك تسافر بأهلك معك. فأظهر الرجل ذلك فاشتد على أهل المرأة وجاءوا إلى أبي حنيفة يشكونه ويستفتونه فقال لهم: له ذلك، والطريق أن ترضوه بأن تردوا عليه ما أخذتموه فأجابوا إليه، فقال الزوج: إني أريد شيئا آخر فوق ذلك. فقال له أبو حنيفة: ترضى بهذا وإلا أقرت لرجل بدين فلا يمكن المسافرة بها حتى تقضي ما عليها، فقال الرجل: الله الله، لا يسمعوا بهذا، فرضي بذلك وحصل ببركة علم أبي حنيفة فرج كل واحد من الخصمين. وسئل أبو حنيفة عن رجل حلف ليقربن امرأته في نهار رمضان فلم يعرف أحد وجه الجواب. فقال: يسافر بامرأته فيطؤها نهارا في رمضان. وقال بشر المريسي للشافعي: كيف تدعي انعقاد الإجماع مع أهل المشرق والمغرب على شيء واحد- وكانت هذه المناظرة عند الرشيد- فقال الشافعي: هل تعرف إجماع الناس على خلاف هذا الجالس؟ فأقر به خوفا وانقطع. ويحكى أن أعرابيا سأل الحسين بن علي رضي الله عنه حاجة وقال: «سمعت جدك يقول: إذا سألتم حاجة فاسألوها من أحد أربعة: إما عربيا شريفا، أو مولى كريما، أو حامل القرآن، أو صاحب الوجه الصبيح» فأما العرب فشرفت بجدك، وأما الكرم فدأبكم وسيرتكم، وأما القرآن ففي بيوتكم نزل، وأما الوجه الصبيح فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إذا أردتم أن تنظروا إليّ فانظروا إلى الحسن والحسين» رضي الله عنهما. فقال الحسين رضي الله عنه: ما حاجتك؟ فكتبها على الأرض. فقال الحسين رضي الله عنه: سمعت أبي عليا رضي الله عنه يقول: قيمة كل امرئ ما يحسنه. وسمعت جدي يقول: المعروف بقدر المعرفة فأسألك عن ثلاث مسائل، إن أحسنت في جواب واحدة فلك ثلث ما عندي، وإن أجبت عن اثنتين فلك ثلثا ما عندي، وإن أجبت عن الثلاث فلك كل ما عندي. وقد حمل إلى الحسين صرة مختومة من العراق فقال: سل ولا قوة إلا بالله. فقال رضي الله عنه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 أي الأعمال أفضل؟ قال الأعرابي: الإيمان بالله. قال: فما نجاة العبد من الهلكة؟ قال: الثقة بالله، قال: فما يزين المرء؟ قال: علم معه حلم. قال رضي الله عنه: فإن أخطأ ذلك؟ قال: فمال معه كرم. قال رضي الله عنه: فإن أخطأ ذلك؟ قال: ففقر معه صبر. قال رضي الله عنه: فإن أخطأ ذلك؟ قال: فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه. فضحك الحسين رضي الله عنه ورمى بالصرة إليه. وأما الوجوه العقلية فمنها أن الأمور أربعة أقسام: قسم يرضاه العقل دون الشهوة كمكاره الدنيا، وقسم عكس ذلك كالمعاصي، وقسم ترضاه الشهوة والعقل وهو العلم والجنة، وقسم لا ترضاه الشهوة والعقل وهو الجهل والنار. فمن رضي بالجهل فقد رضي بنار حاضرة، ومن اشتغل بالعلم فقد خاض في جنة حاضرة، وكما يعيش يموت وكما يموت يبعث. ومنها أن اللذة إدراك المحبوب، وكلما كان المدرك أكمل وأشرف كانت اللذة أكمل وأتم. ومدرك العقل هو الله تعالى وجميع مخلوقاته من الملائكة والأفلاك والعناصر والمواليد وجميع أحكامه وأوامره وأي معلوم أشرف من ذلك؟ فلا كمال ولا لذة فوق كمال العلم ولذته، ولا ألم ولا نقصان مثل ألم الجهل ونقصانه، ولهذا قال عز من قائل اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1- 5] كأنه قال: كنت في أول حالك علقة هي الغاية في الخساسة، ثم صرت في آخر حالك في غاية الشرف. وأيضا ترتب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، وهذا يدل على أنه إنما يستحق الأكرمية لأنه أعطى العلم، فالعلم أشرف عطية وأعظم موهبة. ومنها أنه تعالى قال إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] فالعلماء من أهل الخشية، وأهل الخشية أهل الجنة لقوله تعالى جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ إلى قوله ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة: 8] فالعلماء من أهل الجنة بل ليس أهل الجنة إلا العلماء وذلك لكلمة إنما المفيدة للحصر ولا جل لام الاختصاص في قوله لِمَنْ خَشِيَ والسبب في أن العلماء هم أهل الخشية، أن من لم يكن عالما بالشيء استحال أن يكون خائفا منه. ثم إن العلم بالذات لا يكفي في الخوف بل لا بد معه من العلم بأمور ثلاثة: أحدها العلم بالقدرة لأن الملك عالم باطلاع رعيته على أفعاله القبيحة لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعه، وثانيها العلم بكونه عالما لأن السارق من مال السلطان يعلم قدرته لكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه، وثالثها العلم بكونه حكيما فإن المسخرة عند السلطان عالم بكون السلطان قادرا على منعه عالما بقبائح أفعاله لكنه يعلم أنه قد يرضى بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف فثبت أن خوف العبد من الله لا يحصل إلا إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 علم كونه تعالى عالما بجميع المعلومات، قادرا على كل المقدورات، غير راض بالمنكرات والمحرمات، فإذن الخوف من لوازم العلم بالله، وبهذا يعرف نباهة قدر العلم. ومن هنا أمر حبيبه صلى الله عليه وسلم بالازدياد منه حيث قال وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] . ولم يكتف نبي الله موسى عليه السلام بما علم بل قال للخضر هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف: 66] ولم يفتخر سليمان بالمملكة العظيمة بل افتخر بالعلم عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل: 16] ولولا شرف العلم لم يكن للهدهد مع ضعفه أن يتكلم بحضرة سليمان بقوله أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل: 22] وهكذا الرجل الساقط إذا تعلم العلم صار نافذ القول على السلاطين، وما ذاك إلا ببركة العلم. ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال «تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة» وذلك أن التفكر يوصلك إلى الله، والعبادة توصلك إلى ثواب الله. وأيضا التفكر عمل القلب والعبادة عمل الجوارح. ومنها أن سائر كتب الله ناطقة بفضل العلم، أما التوراة فقال لموسى: عظم الحكمة فإني لا أجعل الحكمة في قلب عبد إلا وأردت أن أغفر له. فتعلمها ثم اعمل بها ثم ابذلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة. وأما الزبور فقال سبحانه لداود: قل لأحبار بني إسرائيل ورهبانهم حادثوا من الناس الأتقياء، فإن لم تجدوا فيهم تقيا فحادثوا العلماء، فإن لم تجدوا عالما فحادثوا العقلاء، فإن التقي والعلم والعقل ثلاث مراتب، ما جعلت واحدة منهن في أحد من خلقي وأنا أريد هلاكه، وإنما قدم سبحانه التقى على العلم، لأن التقى لا يوجد بدون العلم كما بينا من أن الخشية لا تحصل إلا مع العلم، والموصوف بالأمرين أشرف من الموصوف بأمر واحد، ولهذا السر أيضا قدم العالم على العاقل لأن العالم لا بد وأن يكون عاقلا، وأما العاقل فقد لا يكون عالما، فالعقل كالبذر والعلم كالشجر والتقوى كالثمر. وأما الإنجيل فقد قال عز من قائل في السورة السابعة عشرة منه: ويل لمن سمع العلم فلم يطلبه كيف يحشر مع الجهال إلى النار؟ اطلبوا العلم وتعلموه فإن العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم، وإن لم يرفعكم لم يضعكم، وإن لم يغنكم لم يفقركم، وإن لم ينفعكم لم يضركم. ولا تقولوا نخاف أن نعلم فلا نعمل ولكن قولوا نرجو أن نعلم فنعمل، إذ العلم شفيع لصاحبه، وحق على الله أن لا يخزيه، وإن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا معشر العلماء، ما ظنكم بربكم؟ فيقولون: ظننا أن ترحمنا وتغفر لنا فيقول: وإني قد فعلت، إني استودعتكم حكمتي لا لشر أردته بكم بل لخير أردته بكم، فادخلوا في صالحي عبادي إلى جنتي برحمتي. وبالجملة، فكون العلم صفة شرف وكمال، وكون الجهل صفة نقصان، أمر معلوم للعقلاء بالضرورة، ولذلك لو قيل للرجل العالم يا جاهل تأذى بذلك وإن كان يعلم أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 كاذب، ولو قيل للرجل الجاهل يا عالم فرح بذلك وإن كان يعلم أنه ليس كذلك، والعلم أينما وجد كان صاحبه محترما معظما حتى إن غير الإنسان من الحيوان إذا رأى الإنسان احتشمه بعض الاحتشام وانزجر به بعض الانزجار وإن كان ذلك الحيوان أقوى بكثير من الإنسان. والعلماء إذا لم يعاندوا كانوا رؤساء بالطبع على من دونهم في العلم، وأن كثيرا ممن كانوا يعاندون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويريدون قتله كانوا إذا وقع بصرهم عليه ألقى الله في قلوبهم الرعب منه فهابوه وانقادوا له. لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بداهته تغنيك عن خبر وما فضل الإنسان على سائر الحيوان إلا لاختصاصه بالمزية النورانية واللطيفة الربانية التي لأجلها صار مستعدا لإدراك حقائق الأشياء والاشتغال بعبادة الله تعالى، والجاهل كأنه في ظلمة شديدة إذا أخرج يده لم يكد يراها، والعالم كأنه يطير في أقطار الملكوت ويسبح في بحار المعقولات، فيطالع الموجودات والمعدوم والواجب والممكن والمحال، ثم يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرض، والجوهر إلى البسيط والمركب، ويبالغ في تقسيم كل منها إلى أنواعها وأنواع أنواعها وأجزائها وأجزاء أجزائها والجزء الذي به يشارك غيره، والجزء الذي به يمتاز عن غيره، ويعرف أثر كل شيء ومؤثره ومعلوله وعلته ولازمه وملزومه وكليته وجزئيته، فيصير كالنسخة التي أثبت فيها جميع المعلومات بتفاصيلها وأقسامها، وأنه في عالم الأرواح كالشمس في عالم الأجسام كاملا ومكملا، واسطة بين الله وعباده، ولأمر ما لم يجعل الله سبحانه سائر صفات الجلال من القدرة والإرادة والسمع والبصر والوجوب والقدم والاستغناء عن المكان والحيز جوابا للملائكة وموجبا لسكوتهم، وإنما جعل تعالى صفة العلم جوابا لهم ثم قال إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30] وهكذا أظهر فضيلة آدم بالعلم بعد افتخارهم بالتسبيح والتقديس. وإن إبراهيم اشتغل في أول أمره بطلب العلم منتقلا بفكره من الكوكب إلى القمر، ومن القمر إلى الشمس، إلى أن وصل إلى الدليل الباهر والبرهان الظاهر إلى المقصود وهو الملة الحنيفية. وإن الله تعالى سمى العلم تارة بالحياة أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: 122] وتارة بالروح وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] وتارة بالنور يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ [النور: 35] وضرب المثل العلم بالماء أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً [الرعد: 17] فعلم التوحيد كماء العين لا يجوز تحريكه لئلا يتكدر، كذلك لا ينبغي طلب كيفية الله كيلا يفضي إلى الكفر، وعلم الفقه كماء القناة يزداد بالاستنباط والحفر، وعلم الزهد كماء المطر ينزل صافيا ويتكدر بغبار الهواء، وكذلك علم الزهد صاف ويتكدر بالطبع، وعلم البدع كماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 السيل يهلك الأحياء ويميت الخلق. وأما الأخبار والآثار الدالة على وعيد من لم يعمل بعلمه أو طلب العلم لغير ذات الله فمنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجالسوا العلماء إلا إن دعوكم من خمس إلى خمس: من الشك إلى اليقين، ومن الكبر إلى التواضع، ومن العداوة إلى النصيحة، ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد» وقال صلى الله عليه وسلم «الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم» عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى بناس يوم القيامة فيؤمر بهم إلى الجنة حتى إذا دنو منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها، فيرجعون عنها بحسرة ما رجع أحد بمثلها ويقولون: يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا فتودوا ذاك أردت بكم، كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين، تراؤون الناس بخلاف ما تضمرون عليه في قلوبكم. هبتم الناس ولم تهابوني، أجللتم الناس ولم تجلوني، تركتم المعاصي ولم تتركوها لي، أكنت أهون الناظرين عليكم؟ فاليوم أذيقكم أليم عذابي مع ما حرمتكم من النعيم» وقيل: أطلب أربعة في أربعة: من الموضع السلامة، ومن الصاحب الكرامة، ومن المال الفراغة، ومن العلم المنفعة، فإذا لم تجد من الموضع السلامة فالسجن خير منه، وإذا لم تجد من الصاحب الكرامة فالكلب خير منه، وإذا لم تجد من مالك الفراغة فالمدر خير منه، وإذا لم تجد من العلم المنفعة فالموت خير منه، وقيل: لا تتم أربعة أشياء إلا بأربعة أشياء: لا يتم الدين إلا بالتقوى، ولا يتم القول إلا بالفعل، ولا تتم المروءة إلا بالتواضع، ولا يتم العلم إلا بالعمل، فالدين بلا تقوى على الخطر، والقول بلا فعل كالهذر، والمروءة بلا تواضع كالشجر بلا ثمر، والعلم بلا عمل كالغيم بلا مطر، وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لجابر بن عبد الله الأنصاري: قوام الدنيا بأربعة: بعالم يعمل بعلمه، وجاهل لا يستنكف عن تعلمه، وغني لا يبخل بماله، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه. فإذا لم يعمل العالم بعلمه استنكف الجاهل من تعلمه، وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه، فالويل لهم والثبور سبعين مرة. وقيل: إذا وضعت على سواد عينك جزءا من الدنيا لا ترى شيئا، فإذا وضعت على سويداء قلبك كل الدنيا كيف ترى بقلبك شيئا؟. البحث الرابع: في حد العلم الأشعري: العلم ما يعلم به. وربما قال: ما يصير الذات به عالما. القاضي: العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه. القفال: إثبات المعلوم على ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 هو به والكل دائر. المعتزلة: هو الاعتقاد المقتضي لسكون النفس. الفلاسفة: صورة حاصلة في النفس مطابقة للمعلوم، ولا يخفى خروج علم الله تعالى عنهما فإنه لا يطلق هناك النفس، وفيه مفاسد أخر يطول ذكرها هاهنا، وعند كثير من المحققين: هو بديهي. وقيل: أصح الحدود، صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض. والحق في هذا المقام هو أن نسبة البصيرة إلى مدركاتها كنسبة البصر إلى مدركاته، فكما أن للبصر نورا كل ما يقع في ذلك النور فهو مدركه، فكذا للبصيرة نور كل ما يقع فيه فهو مدركها. ولا يدرك حقيقة هذا النور، إلا من له نور وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] وهكذا إدراكات جميع الأنوار حتى نور الأنوار، وكلما ازدادت النفس نورية وشروقا ازداد انبساطها فيقع فيها المعلومات أكثر، وهكذا يكون الحال في كل مستكمل. أما إذا كان العالم بحيث تكون كمالاته الممكنة له موجودة معه بالفعل، فلا تزداد نوريته، ولا يتجاوز مرتبته في العلم وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] ثم إن كان التكمال والنور بحيث لا يمكن أكمل منه ولا أنور، كان جميع الأشياء واقعة في نوره، بل يكون نوره نافذا في الكل متصرفا فيها محيطا بها أزلا وأبدا ولا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [سبأ: 3] وهاهنا أسرار أخر لا يجوز التعبير عنها لعزتها يتفطن لبعضها من وفق لها من أهلها. البحث الخامس في ألفاظ تقرب من العلم. الأول: الإدراك، وهو الوصول لأن القوة العاقلة تصل إلى حقيقة المعقول. الثاني: وهو إدراك بغير استثبات وهو أول مراتب وصول المعقول إلى القوة العاقلة ولهذا لا يوصف به الله تعالى. الثالث: التصور مشتق من الصورة، فكأن حقيقة المعقول حلت في العاقلة حلول الشكل في المادة. الرابع: الحفظ وذلك إذا استحكمت الصورة في العاقلة بحيث لو زالت لتمكنت من استرجاعها. الخامس: التذكر وهو محاولة استرجاع الصورة المحفوظة، وإنه بالحقيقة التفات النفس إلى عالمها. السادس: الذكر وهو وجدان الصورة بعد محاولة استرجاعها، ولا محالة يكون مسبوقا بالزوال: قال الشاعر: الله يعلم أني لست أذكره ... وكيف أذكره إذ لست أنساه ويوصف القول بأنه ذكر لأنه سبب حضور المعنى في النفس قال عز من قائل إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر: 9] . السابع: المعرفة وقد اختلفوا في تفسيرها. فمن قائل إنها إدراك الجزئيات، والعلم إدراك الكليات. ومن قائل إنها التصور والعلم هو التصديق، وجعل العرفان أشرف من العلم لأن تصديقنا باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الوجود أمر معلوم بالضرورة، وأما تصور حقيقته فأمر وراء الطاقة البشرية. وقال بعضهم: من أدرك شيئا وانحفظ أثره في نفسه، ثم أدرك ذلك الشيء ثانيا وعرف أن هذا هذا المدرك الذي أدركه ثانيا هو الذي كان قد أدركه أولا، فهذا هو المعرفة. والنفس قبل البدن كانت معترفة بالربوبية إلا أنها في ظلمة العلاقة البدنية قد نسيت مولاها، فإذا تخلصت من قيد العلاقة عرفت ربها وعرفت أنها كانت عارفة. الثامن: الفهم وهو تصور الشيء من لفظ المخاطب، والإفهام هو إيصال المعنى باللفظ إلى فهم السامع. التاسع: الفقه وهو العلم بغرض المخاطب من خطابه قال تعالى لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النساء: 78] أي لا يقفون على المقصود الأصلي من التكاليف. العاشر: العقل وهو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها ونفعها وضرها حتى يصير مانعا من الفعل مرة، ومن الترك أخرى، فيجري ذلك مجرى عقال الناقة. ومن هنا قيل: هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين، والعاقل من عقل عن الله أمره ونهيه. الحادي عشر: الدراية وهي المعرفة الحاصلة بضرب من الحيلة، وهي ترتيب المقدمات فلا يصح إطلاقها عليه تعالى. الثاني عشر: الحكمة وهي اسم لكل علم حسن وعمل صالح، وهو بالعلم العملي أخص منه بالعلم النظري، وفي العمل أكثر استعمالا منه في العلم، وقيل: هي الاقتداء بالخالق سبحانه بقدر القوة البشرية، وذلك أن يجتهد أن ينزه علمه عن الجهل، وعدله عن الجور، وجوده عن البخل. وحلمه عن السفه. الثالث عشر: علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين. فعلم اليقين ما كان مر طريق النظر والاستدلال، وعين اليقين ما كان من طريق الكشوف والنوال، وحق اليقين ما كان متحقق الانفصال عن لوث الصلصال بوروده رائد الوصال. الرابع عشر: الذهن وهو قوة النفس على اكتساب الحدود والآراء. الخامس عشر: الفكر وهو انتقال النفس من التصديقات الحاضرة إلى التصديقات المستحضرة. وقيل: إنه يجري مجرى التضرع إلى الله تعالى في استنزال العلم من عنده. السادس عشر: الحدس وهو قوة للنفس بها يهتدي بسرعة إلى الحد الأوسط في كل قياس. السابع عشر: الذكاء وهو شدة هذا الحدس وبلوغه الغاية القصوى، من ذكت النار اشتعلت. الثامن عشر: الفطنة وهي التنبه لشيء قصد تعريضه كالأحاجي والرموز. التاسع عشر: الخاطر وهو حركة النفس نحو تحصيل حق أو حظ. العشرون: الوهم وهو الاعتقاد المرجوح وقد يقال: إنه الحكم بأمور جزئية غير محسوسة لأشخاص جزئية كحكم السخلة بصداقة الأم وعداوة الذئب. الحادي والعشرون: الظن وهو الاعتقاد الراجح فإن كان عن أمارة قوية قبل ومدح وعليه مدار أكثر أحوال العالم، وإن كان عن أمارة ضعيفة ذم إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12] . الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 والعشرون: الخيال وهو عبارة عن الصورة الباقية عن المحسوس بعد غيبته، وما كان من ذلك في النوم قد يخص باسم الطيف. الثالث والعشرون: البديهة وهي المعرفة الحاصلة للنفس ابتداء لا بتوسط الفكر مثل: الكل أعظم من الجزء، وقد يقال لها الأوليات، الرابع والعشرون: الروية وهي ما كان من المعارف بعد فكر كثير. الخامس والعشرون: الكياسة وهي تمكن النفس من استنباط ما هو أنفع ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» «1» السادس والعشرون: الخبر وهو معرفة تحصل بطريق التجربة وجدت الناس اخبر تقله. السابع والعشرون: الرأي وهو إجالة الخاطر في المقدمات التي يرجى منها إنتاج المطلوب، وقد يقال للقضية المستنتجة من الرأي رأي، والرأي للفكرة كالآلة للصانع، ولهذا قيل: إياك والرأي الفطير. الثامن والعشرون: الفراسة وهي اختلاس المعارف من فرس السبع الشاة. فضرب منها يحصل للإنسان من باطنه، ولا يعرف له سبب الإصغاء جوهر الروح وهو شبه الإلهام، وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «إن في أمتي لمحدثين وإن عمر منهم» » وقد يسمى النفث في الروع، وضرب يحصل بالاستدلال من الأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة. وقيل: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ إشارة إلى الأول وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ [هود: 17] إلى الثاني والله أعلم. التأويل: عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله خلق آدم فتجلى فيه» فبالتجلي علمه التخلق بأخلاقه والاتصاف بصفاته وهذا هو سر الخلافة بالحقيقة، لأن المرأة تكون خليفة المتجلي فيها أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ أي بأسماء هؤلاء المخلوقات دون أسماء الله وصفاته إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الفضيلة، فإن الفضيلة، فإن الفضيلة ليست بمجرد الطاعة، فإن ذرات الموجودات مسبحات بحمدي، وإنما الأفضلية بالعلم لأن الطاعة من صفات الخلق، والعلم من صفات الخالق، والفضل لمن له صفة الحق والخلق جميعا فيخلف عن الحق بصفاته وعن الخلق بصفاتهم. وإنما قال أَنْبِئْهُمْ ولم يقل علمهم كقوله تعالى وَعَلَّمَ آدَمَ لأن الملائكة ليس لهم الترقي في الدرجات والملكوتيات، لهم شهادة كالجسمانيات لنا، ولا يتجاوزون ما فوق سدرة المنتهى كما قال جبريل: لو دنوت أنملة لاحترقت. والجسمانيات مرتبة دون   (1) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 25. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 31. أحمد في مسنده (4/ 124) . (2) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب 6. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث 23. الترمذي في كتاب المناقب باب 17. أحمد في مسنده (6/ 55) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 مرتبتهم فيمكن إنباؤهم بها لأن الجسمانيات لهم كالحيوانيات بالنسبة إلينا. وأما الآلهيات فليس لهم استعداد الترقي إليها، فلهذا لم يقل أنبئهم بأسمائهم كلها كما قال وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها لئلا يكون تكليفا بما لا يطاق، وإنما كان آدم مخصوصا بعلم الأسماء واحتاجت الملائكة إليه في إنباء أسمائهم وأسماء غيرهم، لأنه كان خلاصة العالم، ولهذا خلق شخصه بعد تمام العالم بما فيه كخلق الثمرة بعد تمام الشجرة. فكما أن الثمرة تعبر على أجزاء الشجرة كلها حتى تظهر على أعلى الشجرة، كذلك آدم عبر على أجزاء شجرة الوجود وكان في كل جزء من أجزائها له منفعة ومضرة ومصلحة ومفسدة، فحصل له من كل من ذلك اسم يلائمه حتى إن أسماء الله تعالى جاءت على وفقه فضلا عن أسماء غيره، وذلك أنه لما كان مخلوقا كان الله خالقا، ولما كان مرزوقا كان الله رازقا، ولما كان عبدا كان الله معبودا، ولما كان معيوبا كان ستارا، ولما كان مذنبا كان غفارا، ولما كان تائبا كان توابا، ولما كان منتفعا ومتضررا كان نافعا وضارا، ولما كان ظالما كان عادلا، ولما كان عليه السلام مظلوما كان منتقما وعلى هذا فقس. [سورة البقرة (2) : الآيات 34 الى 39] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) القراآت: لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا برفع الهاء للإتباع: يزيد وقتيبة. وروى ابن مهران عنهما أنهما يشمان الكاف الكسر ويرفعان الهاء. وروى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة: الملائكة بغير همز، وكذلك كل كلمة في وسطها همزة مكسورة إلا قوله السَّائِلِينَ والسَّائِلَ والْبائِسَ فإنهما بالهمز شِئْتُما وبابه بغير همز: أبو عمر ويزيد والأعشى وورش، ومن طريق الأصفهاني وحمزة في الوقف فأزالهما حمزة آدَمَ نصب كَلِماتٍ رفع ابن كثير فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بالفتح حيث كان: يعقوب هُدايَ ومَحْيايَ ومَثْوايَ بالإمالة كل القرآن على غير ليث. النَّارِ بالإمالة كل القرآن، وكذلك كل كلمة في آخرها راء مكسورة بعد الألف في موضع اللام من الكلمة قرأها على غير ليث وأبي حمدون وحمدويه والنجاري عن ورش وحمزة في رواية ابن سعدان وأبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 عمرو إلا أنه لا يميل الْجارِ والْغارِ في بعض الروايات. فروى إبراهيم بن حماد عن اليزيدي الْجارِ بالإمالة. وروى ابن مجاهد عن اليزيدي الْغارِ بالإمالة، وسائر الروايات عنه بالتفخيم لقلة دورهما. واختلفوا في وقف أبي عمرو في مثل النَّارِ وأشباه ذلك. فروى ابن مجاهد والحسن بن عبد الله عن النقاش وكثير من أهل العراق أنه يقف كما يصل، وروى سلمة بن عاصم أنه يقف بالتفخيم والأول أكثر. الوقوف: إِبْلِيسَ (ط) لأنه معرف والجملة بعده لا تكون صفة له إلا بواسطة الذي ولا عامل فتجعل الجملة حالا الْكافِرِينَ (هـ) شِئْتُما (ص) لاتفاق الجملتين الظَّالِمِينَ (هـ) كانا فِيهِ (ص) لعطف الجملتين المتفقتين. عَدُوٌّ (ج) لاختلاف الجملتين حِينٍ (هـ) فَتابَ عَلَيْهِ (ط) الرَّحِيمُ (ج) جَمِيعاً (ج) لابتداء الشرط مع فاء التعقيب يَحْزَنُونَ (هـ) النَّارِ (ج) لأن ما بعدها مبتدأ وخبر. وقيل: الجملة خبر بعد خبر لأولئك، لأن تمام المقصود بوعيد هو الخلود مثل: الرمان حلو حامض خالِدُونَ (هـ) . التفسير: لما خصص الله تعالى أبانا آدم بالخلافة ثم علمه من العلوم ما ظهر بذلك مزيته على جميع الملائكة، اقتضت حكمته البالغة أن جعله مسجودا لهم وهذا مقتضى النسق هاهنا ظاهر إلا أن قوله تعالى في موضع آخر فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [ص: 72] يقتضي أن يكون الأمر بالسجود قبل تسوية خلقه، وأنه كما صار حيا صار مسجودا لهم. وتعليم الأسماء ومناظرته مع الملائكة في ذلك حصل بعد سجدتهم. والله أعلم بذلك. ثم إن المسلمين أجمعوا على أن ذلك السجود لم يكن للعبادة لأنه تعالى لا يأمر بالكفر والعبادة لغيره كفر، فزعم بعض أن السجود كان لله تعالى وآدم كالقبلة. فقوله اسْجُدُوا لِآدَمَ مثل قولك «صل للقبلة» قال حسان بن ثابت: ما كنت أعرف أن الأمر منصرف ... عن هاشم ثم منها عن أبي حسن أليس أول من صلى لقبلتكم ... وأعرف الناس بالقرآن والسنن؟ وهو ضعيف لأن المقصود من هذه القصة شرح تعظيم آدم، وجعله مجرد القبلة لا يفيد كونه أعظم حالا من الساجد. وزعم آخرون أن المراد بالسجود الانقياد والخضوع كما هو مقتضى أصل اللغة مثل وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرحمن: 6] وزيف بأنه في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض، فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك، لأن الأصل عدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 التغيير. وأصح الأقوال أن السجود كان بمعنى وضع الجبهة ولكن لا عبادة بل تكرمة وتحية كالسلام منهم عليه، وقد كانت الأمم السالفة تفعل ذلك بدل التسليم. قال قتادة في قوله وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً [يوسف: 100] كان تحية الناس يومئذ سجود بعضهم لبعض، ويجوز أن تختلف الرسوم والعادات باختلاف الأزمنة والأوقات. واختلف في أن إبليس من الملائكة أم لا. فقال أكثر المتكلمين لا سيما المعتزلة: إنه لم يكن منهم. وقال كثير من الفقهاء: إنه كان منهم حجة الأولين أنه من الجن لقوله تعالى في الكهف إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الآية: 50] فلا يكون من الملائكة. وأيضا قال وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ: 40] ورد الأول بأن الجن قد يطلق على الملك لاستتاره عن العيون، وبأن كان يحتمل أن تكون بمعنى صار. والثاني بأنه لا يلزم من كون الجن في هذه الآية نوعا مغايرا للملائكة أن يكون في الآية الأولى أيضا مغايرا، لاحتمال كونه على مقتضى أصل اللغة وهو الاستتار. وقالوا: إن إبليس له ذرية لقوله تعالى أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي [الكهف: 50] والملائكة لا ذرية لها لأنها تحصل من الذكر والأنثى ولا إناث فيهم لقوله وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] منكرا عليهم وأيضا الملائكة معصومون لما سلف، وإبليس لم يكن كذلك. وأيضا إنه من النار خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ [ص: 76] وأنهم من نور لقوله صلى الله عليه وسلم «خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار» «1» رواه الزهري عن عروة عن عائشة. ومن المشهور الذي لا يدفع أن الملائكة روحانيون، فقيل سموا بذلك لأنهم من الريح أو من الروح. وأيضا الملائكة رسل جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] ورسل الله معصومون اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] حجة الآخرين أنه استثناه من الملائكة، وحمله على المتصل أولى، لأن تخصيص العمومات في كتاب الله أكثر من الاستثناء المنقطع. قيل: إنه جني واحد مغمور بين ظهراني ألوف من الملائكة فغلبوا عليه، وهذا لا ينافي كون الاستثناء متصلا. وأجيب بأن التغليب إنما يصار إليه إذا كان المغلوب ساقطا عن درجة الاعتبار، أما إذا كان معظم الحديث فيه فلا يصار إلى التغليب. وأيضا لو لم يكن من الملائكة لم يتناوله الخطاب ب اسْجُدُوا وحينئذ لم يستحق بترك السجود لوما وتعنيفا، ولا يمكن أن يقال إنه نشأ معهم والتصق بهم فتناوله الأمر لما بين في أصول الفقه أن خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدة المخالطة بين الصنفين،   (1) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث 60. أحمد في مسنده (6/ 153، 168) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ولا أن يقال إنه وإن لم يدخل في هذا الأمر إلا أنه تعالى أمره بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف: 12] لأن قوله أَبى وَاسْتَكْبَرَ عقيب قوله وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا مشعر بأن المخالفة بسبب هذا الأمر، هذا ما قيل عن الجانبين. ومما يناسب تفسير الآية الكلام في أن الأنبياء أفضل من الملائكة أم بالعكس، قال أكثر أهل السنة بالأول، ومالت المعتزلة والشيعة إلى الثاني، واختاره الباقلاني وأبو عبد الله الحليمي من فقهاء أهل السنة. المعتزلة احتجوا بأمور: أحدها وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ [الأنبياء: 19] وليس المراد عندية المكان والجهة بل عندية القرب والشرف. وعورض بما حكى عنه سبحانه «أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي» بل هذا أبلغ لأن كون الله تعالى عند العبد أدخل في التعظيم من كون العبد عنده. قالوا: الآية تدل على أنه تعالى يقول الملائكة مع شدة قوتهم واستيلائهم على أجرام السموات والأرض وأمنهم من الهرم والمرض والآفات، لا يتركون العبودية لحظة واحدة، فالبشر مع غاية ضعفهم وقصورهم أولى بذلك. وأجيب بأنه لا نزاع في ذلك، وإنما النزاع في الأفضلية بمعنى كثرة الثواب. الثانية: عباداتهم أشق من عبادات البشر فيكون ثوابهم أكثر لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة «أجرك على قدر نصيبك» ولقوله «أفضل العبادات أجزها» أي أشقها. وأما بيان أن عباداتهم أشق فمن وجهين: أحدهما أنهم سكان السموات وهي جنان ومنتزهات وهم مع ذلك لا يلتفتون إلى نعيمها ويقبلون على طاعاتهم خائفين وجلين وكأنه لا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوما واحدا فضلا عن تلك الأعصار المتطاولة إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6، 7] ويؤكده قصة آدم فإنه أطلق له في الجنة جميعها إلا شجرة واحدة ومع ذلك لم يملك نفسه، والثاني أن انتقال المكلف من نوع عبادة إلى نوع آخر كالانتقال من طعام إلى طعام، والإقامة على نوع واحد تورث السآمة وهذا شأن الملائكة وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصافات: 165، 166] ومنهم ركوع ومنهم سجود منذ خلقوا. وعورض الوجه الأول بأن أسباب البلاء مجتمعة على البشر، ثم إنهم راضون بقضاء الله مواظبون على تكاليفهم، ولذلك كان العبيد والخدم تطيب قلوبهم بالخدمة حال الرفاهية، ولا يصبر أحد منهم على مشقة الخدمة إلا من كان في نهاية الإخلاص. والثاني بأن العادة طبيعية خامسة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصوم صوم داود كان يصوم يوما ويفطر يوما» «1»   (1) رواه الترمذي في كتاب الصوم باب 57. النسائي في كتاب الصيام باب 76. أحمد في مسنده (2/ 164) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الثالثة: عباداتهم أدوم يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ وخير الأعمال أدومها، مع أن أعمارهم أكثر. وعلى الآية سؤال. روي عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال: قلت لكعب: أرأيت قول الله عز وجل لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 20] ثم قال جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] أولئك عليهم لعنة الله والملائكة، أفلا تكون الرسالة واللعن مانعين عن التسبيح؟ فأجاب بأن التنفس لا يمنعنا من الاشتغال بشيء آخر، فكذلك التسبيح لهم. وزيف بأن آلة النفس فينا غير آلة الكلام، وأما اللعن والتسبيح فهما من جنس الكلام، فاجتماعهما في آلة واحدة محال. وأجيب باحتمال أن يكون لهم ألسنة كثيرة يسبحون الله تعالى ببعضها ويلعنون أعداءه ببعض آخر، وبأن ثناء الله يستلزم تبعيد من اعتقد في الله ما لا ينبغي، أو المراد لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال: فلان يواظب على الجماعات. يعنون أنه عازم على أدائها في أوقاتها. ونوقضت الحجة بأن الطاعة القليلة من الإنسان قد تقع على وجه يستحق بها ثوابا من ثواب طاعاتهم. الرابعة: أنهم أسبق السابقين في كل العبادات وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة: 10، 11] «من سن حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها» «1» . الخامسة: الملائكة رسل إلى الأنبياء عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم: 5] نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193] والرسول أفضل من الأمة قياسا على الشاهد. ومنع بأن هذا إذا كان الرسول حاكما على المرسل إليهم ومتوليا لأمورهم كالأنبياء المبعوثين إلى أممهم، أما في مطلق الرسول فلم قلتم إنه كذلك كما لو أرسل الملك عبدا من عبيده إلى وزيره أو إلى ملك آخر. السادسة: أنهم أتقى من البشر لدوام خوفهم يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50] مع وجود شهوة الترفع والرياسة فيهم ولهذا قالوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وإن لم يكن لهم شهوة الأكل والوقاع، فوجب أن يكونوا أفضل إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] ورد بأن تقوى الإنسان أكمل فإن لهم مع شهوة الرياسة شهوة البطن والفرج أيضا. السابعة: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 172] خرج الثاني مخرج التأكيد للأول. ومثل هذا إنما يكون بذكر الأفضل بعد الفاضل.   (1) رواه مسلم في كتاب العلم حديث 15. النسائي في كتاب الزكاة باب 64. أحمد في مسنده (4/ 357، 359) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 كقولك: هذا العالم لا يستنكف عن خدمة الوزير ولا الملك. فيفيد أفضلية الملائكة المقربين في المعاني المصححة للعبودية من نهاية الخضوع والخشوع ما يتبعها مع شدة بطشهم وقوة حالهم. وعورض بأنه قد يقال هذا العالم لا يستنكف عن خدمة القاضي ولا السلطان، ولا يفيد إلا أن السلطان أكمل من القاضي في بعض الأمور كالقوة والقدرة، ولا يدل على كونه أكمل من القاضي في سائر الدرجات كالعلم والزهد. فلم قلتم: إنهم أفضل من البشر في كثرة الثواب؟ قلت: والحق أن جميع الدرجات مندرجة تحت العبودية كما أشرنا إليه فيما مر، فيفيد أفضلية الملائكة. لكن المقربين منهم فقط دون غيرهم ومفضولية المسيح فقط دون غيرهم كمحمد صلى الله عليه وسلم. الثامنة: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ [الأعراف: 20] فهذا وإن كان حكاية قول إبليس، إلا أن آدم وحواء لو لم يعتقدا أفضلية الملك لم يغترا بذلك واعتقادهما حجة. ورد بأن آدم لعله أخطأ في ذلك الاعتقاد، إما لأن الزلة جائزة على الأنبياء، أو لأنه ما كان نبيا في ذلك الوقت، وأيضا هب أنه حجة لكنه قبل الزلة لم يكن نبيا فلا يلزم من مفضوليته وقتئذ مفضوليته وقت نبوته، وإن سلم مفضوليته ونبوته وقتئذ فلا نسلم أن ذلك في باب الثواب بل في باب القدرة والقوة والحسن والجمال. ونحو ذلك فإنهم خلقوا من الأنوار وآدم خلق من التراب، فاغتر رغبة فيما لهم من هذه الأمور. وأيضا يحتمل أن يكون المراد إلا أن تنقلبا ملكين فيصح استدلالكم، وأن يكون المراد أن النهي مختص بالملائكة الخالدين دونكما كما يقول أحدنا لغيره: ما نهيت أنت عن كذا إلا أن تكون قلانا. ويكون المعنى أن المنهي عنه هو فلان دونك، فكان غرض إبليس إيهام أنهما لم ينهيا. وأيضا غاية ما في الباب أن الآية تدل على مفضولية آدم ولا يلزم منه مفضولية جميع الأنبياء كمحمد صلى الله عليه وسلم. التاسعة: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [هود: 31] أي لا أدعي القدرة على كل المقدورات والعلم بكل المعلومات، ولا أدعي قدرة مثل قدرة الملك ولا علما مثل علمهم، وذلك أنه لم يرد به نفي الصورة لأنه لا يفيد الغرض، وإنما نفي أن يكون له مثل ما لهم من الصفات الجسمية والقوى العظيمة. ورد بأنه لا يلزم من عدم الاستواء في كل الصفات حصول الاختلاف في جميعها. العاشرة: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: 31] ولا يخفى أن التشبيه في السيرة من غض البصر وقمع النفس عن المحرمات بدلالة وصفه بالكرم لا في الصورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ورد بأن قولها فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف: 32] كالتصريح بأن مراد النساء تعظيم حال يوسف في الحسن والجمال، فذلك يظهر عذرها في عشقها. ولئن سلمنا أن التشبيه في الأخلاق المرضية فذلك لا يوجب مفضوليته من جميع الجهات، على أن قول النساء لا يصلح لأن يكون حجة. الحادية عشرة: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70] وذلك أن المخلوقات إما غير المكلفين والإنسان أفضل منهم، وإما المكلفون وهم الملائكة والإنس والجن والشياطين. ولا ريب أن الإنس أفضل من الجن والشياطين، فلو كانوا أفضل من الملك أيضا لزم كون البشر أفضل من أكل المخلوقات، فينبغي أن يقال: وفضلناهم على جميع من خلقنا. ورد بأن كونه أفضل من كثير لا يدل على أنه ليس بأفضل من الباقي إلا بدليل الخطاب وهو غير حجة. وأيضا ثبت أن جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم، ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من المجموع الآخر أن يكون كل واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من أفراد المجموع الثاني. وأيضا الكلام في التفضيل الحاصل بسبب الكرامة المذكورة في أول الآية وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70] ولا يلزم من كون الملك أفضل من البشر في تلك الكرامات وهو حسن الصورة والطهارة واستخراج الأعمال العجيبة أن يكونوا أفضل منهم في الأشياء الموجبة للثواب. الثانية عشرة: الأنبياء ما استغفروا إلا بدأوا بأنفسهم قال نوح رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وقال إبراهيم رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء: 83] ثم قال وَاغْفِرْ لِأَبِي [الشعراء: 86] وقال لمحمد وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد: 19] والملائكة لم يستغفروا لأنفسهم ولكن طلبوا المغفرة للمؤمنين فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غافر: 7] ورد بأن هذا لا يدل إلا على صدور الزلة من البشر وعدم صدورها عنهم، وهذا لا يوجب أفضليتهم في القرب والثواب على الإطلاق ومن الناس من قال: استغفارهم للبشر كالعذر عما طعنوا فيهم بقولهم أَتَجْعَلُ فِيها [البقرة: 30] . الثالثة عشرة: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ [الانفطار: 10] ويدخل فيه الأنبياء وغيرهم، والحافظ للمكلف عن المعصية أفضل من المحفوظ. وأيضا جعل كتابتهم حجة للبشر وعليهم فيكونون أفضل. ورد بأن الحافظ والشاهد قد يكون أذود حالا من المحفوظ والمشهود. الرابعة عشرة: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النبأ: 38] والمقصود بيان عظمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الله وجلاله. ورد بأن هذا يفيد قوتهم وبطشهم فقط كما يقال: إن السلطان لما جلس وقف حول سريره ملوك الأطراف. وهذا لا يدل على أنهم أكرم عند السلطان من ولده. الخامسة عشرة: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة: 285] والتقديم في الذكر يدل على التقديم في الدرجة ولهذا لما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا قال عمر بن الخطاب: لو قدمت الإسلام لأجزتك. ولما كتبوا كتاب الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين، وقع التنازع في تقديم الاسم، وكذا في كتاب الصلح بين علي ومعاوية. ومنع من أن الواو لا تفيد الترتيب، وعورض بتقديم تبت على «الإخلاص» . السادسة عشرة: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] جعل صلوات الملائكة كالتشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وعورض بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الأحزاب: 56] ولا تشريف بل تتشرف الأمة بذلك. السابعة عشرة: إن جبرائيل أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى وصفه بست من صفات الكمال إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 19- 21 ] ثم وصف محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22] وشتان بين الوصفين. ورد بأنه وإن وصفه هاهنا بهذا القدر لاقتضاء المقام ذلك فقط، فقد وصفه في مواضع أخر بما يليق به يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 45، 46] . الثامنة عشرة: إن جبريل كان معلما للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء، لا في العلوم التي لا يتوصل إليها إلا بالعقل. كالعلم بذات الله تعالى، بل في العلم بكيفية مخلوقاته وما فيها من العجائب، والعلم بأحوال العرش والكرسي والجنة والنار وأطباق السموات وأصناف الموجودات وأحوال الأمم الخالية والقرون الماضية، والمعلم أفضل قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] ومنع من كون الملائكة أعلم بدليل قصة آدم، ولأن تعليم جبريل كان بالحقيقة تعليم الله تعالى ولم يكن جبريل إلا واسطة، ولئن سلم مزيد علمهم منع كثرة ثوابهم. التاسعة عشرة: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 29] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وهذه تدل على أنهم بلغوا في الترفع إلى حد لو خالفوا أمر الله لما خالفوه إلا في ادعاء الإلهية. ورد بأن مزيد قدرتهم لا يوجب مزيد ثوابهم. العشرون: قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الرب تعالى «إذ ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملائه» «1» وهذا يدل على أن الملأ الأعلى أشرف. ورد بعد قبول خبر الواحد أنه لا يلزم منه إلا أن الملأ الأعلى خير من ملأ عوام البشر، ولا يلزم من ذلك كونهم أفضل من الأنبياء. واعلم أن الفلاسفة اتفقوا على أن الأرواح السماوية المسماة بالملائكة عندهم أفضل من الأرواح الناطقة البشرية لوجوه: الأول: الملائكة ذواتها بسيطة مبرأة عن الكثرة، والبشر مركب من النفس والبدن، ولكل منهما قوى وأجزاء، والبسيط خير من المركب، لأن أسباب العدم للمركب أكثر منها للبسيط. وعورض بأن المستجمع للروحاني والجسماني ينبغي أن يكون أفضل مما له طرف الروحاني فقط، ولهذا جعل أبو البشر مسجودا للملائكة، وبأن الملائكة ليس لها إلا الاستغراق في مقاماتها النورية. والنفوس البشرية قواها وافية بكلا الطرفين، ومحيطة بضبط أحوال العالمين فتكون أفضل. الثاني: الجواهر الروحانية بريئة عن الشهوة والغضب المستلزمين للفساد وسفك الدماء بخلاف البشر. ورد بأن الخدمة مع كثرة العلائق أدل على الإخلاص. وأيضا من البين أن درجتهم حين قالوا لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا أعلى منها حين قالوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] وما ذاك إلا بسبب الانكسار الحاصل من الزلة، وهذا في البشر أكثر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه «أنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين» . الثالث: أنها بريئة من طبيعة القوة فإن كل ما كان ممكنا لها بحسب أنواعها المنحصرة في أشخاصها فقد خرج إلى الفعل والأنبياء ليسوا كذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة» «2» ولا خفاء أن ما بالفعل التام أشرف مما بالقوة. ورد بأن بعض   (1) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث 2، 18، 19. البخاري في كتاب التوحيد باب 15. الترمذي في كتاب الدعوات باب 131. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 53، 58. أحمد في مسنده (2/ 251) . (2) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث 41. أبو داود في كتاب الوتر باب 26. الترمذي في كتاب تفسير سورة 47 باب 1. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 57. الدارمي في كتاب الرقاق باب 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الأمور فيها لعلها بالقوة، ولهذا قيل: إن تحريكاتها للأفلاك لأجل استخراج التعلقات من القوة إلى الفعل كالتحريكات العارضة لأرواحنا الحاملة لقوى الفكر والتخيل، إلا أن هذا المنع لا يجري في الملائكة المقربين المسماة عندهم بالعقول المجردة، وإنما يجري في النفوس الفلكية. الرابع: الروحانيات أبدية الوجود مبرأة عن التغير والفناء، والنفوس الناطقة البشرية ليست كذلك. ورد بأنه لا قديم في الوجود إلا الله. ولئن سلم أنها ممكنة الوجود لذاتها فهي واجبة الوجود بمباديها. وعورض بما عليه كثير من المحققين أن النفوس البشرية أيضا أزلية بمباديها وكانت كالظلال تحت العرش يسبحون بحمد ربهم، إلا أن المبدئ الأول أمرها بالنزول إلى عالم الأجساد وشبكات المواد، فلما تعلقت بهذه الأجسام عشقتها واستحكم إلفها بها، فبعث من تلك الظلال أشرفها وأكملها لتخليص تلك الأرواح عن تلك الشبكات، وهذا هو المراد من باب الحمامة المطوقة المذكورة في كتاب كليلة ودمنة. الخامس: الروحانيات نورانية علوية لطيفة، والجسمانيات ظلمانية سفلية كثيفة. فأين أحدهما من الآخر؟ ورد بأن الشرف عندنا ليس بالمادة وإنما هو بالانقياد لرب العالمين. السادس: الأرواح السماوية تفضل الأرضية بقوى العلم والعمل، أما الأول فبالاتفاق على إحاطة الأرواح السماوية بالمغيبات، ولأن علومهم فعلية فطرية كلية دائمة تامة، وعلوم البشر بالضد من ذلك. وأما العمل فلقوله يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 20] واعترض بأن المواظب على تناول الأغذية اللطيفة لا يلتذ بها كما يلتذ المبتلى بالجوع. فلا تكون لذة الملائكة من العلم والعمل كلذة البشر لعروض الفترات لهم في أكثر الأوقات بسبب العلائق الجسمانية والحجب الظلمانية، فهذه المزية من اللذة مما يختص به البشر، ولعل هذا هو المراد من قوله إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ [الأحزاب: 72] الآية. ولذلك قالت الأطباء: إن الحرارة في حمى الدق أشد منها في حمى الغب. لكن الحرارة في الدق لما دامت واستقرت بطل الشعور بها، فهذه الحالة ليست للملائكة لأجل الاستمرار ولا لغير الإنسان لعدم الاستعداد فكان الإنسان لها بالمرصاد. السابع: الروحانيات لها قوة على تقليب الأجسام وتصريف الأجرام، وقواهم ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب. وإنك ترى الخامة اللطيفة تشق الصخرة الصماء، وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من الجواهر العلوية، فما ظنك بتلك الجواهر أنفسها والأرواح السفلية ليست كذلك؟ وما يحكى من قوة الشياطين على الأمور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الصعاب ممنوع، ولئن سلم فالأرواح العلوية أقدر على ذلك مع أنهم يصرفون قواها إلى منازل العالم السفلي لا فيما هو شر لهم. واعترض بأنه لا مانع من أن تتفق نفس ناطقة بشرية كاملة مستعلية على الأجرام العنصرية بالتقليب والتصريف. الثامن: الملائكة لهم اختيارات فائضة من أنوار جلال الله متوجهة إلى الخيرات، واختيارات البشر مترددة بين جهتي العلو والسفل والخير والشر، وإنما يتوجه إلى الخير بإعانة الملك على ما ورد في الأخبار من أن لكل إنسان ملكا يسدده ويهديه، ويحتمل أن يقال فتكون إذن أعمالهم أشق فيكون ثوابهم أكثر. التاسع: الأفلاك كالأبدان، والكواكب كالقلوب، والملائكة كالأرواح. فنسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأبدان إلى الأبدان. وكما أن اختلافات أحوال الأفلاك مباد لحصول الاختلافات في هذا العالم، فكل أرواح العالم العلوي يجب أن تكون مستولية على أرواح العالم السفلي، بل تكون عللا ومبادي لها، فهذه هي الآبار وهناك المنابع والمعادن، فكيف يليق بالعقل ادعاء المساواة فضلا عن الزيادة. وأجيب بأنه لا مؤثر عندنا إلا الله تعالى. العاشر: الروحانيات الفلكية مبادئ لروحانيات هذا العالم ومعادلها، منها نزلت فتوسخت بأوضار الجسمانيات، ثم تطهرت بالأخلاق الزكية وصعدت إلى عالمها، ومصدر الشيء ومصعده أشرف، منه المبدأ وإليه المنتهى. واعترض بأن هذا مبني على عدم حشر الأجساد ودون ذاك خرط القتاد. الحادي عشر: أليس أن الأنبياء لا ينطقون إلا عن الوحي؟ أليس أن الملائكة يعينونهم في المضايق ويهدونهم إلى المصالح كما في قصة لوط وكيوم بدر وحنين، وكما في قصة نوح في نجر السفينة؟ فمن أين لكم تفضيل الأنبياء مع افتقارهم إلى الملائكة في كل الأمور؟ وأجيب بأن أول الفكر آخر العمل ولا يلزم من كون الشيء واسطة أفضليته. الثاني عشر: القسمة العقلية بأن الأحياء إما خيرة محضة وهم الملائكة، أو شريرة محضة وهم الشياطين، أو خيرة من وجه شريرة من وجه آخر وهم البشر، تحكم بأفضلية الملك. وكذا التقسيم بالناطق المائت وهو الإنسان، والناطق غير المائت وهو الملك، والمائت غير الناطق وهي البهائم، يرشد إلى أن الإنسان متوسط الرتبة بين الكمال والنقصان. فالقول: بأنه أفضل قلب للقسمة العقلية ونزاع في ترتيب الوجود. وأجيب بما مر غير مرة من أن النزاع في كثرة الثواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 حجة القائلين بفضل الأنبياء على الملائكة الأول: أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم وثبت أن آدم لم يكن كالقبلة، وأمر الأشرف بنهاية التواضع للأدون مستقبح، والجواب أن القبح العقلي غير ثابت. الثاني: جعله خليفة له خلافة الولاية كما مر، وخلق الدنيا متعة لبقائه، والآخرة مملكة لجزائه، ولعن إبليس لسبب التكبر عليه، وجعل الملائكة حفظة أولاده ومنزلين لأرزاقهم ومستغفرين لزلاتهم، ومع جميع هذه المناصب يقول «ولدينا مزيد» فإذن لا نهاية لهذا الشرف والكمال. الثالث: أنه كان أعلم لقوله أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ والأعلم أفضل. الرابع: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آل عمران: 33] والعالم كل ما سوى الله تعالى، فيلزم اصطفاؤهم على الملائكة. ولا يشكل هذا بقوله يا بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: 47] لأن تلك الآية دخلها التخصيص لما يعلم أنهم غير مفضلين على محمد صلى الله عليه وسلم، وهاهنا لا دليل فوجب إجراؤه على الظاهر من العموم. الخامس: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] والملائكة من العالمين والتقرير ظاهر. السادس: عبادة البشر أشق لأن الآدمي له شهوة تدعوه إلى المعصية بخلاف الملائكة، ولأن الآدمي مأمور بالاستنباط والقياس فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2] ولا يخفى ما فيه من المشقة، والملائكة لا يعلمون إلا بالنص لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا ولما يعرض للآدمي من الشبهات ككون الأفلاك والأنجم أسبابا للحوادث اليومية فيحتاجون إلى دفعها، والملائكة حيث إنهم يشاهدون عالم الملكوت آمنون من ذلك، ولأن الشيطان مسلط على الآدمي دون الملك، وإذا كانت طاعتهم أشق فيكون ثوابهم أكثر. السابع: خلق للملائكة عقولا بلا شهوة، وللبهائم شهوة بلا عقل، وجمع الأمرين للآدمي. ثم إذا غلب هواه عقله صار أدون من البهيمة أولئك كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان: 44] . فإذا غلب عقله هواه وجب أن يصير أشرف من الملك اعتبارا لأحد الطرفين بالآخر. الثامن: الملائكة حفظة بني آدم والمحفوظ أعز من الحافظ. التاسع: روي أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى أركبه على البراق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ليلة المعراج، ولما وصل محمد صلى الله عليه وسلم إلى بعض المقامات تخلف عنه جبريل وقال: لو دنوت أنملة لاحترقت. العاشر: قوله صلى الله عليه وسلم «إن لي وزيرين في السماء ووزيرين في الأرض. أما اللذان في السماء فجبريل وميكائيل، وأما اللذان في الأرض فأبو بكر وعمر» «1» فدل على أن محمدا صلى الله عليه وسلم كالملك وجبريل وميكائيل وزيران، فهذا تمام الكلام في حجج الفريقين، وعليك الاختيار بعقلك دون هواك. ثم إنه تعالى لما استثنى إبليس من الساجدين وكان من الجائز أن يظن أن به عذرا بيّن أنه غير ذي عذر بقوله أَبى لأن الإباء هو الامتناع مع الاختيار ولهذا فقد العاطف نحو قولك «أبشر بما يسرك عيني تختلج» لا تقول «فعيني» لأنها بيان، ثم إنه جاز أن لا يكون الإباء مع الكبر فعطف عليه وَاسْتَكْبَرَ ليعرف أن الإباء منضم إلى الاستكبار، وكان من الجائز أن يظن أن كبره لم يوجب الكفر فأزيل الظن بقوله وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ. وللعقلاء هاهنا قولان: أحدهما أن إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقا كافرا، أما عند من يمنع الإحباط فلأن ختمه لما كان على الكفر علم أنه ما كان مؤمنا قط. وأما عند غيرهم فلما حكاه الشهرستاني في أول الملل والنحل عن شارح الأناجيل الأربعة على شبه مناظرة بين إبليس والملائكة بعد الأمر بالسجود قال إبليس لعنه الله: إني سلمت أن الباري تعالى إلهي وإله الخلق عالم قادر حكيم، إلا أن لي على مساق حكمه أسئلة الأول: إنه قد علم قبل خلقي أيّ شيء يصدر عني فلم خلقني؟ وما الحكمة في خلقه إياي؟ الثاني: إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته، فلم كلفني بمعرفته وطاعته؟ وما الحكمة في التكليف مع أنه لا ينتفع بطاعة ولا يتضرر بمعصية، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟ الثالث: إذ خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فأطعت وعرفت، فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص بعد أن لا يزيد ذلك في معرفتي وطاعتي؟ والرابع: إذ خلقني وكلفني بهذا التكليف على الخصوص فإذا لم أسجد، فلم لعنني وأخرجني من الجنة وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له في ذلك ولي فيه أعظم الضرر؟ والخامس: ثم لما فعل ذلك فلم مكنني من الدخول إلى الجنة ومن وسوسة آدم بعد أن لو منعني من دخول الجنة استراح مني آدم وبقي خالدا في الجنة؟ والسادس: إذ خلقني وكلفني عموما وخصوصا ولعنني ثم طرقني إلى الجنة، وكانت الخصومة بيني وبين آدم، فلم سلطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا   (1) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 يرونني ويؤثر فيهم وسوستي ولا يؤثر فيّ حولهم وقوتهم؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة وأبقاهم على ذلك فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين كان أحرى بالحكمة؟ والسابع: سلمت هذا كله، فلم إن استمهلته أمهلني، وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال استراح الخلق مني وما بقي شر في العالم؟ ليس بقاء العالم على نظام الخير خيرا من امتزاجه بالشر؟ فقال شارح الإنجيل: فأوحى الله تعالى إلى الملائكة قولوا له: أما تسليمك الأول أني إلهك وإله الخلق فغير صادق ولا مخلص، إذ لو صدقت أني إله العالمين ما احتكمت علي وأنا الله الذي لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل والخلق مسؤولون هذا مذكور في التوراة ومسطور في الإنجيل، وهذه الشبهات بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذور وليس يعدوها عقائد فرق الزيغ والكفر وإن اختلفت العبارات وتباينت الطرق، ويرجع جملتها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالخلق، وإلى الجنوح إلى الهوى في مقابلة النص، ولا جواب عنها بالتحقيق إلا الذي ذكره الله تعالى. فاللعين لما أن حكم العقل على من لا يحتكم عليه العقل، لزمه أن يجري حكم الخالق في الخلق، أو حكم الخلق في الخالق. فالأول غلو كالحلولية وكالغلاة من الشيعة، والثاني تقصير كالمشبهة وصفوا الخالق بصفات الأجسام، وكالخوارج نفوا تحكيم الرجال وقالوا: لا حكم إلا لله كقوله لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ [الحجر: 33] لا أسجد إلا لك. فالشبهات كلها ناشئة من اللعين، وتلك في الأول مصدرها، وهذه في الأخير مظهرها، ولهذا قال تعالى وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة: 208] وشبه النبي صلى الله عليه وسلم كل فرقة ضالة من هذه الأمة بأمة ضالة من الأمم السالفة فقال «القدرية مجوس هذه الأمة والمشبهة يهود هذه الأمة، والرافضة- يعني الغلاة- نصارها» وقال صلى الله عليه وسلم: «لتسلكن سبيل الأمم قبلكم حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» «1» القول الثاني أن إبليس كان مؤمنا ثم كفر بعد ذلك ثم اختلفوا. فمن قائل معناه «وكان من الكافرين في علم الله» أي كان الله عالما في الأزل بأنه سيكفر. فصيغة «كان» متعلقة بالعلم لا بالمعلوم. ومن قائل إن «كان» بمعنى «صار» . وقيل: لما كفر في وقت معين بعد أن كان مؤمنا فبعد لحظة يصدق عليه أنه كان من الكافرين. وإنما حكم بكفره على هذا القول الثاني لاستكباره واعتقاده كونه محقا في ذلك التمرد بدليل قوله أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [ص: 76] وإلا فمجرد المعصية لا يوجب الكفر عندنا   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 50. مسلم في كتاب العلم حديث 6. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 17. أحمد في مسنده (2/ 327، 450) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وإن كانت كبيرة، وكذا عند المعتزلة لأنه وإن خرج عن الإيمان لم يدخل في الكفر. نعم عند الخوارج الكبيرة موجبة للكفر على الإطلاق. ثم إن قوله مِنَ الْكافِرِينَ هل يدل على وجود جمع من الكفرة قبله حتى يكون هو واحدا منهم؟ قال قوم: إنه يدل على ذلك لأن كلمة «من» للتبعيض. وإنما يذكر البعض الموجود بالإضافة إلى كل موجود لا إلى كل من سيوجد. ومما يؤكد ذلك ما روي عن أبي هريرة أنه قال: إنه تعالى خلق خلقا من الملائكة ثم قال لهم إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص: 71] قالوا: لا تفعل ذلك. فبعث الله نارا فأحرقتهم. وكان إبليس من أولئك. وقال آخرون: معنى الآية إنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك، لأن الكفر كان ظاهرا عند نزول الآية، أو لأن الأفراد الذهنية تكفي في صحة الجمع. فإن الحيوان المخلوق أوّلا يصح أن يقال إنه فرد من أفراد هذا الحيوان أي من أفراد هذه الماهية، وعلى هذا يكون إبليس أول من سن الكفر وهو قول الأكثرين. واعلم أن الملائكة المأمورين بالسجود هم كل الملائكة عند أكثر الأئمة، لأن الجمع المعرف للعموم ويؤكده قوله فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [ص: 73] . وأيضا استثناء الشخص الواحد يدل على أن ما عداه داخل في ذلك الحكم. ومن الناس من أنكر ذلك وقال: هم ملائكة الأرض استعظموا أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك، وأما الحكماء فإنهم يحملون الملائكة على الجواهر الروحانية، واستحالوا انقياد الأرواح السماوية للنفوس الناطقة. وقالوا: المأمورون بالسجود القوى الجسمانية البشرية المطيعة للنفس الناطقة. قوله تعالى وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ الآية الأصح أن هذا الأمر يشتمل على ما هو إباحة لأنه كان مأذونا في الانتفاع بجميع الجنة، وعلى ما هو تكليف وتعبد، فإن المنهي عنه كان حاضرا. روي عن قتادة أنه قال: إن الله ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابتلى الملائكة بالسجود، وذلك لأنه كلفه أن يكون في الجنة يأكل منها حيث يشاء، ونهاه عن شجرة واحدة أن يأكل منها، فما زال به البلاء حتى وقع فيما نهي عنه. فإسكانه موضعا يحصل فيه ما يكون مشتهى له مع منعه عن تناوله من أشد التكاليف. وإنما لم يقل وهبت منك الجنة لأنه خلق لخلافة الأرض وكان إسكان الجنة كالتقدمة لذلك. فلو قال رجل لغيره أسكنتك داري. لا تصير الدار ملكا له. وأجمعوا على أن المراد بالزوجة حواء وإن لم يتقدم ذكرها في هذه السورة. ففي سائر القرآن ما يدل على ذلك وإنها مخلوقة منه خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء: 1] وقال صلى الله عليه وسلم «إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 طلاقها» «1» وذكر السدي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة حل فيها وحده وما كان معه من يستأنس به، فألقى الله تعالى عليه النوم، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ووضع مكانه لحما وخلق حواء منه، فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة قاعدة. فسألها من أنت؟ قالت امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ. فقالت له الملائكة امتحانا لعلمه: ما اسمها؟ فقال: حواء. قالوا: ولم؟ قال: لأنها خلقت من شيء حي. قيل: فلما أراد آدم مد يده إليها منعته الملائكة وقالوا: أمهرها. قال: فما صداقها؟ قالوا: أن تصلي على محمد وآله. قال: ومن محمد؟ قالوا: من أولادك خاتم النبيين ولولاه لما خلقت. وعن ابن عباس قال: بعث الله جندا من الملائكة فحملوا آدم وحواء عليهما السلام على سرير من ذهب كما يحمل الملوك ولباسهما النور، على كل واحد منهما إكليل من ذهب مكلل بالياقوت واللؤلؤ، وعلى آدم منطقة مكللة بالدرّ والياقوت حتى أدخل الجنة. فهذا الخبر يدل على أن حواء خلقت قبل إدخاله الجنة، والخبر الأول دل على أنها خلقت في الجنة والله أعلم بحقيقة الحال. ثم هذه الجنة كانت في الأرض أو في السماء؟ وعلى تقدير كونها في السماء هي دار الثواب أم جنة أخرى؟ فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصفهاني: هي في الأرض وحملا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى اهْبِطُوا مِصْراً [البقرة: 61] قالا: لأن دار الثواب للخلد ولو كان في جنة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه: 12] ولأن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 48] ولأن إبليس بعد أن غضب الله عليه كيف يقدر أن يصل إلى جنة الخلد، ولأن دار الجزاء يدخل المكلف فيها بعد العمل ولا عمل لآدم وقتئذ، ولأنه تعالى خلقه في الأرض ولم يذكر نقله إلى السماء ولو كان قد نقله لكان ذكره أولى، لأن ذلك النقل من أعظم النعم. وقال الجبائي: هي في السماء السابعة، اهبط منها إلى السماء الدنيا، ثم منها إلى الأرض. وقال الجمهور: هي دار الثواب والدليل عليه أن اللام في الجنة ليست للعموم، لأن السكنى في جميع الجنان محال فهي للعهد، ولا معهود بين المسلمين إلا دار الثواب، فوجب صرف اللفظ إليها. واسكن أمر من السكنى، والسكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار. و «أنت» تأكيد للمستكنّ في «اسكن» ليصح العطف عليه. ورَغَداً وصف للمصدر أي أكلا رغدا واسعا رافها وحَيْثُ   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 1. مسلم في كتاب الرضاع حديث 61، 62. الدارمي في كتاب النكاح باب 35. أحمد في مسنده (5/ 8) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 للمكان المبهم أي أيّ مكان من الجنة شئتما، أو أيّ زمان شئتما، فإن «حيث» قد يعبر به عن زمان مجهول. وإنما قيل هاهنا وَكُلا بالواو وفي الأعراف فَكُلا لأن كلّ فعل عطف عليه شيء وكان بينهما رابطة السببية يعطف الثاني على الأول بالفاء وإلا فبالواو كقوله تعالى في البقرة وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا [البقرة: 58] بالفاء، لأن الدخول سبب الوصول إلى الأكل، وكأنه قال: وإن دخلتموها أكلتم. وفي الأعراف وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا [الأعراف: 161] بالواو لأن السكنى وهي طول اللبث لا يختص وجوده بوجود الأكل، لأن المجتاز قد يأكل أيضا، فلهذا لم يعطف هاهنا بالفاء إذ المراد اسكن من السكنى، وأما في الأعراف فالمراد اسكن بمعنى الدخول ثم السكون فصح العطف بالفاء. والنهي في لا تَقْرَبا للتنزيه أو للتحريم، الأصح الأول لأن الصيغة وردت في كليهما والأصل عدم الاشتراك فيجعل حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو ترجيح لجانب الترك على الفعل من غير دلالة على المنع من الفعل، أو الجواز. لكن الجواز ثابت بحكم الأصل، فإن الأصل في الأشياء الإباحة، فإذا ضممنا هذا الأصل إلى مدلول اللفظ صار المجموع دليلا على التنزيه وهذا أولى، ليرجع حاصل معصيته إلى ترك الأولى فيكون أقرب إلى عصمة الأنبياء. وقيل: نهي تحريم قياسا على قوله وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة: 222] وقوله وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ [الأنعام: 152] ولقوله فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ ولأنه استحق الإخراج من الجنة والرجوع إلى التوبة. والجواب أن التحريم في وَلا تَقْرَبُوهُنَّ [البقرة: 2] بدليل منفصل، والظلم قد يراد به ترك الأولى، والإخراج لم يكن بهذا السبب بل لما سيأتي إن شاء الله تعالى. ثم النهي عن القرب يفيد النهي عن الأكل بطريق الكناية، فإن القرب إليها من أسباب الأكل منها، ومما يدل على النهي عن الأكل صريحا قوله فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما [الأعراف: 22] . وروي عن ابن عباس أن الشجرة هي البر والسنبلة، وفي رواية عنه وعن ابن مسعود أنها الكرم، وعن مجاهد وقتادة أنها التين، وعن الربيع بن أنس كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث. قال المبرد: وأحسب أن كل ما له أغصان وعيدان فالعرب تسميه شجرا، وقد لا يختص بما له ساق قال تعالى وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات: 146] وأصل هذا أنه اسم لكل ما شجر أي أخذ يمنة ويسرة والتشاجر الاختلاف. واعلم أنه ليس في الظاهر ما يدل على التعيين، ولا حاجة أيضا إلى بيانه. فليس المقصود تعريف الشجرة، وما لم يكن مقصودا فذكره لا يجب على الحكيم بل يكون عبثا، كما لو أراد أحدنا أن يقيم عذره في التخلف فقال: اشتغلت بضرب غلماني لإساءتهم الأدب. كان هذا القدر أحسن من أن يذكر عين الغلام واسمه وصفاته، فلا يظنن أحد أن هاهنا تقصيرا في البيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فَتَكُونا جزم عطفا على تَقْرَبا ونصب جوابا للنهي. مِنَ الظَّالِمِينَ من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله. قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ الآية. تحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنهما ولفظة عن في هذه الآية كهي في قوله وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف: 482] فالضمير للشجرة. وقيل: أذهبهما وأبعدهما كما تقول: زل عن مرتبته وزلت قدمه. فالضمير للجنة، ومن قرأ أزالهما فهو من الزوال عن المكارم مما كانا فيه أي من النعيم والكرامة، أو من المكان الذي هو الجنة إن كان الضمير في عَنْها الشجرة. واعلم أن الناس اختلفوا في عصمة الأنبياء عليهم السلام، والنزاع إما في باب الاعتقاد، أو في باب التبليغ، أو في باب الأحكام والفتيا، أو في أفعالهم وسيرتهم. أما اعتقادهم الكفر والضلال فغير جائز عند أكثر الأئمة. وقالت الفضيلة: إنه قد وقع منهم ذنوب والذنب عندهم كفر وشرك، فلا جرم قالوا بوقوع الكفر منهم. وأجازت الإمامية عليهم إظهار الكفر على سبيل التقية، وأما ما يتعلق بالتبليغ فاجتمعت الأمة على عصمتهم عن الكذب والتحريف في ذلك لا عمدا ولا سهوا وإلا ارتفع الوثوق. ومنهم من جوز ذلك سهوا لأن الاحتراز غير ممكن، وأما المتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز الخطأ فيه عمدا، وأما السهو فجوزه بعضهم وأباه آخرون. وأما المتعلق بأفعالهم فالحشوية جوّزوا الكبائر عنهم عمدا، وأكثر المعتزلة جوّزوا الصغائر عنهم عمدا إلا ما ينفر كالكذب والتطفيف، والجبائي لا يجوّز صغيرة ولا كبيرة على جهة العمد بل على التأويل. وقيل: لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ، ولكنهم يؤاخذون به وإن كان ذلك موضوعا عن أمتهم، لأن معرفتهم أقوى وهم على التحفظ أقدر. والشيعة لم يجوّزوا صغيرة ولا كبيرة منهم لا عمدا ولا سهوا ولا على سبيل التأويل والخطأ. وفي وقت عصمتهم ثلاثة أقوال: فمذهب الشيعة أنهم معصومون من وقت مولدهم، والمعتزلة من وقت بلوغهم ولم يجوزوا الكفر والكبيرة منهم قبل النبوة، وبعضهم وأكثر أصحابنا على تجويز ذلك قبل النبوة، والمختار أنهم لم يصدر عنهم الذنب حال النبوة لا الكبيرة ولا الصغيرة لوجوه: الأول: لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة مصداقه قوله عز من قائل يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] وصغائر الرجل الكبير كبائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ولا يجوز أن يكون النبي أقل حالا من الأمة بالإجماع. والثاني: وبتقدير إقدامه على الفسق لا يكون مقبول الشهادة لقوله إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] لكنه شاهد عدل من الله بأنه شرع الدين وكذا يوم القيامة وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] . الثالث: وبتقدير إقدامه على الكبيرة. يجب زجره وإيذاؤه، لكنه محرّم إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. [الأحزاب: 57] . الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم لو أتى بمعصية لوجب علينا الاقتداء به لقوله فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] والجمع بين الوجوب والحرمة محال. الخامس: نعلم بالبديهة أنه قبيح لا شيء أقبح من نبي رفع الله درجته وجعله خليفة في عباده وبلاده، ثم إنه يقدم على ما نهاه عنه ترجيحا لهواه حتى يستحق اللعن والعذاب. السادس: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 44] يكون حينئذ منزلا في شأنه، وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ [هود: 88] . السابع: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [الأنبياء: 90] واللفظ للعموم فيشمل فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي. الثامن: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [ص: 47] اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75] والوصف بالاصطفاء ينافي الذنب. التاسع: أنه تعالى حكى عن إبليس لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83] والأنبياء من المخلصين لقوله تعالى في حق يوسف إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24] وفي حق موسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً [مريم: 51] فكذا غيرهما. العاشر: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ: 20] ولا يخفى وجوب كون الأنبياء منهم وإلا كان غير النبي أفضل من النبي. الحادي عشر: الخلق قسمان: حزب الله أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22] وحزب الشيطان أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ [المجادلة: 19] والعصاة حزب الشيطان، فلا يجوز أن يكون النبي عاصيا. الثاني عشر: النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملك كما مر والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، فالنبي أولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الثالث عشر: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: 124] والإمام من يؤتم به والمذنب لا يجوز الاقتداء به في ذنبه. الرابع عشر: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] فإن كان عهد النبوة ثبت المطلوب، وإن كان عهد الإمامة فالنبي أولى به، روي أن خزيمة بن ثابت شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق دعواه فقال صلى الله عليه وسلم: كيف شهدت لي؟ فقال: يا رسول الله إني أصدقك على الوحي النازل عليك من فوق سبع سموات، أفلا أصدقك في هذا القدر؟ فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وسماه بذي الشهادتين، ولو كانت المعصية جائزة على الأنبياء لما جازت تلك الشهادة. المخالف تمسك في باب الاعتقاد بقوله هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إلى قوله جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ [الأعراف: 190] وهذا يقتضي صدور الشرك عنهما. والجواب ما سيجيء في الأعراف إن شاء الله تعالى، من أن الخطاب لقريش والمعنى: خلقكم من نفس قضى وجعل من جنسها زوجة عربية ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي. قالوا: إن إبراهيم لم يكن عالما بالله ولا باليوم الآخر لقوله هذا رَبِّي [الأنعام: 77] وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] والجواب: هذا ربي استفهام منه بطريق الإنكار وقوله لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أراد به أن يؤكد علم اليقين بعين اليقين فليس الخبر كالمعاينة. قالوا فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ [يونس: 94] فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [البقرة: 147] يدل على أنه كان شاكا في الوحي قلنا: الخطاب له والمراد الأمة مثل يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1] . قالوا في باب التبليغ سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى: 6، 7] هذا الاستثناء يدل على النسيان. والجواب عنه أن هذا النسيان نوع من النسخ كما يجيء في تفسير قوله تعالى ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها [البقرة: 106] . قالوا وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] والجواب سوف يجيء في سورة الحج إن شاء الله تعالى: قالوا: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ إلى قوله لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ [الجن: 26- 28] ولولا الخوف من وقوع التخبيط في الوحي لم يستظهر بالرصد، قلنا هذا عليكم لا لكم لدلالته على كونهم محفوظين عن التخبط. قالوا في باب الفتيا وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء: 78] وما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى [الأنفال: 67] عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] قلنا: الجميع محمول على ترك الأولى، وسوف يجيء قصة كل في موضعها على أنا نقول شعرا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 يا سائلي عن رسول الله كيف سها ... والسهو من كل قلب غافل لاهي قد غاب عن كل شيء سره فسها ... عما سوى الله فالتعظيم لله. فشغل الأدبي عن الأرفع هو المذموم، وأما الشغل بالأرفع عن الأدنى فمحمود. قالوا في الأفعال وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] والعصيان يوجب الوعيد وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الجن: 23] والغي ضد الرشد قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256] ، ثم إنه تاب والتوبة دليل الذنب، وإنه ظالم لقوله فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ والظالم ملعون أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18] وأنه أخرج من الجنة، وكل هذه دليل ارتكاب الكبيرة. والجواب، المنع من أن هذه الأمور كانت بعد النبوة. ثم لنفرض أنه صدر ذلك الفعل عن آدم بعد النبوة، فإقدامه عليه إما أن يكون في حال كونه ناسيا، أو في حال كونه ذاكرا، الذاهبون إلى الأول وهم طائفة من المتكلمين احتجوا بقوله فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] ومثلوه بالصائم يغفل عن صومه فيأكل في أثناء ذلك السهو عن قصد. قيل عليه إن قوله ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ [الأعراف: 20] وقوله وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 21] يدل على أنه ما نسي وروي عن ابن عباس أنهما لما أكلا منها وبدت لهما سوآتهما، خرج آدم فتعلقت به شجرة من شجر الجنة فحبسته فناداه الله تعالى: أفرارا مني؟ فقال: بل حياء منك. فقال له: أما كان فيما منحتك من الجنة مندوحة مما حرمت عليك؟ قال: بلى يا رب، ولكن وعزتك ما كنت أرى أحدا يحلف بك كاذبا، فقال: وعزتي لأهبطنك منها ثم لا تنال العيش إلا نكدا. وأيضا لو كان ناسيا لما عوتب عليه لأنه قادر على تركه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، رفع القلم عن ثلاث. وأجيب بالمنع من أن إقدامه على ذلك الفعل إنما وقع عقيب قول إبليس، لأنه كان عالما بتمرد إبليس عن سجوده وكونه عدوا له ولزوجه، ولأنهما لو صدقاه لكانت المعصية في تصديقه أعظم من أكل الشجرة، لأنه ألقى إليهما سوء الظن بالله وأنه ناصح والرب غاش. وما روي عن ابن عباس فهو من باب الآحاد ولا يلزم من رفع النسيان عن هذه الأمة رفعه عن غيرهم، بل لا يلزم من رفعه عن الأمة رفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» «1» «إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم» «2» وقيل: إن حواء   (1) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب 57. البخاري في كتاب المرضى باب 3. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 23. الدارمي في كتاب الرقاق باب 67. أحمد في مسنده (1/ 172) . (2) رواه البخاري في كتاب المرضى باب 3، 13، 16. مسلم في كتاب البر حديث 45. الدارمي في كتاب الرقاق باب 57. أحمد في مسنده (1/ 381، 441) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 سقته الخمر فسكر ثم أقدم على ذلك الفعل، وهذا إنما يصح إذا حملت الشجرة على غير الكرمة حتى يكون مأذونا في تناول غيرها، إلا أنه يرد عليه أن خمر الجنة لا تسكر لا فِيها غَوْلٌ [الصافات: 47] . الذاهبون إلى أنه فعله عامدا أربع فرق: منهم من قال: النهي نهي تنزيه لا تحريم وقد سبق. ومنهم من قال: كان عمدا من آدم وكان كبيرة مع أن آدم في ذلك الوقت كان نبيا، وقد عرفت فساده. ومنهم من قال: فعله عمدا لكن كان معه من أعمال القلب من الإخلاص والوجل والإشفاق ما صيره صغيرة، وزيف بأن المقدم على ترك الواجب أو فعل المنهي عمدا لا يعذر بدعوى الخوف، فلا يصح وصف الأنبياء بذلك. ومنهم- وهو اختيار أكثر المعتزلة- من قال: إنه أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه، وذلك لا يقتضي كون الذنب كبيرة، بيان الاجتهاد أنه لما قيل له وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فلفظ هذِهِ قد يشار بها إلى الشخص، وقد يشار بها إلى النوع كما روي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا وذهبا بيده وقال «هذان حرامان على ذكور أمتي» «1» . وتوضأ ثم قال «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» وأراد نوع الحرير والذهب، ونوع الوضوء. فمراد الله تعالى من كلمة هذِهِ ذلك النوع لا الشخص. وكان آدم ظن أن النهي قد ورد على الشجرة المعينة فتركها، وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع. واعترض بأن هذا في أصل اللغة للإشارة الشخصية، وإذا حمل آدم اللفظ على موضوعه فكيف يعد مخطئا؟ وأيضا هب أن لفظ هذِهِ متردد بين الشخص والنوع، فإن كان مع قرينة الإشارة النوعية وقد قصر في معرفتها فيكون مذنبا، وإن عرفها ومع ذلك أقدم على التناول فكذلك، وإن لم يكن فيه قرينة فلا يعد مخطئا. وأيضا الأنبياء لا يجوز لهم الاجتهاد لأنهم قادرون على تحصيل اليقين بالوحي، فالإقدام على الاجتهاد عين المعصية. وأيضا هذه المسألة إن كانت قطعية فالخطأ فيها كبيرة، وإن كانت من الظنيات فإن قلنا: كل مجتهد مصيب. فلا خطأ، وإن قلنا المصيب واحد فالمخطىء فيها معذور بالاتفاق. وأجيب بأن لفظ هذا يستعمل في الإشارة النوعية أيضا كما مر، وبأن آدم لعله قصر في معرفة القرينة أو عرفها ثم نسي لطول المدة، فلهذا عوتب. وبأن المسألة القطعية لما نسيها صار النسيان عذرا حتى لا يصير الذنب كبيرا، وقد تكون ظنية وترتب التشديدات على الخطأ فيها لأن   (1) رواه أبو داود في كتاب اللباس باب 10. الترمذي في كتاب اللباس باب 1. النسائي في كتاب الزينة باب 40. ابن ماجه في كتاب اللباس باب 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 النبي صلى الله عليه وسلم قد يؤاخذ بما لا يؤاخذ به الأمة. قيل: وقد يحمل الخطأ في الاجتهاد من جهة أن آدم ظن أن المنهي في قوله لا تَقْرَبا تناولهما معا، فيجوز لكل واحد على الانفراد أكله. فإن قيل: كيف تمكن إبليس من وسوسة آدم مع أن إبليس كان خارج الجنة وآدم فيها؟ قلت: إما لأنه دخل فم الحية خافيا عن الخزنة ولهذا سقطت قوائم الحية عقوبة لها على ما يروى- وإن كان بعيدا- عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما سالمناهم منذ حاربناهم، ومن ترك منهم شيئا خيفة فليس منا. يعني الحيات. وإما لأنه دخل الجنة في صورة دابة، وإما لأنهما كانا يخرجان إلى باب الجنة وإبليس كان يقرب من الباب ويوسوس، وإما لأنه كان يدنو من السماء فيكلمهما. وقيل وسوس لهما على لسان بعض أتباعه لأنهما كانا يعرفان ما عنده من الحسد والبغضاء فيستحيل أن يقبلا قوله عادة. وإسناد الإذلال والإخراج إلى الشيطان لأنه حصل بسبب منه، وعن بعض العرفاء أن زلة آدم هب أنها كانت وسوسة إبليس، فمعصية إبليس بوسوسة من؟ ولا بد من الانتهاء إلى الذي لا يسأل عما يفعل. فإن قيل: كيف كانت الوسوسة؟ قلنا: هي التي حكاها الله تعالى ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ [الأعراف: 20] فلما لم يفد عدل إلى اليمين وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 21] ولكم من شياطين الإنس تراهم يوسوسون إليك على هذا الترتيب أعاذنا الله منهم. ثم بعد ذلك يحتمل أنهما لم يصدقاه فعدل إلى شغلهما باللذات المباحة حتى استغرقا فيها ونسيا النهي فوقعا فيما وقعا والله أعلم بحقائق الأمور. اهْبِطُوا خطاب لآدم وحواء وإبليس إما في وقت واحد بناء على أن إبليس قد عاد إلى الجنة لأجل الوسوسة، وإما لآدم وحواء في وقت وله في آخر قبل ذلك، وقيل: خطاب لهما وللحية. وقيل: الصحيح أن الخطاب لهما وذريتهما مرادة أيضا لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الناس كلهم، والدليل عليه ما جاء في طه اهْبِطا مِنْها [طه: 123] وقوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ [طه: 123] وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم. واهْبِطُوا أمر أو إباحة. والأشبه الأول لأن مفارقة ما كانا فيه من النعيم إلى دار الهوان أشق التكاليف. وإنما قيل: إنه تكليف لا عقوبة لما ترتب عليه من الثواب العظيم. ويمكن أن يقال: نفس الإهباط عقوبة ولا ثواب عليه، وإنما الثواب على حسب العمل بعد ذلك. ومعنى بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [طه: 123] ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض. وليست هذه هي العداوة المأمور بها في قوله إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فلا يدخل تحت الأمر، بل المراد اهبطوا وسيكون حالكم كذا، لأن عالم التضاد والتنافي ليس كعالم الأنوار الذي لا تعاند فيه ولا تمانع مُسْتَقَرٌّ استقرار أو موضع استقرار حالتي الحياة والموت. وَمَتاعٌ تمتع بالعيش إِلى حِينٍ هو يوم القيامة، أو حين انقضاء آجالكم. والحين المدة طويلة أو قصيرة، ولهذا لو قال: أنت طالق الى حين. فمضت لحظة طلقت. وفي قصة آدم وما جرى عليه بسبب الزلة معتبر عجيب وموعظة بليغة بينة كافية في اجتناب الخطايا واتقاء المآثم، ولله در القائل: يا ناظرا يرنو بعيني راقد ... ومشاهدا للأمر غير مشاهد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درك الجنان ودرك فوز العابد أنسيت أن الله أخرج آدما ... منها الى الدنيا بذنب واحد؟ وعن فتح الموصلي: كنا قوما من أهل الجنة فساقنا إبليس إلى الدنيا، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها. تطلب الراحة في دار العنا ... خاب من يطلب شيئا لا يكون قوله فَتَلَقَّى الآية. أصل التلقي التعرض للقاء، ثم يوضع موضع الاستقبال للشيء الجائي، ثم يوضع موضع القبول، والأخذ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل: 6] أي تلقنه، ثم بعض الأفعال قد يشترك فاعله ومفعوله في صلاحية وصف كل منهما بالفعل فيتعاوضان عمله فيهما. تقول: بلغني ذاك وبلغته، وأصابني خير أو نالني وأصبته أو نلته فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ أي أخذها ووعاها واستقبلها بالقبول وتلقى آدم كلمات أي جاءته واتصلت به، ولا يجوز أن يكون معنى التلقي من الرب، أن الله تعالى عرفه حقيقة التوبة لأن المكلف لا بد أن يعرف ماهية التوبة، ويتمكن بعقله من تدارك الذنوب فضلا عن الأنبياء فإذن المراد أنه نبهه على المعصية على وجه آل أمره إلى التوبة، أو عرّفه وجوب التوبة وكونها مقبولة، أو ذكره نعمته العظيمة عليه حتى صار من الدواعي القريبة إلى التوبة، أو علمه كلمات لو حصلت التوبة معهن كمل حالها من قوله تعالى رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] الآية. وفي رواية ابن عباس أن آدم قال: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى. قال: ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم. وقال النخعي: أتيت ابن عباس فقلت: ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال: علم الله آدم وحوّاء أمر الحج فحجا، فهي الكلمات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 التي تقال في الحج، فلما فرغا من الحج أوحى الله تعالى إليهما إني قبلت توبتكما. وعن ابن مسعود: إن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا حين اقترف الخطيئة «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» . وقالت عائشة: لما أراد تعالى أن يتوب على آدم عليه السلام طاف بالبيت سبعا، والبيت يومئذ ربوة حمراء، فلما صلى الركعتين استقبل البيت وقال: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي، اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي، وأرضني بما قسمت لي. فأوحى الله تعالى إلى آدم: يا آدم، قد غفرت لك ذنبك، ولن يأتيني أحد من ذريتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني به إلا غفرت ذنبه وكشفت همومه وغمومه ونزعت الفقر من عينيه وجاءته الدنيا وهو لا يريدها. وفي كلام الغزالي: أن التوبة تتحقق من ثلاثة أمور مترتبة: أولها علم، وثانيها حال، وثالثها عمل. فالعلم هو معرفة ما في الذنب من الضرر، وكونه حجابا بين العبد ورحمة الرب، فإذا استحكمت هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوات محبوبه، وتأسف على الفعل الذي كان سببا لذلك الفوات. ويسمى ذلك التأسف ندما، وهذه الحالة لها تعلق بالماضي وهو تلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلا للجبر، وتعلق بالحال وهو ترك الذنب الذي كان ملابسا له، وتعلق بالمستقبل وهو العزم على أن لا يعود إليه أبدا. وكثيرا ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده، ويجعل العلم السابق كالمقدمة، والترك اللاحق كالثمرة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «الندم توبة» «1» وجميع هذه الأمور بتوفيق الله ولطفه إنه هو التّواب الرحيم. والتوبة لغة الرجوع فيشترك فيه الرب والعبد، فإذا وصف بها العبد فالمعنى راجع إلى ربه لأن العاصي هارب عن ربه، وقد يفارق الرجل خدمة سيده فيقطع السيد معروفه عنه، فإذا عاد الى السيد عاد السيد عليه بإحسانه ومعروفه، وهذا معنى قبول التوبة من الله وغفران ذنوب العباد «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» «2» ومعنى المبالغة في الثواب أن واحدا من ملوك الدنيا إذا عصاه إنسان ثم تاب قبل توبته، ثم إذا عاد إلى المعصية وإلى الاعتذار فربما لم يقبل عذره لأن طبعه يمنعه من قبول العذر، والله تعالى بخلاف ذلك لأنه إنما يقبل التوبة لا لأمر يرجع الى رقة طبع أو جلب نفع أو دفع ضر، بل لمحض الإحسان واللطف والرحمة   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الزهد باب 30. أحمد في مسنده (1/ 376) . [ ..... ] (2) رواه ابن ماجه في كتاب الزهد باب 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 والجود، فإن فيضه لا ينقطع ولا تقصير إلا من القابل، فكلما ارتفع المانع من قبل القابل وصل الفيض اليه لا محالة. وأيضا يستحق المبالغة من جهة أخرى وهي كثرة عدد المذنبين المستلزمة لكثرة التائبين المستتبعة لكثرة قبول التوبة ووصفه بالرحمة. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاء داود أكثر، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود وبكاء نوح إلى بكاء آدم على خطيئته لكان بكاء آدم أكثر، وإذا آل حال أبينا إلى هذا من خطيئة واحدة فمن أحاطت به خطاياه أحق بالبكاء» ولذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» «1» فنحن أحق بالاستغفار، فإن الغين يكاد يكون بالنسبة إلينا رينا، وذلك أن الغين شيء يغين أي يغشى القلب ويغطيه بعض التغطية كالغيم الرقيق لا يحجب الشمس، ولكن يمنع كمال ضوئها. والرين ما استحكم من ذلك حتى صار القلب ممتنعا بالكلية عن قبول الحق وذلك صفة الكفار كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14] . قيل في تأويل الحديث: إن الله تعالى أطلع نبيه على ما سيكون في أمته من الخلاف والشقاق، وكان إذا ذكر ذلك وجد غينا في قلبه فاستغفر لأمته. قيل: كان ينتقل من حالة إلى حالة أرفع من الأولى فيستغفر مما كان. وقيل: الغين عبارة عن السكر الذي كان يلحقه في طريق المحبة حتى يصير فانيا عن نفسه بالكلية، فإذا عاد إلى الصحو استغفر من ذلك الصحو، وهذا تأويل أرباب الحقيقة. وقال أهل الظاهر: إن القلب لا ينفك عن الخطرات والشهوات وأنواع الإرادات، فكان يستعين بالرب تعالى في دفع تلك الخواطر. وعن ثابت البناني: بلغنا أن إبليس قال: يا رب، إنك خلقت آدم وجعلت بيني وبينه عداوة فسلطني عليه. فقال سبحانه: جعلت صدورهم مساكن لك. فقال: رب زدني. فقال: لا يولد ولد لآدم إلا ولد لك عشرة. قال: رب زدني. قال: تجري منه مجرى الدم. قال: رب زدني. قال: اجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد. قال: فشكا آدم إلى ربه فقال: يا رب إنك خلقت إبليس وجعلت بيني وبينه عداوة وبغضاء وسلطته علي وأنا لا أطيقه إلا بك. فقال الله تعالى: لا يولد ولد إلا وكلت به ملكين يحفظانه من قرناء السوء. قال: رب زدني. قال: الحسنة بعشر أمثالها. قال: رب زدني. قال: لا أحجب عن أحد من ولدك التوبة ما لم يغرغر، والغرغرة تردد الروح في الحلق. وسئل ذو النون عن التوبة فقال: إنها اسم جامع لمعان ستة: أولها الندم على ما مضى، وثانيها العزم على ترك الذنوب في المستقبل،   (1) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث 41. أبو داود في كتاب الوتر باب 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وثالثها أداء كل فريضة ضيعتها فيما بينك وبين الله، والرابع أداء المظالم إلى المخلوقين في أموالهم وأعراضهم، والخامس إذابة كل لحم ودم نبت من الحرام، والسادس إذاقة البدن مرارة الطاعات كما ذاق حلاوة المعاصي. وكان أحمد ابن الحرث يقول: يا صاحب الذنوب ألم يأن لك أن تتوب، يا صاحب الذنوب إن الذنب في الديوان مكتوب، يا صاحب الذنوب أنت بها في القبر مكروب، يا صاحب الذنوب أنت غدا بالذنوب مطلوب. وإنما اكتفى بذكر توبة آدم دون توبة حواء لأنها كانت تبعا له كما طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك على أنها قد ذكرت في موضع آخر قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] الآية. (قوله) قُلْنَا اهْبِطُوا الآية. قيل: فائدة تكرير الأمر بالهبوط أنهما هبوطان: الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من السماء الدنيا إلى الأرض. وضعف بأنه لو كان كذلك لكان ذكر قوله وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ عقيب الهبوط الثاني أولى. وأيضا قوله مِنْها يدل على أن الهبوط الثاني أيضا من الجنة والأوجه أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة وتابا بعد الأمر بالهبوط، وقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط يرتفع بزوال الزلة، فأعيد الأمر مرة ثانية ليعلما أن حكمه باق تحقيقا للوعد المتقدم في قوله تعالى إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ووجه ثالث وهو أن يكون التكرير للتأكيد، ولما نيط به من زيادة قوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ روي في الأخبار أن آدم هبط بجزيرة سرنديب من الهند، وحواء بجدة من أرض الحجاز، وإبليس بالأيلة من نواحي البصرة، والحية بأصفهان، فلم يتلاقيا مائة سنة، ثم ازدلفا أي تقاربا بالمزدلفة، واجتمعا بجمع وتعارفا بعرفات يوم عرفة، وتمنيا على الله تعالى المغفرة والتوبة بمنى، فحصلت أسماء هذه المواضع من هذه المعاني. وما في فَإِمَّا مزيدة، لتأكيد الشرط ويؤيده لحوق النون المؤكدة والشرط الثاني وجزاؤه مجموعين جواب الشرط الأول. تبع واتبع بمعنى، وإنما جاء في طه فَمَنِ اتَّبَعَ [طه: 123] موافقة لقوله فيها يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ [طه: 108] وفي الهدى وجهان: أحدهما المراد منه كل دلالة وبيان فيدخل فيه دليل العقل وكل كلام ينزل على نبي، وفيه تنبيه على نعمة أخرى عظيمة فكأنه قال: وإذ قد أهبطتكم من الجنة إلى الأرض فقد أنعمت عليكم بما يؤديكم مرة أخرى: إلى الجنة مع الدوام الذي لا ينقطع. عن الحسن: لما أهبط آدم إلى الأرض أوحى الله تعالى إليه: يا آدم، أربع خصال فيها كل الأمر لك ولولدك: واحدة لي، وواحدة لولدك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين الناس. أما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا وأما التي لك فإذا عملت آجرتك، وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الإجابة، وأما التي بينك وبين الناس فأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 تصحبهم بما تحب أن يصحبوك به. وقيل: هو رسول وكتاب بدليل وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا [البقرة: 39] في مقابلة فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ في الإقدام على ما يلزم والإحجام عما يحرم فإنه سيصير إلى حالة لا خوف فيها ولا حزن. وهذه الجملة مع اختصارها تجمع شيئا كثيرا من المعاني، لأن قوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً دخل فيه الإنعام بجميع الأدلة العقلية والشرعية وزيادة البيان، وجميع ما لا يتم ذلك إلا به من العقل ووجوه التمكين. وجمع قوله فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ تأمل الأدلة بحقها والنظر فيها واستنتاج المعارف منها والعمل بها، وجمع قوله فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ جميع ما أعد الله تعالى لأوليائه، لأن الخوف ألم يحصل للنفس من توقع مكروه، أو انتظار محذور، وزواله يتضمن السلامة من جميع الآفات. والحزن ألم يعرض للنفس لفقد محبوب أو فوات مطلوب، ونفيه يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات. وإنما قدم عدم الخوف على عدم الحزن لأن زوال ما لا ينبغي مقدم على حصول ما ينبغي، وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف عند الموت، ولا في القبر، ولا عند البعث، ولا عند حضور الموقف، ولا عند تطاير الكتب، ولا عند نصب الميزان، ولا عند الصراط إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30] وقال قوم من المتكلمين: إن أهوال يوم القيامة تعم الكفار والفساق والمؤمنين بدليل قوله تعالى يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى [الحج: 2] فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [المزمل: 17] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] وفي الحديث «تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه» «1» . وحديث الشفاعة وقول كل نبي «نفسي نفسي» إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه يقول: أمتي أمتي مشهور. قلت: لا ريب أن وعد الله حق، فمن وعده الأمن يكون آمنا لا محالة، إلا أن الإنسان خلق ضعيفا لا يستيقن الأمن الكلي ما لم يصل إلى الجنة، لأنه لا يطمئن قلبه ما لم ينضم له إلى علم اليقين عين اليقين، وأيضا إن جلال الله وعظمته يدهش الإنسان برا كان أو   (1) رواه أحمد في مسنده (4/ 157) (5/ 254) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 فاجرا. وأيضا ظاهر العمل الصالح لا يفيد اليقين بالجنة، فلا عمل إلا بالإخلاص، ولا حكم بالإخلاص إلا لله تعالى، لأنه من عمل القلب وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء. ولهذا جاء «والمخلصون على خطر عظيم» وكان دأب الصدّيقين أن يخلطوا الطمع بالخوف، والرغبة بالرهبة، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السجدة: 16] وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء: 90] وقيل: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [يونس: 62] أمامهم فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت، فآمنهم الله تعالى ثم سلاهم فقال لهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا. ثم إن الأئمة خصصوا نفي الخوف والحزن بالآخرة، لأن مجاري الأمور في الدنيا لا تخلو من مواجب الخوف والحزن. وقال صلى الله عليه وسلم «خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل» «1» قلنا: المؤمن الراضي بقضاء الله وقدره لا يرى شيئا من المكاره مكروها، وإنما مراده مراد حبيبه فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65] فبترك الإرادة يصح نسبة العبودية، وبالرضوان يحصل مفاتيح الجنان، وتنكشف الهموم والأحزان، ويتساوى الفقر والوجدان، وتثبت حقيقة الإيمان وَالَّذِينَ كَفَرُوا لجحدهم مولاهم وَكَذَّبُوا بِآياتِنا لإثباتهم حكما لهم بحسب مشتهاهم وهواهم أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ وملازموها دائما سرمدا سواء كانوا من الإنس أو من الجن، أعاذنا الله منها بعميم فضله وجسيم طوله. التأويل: إنكم تسجدون لله بالطبيعة الملكية الروحانية اسْجُدُوا لِآدَمَ بخلاف الطبيعة تعبدا ورقا وانقيادا للأمر وامتثالا للحكم، اسجدوا له تعظيما لشأن خلافته وتكريما لفضيلته المخصوصة به، فمن سجد له فقد سجد لله تعالى كما قال إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ اسجدوا لآدم لأجل آدم فإن عبادتكم وطاعتكم لا توجب ثوابا لكم ولا تزيد في درجاتكم، ولكن فائدتها تعود إلى الإنسان لقوله يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ولأن الإنسان يقتدي بهم في الطاعة ويتأدب بآدابهم في امتثال الأوامر والانزجار عن الإباء والاستكبار، كيلا يلحقه من اللعن والبعد ما لحق إبليس فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لأنهم خلقوا من نور، والنور من شأنه الانقياد والإفاضة، وأنه خلق من نار والنار من شأنها الاستعلاء طبعا وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ لأنه ستر الحق على آدم كما سمي إبليس لأنه أبلس الحق. وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ   (1) رواه البخاري في كتاب المرضى باب 3. ابن ماجة في كتاب الفتن باب 23. الدارمي في كتاب الرقاق باب 67. الترمذي في كتاب الزهد باب 57 أحمد في مسنده (1/ 172، 174) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 أي أبحت لك نعيم الجنة بما فيها وما كان لك فيها حق لأنك ما عملت بعد عملا تستحق به الجنة فأعطني هذه الشجرة الواحدة منها وهي كلها لي وأنا خلقتها، فإن طمعت فيها أيضا فاعلم أن الإنسان له همة عالية وحرص شديد لا يزال تقول جهنم حرصه «هل من مزيد» ولا تمتلىء حتى يضع الجبار فيها قدمه أي سابقة رحمته وعنايته «سبقت رحمتي غضبي» «1» . ثم إنه أبيح له ولزوجه مشتهيات النفس كلها فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وقيل لهما اقتنعا بها ولا توقدا نار الفتنة على أنفسكما، ولا تصبا من قربة المحبة ماء المحنة على رأسكما، ولا تقربا شجرة المحبة وقد غرست لأجله في الحقيقة يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] . ولكن سبب النهي هو الدلال الذي يقتضيه غاية الجمال. وأيضا لو لم ينه عنها فلعله ما فرغ لها لكثرة أنواع المرادات النفسانية وكانت المحبة غذاء روحانيا فذكرها كان كالتحريض عليها فإن الإنسن حريص على ما منع وأيضا إنه تعالى وسع أسباب الانبساط أولا ثم ضيق عليه الأمر آخرا. وأدنيتني حتى إذا ما فتنتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح. تجافيت عني حين لالي حيلة ... وغادرت ما غادرت بين الجوانح. خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأسكنه الجنة في جواره وزوجه حواء حتى شاهد جمال الحق في مرآة وجهه، وأنبت شجرة المحبة بين يديه ثم منعه عنها وكان في ذلك المنع تذكير وتحريض. أيضا كما مر ثم عاتبه بقوله فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ وهذا كما أسكر موسى بأقداح الكلام وأذاقه لذة شراب السماع وقربه نجيا حتى اشتاق إلى جماله وطمع في وصاله وقال رَبِّ أَرِنِي [الأعراف: 143] عاتبه بسطوة لَنْ تَرانِي [الأعراف: 143] وذلك أن البلاء والولاء توأمان والمحبة والمحنة رضيعا لبان، والمطلوب كلما كان أرفع كان أعز وأمنع والجمال لا بد له من الدلال، وبه يتميز العاشق الصادق من المدعي المختال. فَلَمَّا ذاقَا شجرة الغرام خرجا من دار السلام فما لأهل الغرام ودار السلام؟ وأين الفارغ السالي من المحب الغالي؟ فبتنا على رغم الحسود وبيننا ... حديث كطيب المسك شيب به الخمر. فلما أضاء الصبح فرق بيننا ... وأي نعيم لا يكدره الدهر؟.   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15، 22. مسلم في كتاب التوبة حديث 14- 16. الترمذي في كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 242، 258) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وبالجملة، فلما جاء القضاء ضاق الفضاء، فلم يمس بعد أن كان مسجود الملك مرفوع السماك إلى السماك مشمول الرعاية موفور العناية حتى نزع عنه لباس الأمن والفراغ، وبدل باستئناسه الاستيحاش، تدفعه الملائكة بعنف أن اخرج من غير مكث ولا بحث، فأزلتهما يد التقدير بحسن التدبير، وكان الشيطان المسكين كذئب يوسف لطخ خرطومه بدم نصح، فلما وقعا من القربة في الغربة، ومن الألفة في الكلفة لما ذاقا من شجرة المحبة المورثة للمحنة استوحشا من كل شيء، واتخذا عدوّا بعضكم لبعض عدو، وهكذا شرط المحبة عداوة ما سوى المحبوب. فكما أن ذاته لا تقبل الشركة في التعبد، كذلك لا تقبل الشركة في المحبة. فلما استقرت حبة المحبة في أرض قلب آدم جعل الأرض مستقر شخصه ليتمتع بتربية بذر المحبة بماء الطاعة والتكليف إلى حين إدراك ثمرة المعرفة وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] وقال صلى الله عليه وسلم «إن داود قال: يا رب لم خلقت الخلق؟ فقال: كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» . ثم إنه بعد ما ابتلي بالهبوط بشره بأن وحيه لا ينقطع وهدايته لا ترتفع، وإن من ربى بذر المحبة بماء الطاعة والطباعة فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في المستقبل وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما مضى من الهبوط إلى الأرض، لأنهم يرجعون بجذبات العناية والهداية إلى ذرى حظائر القدس وبالله التوفيق. [سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 46] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) القراآت: إِسْرائِيلَ بغير همزة حيث كان: يزيد وحمزة في الوقف نِعْمَتِيَ وكذلك ما بعدها ساكنة الياء: أبو زيد عن المفضل فَارْهَبُونِ فَاتَّقُونِ بالياء في الحالين: يعقوب، وكذلك كل ياء محذوفة في الخط عند رأس الآية. وروى مسيح بن حاتم وابن دريد عن سهل وعباس بالياء في الوصل. أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ ممالة: قتيبة وأحمد بن فرج الوقوف: فَارْهَبُونِ (هـ) ربع الجزء. كافِرٍ بِهِ (ص) لاتفاق الجملتين وعلى قَلِيلًا أجوز لاختلاف النظم بتقديم المفعول. فَاتَّقُونِ (هـ) تَعْلَمُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 (هـ) الرَّاكِعِينَ (هـ) الْكِتابَ (ط) تَعْقِلُونَ (هـ) الصَّلاةِ (ط) الْخاشِعِينَ (لا) لأن «الذين» صفتهم. راجِعُونَ التفسير: أنه تعالى لما أقام دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، ثم ذكر الإنعامات العامة للبشر ومن جملتها خلق آدم إلى تمام قصته، أردفها الإنعامات الخاصة على أسلاف اليهود، إلانة لشكيمتهم واستمالة لقلوبهم وتنبيها على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من حيث كونه إخبارا بالغيب مدرجا في مطاوي ذلك ما يرشدهم إلى أصول الأديان ومكارم الأخلاق، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عير منصرف للغلمية والعجمية المعتبرة لقب له، ومعناه صفوة الله. وقيل: عبد الله، لأن «إسر» بالعبرية هو العبد، «وإيل» الله. وقوله يا بَنِي إِسْرائِيلَ خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب في أيام محمد صلى الله عليه وسلم. وحد النعمة وما يتعلق بها قد سبق في تفسير الفاتحة. والعائد من الصلة محذوف أي أنعمت بها عليكم. قال بعض العارفين: عبيد النعم كثيرة، وعبيد المنعم قليلون، فإن الله تعالى ذكر بني إسرائيل نعمه عليهم، ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ذكرهم المنعم فقال فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] عن ابن عباس أنه قال: من نعمه تعالى على بني إسرائيل أن نجاهم من آل فرعون، وظلل عليهم في التيه الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأعطاهم الحجر الذي كان يسقيهم ما شاءوا، وأعطاهم عمودا من النور أضاء لهم بالليل، وكانت رؤوسهم لا تتشعت وثيابهم لا تبلى، وفي تذكير هذه النعم فوائد: منها أن فيها ما يشهد بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وهو التوراة والإنجيل والزبور. ومنها أن كثرة النعم توجب عظم المعصية، فذكرهم إياها ليحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. ومنها أن تذكر النعم الكثيرة يوجب الحياء من إظهار المخالفة. ومنها أن كثرة النعم تفيد أن المنعم خصهم بها من بين سائر الناس، ومن خص أحدا بنعم كثيرة فالظاهر أنه لا يزيلها عنهم كما قيل: إتمام المعروف خير من ابتدائه. فتذكير النعم السالفة مطمع في النعم الآتية، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة والمخاصمة. والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء إذ لولاها لم يبق نسلهم، ولأن الانتساب إلى آباء خصهم الله تعالى بنعم الدين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد، ولأنهم إذا علموا أن آباءهم إنما خصوا بهذه النعم لمكان طاعتهم والإعراض عن الكفر والجحود، رغبوا في هذه الطريقة لأن الابن مجبول على اتباع الأب «من أشبه أباه فما ظلم» . والعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد جميعا. يقال: أوفيت بعهدي أي بما عاهدتك عليه، وأوفيت بعهدك أي بما عاهدتك عليه. والمعنى: أوفوا بما عاهدتموني عليه من الإيمان بي والطاعة لي أوف بعهدكم أي أرض عنكم وأدخلكم الجنة حكاه الضحاك عن ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 عباس. وتحقيقه في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة: 111] وقيل: المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه سيبعثه، وإليه الإشارة في قوله وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً إلى قوله وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [المائدة: 12] وفي الأعراف فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: 156] الآية. وفي آل عمران وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ [آل عمران: 81] وفي الصف وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [الصف: 6] وعن ابن عباس: إن الله كان عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبيا أميا، فمن تبعه وصدق بالتوراة الذي يأتي به أي بالقرآن غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين، أجرا باتباع ما جاء به موسى وجاءت به سائر أنبياء بني إسرائيل، وأجرا باتباع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي الذي من ولد إسماعيل وتصديق هذا في القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد: 28] . وعن أبي موسى الأشعري مرفوعا «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بعيسى ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فله أجران، ورجل أدّب أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران، ورجل أطاع الله وأطاع سيده فله أجران» «1» فإن قيل: لو كان الأمر كما قلتم، فكيف يجوز من جماعتهم جحده صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: إما لأن هذا العلم به صلى الله عليه وسلم كان حاصلا عند العلماء بكتبهم ولم يكن لهم عدد كثير فجاز منهم كتمانه صلى الله عليه وسلم، وإما لأن ذلك النص كان نصا خفيا لعدم تعيين الزمان والمكان بحيث يعرفه كل أحد، فجاز وقوع الشكوك والشبهات فيه. جاء في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة: أن هاجر لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك لله تعالى. فقال لها: يا هاجر أين تريدين؟ قالت: أهرب من سيدتي سارة. فقال: ارجعي إلى سيدتك واخفضي لها فإن الله سيكثر زرعك وذريتك، وستحبلين وتلدين ابنا تسميه إسماعيل، من أجل أن الله سمع خشوعك، وهو يكون عينا بين الناس وتكون يده فوق الجميع، ويد بجميع مبسوطة إليه بالخضوع. فقيل: هذا الكلام خرج مخرج البشارة لأنهم كانوا قبل الإسلام محصورين في البادية لا يتجاسرون على الدخول في أوائل العراق وأوائل الشام إلا على أتم خوف، فلما جاء الإسلام استولوا على الخافقين بالإسلام ومازجوا الأمم ووطئوا بلادهم ومازجتهم الأمم وحجوا بيتهم ودخلوا باديتهم بسبب مجاورة الكعبة.   (1) رواه الدارمي في كتاب النكاح باب 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فلا تنقضوا عهدي وهو من قولك: زيد أرهبته أي زيدا رهبت رهبته بتقديم المفعول للاختصاص. فتقديره: وإياي ارهبوا فارهبون. وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 4] لمكان الفاء المؤذنة بتلازم ما قبلها وما بعدها. أي إن كنتم راهبين شيئا فارهبون. ومن قبل التكرير ولأجل الإضمار والتفسير. والرهبة هي الخوف، والخوف إما من العقاب وهو نصيب أهل الظاهر، وإما من الجلال وهو وظيفة أرباب القلوب، والأول يزول، والثاني لا يزول. ومن كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس. يروى أنه ينادي مناد يوم القيامة: وعزتي وجلالي أني لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين، من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة، ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة. قوله وَآمِنُوا معطوف على اذْكُرُوا والمراد بِما أَنْزَلْتُ القرآن ومُصَدِّقاً حال مؤكدة من الراجع المحذوف وفيه تفسيران: أحدهما أن في القرآن أن موسى وعيسى حق، والتوراة والإنجيل حق، والتوراة أنزل على موسى، والإنجيل على عيسى، فكان الإيمان بالقرآن مؤكدا للإيمان بالتوراة والإنجيل والثاني أنه حصلت البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن في التوراة والإنجيل، فكان الإيمان بمحمد والقرآن تصديقا للتوراة والإنجيل، والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن تكذيبا لهما، وفي هذا التفسير دلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة أن شهادة كتب الأنبياء لا تكون إلا حقا، ومن جهة أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن كتبهم ولم يكن له صلى الله عليه وسلم معرفة بذلك الأمر قبل الوحي وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ صلى الله عليه وسلم أي أوّل من كفر به صلى الله عليه وسلم، أو أوّل فريق أو فوج كافر به صلى الله عليه وسلم، أو ولا يكن كل واحد منكم أوّل كافر به كقوله «كسانا حلة» أي كل واحد منا. (وهاهنا سؤالان) الأول: كيف جعلوا أوّل من كفر به صلى الله عليه وسلم وقد سبقهم إلى الكفر به صلى الله عليه وسلم مشركو العرب؟ وفي الجواب وجوه: الأوّل: انه تعريض وأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به صلى الله عليه وسلم لمعرفتهم به صلى الله عليه وسلم وبصفته، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان محمد صلى الله عليه وسلم والمستفتحين به على الذين كفروا، وكانوا يعدّون أتباعه أولى الناس كلهم. فلما بعث كان أمرهم على العكس فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة: 89] . والثاني: ولا تكونوا مثل أوّل كافر به يعني من أشرك من أهل مكة أي ولا تكونوا- وأنتم تعرفونه صلى الله عليه وسلم موصوفا في التوراة- مثل من لم يعرفه صلى الله عليه وسلم لأنه لا كتاب له. الثالث: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ من أهل الكتاب، لأن هؤلاء كانوا أول من كفر به وبالقرآن من بني إسرائيل. الرابع وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ يعني بكتابكم. يقول ذلك لعلمائهم، لأن تكذيبكم بمحمد صلى الله عليه وسلم يوجب تكذيبكم بكتابكم. الخامس: المراد بيان تغليظ كفرهم، وذلك أن السابق الى الكفر كفره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 غليظ «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها» «1» والكافر عن دليل ومعرفة بما يوجب الإيمان كفره أغلظ ممن كفر ولا دليل له على الإيمان، فاشتركا من هذا الوجه، فصح إطلاق أحدهما على الآخر. السادس: ولا تكونوا أوّل من جحد مع المعرفة. السابع: أوّل فريق كفر من اليهود لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وبها قريظة والنضير، فكفروا ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر. الثامن: ولا تكونوا أول الكافرين به صلى الله عليه وسلم عند سماعكم بذكره صلى الله عليه وسلم، بل تثبتوا وراجعوا عقولكم فيه صلى الله عليه وسلم. السؤال الثاني: كأنه يجوز لهم الكفر إذا لم يكونوا أوّل الجواب ليس في ذكر الشيء دلالة على أن ما عداه بخلافه. وأيضا في قوله وَآمِنُوا دلالة على أن كفرهم أولا وآخرا محظور. وأيضا قوله وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا لا يدل على إباحة ذلك بالثمن الكثير. وقوله رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [الرعد: 2] لا يدل على وجود عمد لا نراها فكذلك هاهنا. قال المبرد: هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم، فقيل لهم: لا تكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه سيكون بعدكم كفار، فلا تكونوا أنتم أول الكفار فإنه يكون عليكم وزر من كفر إلى يوم القيامة. والاشتراء استعارة للاستبدال كما قلنا في اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: 16] أي لا تستبدلوا بآياتي ثمنا قليلا، وإلا فالثمن هو المشترى به، والثمن القليل هو الرياسة التي كانت لهم في قومهم. خافوا عليها لفوات لو تبعوا دين الإسلام. وقيل: الثمن هو الرشا التي يأخذها علماؤهم على تحريف الكلم عن مواضعه وتسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ مثل وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وقيل: الاتقاء إنما يكون عند الجزم الجزم بحصول ما يتقى عنه، فكأنه أمرهم بالرهبة. على أن جواز العقاب قائم، ثم أمرهم بالتقوى على أن يقين العقاب قائم. قوله وَلا تَلْبِسُوا أمر بترك الإغواء والإضلال كما أن قوله وَآمِنُوا أمر بترك الكفر والضلال. ولإضلال الغير طريقان: لأنه إن سمع الدلائل فإضلاله بتشويشها عليه، وإن لم يسمعها فإضلاله بكتمانها ومنعه من الوصول إليها. فقوله وَلا تَلْبِسُوا إشارة إلى القسم الأول، وقوله وَتَكْتُمُوا المجزوم بلا المقدرة للنهي عطفا على المنهي قبله إشارة إلى القسم الثاني. والباء التي في بِالْباطِلِ إما للوصل كما في قولك «لبست الشيء بالشيء» خلطته به، فكان المعنى: ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل   (1) رواه مسلم في كتاب العلم حديث 15. النسائي في كتاب الزكاة باب 64. أحمد في مسنده (4/ 357، 359) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 الذي كتبتم حتى لا يميز بينهما. وإما للاستعانة كما في «كتبت بالقلم» فالمعنى: ولا تجعلوا الحق ملتبسا بباطلكم وهو الشبهات التي توردونها على السامعين. وذلك أن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد صلى الله عليه وسلم كانت نصوصا خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها ويشوّشون وجه الدلالة على المتأملين كقوله وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [غافر: 5] قيل: ويجوز أن يكون وَتَكْتُمُوا منصوبا بإضمار «أن» ، والواو بمعنى الجمع أي لا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمان الحق نحو «لا تأكل السمك وتشرب اللبن» . قلت: هذا التقدير يوهم أن يكون المحظور هو الجمع بين الأمرين كالجمع بين أكل السمك وشرب اللبن حتى لو أتى بكل منهما منفردا عن الآخر جاز، اللهم إلا أن يحال ذلك على القرينة كما في قوله وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الدهر: 24] إذ لا يجوز أن يريد أطع أحدهما لقرينة الإثم والكفر. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما في إضلال الخلق من الضرر العظيم العائد عليكم يوم القيامة «من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها» «1» والنهي عن اللبس والكتمان وإن قيد بالعلم لم يدل على جوازهما حال عدم العلم، لأن السبب في ذكره أن الإقدام على الفعل الضار مع العلم بكونه ضارا أفحش من الإقدام عليه عند الجهل بكونه ضارا، والنهي وإن كان خاصا لكنه عام، فكل عالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه. ثم لما أمرهم بذكر نعمته وبالإيمان برسوله وكتابه ونهاهم عن اللبس والكتمان، بين لهم ما لزمهم من أصول الشرائع فقال وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي التي عرفتموها بوصف النبي، بناء على أنه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب. وأما القائلون بجواز التأخير فقد جوزوا ورود الأمر بالصلاة وإن لم يعرف حقيقتها، ويكون المقصود أن يوطن السامع نفسه على الامتثال وإن كان لا يعلم أن المأمور به ما هو كما لو قال السيد لعبده: إني آمرك غدا بشيء فلا بد أن تفعله. ويكون الغرض أن يعزم العبد في الحال على أدائه في الوقت الثاني. ومعنى الصلاة لغة وشرعا قد تقدم في أول البقرة. وأما الزكاة فهي في اللغة، الزيادة والنماء، وفي الشرع القدر المخرج من النصاب لأنها تزيد في بركة المخرج عنه، ويمكن أن يقال: مأخوذة من التطهير من زكى نفسه تزكية إذا مدحها وطهرها من العيوب. قال تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: 103] فإن المخرج يطهر ما بقي من المال. قال صلى الله عليه وسلم «عليك بالصدقة فإن فيها ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأما التي في الدنيا فتزيد في   (1) المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 الرزق، وتكثر المال، وتعمر الدار. وأما التي في الآخرة فتستر العورة، وتصير ظلا فوق الرأس، وتكون سترا من النار» . وفي هذا الخطاب مع اليهود دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع. وفي قوله وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ وجوه: أحدها أن اليهود لا ركوع في صلاتهم، فخص الركوع بالذكر تحريضا لهم على الإتيان بصلاة المسلمين. وثانيها صلوا مع المصلين فلا تكرار لأن الأول أمر بإقامتها، والثاني أمر بالجماعة. وثالثها الركوع والخضوع لغة سواء، فيكون نهيا عن الاستكبار المذموم وأمرا بالتذلل للمؤمنين، ثم إنه سبحانه لما أمرهم بالإيمان والشرائع بناء على ما خصهم به من النعم رغبهم في ذلك بناء على مأخذ آخر، وهو أن التغافل عن أعمال البر مع حث الناس عليها مستقبح في العقول. والهمزة في أَتَأْمُرُونَ للتقرير مع التقريع، والتعجيب من حالهم. والبر اسم جامع لأعمال الخير، ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما وعمل مبرور مرضي. واختلف في البر هاهنا. قال السدي: إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله ثم يتركونها وينهونهم عن معصية الله ويرتكبونها. وقال ابن جريج. تأمرون الناس بالصلاة والزكاة وتتركونهما. أبو مسلم: كانوا قبل مبعث النبي يخبرون مشركي العرب أن رسولا سيظهر منكم ويدعو إلى الحق ويرغبونهم في اتباعه، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم حسدوه وأعرضوا عن دينه. الزجاج: يأمرون الناس بالصدقة ويشحون بها. وقيل: يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه. وقيل: يأمرون غيرهم باتباع التوراة وهم يخالفونها لأنهم وجدوا فيها ما يدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ثم ما آمنوا به. وقيل: لعل المنافقين من اليهود كانوا يأمرون باتباعه في الظاهر وينكرونه صلى الله عليه وسلم في الباطن، فوبخهم الله على ذلك. والنسيان هو السهو الحادث بعد حصول العلم، والناسي غير مكلف فكيف يتوجه الذم على ما صدر عنه؟ فإذن المراد وتغفلون عن حق أنفسكم وتعدلون عما لها فيه من النفع وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أي التوراة وتدرسونها وتعلمون ما فيها من أعمال البر ومن نعت محمد صلى الله عليه وسلم ومن الوعيد على ترك البر ومخالفة القول العمل أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ وهو تعجيب للعقلاء من أفعالهم. وكثيرا ما يحذف الفعل بعد همزة الاستفهام للعلم به والتقدير: أفعلتم ذلك فلا تعقلون. وقس على هذا نظائره في القرآن فإنها كثيرة. وللتعجيب وجوه: منها أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير إلى المصالح وتحذيره عن المفاسد، وإرشاد النفس إليها وتحذيرها منها أهم بشواهد العقل والنقل، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بما لا يقبله العقل الصحيح. ومنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 أن مثل هذا الوعظ يصير سببا للمعصية لأن الناس يقولون لولا أن هذا الواعظ مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المناهي، فيكون داعيا لهم إلى التهاون بالدين والجرأة على المعاصي، وهذا مناف للغرض من الوعظ فلا يليق بالعقلاء. ومنها أن غرض الواعظ ترويج كلامه وتنفيذ مرامه، فلا خالف إلى ما نهى عنه صار كلامه بمعزل عن القبول وهذا خلاف المعقول. قال بعضهم: ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر استدلالا بهذه الآية، وبقوله تعالى لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ [الصف: 2] وبأن الزاني بامرأة يقبح منه أن ينكر عليها، وأجيب بأن المكلف مأمور بشيئين: ترك المعصية، ومنع الغير عنها، والإخلال بأحد التكليفين لا يقتضي الإخلال بالآخر. والذم في الآية مترتب على الشق الثاني وهو نسيان النفس لا على مجموع الأمرين، قالوا: وحديث القبح ممنوع. قلت: والحق أنه مكابرة، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النار. فقلت: يا أخي يا جبريل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء خطباء من أهل الدنيا، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم» «1» وقال صلى الله عليه وسلم «إن في النار رجلا يتأذى أهل النار بريحه» . فقيل: من هو يا رسول الله؟ قال: عالم لا ينتفع بعلمه» وقال صلى الله عليه وسلم «مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه» وعن الشعبي: يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون: لم دخلتم النار فإنا دخلنا الجنة بفضل تعليمكم؟ فقالوا: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله. وقيل: من وعظ بقوله ضاع كلامه، ومن وعظ بفعله نفذت سهامه. وقيل: عمل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل. روي أن يزيد بن هارون مات- وكان واعظا زاهدا مات- فرؤي في المنام فقيل: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، وأوّل ما سألني منكر ونكير فقالا: من ربك؟ فقلت: أما تستحيان من شيخ دعا الناس إلى الله كذا وكذا سنة فتقولان له من ربك. وقيل للشبلي عند النزع: قل لا إله إلا الله. فقال: إن بيتا أنت ساكنه ... غير محتاج إلى سرج ولما أمرهم الله تعالى بالإيمان وترك الإضلال وبالتزام الشرائع وموافقة القول للفعل وكان ذلك شاقا عليهم لما فيه من ترك الرياسات والإعراض عن المال والجاه، عالج الله تعالى هذا المرض بقوله وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ فكأنه قيل: واستعينوا على ترك ما تحبون من الدنيا والدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر أي حبس   (1) رواه أحمد في مسنده (3/ 120، 231، 239) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 النفس عن اللذات، فإنكم إذا كلفتم أنفسكم ذلك مرنت عليه وخف عليها. ثم إذا ضممتم الصلاة إلى ذلك كمل الأمر، لأن المشتغل بالصلاة مشتغل بذكر لطفه وقهره، فإذا تذكر لطفه مال إلى الطاعة، وإذا تذكر قهره انتهى عن المعصية. وقيل: الصبر الصوم لأنه حبس النفس عن المفطرات ومنه يقال: شهر الصبر لشهر رمضان. ومن حبس نفسه عن قضاء شهوتي البطن والفرج زالت عنه كدورات حب الدنيا، فإذا انضاف إليه الصلاة استنار القلب بأنوار معرفة الله. وإنما قدم الصوم على الصلاة لأن تأثير الصوم في إزالة ما لا ينبغي وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي والنفي مقدم على الإثبات. ويجوز أن يراد بالصلاة الدعاء أي استعينوا على البلاء بالصبر والالتجاء إلى الدعاء والابتهال في دفعه إلى فاطر الأرض والسماء. وهذا الخطاب وإن كان خاصا ببني إسرائيل وإلا لزم تفكك النظم، لكن المعنى على العموم فعلى كل مكلف أن يستعين على حوائجه إلى الله بالصلاة والصبر على تكاليفها مراعيا في ذلك ما يجب من الإخلاص وحسن الأدب واستحضار العلم بأنها انتصاب بين يدي الجبار العالم بالطويات والأسرار ومنه قوله وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه: 132] . ومن خواص الصلاة اندفاع البلايا وانكشاف الغموم والرزايا. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وإنها أي الصلاة أو الاستعانة أو جميع المأمورات والمنهيات في هذه الآيات لكبيرة لشاقة ثقيلة كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: 13] إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ يعلمون أنهم ملاقو جزاء ربهم وأنهم إلى حكمه راجعون، فتصدر عنهم الأعمال مع طيب نفس وانشراح صدر، وهذا بخلاف حال المنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا. فالملحد إذا لم يعتقد في فعلها منفعة لا يواتيه طبعه في الاشتغال بها وإن كان زمانا يسيرا فتثقل عليه، والموحد حيث اعتقد في فعلها أعظم المنافع وهو الفوز بالنعيم المقيم والخلاص من العذاب الأليم يهون عليه تزجية الأوقات بوظائف العبادات. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حتى تورّمت قدماه، ومع ذلك يقول: «يا بلال روّحنا» ، «وجعلت قرة عيني في الصلاة» «1» والخشوع والخضوع أخوان وهما التطامن والتواضع، ومنه الخشعة للأكمة المتواضعة. وفي الحديث «كانت الأرض خاشعة على الماء ثم دحيت» وللظن هاهنا تفسيران: أحدهما أنه بمعنى العلم تجوّزا لأن الظن هو الاعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض، وتجويز نقيض لقاء الرب أي البعث والنشور كفر فكيف يمدح به؟ وسبب هذا التجوز أنهما يشتركان في رجحان الاعتقاد، وإن افترقا بتجويز النقيض وعدمه فصح إطلاق   (1) رواه النسائي في كتاب النساء باب 1. أحمد في مسنده (3/ 128، 199) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 أحدهما على الآخر، ولا سيما إذا كان الظن عن أمارة قوية تقرّبه من العلم. وثانيهما أن الظن بمعناه الحقيقي والمراد بملاقاة الرب، إما لقاء ثوابه وذلك مظنون لا معلوم، وإما الموت الذي هو سبب اللقاء ووقته غير معلوم إلا أنه متوقع كل لحظة وقوعا راجحا عند المؤمن، لأنه قطع أمله أو لأنه يحب لقاء ربه إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [الجمعة: 6] . ويحتمل أن يقال: معناه على هذا التفسير الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم بذنوبهم، فإن الإنسان الخاشع قد يسيء ظنه بنفسه وبأعماله فيغلب على ظنه أنه يلقى الله بذنوبه، فعند ذلك يتسارع إلى التوبة وذلك من صفات المدح. وبقي هاهنا بحثان: الأول: استدل أهل السنة بالآية على جواز رؤية الله تعالى، وأنكرها المعتزلة قالوا: اللقاء لا يفيد الرؤية لقوله تعالى فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ [التوبة: 77] والمنافق لا يرى ربه، ولقوله وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [البقرة: 223] ويشمل الكافر والمؤمن. وقال صلى الله عليه وسلم «من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» «1» وأجيب بأن اللقاء في اللغة وصول أحد الجسمين إلى الآخر اتصال التماس، وهذا اللقاء سبب الإدراك. فحيث يمتنع حمله على أصله وجب حمله على الإدراك، لأن إطلاق لفظ السبب على المسبب من أقوى وجوه المجاز. فإن منع من ذلك أيضا مانع أضمر بحسب ذلك، فإن الإضمار خلاف الأصل لا يصار إليه إلا لمانع. ففي قوله إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ [التوبة: 77] دعت الضرورة إلى إضمار الجزاء ونحوه، وفي الآية لا ضرورة، فحمله على الإدراك أولى. البحث الثاني: المراد من الرجوع إلى الله الرجوع إلى حكمه حيث لا مالك لهم سواه لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] كما كانوا كذلك في أول الخلق بخلاف أيام حياتهم في الدنيا، فإنه قد يملك الحكم عليهم ظاهرا غير الله تعالى. قال المجسمة: الرجوع إلى غير الجسم محال فدل ذلك على كونه تعالى جسما. وقال أهل التناسخ: الرجوع إلى الشيء مسبوق بالكون عنده فدلت الآية على كون الأرواح قديمة ولا يخفى جوابهما والله أعلم.   (1) رواه البخاري في كتاب الخصومات باب 4. مسلم في كتاب الإيمان حديث 220- 222. أبو داود في كتاب الايمان باب 1. الترمذي في كتاب البيوع باب 42. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 8. أحمد في مسنده (1/ 377، 416) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 [سورة البقرة (2) : الآيات 47 الى 48] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) القراآت: ولا تقبل بالتاء الفوقانية، ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الوقوف: الْعالَمِينَ (هـ) يُنْصَرُونَ (هـ) التفسير: إنما أعاد سبحانه هذا الكلام مرة أخرى توكيدا للحجة وتحذيرا من ترك اتباع صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: إن لم تطيعوني لأجل سوالف نعمتي عليكم فأطيعوني للخوف من عقابي في المستقبل. والمراد بالعالمين هاهنا الجم الغفير من الناس كقوله «بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 71] . ويقال: رأيت عالما من الناس. يراد الكثرة بقرينة العلم بأنه لم ير كل الناس، ويمكن أن يكون المراد فضلتكم على عالمي زمانكم، لأن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك لا يكون من جملة العالمين. ويحتمل أن يكون لفظ الْعالَمِينَ عاما للموجودين ولمن سيوجد لكنه مطلق في الفضل، والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة. فالآية تدل على أنهم فضلوا على كل العالمين في أمر ما، وهذا لا يقتضي أن يكونوا أفضل من كل العالمين في كل الأمور، فلعل غيرهم يكون أفضل منهم في أكثرها. وقيل: الخطاب لمؤمني بني إسرائيل لأن عصاتهم مسخوا قردة وخنازير، وفي جميع ما يخاطب الله تعالى بني إسرائيل تنبيه للعرب لأن الفضيلة بالنبي قد لحقتهم. وجميع أقاصيص الأنبياء تنبيه وإرشاد لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف: 111] . روي عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول: قد مضى والله بنو إسرائيل وما يعني بما تسمعون غيركم. واتقاء اليوم هو اتقاء ما يحصل في ذلك اليوم من الشدائد والأهوال، لأن نفس اليوم لا يتقى. وقوله لا تَجْزِي إلى آخر الآية. الجمل منصوبات المحل صفات متعاقبة لليوم، والراجع منها إلى الموصوف محذوف تقديره: لا تجزي فيه. ومنهم من يقول: اتسع فيه فأجرى مجرى المفعول به فحذف الجار وهو «في» فبقي لا تجزيه، ثم حذف الضمير كما حذف في قوله «أم مال أصابوا» قال: فما أدري أغيرهم تناء ... وطول العهد أم مال أصابوا أي أصابوه. ولا يخفى أن هذا التكلف لا يتمشى في سائر الجمل، بل يتعين تقدير الجار والمجرور العائد. ومعنى لا تجزي لا تقضي عنها شيئا من الحقوق، ومنه الحديث في الجذعة التي ضحاها ابن نيار قبل الوقت «تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك» وشَيْئاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 مفعول به، ويجوز أن يكون في موضع مصدر أي قليلا من الجزاء مثل «ولا تظلمون شيئا» . ومعنى تنكير النفس أن نفسا من الأنفس لا تجزي عن نفس منها شيئا من الأشياء وهو الإقناط الكلي القاطع للمطامع. وكذلك قوله وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ أي فدية لأنها معادلة للمفدى. وفي الحديث «لا يقبل منه صرف ولا عدل» أي توبة، لأنها تصرف من الحال الذميمة إلى الحال الحميدة ولا فداء. والضمير في وَلا يُقْبَلُ مِنْها يرجع إلى النفس الثانية العاصية غير المجزي عنها وهي التي لا يؤخذ منها عدل. ومعنى لا تقبل منها شفاعة أنها إن جاءت بشفاعة شفيع لم يقبل منها، ويجوز أن يرجع إلى النفس الأولى على أنها لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها، كما لا تجزي عنها شيئا ولو أعطت عدلا منها لم يؤخذ منها ولا هم ينصرون، الضمير عائد إلى ما دلت عليه النفس المنكرة من النفوس الكثيرة، والتذكير بمعنى العباد أو الأناسي مثل ثلاثة أنفس. وفي وصف اليوم بهذه الصفات تهويل عظيم تنبيه على أن الخطب شديد، لأنه إذا وقع أحد في كريهة وحاولت أعزته دفاع ذلك عنه، بدأت بما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية، فتحمل عنه ما يلزمه وتذب عنه كما يذب الوالد عن ولده بغاية قوّته ونهاية بطشه. فإن رأى من لا طاقة له بممانعته عاد بوجوه الضراعة وصنوف الشفاعة وبذل المال والمنال، فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة، فإن لم تغن هذه الأمور تعلل بما أمكنه من نصر الإخوان ومدد الأخدان، فأخبر الله تعالى أن شيئا من هذه لا يدفع يومئذ عن عذابه. وفي هذا تحذير من المعاصي وترغيب في تلافي ما فات بالتوبة، لأنه إذا تصور أنه ليس بعد الموت استدراك ولا شفاعة ولا نصرة ولا فدية، علم أنه لا ينفعه إلا الطاعة وتلافي البوادر. فالآية وإن كانت في بني إسرائيل إلا أنها تعم كل من يحضر ذلك اليوم. فإن قيل: قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الدية، وفي موضع آخر من هذه السورة عكست القضية، فما الحكمة في ذلك؟ قلنا: من الناس من ميله إلى حب المال أشدّ من ميله إلى علو النفس فيتمسك أوّلا بالشفيع ثم يستروح إلى بذل المال، ومنهم من على العكس فيقدم الفدية على الشفاعة، فتغيير الترتيب إشارة إلى الصنفين والله أعلم. واعلم أن الشفاعة هي أن يستوهب أحد لأحد شيئا ويطلب له حاجة من الشفع ضد الوتر، كأن صاحب الحاجة كان فردا فصار بالشفيع شفعا. ثم إن الأمة أجمعت على أن لمحمد صلى الله عليه وسلم رتبة الشفاعة في الآخرة، وعليه يحمل قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الاسراء: 79] وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: 5] . وأجمعوا على أنه لا شفاعة للكفار. بقي الخلاف فيمن عداهم. فأهل السنة أثبتوا الشفاعة لغير الكفار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 والمعتزلة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب بقي خالدا في النار ولا شفاعة له وسائر الناس لهم الشفاعة. قالوا: إن هذه الآية تدل على نفي الشفاعة مطلقا، والآيات والأحاديث الدالة على وجود الشفاعة كثيرة، فعرفنا أن الآية ليست على عمومها، لكن الآيات الواردة في وعيد صاحب الكبيرة كثيرة كقوله تعالى وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها [الجن: 23] فخرج غير صاحب الكبيرة وبقيت الآية حجة في الكفار وفي صاحب الكبيرة. وزعم أهل السنة أن اليهود كانوا يدعون أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا من ذلك. وأجيب بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وسوف يجيء سائر حجج الفريقين في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى. وقالت الفلاسفة في تحقيق الشفاعة: إن واجب الوجود عام الفيض والنقصان من القابل، وجائز أن لا يكون الشيء مستعدا لقبول الفيض من واجب الوجود إلا أن يكون مستعدا لقبول ذلك الفيض من شيء قبله عن واجب الوجود، فيكون ذلك الشيء متوسطا بين الواجب. وذلك الشيء مثاله في المحسوس الشمس، فإنها لا تضيء إلا القابل المقابل، والسقف لما لم يكن مقابلا لم يكن مستعدا لقبول النور منها، لكنه لو وضع طست مملوء من الماء الصافي انعكس منه الضوء إلى السقف. فأرواح الأنبياء كالوسائط بين واجب الوجود وبين أرواح عوام الخلق كالماء بين الشمس وبين السقف، وهذا يدل على أنه لا واسطة بين الله تعالى وبين عباده أشرف من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث إنه لا شفاعة إلا له. [سورة البقرة (2) : الآيات 49 الى 53] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) القراآت: سُوءَ الْعَذابِ وسُوءُ الْحِسابِ بغير همز حيث وقعتا مفتوحتين: الأصبهاني عن ورش. وعدنا حيث كان أبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد. مُوسى بالإمالة المفرطة كل القرآن: حمزة وعلي وخلف وعن أبي عمرو وجهان: إن جعلته «فعلى» فبالإمالة بين الفتح والكسر، وإن جعلته على «مفعل» فبالفتح لا غير ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ وبابه بالإظهار: ابن كثير وحفص والمفضل والأعشى والبرجمي. وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ مدغما: عباس، وكذلك يدغم إذا كان قبل النون حرف من حروف المد واللين وهي الواو والمضموم ما قبلها مثل وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ والياء المكسور ما قبلها مثل مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما والألف المفتوح ما قبلها مثل وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وما أشبه ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 الوقوف: نِساءَكُمْ (ط) عَظِيمٌ (هـ) تَنْظُرُونَ (هـ) ظالِمُونَ (هـ) تَشْكُرُونَ (هـ) تَهْتَدُونَ (هـ) التفسير: إنه سبحانه لما قدّم ذكر النعمة على بني إسرائيل إجمالا أخذ في تفصيلها واحدة فواحدة ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة كأنه قال: اذكروا نعمتي، واذكروا إذ نجيناكم، وإذ فرقنا، وإذ كان كذا وكذا. «وإذ» في جميع هذه القصص بمعنى مجرد الوقت مفعول به ل «اذكروا» وأصل الإنجاء والتنجية التخليص، ومنه النجوة للمكان العالي لأن من صار إليه نجا أي تخلص من أن يعلوه سيل، أو لأن الموضع تخلص مما انحط عنه. وأصل آل أهل بدليل أهيل وأهال في تحقيره وتكسيره على الأعرف، فأبدلت إلى «أءل» على خلاف القياس، ثم إلى «آل» وجوبا فالألف فيه بدل عن همزة بدل عن هاء. ولا يستعمل الآل إلا فيمن له خطر. يقال «آل النبي» «وآل الملك» ولا يقال: آل الحائك. وإنما يقال أهله، وهكذا لا يقال: آل البلد وآل العلم، وإنما يقال أهلهما. وعند الكسائي، أصله أول بدليل تصغيره على أويل، كأنهم يؤلون إلى أصل قلبت الواو ألفا على القياس. وفِرْعَوْنَ علم لمن ملك العمالقة أولاد عمليق ابن لاوذ بن أرم بن سام بن نوح كقيصر لملك الروم، وكسرى لملك الفرس، وخاقان للترك، وتبع لليمن. واختلف في اسمه. فابن جريج: أن اسمه مصعب بن ريان. وابن إسحق: أنه الوليد بن مصعب. ولم يكن من الفراعنة أغلظ وأقسى قلبا منه. وعن وهب بن منبه: أن أهل الكتابين قالوا: إن اسمه قابوس وكان من القبط. وقيل: إن فرعون يوسف هو فرعون موسى. وضعف إذ كان بين دخول يوسف مصر وبين دخول موسى أكثر من أربعمائة سنة. وقال محمد بن إسحق: هو غير فرعون يوسف وإن اسم فرعون يوسف الريان بن الوليد. والمراد بآل فرعون أتباعه وأعوانه الذين عزموا على إهلاك بني إسرائيل بأمره. ولعتوّ الفراعنة اشتقوا «تفرعن» فلان إذا عتا وتجبر. ويَسُومُونَكُمْ من سامه خسفا إذا أولاه ظلما. قال عمرو بن كلثوم: إذا ما الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن نقر الخسف فينا وأصله من سام السلعة إذا طلبها كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ويريدونكم عليه. والسوء مصدر السيء يقال: أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفجور يراد قبحهما. ومعنى سوء العذاب والعذاب كله سيىء أشده وأفظعه، كأنه قبحه بالإضافة إلى سائره، أو المراد عذاب من غير استحقاق، لأن العذاب بالاستحقاق حسن واختلف في سوء العذاب فابن إسحق: إنه جعلهم خدما وخولا وصنفهم في أعماله، فمن بان وحارث وزارع ومن لم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ذا عمل وضع عليه جزية يؤديها. السدي: كان يجعلهم في الأعمال القذرة ككنس الكنيف ونحوه، ولا ريب أن كون الإنسان تحت تصرف الغير كيف شاء لا سيما إذا استعمله في الأعمال الشاقة القذرة من غير أن يأخذه بهم رأفة وإشفاق، من أشدّ العذاب، حتى إن من هذه حاله ربما يتمنى الموت. سئل حكيم: أي شيء أصعب من الموت؟ فقال: ما يتمنى فيه الموت. فبين تعالى عظيم نعمته عليهم بأن نجاهم من ذلك، ثم أتبع نعمة أخرى فقال يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ ومعناه هم يقتلون الذكور من أولادكم دون الإناث. والذي دعاهم إلى ذلك أمور منها: أن ذبح الأبناء يقتضي إفناء الرجال وانقطاع النسل بالآخرة. ومنها أن هلاك الرجال يقتضي فساد معيشة النساء حتى يتمنين الموت من النكد والضر. ومنها أن قتل الولد عقيب الحمل والكد والرجاء القوي في الانتفاع بالمولود من أعظم العذاب. ومنها أن الأبناء أحب وأرغب من البنات ولهذا قيل: سروران مالهما ثالث ... حياة البنين وموت البنات لقول النبي صلى الله عليه وسلم «دفن البنات من المكرمات» ومنها أن بقاء النسوان بدون الذكران يوجب صيرورتهن مستفرشات للأعداء، وذلك نهاية الذل والهوان. قال بعضهم: المراد بالأبناء الرجال ليطابق النساء، إذ النساء اسم للبالغات وهو جمع المرأة من غير لفظها. قالوا: وإنما كان يأمر بقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج عليه والتجمع لإفساد أمره. والأكثرون على أن المراد بالأبناء الأطفال لظاهر اللفظ، ولأنه كان يتعذر قتل جميع الرجال على كثرتهم، ولأنهم كانوا محتاجين إليهم في الأعمال الشاقة، ولأنه لو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى في اليم معنى. وإنما لم يقل البنات في مقابلة الأبناء لأنهن لما لم يقتلن كن بصدد أن يبلغن، فحسن إطلاق اسم النساء عليهن مثل إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف: 36] عن ابن عباس: أنه وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا، فخافوا ذلك واتفقت كلمتهم على أعداد رجال معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه، فلما رأوا أن كبارهم يموتون، والصغار يذبحون، خافوا فناءهم وأن لا يجدوا من يباشر الأعمال الشاقة، فصاروا يقتلون عاما دون عام. وعن السدي: أن فرعون رأى نارا أقبلت من بيت المقدس حتى استولت على بيوت مصر وأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، فدعا فرعون الكهنة وسألهم عن ذلك فقالوا: يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القبط على يده. وقيل: إن المنجمين أخبروا فرعون بذلك وعينوا له السنة، فلهذا كان يقتل أبناءهم من تلك السنة. قيل: والأقرب هو الأول، لأن المستفاد من علم النجوم والتعبير لا يكون أمرا مفصلا، وإلا قدح ذلك في كون الإخبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 عن الغيب معجزا، بل يكون أمرا مجملا، والظاهر من حال العاقل أن لا يقدم على هذا الأمر العظيم بسببه (قلت) كون فرعون عاقلا ممنوع، فإن من شك في أجلى البديهيات وهو أنه ممكن الوجود، فعدّه من العقلاء لا يكون من العقل. ثم قال ذلك القائل: لعل فرعون كان عارفا بالله وبصدق الأنبياء إلا أنه كان كافرا كفر الجحود والعناد، أو يقال إنه كان شاكا متحيرا في دينه وكان يجوّز صدق إبراهيم عليه السلام، وأقدم على ذلك الفعل احتياطا. (قلت) : إذا أخبر الله تعالى عنه بأنه قال أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] وما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] فلا ضرورة بنا إلى تجويز كونه عارفا بالله وبصدق الأنبياء وجعل كفره كفر جحود وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: 122] وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] فإن قلت: لم ذكر يُذَبِّحُونَ هاهنا بلا «واو» ، وفي سورة إبراهيم بواو؟ فالوجه فيه أنه إذا جعل يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ مفسرا بقوله يُذَبِّحُونَ فلا حاجة إلى الواو، وإذا جعل يَسُومُونَكُمْ مفسرا بسائر التكاليف الشاقة سوى الذبح، وجعل الذبح شيئا آخر احتيج إلى الواو. وإنما جاء هاهنا يُذَبِّحُونَ وفي الأعراف يُقَتِّلُونَ بغير واو لأنهما من كلام الله فلم يرد تعداد المحن عليهم. والذي في إبراهيم من كلام موسى فعدّ المحن عليهم وكان مأمورا بذلك في قوله وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم: 5] وقال بعضهم: إن معنى يستحيون يفتشون حياء المرأة أي فرجها، هل بها حمل أم لا؟ وفيه تعسف. والبلاء المحنة إن أشير بذلك إلى صنيع فرعون، والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء، والحمل على النعمة أولى لأنها هي التي يحسن إضافتها إلى الرب تعالى، ولأن موضع الحجة على اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم حيث عاينوا إهلاك من حاول إهلاكهم وإذلال من بالغ في إذلالهم. وهاهنا نكتة، وهي أنهم كانوا في نهاية الذل، وخصمهم في غاية الاستيلاء والغلبة، إلا أنهم كانوا محقين وخصومهم مبطلين، فانقلب المحق غالبا والمبطل مغلوبا، فكأنه قيل: لا تغتروا بفقر محمد صلى الله عليه وسلم وقلة أنصاره في الحال، فإنه سينقلب العز إلى جانبه صلى الله عليه وسلم، والذل إلى جانب أعدائه. وفيه تنبيه على أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء، فليس للإنسان أن يغتر بعز الدنيا وينسى أمر الآخرة. قال أهل الإشارة: النفس الأمارة وصفاتها الذميمة وأخلاقها الرديئة تسوم الروح الشريف ذبح أبناء الصفات الروحانية الحميدة واستحياء بعض الصفات القلبية لاستخدامهن في الأعمال القذرة الحيوانية ولا ينجيه من ذلك إلا الله تعالى. قوله وَإِذْ فَرَقْنا نعمة أخرى في نعمة أي فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم على عدد الأسباط وكانوا اثني عشر. ومعنى بكم أنهم كانوا يسلكونه ويتفرق لماء كما يفرق بين الشيئين بما يوسط بينهما، أو يراد فرقناه بسبب إنجائكم، أو يكون حالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 أي ملتبسا بكم. روي أنه تعالى لما أراد غرق فرعون والقبط وبلغ بهم الحال في معلوم الله تعالى أنه لا يؤمن أحد منهم، أمر موسى بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط، إما ليخرجوا خلفهم لأجل المال، وإما لتبقى أموالهم في أيديهم. ثم نزل جبريل وقال: أخرج ليلا كما قال تعالى وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي [الشعراء: 52] وكانوا ستمائة ألف، وكل سبط خمسون ألفا. فلما خرجوا وبلغ الخبر فرعون قال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك. قال الراوي: فو الله ما صاح الليلة ديك. فلما أصبحوا دعا فرعون بشاة فذبحت ثم قال: لا أفرغ من تناول كبد هذه الشاة حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط. قال قتادة: فاجتمع إليه ألف ألف ومائتا ألف، كل واحد منهم على فرس حصان فتبعوهم نهارا وهو قوله فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ [الشعراء: 60] أي بعد طلوع الشمس. فلما سار بهم موسى إلى البحر قال له يوشع: أين أمرك ربك؟ فقال له موسى: إلى أمامك. وأشار إلى البحر- فأقحم يوشع فرسه في البحر وكان يمشي في الماء حتى بلغ الغمر، فسبح الفرس وهو عليه، ثم رجع وقال له يا موسى: أين أمرك ربك؟ فقال: البحر. فقال: والله ما كذبت وما كذب. ففعل ذلك ثلاث مرات فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر، فانشق البحر اثني عشر طريقا. فقال له: ادخل، وكان فيه وحل فهب الصبا نحو البحر حتى صار طريقا يبسا، فاتخذ كل سبط منهم طريقا ودخلوا فيه، فقالوا لنبيهم: أين أصحابنا لا نراهم؟ فقال موسى: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم. قالوا: لا نرضى حتى نراهم. فقال: اللهم أعني على أخلاقهم السيئة. فأوحى إليه أن قل بعصاك هكذا، فقال بها على حيطان المياه فصارت فيها كوى فتراءوا وتسامعوا كلامهم. ثم اتبعهم فرعون فلما بلغ شاطىء البحر رأى إبليس واقفا فنهاه عن الدخول فهمّ بأن لا يدخل البحر، فجاء جبريل على مهرة فتقدم وهو كان على فحل، فتبعه فرس فرعون ودخل البحر، فصاح ميكائيل بهم ألحقوا آخركم بأوّلكم، فلما دخلوا البحر بالكلية أمر الله تعالى الماء حتى نزل عليهم فذلك قوله تعالى وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ قيل: ذلك اليوم كان يوم عاشوراء، فصام موسى عليه السلام ذلك اليوم شكرا لله تعالى، ومعنى قوله وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أنكم ترون التطام أمواج البحر بفرعون وقومه. وقيل: إن قوم موسى سألوا أن يريهم الله تعالى حالهم، فسأل موسى ربه فلفظهم البحر ألف ألف ومائة ألف نفس فنظروا إليهم طافين. وقيل: المراد وأنتم بالقرب منهم. قال الفراء: وهو مثل قولك «لقد ضربتك وأهلك ينظرون إليك فما أغاثوك» تقول ذلك إذا قرب أهله منه وإن كانوا لا يرونه ومعناه راجع إلى العلم. قال أهل الإشارة: البحر هو الدنيا، وماؤه شهواتها ولذاتها، وموسى القلب، وقومه صفات القلب، وفرعون النفس الأمارة، وقومه صفات النفس، والعصا عصا الذكر، فينفلق بحر الدنيا بتفليق لا إله إلا الله، وينشبك ماء شهواته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 يمينا وشمالا، ويرسل الله تعالى ريح العناية وشمس الهداية على قعر بحر الدنيا فيصير يابسا من ماء الشهوات، فيخوض موسى القلب وصفاته فيعبرونه وتنجيهم عناية الله إلى ساحل وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42] ويغرق فرعون النفس وقومه والله تعالى أعلم. ولما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه، وعد الله موسى. ونسبه: موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليه السلام. أن ينزل عليه التوراة وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذي الحجة، وإنما قيل أربعين ليلة لأن الشهور غررها بالليالي. وقال أهل التحقيق: لأن الليلة وقت العبادة والخلوة فخصت بالذكر لشرفها. ولعدد الأربعين خاصية لن ينكرها أهل الذوق، ولهذا جاء في الحديث «من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» والجنين يتقلب في الأطوار في الأربعينات، قال أبو العالية: وبلغنا أنه لم يحدث حدثا في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور. ولا بد من تقدير مضاف أي انقضاء أربعين كقولك «اليوم أربعون يوما منذ خرج فلان» أي تمام الأربعين. ومن قرأ واعَدْنا من المواعدة فمعناه أن الله تعالى وعده الوحي ووعد هو المجيء للميقات إلى الطور. وذكر الأربعين هاهنا مجمل وتفصيله في الأعراف كقوله: ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة: 196] فصل أولا ثم أجمل. ومعنى «ثم» في قوله ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ استبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها وعدم مناسبته له، لأنه تعالى لما وعد موسى حضور الميقات لإنزال التوراة عليه بحضرة السبعين تنبيها للحاضرين وتعريفا للغائبين وإظهارا لدرجة موسى وسائر بني إسرائيل، وأتوا عقيب ذلك بأشنع أنواع الجهل والكفر، كان ذلك في محل التبعيد والتعجيب كما تقول: إنني أحسنت إليك وفعلت كذا وكذا ثم إنك تقصدني بالسوء والإيذاء. والاتخاذ افتعال من الأخذ إلا أنه أدغم بعد تليين الهمزة وإبدال التاء، ثم لما كثر استعماله على لفظ الافتعال توهموا أن التاء أصلية فبنوا منه «فعل» «يفعل» وقالوا: يخذ يتخذ، وقد أجرى اتخذ مجرى الأفعال القلبية في الدخول على المبتدأ والخبر نحو «جعل» و «صير» والتقدير: اتخذتم العجل إلها إلا أنه حذف الثاني للعلم به ولذكره في مواضع أخر منها في طه فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى [طه: 88] وقوله من بعده من بعد مضيه إلى الطور. قال أهل السير: لما ذهب موسى إلى الطور وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحلي التي استعاروها من القبط، قال لهم هارون: إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم فأحرقوها، فجمعوا نارا وأحرقوها. وكان السامري في مسيره مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 موسى عليه السلام في البحر نظر إلى حافر دابة جبريل حين تقدّم في البحر، فقبض قبضة من تراب حافر تلك الدابة. ثم إن السامري أخذ ما كان معه من الذهب وصوّر منه عجلا وألقى فيه ذلك التراب فخرج منه صوت كأنه الخوار فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى [طه: 88] فاتخذه إلها لأنفسهم، ولهذا وصفهم الله تعالى بالظلم في قوله وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ كما قال إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] وذلك أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والمشرك وضع أخس الأشياء مكان أشرف الموجودات. والواو في وَأَنْتُمْ إما للحال وإما للاعتراض أي وأنتم قوم من عادتكم الظلم، وقال أهل التحقيق: إن لكل قوم عجلا يعبدونه. قال صلى الله عليه وسلم «تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة» «1» وقال «ما عبد إله أبغض إلى الله من الهوى» وفيه تقريع لليهود الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعادوه كأنه قال: هؤلاء إنما يفتخرون بأسلافهم، ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة والجهالة والعناد إلى هذا الحد، فكيف بهؤلاء الأخلاف؟ وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يشاهد من مشركي العرب واليهود والنصارى من الخلاف والمشاقة فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] وتحذير للعقلاء من الجهل والتقليد إلى هذه الغاية. ما أفظع شأن الجهلة المقلدة، رضوا بأن يكون العجل إلها، وما رضوا بأن يكون البشر نبيا وقد تمعل بعضهم لتصحيح واقعة عبدة العجل حيث استبعد وقوعها منهم مع أنهم شاهدوا تلك المعجزات الباهرة التي تكاد تكون قريبة من حد الإلجاء في الدلالة على الصانع وصدق النبي صلى الله عليه وسلم. إن السامري ألقى إلى القوم أن موسى صلى الله عليه وسلم إنما قدر على ما أتى به لأنه كان يتخذ طلسمات على قوى فلكية فقال للقوم: أنا أتخذ لكم طلسما مثل طلسمه، وروّج عليهم ذلك بأن جعله بحيث خرج منه صوت عجيب، وأطمعهم في صيرورتهم مثل موسى في إتيان الخوارق، أو لعل القوم كانوا مجسمة وحلولية فجوزوا حلول الإله في الأجسام فوقعوا في تلك الشبهة الركيكة، وهاهنا يظهر التفاوت بين أمة موسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم بعد مشاهدة الآيات العظام القريبة من الأفهام عبدوا الأصنام بل الأنعام، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم مع أن معجزتهم القرآن الذي لا يعرف إعجازه إلا بالنظر الدقيق والبحث العميق لم يخالفوا نبيهم طرفة عين رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور: 37] لا يزيغون عن سواء السبيل ولا يميلون إلى معتقدات أهل الأباطيل مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ [الفتح: 29] .   (1) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 70. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 قوله: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ أي حين تبتم بأن قتلتم أنفسكم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الأمر العظيم الذي ارتكبتموه من اتخاذ العجل لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة العفو. ومعنى الترجي في كلام الله تعالى قد مر في قوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ يعني الجامع بين كونه كتابا منزلا وفرقانا يفرق بين الحق والباطل يعني التوراة نحو: رأيت الغيث والليث، يريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة. أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان العصا واليد وغيرهما من الآيات، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام. وقيل: الفرقان انفراق البحر، ولا يلزم التكرار لأنه لم يبين هناك أن ذلك لأجل موسى وفي هذه الآية بين ذلك التخصيص على سبيل التنصيص. وقيل: النصر الذي فرق بينه وبين عدوه كقوله تعالى يَوْمَ الْفُرْقانِ [الأنفال: 41] يعني يوم بدر. وقيل: آتينا موسى التوراة ومحمدا الفرقان لكي تهتدوا به يا أهل الكتاب وفيه تعسف. [سورة البقرة (2) : الآيات 54 الى 57] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) القراآت: بارِئِكُمْ بالإمالة: قتيبة ونصير وأبو عمرو من طريق أبي الزعراء، وعبد الرحمن بن عبدوس. وقرأ أبو عمرو بالاختلاس إِنَّهُ هُوَ مدغما: أبو عمرو غير عباس، وكذلك كل ما كان بينهما ياء أو واو ملفوظة مثل مِنْ دُونِهِ هُوَ وإِنَّهُ هُوَ وأشباه ذلك. حَتَّى حيث كان بالإمالة: نصير والعجلي نَرَى اللَّهَ مكسورة الراء: روى ابن رومي عن عباس وأبو شعيب عن اليزيدي، وكذلك كل راء بعدها ياء استقبلها ألف ولام مثل وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ جَهْرَةً مفتوحة الهاء: قتيبة السَّلْوى بالإمالة الشديدة: حمزة وعلي وخلف. وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة وكذلك كل كلمة على مثال «فعلى» . الوقوف: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (ط) عِنْدَ بارِئِكُمْ (ط) لأن التقدير ففعلتم فَتابَ عَلَيْكُمْ (ط) الرَّحِيمُ (هـ) تَنْظُرُونَ (هـ) تَشْكُرُونَ (هـ) السَّلْوى (ط) ما رَزَقْناكُمْ (ط) يَظْلِمُونَ هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 التفسير: إنه سبحان نبههم على عظم ذنبهم ثم على ما به يتخلصون منه، وذلك من أعظم النعم في الدين وأيضا لما أمرهم بالقتل ورفع ذلك الأمر عنهم قبل فنائهم بالكلية، كان ذلك نعمة في حق أولئك الباقين وفي أعقابهم إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم، وأيضا لما بين أن توبة أولئك ما تمت إلا بالقتل، ظهر أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لهم نعمة ورحمة لأنه لا يأمرهم بشيء من ذلك متى رجعوا عن كفرهم. وفيه ترغيب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في التوبة، فإن أمة موسى لما رغبوا في تلك التوبة مع نهاية مشقتها على النفس فلأن يرغب أحدنا في مجرد الندم كان أولى. هذا وقد مر أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه إلا أنه لا بد فيه من تعدي ضرر، فبين هاهنا أن الضرر إنما يعود على أنفسهم فبذلك استحقوا العذاب الأبدي. والفرق بين الفاءات الثلاثة في الآية، أن الأولى للتسبيب لا غير لأن الظلم سبب التوبة. والثانية للتعقيب إما لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم على أن التوبة مفسرة بقتل النفس في شرعهم لا بالندم، وإما لأن القتل تمام توبة المرتد في شرعهم، والمعنى فتوبوا فاتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم كما أن القاتل عمدا لا تتم توبته في شرعنا إلا بتسليم النفس حتى يرضى أولياء المقتول أو يقتلونه. ومعنى إِلى بارِئِكُمْ النهي عن الرياء في التوبة كأنه قيل: لو أظهرتم التوبة لا عن القلب فأنتم ما تبتم إلى الله وإنما تبتم إلى الناس. وقوله ذلِكُمْ أي القتل خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ جملة معترضة تفيد التنبيه على أن ضرر الدنيا أهون من عذاب الآخرة إذ لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي. والموت لا بد واقع فليس في تحمل القتل إلا التقديم والتأخير. والثالثة هي الفاء الفصيحة أي المفصحة عن محذوف تقديره: فامتثلتم فتاب عليكم. وعلى هذا يكون الكلام خطابا من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات، ويمكن أن يقال: المحذوف شرط منتظم في جملة قول موسى كأنه قال فإن فعلتم فقد تاب عليكم، وإنما اختص هذا الموضع بذكر البارئ لأن معناه كما مر في الأسماء الذين خلق الخلق على الوجوه الموافقة للمصالح والأغراض، ففيه تقريع لما كان منهم من ترك عبادة العليم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال المختلفة برآء من التنافر مناسبة للحكم والمقاصد إلى عبادة العجل الذي هو مثل في البلادة والغباوة، فلا جرم كان جزاؤهم تفكيك ما ركب من خلقهم وتبديل. من أشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها باتخاذ من لا يقدر على شيء منها. والمراد بقتل الأنفس إما ما يقتضيه ظاهر اللفظ وهو أن يقتل كل واحد نفسه، والقتل اسم للفعل المؤدي إلى زهوق الروح في الحال أو في المآل. وإما قتل بعضهم بعضا وعليه المفسرون لقوله تعالى وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] فَسَلِّمُوا عَلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 أَنْفُسِكُمْ [النور: 61] وذلك أن المؤمنين كنفس واحدة. ثم اختلفوا فقيل: إنه أمر من لم يعبد العجل من السبعين المختارين لحضور الميقات أن يقتل من عبد العجل منهم. وقيل: لما أمرهم موسى عليه السلام بالقتل أجابوا فأخذ عليهم المواثيق ليصبرن على القتل فأصبحوا مجتمعين كل قبيلة على حدة، وأتاهم هارون بالاثني عشر ألفا الذين ما عبدوا العجل وبأيديهم السيوف فقال: إن هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين للسيوف فاجلسوا بأفنية بيوتكم واتقوا الله واصبروا، فلعن الله رجلا قام من مجلسه أو مد طرفه إليهم أو اتقاهم بيد أو رجل ويقولون آمين. روي أن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه فلم يمكنه المضي لأمر الله، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها، فجعلوا يقتلونهم إلى المساء. وقام موسى وهارون يدعوان الله ويقولان: هلكت بنو إسرائيل، البقية البقية يا الهنا. فكشفت الضبابة والسحابة، وأوحى الله تعالى إليه: قد غفرت لمن قتل، وتبت على من لم يقتل. قالوا: وكانت القتلى سبعين ألفا. وقيل: كانوا قسمين: منهم من عبد العجل، ومنهم من لم يعبد. ولكن لم ينكر على من عبده فأمر من لم يشتغل بالإنكار بقتل من اشتغل بالعبادة. والقائلون بأن العجل عجل الهوى قالوا: معنى قتل الأنفس هو قمع الهوى لأن الهوى حياة النفس. قوله: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الواقعة كانت قبل أن كلف الله عبدة العجل بالقتل. قال محمد بن إسحق: لما رجع موسى عليه السلام من الطور إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه والسامري ما قال وأحرق العجل ونسفه في اليم، اختار سبعين رجلا من خيارهم. فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى: سل ربك حتى نسمع كلامه. فسأل موسى ذلك فأجابه الله إليه، فلما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله، ودنا موسى عليه السلام من ذلك الغمام حتى دخل فيه فقال للقوم: ادخلوا وعوا. وكان موسى متى كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني إسرائيل النظر إليه. وسمع القوم كلام الله مع موسى يقول له: افعل ولا تفعل. ومن جملة الكلام «إني أنا الله لا إله إلا أنا ذو بكة، أخرجتكم من أرض مصر فاعبدوني ولا تعبدوا غيري» . فلما تم الكلام انكشف عن موسى الغمام الذي دخل فيه فقال القوم بعد ذلك لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ أي لن نصدقك ولن نقر بنبوتك حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً عيانا، وهي مصدر قولك جهر بالقراءة والدعاء، كأن الذي يرى بالعين يجاهر بالرؤية، والذي يرى بالقلب يخافت بها. وانتصابها على نحو انتصاب «قعد القرفصاء» لأن هذه نوع من الرؤية كما أن تلك نوع من القعود، ويحتمل أن يكون نصبها على الحال بمعنى ذوي جهرة. ومن قرأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 جَهْرَةً بفتح الهاء فإما لأنه مصدر كالغلبة، وإما لأنه جمع جاهر. وإنما أكدوا بهذا لئلا يتوهم أن المراد بالرؤية العلم أو التخيل على ما يراه النائم فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وهي ما صعقهم أي أماتهم. فقيل: نار وقعت من السماء فأحرقتهم، وقيل: صيحة جاءت من السماء، وقيل: أرسل الله جنودا سمعوا بحسها فخروا صعقين ميتين يوما وليلة. وصعقة موسى في قوله وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً [الأعراف: 143] لم تكن موتا ولكن غشية بدليل فَلَمَّا أَفاقَ [الأعراف: 143] والظاهر أنه أصابهم ما ينظرون إليه لقوله وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ فرفع موسى يديه إلى السماء يدعو ويقول: إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلا ليكونوا شهودي بقبول توبتهم فأرجع إليهم وليس معي أحد، فما الذي يقولون فيّ؟ فلم يزل يدعو حتى رد الله إليهم أرواحهم وذلك قولهم ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة البعث بعد الموت، أو نعمة الله بعد ما كفرتموها فطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم. وقيل: إن هذه الواقعة كانت بعد القتل. قال السدي: لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم، أمر الله أن يأتيه موسى في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادتهم العجل، فاختار موسى سبعين رجلا. فلما أتوا الطور قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وماتوا، فقام موسى يبكي ويقول: يا رب، ماذا أقول لبني إسرائيل فإني أمرتهم بالقتل ثم اخترت من بينهم هؤلاء، فإذا رجعت إليهم ولا يكون معي أحد منهم فماذا أقول لهم؟ فأوحى الله إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل إلها. فقال موسى: إن هي إلا فتنتك. فأحياهم الله تعالى فقاموا ونظر كل واحد إلى الآخر كيف يحييه الله تعالى. فقالوا: يا موسى إنك لا تسأل الله شيئا، إلا أعطاك، فادعه يجعلنا أنبياء. فدعا بذلك فأجاب الله دعوته. هذا ما قاله المفسرون، وليس في الآية ما يدل على ترجيح أحد القولين على الآخر، ولا على أن الذين سألوا الرؤية عبدة العجل أم لا، والصحيح أن موسى لم يكن من جملة الصعقين في هذه الواقعة لأنه خطاب مشافهة، ولأنه لو تناوله لوجب تخصيصه بقوله في حق موسى فَلَمَّا أَفاقَ [الأعراف: 143] مع أن لفظة «الإفاقة» لا تستعمل في الموت. ثم في الآية فوائد منها: التحذير لمن كان في زمان نبينا صلى الله عليه وسلم عن فعل ما يستحق بسببه أن يفعل به ما فعل بأولئك. ومنها تشبيه جحودهم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم بجحود أسلافهم نبوة موسى عليه السلام مع مشاهدتهم لعظم تلك الآيات ليتنبهوا أنه إنما لا يظهر على النبي صلى الله عليه وسلم مثلها لعلمه بأنه لو أظهرها لجحدوها، ولو جحدوها لاستحقوا العقاب كما استحقه أسلافهم. ومنها التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت فؤاده كي يصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ومنها إزالة شبهة من يقول إن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لو صحت لكان أولى الناس بالإيمان به أهل الكتاب، حيث إنهم عرفوا خبره، وذلك أنه تعالى بيّن أن أسلافهم بعد مشاهدة تلك الآيات كانوا يرتدون كل وقت ويتحكمون عليه، فكيف يتعجب من مخالفتهم محمدا صلى الله عليه وسلم وإن وجدوا في كتبهم أخبار نبوته صلى الله عليه وسلم. ومنها لما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه القصة مع كونه أميا، تبين أن ذلك من الوحي. بقي هاهنا بحث وهو أن المعتزلة استدلوا بالآية على امتناع رؤية الله تعالى لأنها لو كانت أمرا جائز الوقوع لم تنزل بهم العقوبة كما لم تنزل بهم حين التمسوا النقل من قوت إلى قوت في قولهم لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [البقرة: 61] . وأجيب بأن امتناع رؤيته في الدنيا لا يستلزم امتناع رؤيته في الآخرة الذي هو محل النزاع، فعل رؤيته تقتضي زوال التكليف عن العبد والدنيا مقام التكليف، وأيضا اقتراح دليل زائد على صدق المدعي بعد ثبوته تعنت. وأيضا لا يمتنع أن الله تعالى علم أن فيه مفسدة كما علم في إنزال الكتاب من السماء يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] فلهذا جاز الاستنكار لأن مطالبة الرؤية جهرة مطالعة الذات غفلة، وفيه من سوء الأدب وترك الحرمة ما لا يستحسنه قضية العزة والحشمة. قوله تعالى وَظَلَّلْنا أي جعلنا الغمام يظلكم وذلك في التيه كما سيجيء في المائدة، سخر الله لهم السحاب فيسير بسيرهم يظلهم من الشمس والظل ضوء ثان، وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه، وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله كما كان لآدم قبل الزلة، وينزل عليهم المن وهو الترنجبين مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، لكل إنسان صاع لا أزيد، ويبعث الله الجنوب فتحشر عليهم السلوى وهي السماني، فيذبح الرجل منها ما يكفيه لا أزيد. مجاهد: المن صمغ حلو. وهب: هو الخبز السميذ. الزجاج: هو ما منّ الله تعالى به عليهم، وهذا كما يروى مرفوعا «الكمأة من المن وفيها شفاء للعين» وقيل: السلوى العسل. وقيل: طائر أحمر كُلُوا على إرادة القول أي وقلنا لهم كلوا مِنْ طَيِّباتِ من حلالات ما رَزَقْناكُمْ وهذا للإباحة. وَما ظَلَمُونا يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم فجعلوا موضع الشكر كفرا، وما ظلمونا فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وما ظلمونا عليه وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ لأن وبال الظلم عائد عليهم لا إلى غيرهم ولا إلى الله تعالى. وإنما قال هاهنا وفي الأعراف والتوبة والروم بزيادة لفظة «كانوا» لأنها إخبار عن قوم ماتوا وانقرضوا بخلاف قوله في آل عمران لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران: 117] لأنه مثل، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 [سورة البقرة (2) : الآيات 58 الى 59] وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) القراآت: يغفر لكم بضم الياء التحتانية وفتح الفاء: أبو جعفر ونافع وجبلة. تغفر لكم بضم التاء الفوقانية وفتح الفاء: ابن عامر وأبو زيد عن المفضل. الباقون تغفر بالنون وكسر الفاء يغفر لكم مدغما كل القرآن: أبو عمرو. خَطاياكُمْ وبابه بالإمالة: علي قَوْلًا غَيْرَ بالإخفاء: يزيد وأبو نشيط عن قالون، وكذلك يخفيان النون والتنوين عند الخاء والغين سواء وسط الكلمة أو أولها. الوقوف: خَطاياكُمْ (ط) الْمُحْسِنِينَ (هـ) يَفْسُقُونَ (هـ) . التفسير: القرية مجتمع الناس من قرأت الماء في الحوض أي جمعت. وبهذا الاعتبار كثيرا ما تطلق القرية على البلدة، والجمع القرى على غير قياس. وإنما قياسه من المعتل اللام «فعال» نحو: ركوة وركاء، وظبية وظباء، والنسبة إليها قروي. وهو على القياس عند يونس حيث قال: ظبوي في النسبة إلى ظبية، وعلى خلاف القياس عند الخليل وسيبويه حيث يقولان: ظبي على مثال الصحيح. والقرية بيت المقدس، وقيل: أريحا من قرى الشام. أمروا بدخولها بعد التيه. والباب باب القرية، وقيل: باب القبة التي كانوا يصلون إليها وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى، أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب تواضعا وشكرا لله تعالى. وقيل: السجود أن ينحنوا ويتطامنوا داخلين ليكون دخولهم بإخبات وخشوع. وقيل: طؤطىء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فلم يخفضوا ودخلوا متزحفين على أوراكهم من الزحف وهو المشي على الأوراك. وحِطَّةٌ فعلة من الحط كالجلسة خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة، أو أمرك وأصله النصب معناه: اللهم حط عنا ذنوبنا حطة، فرفعت لإفادة الثبوت كقوله: شكا إليّ جملي طول السرى ... يا جملي ليس إليّ المشتكى صبر جميل فكلانا مبتلى الأصل صبرا أي أصبر صبرا. كان القوم أمروا أن يدخلوا الباب على وجه الخضوع، وأن يذكروا بلسانهم التماس حط الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب وخضوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الجوارح والاستغفار باللسان، وذلك أن التوبة صفة القلب فلا يطلع الغير عليها، فإذا اشتهر واحد بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب، لا لأن التوبة لا تتم إلا به إذا الأخرس تصح توبته وإن لم يوجد منه الكلام، بل لأجل تعريف الغير عدوله عن الذنب إلى التوبة ولإزالة التهمة عن نفسه، وكذا من عرف بمذهب خطأ ثم تبين له الحق، فإنه يلزمه أن يعرّف إخوانه الذين عرفوه بالخطأ عدوله عنه لتزول التهمة عنه في الثبات على الباطل، وليعودوا إلى موالاته بعد معاداته ويحسنوا الظن به. وعن أبي مسلم الأصفهاني: أن معناه أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها. وأصل الغفر الستر والتغطية. ومعنى القراآت في نَغْفِرْ لَكُمْ واحد، لأن الخطيئة إذا غفرها الله تعالى فقد غفرت، وإذا غفرت فإنما يغفرها الله. والفعل إذا تقدم الاسم المؤنث وحال بينه وبين الفاعل حائل جاز التذكير والتأنيث. والخطء الذنب قال تعالى إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً [الإسراء: 31] تقول منه خطىء يخطأ خطأ وخطأة على فعلة. والاسم الخطيئة على «فعلية» وجمعها خطايا وأصله خطايء بياء ثم همز، أبدلت الهمزة ألفا فانفتحت الياء لأجلها. وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ المفعول الثاني محذوف للعلم به ولمكان الفاصلة أي سنزيدهم إحسانا أو ثوابا أو سعة، وذلك أن المراد من المحسنين إما من هو محسن بالطاعة في هذا التكليف، وإما من هو محسن بطاعات أخرى في سائر التكاليف. وعلى الأول فالزيادة الموجودة إما منفعة دنيوية، فالمعنى أن المحسن بهذه الطاعة نزيده سعة في الدنيا ونفتح عليه قرى غير هذه القرية، وإما منفعة دينية أي المحسن بهذا نزيده على غفران الذنوب ثوابا جزيلا. وعلى الثاني فالمعنى أنّا نجعل دخولكم الباب سجدا وقولكم حِطَّةٌ مؤثرا في غفران الذنوب، ثم إن أتيتم بعد ذلك بطاعات أخرى زدناكم ثوابا. ويحتمل أن يكون المراد أنهم صنفان: فمن مخطئ تصير الكلمة سببا لغفرانه، ومن محسن تصير سببا لزيادة ثوابه قوله تعالى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قال أبو البقاء: التقدير فبدلوا بالذي قيل لهم قولا غير الذي قيل لهم. يتعدى إلى مفعولين: واحد بنفسه والآخر بالباء. والذي مع الباء يكون هو المتروك، والذي بغير باء هو الموجود. ويجوز أن يكون «بدل» بمعنى «قال» ، لأن تبديل القول يكون بقول. والمعنى أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ولم يمتثلوا أمر الله. وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ معين وهو لفظ حطة فجاءوا بلفظ آخر، لأنهم لو جاءوا بلفظ آخر مستقل بمعنى ما أمروا به لم يأخذوا به، كما لو قالوا مكان حطة نستغفرك ونتوب إليك، أو اللهم اعف عنا ونحو ذلك. وقيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 قالوا مكان حطة حنطة. وقيل: قالوا بالنبطية والنبط قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين حطا سمقاثا أي حنطة حمراء استهزاء منهم بما قيل لهم، وعدولا عن طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم، فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا: حبة في شعرة» «1» وفي تكرير الَّذِينَ ظَلَمُوا ووضع المظهر موضع المضمر، زيادة في تقبيح أمرهم وإيذان بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم، وهو أن وضعوا غير ما أمروا به مكان ما أمروا به. والرجز العذاب. عن ابن عباس: مات بالفجأة منهم أربعة وعشرون ألفا في ساعة واحدة. وقال ابن زيد: بعث الله عليهم الطاعون حتى مات من الغداة إلى العشي عشرون ألفا. وقيل: سبعون ألفا. ومعنى مِنَ السَّماءِ يحتمل أن يكون شيئا نازلا من جهة العلو كريح ونحوه، ويحتمل أن يراد من قبل الأمر النازل من عند الله تفظيعا لشأن العذاب. والفسق هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته بارتكاب الكبيرة، فالمراد بِما كانُوا يَفْسُقُونَ إما الظلم المذكور وفائدة التكرار التأكيد، وإما أن يراد أنهم استحقوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل. ونزول الرجز عليهم من السماء بالفسق الذي كانوا يفعلون قبل ذلك التبديل مستمرا إلى أوان هذا الظلم، وهذا أظهر لزوال التكرير، ولأن لفظة «كانوا» تنبىء عن خصلة مستمرة، والخصلة الواحدة المعينة لا يتصور فيها الاستمرار. فلو كان المراد ذلك لقيل بما فسقوا. وربما احتج أصحاب الشافعي بقوله تعالى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنه لا يجوز تحريم الصلاة بلفظ التحميد والتعظيم والتسبيح، ولا تجوز القراءة بالفارسية، وكذا لا يجوز تبديل ما ورد به التوقيف من الأذكار بغيرها. وأجيب بأنهم إنما استحقوا الذم لتبديلهم القول إلى قول آخر يضاد معناه معنى الأول، فلا جرم استوجبوا الذم. فأما من غير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك. ورد بأن ظاهر الآية يتناول كل من بدل قولا بقول آخر سواء اتفق القولان في المعنى أم لم يتفقا. (أسئلة) لم قال في «البقرة» وَإِذْ قُلْنَا وفي «الأعراف» وَإِذْ قِيلَ لأنه صرح بالقائل في أول القرآن إزالة للإبهام، ولأن الكلام مرتب على قوله اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ وفي «الأعراف»   (1) رواه مسلم في كتاب التفسير حديث 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 لم يبق الإبهام. ولم قال هاهنا ادْخُلُوا وهناك اسْكُنُوا؟ لأن الدخول مقدم على السكون، «والبقرة» مقدمة في الذكر على «الأعراف» . ولم قال في «البقرة» فَكُلُوا وفي «الأعراف» وَكُلُوا بالواو؟ لما بينا في قوله وَكُلا مِنْها رَغَداً. ولم قال في «البقرة» خَطاياكُمْ وفي «الأعراف» خَطِيئاتِكُمْ؟ لأن الخطايا جمع الكثرة، والخطيئات جمع السلامة للقلة، وقد أضاف القول هاهنا إلى نفسه فكان اللائق بكرمه غفران الذنوب الكثيرة، وهناك لم يذكر الفاعل فلم يكن ذكر اللفظ الدال على الكثرة واجبا. ولمثل هذا الجواب ذكر هاهنا رَغَداً ليدل على الإنعام الأتم، ولم يذكر في «الأعراف» ، ولم قال هاهنا وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ وفي «الأعراف» بالعكس؟ لأن الواو للجمع المطلق، ولأن المخاطبين صنفان: محسن ومذنب. واللائق بالمحسن تقدم العبادة والخضوع، ثم ذكر التوبة على سبيل هضم النفس وإزالة العجب. واللائق بالمسيء عكس ذلك، ولأنه ذكر في هذه السورة ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فقدم كيفية الدخول. ولم قال في «البقرة» وَسَنَزِيدُ وفي «الأعراف» سَنَزِيدُ؟ لأنه في «الأعراف» ذكر أمرين: قول الحطة وهو إشارة إلى التوبة، ودخول الباب وهو إشارة إلى العبادة. ثم ذكر جزاءين أحدهما الغفران والآخر الزيادة، فترك الواو ليفيد توزيع الجزاءين على الشرطين. وفي «البقرة» وقع مجموع المغفرة والزيادة جزاء لمجموع الفعلين، أعني دخول الباب وقول الحطة، فاحتيج إلى الواو وأيضا الاتصال اللفظي حاصل في هذه السورة بين قوله وَإِذْ قُلْنَا وبين قوله وَسَنَزِيدُ بخلاف «الأعراف» لأن اللائق به في الظاهر سيزاد، فحذف الواو ليكون استئنافا للكلام. وما الفائدة في زيادة كلمة مِنْهُمْ في الأعراف؟ لأن أول القصة مبني على التخصيص وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف: 159] فذكر أن منهم من يفعل ذلك، ثم عدد صنوف إنعامه وأوامره عليهم، فلما انتهت القصة قال فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فهناك ذكر أمة عادلة وأمة جائرة فصار آخر الكلام مطابقا لأوله، وأما في البقرة فلم يذكر في أول الآيات تمييزا وتخصيصا حتى يلزم في اخر القصة مثل ذلك. لم قال في «البقرة» فَأَنْزَلْنا وفي «الأعراف» فَأَرْسَلْنا لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية، وذلك إنما يحدث بالآخرة. وقيل: لأن لفظ الإرسال في «الأعراف» أكثر فروعي التناسب. لم قال في «البقرة» بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وفي «الأعراف» يَظْلِمُونَ لأنه لما بين في البقرة كون الظلم فسقا اكتفى بذلك البيان في «الأعراف» . وأيضا إنهم ظلموا أنفسهم وخرجوا عن طاعة الله تعالى، فوصفهم بالأمرين في موضعين والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 [سورة البقرة (2) : الآيات 60 الى 61] وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) القراآت: عامة القراء اثْنَتا عَشْرَةَ بسكون الشين للتخفيف عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ بضم الهاء والميم: حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب، وكذلك كل ما كان قبل الهاء ياء ساكنة، وافق سهل إذا كانت قبل الياء فتحة فقط. وقرأ أبو عمرو بكسر الهاء والميم، الباقون بكسر الهاء وضم الميم. النَّبِيِّينَ وبابه بالهمزة: نافع إلا في موضعين في الأحزاب إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ [الأحزاب: 5] وبُيُوتَ النَّبِيِّ [الأحزاب: 53] إلا فروي إسماعيل وقالون عنه بغير همزة. الوقوف: الْحَجَرَ (ط) الحق المحذوف أي فضرب فانفجرت عَيْناً (ط) مَشْرَبَهُمْ (ط) مُفْسِدِينَ (هـ) وَبَصَلِها (ط) هُوَ خَيْرٌ (ط) سَأَلْتُمْ (ط) لأن قوله وَضُرِبَتْ ابتداء إخبار عما يؤل إليه حالهم مِنَ اللَّهِ (ط) بِغَيْرِ الْحَقِّ (ط) يَعْتَدُونَ (هـ) . التفسير: جمهور المفسرين سوى أبي مسلم، على أن هذا الاستسقاء كان في التيه، عطشوا فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له اضرب بعصاك الحجر، أما العصا فقال الحسن: كانت عصا أخذها من بعض الأشجار. وقيل: كانت من الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى ولها شعبتان تتقدان في الظلمة. وأما الحجر فاللام إما للعهد والإشارة إلى حجر معلوم، فقد روي أنه حجر طوري حمله معه وكان حجرا مربعا له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاثة أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمر أن يسقيهم وكانوا ستمائة ألف، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا وقيل: أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا. وقيل: هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل ورماه بنو إسرائيل بالأدرة ففرّ به، فقال له جبريل: يقول الله تعالى: ارفع هذا الحجر فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاته. وإما للجنس أي اضرب الشيء الذي يقال له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الحجر. وعن الحسن: لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه قال: وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة. ثم إنهم قالوا: كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة؟ فحمل حجرا في مخلاته فحيثما نزلوا ألقاه، وأما الصنف والشكل فقيل: كان من رخام وكان ذراعا في ذراع. وقيل: مثل رأس الإنسان. وقيل: له أربعة أوجه كما مر، وهذا إذا لم يعتبر الفوقاني ومقابله. وأما الضرب فقيل: كان يضربه بعصاه فينفجر ويضربه بها فييبس فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشا، فأوحى الله تعالى إليه: لا تقرع الحجارة وكلمها تطعك لعلهم يعتبرون. والفاء في قوله فَانْفَجَرَتْ فاء فصيحة كما سبق في فَتابَ عَلَيْكُمْ [البقرة: 54] وفي هذا الحذف دلالة على أن موسى لم يتوقف عن اتباع الأمر، وأنه من انتفاء الشك عنه بحيث لا حاجة إلى الإفصاح به. والانفجار والانبجاس واحد ومعناه خروج الماء بسعة وكثرة. وأصل الفجر الشق ومنه الفاجر لأنه يشق عصا المسلمين بمخالفتهم. وقيل: الانبجاس خروج الماء قليلا، ووجه بأن الفجر في الأصل هو الشق، والبجس الشق الضيق فلا يتناقضان كما لا يتناقض المطلق والمقيد والعام والخاص، أو لعله انبجس أوّلا ثم انفجر ثانيا وكذا العيون تظهر الماء قليلا ثم يكثر لدوام خروجه، أو لعل حاجتهم تشتد تارة فينفجر وتضعف أخرى فينبجس. قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ أي كل سبط مَشْرَبَهُمْ كأنه أمر كل سبط أن لا يشرب إلا من جدول معين حسما لمادة التشاجر، فإن العادة في الرهط الواحد أن لا يقع بينهم من التنازع مثل ما يقع بين المختلفين. وهذا أيضا من تمام النعمة عليهم، وإنما فقد العاطف لأن قوله قَدْ عَلِمَ بيان وتفصيل لما أجمل في قوله اثْنَتا عَشْرَةَ كأنه قيل: هذا المجموع مشاع بينهم أو مقسوم فقيل قد علم كُلُوا على إرادة القول أي وقلنا أي قال لهم موسى كلوا من المن والسلوى الذي رزقناكم بلا تعب ولا نصب، واشربوا من هذا الماء. وقيل: إن الأغذية لا تنبت إلا بالماء، فلما أعطاهم الماء فكأنما أعطاهم المأكول والمشروب. والعثو أشد الفساد، ومُفْسِدِينَ قيل: نصب على الحال المؤكدة وهو ضعيف، فإن من شرطها أن تكون مقررة لمضمون جملة اسمية. وقيل: حال منتقلة ومعناه النهي عن التمادي في حالة الإفساد، إما مطلقا أو مقيدا بأنه إن وقع التنازع بسبب ذلك الماء فلا تبالغوا في التنازع. ويرد على هذا القول أن الإفساد منهي عنه مطلقا، وهذا التفسير يقتضي أن يكون المنهي عنه هو التمادي في الإفساد لا نفس الإفساد. والصحيح أن يقال: إن المنصوبات في نحو قوله عز من قائل وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة: 25] وفي نحو قولهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 «تعال جائيا وقم قائما» من الصفات القائمة مقام المصدر نحو «أقاعدا وقد سار الركب» بقي في الآية بحث، وهو أنه كيف يعقل خروج المياه الكثيرة من الحجر الصغير؟ والجواب أما على القول بالفاعل المختار فظاهر فإن له أن يحدث أيّ فعل خارق شاء من غير أن يطلب له سبب وواسطة، وأما عند طالب الأسباب والوسائط فإن العناصر الأربعة لها هيولي مشتركة عندهم. وجوّز وانقلاب صور بعضها إلى بعض، فجاز استمداد الماء الكامن في الحجر من الهواء المجاور له، ومثل هذا ما رواه أنس أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء، فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم. قال قتادة قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة. بل معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم أقوى لأن نبوع الماء من الحجر معهود في الجملة، أما نبوعه من بين الأصابع فغير معتاد، قال أهل الإشارة: الروح الإنساني وصفاته في عالم القالب بمثابة موسى وقومه، وإنه يستسقي ربه لإروائها من ماء الحكمة والمعرفة فيضرب بعصا لا إله إلا الله. ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نورا عند استيلاء ظلمات النفس على حجر القلب فيتفجر اثنتا عشرة عينا من ماء الحكمة بعدد حروف لا إله إلا الله، قد علم كل سبط من أسباط الإنسان وهي خمس حواس ظاهرة، وخمس باطنة مع القلب والنفس مشربهم فيستوي في حظه بحسب مشربه. قوله سبحانه وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى الآية. زعم بعض المفسرين أن هذا السؤال منهم كان معصية، فإن اللائق بحال المكلف الصبر على ما ساقه الله تعالى إليه خصوصا إذا كان نعمة وعفوا وصفوا، ولا سيما إذا كان المسئول أدون وأحقر. ولهذا أنكره موسى عليهم قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ. وقال الآخرون: إنه غير معصية لأن قوله كُلُوا وَاشْرَبُوا عند إنزال المن والسلوى، وانفجار الماء أمر إباحة لا إيجاب. ثم إنهم كانوا أهل فلاحة فرغبوا إلى مألوفهم، ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيسا فوق رغبته فيما لا يعتاد وإن كان شريفا. ولعلهم سئموا من التيه فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد وغرضهم البلاد. وأيضا المواظبة على الطعام الواحد تميت الشهوة وتضعف الهضم، فيصح أن يكون التبديل مطلوبا للعقلاء، ولهذا أجابهم الله تعالى إلى ما سألوا، ولو كان معصية لم يجبهم إلى ذلك، اللهم إلا أن يكون من قبيل وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: 20] وإنما صح إطلاق الطعام الواحد على المن والسلوى، لأنهم أرادوا بالوحدة نفي التبدل والاختلاف، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها ويأكلها كل يوم لا يبدلها. قيل: لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد لأنهما معا من طعام أهل التلذذ والترفه، ونحن أهل زراعة ما نريد إلا ما ألفناه. ومعنى يخرج لنا يوجد ويظهر. والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر كالنعناع والكرفس والكراث وغير ذلك من أطايب البقول التي يأكلها الناس عادة. والقثاء الخيار، والفوم الثوم، ويدل عليه قراءة عبد الله وثومها وهو بالعدس والبصل أوفق. وقال بعضهم: الفوم الحمص لغة شامية، ويقال: هو الحنطة. ومنه قولهم «فوّموا لنا» أي اختبزوا. قال الفراء: هي لغة قديمة الَّذِي هُوَ أَدْنى أي أقرب منزلة وأدون مقدارا كقولهم في ضده «هو بعيد المحل وبعيد الهمة» يعنون الرفعة والعلو اهْبِطُوا مِصْراً أي انحدروا إليه من التيه. يقال: هبط الوادي إذا نزل به، وهبط منه إذا خرج. وبلاد التيه ما بين بيت المقدس إلى قنسرين اثنا عشر فرسخا في ثمانية. ومصر إما مصر فرعون، والتنوين فيه في القراآت المعتبرة مع أن فيه العلمية والتأنيث لسكون وسطه كما في نوح ولوط، وفيهما العلمية والعجمية. وإما مصر من الأمصار كأنه قيل لهم: ادخلوا بلدا أيّ بلد كان لتحدوا فيه هذه الأشياء. ولما ذكر الله سبحانه صنوف نعمه على بني إسرائيل إجمالا ثم تفصيلا، أراد أن يبين مآل حالهم ليكون عبرة للنظار وتبصرة لأولي الأبصار وتحذيرا للإنسان عن الجحود والكفران المستتبعين للخزي والهوان فقال وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أي جعلت محيطة بهم مشتملة عليهم كالقبة المضروبة على الشخص، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلصق به. فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة، إما على الحقيقة وإما لتصاغرهم وتفاقرهم خيفة أن تضاعف عليهم الجزية. وهذا من جملة الأخبار عن الغيب الدال على كون القرآن وحيا نازلا من السماء على محمد صلى الله عليه وسلم. هذا حالهم في الدنيا، وأما حالهم في العقبى فذلك قوله وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ من قولك «باء فلان بفلان» إذا كان حقيقا بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته، أي صاروا أحقاء بغضبه وهو إرادة انتقامه ذلِكَ الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والخلاقة بالغضب، بسبب كفرهم بآيات الله أي القرآن، بل وبالتوراة لأن الكفر به مستلزم للكفر بها، وقتلهم الأنبياء، وقد قتلت اليهود- لعنوا- شعيبا وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق أي من غير ما شبهة عندهم توجب استحقاق القتل. فإن الآتي بالباطل قد يكون اعتقده حقا لشبهة عنت له، وقد يأتي به مع علمه بكونه باطلا. ولا شك أن الثاني أقبح وأدخل في القحة، أو كرر للتأكيد نحو وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون: 117] ومحال أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان. والنبيء بالهمزة «فعيل» بمعنى فاعل من نبأ بالتخفيف أي أخبر لأنه نبأ عن الله تعالى. قال سيبويه: ليس أحد من العرب إلا ويقول تنبأ مسيلمة بالهمز، غير أنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الذرية والبرية والخابية إلا أهل مكة، فإنهم يهمزون هذه الأحرف ولا يهمزون غيرها ويخالفون العرب في ذلك. وقيل: أصله من نبأت من أرض إلى أرض أي خرجت منها إلى أخرى. وهذا المعنى أراد الأعرابي بقوله «يا نبيء الله» أي يا من خرج من مكة إلى المدينة. فأنكر عليه صلى الله عليه وسلم الهمزة. وقيل: النبي بالإدغام من النبوة وهي ما ارتفع من الأرض، أي أنه صلى الله عليه وسلم شرف على سائر الخلق «فعيل» بمعنى «مفعول» ، والجمع أنبياء. وعلى الأول إنما جمع على أنبياء لأن الهمز لما أبدل وألزم الإبدال جمع جمع ما أصل لامه حرف العلة ذلِكَ بِما عَصَوْا تأكيد بتكرير الشيء بغير اللفظ الأول كقول السيد لعبده وقد احتمل منه ذنوبا سلفت منه فعاقبه عند آخرها «هذا بما عصيتني وخالفت أمري. هذا بما تجرأت علي واغتررت بحلمي» ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر والقتل على معنى انهمكوا في العصيان والاعتداء حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود الآيات وقتل الأنبياء، أو تكون الباء بمعنى «مع» أي ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا سائر أنواع المعاصي، واعتدوا حدود الله في كل شيء. وقيل: هو اعتداؤهم في السبت. واعلم أنه سبحانه لما ذكر إنزال العقوبة بهم بين سبب ذلك أولا بما فعلوه في حق الله وهو جهلهم به وجحدهم لنعمه، ثم ثناه بما يتلوه في العظم وهو قتل الأنبياء، ثم ثلثه بما يكون منهم من المعاصي المتعدية إلى الغير مثل الاعتداء والظلم وذلك في نهاية الترتيب. وقيل: الأول إشارة إلى متقدميهم، والثاني إشارة إلى من كان في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنه تعالى بيّن سبب ما نزل بالفريقين من البلاء والمحنة ليظهر للخلائق أن ذلك على قانون العدالة وقضية الحكمة. فإن قيل: لم قيل هاهنا وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وفي «آل عمران» وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران: 21] منكرا؟ قلت: الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل ما في قوله صلى الله عليه وسلم «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق» «1» فالحق المعرف إشارة إلى هذا، وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم، أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره البتة. [سورة البقرة (2) : الآيات 62 الى 66] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)   (1) رواه البخاري في كتاب الديات باب 6. مسلم في كتاب القسامة حديث 25. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15. النسائي في كتاب التحريم باب 5، 11، 14. أحمد في مسنده (1/ 61، 163) . [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 القراآت: النَّصارى بالإمالة: أو عمرو وحمزة وعلي وخلف وورش من طريق النجاري، والخراز عن هبيرة، وكذلك كل راء بعدها ياء. وروى قتيبة بكسر الصاد والراء، وكذلك قوله سُكارى وأُسارى ويُوارِي وفَأُوارِيَ كلها بإمالة ما قبل الألف وَالصَّابِئِينَ بغير همزة: أبو جعفر ونافع وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة. الوقوف: عِنْدَ رَبِّهِمْ (ز) لنوع عدول عن إثبات إلى نفي مع اتفاق الجملتين. ويَحْزَنُونَ (هـ) الطُّورَ (ط) لأن التقدير: قلنا لكم خذوا تَتَّقُونَ (هـ) مِنْ بَعْدِ ذلِكَ (ج) لأن «لولا» للابتداء وقد دخل الفاء فيه الْخاسِرِينَ (هـ) خاسِئِينَ (هـ) (ج) للآية والعطف بالفاء لِلْمُتَّقِينَ (هـ) . التفسير: قد انجرّ الكلام في الآي المتقدمة إلى وعيد أهل الكتاب ومن يقفو آثارهم، فقرن به ما يتضمن الوعد جريا على عادته سبحانه من ذكر الترغيب مع الترهيب فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا. واختلف المفسرون هاهنا لأن قوله في آخر الآية مَنْ آمَنَ. يدل على أن المراد من قوله آمَنُوا شيء آخر، كقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء: 136] . فعن ابن عباس: المراد أن الذين آمنوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بعيسى عليه السلام مع البراءة من أباطيل اليهود والنصارى كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري. كأنه قيل: إن الذين آمنوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، والذين كانوا على الدين الباطل لليهود، والذين كانوا على الدين الباطل للنصارى، كل من آمن بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بالله واليوم الآخر وبمحمد صلى الله عليه وسلم فلهم أجرهم. وعن سفيان الثوري: إن الذين آمنوا باللسان دون القلب وهم المنافقون، والذين تهوّدوا يقال هاد يهود وتهود إذا دخل في اليهودية، والنصارى، والصابئين، كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي، فلهم كذا. وقيل: الذين آمنوا هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم في الحقيقة، وهو عائد إلى الماضي. وكأنه قيل: إن الذين آمنوا في الماضي، واليهود والنصارى والصابئين، كل من آمن منهم وثبت على ذلك في المستقبل واستمر. واشتقاق اليهود قيل من قولهم إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف: 156] أي تبنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ورجعنا. عن ابن عباس: وقيل نسبوا إلى يهودا أكبر ولد يعقوب. وقيل: إنهم يتهودون أي يتحرّكون عند قراءة التوراة. واشتقاق النصارى قبل من ناصرة قرية كان ينزلها عيسى صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج. وقيل: لتناصرهم فيما بينهم أي لنصرة بعضهم بعضا. وقيل: لأن عيسى عليه السلام قال للحواريين من أنصاري إلى الله. واحد النصارى نصران، ومؤنثه نصرانة: والياء في نصراني للمبالغة كالتي في أحمري، والصابئين بالهمزة اشتقاقه من صبأ الرجل يصبأ صبوا إذا خرج من دينه إلى دين آخر. وكانت العرب يسمون النبي صلى الله عليه وسلم صابئا لأنه صلى الله عليه وسلم أظهر دينا على خلاف أديانهم. عن مجاهد والحسن: هم طائفة من اليهود والمجوس لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. وعن قتادة: قوم يعبدون الملائكة ويصلون للشمس كل يوم خمس مرات. وقيل: وهو الأقرب- إنهم قوم يعبدون الكواكب ثم فيهم قولان: الأوّل أن خالق العالم هو الله سبحانه إلا أنه أمر بتعظيم هذه الأجرام واتخاذها قبلة للصلاة والدعاء. والثاني أنه سبحانه خلق الأفلاك والكواكب وفوّض التدبير إليها، فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم، ثم إنها تعبد الله سبحانه. وينسب هذا المذهب الى الكلدانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام، فبين الله تعالى أن هذه الفرق الأربع إذا آمنوا بالله ويدخل فيه الإيمان بكل ما أوجبه كالإيمان برسله وآمنوا باليوم الآخر وبما وعد فيه، فإن أجرهم متيقن جار مجرى الحاصل عند الله تعالى. ومحل مَنْ آمَنَ رفع على أنه مبتدأ خبره فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ والجملة خبر «إن» ، أو نصب على أنه بدل من اسم «أن» . والمعطوفات عليه. وخبر «أن» فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ والفاء لتضمن من أو الذين معنى الشرط. قال أهل البرهان: قدم النصارى على الصابئين لأنهم أهل كتاب، وعكس الترتيب في الحج لأن الصابئين مقدمة على النصارى بالزمان، وراعى في المائدة المعنيين فقدمهم في اللفظ وأخرهم في التقدير، لأن تقديره: والصابئون كذلك. وقوله سبحانه وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ مخاطبة فيها معاتبة لاشتمالها على تذكير النعم وتقدير المنعم. وللمفسرين في هذا الميثاق أقوال: أحدها: أنه ما أودع الله العقول من الدلائل الدالة على وجود الصانع وقدرته وحكمته وعلى صدق أنبيائه ورسله وهو أقوى المواثيق والعهود، لأنه لا يحتمل الخلف والكذب والتبدل بوجه من الوجوه وهو قول الأصم، وثانيها ما روي عن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم أن موسى عليه السلام لما رجع من عند ربه بالألواح، قرأوا ما فيها من الأخبار والتكاليف الشاقة فكبرت عليهم وأبوا قبولها، أمر جبرائيل بقلع الطور من أصله ورفعه فظلله فوقهم وقال لهم موسى: إن قبلتم وإلا ألقي عليكم فحينئذ قبلوا وأعطوا الميثاق. وعن ابن عباس: إن لله ميثاقين الأول، حين أخرجهم من صلب آدم على أنفسهم، والثاني أنه تعالى ألزم الناس متابعة الأنبياء. والمراد هاهنا هو هذا العهد. وإنما قال مِيثاقَكُمْ ولم يقل «مواثيقكم» للعلم بذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 كقوله يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر: 67] أي كل واحد منكم، أو لأن الميثاق بشيء واحد أخذه من كل واحد منهم. ولو قال مواثيقكم لأشبه أن يكون لكل منهم ميثاق آخر. والواو في وَرَفَعْنا إما واو عطف إن جعل الميثاق مقدما على رفع الجبل كما في قول الأصم وابن عباس، وإما واو الحال إن جعل مقارنا للرفع، كأنه قال: وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطور فوقكم والطور. قيل: الجبل مطلقا. وعن ابن عباس: أنه جبل من جبال فلسطين. وقيل: جبل معهود، والأقرب أنه الجبل الذي وقعت المناجاة عليه، وقد يجوز أن ينقله الله تعالى إلى حيث هم فيجعله فوقهم وإن كان بعيدا منهم، فإن القادر على أن يسكن الجبل في الهواء قادر على أن ينقله إليهم من المكان البعيد. خُذُوا على إرادة القول أي وقلنا خذوا ما آتَيْناكُمْ من الكتاب بِقُوَّةٍ بجد وعزيمة غير متكاسلين ولا متثاقلين وقيل: بقوة ربانية وَاذْكُرُوا ما فِيهِ احفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه، وإنما لم يحمل على نفس الذكر لأن الذكر الذي هو ضد النسيان من فعل الله فكيف يجوز الأمر به؟ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ رجاء منكم أن تكونوا متقين، أو قلنا خذوا إرادة أن تتقوا ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ معطوف على محذوف أي فقبلتم والتزمتم ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به. ويمكن أن يقال أخذ الميثاق عبارة عن قبولهم فلا حاجة إلى تقدير مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد القبول والالتزام. قال القفال: قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة، فحرفوا التوراة وتركوا العمل به وقتلوا الأنبياء وكفروا بهم وعصوا أمرهم. ولعل فيها ما اختص به بعضهم دون بعض، ومنها ما عمله أوائلهم ومنها ما فعله متأخروهم ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلا. ونهارا يخالفون موسى ويعترضون عليه ويلقونه بكل أذى، ويجاهرون بالمعاصي في عسكره، حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم وعوقبوا بالطاعون، وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرأونها، ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله، فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب، وجحودهم لحقه صلى الله عليه وسلم وحالهم في كتابهم ونبيهم ما ذكر فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بإمهالكم وتأخير العذاب عنكم لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ أي من الهالكين الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم، ولكنكم خرجتم من هذا الخسران لأن الله تعالى تفضل عليكم بالإمهال حتى تبتم. فإن كلمة «لولا» تدل على امتناع الثاني لوجود الأول، فامتنع الخسران لوجود فضل الله. ويحتمل أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ويكون قوله فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ رجوعا بالكلام إلى أوّله، أي لولا لطف الله بكم برفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الجبل فوقكم لدمتم على ردكم للكتاب، ولكنه تفضل عليكم ورحمكم ولطف بكم بذلك حتى تبتم. قوله عز من قائل وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ اللام للابتداء، ولا تكاد تدخل الماضي بدون قد لأنها ولتأكيد مضمون الجملة الاسمية نحو: لزيد قائم، أو لتأكيد المضارع نحو: ليضرب زيد. لكن قد تقرب الماضي من الحال فيصير الماضي كالمضارع مع تناسب معنى «قد» . ومعنى «اللام» في التحقيق، وعند الكوفيين يقدر القسم قبله. عن ابن عباس: إن هؤلاء القوم كانوا في زمن داود عليه السلام بأيلة على ساحل البحر بين المدينة والشام، وهو مكان من البحر يجتمع إليه الحيتان من كل أوب في شهر من السنة حتى لا يرى الماء لكثرتها، وفي غير ذلك الشهر في كل سبت خاصة، فحفروا حياضا عند البحر وشرعوا إليها الجداول، وكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد. فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم، ثم إنهم أخذوا السمك واستغنوا بذلك وهم خائفون من العقوبة، فلما طال العهد استنت الأبناء سنة الآباء واتخذوا الأموال، فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد في السبت فنهوهم فلم ينتهوا وقالوا: نحن في هذا العمل منذ زمان فما زادنا الله به إلا خيرا. فقيل لهم: لا تغتروا بذلك فربما ينزل بكم العذاب والهلاك. فأصبح القوم وهم قردة خاسئون فمكثوا ثلاثة أيام ثم ماتوا. قال بعضهم: وفي الكلام حذف أي ولقد علمتم اعتداء الذين اعتدوا ليكون المذكور من العقوبة جزاء لذلك. والسبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت والاعتداء فيه، إما نفس الاصطياد لأنهم أمروا فيه بالتجرد للعبادة فجاوزوا ما حد لهم واشتغلوا بالصيد، وإما الاصطياد مع استحلاله. وقوله كُونُوا المراد منه سرعة الإيجاد وإظهار القدرة وإن لم يكن هناك قول إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] قِرَدَةً خاسِئِينَ خبر «إن» أي كونوا جامعين بين القردة، والخسوء وهو الصغار والطرد. عن مجاهد أنه مسخ قلوبهم بمعنى الطبع والختم لا أنه مسخ صورهم وهو مثل قوله كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5] ونظيره أن يقول الأستاذ للمتعلم البليد الذي لا ينجع فيه تعليمه: كن حمارا. واحتج بأن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس، فإذا أبطله وخلق مكانه تركيب القرد رجع حاصل المسخ إلى إعدام الأعراض التي باعتبارها كان ذلك الجسم إنسانا، وإيجاد أعراض أخر باعتبارها صار قردا. وأيضا لو جوزنا ذلك لم نأمن في كل ما نراه قردا وكلبا أنه كان إنسانا عاقلا وذلك شك في المشاهدات. وأجيب بأن الإنسان ليس هذا الهيكل لتبدله بالسمن والهزال فهو أمر وراء ذلك، إما جسماني سار في جميع البدن، أو جزء في جانب من البدن كقلب أو دماغ، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 مجرد كما يقوله الفلاسفة. وعلى التقادير فلا امتناع في بقاء ذلك الشيء مع تطرق التغير إلى هذا الهيكل وهذا هو المسخ، وبهذا التأويل يجوز في الملك الذي تكون جثته في غاية العظم أن يدخل حجرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولأنه لم يتغير منهم إلا الخلقة والصورة والعقل، والفهم باق فإنهم يعرفون ما نالهم بشؤم المعصية من تغير الخلقة وتشوّه الصورة وعدم القدرة على النطق وسائر الخواص الإنسانية، فيتألمون بذلك ويتعذبون، ثم أولئك القرود بقوا أو أفناهم الله، وإن بقوا فهذه القرود التي في زماننا من نسلهم أم لا، الكل جائز عقلا إلا أن الرواية عن ابن عباس أنهم ما مكثوا إلا ثلاثة أيام ثم هلكوا فَجَعَلْناها أي المسخة أو القردة أو قرية أصحاب السبت أو هذه الأمة نَكالًا عقوبة شديدة رادعة عن الإقدام على المعصية. والنكول عن اليمين الامتناع عنها. ولم يقصد بذلك ما يقصده الناس من التشفي وإطفاء نائرة الغيظ، وإنما جعلناها عبرة لما قبلها ومعها وبعدها من الأمم والقرون، لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها وسيبلغ خبرها إلى الآخرين فيعتبرون، أو أريد بما بين يديها ما بحضرتها من القرى والأمم، أو جعلناها عقوبة لجميع ما ارتكبوه قبل هذا الفعل وبعده، هكذا قال بعضهم، والأولى عندي أن يقال: جعلناها عقوبة لأجل ذنوب تقدمت المسخة، ولأجل ذنوب تأخرت عنها، لأنهم إن لم يكونوا ممسوخين لم ينتهوا عنها فهم في حكم المرتكبين لها. ولا يلزم من ذلك تجويز العقاب على الذنب المفروض الموهوم لأنه أمر اعتباري، والعقوبة في نفسها واحدة ثابتة على حالها لم تزدد لأجل الذنب المتأخر شيئا، فليس الأمر فيه كمن ضرب عبده لأجل الإباق المتقدم مائة جلدة، ولأجل الإباق المتأخر المترقب مائة أخرى، ولكنه كمن قيد عبده أو حبسه لأجل الإباق المتقدم والإباق المترقب والله أعلم وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ لأن منفعة الاتعاظ تعود إليهم لا إلى غيرهم مثل هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أو ليعظ المتقون بعضهم بعضا. وقيل: للمتقين الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم. [سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 74] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 القراآت: يَأْمُرُكُمْ بالاختلاس: أبو عمرو وكذلك كل فعل مستقبل مهموز من ذوات الراء. هُزُواً ساكنة الزاء مهموزة، حمزة وخلف وعباس والمفضل وإسماعيل. وقرأ حمزة مبدلة الواو من الهمزة في الوقف لمكان الخط، وقرأ حفض غير الخراز مثقلا غير مهموز، الباقون: مثقلا مهموزا جِئْتَ وبابه بغير همزة: أبو عمرو ويزيد والأعشى وحمزة في الوقت فَادَّارَأْتُمْ بغير همزة: أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف، عما يعملون بالياء التحتانية: ابن كثير. الوقوف: بَقَرَةً (ط) هُزُواً (ط) الْجاهِلِينَ (هـ) نصف الجزء ما هِيَ (ط) وَلا بِكْرٌ (ط) لأن التقدير هي عوان بَيْنَ ذلِكَ (ط) على تقدير قد تبين لكم فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (هـ) ما لَوْنُها (ط) صَفْراءُ (لا) إلى آخر الآية لأن الجملة صفة بعد صفة النَّاظِرِينَ (هـ) ما هِيَ (لا) لأن التقدير فإن البقر أو لأن البقر إيلاء لعذر تكرار السؤال عَلَيْنا (ط) لَمُهْتَدُونَ (هـ) الْحَرْثَ (ج) لأن قوله مُسَلَّمَةٌ صفة بقرة أو خبر محذوف أي هي مسلمة لا شِيَةَ فِيها (ط) جِئْتَ بِالْحَقِّ (ط) لأن التقدير فطلبوها فوجدوها فَذَبَحُوها (ط) يَفْعَلُونَ (هـ) فَادَّارَأْتُمْ فِيها (ط) تَكْتُمُونَ (هـ) ج للآية والفاء بعدها بِبَعْضِها (ط) لأن التقدير فضربوه فحيي فقيل لهم كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى تَعْقِلُونَ (هـ) قَسْوَةً (ط) الْأَنْهارُ (ط) الْماءُ (ط) خَشْيَةِ اللَّهِ (ط) لتفصيل دلائل القدرة تَعْمَلُونَ (هـ) . التفسير: عن ابن عباس أن رجلا من بني إسرائيل قتل قريبا له لكي يرثه ثم رماه في مجمع الطريق ثم شكا ذلك إلى موسى عليه السلام، فاجتهد موسى في تعرف القاتل. فلما لم يظهر قالوا له: سل لنا ربك حتى يبينه، فسأله فأوحى الله إليه إن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة. فعجبوا من ذلك فشددوا على أنفسهم بالاستفهام حالا بعد حال، واستقصوا في طلب الوصف، فلما تعين لم يجدوها بذلك النعت إلا عند يتيم. وذلك أنه كان في بني إسرائيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال: اللهم إني أستودعكها لابني حتى يكبر، وكان برا بوالديه، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير، وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة فذبحوها، وأمر موسى عليه السلام أن يأخذوا عضوا منها فيضربوا به القتيل فصار المقتول حيا وسمى لهم قاتله وهو الذي ابتدأ بالشكاية فقتلوه قودا. واعلم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع بالاتفاق إلا عند مجوّز تكليف ما لا يطاق، وأما تأخيره إلى وقت الحاجة فمختلف فيه، فالمجوزون استدلوا بالآية قالوا: أمروا بذبح بقرة معينة بدليل تعيينها بسؤالهم آخرا، وبدليل أنه لم يؤمر بمتجدد بل المأمور به في الثانية هو المأمور به في الأولى بالاتفاق، وبدليل المطابقة لما ذبح. والمانعون قالوا: معناه اذبحوا أية بقرة شئتم بدليل تنكير بقرة، وهو ظاهر في أن المراد بقرة غير معينة، وبدليل أن ابن عباس قال: لو ذبحوا بقرة ما لأجزأهم، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، وبدليل التعنيف في قوله وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ولو كانت معينة لما استحقوا التعنيف على السؤال. وأجيب بأن ترك الظاهر يجوز لموجب راجح، وما نقل عن ابن عباس خبر الواحد، والتعنيف يجوز أن يكون لتفريطهم في الامتثال بعد حصول البيان التام. ويتفرع على قول المانعين أن التكليف يكون متغايرا فكلفوا في الأول أيّ بقرة كانت، وثانيا أن تكون لا فارضا ولا بكرا بل عوانا، فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون صفراء، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون لا ذلولا تثير الأرض ولا تسقي الحرث. ثم اختلف القائلون بهذا المذهب. منهم من قال في التكليف الواقع أخيرا يجب أن يكون مستوفيا كل صفة تقدمت حتى تكون البقرة مع الصفة الأخيرة لا فارضا ولا بكرا وصفراء فاقعا لونها. ومنهم من يقول: إنما يجب كونها بالصفة الأخيرة فقط، وهذا أشبه بظاهر الكلام إذا كان تكليفا بعد تكليف، وإن كان الأول أشبه بالروايات وبطريقة التشديد عليهم عند ترك الامتثال. وإذا ثبت أن البيان لا يتأخر وأنه تكليف بعد تكليف، دل على أن الأسهل قد ينسخ بالأشق، فإن المربي لولده قد يأمره بالسهل اختبارا، فإذا امتنع الولد منه فقد يرى المصلحة في أن يأمره بالصعب. ويدل أيضا على جواز النسخ قبل الفعل وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البداء، ويدل على وقوع النسخ في شرع موسى عليه السلام، ويدل أيضا على أن الزيادة في الخطاب نسخ له. أَتَتَّخِذُنا هُزُواً استفهام بطريقة الإنكار، معناه لا تجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو مهزوءا بنا، أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء. كان القوم ظنوا أنه يداعبهم لأنه من المحتمل أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 موسى عليه السلام أمرهم بذبح البقرة، وما أعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة وضربوا القتيل ببعضها صار حيا، فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء. ويحتمل أنه وإن كان قد تبين لهم كيفية الحال إلا أنهم تعجبوا من أن القتيل كيف يحيا بأن يضرب ببعض أجزاء البقرة. واختلف العلماء هاهنا فعن بعضهم تكفيرهم بهذا القول لأنهم إن شكوا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فقد كفروا، وإن شكوا في أن الذي أمرهم به موسى عليه السلام هل هو بأمر الله فقد جوزوا الخيانة على موسى عليه السلام في الوحي، وذلك أيضا كفر. وعن آخرين أنه لا يوجب الكفر لأن المداعبة على الأنبياء جائزة، فلعلهم ظنوا أنه يداعبهم مداعبة حقة، أو المراد ما أعجب هذا الجواب كأنك تستهزئ بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء مِنَ الْجاهِلِينَ إطلاقا لاسم السبب على المسبب، فإن الاشتغال بالاستهزاء لا يكون إلا بسبب الجهل، ومنصب النبوّة يجل عن ذلك كما يقول الرجل عند مثل ذلك: أعوذ بالله من عدم العقل وغلبة الهوى، أو أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين لما في الاستهزاء من نقصان الدين والعقاب الشديد. وقيل: نفس الهزء قد يسمى جهلا، فإن الجهل ضد الحلم، كما أنه ضد العلم. ثم إن قيل: إن المأمور بذبحه بقرة معينة في نفسها غير مبينة التعيين حسن موقع سؤالهم، لأن المأمور به لما كان مجملا حسن الاستفسار والاستعلام. أما على قول القائل إنها للعموم فلا بد من بيان أنه ما الذي حملهم على هذا الاستفسار فذكروا وجوها أحدها: أنه لما أخبرهم بشأن البقرة تعجبوا وظنوا أن البقرة التي لها مثل هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة، فلا جرم استقصوا في السؤال عن وصفها كعصا موسى المخصوصة من سائر العصي بتلك الخواص، إلا أن القوم كانوا مخطئين في ذلك لأن هذه الآية العجيبة لا تكون خاصية البقرة، بل كانت معجزة يظهرها الله على يد موسى، أو لعل القوم أرادوا قتل أي بقرة كانت إلا أن القاتل خاف من الفضيحة فألقى شبهة في البين وقال: المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة، فلما وقعت المنازعة رجعوا إلى موسى، أو الخطاب وإن أفاد العموم إلا أن القوم أرادوا الاحتياط فسألوا مزيد البيان وإزالة الاحتمال، إلا أن المصلحة تغيرت واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة. فإن قيل: السؤال بما هو لطلب الحقيقة والحقيقة لا تعلم إلا بأجزائها ومقوماتها لا بصفاتها الخارجة، فالجواب بالأوصاف الخارجة لا يكون مطابقا للسؤال. قلنا: من البين أن مقصودهم من قولهم «ما البقرة» ليس طلب ماهيتها النوعية فإن ذلك كالمفروغ منه عندهم، وإنما وقع السؤال عن المشخصات. فالظاهر يقتضي أن يقال: أي بقرة هي؟ فإن مطلب «أي» السؤال عن الصفات الذاتية والخواص. فسبب العدول إما إقامة الحقيقة الشخصية مقام الحقيقة النوعية فإن الشخص من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 حيث هو شخص حقيقة أيضا قد يطلب تصورها، وإما لأنهم تصوروا أن البقرة التي لها هذه الخاصية العجيبة حقيقتها مغايرة لحقيقة سائر البقرات وإن كانت صورتها موافقة لصورتها، وإما لأن السؤال عن الجزئيات كزيد وعمرو إنما يكون ب «من» إذا كان طلبا للعوارض، وهاهنا الجزئي غير ذي عقل فناسب أن يقام ما مقام «من» . الفارض المسنة، وقد فرضت فروضا فهي فارض كطالق كأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها. والبكر الفتية، وكان الأظهر أنها التي لم تلد كما في الإنسان. والعوان النصف قال: نواعم بين أبكار وعون. وقد غونت وقال: فإن أتوك وقالوا إنها نصف ... فإن أطيب نصفيها الذي ذهبا وقد يستدل من هذا على جواز الاجتهاد واستعمال غلبة الظن في الأحكام إذ لا يعلم أنها بين الفارض والبكر إلا بطريق الاجتهاد. وإنما جاز دخول «بين» على لفظة «ذلك» مع أنه لا يدخل إلا على متعدد، لأنها في معنى شيئين حيث وقع مشارا به إلى ما ذكر من الفارض والبكر. وإنما أشير بذلك إلى مؤنثين وهو للإشارة إلى واحد مذكر على تأويل ما ذكر وما تقدم للاختصار في الكلام ما تُؤْمَرُونَ مثل: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به. بمعنى ما تؤمرون به، أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير، ولما بين لهم كمال حالها في السن شرعوا في تعرف حال اللون. والفقوع أشد ما يكون من الصفرة. يقال في التوكيد أصفر فاقع مثل أسود حالك، وأحمر قانىء، وارتفع اللون على أنه فاعل سببي لفاقع. والفرق بين قولك «صفراء فاقعة» و «صفراء فاقع لونها» أن في الثاني تأكيدا ليس في الأول، لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل: شديد الصفرة صفرتها مثل جد جده، وجنونه مجنون. وعن وهب: إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. والسرور حالة نفسانية تعرض عند اعتقاد أو علم أو ظن بحصول شيء لذيذ أو نافع. وعن علي عليه السلام: من لبس نعلا صفراء قل همه لقوله تَسُرُّ النَّاظِرِينَ وعن الحسن البصري: صفراء فاقع لونها سوداء شديدة السواد، ولعله مستعار من صفة الإبل لأن سوادها يعلوه صفرة وبه فسر قوله تعالى جِمالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات: 33] إِنَّ الْبَقَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 تَشابَهَ عَلَيْنا لأن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «والذي نفس محمد بيده لو لم يقولوا إن شاء الله لحيل بينهم وبينها أبدا» وفيه دليل على أن الاستثناء مندوب في كل عمل صالح يراد تحصيله، ففيه استعانة بالله وتفويض للأمر إليه، والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته الأزلية وإرادته السرمدية، ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن. والمعنى إنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيلنا أوصافها التي بها تمتاز عما عداها، أو إنا إن شاء الله على هدى في استقصاء السؤال أي نرجو أنا لسنا على ضلالة فيما نفعله من هذا البحث، أو إنا إن شاء الله تعريفنا إياها بالزيادة لنا في البيان نهتدي لها، أو إنا إن شاء الله نهتدي للقاتل لا ذَلُولٌ صفة لبقرة مثل لا فارض أي بقرة غير ذلول لم تذلل للكراب وإثارة الأرض، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحرث. «لا» الأولى للنفي والثانية مزيدة للتوكيد، لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقي، على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية. والذل بالكسر اللين ضد الصعوبة، ودابة ذلول بينة الذل «فعول» بمعنى «فاعل» ، ولهذا استوى فيه المذكر والمؤنث. تقول: رجل صبور وامرأة صبور مُسَلَّمَةٌ سلمها الله تعالى من العيوب مطلقا، أو معفاة من العلم وحشية مرسلة عن الحبس، أو مخلسة اللون لم يشب صفرتها شيء من الألوان. وعلى هذا يكون لا شِيَةَ فِيها كالبيان. والشية كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره أي لا لون فيها يخالف سائر لونها فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها، وهي في الأصل مصدر «وشاة» إذا خلط بلونه لونا آخر، أصلها وشية حذف فاؤها كما هو «عدة» و «زنة» الْآنَ اسم للوقت الذي أنت فيه وهو ظرف غير متمكن وقع معرفة، وليس الألف واللام فيه للتعريف لأنه ليس له ما يشركه وهو يائي جِئْتَ بِالْحَقِّ أي بحقيقة وصف البقرة أو ما بقي إشكال في أمرها فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف فَذَبَحُوها والذبح هو قطع أعلى العنق وهو المستحب في الغنم والبقر. والنحر هو قطع اللبة أسفل العنق وهو المستحب في الإبل. والمرعي في الحالتين قطع الحلقوم والمريء لكن عنق الإبل طويل، فإذا قطع أعلاه تباطأ الزهوق. ولا يكره الذبح في الإبل والنحر في البقر والغنم وإن كان خلاف المستحب وَما كادُوا يَفْعَلُونَ استبطاء لهم، وأنهم لكثرة استكشافهم ما كاد ينقطع خيط أشباههم. وقيل: وما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها. وقيل: لخوف الفضيحة في ظهور القاتل. وقد يستدل بهذا على أن الأمر للوجوب بل للفور وإلا لما ترتب هذا الذم على تثاقلهم وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم فَادَّارَأْتُمْ فِيها فاختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أي يدفعه ويزحمه، أو ينفي كل واحد منكم القتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 عن نفسه ويضيفه إلى غيره أو يدفع بعضكم بعضا عن البراءة ويتهمه. وأصله تدارأتم أدغمت التاء في الدال فاحتيج إلى همزة الوصل، ويحتمل أن يرجع الضمير في «فيها» إلى القتلة المعلومة من قتلتم وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتيل. وقد حكي ما كان مستقبلا في وقت التدارؤ كما حكي الحاضر في قوله وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ [الكهف: 18] فلهذا صح عمل اسم الفاعل. وهذه الجملة معترضة، وفيها دليل على جواز عموم النص الوارد على السبب الخاص، لأن هذا يتناول كل المكتومات. وفيها دليل على أن الله لا يحب الفساد، وأنه سيجعل إلى زواله سبيلا، وأن ما يسرّه العبد من خير أو شر ودام ذلك منه فالله سيظهره، ويعضده قوله صلّى الله عليه وسلّم «إن عبدا لو أطاع الله من وراء سبعين حجابا لأظهر الله ذلك على ألسنة الناس» وكذلك المعصية والضمير في اضْرِبُوهُ عائد إلى النفس، والتذكير على تأويل الشخص أو الإنسان، ويحتمل أن يعود إلى القتيل بدلالة قَتَلْتُمْ أو ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ واختلف في البعض من البقرة فقيل لسانها، وقيل: فخذها اليمنى، وقيل: عجبها، وقيل: العظم الذي يلي الغضروف وهو أصل الأذن، وقيل: الأذن، وقيل: البضعة من بين الكتفين، والظاهر أنهم كانوا مخيرين بين أيّ بعض أرادوا، وهاهنا محذوف بدلالة الفاء الفصيحة والمعنى فضربوه فحيي فقلنا كذلك يحيي الله الموتى. روي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دما وقال: قتلني فلان وفلان- وهما ابنا عمه- ثم سقط ميتا فأخذا وقتلا ولم يورّث قاتل بعد ذلك، ويؤيده قوله نبينا صلّى الله عليه وسلّم «ليس للقاتل من الميراث شيء» «1» والسر فيه أنه استعجل الميراث فناسب أن يعارض بنقيض مقصوده وهو قول الشافعي. ولم يفرق بين أن يكون القتل مستحقا كالعادل إذا قتل الباغي، أو غير مستحق عمدا كان أو خطأ. وعند أبي حنيفة لا يرث في العمد والخطأ إلا أن العادل إذا قتل الباغي فإنه يرثه. وقال مالك: لا يرثه من ديته ويرثه من سائر أمواله. ومحل كَذلِكَ نصب على المصدر أي يحيي الله الموتى مثل ذلك الإحياء. وهذا الكلام إما مع الذين حضروا حياة القتيل لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلا أنهم لم يؤمنوا بذلك من طريق العيان والمشاهدة، وشتان بين عين اليقين وعلم اليقين. وإما أن يكون مع منكري البعث في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير «فقلنا» بعد تقدير «فضربوه فحيي» وَيُرِيكُمْ آياتِهِ دلائله على أنه قادر على كل شيء. فدلالة هذه القصة على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإعدام آية، ودلالتها على صدق موسى عليه السلام   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الديات باب 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 آية، ودلالتها على براءة ساحة من سوى القاتل آية، ودلالتها على حشر الأموات آية، فهي وإن كانت واحدة إلا أنها في الحقيقة آيات عدة. ويمكن أن يراد بالآيات غير هذه أي مثل هذه الإراءة يريكم سائر الإراءات، كما أن مثل هذا الإحياء يحيي سائر الأموات. وفي قوله كَذلِكَ دون أن يقال كهذا تعظيم للمشار إليه بتبعيده كما قلنا في ذلِكَ الْكِتابُ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ تعملون على قضية عقولكم، فإن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها إذ لا أثر للمخصصات في ذلك. فإن قيل: ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أنه قادر على إحيائه ابتداء؟ قلنا: الفائدة فيه كون الحجة آكد وعن الحيلة أبعد، فقد كان يجوز لملحد أن يتوهم أن موسى عليه السلام إنما أحياه بضرب من السحر، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه، أن المؤثر هو المسبب لا الأسباب، ولما في ذبح البقرة من القربان وأداء التكليف واكتساب الثواب والإشعار بحسن تقديم القربة على طلب الحوائج، وما في التشديد عليهم لأجل تشديدهم من اللطف لهم وللآخرين في ترك التشديد والمسارعة إلى امتثال أوامر الله على الفور ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة، والدلالة على بركة البر بالأبوين والإشفاق على الأولاد، وتجهيل المستهزئ بما لا يعلم تأويله من كلام الحكيم، وبيان أن من حق المتقرب به إلى الرب أن يكون من أحسن ما يتقرب به، فتيّ السن حسن اللون بريئا من العيوب ثمينا نفيسا «أسمنوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم» فإن قيل: هلا قدم ذكر القتيل على الأمر بذبح البقرة كما هو حق القصة؟ قلنا: لأنها كانت تكون حينئذ قصة واحدة ويذهب الغرض في ثنية التقريع بالاستهزاء وترك المبادرة بالامتثال أولا، وبقتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية ثانيا، على أنها دلت على اتحاد القصتين برجوع الضمير في بِبَعْضِها إلى البقرة وهي مذكورة في الأولى. قوله ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ الآية. خطاب لأولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى، أو للذين هم في زمن محمد صلّى الله عليه وسلّم من بعد ذلك الإحياء، أو من بعد ذلك الذي عددنا من جميع الآيات الباهرات والمعجزات الظاهرات. ومعنى «ثم» استبعاد القسوة من بعد ما يوجب اللين والرقة. وصفة القلوب بالقسوة والغلظ مثل لنبوّها عن الاعتبار والاتعاظ فهي كالحجارة مثلها في القسوة، أو هي أشد قسوة من الحجارة. فمن عرفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة، ويجوز أن يقدر مضاف أي هي كالحجارة أو مثل أشد قسوة. فمن عرفها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى من الحجارة كالحديد مثلا. وإنما قيل: أشد قسوة مع إمكان بناء أفعل التفضيل من فعل القسوة، لكونه أدل على فرط القسوة، أو لأنه لم يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة كأنه قيل: اشتدت قسوة الحجارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وقلوبهم أشد قسوة منها، وحذف هذا الراجع لعدم الالتباس نحو: زيد كريم وعمر أكرم. وكلمة «أو» هاهنا ليست للشك، فعلام الغيوب لا يشك في شيء، وإنما هي للتخيير بأيهما شئت شبهت فكنت صدوقا، ولو جمعت بينهما جاز. ثم أخذ في بيان فضل قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة فقال وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ أي إن منها للذي فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الغزير، وإن منها للذي ينشق انشقاقا طولا أو عرضا فينبع منه الماء وذلك بحسب كثرة المادة وقلتها، فإن الأبخرة تجمع في باطن الأرض. ثم إن كان ظاهر الأرض رخوا نفشت وانفصلت، وإن كان صلبا حجريا اجتمعت وصارت مياها، ولا يزال يتواتر مددها إلى أن تنشق الأرض من مزاحمتها وتسيل أنهارا أو عيونا. وأما قلوب هؤلاء فلا تنشرح للحق ولا تتأثر من الوعظ والنصح بعد مشاهدة الآيات ومعاينة الدلائل. ويشقق أصله يتشقق فأدغم التاء في الشين كقولهم «يذكر» في «يتذكر» لَما يَهْبِطُ للذي يتردى من أعلى الجبل وذلك من خشية الله، إما لأنه تعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدراك كما يروى من تسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم، وإما لأن الخشية مجاز عن انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع عما يريد بها من الإهباط والانفصال عن كلها، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تأتمر، وقيل: أن يتزلزل من أجل أن تحصل خشية الله في قلوب عباده فيفزعون إليه بالتضرع والدعاء وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد، والمعنى أنه بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم فيجازيهم في الدنيا والآخرة فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم: 84] ووصفه تعالى بأنه ليس بغافل لا يوهم جواز الغفلة عليه لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها مثل لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255] . التأويل: ذبح البقرة إشارة إلى ذبح النفس البهيمية، فإن في ذبحها حياة القلب الروحاني وهو الجهاد الأكبر موتوا قبل أن تموتوا. اقتلوني يا ثقاتي إن في قتلي حياتي وحياتي في مماتي ومماتي في حياتي مت بالإرادة تحيا بالطبيعة. وقال بعضهم: مت بالطبيعة تحيا بالحقيقة ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ نفس تصلح للذبح بسيف الصدق لا فارِضٌ في سن الشيخوخة فيعجز عن وظائف سلوك الطريق لضعف القوى البدنية كما قيل: الصوفي بعد الأربعين بارد وَلا بِكْرٌ في سن شرخ الشباب يستهويه سكره عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ لقوله حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف: 15] . بَقَرَةٌ صَفْراءُ إشارة إلى صفرة وجوه أصحاب الرياضات فاقِعٌ لَوْنُها يريد أنها صفرة زين لا صفرة شين فإنها سيماء الصالحين. لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ لا تحتمل ذلة الطمع ولا تثير بآلة الحرص أرض الدنيا لطلب زخارفها ومشتهياتها وَلا تَسْقِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 حرث الدنيا بماء وجهه عند الخلق وبماء وجاهته عند الخالق، فيذهب ماؤه عند الحق وعند الخلق مُسَلَّمَةٌ من آفات صفاتها ليس فيها علامة طلب غير الله وَما كادُوا يَفْعَلُونَ بمقتضى الطبيعة لولا فضل الله وحسن توفيقه. وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً يعني القلب فَادَّارَأْتُمْ فاختلفتم أنه كان من الشيطان أم من الدنيا أو من النفس الأمارة فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها ضرب لسان بقرة النفس المذبوحة بسكين الصدق على قتيل القلب بمداومة الذكر فحيي بإذن الله تعالى وقال إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53] وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ مراتب القلوب في القسوة مختلفة، فالتي يتفجر منها الأنهار قلوب يظهر عليها الغليان أنوار الروح يترك اللذات والشهوات بعض الأشياء المشبهة بخرق العادات كما يكون لبعض الرهبانيين والهنود، والتي تشقق فيخرج منها الماء هي التي يظهر عليها في بعض الأوقات عند انخراق الحجب البشرية من أنوار الروح فيريه بعض الآيات والمعاني المعقولة كما يكون لبعض الحكماء، والتي تهبط من خشية الله ما يكون لبعض أهل الأديان والملل من قبول عكس أنوار الروح من وراء الحجب فيقع فيها الخوف والخشية، وهذه المراتب مشتركة بين المسلمين وغيرهم. والفرق أنها في المسلمين مؤيدة بنور الإيمان فيزيدوا في قربهم وقبولهم ودرجاتهم، ولغيرهم ليست مؤيدة بالإيمان فيزيدوا في غرورهم وعجبهم وبعدهم واستدراجهم، والمسلمون مخصوصون بكرامات وفراسات تظهر لهم من تجلي أنوار الحق ورؤية برهانه. فإراءة الآيات للخواص سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة: 73] لكن إراءة البرهان لأخص الخواص كما في حق يوسف لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [يوسف: 24] سئل الحسن بن منصور عن البرهان فقال: واردات ترد على القلوب فتعجز النفوس عن تكذيبها. والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 82] أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 القراآت: إِلَّا أَمانِيَّ حيث كان خفيفا: يزيد إلا قوله تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ فإن أربعتهن بالإسكان عنده بِأَيْدِيهِمْ بضم الهاء: يعقوب، وكذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة خطيئاته بالجمع: أبو جعفر ونافع. الوقوف: يَعْلَمُونَ (هـ) آمَنَّا (ج) والوصل أجوز لبيان حالتيهما المتناقضتين وهو المقصود عِنْدَ رَبِّكُمْ (ط) أَفَلا تَعْقِلُونَ (هـ) يُعْلِنُونَ (هـ) يَظُنُّونَ (ج) قَلِيلًا (ط) يَكْسِبُونَ (هـ) مَعْدُودَةً (ط) ما لا تَعْلَمُونَ (هـ) النَّارُ (ج) لأن الجملة مبتدأ وخبر بعد خبر. خالِدُونَ (هـ) الْجَنَّةِ (ج) خالِدُونَ (هـ) . التفسير: لما ذكر الله سبحانه وتعالى قبائح أسلاف اليهود وسوء معاملتهم مع نبيهم، أردفها قبائح أخلافهم المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه قيل: إذا كان هذا أفعالهم فيما بينهم، فكيف تطمعون أيها النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في أن يؤمنوا أي يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم ويستجيبوا لكم؟ كقوله فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ طائفة من أسلافهم يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ وهو ما يتلونه من التوراة ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ كما حرفوا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآية الرجم. وقيل: هم قوم من الذين حضروا الميقات، سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور وما أمر به ونهى عنه ثم قالوا: سمعنا الله يقول في آخره إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وان شئتم فلا تفعلوا فلا بأس مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ فهموه وضبطوه بعقولهم من غير ما شبهة وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم مفترون كذابون. والمعنى إن كفر هؤلاء وحرفوا فلهم سابقة في ذلك كما تقول للرجل: كيف تطمع أن يفلح فلان وأستاذه فلان يأخذ عنه لا عن غيره؟ فهؤلاء المقلدة لا يقبلون إلا قول معلميهم وأحبارهم الذين تعمدوا التحريف عنادا أو لضرب من الأغراض الدنيوية وَإِذا لَقُوا أي اليهود قال منافقوهم: آمنا بأنكم على الحق ونشهد أن صاحبكم صادق، ونجده بنعته وصفته في كتابنا. وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ الذين لم ينافقوا إِلى بَعْضٍ الذين نافقوا قالُوا عاتبين عليهم أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بما بين لكم في التوراة من نعته وصفته مأخوذ من قولهم «قد فتح على فلان في علم كذا أي رزق ذلك وسهل له طلبه، أو قال المنافقون لعيرهم يرونهم التصلب في دينهم: أتحدثونهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 إنكارا عليهم أن يفتحوا عليهم شيئا في كتابهم فينافقون المؤمنين وينافقون اليهود لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه. جعلوا محاجتهم به وقولهم «هو في كتابكم هكذا» محاجة عند الله. ألا تراك تقول: هو في كتاب الله كذا وهو عند الله كذا بمعنى واحد؟ وعن الحسن: ليحاجوكم في ربكم لأن المحاجة فيما ألزم تعالى من اتباع الرسل محاجة فيه أي دينه. وقال الأصم: يحاجوكم يوم القيامة عند المساءلة فيكون زيادة في توبيخكم، فكان القوم يعتقدون أن ذلك مما يزيد في فضيحتهم في الآخرة. وقيل: ليحاجوكم به على وجه الديانة والنصيحة، لأن من يذكر الحجة على هذا الوجه قد يقول لصاحبه: أزحت علتك عند الله وأقمت عليك الحجة بيني وبين ربي، فإن قبلت أحسنت إلى نفسك، وإن جحدت كنت الخاسر الخائب. وقيل: لتصيروا محجوجين بتلك الدلائل في حكم الله كما يقال: فلان عندي عالم أي في اعتقادي وحكمي. وهذا عند الشافعي كذا، وعند أبي حنيفة كذا أَفَلا تَعْقِلُونَ أن ذلك لا يليق بما أنتم عليه فإنكم إذا حدثتموهم بالذي يحاجونكم به رجع وباله عليكم أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ جميع ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان، خوّفهم الله تعالى بذلك لأنهم كانوا يعرفون أن الله يعلم السر والعلانية وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها كأنه منسوب إلى الأم وهو أصل الشيء، فالأمي على أصل فطرته لم يكتسب علما وكتابة لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ التوراة إِلَّا أَمانِيَّ وأحدها أمنية على أفعولة من مني إذا قدر. تقول: منه تمنيت الشيء ومنيته غيري تمنية، لأن المتمني يقدر في نفسه ويجوّز ما يتمناه، وأماني اليهود هي أن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وما يمنيهم الأحبار من أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة. وقيل: الأماني الأكاذيب المختلفة التي سمعوها من علمائهم فقبلوها على التقليد. يقال: أهذا شيء رويته أم تمنيته أم اختلقته؟ وذلك أن المختلق يقدر أن كلمة كذا بعد كذا. وفي الصحاح أنه مقلوب المين وهو الكذب. وقيل: إلا ما يقرأون من قولهم «تمنيت الكتاب قرأته» قال الشاعر يرثي عثمان: تمنى كتاب الله أوّل ليلة ... وآخرها لا في حمام المقادر والقارئ مقدر الكلمات كالمختلق، وعلى هذا يكون الاستثناء متصلا كأنه قيل: لا يعلمون الكتاب إلا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه، وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه. ثم إنهم لا يتمكنون من التدبر والتأمل، وعلى الأول يكون استثناء منقطعا. ومن قرأ أَمانِيَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 بالتخفيف حذف المد كما يقال مفاتح وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ كالمحقق لما تقدمه من قوله لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ ذكر الفرقة الضالة المضلة المحرفة، ثم الفرقة المنافقين منهم، ثم الفرقة المجادلة لأهل النفاق، ثم العوام المقلدة، ونبه على أنهم في الضلال سواء، لأن للعالم أن يعمل بعلمه وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن إن كان متمكنا من العلم ولا سيما في أصول الدين، الويل كلمة يقولها كل مكروب، وعن ابن عباس: أنه العذاب الأليم. وعن الثوري: صديد أهل الجحيم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» «1» . وقال عطاء بن يسار: الويل واد في جهنم، لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حره. ولا شبهة في دلالتها على نهاية الوعيد والتهديد يَكْتُبُونَ الْكِتابَ المحرف بِأَيْدِيهِمْ تأكيد كما تقول للمنكر هذا ما كتبته بيمينك. حكى عنهم أمرين: كتبة الكتاب وإسناده إلى الله. فالوعيد مرتب على كل منهما وعلى مجموعهما إلا أنه على الثاني أبلغ ولهذا جيء ب «ثم» وقوله لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا تنبيه على شقاوتهم، فإنهم استبدلوا النفع الحقير العاجل الزائل بالأجر العظيم الآجل الدائم فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ أي مما أسلفت من كتبها ما لم يكن يحل لهم وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ بذلك بعد من الرشا على التحريف وفي إعادة الويل في الكسب دليل على أن الوعيد كما يلحقهم بسبب الكتبة وإسنادها إلى الله، فكذلك يلحقهم بسبب أخذ المال عليه ليعلم أن أخذ المال على الباطل محرم وإن كان بالتراضي وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو جزمهم بأن الله تعالى لا يعذبهم إلا أياما معدودة قليلة، وهذا الجزم مما لا سبيل إليه بالعقل البتة، ولا دليل له سمعيا فلا يجزم به عاقل. والأيام المعدودة قالوا: أربعون يوما هي أيام عبادة العجل. وعن مجاهد قالوا: مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما لأن يوما عند الله ألف سنة. وأيام معدودة ومعدودات كلاهما فصيح مثل الأيام مضت ومضين. والعهد هاهنا يجري مجرى الوعد والخبر، لأن خبره سبحانه كالعهود المؤكدة منا بالقسم والنذر. وأَتَّخَذْتُمْ استفهام بطريق الإنكار، وإنه يدل على عدم الدليل السمعي. فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ لتنزهه سبحانه عن كل نقيصة وخلاف الخبر أنقص النقائص. فإن قيل: هب أن الخلف في الوعد لؤم ونقيصة، لكنه في الوعيد كرم ولطف. قلنا: الخلف من حيث هو كذب قبيح لا يجوّزه كامل، ولعل للكرم   (1) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة 21 باب 1. أحمد في مسنده (3/ 75) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 طريقا آخر سوى هذا فتأمل. و «أم» إما معادلة بمعنى أي الأمرين كائن على سبيل التقدير لأن العلم واقع بكون أحدهما وهذا من الكامل المنصف نحو وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 8] ، ويجوز أن تكون منقطعة بمعنى «بل أتقولون» كأنه أعرض عن الاستفهام الأول واستأنف سؤالا ثانيا. فالاستفهام الأول لتقرير النفي، والاستفهام الثاني لتقرير الإثبات. وفي الآية تنبيه على أن القول بغير دليل باطل وأن كل ما جاز وجوده وعدمه عقلا لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلا بدليل سمعي. ولا حجة لمنكري القياس وخبر الواحد فيه لأنه لما دل الدليل على وجوب العمل عند حصول الظن المستند إلى القياس أو إلى خبر الواحد، كان وجوب العمل معلوما فكان القول به قولا بالمعلوم بَلى إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ أي بلى تمسكم أبدا بدليل قوله تعالى هُمْ فِيها خالِدُونَ عن ابن عباس: وجد أهل الكتاب ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين فقالوا: لن نعذب في النار إلا ما وجدنا في التوراة، وإذا كان يوم القيامة أقحموا في النار فساروا في العذاب حتى انتهوا إلى شفير سقر وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيام المعدودة قال لهم خزنة أهل النار: يا أعداء الله، زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلا أياما معدودة، فقد انقضى العدد وبقي الأبد. قلت: وفي مثل حالهم ضلال الفلاسفة القائلين بأن الأرواح وإن صارت مكدرة بقبائح أفعال الأشباح، إلا أنها بعد المفارقة ورجوع العناصر إلى أصلها تصير إلى حظائر القدس، ولا يزاحمها شيء من قبائح الأعمال إلا أياما معدودة بقدر فطام الأرواح عن لبان التمتعات الحيوانية، ثم تتخلص من العذاب وترجع إلى حسن المآب. ومنهم من زعم أن استيفاء اللذات الحسية يقلل التعلقات الدنيوية ويسهل عروج الروح إلى عالمه العلوي، وكل هذا خيال فاسد ومتاع كاسد، وإنه قول من لم يجرب ولم يجد من نفسه أنها كيف تتدنس وتتكدر بالأخلاق الذميمة البهيمية والسبعية، ويكف تتصفى وتتطهر بالأخلاق الحميدة الروحانية الملكية، فغمر بصدإ مرآة القلب بحيث لا يبقى فيه شيء من الصفاء الفطري كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14] فلا يجلوها إلا مرور الدهور وكرور الأعصار. وقد ينضم الكفر إلى تلك الأخلاق فيبقى خالدا مخلدا في النار، في ويل طويل وزفير وعويل، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. والسيئة أصلها سيوئة من ساءه يسوءه سوأ ومساءة، فقلبت الواو ياء وأدغمت، وهي من الصفات الغالبة. وقوله سَيِّئَةً يتناول جميع المعاصي صغرت أو كبرت، فضم إليها شرط آخر وهو كون السيئة محيطة به ليختص بالكبيرة. ولفظ الإحاطة حقيقة في المجسمات إحاطة السور بالبلد والظرف بالمظروف، فنقل إلى الخطيئة وهي عرض لمعنيين من جهة أن المحيط يستر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 المحاط به. والكبيرة تستر الطاعات، ومن جهة أن الكبيرة تحبط الطاعات وتستولي عليها إحاطة العدو بالإنسان بحيث لا يتمكن الإنسان من الخلاص عنهم. والآية وإن وردت في اليهود فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبمثلها تتمسك المعتزلة في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر إذا ماتوا قبل التوبة، وفسر غيرهم الخطيئة المحيطة بالكفر فيه تتحقق الإحاطة التامة. واعلم أن في المسألة خلافا لأهل القبلة. منهم من قطع بوعيدهم إما مؤبدا- وهو قول جمهور المعتزلة والخوارج- وإما منقطعا- وهو قول بشر المريسي والخالدي ومنهم من قطع بأنه وعيد لهم وينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر. والذي عليه أكثر الصحابة والتابعين وأهل السنة والإمامية، القطع بأنه سبحانه يعفو عن بعض العصاة، وأنه إذا عذب أحدهم فلا يعذبه أبدا، لكنا نتوقف في حق البعض المعفو عنه والبعض المعذب على التعيين. أما المعتزلة فاستدلوا بعمومات وردت في وعيد الفساق كقوله وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها [النساء: 14] وقوله وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الإنفطار: 14] وقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: 10] ومن الحديث «من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة. ومن قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة، الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» وعن أبي سعيد الخدري قال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا دخل النار» وإذا استحقوا النار ببغضهم فلأن يستحقوا النار بقتلهم أولى. وأجيب بالمنع من أن هذه الصيغ للعموم بدليل صحة إدخال الكل والبعض عليها نحو: كل من دخل داري فله كذا، أو بعض من دخل. ولا يلزم منه تكرير ولا تناقض، ولأن الأكثر قد يطلق عليه لفظ الكل، ولاحتمال المخصصات. القاطعون بنفي العقاب عن أهل الكبائر احتجوا بنحو قوله تعالى إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ [النحل: 27] يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد: 6] لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 15، 16] وبالعمومات الواردة في الوعد مثل وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة: 3] الآية. حكم بالفلاح على كل من آمن. وعورض بعمومات الوعيد. أما أصحابنا الذين قطعوا بالعفو في حق البعض والتوقف في البعض، فقد تمسكوا بنحو قوله عز من قائل إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] وبأن عمومات الوعد والوعيد لما تعارضتا فلا بد من الترجيح لجانب الوعد بصرف التأويل إليه، لأن العفو عن الوعيد مستحسن في العرف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وإهمال الوعد بالضد. وأيضا القرآن مملوء من قوله عَفُوًّا غَفُوراً رَحِيماً كَرِيماً. وكذا الأخبار في هذا المعنى تكاد تبلغ حد التواتر. وأيضا إن صاحب الكبيرة أتى بما هو أفضل الخيرات وهو الإيمان، ولم يأت بما هو أقبح القبائح وهو الكفر، ولا يهدمه ما سوى الكفر من المعاصي، ولهذا قال يحيى بن معاذ الرازي: إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر خمسين سنة، فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة؟ إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات، كان مقتضى العدل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي، وإذا دلت الآيات على الوعد والوعيد فلا بد من التوفيق بينهما. فإما أن يصل العبد إلى دار الثواب ثم إلى دار العقاب وهو باطل بالإجماع، أو يصل إليه العقاب ثم ينقل إلى دار الثواب ويبقى هناك أبد الآباد وهو المطلوب. واعلم أن مذهب الأصحاب إلى الأدب أقرب من حيث إنهم يصفونه بصفات الجمال كالعفو والمغفرة، وبصفات الجلال كالقهر والانتقام، ولكن لا يوجبون عليه ثوابا ولا عقابا، لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ومن حيث إنهم لا يعينون البعض المستحق للثواب ولا البعض المستحق للعقاب من المسلمين، لأن فعله مبرأ عن التعلل بلواحق الغايات وسوابق البواعث. ومذهب المعتزلة إلى الاحتياط أقرب، فإن من خوّفك حتى تبلغ الأمن خير ممن أمنك حتى تبلغ الجوف. [سورة البقرة (2) : الآيات 83 الى 86] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) القراآت: لا يعبدون بالياء للغيبة. ابن كثير وحمزة وعلي والمفضل الْقُرْبى بالإمالة المفرطة: حمزة وعلي وخلف، وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة وكذلك كل كلمة على وزن «فعلى» حُسْناً وصفا: يعقوب وحمزة وعلي وخلف والمفضل تَظاهَرُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 خفيفا: عاصم وحمزة وعلي وخلف، وحذف إحدى التاءين للتخفيف، الباقون بالتشديد ووجهه إدغام التاء في الظاء أُسارى بالإمالة تُفادُوهُمْ أبو عمرو وخلف. أُسارى مفخما تُفادُوهُمْ ابن كثير وابن عامر أسرى بالإمالة تُفادُوهُمْ حمزة. أُسارى بالإمالة تُفادُوهُمْ علي والنجاري عن ورش والخراز عن هبيرة، والباقون أُسارى مفخما تُفادُوهُمْ تردون بتاء الخطاب: أبو زيد عن المفضل يعملون بياء الغيبة: ابن كثير ونافع وخلف ويعقوب وأبو بكر وحماد بناء لآخر الكلام على أوّله، الباقون بالتاء تغليبا للمخاطبين على الغيب. الوقوف: الزَّكاةَ لأن «ثم» لترتيب الأخبار أي مع ذلك توليتم ومُعْرِضُونَ وتَشْهَدُونَ (هـ) مِنْ دِيارِهِمْ (ز) لأن تَظاهَرُونَ يشبه استئنافا، وكونه حالا أوجه والْعُدْوانِ (ط) إِخْراجُهُمْ (ط) بِبَعْضِ (ج) لابتداء الاستفهام أو النفي مع فاء التعقيب الدُّنْيا (ط) لعطف الجملتين المختلفتين الْعَذابِ (ط) تَعْمَلُونَ (هـ) بِالْآخِرَةِ (ز) لأن الفعل مستأنف وفيه فاء التعقيب للجزاء يُنْصَرُونَ (هـ) . التفسير: إنه سبحانه كلفهم بأشياء: الأوّل: قوله لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ من قرأ بياء الغيبة فلأنهم غيب، ومن قرأ بتاء الخطاب فلحكاية ما خوطبوا به، وفي إعرابه أقوال: أحدها: أنه إخبار في معنى النهي كقولك «تذهب إلى فلان» تريد الأمر وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي كأنه سورع إلى الامتثال فهو يخبر عنه. ويؤيد هذا القول عطف وَقُولُوا وَأَقِيمُوا عليه. وثانيها: التقدير أن لا تعبدوا فلما حذفت «أن» رفعت كقوله «ألا أبهذا الزاجري أحضر الوغى» ويحتمل أن تكون «أن» مفسرة وأن تكون مع الفعل بدلا من الميثاق كأنه قيل: أخذنا ميثاق بني إسرائيل توحيدهم. وثالثها: هو جواب قوله أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ إجراء له مجرى القسم كأنه قيل: وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون. وهذا التكليف بالحقيقة يتضمن جميع ما لا بد منه في الدين، لأن الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره مسبوق بالعلم بذاته سبحانه وبجميع ما يجب له ويستحيل عليه، ومسبوق أيضا بالعلم بكيفية تلك العبادة التي لا سبيل إلى معرفتها الا بالوحي والرسالة. التكليف الثاني: قوله: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً معناه يحسنون بالوالدين إحسانا ليناسب لا تَعْبُدُونَ أو أحسنوا ليناسب وَقُولُوا ويمكن أن يقدر «وصيناهم» عطفا على أَخَذْنا وهذا أنسب لمكان الباء، ولا بد من تقدير القول إما قبل لا تَعْبُدُونَ وإما قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 إِحْساناً وإما قبل قُولُوا وإنما جعل الإحسان إلى الوالدين تاليا لعبادة الله لوجوه منها: أنهما سبب وجود الولد كما أنهما سبب التربية، وغير الوالدين قد يكون سبب التربية فقط فلا إنعام بعد إنعام الله تعالى أعظم من إنعام الوالدين. ومنها أن إنعامهما يشبه إنعام الله تعالى من حيث إنهما لا يطلبان بذلك ثناء ولا ثوابا إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان: 9] . ومنها أنه تعالى لا يمل من إنعامه على العبد وإن أتى بأعظم الجرائم، فكذا الوالدان لا يقطعان عنه مواد كرمهما وإن كان غير بار بهما، ومنها أن الوالد المشفق يتصرف في مال ولده بالاسترباح والغبطة، والله سبحانه يأخذ الحبة فيربيها مثل جبل أحد. ومنها أن المناسبة والميل والمحبة بين الوالد وولده ذاتية حتى عمت جميع الحيوان، كما أن المناسبة بين الواجب والممكن ذاتية لا عرضية، وهاهنا أسرار فليتأمل. ومنها أنه لا كمال يمكن للولد إلا ويطلبه الوالد لأجله ويريده عليه، كما أن الله تعالى لا خير يمكن للعبد إلا وهو يريده عليه، ولهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب ونصب الأدلة وأزاح العلة، ومن غاية شفقة الوالدين أنهما لا يحسدان ولدهما إذا كان خيرا منهما بل يتمنيان ذلك بخلاف غيرهما فإنه لا يرضى أن يكون غيره خيرا منه. وتعظيم الوالدين أمر معتبر في جميع الشرائع ومركوز في كل العقول، وقد ورد «أطع الوالدين وإن كانا كافرين» وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا، ولهذا أطلق الإحسان إليهما في الآية إطلاقا. وقد تلطف إبراهيم عليه السلام في دعوة أبيه من الكفر إلى الإيمان في قوله يا أَبَتِ، يا أَبَتِ والإحسان إليهما أن يحبهما من صميم القلب ويراعي دقائق الأدب والخدمة والشفقة ويبذل وسعه في رضاهما قولا وفعلا، ولا يمنع أعز أوقاته وكرائم أمواله عنهما، ويجتهد في تنفيذ وصاياهما ويذكرهما في صالح دعائه كما أرشد الله تعالى إلى جميع ما ذكرنا في قوله فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء: 23] إلى آخر الآية. التكليف الثالث: الإحسان إلى ذوي القرابة ويعبر عنه بصلة الرحم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «الرحم شجنة من الرحمن قال الله: من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته» والشجنة الاشتباك أي الرحم مشتقة من الرحمن يعني أنها قرابة من الله مشتبكة كاشتباك العروق والسبب العقلي في تأكيد رعاية هذا الحق أن القرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة، ولهذا صار كالتابع لحق الوالدين لأن الإنسان إنما يتصل به أقرباؤه بواسطة اتصالهم بالوالدين. قال الشافعي: لو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث وغير الوارث، والمحرم وغير المحرم، والمسلم والكافر، والذكر والأنثى، والغني والفقير، والأجداد والأحفاد، لا الأبوان والولد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 على الأظهر، لأن الوالد والولد لا يعرفان في العرف بالقريب. وهاهنا دقيقة وهي أن العرب يحفظون الأجداد العالية ليرتفع نسبهم، ونحن لو ترقينا إلى الجد العالي وحسبنا أولاده كثروا، فلهذا قال الشافعي: نرتقي إلى أقرب جد ينسب هو إليه ويعرف به. وذكروا في مثاله أنه لو أوصى لأقارب الشافعي فإنا نصرفه إلى أولاد شافع فإنه منسوب إليه، ولا يدخل فيها أولاد علي والعباس وإن كان شافع وعلي والعباس كلهم أولاد السائب بن عبيد، والشافعي هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب ابن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف. قال المحققون: هذا في زمان الشافعي، وأما في زماننا فلا نصرفه إلا إلى أولاد الشافعي ولا نرتقي إلى بني شافع لأنه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا، ولا يدخل الأقارب من الأم في وصية العرب لأن قرابة الأم لا تعدها العرب قرابة ولا تفتخر بها أما لو أوصى لذي رحم زيد فيدخل فيه قرابة الأم في وصية العرب والعجم، لأن لفظ الرحم لا يختص بطرف الأب بحال. وذهبت طائفة إلى أن الأقوى على ما أجاب به العراقيون ومال إليه أبو حنيفة، هو أن أقارب الأم تدخل في الوصية سواء كانت في وصية العرب أو وصية العجم، وتوجيه الفارق ممنوع لقوله صلى الله عليه وسلم «سعد خالي فليرني امرؤ خاله» . والإحسان إلى الأقارب قريب من الإحسان إلى الوالدين، وذلك بأن يجتهد في رضاهم بما تيسر له عرفا وشرعا، وينفق عليهم بالمعروف إن كانوا معسرين وهو موسر. التكليف الرابع: الإحسان إلى اليتامى واليتيم من الأطفال الذي مات أبوه إلى أن يبلغ الحلم، فيجب على وليه حفظ ماله واستنماؤه قدر النفقة والزكاة ومؤن الملك بما أمكنه والقيام بمصالحه مع رعاية دقائق الغبطة وقضاء حقوق النصيحة. قال ابن عباس: يرفق بهم ويدنيهم ويمسح رأسهم. واليتم في غير الإنسان من قبل أمه، واليتيم من الدر ما لا أخت له وإنما يجمع «يتيم» على «يتامى» لأن اليتم لما كان من صفات الابتلاء حمل على الوجع والحبط. فكما قالوا في وجع وحبط للمنتفخ البطن، وجاعي وحباطي، قيل في يتيم يتامى. وفي الكشاف: إنه أجرى يتيم مجرى الأسماء نحو «صاحب» و «فارس» فقيل «يتائم» ثم «يتامى» على القلب وكذا في اليتيمة. التكليف الخامس: الإحسان إلى المساكين واحدها مسكين أخذ من السكون، كأن الفقر سكنه، أو لأنه الدائم السكون إلى الناس، لأنه لا شيء له كالسكير. الدائم السكر وهو أسوأ حالا من الفقير عند أكثر أهل اللغة وهو قول أبي حنيفة ومالك، واحتجوا عليه بقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 تعالى أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [البلد: 16] وعند الشافعي وأحمد: الأمر بالعكس قالوا: اشتقاق الفقير من فقار الظهر، كأن فقاره انكسرت لشدة حاجته، والمسكين قد يملك ما يتعلل به كما في قوله تعالى أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ [الكهف: 79] ويظهر أثر الخلاف فيما لو أوصى للفقراء دون المساكين أو بالعكس. والإحسان إلى ذوي القربى واليتامى والمساكين ينبغي أن يكون مغايرا للزكاة لأن العطف يقتضي التغاير. التكليف السادس: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً بالوصف أي قولا حسنا. وحسنا على المصدر أي قولا ذا حسن، أو قولا هو الحسن في نفسه لإفراط حسنه، أو ليحسن قولكم حسنا. والظاهر أن المخاطبين بذلك هم الذين أخذ ميثاقهم لاتحاد القصة. قيل: إنه مخصوص إما بتخصيص الناس أي قولوا للمؤمنين حسنا بدليل آية القتال أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] وإما بتخصيص القول أي قولوا للناس حسنا في الدعاء إلى الله والأمر بالمعروف. وقال أهل الحقيقة: إنه على العموم وذلك أن كلام الناس مع الناس في الأمور الدينية إن كان بالدعوة إلى الإيمان وجب أن يكون بالرفق واللين كما قال لموسى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] وإن كان بالدعوة إلى الطاعة كالفساق فحسن القول أيضا معتبر ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125] ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت: 34] وأما في الأمور الدنيوية فمن المعلوم أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض باللطيف من القول لم يعدل إلى غيره، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، وما دخل الخرق في شيء إلا شانه، فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخل تحت هذا القول. وعن الباقر: قولوا للناس ما تحبون أن يقال لكم. التكليف السابع والثامن: قوله وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وقد تقدم تفسيرهما. ولا شك في وجوب هذه التكاليف عليهم بدليل: أخذ الميثاق، ولأن ظاهر الأمر للوجوب ولترتب الذم عليه بتوليهم، وهذه التكاليف أيضا واجبة في شرعنا. وعن ابن عباس: أن الزكاة نسخت كل حق. وضعف بأن إغاثة المضطر واجبة وإن لم تجب علينا الزكاة. واعلم أن التكليف إما بدني أو مالي وكل منهما إما عام أو خاص. فالبدني العام هو العبادة المطلقة، وهي أن يكون بكل الجوارح والقوى منقادا مطيعا مؤتمرا لأمر الله تعالى، بحيث لا يرى لنفسه شيئا من التصرف والاختيار كالعبد الماثل بين يدي مولاه وإليه الإشارة بقوله تعالى لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ. والبدني الخاص هو الصلاة وأشار إليه بقوله وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فللصلاة أوقات مخصوصة وأركان وشروط معدودة. والمالي الخاص هو الزكاة لتخصصها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 بالأصناف الزكوية وبالنصاب وبالحول وغير ذلك. والمالي العام لكونه منوطا بالقدرة. والإمكان سببه إما نسب أولا، والنسب إما سابق أو مقارن أو لاحق. فالسابق الوالدان، والمقارن الأقارب، واللاحق اليتامى، لأنهم أولاد. وذلك إذا كان الولي جدا أو بمنزلة الأولاد، وذلك إذا كان الولي غيره. وغير النسب إما الاحتياج والفقر وهو المساكين، أو الاشتراك في النوع، ولا يمكن إلا بالقول الحسن، وما ينخرط في سلكه من مكارم الأخلاق الفعلية «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن سعوهم بأخلاقكم» فالقول الحسن يشمل الأصناف المتقدمة أيضا بهذا الاعتبار، وحسن هذا الترتيب مما لا مزيد عليه، وقد كرر أكثر هذه المعاني في سورة النساء بضرب من التأكيد، فأكد العبادة بقوله وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء: 36] وأكد الإحسان إلى ذي القربى. وما يتلوه بتكرير الجار وهو الباء وبضم أصناف أخر وهم الجار وغيره إليهم فكأنه كالتفصيل لقوله وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً. قوله تعالى ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ قيل الخطاب لمتقدمي بني إسرائيل على طريقة الالتفات، ووجهه أن أول الكلام معهم فكذا آخره إلا بدليل يوجب الانصراف عن هذا الظاهر، وقيل: إنه خطاب لمن كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود، كأنه تعالى بين أن تلك المواثيق كما لزمهم التمسك بها فكذلك هي لازمة لكم لأنكم تعلمون ما في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته، فيلزمكم من الحجة مثل الذي لزمهم وأنتم مع ذلك قد توليتم إلا قليلا منكم وهم الذين آمنوا وأنتم معرضون. الواو للاعتراض أي وأنتم قوم من عادتكم الإعراض، أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أسلافكم. وقيل: ثم توليتم للمتقدمين وأنتم معرضون للمتأخرين. وأما قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ فقيل: خطاب لعلماء اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد أخذنا ميثاق آبائكم. وقيل: خطاب للأسلاف وتقريع للأخلاف. وفي قوله لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ إشكال، وهو أن الإنسان ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه فأي فائدة في النهي؟ والجواب أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت من أهل الهند أنهم يقدرون في قتل النفس التخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور، وككثير ممن يصعب عليه الزمان، أو المراد لا يفعل ذلك بعضكم ببعض جعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به أصلا أو دينا، أو أنه إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه، أو لا تتعرضوا لمقاتلة من يغلبكم فتكونوا قد قتلتم أنفسكم. وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ لا تفعلوا ما تستحقون بسببه أن تخرجوا من دياركم. والمراد إخراج بعضهم بعضا من ديارهم لأن ذلك مما تعظم فيه الفتنة حتى يقرب من الهلاك. وإعراب لا تَسْفِكُونَ ولا تُخْرِجُونَ على قياس ما تقرر في لا تَعْبُدُونَ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أي ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 بلزومه، وأنتم تشهدون عليها كقولك «فلان مقر على نفسه بكذا شاهد عليها» أو اعترفتم بقبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك، لأنه كان شائعا فيما بينهم مشهورا، وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق. ثُمَّ أَنْتُمْ معنى «ثم» الاستبعاد لما أسند إليهم من القتل، وإلا جلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم، وإقرارهم وشهادتهم. «وأنتم» مبتدأ و «هؤلاء» خبره أي أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرين تنزيلا لتغير الصفة منزلة تغير الذات كما تقول: خرجت بغير الوجه الذي دخلت به، و «تقتلون» بيان «لأنتم هؤلاء» وقيل «هؤلاء» موصول بمعنى الذين وهذا عند الكوفيين فإنهم يجوزون كون جميع أسماء الإشارة بمعنى الموصول. والتظاهر التعاون، ولما كان الإخراج من الديار وقتل البعض بعضا مما تعظم به الفتنة واحتيج فيه إلى اقتدار وغلبة، بيّن تعالى أنهم فعلوه على وجه الاستعانة بمن يظاهرهم على الظلم والعدوان، وفيه دليل على أن الظلم كما هو محرم فكذا إعانة الظالم على ظلمه محرمة. ولا يشكل هذا بتمكين الله تعالى الظالم من الظلم فإنه كما مكنه فقد زجره عنه ونهاه بخلاف معين الظالم فإنه يدعوه إلى الظلم ويحسنه في عينه مع أنه تعالى لا يسأل عما يفعل. أسرى جمع أسير كجرحى في جريح، وأسارى جمع أسرى كسكرى وسكارى. وقيل: أسارى من الجموع التي ترك مفردها كأنه جمع «إسران» كعجالى وعجلان. وقوله تُفادُوهُمْ جمهور المفسرين على أنه وصف لهم بما هو طاعة وهو التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره ليعودوا إلى كفرهم وهُوَ ضمير الشأن وإِخْراجُهُمْ مبتدأ ومُحَرَّمٌ خبره والجملة خبر الضمير. ويجوز أن يكون هُوَ مبتدأ مبهما ومُحَرَّمٌ خبره وإِخْراجُهُمْ تفسيره. أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ أي بالفداء وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ أي بالقتال والإجلاء. وذلك أن قريظة كانوا حلفاء الأوس والنضير كانوا حلفاء الخزرج، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه، وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه فعيرتهم العرب فقالت: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟ فيقولون: أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكنا نستحيي أن يذل حلفاؤنا فذمهم الله تعالى على المناقضة إذا أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض، ولعلهم صرحوا باعتقاد عدم وجوبه فلهذا سماه كفرا، وقد تكون المناقضة أدخل في الذم وفي ذلك تنبيه على أنهم في تصديقهم بنبوة موسى مع التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم والحجة في أمرهما على سواء، يجرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 مجرى طريقة السلف منهم في الإيمان ببعض والكفر ببعض وكل في الميثاق سواء. الخزي الذل والهوان خزي بالكسر يخزي خزيا أي ذل وهان، وخزي أيضا يخزى خزاية أي استحيا فهو خزيان. فإذا قيل: أخزاه الله. فالمراد أهانه أو أوقعه موقعا يستحيي منه وتنكير «خزي» يدل على فظاعة شأنه وأنه بلغ مبلغا لا يكتنه كنهه، والأظهر أنه غير مختص ببعض الوجوه. وقيل: هو قتل بني قريظة وأسرهم وإجلاء بني النضير، وقيل: الجزية، وعلى هذين القولين يختص الخزي بمن في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم وبمن يخلفهم دون أسلافهم، فإن قيل: عذاب منكري الصانع كالدهرية يجب أن يكون أشد، فكيف يقال في حق اليهود يردون الى أشد العذاب؟ قلنا: إما لأن كفر العناد أغلظ، وإما لأن المراد أشد من الخزي لا الأشد مطلقا. وفي قوله: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ وعيد شديد للعاصين وبشارة عظيمة للمطيعين، لأن القدرة الكاملة مع عدم الغفلة تدل على وصول الحقوق إلى مستحقها لا محالة. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ استبدلوها بها فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ لا ينقطع ولا يفتر بل يدوم على حالة واحدة وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بدفع هذا العذاب عنهم. وفيه تنبيه على أن الجمع بين تحصيل لذات الدنيا إذا كانت على وفق الهوى لا الشرع، وبين لذات الآخرة ممتنع يستتبع وجود إحداهما عدم الأخرى والله ولي التوفيق. التأويل: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ في عهد أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ بامتثال أوامر الشيطان واتباع خطواته كما قيل: إلى حتفي مشى قدمي ... أرى قدمي أراق دمي وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ من ديار عبوديتكم التي كنتم فيها في أصل الفطرة وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ لا تقتصرون على ضلالكم بل يعاون بعضكم بعضا على الإعراض عن حقوق الله والإقبال على حظوظ النفس وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ فمن أسر في قيد الهوى فإنقاذه بالدلالة على الهدى، ومن أسر في قيد حب الدنيا فخلاصه في كثرة ذكر المولى، ومن أسر في أيدي الشكوك والشبهات ففداؤه إرشاده إلى اليقين بلوائح البراهين ولوامع البينات، ومن أسر في حبس وجوده فنجاته فيما يحل عنه وثاق الكون ويوصله إلى معبوده، ومن أسر في قبضة الحق فليس لأسراهم فداء ولا لقتلاهم قود ولا لرهطهم خلاص ولا لقومهم مناص ولا منهم فرار ولا معهم قرار ولا إليهم بغيره سبيل ولا لديهم دليل أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وهو ما سمعتم في أول الخطاب أَلَسْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 بِرَبِّكُمْ فقلتم بلى وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ وهو الذي عاهدتم عليه ألا تعبدوا غير الله من الشيطان والنفس والهوى الله حسبي. [سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 91] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) القراآت: الْقُدُسِ بسكون الدال حيث كان: ابن كثير. بِئْسَمَا وبابه بغير همز: أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف. يُنَزِّلَ خفيفا: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الوقوف: الْقُدُسِ (ط) اسْتَكْبَرْتُمْ (ج) لتناهي الاستفهام مع تعقب فاء التعقيب بعده كَذَّبْتُمْ (ز) لعطف المستقبل على الماضي مع تقديم المفعولين فيهما تَقْتُلُونَ (هـ) غُلْفٌ (ط) (ز) لأن «بل» إعراض عن الأول وتحقيق للثاني يُؤْمِنُونَ (هـ) لِما مَعَهُمْ (ط) «لأن» الواو للحال كَفَرُوا (ج) لأن «لما» متضمنة للشرط وجوابها منتظر والوصل أجوز لأن «لما» مكرر وجوابهما متحد، وقوله: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ حال معترض كَفَرُوا بِهِ (ج) لأن ما بعده مبتدأ لكن الفاء تقتضي تعجيل ذكر جوابهم الْكافِرِينَ (هـ) مِنْ عِبادِهِ (ج) لطول الكلام مع فاء التعقيب عَلى غَضَبٍ (ط) مُهِينٌ (هـ) لِما مَعَهُمْ (ط) مُؤْمِنِينَ (ط) . التفسير: لما ذكر سبحانه في الآي المتقدمة صنيع اليهود في مخالفتهم أمره تعالى ومناقضة حالهم، أكد ذلك في هذه الآي بذكر نعم أفاضها عليهم ثم إنهم قابلوها بالكفران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 ونقيض المقصود زيادة في تبكيتهم. أما الكتاب فهو التوراة آتاه الله تعالى إياه جملة واحدة. عن ابن عباس أنها لما نزلت أمر الله موسى بحملها فلم يطق ذلك، فبعث الله لكل آية منها ملكا فلم يطيقوا حملها، فبعث الله لكل حرف منها ملكا فلم يطيقوا حملها، فخففها الله على موسى عليه السلام فحملها. القفو والتقفية الإتباع وهو من القفا كالتذنيب من الذنب أي أتبعنا على أثره رسلا كثيرين وهم يوشع وأشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم. روي أن هؤلاء الرسل كانوا على شريعة واحدة إلى أيام عيسى عليه السلام فإنه جاء بشريعة مجددة ناسخة لأكثر شرع موسى، وكان المقصود من بعثة هؤلاء تنفيذ الشريعة السالفة وإحياء بعض ما اندرس منها ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» «إن الله سيبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدد لها دينها» فقيل عيسى بالسريانية أيشوع أي المبارك، ومريم بمعنى الخادم. وقيل مريم بالعبرية من النساء كالزير من الرجال وهو الذي يحب محادثة النساء ومجالستهن، سمي بذلك لكثرة زيارته لهن وبه فسر قول رؤبة: قلت لزير لم تصله مريمه ووزن «مريم» عند أهل الصرف «مفعل» لأن فعيلا بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو «عثير» للغبار «وعليب» اسم واد. البينات المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك، أيدناه قويناه من الأيد القوة، وبروح القدس الروح المقدس كما يقال حاتم الجود ورجل صدق أي بجبريل سمي بذلك لأنه سبب حياة الدين كما أن الروح سبب حياة البدن، ولأنه الغالب عليه الروحانية، ولأنه لم تضمه أصلاب الفحول ولا أرحام الأمهات، وقيل بالإنجيل كما قال وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] لأن العلم سبب حياة القلوب، وقيل: باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره، عن ابن عباس وسعيد بن جبير. وقيل: الروح الذي نفخ فيه، والقدس والقدوس هو الله، وإضافة الروح إليه تشريف وتعظيم كما يقال «بيت الله» و «ناقة الله» . عن الربيع: وكون الروح هاهنا جبريل أظهر لأن اختصاصه بعيسى أكثر لأنه الذي بشر مريم بولادتها وقد تولد عليه السلام من نفخة جبريل في أمه وهو الذي رباه في جميع الأحوال وكان يسير معه حيث سار وكان معه حين صعد إلى السماء. قوله تعالى: أَفَكُلَّما وسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به من قوله: وَلَقَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 آتَيْنا لإفادة التوبيخ والتعجيب من شأنهم، ويجوز أن تكون الفاء للعطف على مقدر معناه أأعرضتم فكلما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ الباء للتعدية أو بمعنى «مع» ، وذلك أنهم كانوا إذا أتاهم رسول بخلاف ما يهوون كذبوه وإن تهيأ لهم قتله قتلوه ترفعا وترؤسا على عامتهم. وأخذ أموالهم بغير حق يوهمون عوامهم أنهم على الحق والنبي صلى الله عليه وسلم على الباطل، ويحتجون على ذلك بالتحريف وسوء التأويل، ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم عليه السلام فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ على التمام وما بقي منه غير مكذب وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ أي ما تيسر لكم قتله بعد على التمام لأنكم تحومون حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة. قال صلى الله عليه وسلم عند وفاته: ما زالت أكلة خيبر تعادّني فهذا أوان قطعت أبهري. والعداد اهتياج وجع اللديغ بعد كل سنة، والأبهر عرق يخرج من القلب إذا انقطع مات صاحبه. ويجوز أن يراد الحال الماضية لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب كقوله: فأضر بها بلا دهش فخرت وفائدة تقديم المفعول به على الفعلين بعد رعاية الفاصلة في تَقْتُلُونَ بيان غاية عنادهم وفرط عتوهم حيث جعلوا الرسل فريقين: أحدهما مخصص بالتكذيب والآخر بالقتل، كأن وصف الرسالة عندهم هو الذي اقتضى عندهم أحد هذين حتى خص المنعوت به دون سائر الناس بأحد الأمرين، وهذا نهاية الجهالة حيث استقبلوا أشرف الأصناف لأكرم الأوصاف بغاية الاستخفاف. غلف جمع أغلف وهو كل ما فيه غلاف ومنه الأغلف للذي لم يختن، أي قلوبنا مغشاة بأغطية فلا تتأثر من دعوتك لمكان الحائل بينهما. وقيل: غلف تخفيف غلف بضمتين جمع غلاف أي قلوبنا أوعية للعلم والحكمة فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره لا حاجة بنا إلى شرعك. بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ رد لقولهم وأن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة، والتمكن من قبول الحق ولكنهم لعنوا أي طردوا عن رحمة الله وأبعدوا عن الخيرات بسبب كفرهم الذي أحدثوه بعد نصب الأدلة وإزاحة العلة. وفي هذا لطف للمكلفين أن لا يتسلقوا إلى المعاصي بإبلاء نحو هذا العذر وإبداء مثل هذه الحجة، ولكن يشمرون عن ساق الاجتهاد «فكل ميسر لما خلق» له فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ أي إيمانا قليلا يؤمنون. و «ما» مزيدة وهو إيمانهم ببعض الكتاب أو بقليل مما كلفوا به. يؤمنون، فانتصب بنزع الخافض. و «ما» صفة أي بشيء قليل من الأشياء المكلف بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم أي لا يؤمنون أصلا لا قليلا ولا كثيرا كما يقال: قليلا ما تفعل. أي لا تفعل البتة. وذلك أن الإيمان بالله إنما يعبأ به إذا كان مؤمنا بجميع ما أنزل الله، فإذا فرق بين أوامره فهو عن الإيمان بمعزل. وَلَمَّا جاءَهُمْ جوابه محذوف وهو نحو: كذبوا به واستهانوا بمجيئه. ويجوز أن يكون جوابه هو جواب «لما» الثانية المكررة للتأكيد لطول الكلام نحو قوله فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ [آل عمران: 188] بعد قوله لا تَحْسَبَنَّ [آل عمران: 188] . واتفقوا على أن المراد بالكتاب هو القرآن، ووجه تصديقه لما معهم ليس هو الموافقة في أصول الشرائع، لأن جميع كتب الله كذلك، بل المراد ما يختص بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من العلامات والنعوت والصفات. والتحقيق أن ذكر الكتاب هاهنا كناية عن الرسول لأن الرسول يلزمه الكتاب عرفا أو مجازا لأن الكتاب مستلزم للرسول لا محالة يدل على ذلك قوله يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة: 89] وذلك أن اليهود قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن كانوا يسألون به الفتح والنصرة على المشركين إذا قاتلوهم يقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة. وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. وقيل: معنى يستفتحون يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبيا يبعث منهم قد قرب أوانه. والسين للمبالغة أي يسألون أنفسهم الفتح عليهم كالسين في «استعجب» و «استسخر» ، أو يسأل بعضهم بعضا أن يفتح عليه، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا من الحق وهو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن تكون «ما» بمعنى «من» نحو: سبحان ما سخركن لنا أي فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم كَفَرُوا بِهِ، إما لأنهم كانوا يظنون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة مجيء الرسل منهم فيرغبون الناس في دينه ويدعونهم إليه فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم من العرب من ذرية إسماعيل عليه السلام عظم ذلك عليهم فأظهروا التكذيب بغيا وحسدا وعنادا ولددا، وإما لأنهم ظنوا أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب خاصة، وإما لأن اعترافهم بنبوته كان يوجب عليهم زوال رياساتهم ومكاسبهم فأبوا وأصروا على الإنكار. فكفرهم إذا كفر عناد، فَلَعْنَةُ اللَّهِ وهي الإبعاد عن الخيرات الحقيقية الباقية) عَلَى الْكافِرِينَ أي عليهم، فوضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أن اللعنة إنما لحقتهم لكفرهم، واللام للعهد أو للجنس ويدخلون فيه دخولا أوليا. فإن قيل: أليس أنه تعالى ذكر وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة: 83] قلنا: العام قد يخص، وأيضا لعن من يستحق اللعن حسن، وأيضا أولئك بالنسناس أشبه منهم بالناس أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: 179] «بئس» لإنشاء الذم، وفاعله قد يكون مظهرا نحو «بئس الرجل زيد» ، وقد يكون مضمرا يعود إلى معهود ذهني فيفسر حينئذ بنكرة منصوبة وبعدهما المخصوص بالذم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ف «ما» نكرة منصوبة مفسرة: لفاعل «بئس» أي بئس شيئا اشتروا به أنفسهم، والمخصوص بالذم أَنْ يَكْفُرُوا واختلف في إعراب المخصوص فقيل: مبتدأ والجملة قبله خبره. وقيل خبر مبتدأ محذوف أي هو أن يكفروا. واشتروا بمعنى باعوا لأن الكفر حاصل تعلق نفوسهم بأبدانهم كما أن الثمن حاصل ملك المالك. وقيل: إن المكلف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله تعالى فأتى بأعمال يظن بها أنها تخلصه من العقاب فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال، وهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم من العقاب ويوصلهم إلى الثواب، فقد ظنوا أنهم قد اشتروا أنفسهم بها، والمراد بما أنزل الله القرآن لأنهم كانوا مؤمنين بغيره. ثم بين الوجه الذي لأجله اختاروا هذا الكفر فقال بَغْياً أي حسدا وطلبا لما ليس لهم، ولولا هذا البيان لجاز أن يكون الباعث لهم على ذلك الكفر هو الجهل لا البغي ولما كان الباعث على البغي قد يكون وجوها شتى بين أن الحامل لهم على البغي هو أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الذي هو الوحي عَلى مَنْ يَشاءُ وتقتضي حكمته إرساله وهذا هو اللائق بما حكينا من أنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم يحصل في قومهم، فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على البغي والحسد، وعلى هذا يكون الجار المحذوف هو لام الغرض أي لأجل أن ينزل، ويحتمل أن يقال المحذوف على أي حسدوه على أن ينزل. فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ لا بد من إثبات سببي غضبين: أحدهما تكذيبهم عيسى وما أنزل عليه، والثاني تكذيبهم محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه، فصار ذلك سببا بعد سبب لسخط بعد سخط وهو قول الحسن والشعبي وعكرمة وأبي العالية وقتادة. وقيل: الأول لعبادتهم العجل، والثاني لكتمانهم نعت محمد صلى الله عليه وسلم وجحدهم نبوته عن السدي. وقيل: ليس المراد إثبات الغضبين فقط، بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور متوالية صدرت عنهم كقولهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64] إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: 181] عن عطاء وعبيد بن عمير. وقيل: المراد تأكيد الغضب وتكثير له لأجل أن هذا الكفر وإن كان واحدا إلا أنه عظيم، وهو قول أبي مسلم. ومعنى الغضب في حقه تعالى قد عرفت مرارا أنه عبارة عن لازمه وهو إرادة الانتقام، وأما تزايده وتكثره فيصح فيه ذلك كصحته في العذاب، فلا يكون غضبه على من كفر بخصال كثيرة كمن كفر بخصلة واحدة وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ من وضع الظاهر مقام المضمر أي ولهم عذاب، وفائدته ما ذكرنا في قوله فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ ووصف العذاب بالمهين والمهين هو المعذب لأن الإهانة لما حصلت مع العذاب جاز أن يجعل ذلك من وصفه لأنها بسبب منه، ولا يلزم من اقتران العذاب بالإهانة تكرار فقد يكون العذاب ولا إهانة كالوالد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 يؤدب ولده آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بكل ما أنزل الله من كتاب وقد يستدل به على عموم «ما» قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أي بالتوراة وكتب سائر الأنبياء الذين آتوا بتقرير شرع موسى عليه السلام وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أي قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة وهو الإنجيل والقرآن وَهُوَ الْحَقُّ الضمير يعود إلى «ما وراءه» أو إلى القرآن فقط. ومُصَدِّقاً حال مؤكدة لوجود شرطها وهو كونها مقررة لمضمون جملة اسمية، أو كون مضمونها لازما لمضمون الجملة الاسمية، فإن التصديق لازم حقية القرآن فصار كأنه هو والعامل في مُصَدِّقاً محذوف وهو يبدو أو يثبت على الأصح. وأما الواو في وَهُوَ الْحَقُّ فيجوز أن تكون معترضة فلا محل للجملة، ويجوز أن تكون للحال وحينئذ إما أن يكون العامل فيها هو العامل في قوله وَيَكْفُرُونَ على أن كلا منهما حال بحيالها، وإما أن يكون العامل فيها هو يكفرون على أنهما حالان متداخلتان. وفي قوله وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ دلالة على وجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه لما أثبت نبوته بالمعجزات ثم إنه أخبر أن هذا القرآن منزل من عند الله وأنه صلى الله عليه وسلم أمر المكلفين بالإيمان، كان الإيمان به واجبا لا محالة، وعند هذا يظهر أن الإيمان ببعض الأنبياء وبعض الكتب مع الكفر ببعضهم وبعضها محال. وأيضا أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعلم علما ولم يقرأ ولم يخط، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أتى بالقصص والأخبار مطابقة لما في التوراة، فيعلم بالضرورة أنه صلى الله عليه وسلم استفادها من قبل الوحي وأيضا القرآن يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق التوراة وجب اشتمال التوراة على الأخبار عن نبوته. فمدعي الإيمان بالتوراة يجب أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وإلا كان كاذبا. ثم إنه تعالى بين من وجه آخر كذب دعواهم، وهو أن التوراة لا تسوغ قتل الأنبياء وأنهم سوغوا ذلك، وفيه دليل على أن إيراد المناقضة على الخصم الألد جائز. والكلام وإن كان على وجه الخطاب إلا أن المراد بذلك أسلافهم بدليل مِنْ قَبْلُ وتقتلون حكاية حال ماضية. وأصل «لم» لما بإدخال لام التعليل في «ما» الاستفهامية، حذفت الألف للتخفيف أي لأي غرض وبأي حجة كان أسلافكم يقتلون الأنبياء. وفي قوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم الإيمان، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما تقدمه. وفيه تنبيه على أن اليهود المعاصرين خرجوا بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان بالتوراة كما أن أسلافهم خرجوا بقتل بعض الأنبياء عن الإيمان بها والله تعالى أعلم. التأويل: هذا حال أكثر البطالين المتشبهين بالطالبين يصغون الى كلمات العلماء الراسخين، فما استحلته نفوسهم قبلوه، وما استغربته نبذوه وأنكروه، فيكذبون فريقا منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 فرارا عن تحمل أعباء الطلب ويثيرون الفتنة على فريق بالحسد والإنكار والفتنة أشد من القتل وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ فيه إشارة إلى أن الطالب إذا ابتلى في أثناء الطلب بالرهقة أو الفترة لم يضره ذلك ما دام متمسكا بالإرادة، فيرجى رجوعه بإذن الله وبمدد همة الأستاذ والشيخ، فأما إذا زلت قدمه عن جادة الإرادة وأظهر الإنكار والاعتراض فلن يرجى فلاحه. وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ فيه إشارة إلى أن أهل كل زمان يتمنون أن يدركوا أحدا من العلماء والأولياء المحظوظين بالعلوم الكسبية واللدنية ويتوسلون بهم إلى الله تعالى عند رفع حوائجهم في صالح دعائهم ويظهرون محبتهم عند الخلق فَلَمَّا جاءَهُمْ واحدا منهم ما عَرَفُوا قدره وحسدوه وأظهروا عداوته وما أنصفوه فَباؤُ بِغَضَبٍ من رد ولاية الأولياء عَلى غَضَبٍ من الله لأوليائه كما جاء في الحديث «من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» و «إنما أنا أغضب لأوليائي كما يغضب الليث لجروه» والله أعلم بالصواب. [سورة البقرة (2) : الآيات 92 الى 96] وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) القراآت: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مدغمة الدال في الجيم كل القرآن: أبو عمرو وحمزة وعلي خلف وهشام جاءَكُمْ وبابه بالإمالة: حمزة وخلف وابن ذكوان قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بكسر الهاء والميم: أبو عمرو وسهل ويعقوب، وقرأ حمزة وعلي وخلف بضم الهاء والميم، الباقون بكسر الهاء وضم الميم وكذلك كل ما لقي الميم حرف ساكن وقبل الهاء كسرة بما تعملون بتاء الخطاب: يعقوب. الوقوف: ظالِمُونَ (هـ) الطُّورَ (ط) لتقدير القول وَاسْمَعُوا (ط) بِكُفْرِهِمْ (ط) مُؤْمِنِينَ (هـ) صادِقِينَ (هـ) أَيْدِيهِمْ (ط) بِالظَّالِمِينَ (هـ) عَلى حَياةٍ (ج) على تقدير: ومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم، ومن وقف على أَشْرَكُوا فتقديره أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا ويَوَدُّ مستأنف للبيان وإنما لم يدخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 من في الناس وأدخل في الذين أشركوا لأن اليهود من الناس وليسوا من المشركين كقولك «الياقوت أفضل الحجارة وأفضل من الديباج» سَنَةٍ (ط) لأن ما بعده يصلح مستأنفا وحالا أَنْ يُعَمَّرَ (ط) يَعْمَلُونَ (هـ) . التفسير: السبب في تكرير قصة اتخاذ العجل هاهنا القدح بوجه آخر في قولهم نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [البقرة: 91] وبيان وصفهم بالعناد والتكذيب تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتا له، فإن قوم موسى عليه السلام بعد ظهور المعجزات الواضحات على يده اتخذوا العجل إلها ومع ذلك صبر وثبت على الدعاء إلى ربه والتمسك بدينه وشرعه. وكرر ذكر رفع الطور للتأكيد، ولما نيط به من زيادة قولهم سَمِعْنا وَعَصَيْنا الدال على نهاية لجاجهم وذلك أنه قال لهم: اسمعوا سماع تقبل وطاعة. فقالوا: سمعنا ولكن لا سماع طاعة، وظاهر الآية يدل على أنهم قالوا هذا القول أعني سمعنا وعصينا وعليه الأكثرون. وعن أبي مسلم أنه يجوز أن يكون المعنى سمعوه وتلقوه بالعصيان، فعبر عن ذلك بالقول مثل قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ أي تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الثوب الصبغ. وقوله تعالى فِي قُلُوبِهِمُ بيان لمكان الإشراب كقوله إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: 10] وفي هذه الاستعارة لطيفة وهي أنه كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض فكذا تلك المحبة كانت مادة للقبائح الصادرة عنهم. وفي قوله وَأُشْرِبُوا دلالة على أن فاعلا غيرهم فعل ذلك بهم كالسامري وإبليس وشياطين الجن والإنس، وذلك بسبب كفرهم واعتقادهم التشبيه على الله تعالى ولا ريب أن جميع الأسباب تنتهي إلى الله تعالى وقد عرفت التحقيق في أمثال ذلك مرارا. بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ المخصوص بالذم محذوف أي بئس شيئا يأمركم به إيمانكم بالتوراة عبادة العجل، فليس في التوراة عبادة العجاجيل. وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما قال قوم شعيب أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ [هود: 87] وكذلك إضافة الإيمان إليهم. واعلم أن الإيمان عرض ولا يصح منه الأمر والنهي، لكن الداعي إلى الفعل والسبب فيه قد يشبه بالأمر كقوله إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ الدار اسم «كان» وفي الخبر ثلاثة أوجه: الأول: خالِصَةً وعِنْدَ ظرف لخالصة أو للاستقرار الذي في لَكُمُ ويجوز أن يكون عِنْدَ حالا من الدار والعامل فيها «كان» أو الاستقرار. وأما لَكُمُ فيكون على هذا متعلقا ب «كان» لأنها تعمل في حروف الجر، ويجوز أن يكون للتبيين فيكون موضعها بعد خالِصَةً أي خالصة لكم فيتعلق بنفس خالصة، ويجوز أن يكون صفة لخالصة قدمت عليها فيتعلق حينئذ بمحذوف. الثاني: أن يكون خبر كان لَكُمُ وعِنْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 اللَّهِ ظرف وخالِصَةً حال والعامل «كان» أو الاستقرار. الثالث: أن يكون عِنْدَ اللَّهِ هو الخبر وخالِصَةً حال والعامل فيها إما عند، أو ما يتعلق به أو «كان» أو «لكم» وسوغ أن يكون عِنْدَ خبر كانَتْ لَكُمُ إذ كان فيه تخصيص وتبيين نحو وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 4] وقوله مِنْ دُونِ النَّاسِ نصب ب خالِصَةً لأنك تقول: خلص كذا من كذا. والمراد بالدار الآخرة الجنة لأنها هي المطلوبة من الدار الآخرة دون النار. والمراد بقوله عِنْدَ اللَّهِ الرتبة والمنزلة، وحمله على عندية المكان ممكن هاهنا إذا لعلهم كانوا مشبهة. ومعنى خالصة لكم أي سالمة خاصة بكم لا حق لأحد فيها سواكم. «ودون» هاهنا يفيد التجاوز والتخطي في المكان كما تقول لمن وهبته منك ملكا: هذا لك من دون الناس. أي لا يتجاوز منك إلى غيرك. والناس للجنس وقيل للعهد وهم المسلمون والجنس أولى لقوله وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 111] ولأنه لم يوجد هاهنا معهود. فإن قلت: من أين ثبت أنهم ادعوا ذلك؟ قلنا: لأنه لا يجوز أن يقال في معرض الاستدلال على الخصم إن كان كذا وكذا فافعل كذا إلا والأول مذهبه ليصح إلزامه بالثاني، ولقوله تعالى وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 111] نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] ولما اعتقدوا في أنفسهم أنهم هم المحقون، لأن النسخ غير جائز عندهم، ولزعمهم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ويوصلونهم إلى ثواب الله فلهذه الأسباب عظموا شأن أنفسهم وكانوا يفتخرون على العرب، وربما جعلوه كالحجة في أن النبي صلى الله عليه وسلم المنتظر المبشر به في التوراة منهم لا من العرب، وكانوا يصرفون الناس بسبب هذه الشبهة عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فبين الله تعالى فساد معتقدهم بالآية. وبيان الملازمة أن متاع الدنيا قليل في جنب نعم الآخرة، وذلك القليل كان أيضا منغصا عليهم بعد ظهور محمد صلى الله عليه وسلم ومنازعته معهم بالجدال والقتال. فالموت خير لهم لا محالة لأنه يوصل إلى الخيرات الكثيرة الدائمة الصافية عن النغص، ولا يفوت إلا القليل النكد. والوسيلة وإن كانت مكروهة نظرا إلى ذاتها لكنه لا يتركها العاقل نظرا إلى غايتها كالفصد ونحوه. والنهي عن تمني الموت في قوله صلى الله عليه وسلم «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وإن كان ولا بد فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا إليّ وأمتني ما كانت الوفاة خيرا لي» «1» محمول على تمن سببه عدم الصبر على الضر ونكد العيش كما قال قائل:   (1) رواه البخاري في كتاب المرضى باب 19. مسلم في كتاب الذكر حديث 10، 13. أبو داود في كتاب الجنائز باب 9. النسائي في كتاب الجنائز باب 1. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 31. الدارمي في كتاب الرقاق باب 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه ألا رحم المهيمن روح عبد ... تصدق بالوفاة على أخيه فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقضاء ويدل على الجزع وضيق العطن وينافي قضية التوكل والتسليم، أو على تمن سببه الجزم بالوصول إلى نعيم الآخرة فإن ذلك خارج عن قانون الأدب، ونوع من الأخبار بالغيب لا يليق إلا ببعض أولياء الله. روي أن عليا عليه السلام كان يطوف بين الصفين في غلالة وهي شعار يلبس تحت الثوب وتحت الدرع أيضا. فقال له ابنه الحسن: ما هذا بزي المحاربين. فقال: يا بني، لا يبالي أبوك على الموت سقط أم عليه سقط الموت. وعن حذيفة أنه رضي الله عنه كان يتمنى الموت، فلما احتضر قال رضي الله عنه: حبيب جاء على فاقة لا يفلح من ندم. يعني على التمني. وقال عمار بصفين: الآن ألاقي الأحبة، محمدا وحزبه. وكان كل واحد من العشرة المبشرة بالجنة يحب الموت ويحن إليه لجزمهم بلقاء الله ونيل ثوابه وذلك لمكان البشارة، فأما أحدنا فلا يليق به تمني الموت إلا على سبيل الرجاء وحسن الظن بالله «أنا عند ظن عبدي بي» «1» وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على الأرض يهودي» وليس لهم أن يقبلوا هذا السؤال على محمد صلى الله عليه وسلم فيقولوا: إنك تدعي أن الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر، فارض بأن نقتلك ونقتل أمتك فإنا نراك وأمتك في الضر الشديد والبلاء العظيم، وبعد الموت تتخلصون إلى دار الكرامة والنعيم، لأنه صلى الله عليه وسلم بعث لتبليغ الشرائع وتنفيذ الأحكام ولا يتم المقصود إلا بحياته وحياة أمته، فله صلى الله عليه وسلم أن يقول لأجل هذا لا أرضى بالقتل مع أن المؤمن من هذه الأمة قلما يخلو من النزاع والشوق إلى لقاء ربه، فالعبد المطيع يحب الرجوع إلى سيده، والعبد الآبق يكره العود إلى مولاه، ولهذا جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وبذلوا أرواحهم دون الدين والذب عن الملة الحنيفية رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ [الأحزاب: 23] عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقالت عائشة أو بعض أزواجه إنا لنكره الموت قال ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه. وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15، 35. مسلم في كتاب التوبة حديث 1. الترمذي في كتاب الزهد باب 51. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه» «1» ثم إنه تعالى بين انتفاء اللازم بقوله وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً وبرهن عليه بقوله بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بما أسلفوا من موجبات النار كالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وكتحريف كتاب الله وسائر قبائح أفعالهم. وذكر الأيدي مجاز لأن أكثر الأعمال يتم بمباشرة اليد. وقوله وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً من المعجزات لأنه إخبار بالغيب، وكان كما أخبر به كقوله وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: 24] وذلك أن التمني ليس من أعمال القلب حتى لا يطلع عليه أحد، وإنما هو قول الإنسان بلسانه تمنيت أو ليت لي كذا، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب. فلو إنهم تمنوا لنقل ذلك كما ينقل سائر الحوادث العظام، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن أكثر من الذرّ. وأيضا لو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا قد تمنينا الموت في قلوبنا ولم ينقل أنهم قالوا ذلك. وأيضا لولا أنه تعالى أوحى إليه أنهم لم يتمنوا لم يكن في العقل رخصة الإقدام على مثل هذا الإلزام، لأنه في غاية السهولة، وإذا ثبت انتفاء اللازم ثبت انتفاء الملزوم بالضرورة وهو أن لا تكون الدار الآخرة لهم خالصة، وأما أنها ليست لهم بالاشتراك أيضا، فيستفاد من الآية التالية. وفي قوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ إشارة أيضا إلى ذلك لأنه إذا كان محيطا بسرهم وعلانيتهم وقد قدموا من القبائح ما قدموا فيجازيهم بما يحقون له. وفي وضع الظاهر وهو بالظالمين مقام المضمر وهو بهم إشارة أخرى إلى سوء منقلبهم وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء: 227] واللام إما للعهد وإما للجنس، فيشملهم أولا وغيرهم من الظلمة ثانيا. فإن قيل: ما الفائدة في قوله هاهنا وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ وفي سورة الجمعة وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ [الجمعة: 7] ؟ قلنا: لأن الدعوى هنا كون الدار الآخرة خالصة لهم، وهناك كونهم أولياء لله من دون الناس، والأول مطلوب بالذات، والثاني وسيلة إليه، فناسب أن ينفي الأول بما هو أبلغ في إفادة النفي وهو «لن» ، أو لأن الدعوى الثانية أخص فإنه لا يلزم أن يكون كل من له الدار الآخرة وليا بمعنى أنه يلي النبي في الكمال والإكمال، ونفي العام أبعد من نفي الخاص كما أن إثبات الخاص في قولك «فلان ابن فلان موجود» أبعد من إثبات العام في قولك «الإنسان موجود» . فحيث كانت الدعوى الأولى أبعد احتيج إلى أداة. هي في باب النفي أبلغ. ثم إنه سبحانه لما أخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم لا يتمنون الموت، أخبر بعد ذلك أنهم في غاية الحرص على الحياة، لأن هاهنا قسما ثالثا وهو أن لا يتمنى   (1) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث 14- 18. الترمذي في كتاب الجنائز باب 67. النسائي في كتاب الجنائز باب 10. الدارمي في كتاب الرقاق باب 43. الموطأ في كتاب الجنائز حديث 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الحياة ولا الموت فقال وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ مؤكدا باللام والنون والقسم المقدر وهو من وجد بمعنى علم. وقوله عَلى حَياةٍ بالتنكير لأنه أراد نوعا من الحياة مخصوصا وهي الحياة المتطاولة أو حياة وأيّ حياة. وفي جعلهم أحرص من الذين أشركوا توبيخ عظيم، لأن المشركين لا يؤمنون بمعاد وعاقبة وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فهي جنتهم، فلا يستبعد حرصهم عليها. فإذا ازداد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان خليقا بالتوبيخ. وسبب زيادة حرصهم هو علمهم بأنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون غافلون عن ذلك. وقيل: أراد بالذين أشركوا المجوس لأنهم كانوا يقولون لملوكهم: عش ألف نيروز وألف مهرجان. وعن ابن عباس: هو قول الأعاجم «زي هزار سال» ، ويحسن أن يقال وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا كلام مبتدأ أي ومنهم ناس يودّ على حذف الموصوف كقوله وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] أي وما منا ملك لقوة الدلالة عليه بذكر ما اشتمل عليه قبله، فكأنه مذكور، وعلى هذا يلزم توبيخ اليهود من جهة أخرى وهي انضمامهم في زمرة المشركين وكونهم بعضا منهم وذلك كقولهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] . وقال أبو مسلم: في الآية تقديم وتأخير أي ولتجدنهم طائفة من الذين أشركوا وأحرص الناس على حياة، ثم فسر بقوله يَوَدُّ أَحَدُهُمْ أي كل واحد يغرض لو يعمر. و «لو» في معنى التمني ولَوْ يُعَمَّرُ حكاية لودادتهم، وكان يجوز «لو أعمر» على الحكاية إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله يَوَدُّ أَحَدُهُمْ مثل «حلف بالله ليفعلن» وتخصيص الألف بالذكر بناء على العرف ولأنه أول عقد يستحيل وقوعه في أعمار بني آدم أو يندر. والضمير في قوله وَما هُوَ يعود إلى أحدهم وأَنْ يُعَمَّرَ فاعل بِمُزَحْزِحِهِ أي وما أحدهم بمن يزحزحه من العذاب تعميره. ويجوز أن يكون الضمير لما دل عليه يُعَمَّرُ من مصدره وأَنْ يُعَمَّرَ بدل منه كأنه قيل: وما التعمير بمزحزحه من العذاب أن يعمر. ويجوز أن يكون هُوَ مبهما وأَنْ يُعَمَّرَ موضحه. والزحزحة المباعدة والتنحية. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيه تهديد لأهل البغي والعناد، وزجر للعصاة عن الفساد. والبصر قد يراد به العلم يقال فلان بصير بهذا الأمر أي عارف به، وقد يراد به أنه على صفة لو وجدت المبصرات لأبصرها، وكلا الوصفين يصح عليه سبحانه ما لم يثبت له جارحة. فإن قلنا: إن من الأعمال ما لا يصح أن يرى، تعين حمل البصر فيه على العلم والله أعلم بالصواب. وإليه المرجع والمآب. [سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 101] قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 القراآت: لِجِبْرِيلَ مفتوحة الجيم مكسورة الراء غير مهموز: ابن كثير. وقرأ حمزه وعلي وخلف وعاصم غير حفص ويحيى مفتوحة الراء والجيم مهموزة مشبعا. وقرأ يحيى مختلسا. الباقون: مكسورة الراء والجيم غير مهموز. مِيكالَ أبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص، وقرأ أبو جعفر ونافع مختلسا مهموزا. الباقون: ميكائيل مهموزا مشبعا. الوقوف: لِلْمُؤْمِنِينَ (هـ) لِلْكافِرِينَ (هـ) بَيِّناتٍ (ج) لأن هذه الواو للابتداء أو الحال والحال أوجه لاتحاد القصة الْفاسِقُونَ (هـ) فَرِيقٌ مِنْهُمْ (ط) لأن «بل» للإعراض عن الأول لا يُؤْمِنُونَ (هـ) أُوتُوا الْكِتابَ (ط) قد قيل يوقف لبيان أن كتاب الله مفعول «نبذ» لا بدل مما قبله لا يَعْلَمُونَ (هـ) قد يجوز للآية، والوصل للعطف على نَبَذَ لإتمام سوء اختيارهم في النبذ والاتباع. التفسير: هذا نوع آخر من قبائح أفعال اليهود، والسبب في نزوله أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا من أحبار فدك فقال: يا محمد، كيف نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي صلى الله عليه وسلم الذي يجيء في آخر الزمان، فقال صلى الله عليه وسلم تنام عيناي ولا ينام قلبي. قال: صدقت يا محمد، فأخبرنا عن الولد من الرجل يكون أو من المرأة؟ فقال: أما العظام والعصب والغضروف فمن الرجل، وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة. فقال صدقت. قال: فما بال الولد يشبه أعمامه دون أخواله، أو يشبه أخواله دون أعمامه؟ فقال: أيهما غلب ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له. قال: صدقت. قال: أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه وفي التوراة أن النبي الأمي يخبر عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه فنذر لله نذرا إن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحب الطعام والشراب على نفسه وهو لحمان الإبل وألبانها؟ فقالوا: اللهم نعم. فقال له: بقيت خصلة إن قلتها آمنت بك. أيّ ملك يأتيك بما تقول عن الله؟ قال: جبريل قال: ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة، ورسولنا ميكائيل يأتي باليسر والرخاء. فإن كان هو يأتيك آمنا بك. فقال عمر: ما مبدأ هذا العداوة؟ فقال ابن صوريا: إن الله أنزل على نبينا أن بيت المقدس يخرب في زمان رجل يقال له بختنصر، ووصفه لنا فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالا فدفع عنه جبريل وقال: إن سلطكم الله على قتله. فهذا ليس هو ذاك وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 لم يكن إياه فعلى أي حق تقتلونه. ثم إنه كبر وقوي وملك وغزانا وخرب بيت المقدس فلهذا نتخذه عدوا. وأما ميكائيل فإنه عدو لجبريل. فقال عمر: فإني أشهد أن من كان عدوا لجبريل فهو عدو لميكائيل، وهما عدوان لمن عاداهما، فأنكر ذلك على عمر فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين. وقيل: كان لعمر أرض بالمدينة أعلاها، وكان ممره على مدراس اليهود، وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم. فقالوا: يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك. فقال: والله لا أجيئكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني، وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم. ثم سألوه فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال عمر: جبريل. فقالوا: ذاك عدوّنا يطلع محمدا على أسرارنا، وهو صاحب كل خسف وعذاب، وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلام. فقال لهم: وما منزلتهما من الله؟ قالوا: أقرب منزلة جبريل وهو عن يمينه، وميكائيل عن يساره، وميكائيل عدوّ لجبريل. فقال عمر: إن كان كما تقولون فما هما بعدوّين، ولأنتم أكفر من الحمير. ومن كان عدوا لأحدهما كان عدوا للآخر، ومن كان عدوا لهما كان عدوا لله. ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد وافقك ربك يا عمر. قال: لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر. وعن مقاتل: زعمت اليهود أن جبريل عدونا أمر بأن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا. والأقرب في سبب عداوتهم إياه أنه كان ينزل بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم كما يشعر بذلك قوله فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ أي إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدقا لكتابهم وموافقا له وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم، ولذلك كانوا يحرّفونه ويجحدون موافقته له كقولك «إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه» أو إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتابا مصدقا للكتب بين يديه، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في النزول بما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم. ويمكن أن يتوجه الجزاء إلى قوله بِإِذْنِ اللَّهِ إلى آخره. أي إن عاداه أحد فلا وجه لعداوته لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه وباختياره وإنما جاء به بإذن الله وأمره الذي لا محيص عنه ولا سبيل إلى مخالفته وجاء به مصدقا هاديا مبشرا، فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذورا، ومن حيث إنه أتى بالهداية والبشارة يلزم أن يكون مشكورا. فعداوة من هذا سبيله عداوة الله، ولو أنه تعالى أمر ميكائيل بذلك لانقاد لأمره أيضا لا محالة ولتوجه الإشكال عليه، فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة؟ وجبريل ممتنع من الصرف للعلمية والعجمة بشرطها. وعن ابن عباس وغيره أن معناه عبد الله، والضمير في نزله للقرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم مثل قوله تعالى ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45] وهذا النوع من الإضمار فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 فخامة لشأن صاحبه حيث جعله لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه. وأكثر الأمة على أن القرآن إنما نزل على محمد لا على قلبه، لكن خص القلب بالذكر لأن السبب في تمكنه صلى الله عليه وسلم من الأداء ثباته في قلبه، فمعنى على قلبك حفظه إياك وفهمه. وقيل: أي جعل قلبك متصفا بأخلاق القرآن ومتأدبا بآدابه كما في حديث عائشة «كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن» وكان حق الكلام أن يقال على قلبي إلا أنه جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به كأنه قيل: قل ما تكلمت به من قولي مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ومعنى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ موافقا لما قبله من كتب الأنبياء فيما يرجع إلى المبادئ والغايات دون الأوساط التي يتطرق إليها الاختلاف بتبدل الأزمان والأوقات. ومعنى قوله هُدىً وَبُشْرى أن القرآن يشتمل على أمرين. أحدهما بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأفعال الجوارح فهو من هذا الوجه هدى، وثانيهما بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه فهو من هذا الوجه بشرى، والأول مقدم على الثاني في الوجود فقدم في الذكر أيضا. ولا ريب أن البشرى تختص بالمؤمنين، وأما الهدى فلأنهم هم المنتفعون به كما مر في هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. ولما بين في الآية المتقدمة أن من كان عدوا لجبريل لأجل أنه نزل القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وجب أن يكون عدوا لله تعالى، بين في الآية التالية أن من كان عدوا لله وللمخصوصين بكرامته فإن الله يعاديهم وينتقم منهم. والعداوة بالحقيقة لا تصح إلا فينا لأن العدو للغير هو الذي يريد إنزال المضار به، وهذا التصور يستحيل في حقه تعالى من العاقل المتفطن لا الغافل المتغابي. فمعنى قوله مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ أي لأولياء الله كقوله إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة: 33] إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 57] . أو يراد بذلك كراهتهم القيام بطاعته وبعدهم عن التمسك بدينه، لأن العدو لا يكاد يوافق عدوه وينقاد لأمره. قال أهل التحقيق: عداوتهم لله وملائكته نتيجة عداوة الله لهم ونظره إليهم في الأزل بالقهر «هؤلاء في النار ولا أبالي» كما أن محبة المؤمنين لله نتيجة محبة الله إياهم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] وذلك أن صفات الله تعالى قديمة وصفات الخلق محدثة، والأولى علة الثانية. وأفرد الملكان بالذكر دلالة على فضلها كأنهما من جنس آخر، فإن التغاير في الوصف قد ينزل منزلة التغاير في الذات، ولأن الآية نزلت فيما يتعلق بهما فحسن أن ينص على اسميهما. وتقديم جبريل في الذكر يدل على أنه أفضل من ميكائيل وأيضا أن جبريل ينزل بالوحي والعلم وذلك سبب بقاء الأرواح، وميكائيل ينزل بالخصب والرزق وهو سبب بقاء الأبدان. والواو في جبريل وميكائيل بمعنى «أو» لأن عداوة أحد هؤلاء توجب عداوة الله كما أن عداوة كلهم توجب ذلك، ويحتمل أن يكون الواو على الأصل ويعرف ما ذكرنا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 القرينة. وقوله لِلْكافِرِينَ من وضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أن عداوة هؤلاء كفر. الآيات البينات هي آيات القرآن، ولا يبعد أن تشمل سائر معجزاته وإن كان لفظ الإنزال نابيا عنه بعض النبوّ. ومعنى كون الآية بينة أن العلوم تنقسم إلى ما يكون طريق تحصيله، والدليل الدال عليه أكثر مقدمات فيكون الوصول إليه أصعب، وإلى ما يكون أقل مقدمات فيكون الوصول إليه أقرب وهذا هو الآية البينة. والكفر بها إما جحودها مع العلم بصحتها، وإما جحودها مع الجهل وترك النظر فيها والإعراض عن دلائلها، وليس في الظاهر تخصيص فيدخل الكل فيه، والفسق هو خروج الإنسان عما حد له إلى الفساد ويقرب منه الفجور، لأنه مأخوذ من فجور السد الذي يمنع الماء من أن يصير إلى الموضع الذي يفسد. عن الحسن: إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره. ولهذا لا يوصف صاحب الصغيرة بالفسق وإن تجاوز عن أمر الله تعالى كمن فتح من النهر نقبا صغيرا لا يقال: إنه فجر النهر. وفي قوله إِلَّا الْفاسِقُونَ وجهان: أحدهما أن كل كافر فاسق ولا ينعكس، وكان ذكر الفاسق أولى ليأتي على الكافر وغيره. الثاني أن المراد وما يكفر بها إلا الكافر المتجاوز عن كل حد في كفره. وهذه الآيات لما كانت بينة لم يكفر بها إلا الكافر الذي بلغ في الكفر النهاية القصوى، وهذا نوع آخر من فضائح اليهود. عن ابن عباس أنهم كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعث صلى الله عليه وسلم من العرب كفروا به وجحدوا بما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل: يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل الشرك، وتخبروننا أنه مبعوث وتصفون لنا صفته. فقال بعضهم: ما جاءنا بشيء من البينات وما هو بالذي كنا نذكر لكم فنزلت. واللام في الْفاسِقُونَ للجنس أو إشارة إلى أهل الكتاب. أَوَكُلَّما الواو للعطف على محذوف معناه أكفروا بالآيات البينات؟ وكلما عاهدوا واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا، وكم عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفوا الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة. وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس من مخالفته كصعوبة من لم تجر عادته بذلك. والنبذ الرمي بالذمام ورفضه، وإنما قيل فَرِيقٌ مِنْهُمْ لأن منهم من لم ينقض بل أكثرهم لا يؤمنون بالتوراة وليسوا من الدين في شيء، فلا يعدون نقض المواثيق ذنبا. وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ أي كتاب لتلازمهما بدليل كتاب الله وهو القرآن، نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله، يعني أن علمهم بذلك رصين من قبل التوراة ولكن المكابرة هجيراهم، ونبذه وراء ظهورهم مثل لإعراضهم عنه وتركهم العمل به. وقيل: كتاب الله التوراة لأنهم لكفرهم برسول الله كافرون بها. وعن سفيان: أدرجوه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 الديباج والحرير وحلوه بالذهب ولم يحلوا حلاله ولم يحرّموا حرامه. اللهم ارزقنا العلم بكتابك والعمل به. [سورة البقرة (2) : الآيات 102 الى 103] وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) القراآت: وَلكِنَّ خفيفا الشَّياطِينُ بالرفع: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وكذلك قوله وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى الْمَلَكَيْنِ بكسر اللام هاهنا وفي سورة الأعراف: قتيبة. على أن المنزل عليهما علم السحر كانا ملكين ببابل. الوقوف: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ (ج) لأن الواو قد تصلح حالا لبيان نزاهة سليمان وردّ ما افتروا عليه السِّحْرَ (ط) قيل: على جعل «ما» نافية ولا يتضح لمناقضته ما في سياق الآية من إثبات السحر بل «ما» خبرية معطوفة على قوله السِّحْرَ على أنها وإن كانت نافية يحتمل كون الواو حالا على تقدير: يعلمون الناس السحر غير منزل فلا يفصل. وفي الآية عشر «ماآت» إحداها كافة في إِنَّما والأخيرة نكرة منصوبة في لَبِئْسَ ما والباقية خبرية ثم نافية ثم خبرية على التعاقب وَمارُوتَ (ط) فَلا تَكْفُرْ (ط) وَزَوْجِهِ (ط) بِإِذْنِ اللَّهِ (ط) وَلا يَنْفَعُهُمْ (ط) مِنْ خَلاقٍ (ط) يجوز الوقف لابتداء اللام أَنْفُسَهُمْ (ط) يُعَلِّمُونَ (هـ) خَيْرٌ (ط) يَعْلَمُونَ (هـ) . التفسير: من قبائح أفعالهم أنهم نبذوا كتاب الله وأقبلوا على السحر ودعوا الناس إليه، وهذا شأن اليهود الذين كانوا في زمن محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنهم الذين تقدموا من اليهود. وقيل: إنهم الذين كانوا في زمن سليمان عليه السلام من السحرة لأن أكثر اليهود ينكرون نبوة سليمان ويعدّونه من جملة ملوك الدنيا، فالذين كانوا منهم في زمانه لا يمتنع أن يعتقدوا فيه أنه إنما وجد ذلك الملك العظيم بسبب السحر. والأولى أن يقال: اللفظ يتناول الكل. قال السدي: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت. ومعنى «تتلو» تقرأ، أو عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أي على عهده وفي زمانه. وقيل: تلا عليه أي كذب. فالقوم لما ادعوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 أن سليمان إنما وجد تلك المملكة بسبب ذلك العلم كان ذلك الادعاء كالافتراء على ملك سليمان. وأما الشياطين فالأكثرون على أنهم شياطين الجن، وأنهم كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة، وقد دوّنوها ويقرأونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك في زمان سليمان حتى قالوا: إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون: هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم. وقيل: إنهم شياطين الإنس لما روي في الخبر أن سليمان كان قد دفن كثيرا من العلوم التي خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه حرصا على أنه إن هلك الظاهر منها يبقى ذلك المدفون، فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه، ثم من بعد موته واطلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان وأنه ما وصل إلى ما وصل إلا بهذه الأشياء. وزيفوا قول الأكثرين بأن شياطين الجن لو قدروا على تغيير كتب الأنبياء وشرائعهم بحيث يبقى ذلك التحريف مخيفا فيما بين الناس لارتفع الوثوق عن جميع الشرائع، وهذا بخلاف ما يفعله الإنسان فإنه لا يكاد يخفى على بني نوعه. واختلف في سبب إضافتهم السحر إلى سليمان فقيل: ليروج ذلك منهم. وقيل: لأنهم ما كانوا مقرين بنبوته. وقيل: لأنه لما خالط الجن وأظهر أسرارا عجيبة غلب على ظنونهم أنه استفاد ذلك من الجن. وقوله وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ تنزيه له عما نسب القوم إليه من السحر المستلزم للكفر، فإن كونه نبيا ينافي كونه ساحرا كافرا. ثم بين أن الذي برأه منه لاصق بغيره فقال وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ثم ذكر ما به كفروا فقد كان من الجائز أن يتوهم أنهم كفروا لا بالسحر فقال يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ أي ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين. وهاروت وماروت عطف بيان للملكين علمان لهما ممتنعان من الصرف للعلمية والعجمة، وليسا من الهرت والمرت وهو الكسر كما زعم بعضهم، لأنهما لو كانا منهما لانصرفا. وقيل: بدلان منهما. ولنذكر هاهنا حقيقة السحر وقصة هاروت وماروت. أما السحر ففي اللغة عبارة عن كل ما لطف مأخذه وخفي سببه ومنه الساحر للعالم. وسحره خدعه، والسحر الرئة، وفي الشرع: مختص بكل أمر يخفى سببه ويتخيل من غير حقيقة ويجري مجرى التمويه والخداع. ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله قال تعالى سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الأعراف: 116] يعني موّهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى. وقد يستعمل مقيدا فيما يمدح ويحمد وهو السحر الحلال قال صلى الله عليه وسلم «إن من البيان لسحرا» سمى صلى الله عليه وسلم بعض البيان سحرا لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه ولطف عبارته، ويقدر على تحسين القبيح وتقبيح الحسن، يسخط تارة فيقول أسوأ ما يمكن، ويرضى تارة فيقول أحسن ما يعلم. ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 السحر على أقسام: منها سحر الكلدانيين الذين كانوا في قديم الدهر وهو قوم يعبدون الكواكب ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم، ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة، ويستحدثون الخوارق بواسطة تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام مبطلا لمقالتهم ورادا عليهم مذاهبهم. ومنها سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية بدليل أن الجذع الذي يتمكن الإنسان من المشي عليه لو كان موضوعا على الأرض لا يمكنه المشي عليه لو كان كالجسر، وما ذاك إلا لأن تخيل السقوط متى قوي أوجبه. وقد اجتمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر، والمصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران، وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام. وحكي في الشفاء عن أرسطو أن الدجاجة إذا تشبهت كثيرا بالديكة في الصوت وفي الحراب مع الديكة في الصوت تنبت على ساقها مثل الشيء النابت على ساق الديك. وهذا يدل على أن الأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية. واجتمعت الأمم على أن الدعاء مظنة الإجابة، وأن الدعاء باللسان من غير طلب نفساني قليل الأثر. ويحكى أن بعض الملوك عرض له فالج، فدخل عليه بعض الحذاق من الأطباء على حين غفلة منه وشافهه بالشتم والقدح في العرض، فاشتد غضب الملك وقفز من مرقده قفزة اضطرارية وزالت تلك العلة المزمنة. والإصابة بالعين مما اتفق عليه العقلاء، والتحقيق فيه أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السموات، كانت كأنها روح من الأرواح السماوية، وكانت قوية التأثير في مواد هذا العالم. أما إذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه اللذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تصرف البتة إلا في هذا البدن. فإذا أراد أن يتعدى تأثيرها إلى بدن آخر اتخذ تمثال ذلك الغير ووضعه عند الحس فاشتغل الحس به وتبعه الخيال عليه وأقبلت النفس الناطقة بالكلية على ذلك، فقويت التأثيرات النفسانية والتصرفات الروحانية، ويعضده الانقطاع عن المألوف والمشتهيات وتقليل الغذاء والاعتزال عن الناس، ثم إن كانت النفس مناسبة لهذا الأمر بحسب ماهيتها وخاصيتها عظم التأثير. وأما الرقى فإن كانت بألفاظ معلومة فالأمر فيها ظاهر لأن الغرض منها أن حسن البصر كما اشتغل بالأمور المناسبة للغرض، فحس السمع أيضا يشتغل بها، فإن الحواس متى تطابقت متوجهة إلى الغرض الواحد كان توجه النفس إليه أقوى وإن كانت بألفاظ غير معلومة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة، ويحصل لها إذ ذاك انجذاب وانقطاع عن المحسوسات وإقبال على ذلك الفعل، فيقوى التأثير النفساني فيحصل الغرض. وهكذا القول في الدخن قالوا: فثبت أن هذا القدر من القوة النفسانية مستقل بالتأثير فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 انضم إليه الاستعانة بالقسم الأول وهو تأثيرات الكواكب قوي الأثر جدا، لا سيما إن حصل لهذه النفس مدد من النفوس المفارقة المشابهة لها أو من الأنوار الفائضة من النفوس الفلكية. ومنها سحر من يستعين بالأرواح الأرضية وهو المسمى بالعزائم، وتسخير الجن ومنه التخييلات الآخذة بالعيون وتسمى الشعوذة. وذلك أن أغلاط البصر كثيرة، فإن راكب السفينة إذا نظر إلى الشط رأى السفينة واقفة والشط متحركا، والقطرة النازلة ترى خطا مستقيما، والعنبة ترى في الماء كالزجاجة، ويرى العظيم من البعيد صغيرا. وقد لا تقف القوة الباصرة على المحسوس وقوفا تاما إذا أدركت المحسوس في زمان صغير جدا فيخلط البعض بالبعض ولا يتميز، فإن الرحى إذا أخرجت من مركزها إلى محيطها خطوطا كثيرة بألوان مختلفة ثم أديرت، فإن البصر يرى لونا واحدا كأنه مركب من كل تلك الألوان. وأيضا النفس إذا كانت مشغولة بشيء فربما حضر عند الحس شيء آخر، فلا يشعر الحس به البتة كما أن الإنسان عند دخوله على السلطان قد يلقاه إنسان ويتكلم معه فلا يعرفه ولا يفهم كلامه لما أن قلبه مشغول بشيء آخر، وكذا الناظر في المرآة ربما قصد أن يرى سطح المرآة هل هو مستو أم لا، فلا يرى شيئا مما في المرآة. فالمشعوذ الحاذق يظهر عمل شيء يشغل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه، حتى إذا استقر بهم الشغل بذلك الشيء والتحديق نحوه، عمل شيئا آخر عملا بسرعة فيبقى ذلك العمل خفيا لتعاون الشيئين اشتغالهم بالأول وسرعة إتيانه بالثاني. ومنها الأعمال العجيبة التي تظهر من الآلات المركبة على النسب الهندسية، أو لضروب الخيلاء كفارسين يقتتلان فيقتل أحدهما الآخر، ومنه الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، وقد يصورونها ضاحكة أو باكية. وقد يفرق بين ضحك السرور وضحك الخجل، ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات وعلم جر الأثقال وهذا لا يعد من السحر عرفا، لأن لها أسبابا معلومة يقينية. ومنها الاستعانة بخواص الأدوية والأحجار، ومنها تعليق القلب وهو أن يدعي الساحر أنه قد عرف الاسم الأعظم وأن الجن ينقادون له في أكثر الأمور، فإذا اتفق أن كان السامع ضعيف القلب قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك وحصل في قلبه نوع من الرعب، وحينئذ تضعف القوى الحساسة فيتمكن الساحر من أن يفعل فيه ما شاء. وإن من جرب الأمور وعرف أحوال الناس علم أن لتعليق القلب أثرا عظيما في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار. ومنها السعي بالنميمة والتضريب من وجوه خفية لطيفة وذلك شائع في الناس. فهذه جملة الكلام في أقسام السحر، وعند المسلمين كلها مستندة إلى قدرة الله، فإنه لا يمتنع وقوع هذه الخوارق بإجراء العادة عند سحر السحرة. واتفقوا على أن العلم به ليس بقبيح ولا محظور، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 لأن العلم لذاته شريف ولعموم قوله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] ولأن الفرق بينه وبين المعجز يمكن به إلا أن اجتنابه أقرب إلى السلامة كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية. وأما أن الساحر هل يكفر أم لا فلا نزاع بين الأمة في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبرة لهذا العالم وهي الخالقة لما فيه من الحوادث والخيرات والشرور، فإنه يكون كافرا على الإطلاق، وهذا هو القسم الأول من السحر. وأما النوع الثاني وهو أن يعتقد أنه قد يبلغ روح الإنسان في التصفية والقوة إلى حيث يقدر على إيجاد الأجسام وإعدامها وتغيير البنية والشكل، فالأظهر إجماع الأمة أيضا على تفكيره، وأما أن يعتقد الساحر أنه قد يبلغ في التصفية وقراءة الرقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل، فالمعتزلة اتفقوا على تكفير من يجوز ذلك قالوا: لأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه أن يعرف صدق الأنبياء والرسل، وزيف بأن الإنسان لو ادعى النبوة وكان كاذبا في دعواه فإنه لا يجوز من الله تعالى إظهار الخوارق على يده لئلا يحصل التلبيس، أما إذا لم يدع النبوة فظهرت الخوارق على يده لم يفض ذلك إلى التلبيس، فإن المحق يتميز عن المبطل بما أن المحق تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة والمبطل لا تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة، وإن حصلت لم يتم فصوله الباطل كنار العرفج. وأما سائر أنواع السحر فلا شك أنها ليست بكفر، وحكم من كفر بالسحر حكم المرتد. وإذا سحر إنسانا فمات فإن قال: إني سحرته وسحري يقتل غالبا وجب عليه القود، وإن قال: سحرته وسحري قد يقتل وقد لا يقتل، فهو شبه عمد، وإن قال: سحرت غيره فوافق اسمه اسمه فخطأ. وعن أبي حنيفة أنه قال: يقتل الساحر إذا علم أنه ساحر ولا يستتاب ولا يقبل قوله «إني أترك السحر وأتوب منه» فإذا أقر أنه ساحر فقد حل دمه. وإن شهد شاهدان علي أنه ساحر أو وصفوه بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا يستتاب، وإن أقر بأني كنت أسحر مرة وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه ولم يقتل. وأما قصة هاروت وماروت فقد يروى عن ابن عباس أن الملائكة لما قالت أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ فأجابهم الله بقوله إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 31] ثم وكل عليهم جمعا من الملائكة وهم الكرام الكاتبون وكانوا يعرجون بأعمالهم الخبيثة، فعجبت الملائكة منهم ومن تبقية الله لهم مع ما ظهر منهم من القبائح. ثم أضافوا إليهما عمل السحر فازداد تعجب الملائكة، فأراد الله أن يبتلي الملائكة فقال لهم: اختاروا ملكين من أعظم الملائكة علما وزهدا وديانة لأنزلهم إلى الأرض فأختبرهم. فاختاروا هاروت وماروت، وركب فيهما شهوة الإنس وأنزلهما ونهاهما عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 الشرك والقتل والزنا والشرب. فنزلا، فأمر الله تعالى الكوكب المسمى بالزهرة والملك الموكل به فهبطا إلى الأرض، فجعلت الزهرة في صورة امرأة، والملك في صورة رجل. ثم إن الزهرة اتخذت منزلا وزينت نفسها ودعتهما إليها، ونصب الملك نفسه في منزلها في مثال صنم فأقبلا عليها وطلبا الفاحشة فأبت عليهما إلا أن يشربا الخمر فقالا: لا نشرب الخمر. ثم غلبت الشهوة عليهما فشربا ثم دعواها إلى ذلك فقالت: بقيت خصلة لست أمكنكما من نفسي حتى تفعلاها. قالا: وما هي؟ قالت: تسجدان لهذا الصنم. فقالا: لا نشرك بالله شيئا. ثم غلبت الشهوة عليهما فقالا: نفعل ثم نستغفر. فسجدا للصنم. ثم دخل سائل عليهم فقالت: إن أظهر هذا السائل للناس ما رأى منا فسد أمرنا، فإن أردتما الوصول إليّ فاقتلا هذا الرجل. فامتنعا منه، ثم اشتغلا بقتله. فلما فرغا من القتل ارتفعت الزهرة وملكها إلى موضعهما من السماء فعرفا حينئذ أنه إنما أصابهما بسبب تعيير بني آدم. وفي رواية أخرى أن الزهرة كانت فاجرة من أهل الأرض ، وأنهما واقعاها بعد أن شربا الخمر وقتلا النفس وسجدا للصنم وعلماها الاسم الأعظم الذي كانا يعرجان به إلى السماء، فتكلمت المرأة بذلك الاسم فعرجت إلى السماء فمسخها الله تعالى وصيرها هذا الكوكب ثم إن الله تعالى خيرهما بين عذاب الآخرة آجلا وبين الدنيا عاجلا، فاختارا عذاب الدنيا فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة وهما يعلمان الناس السحر ويدعوان إليه ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك الموضع ليعلم السحر خاصة. وهذه القصة عند المحققين غير مقبولة، فليس في كتاب الله ما يدل عليها، ولأن الدلائل الدالة على عصمة الملائكة تنافيها، ولاستبعاد كونهما معلمين للسحر حال العذاب، ولأن الفاجرة كيف يعقل أنها صعدت إلى السماء وجعلها الله تعالى كوكبا مضيئا، ولأنه ذكر في القصة أن الله تعالى قال لهما لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني فقالا: لو فعلت بنا يا رب لما عصيناك وهذا منهم تكذيب الله وتجهيل. فإذن السبب في إنزالهما أن السحرة كثرت في ذلك الزمان واستنبطت أبوابا غريبة من السحر وكانوا يدعون النبوة، فبعث الله هذين الملكين ليعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الكاذبين، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد. وأيضا تعريف حقيقة السحر ليميز بينه وبين المعجزة حسن، وكذا السحر لإيقاع الفرقة بين أعداء الله والألفة بين أوليائه. ولعل للجن أنواعا من السحر لا يقدر البشر على معارضتها إلا بإعانة الملك وإرشاده، ويجوز أن يكون ذلك تشديدا في التكليف من حيث إنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصل به إلى اللذات العاجلة ثم يمنعه من استعماله، كان ذلك في نهاية المشقة فيستوجب مزيد الثواب كما ابتلي قوم طالوت بالنهر فَمَنْ شَرِبَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة: 942] ويقال: هذه الواقعة كانت في زمان إدريس لأنهما إذا كانا ملكين نزلا بصورة البشر لهذا الغرض، فلا بد من رسول في وقتهما ليكون ذلك معجزة له، ولا يجوز كونهما رسولين لأن رسول الإنس ثبت أنه لا يكون إلا منهم. قوله تعالى وَما يُعَلِّمانِ أي وما يعلم الملكان أحدا حتى ينهياه وينصحاه ويقولا له إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ ابتلاء واختبار من الله فَلا تَكْفُرْ بأن تتعلمه معتقدا له أنه حق أو متوصلا به إلى شيء من المعاصي والأعراض العاجلة فَيَتَعَلَّمُونَ الضمير لما دل عليه العموم في مِنْ أَحَدٍ أي فيتعلم الناس من الملكين ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ إما لأنه إذا اعتقد أن السحر حق كفر فبانت منه امرأته، وإما لأنه يفرّق بينهما بالتمويه والاحتيال كالنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله عنده الفرك والنشوز ابتلاء منه، لا أن السحر له أثر في نفسه بدليل قوله وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بإدارته وقدرته، لأن إن شاء أحدث عند ذلك شيئا من أفعاله وإن شاء لم يحدث، وكان الذي يتعلمونه منهما لم يكن مقصورا على هذه الصورة، ولكن سكون المرء وركونه إلى زوجه لما كان أشد خصت بالذكر ليدل بذلك على أن سائر الصور بتأثير السحر فيها أولى وقرأ الأعمش وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ فجعل الجارّ جزءا من المجرور وهو «أحد» وأضاف إلى المجموع وفصل بينهما بالظرف. ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم لأنهم يستعملونه في وجوه المفاسد وَلَقَدْ عَلِمُوا علم هؤلاء اليهود اللام فيه للابتداء وكذا في لَمَنِ اشْتَراهُ استبدل ما تتلو الشياطين واختاره على كتاب الله ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ من نصيب كأنه قدر له هذا المقدار، وقيل: الخلاق الخلاص. وقيل معنى الآية أن الملكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة، فلما استعمل السحر للدنيا فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أي باعوها والمخصوص محذوف وهو السحر أو منافع الدنيا، وجواب «لو» محذوف يدل عليه ما قبله أي لو كانوا يعلمون لعلموا قبح ما شروا. ويجوز أن يكون «لو» للتمني مجازا كما تقدم من الترجي في لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وحينئذ لا يحتاج إلى الجواب. بقي هاهنا سؤال وهو أنه كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله وَلَقَدْ عَلِمُوا على سبيل التوكيد بالقسم إجمالا ثم نفاه عنهم في قوله لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ؟ فإن «لو» لامتناع الثاني لامتناع الأول، وكذا لو كان للتمني فإن التمني استدعاء أمر هو كالممتنع. والجواب أن الذين علموا غير الذين لم يعلموا، فالذين علموا هم الذين علموا السحر ودعوا الناس إلى تعلمه ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، والذين لا يعلمون هم الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر. سلمنا أن القوم واحد، ولكنهم علموا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 شيئا وجهلوا شيئا آخر، علموا أنه لا خلاق لهم في الآخرة، وجهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة وما حصل لهم من مضارّها وعقوباتها، سلمنا أن القوم واحد والمعلوم واحد، ولكنهم نسبوا إلى الجهل حيث لم يعملوا بعلمهم ولم ينتفعوا به كما قيل: إنهم صم بكم عمي حيث لم ينتفعوا بالحواس. ولما أوعدهم بقوله وَلَقَدْ عَلِمُوا أتبع ذلك الوعد جامعا بين الترهيب والترغيب ليكون أدعى إلى الطاعة وأنهى عن المعصية فقال وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بعين ما نبذوه من كتاب الله وهو القرآن أو التوراة التي يصدقها القرآن أو كلاهما، واتقوا فعل المنهيات وترك المأمورات، أو اتقوا الله فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لشيء من ثوابه خَيْرٌ ولا بد من تقدير فعل يكون «أن» مع ما بعده فاعلا له، أي لو ثبت أنهم آمنوا، وجواب «لو» محذوف أيضا ويدل عليه هذه الجملة الاسمية المصدرة باللام أي لأثيبوا وإنما تركت الفعلية إلى هذه ليدل على ثبات المثوبة واستقرارها. ويجوز أن يكون القسم مقدرا وقوله لَمَثُوبَةٌ جوابه سادا مسد جواب الشرط مغنيا عنه، ودخول اللام الموطئة في الشرط غير واجب في القسم المقدر وإن كان هو الأكثر، على أن دخول اللام الموطئة في «لو» مستثقل فيشبه أن يكون الأكثر بل الواجب هاهنا عدم الدخول. ويجوز أن يكون «لو» للتمني مجازا عن إرادة الله إيمانهم كأنه قيل: وليتهم آمنوا. ثم ابتدئ لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أن ثواب الله خير مما هم فيه لآمنوا واتقوا، وقد علموا لكنه جهلهم لترك العمل بالعلم. ويجوز أن يكون «لو» بمعنى التمني كما تقرر والله تعالى أعلم . التأويل: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ النفوس عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ الروح الذي هو خليفة الله في أرضه وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ الروح وَلكِنَّ الشَّياطِينَ النفس والهوى كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ من تخييلات الهواجس وتمويهات الوساوس وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ فتنة وخذلانا من العلوم الضارة غير النافعة كشبهات الفلاسفة والمبتدعة على ملكي الروح والقلب بِبابِلَ الجسد هارُوتَ الروح وَمارُوتَ القلب فإنهما من العالم العلوي الروحاني أهبطا إلى الأرض العالم الجسماني بالخلافة لإقامة الحق وإزهاق الباطل فافتتنا بزهرة الحياة الدنيا واتبعا خداعها فوقعا في شبكة الشهوة التي تركت فيها ابتلاء وامتحانا، وشربا خمر الحرص والغفلة التي تخامر العقل، وزنيا ببغي الدنيا الدنية، وعبدا صنم الهوى فعذبا منكسين برؤوسهما بالالتفات إلى السفليات وإعراضهما عن العلويات، فحرما استماع خطاب الحق وكشف حقائق العلوم النافعة الموجبة للجمعية، ومع هذا من خصوصية الملائكة الروحانية ما يعلمان أحدا من الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 والقوى البشرية حتى يلهماها إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ القلب وَزَوْجِهِ دينه. [سورة البقرة (2) : الآيات 104 الى 108] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) القراآت: ما نَنْسَخْ بضم النون وكسر السين: ابن ذكوان ننسأها مهموزا: ابن كثير وأبو عمرو غير أوقية، وروى أوقية بغير همز، الباقون: ننسها من الإنساء نَأْتِ بِخَيْرٍ بغير همز: أبو عمرو غير إبراهيم بن حماد ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف، الباقون وإبراهيم بن حماد بالهمزة لأنه جواب الشرط، ومن شرطه أن يهمز كل ما كان نسقا أي عطفا على المجزوم أو جوابا للمجزوم كل القرآن مثل قوله عز وجل إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ وقوله وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وأشباه ذلك فَقَدْ ضَلَّ بالإظهار: حجازي غير ورش وعاصم غير الأعشى، وكذلك يظهرون الدال عند الذال والظاء حيث وقعتا مثل قوله تعالى: فَقَدْ ظَلَمَ وَلَقَدْ ذَرَأْنا وأشباه ذلك. الوقوف: وَاسْمَعُوا (ط) أَلِيمٌ (هـ) مِنْ رَبِّكُمْ (ط) مَنْ يَشاءُ (ط) الْعَظِيمِ (هـ) أَوْ مِثْلِها (ط) قَدِيرٌ (هـ) وَالْأَرْضِ (ط) وَلا نَصِيرٍ (هـ) ربع الجزء وَمِنْ قَبْلُ (ط) السَّبِيلِ (هـ) . التفسير: لما شرح الله تعالى قبائح أفعال السلف من اليهود، شرع في قبائح أخلاق المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجدّهم واجتهادهم في القدح فيه والطعن في دينه، واعلم أن الله تعالى خاطب المؤمنين في ثمانية وثمانين موضعا من القرآن. قال ابن عباس: وكان يخاطب في التوراة ب «يا أيها المساكين» فكأنه سبحانه لما خاطبهم أولا بالمساكين أثبت لهم المسكنة آخرا حيث قال وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [البقرة: 61] وهذا يدل على أنه تعالى لما خاطب هذه الأمة بالإيمان أوّلا فإنه تعالى يعطيهم الأمان من العذاب آخرا وَبَشِّرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: 47] ، ولا سيما فإن المؤمن اسم من أسمائه العظام، ففيه دليل على أنه تعالى يقرّبهم منه في دار السلام. وقيل: آمنوا على الغيبة نظرا إلى المظهر وهو «الذين» ولو قيل آمنتم نظرا إلى النداء جاز من حيث العربية، ثم إنه لا يبعد في الكلمتين المترادفتين أن يمنع الله من إحداهما ويأذن في الأخرى ومن هنا قال الشافعي: لا تصح الصلاة بترجمة الفاتحة عربية كانت أو فارسية. فلا يبعد أن يمنع الله من قول راعِنا ويأذن في قول انْظُرْنا وإن كانا مترادفين. ولكن جمهور المفسرين على أنه تعالى إنما منع من قول راعِنا لاشتماله على مفسدة. ثم ذكروا وجوها منها: أن المسلمين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ألقي عليهم شيئا من العلم راعنا يا رسول الله، واليهود كانت لهم كلمة عبرانية يتسابون بها تشبه هذه الكلمة وهي «راعينا» ومعناها «اسمع لا سمعت» كما صرح بذلك في سورة النساء وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا [النساء: 46] فإن الجميع كأنها متقاربة فلما سمعوا المسلمين يقولون «راعنا» افترصوه وخاطبوا به الرسول وهم يعنون المسبة، فنهى المؤمنون عنها وأمروا بلفظة أخرى وهي انْظُرْنا. روي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده إن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، فقالوا: أو لستم تقولونها؟ فنزلت، ومنها قال قطرب: هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى إلا أن أهل الحجاز كانوا يقولونها عند الهزء والسخرية فلا جرم نهى الله عنها، وقيل: إن اليهود كانوا يقولون «راعينا» أي أنت راعي غنمنا فنهاهم عنه. وقيل: إن هذه اللفظة لكونها من باب المفاعلة، تدل على المساواة بين المتخاطبين كأنهم قالوا: أرعنا سمعك لنرعيك أسماعنا فنهوا عنه لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: 63] وقيل: «راعنا» خطاب مع الاستعلاء أي راع كلامي ولا تغفل عنه ولا تشتغل بغيره، وليس في انْظُرْنا إلا سؤال الانتظار. وقيل: إنها تشبه اسم الفاعل من الرعونة والحمق، فيحتمل أنهم أرادوا به المصدر كقولهم «عائذا بك» أي أعوذ عياذا. فقولهم راعِنا أي فعلت رعونة، ويحتمل أنهم أرادوا صرت راعنا أي ذا رعونة، فلمكان هذه الوجوه الفاسدة نهى الله عنها، وقيل: المراد لا تقولوا قولا راعنا أي منسوبا إلى الرعن كدارع ولابن، ومنه قراءة الحسن راعِنا بالتنوين. وانظرنا من نظره إذا انتظره انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد: 13] أمرهم الله تعالى أن يسألوه صلى الله عليه وسلم الإمهال لينقلوا عنه فلا يحتاجون إلى الاستعادة كأنهم قالوا له: توقف في كلامك وبيانك مقدار ما يصل إلى أفهامنا. وهذا القدر غير خارج عن قانون الأدب فقد يلتمسه المتعلم حرصا منه على أن لا يفوت منه شيء من الفوائد وإن كان المعلم غير مهمل دقائق التفهيم والإرشاد من التثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 والتأني والإعادة إن احتيج إليها ونحو ذلك. وقيل: انظرنا معناه انظر إلينا مثل وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] أي من قومه. والغرض أن المعلم إذا نظر إلى المتعلم كانت إفاضته عليه أظهر وأقوى. وفي قراءة أبيّ انْظُرْنا من النظرة أي أمهلنا حتى نحفظه. وَاسْمَعُوا معناه أحسنوا سماع كلام نبيكم بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة، أو اسمعوا سماع قبول وطاعة لا كاليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا، أو اسمعوا ما أمرتم به ولا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه من قول راعنا، وللكافرين ولليهود الذين تهاونوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه عذاب أليم قوله ما يَوَدُّ الآية. «من» الأولى للبيان، لأن الَّذِينَ كَفَرُوا جنس تحته نوعان: أهل الكتاب والمشركون. كقوله لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة: 1] «ولا» مزيدة لتأكيد النفي وقرىء ولا المشركون والثانية مزيدة لاستغراق الخير ف أَنْ يُنَزَّلَ في سياق النفي: فمعنى ما يود أن ينزل يود أن لا ينزل. والثالثة لابتداء الغاية، والخير الوحي وكذلك الرحمة أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 32] والمعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي، ولا أثر لهذا الحسد فإن الله يختص بالنبوة من يشاء ولا يكون إلا ما يشاء، وما يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ والفضل والفضيلة خلاف النقص والنقيصة، والإفضال والإحسان، وفيه إشعار بأن إيتاء النبوة من غاية الإحسان وأنهار شحة من بحار كماله إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً [الإسراء: 87] . قوله عز من قائل ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ نوع ثان من تقرير مطاعن اليهود خذلهم الله في الإسلام. روي أنهم قالوا: ألا ترون إلى محمد صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا فنزلت. وفي الآية مسائل: الأولى: النسخ لغة هو الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته. والنقل أيضا وهو أن يغير الشيء في صفته وحاله مع بقائه في نفسه، ومنه نسخت الكتاب، والمناسخات في المواريث لانتقال التركة من قوم إلى قوم. فقيل مشترك بينهما، وقيل حقيقة في الأول مجاز في الثاني، وقيل بالعكس. وفي الاصطلاح: هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر، فيخرج المباح بحكم الأصل إذا ورد الشرع بضده رافعا لإباحته فإنه لا يسمى نسخا إذ ليس رفع حكم شرعي ويخرج أيضا الرفع بالنور والغفلة لأن ذلك الرفع ليس بمجرد الدليل الشرعي وهو «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» ونحوه، بل يقتضيه العقل أيضا بخلاف الرفع بنحو «دعي الصلاة أيام أقرائك» فإنه لا مجال للعقل فيه. ويخرج الرفع بنحو «صم إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 آخر الشهر» فإن «إلى» أوجبت مخالفة حكم ما بعدها لما قبلها إلا أنها لا تسمى نسخا لأنه ليس متأخرا، ويمكن أن يقال: إن قيد متأخر إنما ينبغي أن يذكر لأن دليل النسخ لا يكون إلا كذلك. ونحو «صم إلى كذا» وأمثاله من أنواع التخصيص متصلا كان أو منفصلا، إنما خرج بقيد الرفع لأن رفع الحكم إنما يكون بعد إرادة حصوله على المكلف، والتخصيص ليس كذلك لأن صورة التخصيص غير مرادة من اللفظ بل التخصيص مبين لمراد الشارع من العام. ونعني بالحكم هاهنا ما يحصل على المكلف بعد أن لم يكن، فإن الوجوب المشروط بالعقل الذي هو مناط التكليف لم يكن حاصلا عند انتفاء العقل والموقوف على الحادث حادث. وإذا كان المراد بالحكم هذا فلا يرد قول المعتزلة الحكم عندكم قديم فكيف يرتفع؟ وذلك أنا عنينا بالحكم تعلق الخطاب بعد ما لم يتعلق وهذا محدث يرتفع. وأيضا نقطع بأنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه انتفى الوجوب الثابت أولا وهو المعنى بالرفع، ويحسن أيضا أن يقال: النسخ بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي متراخ، فيخرج بقولنا «شرعي» بيان انتهاء حكم عقلي كالبراءة الأصلية، و «بطريق شرعي» يخرج به بيان انتهاء الحكم الشرعي بطريق عقلي كانتساخ القيام عمن ينكسر رجله. وقولنا «متراخ» ليخرج التخصيص بالغاية. ومن هذا يعلم تعريف الناسخ والمنسوخ، ومعنى بيان انتهاء الحكم أن الخطاب السابق له غاية في علم الله تعالى، فإذا انتهى إلى تلك الغاية زال بذاته، ثم ورد الخطاب اللاحق بيانا لذلك. المسألة الثانية: انعقد الإجماع من أكثر أرباب الشرائع ومن المسلمين خاصة على جواز النسخ عقلا وعلى الوقوع شرعا، وخالف اليهود في الجواز، وأبو مسلم الأصفهاني من المسلمين في الوقوع لا الجواز. لنا القطع بالجواز ضرورة فإن له تعالى أن يفعل ما يشاء كما يشاء من غير النظر إلى حكمة ومصلحة، وإن اعتبرت المصالح فالقطع أن المصلحة قد تختلف باختلاف الأوقات فهذا ما يدل على جواز النسخ. وفي التوراة أنه أمر آدم بتزويج بناته من بنيه وقد حرم ذلك في شريعة من بعده باتفاق، وهذا ما يدل على وقوعه، وكيف لا وقد ثبت بالدلائل القاطعة والمعجزات الباهرة نبوته محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبصحة نبوته يلزم نسخ شرع من قبله. ولم يكن لليهود والنصارى نص صريح يعلم منه أمد شرعهم على التعيين حتى يلزم أن يكون شرع نبينا انتهاء غاية لا نسخا. حجة اليهود لو نسخت شريعة موسى لبطل قول موسى المتواتر «هذه شريعة مؤبدة عليكم بها ما دامت السموات والأرض» وأيضا إن كان نسخ الحكم الشرعي لحكمة ظهرت له تعالى لم تكن ظاهرة فهو البداء وإلا فعبث وكلاهما محال على الله تعالى، إذ البداء عبارة عن الظهور بعد الخفاء والعبث فعل لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 يستتبع غاية. والجواب عن الأول المنع من أنه قول موسى عليه السلام، ويؤكده أنه لو كان هذا القول صحيحا عندهم لقضت العادة بقوله لرسولنا صلى الله عليه وسلم ولحاجوه بذلك، لكن اليهود لم يتمسكوا به في عهده فدل ذلك على أنه إفك افتراه المتأخرون منهم. وعن الثاني بعد تسليم اعتبار المصالح أنها تختلف باختلاف الأزمان والأحوال كمنفعة شرب دواء في حال وضرره في آخر، بل الزمان الممتد من الأزل إلى الأبد قد وزع أجزاؤه فيما لم يزل على الجزئيات الواقعة فيها الصادرة شيئا فشيئا بحسب وقت وقت لا لمصلحة تعود إليه تعالى بل لما هو أصلح بالنسبة إلى المتزمنات. فالظهور والخفاء والسابق واللاحق، والإعدام والإيجاد، كلها بالنسبة إلينا، وأما بالنسبة إلى حضرة الواجب جل ذكره فقد جف القلم بما هو كائن إلى يوم الدين. والحاصل أن كل حكم فله غاية في علم الله تعالى، ولكن قد يظن المكلف استمراره في الاستقبال من قرائن الأحوال، فإذا ورد ما يبين أمده ونص له على زواله فذلك الوارد ناسخ والأول منسوخ والورود نسخ، وكل هذه التجددات بالنسبة إلى المكلف، وأما بالإضافة إليه تعالى فكل من الحكمين موجود في وقته الذي قدر له فيه الظهور متقدما أحدهما ومتأخرا الآخر. وليس هذا في الأحكام فقط وإنما ذلك في كل حادث، فمن تأمل نسخة الوجود ونسب الحوادث المتفاوتة بعضها إلى بعض بالتقدم والتأخر والمعية، وجد وجوداتها المترتبة أشبه شيء بكتاب يقرؤه القارئ سطرا بعد سطر، وكلمة تلو كلمة، إذا انقضى مجموع من ذلك تلاه مجموع آخر حسب ما رتبه الحكيم العليم بمبادئه ومقاطعه، فالمنقضي في حكم المحو، والتالي في حكم الإثبات، والهيئة الاجتماعية بدون اعتبار التلاوة المستلزمة لانقضاء شيء وظهور ما يعقبه هي أم الكتاب، وهذا سر قوله عز من قائل يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: 39] ولك أن تعبر عن المجموع الدفعي بالقضاء وعن ظهوره التدريجي بالقدر وفي هذا القدر كفاية للفطن المستبصر. المسألة الثالثة: اتفقوا على وقوع النسخ في القرآن بوجوه: أحدها: هذه الآية أعني ما ننسخ من آية. وأجاب أبو مسلم بأن المراد بالآيات المنسوخة الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله عنا وتعبدنا بغيره، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فأبطل الله ذلك عليهم بهذه الآية. وأيضا لعل المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى سائر الكتب. وأيضا إن ما هاهنا يفيد الشرط والجزاء، وكما أن قولك «من جاءك فأكرمه» لا يدل على حصول المجيء بل على أنه متى جاء وجب الإكرام، فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه وثانيها: الاعتداد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 بالحول في قوله وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ [البقرة: 240] نسخ بأربعة أشهر وعشر في قوله وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234] أجاب أبو مسلم بأن الاعتداد بالحول ما زال بالكلية لأنها لو كانت حاملا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصا لا نسخا. ورد بأن عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقل أو أكثر، فجعل السنة مدة للعدة يكون زائلا بالكلية. وثالثها: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [المجادلة: 12] منسوخة بالاتفاق، أجاب بأنه زال لزوال سببه، لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون عن المؤمنين. ورد بأنه يلزم منه أن من لم يتصدق كان منافقا وهو باطل، لما روي أنه لم يتصدق غير علي عليه السلام، وبدليل فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة: 13] ورابعها: الأمر بثبات الواحد للعشرة في قوله إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: 65] ثم نسخ ذلك بقوله الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: 66] وخامسها: تحويل القبلة. قال أبو مسلم: حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه إليه عند الإشكال، أو مع العلم إذا كان هناك عذر. ورد بأن بيت المقدس وسائر الجهات في ذلك سواء. وسادسها: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [النحل: 101] والتبديل يشتمل على رفع وإثبات، والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم. وكيفما كان فهو رفع ونسخ، فهذه الدلائل وأمثالها تدل على وقوع النسخ في الجملة. حجة أبي مسلم لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42] والجواب أن الضمير للمجموع، وأيضا نسخه بالنسبة إلى المكلف لا ينافي حقيته في نفسه وكونه قرآنا عربيا. المسألة الرابعة: المنسوخ إما أن يكون هو الحكم فقط كالآيات المعدودة، أو التلاوة فقط كما يروى عن عمر أنه قال: كنا نقرأ آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم وروي «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب» ، أو الحكم والتلاوة معا كما روي عن عائشة «كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات ثم نسخن بخمس» . فالعشر مرفوع التلاوة والحكم جميعا، والخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم. ويروى أن سورة الأحزاب كانت بمنزلة السبع الطوال أو أزيد ثم وقع النقصان. ولنرجع إلى تفسير الآية ما نَنْسَخْ محمول على نسخ الحكم وإزالته دون التلاوة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 أو ننسها على نسخ الحكم والتلاوة جميعا. وإنساؤها أن يذهب بحفظها عن القلوب وذلك بأن تخرج من جملة ما يتلى ويقرأ في الصلاة، أو يحتج به، فإذا زال حكم التعبد به وطال العهد نسي، وإن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد، فتصير بهذا الوجه منسية من الصدور أو يكون ذلك معجزة له صلى الله عليه وسلم كما يروى أنهم كانوا يقرأون السورة فيصبحون وقد نسوها. قال عز من قائل سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى: 6، 7] وإنساخ الآية الأمر بنسخها وهو أن يأمر جبريل بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها، ونسؤها تأخيرها وإذهابها لا إلى بدل. وقيل: ما ننسخ من آية أي نبدلها إما بأن نبدل حكمها فقط، أو تلاوتها فقط، أو نبدلهما، أو ننسها نتركها كما كانت ولا نبدلها، لأن النسيان قد يجيء بمعنى الترك. وقيل: ما ننسخ من آية ما نرفعها بعد إنزالها أو ننسأها بالهمزة نؤخر إنزالها من اللوح المحفوظ، أو نؤخر نسخها فلا ننسخها في الحال فإنا ننزل بدلها ما يقوم مقامها في المصلحة. ولا يخفى أن قوله نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها لا ينطبق على هذين القولين كما ينبغي. ومعنى الآية عند جمهور المفسرين آية القرآن، وعند أبي مسلم التوراة والإنجيل كما مر. وقد عرفت أنه يمكن حملها على معنى أعم، فكل مجموع من الوجود في كل زمان من الأزمنة آية من صحيفة المخلوقات، وكل فرد من ذلك المجموع كلمة من كلمة الله قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي [الكهف: 109] ومعنى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها إن حملنا الآية على ما يتضمن حكما على المكلف أن الثاني أخف أو أصلح بالنسبة إلى وقته كما أن الأول كان أصلح بالإضافة إلى وقته. فالثاني خير بالنسبة إلى وقته، ومثل الأول بالنسبة إلى وقته، أو يراد أن العمل بالثاني أكثر ثوابا من العمل بالأول أو مساو له، فكل منهما قد تقتضيه الحكمة دون ما هو أقل ثوابا، وإن حملنا الآية على غير ذلك فيتعين الأصلح. قال أهل الإشارة أراد بالنسخ نقل السالك وترقيه من حال إلى حال أعلى منه، وإن غصن استكمالهم أبدا ناضر، ونجم وصالهم دائما زاهر، فلا ينسخ من آثار عباداتهم شيء إلا أبدل منها أشياء من أنوار العبودية، ولا ينسخ شيء من أنوار العبودية إلا أقيم مكانها أشياء من أقمار الربوبية. وأيضا إنهم يشاهدون بعض الوقائع الشريفة في الصور اللطيفة كسبتها المتخيلة بحسب صفاء الوقت وعلو المقام، فلما ارتقوا إلى مقام آخر لا يشاهدون ذلك بتلك المشاهدة، فيظن السالك الغر أنه حجب عن ذلك المقام أو الحال، فقيل: ما ننسخ من آية من آيات المقامات، أو ننسها بأن نمحوها من إدراك الخيال، نأت بخير من تلك المشاهدة أو مثلها. ثم الأئمة استنبطوا من الآية مسائل: الأولى: زعم قوم أنه لا يجوز نسخ الحكم لا إلى بدل لقوله نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها والجمهور على خلافه لأن الآية لا تدل إلا على وجوب الإتيان بآية أخرى، أما على وجوب الإتيان بحكم آخر فلا. سلمنا لكنه مخصوص بنسخ تقديم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 الصدقة بين يدي النجوى، وبنسخ وجوب الإمساك بعد الفطر من غير بدل. سلمنا عدم تخصيصه لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك البدل عدم الحكم الذي رفع بالنسخ ويكون نسخه بغير بدل وجودي خيرا للمكلف لمصلحة علمت. الثانية: زعم قوم أن النسخ لا يجوز بأثقل، لأن الأثقل لا يكون خيرا منه ولا مثله. وردّ الجمهور عليهم بأن المراد كثرة الثواب وذلك لا ينافي كونه أثقل «أجرك على قدر نصبك» وأيضا قد وقع كنسخ التخيير بين الصوم والفدية بالصوم حتما، وصوم عاشوراء برمضان، والحبس في البيوت للزاني بالحد. وأما النسخ إلى الأخف فكنسخ العدة من الحول إلى أربعة أشهر وعشر، وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها. وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة. الثالثة: عن الشافعي أن الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة لقوله نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها وذلك يدل على أن المأتي به من جنسه كما إذا قال الإنسان «ما آخذ منك من ثوب آتك بخير منه» يفيد أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه، وجنس القرآن قرآن. وأيضا نَأْتِ يدل على أن الآتي هو الله لا الرسول. وأيضا المأتي به خير والسنة لا تكون خيرا من القرآن. وأيضا قوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ دل على أن الآتي بذلك الخير هو القادر على جميع الخيرات وعلى تصريف المكلف تحت مشيئته وإرادته، لا دافع لما أراد ولا مانع لما شاء وذلك هو الله تعالى. وأجيب بأن قوله نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخا، بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئا مغايرا للناسخ يحصل بعد حصول النسخ وذلك أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الآية الأولى، فلو كان نسخ تلك الآية مرتبا على الإتيان بذلك الخير لزم الدور. قلت: ويمكن دفع الدور بأن يقال: المراد ما أردنا نسخها من آية نأت بخير منها حتى ننسخها. ثم احتج الجمهور على وقوع نسخ الكتاب بالسنة بأن آية الوصية للأقربين منسوخة بقوله «ألا لا وصية لوارث» وبأن آية الجلد صارت منسوخة بخبر الرجم. أجاب الشافعي: بأن كون الميراث حقا للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية، فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية، ولعل الرجم إنما ثبت بقوله تعالى «الشيخ والشيخة» إلخ. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو يدبر الأمور ويجريها على حسب المصالح، وهو أعلم بما يتعبد المكلفين به من ناسخ ومنسوخ. والخطاب في أَلَمْ تَعْلَمْ إما للنبي صلى الله عليه وسلم فتدخل الأمة تبعا، أو لكل من له أهلية الخطاب. ومعنى الاستفهام فيه التقرير والإثبات لظهور آثار قدرته ووضوح آيات ملكه وسلطانه. وقيل: إشارة إلى ما شاهد ليلة المعجزات بعين اليقين ثم علمها حق اليقين، فترقى من رؤية الآيات إلى كشف الصفات، ومن كشف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 الصفات إلى عيان الذات، ثم نسخت عن الخيال وأثبتت في العيان. والولي ضد العدو، وكل من ولي أمر واحد فهو وليه، فعيل بمعنى فاعل وكذا النصير. والواو في وَما لَكُمْ يحتمل أن تكون للاعتراض فلا محل للجملة، ويحتمل أن تكون للعطف على لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ فيدخل تحت الاستفهام، ويكون قوله مِنْ دُونِ اللَّهِ من وضع الظاهر موضع الضمير ولا يوقف على وَالْأَرْضِ. أَمْ تُرِيدُونَ قيل: الخطاب للمسلمين لقوله وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ وهذا لا يصح إلا في حق المؤمنين، ولأن «أم» للعطف ولا معطوف ظاهرا. فالتقدير: وقولوا انظرنا واسمعوا، فهل تفعلون هذا كما أمرتم أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ ولأنه سأل قوم من المسلمين أن يجعل صلى الله عليه وسلم لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها المأكول والمشروب كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة وهذا قول الأصم والجبائي وأبي مسلم. وقيل: إنه خطاب لأهل مكة وهو قول ابن عباس ومجاهد إن عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من قريش فقال: يا محمد، ما أؤمن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب، أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتابا من الله إلى عبد الله بن أمية أن محمدا رسول الله فاتبعوه. فقال له بقية الرهط: فإن لم تستطع ذلك فأتنا بكتاب من عند الله جملة واحدة فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله كما سأله السبعون، وعن مجاهد: أن قريشا سألت محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا. فقال: نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا. وقيل: المراد اليهود لأن هذه السورة من أول قوله يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ حكاية عنهم ومحاجة معهم، ولأن الآية مدنية، ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يتبدل كفرا بإيمان، وليس في ظاهر الآية أنهم أتوا بالسؤال فضلا عن كيفية السؤال، بل المرجع فيه إلى الروايات المذكورة. وهاهنا بحث وهو أن السؤال الذي ذكروه إن كان طلبا للمعجزات فمن أين أنه كفر؟ ومعلوم أن طلب الدليل على الشيء لا يكون كفرا وإن كان ذلك طلبا لوجه الحكمة التفصيلية في نسخ الأحكام، فهذا أيضا لا يكون كفرا فإن الملائكة طلبوا الحكمة التفصيلية في خلق البشر ولم يكن ذلك كفرا. فالتكفير إما لأنهم طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة، وإما لأنهم طلبوا المعجزات على وجه التعنت واللجاج. قلت: والأصوب في الآية أن يكون أَمْ تُرِيدُونَ معطوفا على أَلَمْ تَعْلَمْ على أنه خطاب لكل مكلف، فيكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 في معنى الجمع. ثم «أم» إما أن تكون متصلة على معنى أي الأمرين كائن فإن العلم واقع بكون أحدهما لأنه إما أن لا يعلم نفوذ علمه وقدرته وأن الكل تحت قدرته وقهره وتسخيره، وإما أن يعلم فيسأل وجه الحكمة في النسخ وغيره على سبيل العناد وكلا الأمرين يوجب التكفير. أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن المعترف بحكمته البالغة وعنايته الشاملة ورأفته الكاملة وقدرته الظاهرة من حقه أن يقتصر على علمه الإجمالى ولا يتخطى مقام الأدب في البحث والتفتيش عن تفاصيل حكمته التي لا تكاد تنحصر. ويوهم أن السائل في شك مما أمر به أو نهي عنه، وعلى هذا لا يوقف على نصير. وإما منقطعة على أنه أضرب عن الاستفهام الأول واستأنف استفهاما ثانيا، ويحتمل أن لا يكون قوله وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ حكما بتكفيرهم بسبب السؤال بل يكون تنبيها للمكلفين، على أن السؤال عما لا يهم لهم مما قد ينجر إلى الغواية لكثرة عروض الشكوك والشبهات حتى يقفوا على الاعتقاد الحق والتقليد الصرف فيما لا سبيل إلى درك تفاصيله أو لا يهم معرفتها. وسواء السبيل وسطه وهو الصراط المستقيم الذي مر تفسيره. [سورة البقرة (2) : الآيات 109 الى 113] وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) القراآت: قد سلفت. الوقوف: كُفَّاراً (ج) لأن حَسَداً مصدر محذوف أي يحسدون حسدا، أو حال أو مفعول له وهو أوجه والوصل أجوز الْحَقُّ (ج) لعطف الجملتين المختلفتين بِأَمْرِهِ (ط) قَدِيرٌ (هـ) الزَّكاةَ (ط) لأن ما للشرط والشرط مصدر عِنْدَ اللَّهِ (ط) بَصِيرٌ (هـ) أَوْ نَصارى (ط) أَمانِيُّهُمْ (ط) صادِقِينَ (هـ) عِنْدَ رَبِّهِ (ص) لعطف الجملتين المتفقتين يَحْزَنُونَ (هـ) النَّصارى عَلى شَيْءٍ (ص) لا لعطف الجملتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 المتفقتين عَلى شَيْءٍ (ص) لأن الواو للحال الْكِتابَ (ط) مِثْلَ قَوْلِهِمْ (ج) لأن فَاللَّهُ مبتدأ مع فاء التعقيب يَخْتَلِفُونَ (هـ) . التفسير: هذا نوع آخر من مكايد اليهود. روي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: ألم تروا ما أصابكم، ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلا. فقال عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا شديد. قال: فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت. فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ. وقال حذيفة: وأما أنا فقد رضيت بالله ربا وبمحمد نبيا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا. ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال: أصبتما خيرا وأفلحتما فنزلت. وكُفَّاراً نصب على الحال، أو مفعول ثان ل «يردون» على أنه بمعنى «صير» والحسد من أقبح الخصال الذميمة قال صلى الله عليه وسلم «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» وقال: «إن لنعم الله أعداء قيل: وما أولئك؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله» وقال «ستة يدخلون النار قبل الحساب: الأمراء بالجور، والعرب بالعصبية، والدهاقين بالتكبر، والتجار بالخيانة، وأهل الرستاق بالجهالة، والعلماء بالحسد» وروي أن موسى لما ذهب إلى ربه رأى في ظل العرش رجلا يغتبط بمكانه فقال: إن هذا لكريم على ربه، فسأل ربه أن يخبره باسمه فلم يخبره باسمه وقال: أحدثك من عمله ثلاثا: كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، وكان لا يعق والديه، ولا يمشي بالنميمة، ويحكى أن عبد الله بن عون دخل على الفضل بن المهلب، وكان يومئذ على واسط فقال: إني أريد أن أعظك بشيء: إياك والكبر فإنه أول ذنب عصى الله به إبليس ثم قرأ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ [البقرة: 34] وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة، أمكنه الله من جنة عرضها السموات والأرض فأكل منها فأخرجه الله ثم تلا اهْبِطا مِنْها [طه: 123] وإياك والحسد فإنه قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ [المائدة: 27] وقال ابن الزبير: ما حسدت أحدا على شيء من أمر الدنيا، لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة، وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟ واعلم أنه إذا أنعم الله على أخيك بنعمة فإن أردت زوالها فهذا هو الحسد المحرم الذي ذم الله تعالى صاحبه في هذه الآية وغيرها أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 54] إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [آل عمران: 120] لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا [يوسف: 8] وإن اشتهيت لنفسك مثلها فهذا هو الغبطة والمنافسة المشتقة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 النفاسة وليست بحرام لقوله تعالى وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين: 26] سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد: 21] وقال صلى الله عليه وسلم «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا وأنفقه في سبيل الله، ورجل آتاه الله علما فهو يعمل به ويعلم الناس» «1» وهذا يدل على أن الحسد قد يطلق على المنافسة، وقد تكون واجبة إذا كانت النعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة، وقد تكون مندوبة في نحو الإنفاق في سبيل الله وتشهي العلم والتعليم، وقد تكون مباحة. وللحسد مراتب أربع: الأولى، أن يحب زوال النعمة عنه وإن لم تحصل له وهذه أخبث. الثانية: أن يحب زوالها عنه إليه كرغبته في داره الحسنة أو امرأته أو ولايته فالمطلوب بالذات حصولها له، فأما زوالها عن غيره فمطلوب بالعرض. الثالثة: أن لا يشتهي زوالها بل يشتهي لنفسه مثلها، فإن عجز عن مثلها أحب زوالها كيلا يظهر التفاوت بينهما. الرابعة: أن يشتهي لنفسه مثلها فإن لم يحصل فلا يحب زوالها عنه. وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا، والمندوب إليه إن كان في الدين، والثالثة منها مذموم وغير مذموم، والثانية أخف والأولى أخبث قال تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النساء: 32] تمنيه لمثل ذلك غير مذموم وتمنيه لعين ذلك مذموم. وأسباب الحسد سبعة: أولها العداوة والبغضاء، فإن من آذاه إنسان أبغضه قلبه وغضب عليه وتولد منه الحقد المنشئ للتشفي والانتقام، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى منه بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان كما قال عز من قائل إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها [آل عمران: 120] . وربما أفضى هذا الحسد إلى التنازع والتقاتل، وثانيها التعزز فإن واحدا من أمثاله إذا نال منصبا عاليا فترفع عليه وهو لا يمكنه تحمل ذلك، أراد زوال ذلك المنصب عنه. وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره فإنه قد رضي بمساواته. وثالثها: أن يكون في طبعه أن يستخدم غيره فيريد زوال النعمة من ذلك الغير ليقدر على ذلك الغرض وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الأنعام: 53] كالاستحقار لهم والأنفة منهم. ورابعها: التعجب أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ [الأعراف: 63] وخامسها: الخوف من فوت المقاصد وذلك يتحقق من المتزاحمين على مقصود واحد، كتحاسد الضرائر في التزاحم على مقاصد الزوجية، وتحاسد الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة عند الأبوين، وتحاسد الوعاظ المتزاحمين على أهل بلدة. وسادسها: حب الرياسة كمن يريد أن يكون   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الزهد باب 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 عديم النظير في فن من الفنون، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم ساءه ذلك وأحب موته، فإن الكمال محبوب لذاته وضد المحبوب مكروه. ومن جملة أنواع الكمال التفرد بالكمال لكن هذا يمتنع حصوله إلا لله تعالى، ومن طمع في المحال خاب وخسر. وسابعها: شح النفس بالخير على عباد الله، فإنك تجد من لا يشتغل برياسة ولا تكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله شق عليه ذلك، وإذا وصف اضطراب أمور الناس وإدبارهم فرح به، فهو أبدا يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزائنه، وهذا ليس له سبب ظاهر سوى خبث النفس كما قيل: البخيل من بخل بمال غيره. وقد يجتمع بعض هذه الأسباب فيعظم الحسد ويتقوى بحسبه، وقلما يقع التحاسد إلا في الأمور الدنيوية، لأن الدنيا لا تفي بالمتزاحمين. وأما الآخرة فلا ضيق فيها فلهذا لا يكون تحاسد بين أرباب الدين وأصحاب اليقين، وإنما يكونون بلقاء إخوانهم مستأنسين وببقاء أقرانهم فرحين وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الحجر: 47] وأما علاج الحسد فأمران: العلم والعمل. أما العلم ففيه مقامان: إجمالي وهو أن يعلم أن الكل بقضاء الله وقدره، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا يرده كراهية كاره ولا يجره إرادة مريد. وتفصيلي وهو العلم بأن الحسد قذى في عين الإيمان حيث كره حكم الله وقسمته في عباده وغش للإخوان، وعذاب أليم، وحزن مقيم، ومورث للوسواس، ومكدر للحواس. ولا ضرر على المحسود في دنياه لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك، ولا في دينه بل ينتفع به لأنه مظلوم من جهتك فيثيبه الله على ذلك. وقد ينتفع في دنياه أيضا من جهة أنك عدوه، ولا يزال يزيد غمومك وأحزانك إلى أن بقضي بك إلى الدنف والتلف. اصبر على مضض الحسو ... دفإن صبرك قاتله النار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله وقد يستدل بحسد الحاسد على كونه مخصوصا من الله تعالى بمزيد الفضائل. لا مات أعداؤك بل خلدوا ... حتى يروا منك الذي يكمد لا زلت محسودا على نعمة ... فإنما الكامل من يحسد والحاسد مذموم بين الخلق، ملعون عند الخالق، مشكور عند إبليس وأصدقائه، مدحور عند الخالق وأوليائه، فهل هو إلا كمن رمى حجرا إلى عدو ليصيب به مقتله فلا يصيبه بل يرجع على حدقته اليمنى فيقلعها، فيزداد غضبه فيعود ثانيا فيرميه أشد من الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 فيرجع على عينه الأخرى فيعميه فيزداد غيظه، فيعود ثالثا فيرجع على رأسه فيشدخه، وعدوه سالم في كل الأحوال وقد عاد عليه الوبال وأعداؤه حواليه يفرحون ويضحكون؟ هذا له في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأبقى. وأما العمل فهو أن يأتي بالأفعال المضادة لمقتضيات الحسد، فإن بعثه الحسد على القدح فيه كلف لسانه المدح له، وإن حمله على التكبر عليه كلف نفسه التواضع له، وإن حمله على قطع أسباب الخير سعى في إيصال الخير إليه حتى يصير المحسود محبوبا محبا له، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34] ، وذلك التكلف يصير بالآخرة طبعا والله الموفق. واعلم أن النفرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه، فكيف يعاقب عليه؟ وإنما الداخل تحت التكليف رضاه بتلك النفرة ثم إظهار آثارها من القدح فيه والقصد إلى إزالة النعمة عنه وجر أسباب المحنة إليه، ثم إن اليهود كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعد ما تبين لهم أن الإيمان صواب وحق، فألقوا إليهم ضربين من الشبهة لعلمهم أن المحق لا يعدل عن الحق إلا بالشبهة أحدهما ما يتصل بالدنيا وهو قولهم لهم قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم وذهاب أموالكم واستمرار الخوف عليكم، فاتركوا إيمانكم الذي ساقكم إلى هذه. الثاني في باب الدين بالقدح في المعجزات وتحريف التوراة. قوله مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ إما أن يتعلق ب وَدَّ أي تمنوا ذلك من قبل شهوتهم لا من قبل التدين والميل مع الحق، لأنهم ودوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق، وإما أن يتعلق ب حَسَداً أي منبعثا من أصل نفوسهم فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح بترك المقابلة والإعراض عن الجواب، لأن ذلك أقرب إلى تسكين الثائرة لا دائما بل حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ عن الحسن أنه المجازاة يوم القيامة، وقيل قوة الإسلام وكثرة المسلمين، والأكثرون على أنه الأمر بالقتال فعنده يتعين إما الإسلام وإما قبول الجزية، وتحمل الذل والصغار. والآية منسوخة لأن الآية التي علق بها غير معلومة شرعا فليس كقوله ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] بل يحل محل قوله فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا إلى أن أنسخه عنكم. عن الباقر عليه السلام: إنه لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال حتى نزل جبريل بقوله أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج: 39] وقلده سيفا فكان أول قتال قتال أصحاب عبد الله بن جحش ببطن نخل وبعده غزوة بدر. فإن قيل: كيف يعفون ويصفحون والكفار حينئذ أصحاب قوة وشوكة، والصفح لا يكون إلا عن قدرة؟ قلنا: إن الرجل من المسلمين كان ينال الأذى فيقدر على بعض التشفي والاستعانة بسائر أصحابه، فأمروا أن لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 يهيجوا قتالا وفتنة. وأيضا القليل منهم كان يقاوم الكثير من المشركين إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: 65] وأيضا جعل الصابر إلى القوة قويا ليظهره على الدين كله. وقيل: المراد بالعفو والصفح حسن الاستدعاء واستعمال ما يلزم فيهم من النصح والإشفاق وترك التشدد، وعلى هذا لا تكون الآية منسوخة. وكذا لو قيل: المراد بأمر الله قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وإذ لا لهم بضرب الجزية عليهم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو يقدر على الانتقام منهم وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ تنبيه على أنه كما يلزمهم لحظ حال غيرهم بالعفو والصفح، كذلك يلزمهم لحظ أنفسهم بأداء الواجبات من خير من حسنة صلوات أو صدقة فريضة أو تطوع، فعمم بعد ما خص تنبيها على أن الثواب لا يختص بالواجبات بل بها وبغيرها من الطاعات، ولا بد من إضمار أي تحدوا ثوابه، لأن وجدان عين تلك الأشياء غير مطلوب إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا يخفى عليه شيء من الأعمال وفيه ترغيب للمحسن وترهيب للمسيء وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ نوع آخر من تخليط أهل الكتاب اليهود والنصارى والضمير في وَقالُوا لهم والمعنى وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخلها إلا من كان نصارى، فضم بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق ما قاله لما علم من تكفير كل واحد منهما صاحبه ومثله وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [البقرة: 135] والهود جمع هائد كبازل وبزل وعائذ وعوذ، والعائذ الحديثة النتاج من النوق، والبازل الذي خرج نابه، ووحد اسم «كان» حملا على لفظ «من» وجمع خبره حملا على المعنى ومثله فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [البقرة: 112] تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم، يريد أن أمانيهم جميعا في البطلان مثل هذه وهي قولهم لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أو أشير بتلك إلى أن ودادتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم أمنية، وودادتهم أن يردوهم كفارا أمنية، وقولهم لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أمنية أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم، وقوله قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ متصل بقوله لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى وتِلْكَ أَمانِيُّهُمْ اعتراض على هذا. وهات الشيء اسم فعل معناه أعط، ويتصرف فيه بحسب المأمور هات، هاتيا، هاتوا، هاتي، هاتين، وقيل: الصحيح أنه ليس باسم فعل وإنما الهاء فيه مبدلة من الهمزة، وأصله آت من الإيتاء. برهانكم حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم، وفيه دليل واضح على أن المدعي نفيا أو إثباتا لا بد له من برهان وإلا فدعواه باطلة. من ادعى شيئا بلا شاهد ... لا بد أن تبطل دعواه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 بَلى إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة، وقوله مَنْ أَسْلَمَ إلى آخره جملة شرطية مستأنفة، ويجوز أن يكون مَنْ أَسْلَمَ فاعلا لفعل محذوف أي بلى يدخلها من أسلم ويكون قوله فَلَهُ أَجْرُهُ كلاما معطوفا على يدخلها مَنْ أَسْلَمَ وفيه إشارة إلى أن لهؤلاء الداخلين برهانا وهو استسلام النفس وانقيادها لطاعة الله مع الإحسان وفيه ترغيب لهم في الإسلام وبيان لمفارقة حالهم حال من يدخل الجنة كأنه قيل لهم: أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنة، بلى إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله وأحسنتم فلكم الجنة وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء من حيث إنه معدن الحواس وينبوع الفكر والتخييل، فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى، ولأن الوجه قد يكنى به عن النفس والذات كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى [الليل: 20] ولأن أعظم العبادات السجدة وهي إنما تحصل بالوجه. وهذا الإسلام أخص من الإسلام الذي ورد في الحديث «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» لأن هذا عبارة عن الإذعان الكلي بجميع القوى والجوارح في كل الأحوال والأوقات، وهو الإسلام الذي أمر به إبراهيم عليه السلام إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [البقرة: 131] ويؤكد ذلك قوله لِلَّهِ أي خالصا له لا يشوبه شرك فلا يكون عابدا مع الله غيره ولا معلقا رجاءه بغيره، وزاد التأكيد بقوله وَهُوَ مُحْسِنٌ أي حال كونه محسنا في عمله، ومعنى الإحسان هو الذي في الحديث «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ولا ريب أن العبادة على هذا الوجه لا تصدر إلا عن صدق النية وصفاء الطوية، فإن مثول العبد بين يدي مولاه يشغله عن الالتفات إلى ما سواه، فلا يقع قصده فيما هو فيه إلا لوجه الله فلا يصدر عنه شيء من السيئات، وأما الطاعات والمباحات فتكون مقتضية لتزايد الحسنات ورفع الدرجات في الخبر «من تطيب لله جاء يوم القيامة وريحه أطيب من ريح المسك، ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة» وذلك أن المتطيب إن كان قصده التنعم واستيفاء اللذات أو التودد إلى النسوان كان التطيب معصية، وإن كان قصده إقامة السنة ودفع الروائح المؤذية عن عباد الله وتعظيم المسجد فهو عين الطاعة، وكذا الكلام في المناكح والمطاعم والمشارب. والضابط أن كل ما فعلته لداعي الحق فهو العمل الحق، وكل ما عملته لغير الله فحلالها حساب وحرامها عذاب، روي أن رجلا في بني إسرائيل مر بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه: لو كان هذا الرمل طعاما لقسمته بين الناس. فأوحى الله تعالى إلى نبيه قل له: إن الله قد صدقك وشكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاما فتصدقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 به. وليس النية أن يقول في نفسه أو بلسانه عند تدريسه أو تجارته «نويت أن أدرس لله أو أتجر لله» هيهات أنها لحديث نفس أو لسان وما ذاك إلا كقول الفارغ «نويت أن أعشق» وأما النية فهي انبعاث النفس وميلها إلى سلوك طريق الحق في كل فعل، فاجتهد في تصيير ذلك ملكة لنفسك. «وللناس فيما يعشقون مذاهب» فمنهم من يعمل لباعث الخوف من النار فله ذلك، ومنهم من يعمل لباعث الطمع في الجنة وهم أكثر أهل الجنة لقصور هممهم عن طموح ما فوقها من الكمالات واللذات الحقيقيات «أكثر أهل الجنة البله» ومنهم من يعمل لله فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولما جمع الله تعالى أهل الكتابين في الآية المتقدمة، فصل بينهما وبين قول كل فريق في حق الآخر، والظاهر حمل لفظي اليهود والنصارى على العموم وإن كان السبب خاصا لأن هذا اعتقاد كل واحد من كل من الطائفتين في حق الأخرى. روي أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم أخبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى والإنجيل. وقالت النصارى لهم نحوه، وكفروا بموسى والتوراة. ومعنى عَلى شَيْءٍ أي شيء يصح ويعتد به، وفيه مبالغة عظيمة كقول العرب «أقل من لا شيء» عن ابن عباس: والله صدقوا. قلت: وذلك أن الإيمان بالله إنما يعتد به إذا كان مؤمنا برسوله وبكل ما أنزله وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ الواو للحال والكتاب للجنس أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب، وحق من حمل التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله أن يؤمن بالباقي ولا يكفر به، لأن جميع الكتب السماوية متواردة في تصديق بعضها بعضا كَذلِكَ الكاف للتشبيه وكَذلِكَ إشارة إلى المذكور أي قولا مثل الذي سمعت به قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ومِثْلَ قَوْلِهِمْ مكرر للتأكيد ولطول الكلام بالموصول والصلة. والمراد بالذين لا يعلمون الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام القائلين إن المسلمين ليسوا على شيء وفيه توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم فقالوا قولا عن التشهي والعصبية مثلهم فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي بين اليهود والنصارى يوم القيامة. عن الحسن: يكذبهم جميعا ويدخلهم النار ويجوز أن يرجع الضمير إلى الكافرين الذين يعلمون والذين لا يعلمون وإلى المسلمين، ويحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه، فينتصر من الظالم المكذب للمظلوم المكذب، أو يريهم من يدخل الجنة عيانا ويدخل النار عيانا أعاذنا الله تعالى منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 [سورة البقرة (2) : الآيات 114 الى 118] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) القراآت: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ بلا واو العطف: ابن عامر اتباعا لمصاحف أهل الشام كُنْ فَيَكُونُ بالنصب كل القرآن: ابن عامر إلا قوله كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ في آل عمران، وكُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ في الأنعام. وافقه الكسائي في النحل ويس. الوقوف: خَرابِها (ط) للفصل بين الاستفهام والخبر خائِفِينَ ط لأن ما بعده إخبار وعيد مبتدأ منتظر عَظِيمٌ (هـ) وَجْهُ اللَّهِ (ط) عَلِيمٌ (هـ) وَإِذا لا تعجيلا للتنزيه سُبْحانَهُ (ط) وَالْأَرْضِ (ط) لأن ما بعده مبتدأ قانِتُونَ (هـ) وَالْأَرْضِ (ط) لأن إذا أجيبت بالفاء وكانت للشرط فَيَكُونُ (هـ) آيَةٌ (ط) قُلُوبُهُمْ (ط) لأن قد لتوكيد الاستئناف يُوقِنُونَ (هـ) . التفسير: عن ابن عباس أن ملك النصارى غزا بيت المقدس فخربه وألقى فيه الجيف وحاصر أهله وقتلهم وسبى الذرية وأحرق التوراة، ولم يزل خرابا حتى بناه أهل الإسلام في زمان عمر فنزلت الآية فيهم. وعن الحسن وقتادة والسدي نزلت في بختنصر حيث خرب بيت المقدس وأعانه على ذلك بعض النصارى. ورد بأن بختنصر كان قبل مولد المسيح بزمان. وقيل: نزلت في مشركي العرب الذين منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء إلى الله بمكة ألجئوه إلى الهجرة، فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام. وقيل: المراد منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية. ووجه اتصال الآية بما قبلها على القولين الأولين. هو أن النصارى ادعوا أنهم من أهل الجنة فقط، فبين أنهم أظلم منهم فكيف يدخلون الجنة؟ وعلى الآخرين هو أنه جرى ذكر مشركي العرب في قوله كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فعقب ذلك بسائر قبائحهم و «من» استفهامية لتقرير النفي أي ليس أحد أظلم ممن منع وأَنْ يُذْكَرَ ثاني مفعوليه لأنك تقول: منعته كذا أو بدل من مَساجِدَ أو حذف حرف الجر مع أن والتقدير كراهة أن يذكر فيكون مفعولا له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وهذا حكم عام لجنس مساجد الله، وأن مانعها من ذكر الله تعالى مفرط في الظلم، ولا بأس أن يجيء الحكم عاما وإن كان السبب خاصا كما تقول لمن آذى صالحا واحدا من أظلم ممن آذى الصالحين؟ ومثله وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1] والمنزول فيه الأخنس بن شريق. وينبغي أن يراد بمن منع العموم أيضا لا الذين منعوا من أولئك النصارى أو المشركين بأعيانهم والسعي في خراب المساجد بانقطاع الذكر أو تخريب البنيان قيل: إن قوله وَمَنْ أَظْلَمُ الذي هو في قوة ليس أحد أظلم ليس على عمومه لأن الشرك أعظم من هذا الفعل إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] وكذا الزنا وقتل النفس قلت: أما استعمال لفظ الظلم في هذا المعنى في غاية الحسن، لأن المسجد موضوع لذكر الله تعالى فيه، فالمانع من ذلك واضع للشيء في غير موضعه. وأما أنه لا أظلم منه فلأنه إن كان مشركا فقد جمع مع شركه هذه الخصلة الشنعاء فلا أظلم منه، وإن كان يدعي الإسلام ففعله مناقض لقوله، لأن من اعتقد أن له معبودا عرف وجوب عبادته له عقلا أو شرعا، والعبادة تستدعي متعبدا لا محالة. فتخريب المتعبد ينبىء عن إنكار العبادة وإنكار العبادة يستلزم إنكار المعبود، فهذا الشخص لا يكون في الحقيقة مسلما وإنما هو منخرط في سلك أهل النفاق، والمنافق كافر أسوأ حالا من الكافر الأصلي بالاتفاق أُولئِكَ المانعون ما كانَ لَهُمْ أي ما ينبغي لهم أَنْ يَدْخُلُوها في حال من الأحوال إِلَّا خائِفِينَ على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها. والمعنى: ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم. وقيل: هذه بشارة للمؤمنين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخلوا المسجد الحرام إلا خائفين من أن يعاقبوا أو يقتلوا إن لم يسلموا. وقد أنجز الله هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام ونادى فيهم عام حج أبو بكر: ألا لا يحجن بعد العام مشرك. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود من جزيرة العرب، وصار بيت المقدس في أيدي المسلمين. وقيل: يحرم عليهم دخول المسجد إلا في أمر يتضمن الخوف نحو أن يدخلوا للمحاكمة أو المخاصمة أو المحاجة. وقيل: اللفظ خبر ولكن معناه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه كقوله وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: 53] فمن هنا قال مالك: لا يجوز للكافر دخول المساجد. وخصص الشافعي المنع بالمسجد الحرام لجلالة قدره ومزيد شرفه، للتصريح بذلك في قوله إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة: 28] . وجوز أبو حنيفة دخول المساجد كلها لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قدم عليه وفد ثقيف فأنزلهم المسجد. وأجيب بأنه في أول الإسلام ثم نسخ بالآية خِزْيٌ ذل يمنعهم من المساجد أو بالجزية في حق أهل الذمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وبالسبي والقتل في حق أهل الحرب، وفيه ردع لهم عن ثباتهم على الكفر. وقيل: الخزي فتح مدائنهم قسطنطينية وعمورية ورومية، والعذاب العظيم يناسب الظلم العظيم ولنذكر هنا فوائد: (الأولى) في بيان فضل المساجد ومن ذاك إضافتها إلى الله في الآية وذلك دليل على شرفها وكذا في قوله وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الجن: 18] بلام الاختصاص إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 18] فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور: 39] وقال صلى الله عليه وسلم «أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها» «1» وليس ذلك إلا لأن المسجد يذكر الحبيب، والسوق يشغل عنه، وفي الآية نكتة وهي أن مخرب المساجد لما كان في نهاية الظلم والكفر يلزم أن يكون عامر المساجد في غاية العدل والإيمان. (الثانية) في فضل المشي إلى المساجد عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال «من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فيه فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة» «2» وقال صلى الله عليه وسلم لبني سلمة حين أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد «دياركم تكتب آثاركم» «3» . (الثالثة) في تزيين المساجد. عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أمرت بتشييد المساجد» قال ابن عباس: بزخرفتها كما زخرفت اليهود والنصارى. التشييد رفع البناء وتطويله، والزخرفة التزيين والتمويه. وأمر عمر ببناء مسجد فقال: أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس. (الرابعة) في تحية المسجد. عن أبي قتادة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» «4» وتؤدى التحية بالفرض أو النفل نواها أولا وهذا مذهب   (1) رواه مسلم في كتاب المساجد حديث 288. أحمد في مسنده (4/ 81) . (2) رواه مسلم في كتاب المساجد حديث 282. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 197. أحمد في مسنده (3/ 39) (4/ 157) . (3) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة 36 باب 1. (4) رواه مالك في الموطأ في كتاب السفر حديث 57. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 188. الدارمي في كتاب الصلاة باب 114. أحمد في مسنده (5/ 295، 302) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 الحسن البصري ومكحول والشافعي وأحمد وإسحق. وقيل: يجلس ولا يصلي وإليه ذهب ابن سيرين وعطاء بن أبي رباح والنخعي وقتادة ومالك والثوري وأصحاب الرأي. (الخامسة) في الدعاء عند الدخول في المسجد والخروج منه. روت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد صلى الله عليه وسلم وقال: رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال: رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك. (السادسة) في فضيلة القعود فيه لانتظار الصلاة عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه فتقول: اللهم اغفر له وارحمه ما لم يحدث» «1» . (السابعة) في كراهية البيع والشراء فيه، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المساجد وعن البيع والشراء فيها، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة يعني لمذاكرة العلم ونحوه، بل يشتغل بالذكر والصلاة والإنصات للخطبة ثم لا بأس بالاجتماع والتحلق بعد الصلاة، وأما طلب الضالة في المسجد ورفع الصوت بغير الذكر فمكروه أيضا. عن أبي هريرة أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا أداها الله إليك فإن المساجد لم تبن لهذا» «2» وقد كره بعض السلف المسألة في المسجد، وكان بعضهم لا يرى أن يتصدق على السائل المتعرض في المسجد، وقال معاذ بن جبل: إن المساجد طهرت من خمس: من أن تقام فيها الحدود، أو يقبض فيها الخراج، أو ينطق فيها بالأشعار، أو ينشد فيها الضالة، أو تتخذ سوقا. ولم ير بعضهم بالقضاء في المسجد بأسا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته في المسجد، ولاعن عمر عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد، وكان الحسن وزرارة بن أبي أوفى يقضيان في الرحبة خارجا من المسجد. (الثامنة) النوم في المسجد. عن عبادة بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى. وفيه دليل على جواز الاتكاء والاضطجاع   (1) رواه البخاري في كتاب الأذان باب 30، 36. أبو داود في كتاب الصلاة باب 20. الدارمي في كتاب الصلاة باب 122. الموطأ في كتاب السفر حديث 51، 54. أحمد في مسنده (2/ 312) . (2) رواه مسلم في كتاب المساجد حديث 79. أبو داود في كتاب الصلاة باب 21. ابن ماجه في كتاب المساجد باب 11. أحمد في مسنده (2/ 349، 420) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وأنواع الاستراحة في المسجد وجوازها في البيت إلا الانبطاح، فإنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: «إنها ضجعة يبغضها الله» . (التاسعة) في كراهة البزاق في المسجد. عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها» «1» وعنه صلى الله عليه وسلم «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنه يتاجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا ولكن ليبصق عن شماله أو تحت رجله «2» فيدفنه» . (العاشرة) عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل ثوما أو بصلا فليعتزل مسجدنا» «3» وعنه صلى الله عليه وسلم «من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس» «4» . (الحادية عشرة) في بناء المساجد في الدور عن عائشة قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب. وفيه دليل أن مجرد تسمية الموضع بالمسجد لا يخرجه عن ملكه ما لم يسبله. قوله عز من قائل وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الآية، الأكثرون على أنها نزلت في أمر يختص بالصلاة، ومنهم من زعم أنها نزلت في أمر لا يختص بالصلاة أما الفرقة الأولى فاختلفوا على وجوه: أحدها: أراد به تحويل المسلمين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة فقال: إن المشرق والمغرب وجميع الأطراف مملوكة له سبحانه ومخلوقة له، فأينما أمركم باستقباله فهو القبلة لأن القبلة ليست قبلة لذاتها بل بجعل الله تعالى، فكانت الآية   (1) رواه البخاري في كتاب الصلاة باب 37. مسلم في كتاب المساجد حديث 55- 57. أبو داود في كتاب الصلاة باب 22. الترمذي في كتاب الجمعة باب 49. (2) رواه البخاري في كتاب الصلاة باب 33- 38. مسلم في كتاب الزهد حديث 74. النسائي في كتاب المساجد باب 31. الموطأ في كتاب القبلة حديث 4. أحمد في مسنده (2/ 32، 66) . [ ..... ] (3) رواه البخاري في كتاب الأذان باب 160. أبو داود في كتاب الأطعمة باب 40. الترمذي في كتاب الأطعمة باب 1. النسائي في كتاب المساجد باب 16، 17. (4) رواه مسلم في كتاب المساجد حديث 72. أحمد في مسنده (3/ 274) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 مقدمة لما أراد من نسخ القبلة، وثانيها عن ابن عباس: لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك فنزلت ردا عليهم. وثالثها قول أبي مسلم: إن كلا من اليهود والنصارى زعمت أن الجنة لهم وحدهم فرد الله عليهم، وذلك أن اليهود إنما استقبلوا بيت المقدس لاعتقادهم أنه تعالى صعد السماء من الصخرة، والنصارى استقبلوا المشرق لأن عيسى ولد هناك إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا [مريم: 16] فكل منهما وصف معبوده بالحلول في الأماكن، ومن كان هكذا فهو مخلوق لا خالق فكيف تخلص لهم الجنة وهم لا يفرقون بين المخلوق والخالق؟ ورابعها: قول قتادة وابن زيد: إن الله تعالى نسخ بيت المقدس بالتخيير إلى أي جهة شاءوا بهذه الآية، وكان للمسلمين ذلك إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختار التوجه إلى بيت المقدس، ثم إنه تعالى نسخ ذلك التخيير بتعيين الكعبة. وخامسها أن الآية في حق من يشاهد الكعبة فله الاستقبال من أي جهة شاء. وسادسها: روى عبد الله بن عامر بن ربيعة: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة، فجعل كل رجل منا مسجده حجارة موضوعة بين يديه ثم صلينا، فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية عذرا لنا في خطئنا. وهذا الحديث يدل على أنهم حينئذ قد نقلوا إلى الكعبة، لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ القبلة. وسابعها: عن ابن عمر نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث توجهت به راحلته، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعا يومىء برأسه نحو المدينة. فمعنى الآية أينما تولوا وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم فثم وجه الله، أي فقد صادفتم رضاه إن الله واسع الفضل عليم بمصالحكم فمن ثم رخص لكم كيلا يلزم ترك النوافل والتخلف عن الرفقة، فإن النوافل غير محصورة بخلاف الفرائض فإنها محصورة. فتكليف النزول عن الراحلة لاستقبال القبلة لا يفضي فيها إلى الحرج، ولا يخفى أن الآية على الوجه الأول ناسخة، وعلى الوجه الرابع منسوخة، وعلى سائر الوجوه لا ناسخة ولا منسوخة. وأما الفرقة الثانية فاختلفوا أيضا فقيل: الخطاب في تُوَلُّوا للمانعين والساعين يريد أنهم أين هربوا فإن سلطاني يلحقهم وتدبيري يسبقهم وعلمي محيط بمكانهم. عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه فقالوا نصلي على رجل ليس بمسلم» فنزلت وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [آل عمران: 199] الآية. فقالوا: إنه كان لا يصلي إلى القبلة فنزلت هذه الآية أي الجهات التي يصلي إليها أهل كل ملة لي. فمن وجه وجهه نحو شيء منها يريد طاعتي وجد ثوابي، فكان في هذا عذر للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبال المشرق كقوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] وعن الحسن ومجاهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 والضحاك: لما نزلت ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] قالوا: أين ندعوه؟ فنزلت، وعن علي بن عيسى أنه خطاب للمسلمين أي لا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله عن ذكره حيث كنتم من أرضه فلله بلاد المشرق والمغرب والجهات كلها، ففي أي مكان فعلتم التولية التي أمرتم بها بدليل فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: 144] فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144] فثم الجهة المأمورة المرضية وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم «جعلت لي الأرض مسجدا» «1» وقيل: نزلت في المجتهدين في الصلاة أو في غيرها، وفيه أن المجتهد إذا رأى بشرائط الاجتهاد رأيا فهو مصيب. ومعنى تولوا في جميع الوجوه تقبلوا بوجوهكم إليها. ويقال: ولى هاربا أي أدبر، فالتولية من الأضداد، ومن جعل الخطاب للمانعين احتمل أن يريد بالتولية الإدبار وفَثَمَّ إشارة إلى المكان خاصة. وقد زعمت المجسمة من الآية أن لله تعالى وجها وأيضا سماه واسعا، والسعة من نعوت الأجسام. والجواب أن الآية عليه لا له، فإن الوجه لو حمل على مفهومه اللغوي لزم خلاف المعقول فإنه إن كان محاذيا للشرقي استحال أن يكون حينئذ محاذيا للغربي، فلا بد من تأويل هو: أن الإضافة للتشريف مثل «بيت الله» «وناقة الله» لأنه خلقهما وأوجدهما فأي وجه من وجوه العالم وجهاته المضافة إليه بالخلق والتكوين نصبه وعينه فهو قبلة والمراد بالوجه القصد والنية مثل وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: 79] أو المراد فثم مرضاة الله مثل إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الدهر: 9] فإن المتقرب إلى رضا أحد شيئا فشيئا كالمتوجه إلى شخص ذاهبا إليه شيئا فشيئا. وكيف يكون له وجه أو وجهة، أم كيف يكون جسما أو جسمانيا وأنه خالق الأمكنة والأحياز والجواهر والأعراض والخالق مقدم على المخلوق تقدما بالذات والعلية والشرف؟ فالمراد بالسعة كمال الاستيلاء والقدرة والملك وكثرة العطاء والرحمة والإنعام، وأنه تعالى قادر على الإطلاق وفي توفية ثواب من يقوم بالمأمورات على شرطها، وتوفية عقاب من يتكاسل فيها، عليم بمواقع نياتهم فيجازيهم على حسب أعمالهم. قوله وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً نوع آخر من قبائح أفعال اليهود والنصارى والمشركين جميعا فقد مر ذكرهم في قوله كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ وفي قوله وَمَنْ أَظْلَمُ   (1) رواه البخاري في كتاب التيمم باب 1. مسلم في كتاب المساجد حديث 3، 4، 5. أبو داود في كتاب الصلاة باب 24. الترمذي في كتاب المواقيت باب 119. النسائي في كتاب الغسل باب 26. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 كما مر. والضمير يصلح للعود إليهم، فاليهود قالوا عزير ابن الله، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، والمشركون من العرب قالوا الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ تنزيه له عن ذلك وتبعيد بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا وإبداعا وصنعا، ومن جملتهم الملائكة وعزير والمسيح. والولد لا بد أن يكون من جنس الوالد، ومن أين المناسبة بين واجب الوجود لذاته وممكن الوجود لذاته؟ اللهم إلا في مطلق الوجود، وذلك لا يقتضي شركة في الحقيقة الخاصة بكل منهما. وقد يتخذ الولد للحاجة إليه في الكبر ورجاء الانتفاع بمعونته وذلك على الغني المطلق والقيوم الحق محال كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ التنوين عوض عن محذوف أي كل ما في السموات والأرض والقنوت في الأصل الدوام ثم الطاعة، أو طول القيام أو السكوت فالمعنى أن دوام الممكنات واستمرارها جميعا به ولأجله وقيل: عن مجاهد وابن عباس مطيعون فسئل ما للكفار، فأجاب: أنهم يطيعون يوم القيامة فسئل هذا للمكلفين. وقوله بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ يعم المكلف وغيره، فعدل إلى تفسير آخر قائلا المراد كونها شاهدة على وجود الخالق بما فيها من آثار القدرة وأمارات الحدوث، أو كون جميعها في ملكه وتحت قهره لا يمتنع عن تصرفه فيها كيف يشاء. وعلى هذه الوجوه جمع السلامة في قانِتُونَ للتغليب، أو يراد كل من الملائكة وعزير والمسيح عابدون له مقرون بربوبيته منكرون لما أضافوا إليهم من الولدية، وعلى هذا الوجه يجمع على الأصل. يحكى أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال لبعض النصارى: لولا تمرد عيسى عن عبادة الله تعالى لصرت على دينه. فقال النصراني: كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى مع جده في طاعة الله؟ فقال علي: إن كان عيسى إلها فالإله كيف يعبد غيره؟ وإنما العبد هو الذي يليق به العبادة فانقطع النصراني وبهت بَدِيعُ خبر مبتدأ محذوف أي هو بديع السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عم أولا لأن الملكية والاختصاص لا يستلزم كون المالك موجدا للمملوك، ثم خص ثانيا فقال بديع: بدع الشيء بالضم فهو بديع، وأبدعته اخترعته لأعلى مثال، وهذا من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي بديع سمواته وأرضه. وقيل: بمعنى المبدع كأليم بمعنى مؤلم وضعف، ثم إنه تعالى بين كيفية إبداعه فقال: وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أصل التركيب من «ق ض ى» يدل على القطع. قضى القاضي بهذا إذا فصل الدعوى، وانقضى الشيء انقطع، وقضى حاجته قطعها عن المحتاج، وقضى الأمر إذا أتمه وأحكمه، لأن إتمام العمل قطع له، وقضى دينه أداه لأنه انقطع كل منهما عن صاحبه وضاق الشيء لأنه كأنه مقطوع الأطراف، والأمر الشأن، والفعل هاهنا، ومعنى قضى أمرا أتمه أو حكم بأنه يفعله أو أحكمه قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع ثم من قرأ فَيَكُونُ بالرفع على تقدير فهو يكون فلا إشكال، وأما من قرأ بالنصب على أنه جواب الأمر فأورد عليه أن جواب الأمر لا بد أن يخالف الأمر في الفعل أو في الفاعل أو فيهما نحو: اذهب تنتفع، أو اذهب يذهب زيد، أو اذهب ينفعك زيد، فإما أن يتفق الفعلان والفاعلان نحو: اذهب تذهب فغير جائز لأن الشيء لا يكون شرطا لنفسه. قلت: لا استبعاد في هذا، لأن الغرض الذي رتب على الأمر قد يكون شيئا مغايرا لفعل الأمر وذلك أكثري، وقد لا يكون الغرض إلا مجرد ذلك الفعل فيوقع في جواب نفسه ليعلم أن الغرض منه ليس شيئا آخر مغايرا له. فقول القائل «اذهب تذهب أو فتذهب» معناه إعلام أن الغرض من الأمر هو نفس صدور الذهاب عنه لا شيء آخر، كما أن المقصود في الآية من الأمر بالوجود هو نفس الوجود، فأوقع «كان» التامة جوابا لمثلها لهذا الغرض، على أنه يمكن أن يشبه الواقع بعد الأمر بجواب الأمر وإن لم يكن جوابا له من حيث المعنى. فإن قلت: إن قوله فَيَكُونُ لما كان من تتمة المقول. فالصواب أن يكون بتاء الخطاب نحو «اذهب فتذهب» قلت: هذا الحادث قد ذكر مرتين بلفظ الغيبة في قوله أَمْراً وفي قوله لَهُ ومرة على سبيل الخطاب فغلب جانب الغيبة، ويحتمل أن يكون من باب الالتفات تحقيرا لشأنه في سهولة تكونه، ولأن أول الكلام مع المكلفين فروعي ذلك. وهاهنا بحث آخر وهو أنه لا يجوز أن يتوقف إيجاد الله تعالى لشيء على صدور لفظة «كن» منه لوجوه: الأول أن قوله كُنْ إما أن يكون قديما أو محدثا لا جائز أن يكون قديما، لأن النون لكونه مسبوقا بالكاف يكون محدثا لا محالة، والكاف لكونه متقدما على المحدث بزمان مقدر يكون محدثا أيضا، ولأن «إذا» للاستقبال فالقضاء محدث، وقوله «كن» مرتب عليه بفاء التعقيب، والمتأخر عن المحدث محدث، ولأن تكون المخلوق مرتب على قوله «كن» بالفاء والمتقدم على المحدث بزمان محصور محدث أيضا، ولا جائز أن يكون «كن» محدثا وإلا احتاج إلى مثله ويلزم إما الدور وإما التسلسل وإذا بطل القسمان بطل توقف الأشياء على «كن» (الثاني) إما أن يخاطب المخلوق ب «كن» قبل دخوله في الوجود وخطاب المعدوم سفه، وإما بعد دخوله في الوجود لا فائدة فيه. (الثالث) المخلوق قد يكون جمادا وتكليف الجماد لا يليق بالحكمة. (الرابع) إذا فرضنا القادر المريد منفكا عن قوله كُنْ فإن تمكن من الإيجاد فلا حاجة إلى كُنْ، وإن لم يتمكن فلا يكون القادر قادرا على الفعل إلا عند تكلمه ب كُنْ فيلزم عجز القادر بالنظر إلى ذاته، أو يرجع الحاصل إلى تسمية القدرة ب كُنْ ولا نزاع في اللفظ. (الخامس) أنا نعلم بالضرورة أنه لا تأثير لهذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الكلمة إذا تكلمنا بها وكذا إذا تكلم بها غيرنا. (السادس) المؤثر إما مجموع الكاف والنون ولا وجود لهما مجموعين، فعند مجيء الثاني ينقضي الأول، وإما أحدهما وهذا خلاف المفروض فثبت بهذه الوجوه أن حمل الآية على الظاهر غير جائز فلابد من تأويل، وأصحه أن يقال: المراد أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، فشبه حال هذا المتكون بحال المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يأبى، وفيه تأكيد لاستبعاد الولادة لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها وقيل: إنه علامة وضعها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمرا، عن أبي الهزيل. وقيل إنه خاص بالموجودين الذين قال لهم كونوا قردة ومن يجري مجراهم من الأمم. وقيل: أمر للأحياء بالموت وللموتى بالحياة وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ يعني الجهلة من المشركين. وقيل: من أهل الكتاب أيضا. ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به. فالآية الأولى فيها بيان قدحهم في التوحيد، وهذه الآية فيها بيان قدحهم في النبوة. ولولا حرف تحضيض أي هلا يكلمنا وتقرير الشبهة أن الحكيم إذا أراد تحصيل شيء اختار أقرب الطرق المؤدية إلى المطلوب، ثم إنه تعالى كلم الملائكة وكلم موسى وأنت تقول يا محمد إنه كلمك فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10] فلم لا يكلمنا مشافهة ولا ينص على نبوتك حتى يتأكد الاعتقاد وتزول الشبهة؟ فإن لم يفعل ذلك فلم لا تأتي بآية ومعجزة؟ وهذا طعن منهم في كون القرآن آية ومعجزة فأجابهم الله تعالى بقوله كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من مكذبي الرسل تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى كقوله أَتَواصَوْا بِهِ [الذاريات: 53] فكما أن قوم موسى كانوا أبدا في التعنت واقتراح الأباطيل لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [البقرة: 61] أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138] فكذلك هؤلاء المشركون قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 90] لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان: 21] وكذلك المعاصرون من اليهود والنصارى يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [النساء: 153] قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يفقهون ف يُوقِنُونَ أنها آيات. فلو كان غرضهم طلب الحق لوقع الاكتفاء بها لكونها آيات ظاهرة هي القرآن العظيم الذي أخرس شقاشق الفصحاء عن آخرهم، ومعجزات باهرة كمجيء الشجرة وحنين الجذع وتسبيح الحصى وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، وأيضا لو كان في معلوم الله تعالى أنهم يؤمنون عند إنزال ما اقترحوه لفعلها، لكنه علم لجاجهم وعنادهم فلا جرم لم يفعل ذلك وأيضا، لعل في تلك الآيات مفاسد لا يعلمها إلا علام الغيوب كإفضائها إلى حد الإلجاء المخل بالتكليف، وكإيجابها استئصالهم بالكلية إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 استمروا على التكذيب، وكخروجها عن القدر الصالح لإلزام الحجة، وأيضا كثرة الآيات وتعاقبها ينافي كونها خوارق العادة فلا تبقى آيات، وكل ما أدى وجوده إلى عدمه ففرض وجوده محال، فثبت بهذه البيانات أن عدم إسعافهم بما اقترحوه لا يقدح في صحة النبوة والله أعلم. التأويل: مساجد الله التي يذكر فيها أساميها عند أهل النظر، النفس والقلب والروح، والسر والخفي- وهو سر السر- وذكر كل مسجد منها مناسب لذلك المسجد. فذكر مسجد النفس الطاعات والعبادات ومنع الذكر فيه بترك الحسنات وملازمة السيئات، وذكر مسجد القلب التوحيد والمعرفة ومنع الذكر فيه بالتمسك بالشبهات والتعلق بالشهوات، كما أوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود حذر وأنذر أصحابك كل الشهوات فإن القلوب المعلقة بالشهوات عقولها عني محجوبة. وذكر مسجد الروح الشوق والمحبة ومنع الذكر فيه بالحظوظ والمسكنات، وذكر مسجد السر المراقبة والشهود ومنع الذكر فيه بالركون إلى الكرامات والقربات، وذكر مسجد الخفي بذل الوجود ومنع الذكر فيه بالالتفات إلى المشاهدات والمكاشفات أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أن يدخلوا هذه المشاهد بقدم السلوك إلا بخطوات الخوف من سوء الحساب وألم العقاب لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ من ذل الحجاب وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ الحرمان من جوار الله. وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ القلوب مشارق شموس المعارف ومغاربها، والله في مشرق كل قلب ومغربه شارق وطارق، فطارق القلب من هواجس النفس يطرق بظلمات المنى عند غلبات الهوى وغروب نجم الهدى، وشارق القلب من واردات الروح يشرق بأنوار الفتوح عند غلبات الشوق وطلوع قمر الشهود، فتكون القبلة واضحة والدلالات لائحة، فإذا تحلت شمس صفات الجلال خفيت نجوم صفات الجمال، وإذا استولى سلطان الحقيقة على ممالك الخليقة طويت بأيدي سطوات الجود سرادقات الوجود، فما بقيت الأرض ولا السماء ولا الظلمة ولا الضياء، إذ ليس عند الله صباح ولا مساء. وتلاشي العبدية في كعبة العندية، وتودوا بفناء الفناء من عالم البقاء، رفعت القبلة وما بقي إلا الله فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ يوسع قلب من يشاء من عباده ليسعه عَلِيمٌ بتوسيع القلب لسعته بلا كيف وحيف كما قال لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 119 الى 123] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 القراآت: وَلا تُسْئَلُ على النهي: نافع ويعقوب. الباقون بضم التاء ورفع اللام على الخبر. الوقوف: وَنَذِيراً (لا) للعطف أي نذيرا وغير مسؤول إلا لمن قرأ وَلا تُسْئَلُ على النهي لاختلاف الجملتين الْجَحِيمِ (هـ) مِلَّتَهُمْ (ط) الْهُدى (ط) مِنَ الْعِلْمِ (لا) لأن نفي الولاية والنصرة يتعلق بشرط اتباع أهوائهم فكان في الإطلاق حظر نَصِيرٍ (هـ) تِلاوَتِهِ (ط) لأن ما بعدها مبتدأ آخر مع خبره. وعندي أن الأصوب عدم الوقف لتكون الجملة أعني يتلونه حالا من مفعول آتينا أو من فاعله مقدرة وقوله أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ الجملة خبر «الذين» لأن الإخبار عن أهل الكتاب مطلقا بأنهم يتلونه حق تلاوته لا يصح، اللهم إلا أن يحمل الكتاب على القرآن كما يجيء يُؤْمِنُونَ بِهِ (ط) للابتداء بالشرط الْخاسِرُونَ (هـ) الْعالَمِينَ (هـ) يُنْصَرُونَ (هـ) . التفسير: لما بين غاية إصرارهم على العناد وتصميمهم على الكفر بعد نزول ما يكفي في باب الاقتداء والاهتداء من الآيات البينات، أراد أن يسلي ويسري عن رسوله لئلا يضيق صدره فقال إنا أرسلناك يا محمد بالحق. والصواب حسب ما تقتضيه الحكمة وهو أن لا يكون لك أن تجبرهم على الإيمان بل لا يتجاوز حالك عن أن تكون بشيرا لمن اتبعك بكل خبر ونذيرا لمن خالفك بكل سوء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: 8] فإنك غير مسؤول عن أصحاب الجحيم وهو من أسماء النار، وكل نار عظيمة في مهواة فهي جحيم من قوله تعالى قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات: 97] والجاحم المكان الشديد الحر، وهذا كقوله فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد: 40] وأما قراءة النهي فيروى أنه قال: ليت شعري ما فعل أبواي فنهي عن السؤال عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله. وفي هذه الرواية بعد، لأن سياق الكلام ينبو عن ذلك، ولأنه صلى الله عليه وسلم مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 علمه الإجمالي بحال الكفار، كيف يتمنى ذلك؟ والأقرب أن معناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من المحن كما إذا سألت عمن وقع في بلية فيقال لك لا تسأل عنه، فكان المسئول يحرج أن يجري على لسانه ما هو فيه لفظاعته، أو يرى أنك لا تقدر على استماع خبره لأنه يورث الوحشة والضجر. وقوله وَلَنْ تَرْضى فيه إقناط لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن إسلامهم وأن القوم قد بلغوا من التصميم على ما هم فيه إلى حد لا يقنعون بالكفاف ولا يرضون رأسا برأس، بل يريدون منك عكس ما تطمع منهم زاعمين أن ملتهم التي حان نسخها هي الهدى قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي هو الإسلام هُوَ الْهُدى الحق ليس وراءه هدى لأنه ناسخ للأديان كلها وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مشتهياتهم وآراءهم الباطلة المنسوخة بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بأمر الديانة لوضوح البراهين وسطوع الدلائل ما لَكَ مِنَ اللَّهِ من عقابه وسخطه مِنْ وَلِيٍّ معين يعصمك وَلا نَصِيرٍ يذب عنك. قال أهل البرهان إنما لم يقل في هذه الآية بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ كما قال في آية القبلة على ما يجيء، لأن العلم في الآية الأولى علم كامل ليس وراءه علم وهو العلم بالله وبصفاته وأن الهدى هدى الله، فكأن لفظ «الذي» أليق لأنه في التعريف أبلغ، فإن «الذي» يعرفه صلته ولا يتنكر قط، ويلزمه الألف واللام. بخلاف ما فإنه نكرة ولا يدخله الألف واللام وخصت آية القبلة «بما» و «من» التي لابتداء الغاية، لأن المراد هناك قليل من كثير العلم وهو العلم بالقبلة وليس الأول موقتا بوقت أعني العلم بالله وبصفاته- فلم يحتج إلى زيادة من التوقيتية، وقريب من معنى القبلة ما في آل عمران مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران: 61] فلهذا جاء بلفظ «ما» وزاد لفظة «من» وأما في سورة الرعد فإنه وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [الرعد: 37] لأن العلم فيها هو الحكم العربي أي القرآن، فكأن بعضا من الأول وهو العلم بالله وبصفاته فجاء لفظ «ما» ولم يزد لفظ «من» التوقيتية لأنه غير موقت والله أعلم بأسرار كلامه. وفي الآية دليل على بطلان التقليد فيما إلى تحقيقه سبيل حتى لا يكون اتباع الهوى، وفيها أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد نصب الأدلة على العلم بالمأمور به لقوله بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فلأن لا يجوز التوعد إلا بعد القدرة على المأمور به كان أولى، فبطل القول بتكليف ما لا يطاق. وفيها أن الذي علم الله منه أنه لا يفعل الشيء يجوز منه أن يتوعده على فعله ونظيره وقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] وإنما يحسن هذا الوعيد لاحتمال أن الصارف له عن ذلك الفعل هو هذا الوعيد أو هو أحد صوارفه، ولأن فيه زجرا شديدا لأمته لأنهم إذا علموا مآل حال النبي صلى الله عليه وسلم لو فرض منه اتباع أهوائهم مع ما ورد في حقه لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] ولم يبق لهم طمع في الخلاص لو وجد منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ذلك الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ قيل: إنهم المؤمنون الذين آتاهم القرآن، لأن الكتاب الذي يمدح على تلاوته هو القرآن. والأصح أنه لما قدم ذكر المعاندين من أهل الكتاب أراد أن يذكر مؤمنيهم. ومعنى يتلونه حق تلاوته لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يتبعون مقتضاه من غير تكاسل ومنع متمسكين بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما، أو يخضعون عند تلاوته ويخشعون، أو يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه، أولئك يؤمنون بكتابهم دون من ليس على حالهم ممن لا يتلو الكتاب حق تلاوته كما يستحق أن يتلى وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ من المحرفين أو من الواضعين من حقه فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ حيث لم ينتفعوا بما يحق أن ينتفع به ويغتنم وروده فرجعوا منه بخفي حنين وفازوا بكل حين. يا بَنِي إِسْرائِيلَ الآيتان رجوع إلى أول القصة تذكيرا للنعم بعد تعداد مواجب النقم ليتنبه منهم من وفق للتنبه والله المستعان. [سورة البقرة (2) : الآيات 124 الى 126] وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) القراآت: إبراهام بالألف في البقرة والنساء إلا فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ وفي الأنعام ملة إبراهام وفي جميع براءة إلا وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وفي إبراهيم وإذ قال إبراهام وفي النحل ومريم والعنكبوت ولما جاءت رسلنا إبراهام خاصة وفي «حم عسق» وجميع المفصل وإلا قوله في المودة إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ وفي الأعلى صُحُفِ إِبْراهِيمَ هشام وابن ذكوان وروى ابن مجاهد في هذه السورة فقط. (واعلم) أن ذكر إبراهيم في القرآن تسعة وستون موضعا منها ثلاثة وثلاثون «إبراهام» بالألف في قراءة ابن عامر عن ابن ذكوان، وستة وثلاثون «إبراهيم» بالياء، والعلة في ذلك اتباع مصحفهم. فما كتب بالألف قرىء بالألف، وما كتب بالياء قرىء بالياء، والاختيار عند الأئمة أن يقرأ هاهنا بالألف لبيان المذهب والبواقي بالياء، لأنه أحسن في اللفظ وأشهر، ويوافقه سائر الأسماء الأعجمية كإسرائيل وإسرافيل وإسماعيل عَهْدِي مرسلة الياء: حمزة وحفص وَإِذْ جَعَلْنَا وبابه مدغمة الذال في الجيم: أبو عمرو وهشام بَيْتِيَ بالفتح: أبو جعفر ونافع. وحفص وهشام وَاتَّخِذُوا بفتح الخاء: نافع وابن عامر الباقون بالكسر فَأُمَتِّعُهُ خفيفا ابن عامر. الباقون بالتشديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 الوقوف: فَأَتَمَّهُنَّ (ط) إِماماً (ط) ذُرِّيَّتِي (ط) الظَّالِمِينَ (هـ) وَأَمْناً (ط) لمن قرأ وَاتَّخِذُوا بالكسر لاعتراض الأمر بين ماضيين مُصَلًّى (ط) كذلك ومن فتح الخاء نسق الأفعال الثلاثة فلا وقف السُّجُودِ (هـ) وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (ط) عَذابِ النَّارِ (ط) لأن «نعم» و «بئس» للمبالغة في المدح والذم فيبتدىء بهما تنبيها على المدح والذم الْمَصِيرُ (هـ) . التفسير: إنه تعالى لما استقصى في شرح نعمه على بني إسرائيل والمشركين ومقابلتهم النعمة بالكفران والعناد، شرع في نوع آخر من البيان وهو ذكر قصة إبراهيم عليه السلام لأن كلهم معترفون بفضله وأنهم من أولاده ومن ساكني حرمه وخدام بيته، وفي قصته أمور توجب الاعتراف بدين محمد صلى الله عليه وسلم والانقياد لشرعه منها: أنه أمر ببعض التكاليف ثم وفي بها فنال منصب الاقتداء به، فيعلم أن الخيرات كلها لا تحصل إلا بترك التمرد والانقياد لحكم الله والتزام تكاليفه، ومنها أنه طلب الإمامة لذريته فقيل له لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فيعرف أن طالب الحق يجب أن يترك التعصب والمراء ووضع ما رفعه الله لينال رياسة الدارين، ومنها أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فأريد إزالة غيظهم بأن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي اعترفوا بتعظيمه والاقتداء به، ومنها أنه دعا بإرسال نبي من ذريته وهو محمد صلى الله عليه وسلم كما يجيء فيجب على من يعترف بإبراهيم أن يعترف بمحمد صلى الله عليه وسلم. أما قوله وَإِذِ ابْتَلى العامل في «إذ» إما مضمر نحو «واذكر» وتكون بمعنى الوقت فقط، أو وإذ ابتلى كان كيت وكيت، وإما قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وعلى هذين التقديرين تكون ظرفا لكان أو قال. وموقع «قال» على الأولين استئناف كأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فأجيب قالَ إِنِّي جاعِلُكَ وعلى الثاني جملة معطوفة على ما قبلها من الآيات ولا يخفى أن الاستئناف أصوب ليناسب سياق الجملتين الآتيتين لورودهما أيضا على طريقة السؤال المقدر والجواب، وليكون على منهاج وَإِذْ جَعَلْنَا وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ وَإِذْ يَرْفَعُ [البقرة: 127] والابتلاء الاختبار والامتحان، عبر تكليفه إياه بالبلوى تشبيها لأمره بأمر المخلوقين وبناء على العرف بيننا، فإن كثيرا منا قد يأمر ليعرف ما يكون من المأمور حينئذ وإلا فكيف يجوز حقيقة الابتلاء عليه تعالى مع أنه عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد وقيل: مجاز عن تمكينه العبد من اختيار أحد الأمرين ما يريد الله وما يشتهيه هو كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك. واعلم أن هشام بن الحكم ومن تابعه زعم أنه تعالى كان في الأزل عالما بحقائق الأشياء وماهياتها فقط، وأما حدوث تلك الماهيات ودخولها في الوجود فهو تعالى لا يعلمها إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 عند وقوعها بدليل هذه الآية وأمثالها المذكور فيها الابتلاء. وكلمة «لعل» والجواب عنها ما مر، وقد يستدل أيضا على مذهبه بوجوه معقولة منها أنه تعالى لو كان عالما بالأشياء قبل وقوعها لزم نفي القدرة عن الخالق، لأن ما علم الله وقوعه استحال أن لا يقع، وما علم أنه لا يقع استحال أن يقع ولا قدرة على الواجب وعلى الممتنع بالاتفاق، والجواب أن الوجوب بالغير وكذا الامتناع بالغير لا ينافيان قدرة القادر عليه، وإنما المنافي للقدرة عليه كونه واجبا لذاته أو ممتنعا لذاته، ومنها أنه لو كان عالما بجميع الجزئيات لكان له علوم غير متناهية أو كان لعلمه تعلقات غير متناهية، فيلزم حصول موجودات غير متناهية دفعة واحدة وذلك محال، لأن مجموع تلك الأشياء أزيد من ذلك المجموع بعينه عند نقصان عشرة منها، فالناقص متناه وكذا الزائد. ونوقض بمراتب الأعداد التي لا نهاية لها، وأيضا المجموعية والزيادة والنقصان كلها من خواص المتناهي، فأما الذي لا نهاية له ففرض هذه الأعراض فيه محال. ومنها أن هذه المعلومات التي لا نهاية لها هل يعلم الله عددها مفضلة أو لا يعلم؟ فإن علم عددها فهي متناهية، وإن لم يعلم فهو المطلوب. والجواب الاختيار أنه لا يعلم عددها، ولا يلزم الجهل لأن الجهل هو أن يكون لها عدد معين ثم إن الله لا يعلم عددها، فأما إذا لم يكن لها عدد في نفسها فلا جهل ومنها أن كل معلوم فهو متميز في الذهن عما عداه، وكل متميز عما عداه خارج عنه، وكل ما خرج عنه غيره فهو متناه، وكل معلوم متناه فما هو غير متناه استحال أن يكون معلوما. والجواب أنه ليس من شرط المعلوم تميزه من غيره عند العالم، لأن العلم بتميزه عن غيره موقوف على العلم بذلك الغير، ويلزم منه أن لا يعلم الإنسان شيئا إلا إذا علم أمورا لا نهاية لها. والحق أن نور الأنوار لا يتناهى ووراء لا يتناهى ما لا يتناهى، وإحاطة غير المتناهي بغير المتناهي غير بعيد وقد يتعلق علمنا بكثير من الأشياء قبل حصولها، فإذا كان علمنا مع تناهي قوتنا ونوريتنا. هكذا فما ظنك بالعليم الخبير الذي هو نور النور ومدبر الأمور وكل عسير عليه يسير؟ إِبْراهِيمَ بالنصب رَبُّهُ بالرفع هو المشهور وهذه الصورة مما يجب فيه تأخير الفاعل وإزالته عن مركزه الأصلي، فإنه لو قدم الفاعل وقد اتصل به ضمير المفعول لزم الإضمار قبل الذكر لفظا، وعن ابن عباس وأبي حنيفة رفع إِبْراهِيمَ ونصب رَبُّهُ فالمعنى أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيب الله تعالى إليهن أم لا؟ واختلف المفسرون في أن ظاهر لفظ التنزيل هل يدل على تلك الكلمات أم لا؟ فقال بعضهم: اللفظ يدل عليها وهي الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والدعاء بابتعاث محمد صلى الله عليه وسلم، فكل هذه تكاليف شاقة، أما الإمامة فلأن المراد بها النبوة، وأعباؤها أكثر من أن تحصى، ولهذا فإن ثواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 النبي أعظم من ثواب غيره، وأما بناء البيت وتطهيره ورفع قواعده، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف شدة البلوى فيه. ثم إنه يتضمن إقامة المناسك، وقد امتحن الله الخليل بالشيطان في الموقف كرمي الجمار وغيره. وأما الاشتغال بالدعاء ببعث نبي آخر الزمان فيحتاج فيه إلى الإخلاص وإزالة الحسد عن القلب وذلك في غاية الصعوبة. واعترض على هذا القول بأن المراد من الكلمات لو كانت هذه لناسب أن يذكر قوله فَأَتَمَّهُنَّ بعد تعداد الجميع. وأجيب بأنه أخبر أنه ابتلاه بكلمات على الإجمال ثم أخبر أنه أتمها ثم فصل تلك الأمور، وهذا ترتيب في غاية الحسن، إذ لو ذكر فَأَتَمَّهُنَّ بعد هذا التفصيل لوقع ضائعا ولا نقطع النظم. والقائلون بأن ظاهر الآية لا دلالة فيه على الكلمات زعم بعضهم أنها الكلمات التي تكلم بها إبراهيم مع قومه وقت تبليغ الرسالة، وزعم بعضهم أنها أوامر ونواه. فعن ابن عباس هي عشر خصال كانت فريضة في شرعه وهي عندنا سنة: خمس في الرأس: المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس وقص الشارب والسواك، وخمس في الجسد: الختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء. وقيل: ابتلاه الله تعالى من شرائع الإسلام بثلاثين سهما، عشرة في براءة التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ [التوبة: 112] الآية وعشرة في الأحزاب إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ [الأحزاب: 35] وعشرة في «المؤمنين» «وسأل سائل» إلى قوله وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [المعارج: 34] وقيل: هن مناسك الحج كالطواف والسعي والرمي والإحرام والوقوف بعرفة. وقيل: ابتلاه بسبعة أشياء: بالكواكب والقمر والشمس والختان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة، فوفى بالكل وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 34] وقيل: ما ذكره في قوله إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [البقرة: 131] وقيل: المناظرات التي جرت بينه وبين أبيه ونمروذ وقومه، والصلاة والزكاة والصوم، وقسم الغنائم والضيافة والصبر عليها. وجملة القول أن الابتلاء يتناول إلزام كل ما في فعله كلفة، واللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء وكلا منها إلا أن الكلام في الرواية، ثم قيل: إن هذا الابتلاء كان قبل النبوة لأنه تعالى نبه على أن قيامه بهن كالسبب لأن جعله إماما. وقيل: إنه بعد النبوة لأنه لم يعلم كونه مكلفا بتلك التكاليف إلا من الوحي. والحق أن هذا يختلف باختلاف تفسير التكاليف، فمنها ما يعلم بالضرورة كونها قبل النبوة كحديث الكوكب والشمس والقمر، ومنها ما ثبت أنه كان بعد النبوة كذبح الولد والهجرة والنار، وكذا الختان فإنه يروى أنه ختن نفسه وكان سنه مائة وعشرين، ومنها ما هو بصدد الاحتمال فقد يمكن أن يكون إلى معرفته سبيل سوى الوحي كمنام أو إلهام. والضمير في «أتمهن» على القراءة المشهورة لإبراهيم عليه السلام بمعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 فقام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوان وفي الأخرى لله تعالى أي فأعطاه ما طلبه ولم ينقص منه شيئا، ويعضده ما روي عن مقاتل أنه فسر الكلمات بما سأل إبراهيم ربه في قوله رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة: 128] وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا [البقرة: 129] رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [البقرة: 127] والإمام اسم لمن يؤتم به «فعال» بمعنى «مفعول» كالإزار لما يؤتزر به أي يأتمون بك في دينهم. والأكثرون على أن الإمام هاهنا النبي لأنه جعله إماما لكل الناس، فلو لم يكن مستقلا بشرع كان تابعا لرسول ويبطل العموم ولأن إطلاق الإمام يدل على أنه إمام في كل شيء، والذي يكون كذلك لا بد أن يكون نبيا، ولأن الله تعالى سماه بهذا الاسم في معرض الامتنان فينبغي أن يحمل على أجلّ مراتب الإمامة كقوله وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [السجدة: 24] لا على من هو دونه ممن يستحق الاقتداء به في الدين كالخليفة والقاضي والفقيه وإمام الصلاة، ولقد أنجز الله تعالى هذا الوعد فعظمه في عيون أهل الأديان كلها، وقد اقتدى به من بعده من الأنبياء في أصول مللهم ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل: 123] وكفى به فضلا أن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقولون في صلاتهم «اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم» ثم القائلون بأن الإمام لا يصير إماما إلا بالنص تمسكوا بهذه الآية وأمثالها من نحو إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً [ص: 26] ومنع بأن الإمام يراد به هاهنا النبي سلمنا أن المراد به مطلق الإمام لكن الآية تدل على أن النص طريق الإمامة وذلك لا نزاع فيه، إنما النزاع في أنه لا طريق للإمامة سوى النص، ولا دلالة في الآية على ذلك وفي الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان معصوما عن جميع الذنوب، لأنه لو صدرت عنه معصية لوجب علينا الاقتداء به وذلك يؤدي إلى كون الفعل الواحد ممنوعا منه مندوبا إليه وذلك محال. والذرية نسل الثقلين من ذرأ الله الخلق ذرأ خلقهم إلا أن العرب تركت همزها كما في البرية، ويحتمل أن يكون منسوبا إلى الذر صغار النمل، والضم من تغيير النسب كالدهري في النسبة إلى دهر وَمِنْ ذُرِّيَّتِي عطف على الكاف كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي كما يقال «سأكرمك فتقول وزيدا» ولا يخفى أن «من» التبعيضية تدل على أنه طلب الإمامة لبعض ذريته لعلمه بأن كلهم قد لا يليق بذلك لأن ناسا غير محصورين لا يخلو من ظالم فيهم غالبا، ولعلمه بأن بعضهم يليق بها كإسماعيل وإسحق. وقد حقق الله تعالى أمله فجعل في أولاده وأحفاده كإسماعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان وأيوب ويونس وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس ثم محمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم وأشرفهم، ولأنه لم يطلب الإمامة إلا للبعض فكان يكفي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الجواب نعم إلا أنه لم يكن حينئذ نصا في أن ذلك البعض من المؤمنين أم من الظالمين. ولو قال «ينال عهدي المؤمنين» كان غاية ذلك خروج الظالمين بالمفهوم لا بالنص، فلمكان التنصيص على إخراج الظالم قال لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ والمراد بالعهد هو الإمامة المطلوبة، سميت عهدا لاشتمالها على كل عهد عهد به الله تعالى إلى بنى آدم إذ لا رياسة أعظم من ذلك كقوله وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ [طه: 115] وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ [الأحزاب: 7] وإذا خرج الظالم تعين الصالح للإمامة بطريق برهاني. وذلك أن دعاءه مستجاب البتة فكل نبي مجاب، ولأنه لو لم يكن الصالح إماما لم يكن لإخراج الظالم وتخصيصه بالذكر معنى. ويحتمل أن يقال: إنه أراد الإمامة لأولاده المؤمنين لا محالة لعلمه بأن الكفرة والظلمة لا تصلح لذلك، فأجيب بما أجيب إسعافا لطلبته بأبلغ معنى وأتمه كما إذا قيل لمن أشرف «أوص لابنك بشيء» فيقول: لا يرث مني أجنبي أي كل ما يبقى مني فهو لابني، فكيف أوصي له بشيء؟ ولا يرد أن يونس نال عهده مع أنه ظالم سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] لأن الظلم فيه محمول على ترك الأولى كما في حق آدم رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] لا على الكفر والفسق. وقد يستدل الإمامية على إبطال غير إمامة علي كرم الله وجهه قالوا: إنهم كانوا مشركين قبل الإسلام بالاتفاق، وكل مشرك ظالم إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] وكل ظالم فإنه لا ينال عهد الإمامة قالوا: لا يقال إنهم كانوا ظالمين حال كفرهم، فبعد زوال الكفر لا يبقى هذا الاسم لأنا نقول: الظالم من ثبت له الظلم، وهذا المعنى صادق عليه دائما ولهذا يسمى النائم مؤمنا لأنه ثبت له الإيمان وإن لم يكن التصديق حاصلا حال النوم، وأيضا المتكلم والماشي حقيقة في مفهومهما مع أن أجزاء التكلم والمشي لا توجد دفعة، فدل هذا على أن حصول المشتق منه ليس شرطا لكون الاسم المشتق حقيقة. وعورض بأنه لو حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافرا قبل بسنين متطاولة فإنه لا يحنث، وبأن التائب عن المعصية لا يسمى عاصيا فكذا التائب عن الكفر، وإن قيل: لعل هذا المانع شرعي هو تعظيم الصحابة أو لمانع عرفي فهذا القدر يكفينا على أنا بينا أن المراد من الإمامة في الآية النبوة، فمن كفر بالله طرفة عين فإنه لا يصلح للنبوة وكذا الفاسق حال الفسق لا يجوز عقد الإمامة له باتفاق الجمهور من الفقهاء والمتكلمين، فإن كل عاص ظالم. والعبرة بالعدالة الظاهرة فنحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر خلافا للشيعة فإنهم يقولون بوجوب العصمة ظاهرا وباطنا، ومما يدل على بطلان إمامة الفاسق أن العهد في كتاب الله تعالى قد يستعمل بمعنى الأمر أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ [يس: 60] أي ألم آمركم؟ لكن المراد في الآية لا يمكن أن يكون ذلك فإن أوامره تعالى لازمة للظالمين كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 للمطيعين، فثبت أن المراد كونهم غير مؤتمنين على أوامر الله وغير مقتدى بهم فيها قال صلى الله عليه وسلم «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» فالفاسق لا ينبغي أن يكون حاكما ولا تنفذ أحكامه إذا ولي الحكم، ولا تقبل شهادته ولا خبره إذا أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فتياه إذا أفتى، ولا يقدم للصلاة وإن كان بحيث لو اقتدى به لم تفسد صلاته. قال أبو بكر الرازي: ومن الناس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أنه يجوز كون الفاسق إماما وخليفة ولا يجوز كون الفاسق قاضيا، وهذا خطأ عظيم. نعم أنه قال: القاضي إذا كان عدلا في نفسه وتولى القضاء من إمام جائر فإن أحكامه نافذة والصلاة خلفه جائزة، لأن الذي ولاه بمنزلة سائر أعوانه. وليس من شرط أعوان القاضي أن يكون عدولا، ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعوانا له على من امتنع من قبول أحكامه كان قضاؤه نافذا وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان؟ قال: وكيف يجوز أن يدعي ذلك على أبي حنيفة وقد أكرهه ابن هبيرة في أيام بني أمية على قضائه وضربه فامتنع من ذلك فحبس فلج ابن هبيرة وجعل يضربه كل يوم أسواطا، فلما خيف عليه قال له الفقهاء: اقبل له شيئا من عمله أي شيء كان حتى يزول عنك الضرب، فتولى له عد أحمال التبن التي تدخل عليه فخلاه ثم دعاه المنصور إلى مثل ذلك حتى عد له اللبن الذي كان يضرب لسور المدينة، وذلك أنه كان يقول في المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عد آجره لما فعلت، وقصته في أمر زيد بن علي مشهورة، وحمله المال إليه وفتياه الناس سرا في وجوب نصرته والقتال معه، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن. وفي الآية إنذار بليغ وتخويف شديد عن وخامة عاقبة الظلم وقبح موقعه فإنه يحط أولا عن رتبة النبوة لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وثانيا عن درجة الولاية أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18] وثالثا عن مرتبة السلطنة «بيت الظالم خراب ولو بعد حين» ، ورابعا عن نظر الخلائق «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها» وخامسا عن حظ نفسه وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة: 57] ولله در القائل: لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا ... فالظلم آخره يأتيك بالندم نامت عيونك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك وعين الله لم تنم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 ولآخر: مرتع ظلم الورى وخيم ... يا صاحب اللب والحجاره لا تظلم الناس واخش نارا ... وقودها الناس والحجاره غيره: أيحسب الظالم في ظلمه ... أهمله القادر أم أمهلا ما أهملوا بل لهم موعد ... لن يجدوا من دونه موئلا غيره: أتلعب بالدعاء وتزدريه ... وما يدريك ما صنع الدعاء سهام الليل لا تخطي ولكن ... لها أمد وللأمد انقضاء واعلم أن عهد الله الذي أخذ على عباده هو بالحقيقة عهد العبودية وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] والعهد الذي التزمه لعباده هو عهد الربوبية رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 26] ثم إنه تعالى لا يزال يلاحظك بنظر الربوبية فيربيك ويربيك وبعد نعمة الوجود يعطيك نعم الصحة والمكنة والعافية والسلامة والإيمان والأمان والإخوان والأخدان وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34] وأنك لا تنفك عن تقصير ونسيان وجهل وعدوان وإيذاء لملائكة الله وعبيده وإرضاء لحزب الشيطان وجنوده. فيا أيها المغرور ما هذا التقصير فإن لله المصير وما للظالمين من نصير. قوله وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ تقرير تكليف آخر. والبيت اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا وهذا من الأسماء التي كانت في الأصل للجنس، ثم كثر استعماله في واحد من ذلك الجنس لخصلة مختصة به من بين سائر الأفراد حتى صار علما له. ولا بد أن يكون وقت استعماله لذلك الواحد قبل العلمية مع لام العهد ليفيد الاختصاص به ويسمى بالعلم الاتفاقي، وإنما لزمت اللام في مثله لأنه لم يصر علما إلا مع اللام فصارت كبعض حروفه، إلا أنه تعالى لم يرد بالبيت نفس الكعبة فقط بل جميع الحرم لأن حكم الأمن يشمل الكل. وصح هذا الإطلاق لأن الحرمة نشأت بسبب الكعبة نفسها ومثله قوله تعالى هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: 95] والمراد الحرم كله لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام. وقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة: 28] والمراد- والله أعلم- منعهم من الحج وحضور مواضع النسك، ويحتمل أن يكون المراد جعلنا البيت سبب الأمن، وعلى هذا يكون البيت نفس الكعبة، وعلى الأول يكون معنى أَمْناً موضع أمن كقوله حَرَماً آمِناً [القصص: 57] والمثابة المباءة والمرجع قيل: إن مثابا ومثابة لغتان مثل مقام ومقامة. وقيل: التاء للمبالغة كعلامة. عن الحسن: أي يثوبون إليه في كل عام. وعن ابن عباس ومجاهد: لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه وذلك لدعاء إبراهيم عليه السلام فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: 37] وقيل: مثابة أي يحجون فيثابون عليه. وكون البيت مثابة إنما يكون بجعل الله تعالى بناء على أن فعل العبد مخلوق لله، أو بأن الله تعالى ألقى تعظيمه في القلوب ليصير ذلك داعيا لهم إلى العود إليه مرة بعد أخرى وذلك لمنافع دينية ودنيوية، قال صلى الله عليه وسلم «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» «1» وقال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» «2» ثم إن قطان الخافقين يجتمعون هناك للتجارات وضروب المكاسب فيعظم فيه النفع لمن أراد ولا شك أن قوله وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة: 125] خبر فتارة تتركه على ظاهره وتقول إنه خبر بأن يكون حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص: 57] لا أن يكون إخبارا عن عدم وقوع القتل فيه أصلا، فإن الموجود بخلافه فقد يقع القتل الحرام وكذا المباح قال تعالى وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة: 191] وتارة تصرفه عن ظاهره وتقول. إنه أمر بأن يجعلوا ذلك الموضع أمنا من الغارة والقتل قال صلى الله عليه وسلم «إن الله حرم مكة وإنها لم تحل لأحد قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار» «3» وقد عادت حرمتها كما كانت، فذهب الشافعي إلى أن المعنى أنها لم تحل لأحد أن ينصب الحرب عليها وأن ذلك أحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما من دخل البيت من الذين وجبت عليهم الحدود فقال الشافعي: إن الإمام يأمر بالضيق عليه   (1) رواه البخاري في كتاب الحج باب 4. مسلم في كتاب الحج حديث 438. الترمذي في كتاب الحج باب 2. النسائي في كتاب الحج باب 4. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 3. الدارمي في كتاب المناسك باب 7. (2) رواه البخاري في كتاب العمرة باب 1. مسلم في كتاب الحج حديث 437. الترمذي في كتاب الحج باب 88. النسائي في كتاب المناسك باب 3. ابن ماجة في كتاب المناسك باب 3. (3) رواه الترمذي في كتاب العلم باب 37. الترمذي في كتاب الحج باب 1. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 103. أحمد في مسنده (1/ 253) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 بما يؤدي إلى خروجه، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل، فإن لم يخرج جاز قتله فيه، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتاله فيه. وعند أبي حنيفة لا يستوفى قصاص النفس في الحرم إلا أن ينشىء القتل فيه، ولكن يضيق الأمر عليه ولا يكلم ولا يطعم ولا يعامل حتى يخرج فيقتل وسلم أن يستوفى منه قصاص الطرف. وعند أحمد: لا يستوفى من الملتجئ واحد من القصاصين، ولو التجأ إلى المسجد الحرام قال الإمام: أو مسجد آخر يخرج منه ويقتل لأنه تأخير يسير، وفيه صيانة المسجد وحفظ حرمته. وقيل: تبسط الأنطاع ويقتل في المسجد تعجيلا لتوفية الحق وَاتَّخِذُوا بفتح الخاء معطوف على جَعَلْنَا أي اتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها، وعلى هذا المراد بالمصلى القبلة. وأما من قرأ بالكسر على الأمر فعلى إرادة القول أي وقلنا اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه استحبابا لا وجوبا. وفي مقام إبراهيم أقوال. فعن الحسن وقتادة والربيع بن أنس: أنه لما جاء إبراهيم من الشام إلى مكة قالت له امرأة إسماعيل: انزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل، لأن سارة شرطت عليه أن لا ينزل غيرة على هاجر فجاءته بحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه. وعن ابن عباس: أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة، فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على حجر فغاصت فيه قدماه. وقيل: إنه الحجر الذي قام عليه إبراهيم عند الأذان بالحج. قال القفال: ويحتمل أن يكون إبراهيم عليه السلام قام على هذا الحجر في هذه الأمور كلها. وعن مجاهد: مقام إبراهيم الحرم كله، فعلى هذا يراد بالمصلى المدعى من الصلاة بمعنى الدعاء. وعن عطاء: مقام إبراهيم عرفة ومزدلفة والجمار لأنه قام في هذه المواضع ودعا بها، والقول بأن مقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه أولى، لأن هذا الاسم في العرب مختص بذلك الموضع يعرفه المكي وغيره، ولأن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حتى غاصت فيه رجله وذلك من أظهر الدلائل على صنع الله تعالى وإعجاز إبراهيم، وكان أشد اختصاصا به، فإطلاق مقام إبراهيم عليه أولى، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ بيد عمر فقال: هذا مقام إبراهيم، فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ فقال: لم أؤمر بذلك، فلم تغب الشمس حتى نزلت. وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استلم الحجر ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى «ومن» هذه تجريدية على نحو «رأيت منك أسدا» و «وهب الله لي منك وليا مشفقا» ففيه بيان المتخذ والمرئي والموهوب وتمييزه في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 المعنى عن غيره. ولا ريب أن للصلاة به فضلا على غيره من حيث التيمن والتبرك بموطىء قدم إبراهيم عليه السلام، وركعتا الطواف خلف المقام ثم في الحجر ثم في المسجد أي مسجد كان حيث شاء متى شاء ليلا أو نهارا سنة عند الشافعي في أصح قوليه بعد الفراغ من الطواف لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين قال هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، وفي قوله الآخر فرض لظاهر قوله وَاتَّخِذُوا والأمر للوجوب، والرواية عن أبي حنيفة أيضا مختلفة، وَعَهِدْنا المراد بالعهد هنا الأمر أي ألزمناهما ذلك وأمرناهما أمرا ووثقنا عليهما فيه أن طهرا إن كانت «أن» مخففة فالتقدير بأن طهرا وإن كانت مفسرة فمعناه أي طهرا والمراد التطهير من كل أمر لا يليق بالبيت، أما من الأنجاس والأقذار فلأن موضع البيت وحواليه مصلى، وأما من الشرك ومظانه فلأنه مقام العبادة والإخلاص وكل هذه إما أن لا تكون موجودة هناك أصلا والمراد أقراه على طهارته مثل وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة: 25] فمعلوم أنهن لم يطهرن بل خلقن طاهرات، وإما أن تكون موجودة فأمر بإزالتها. وقيل: عرّفا الناس أن بيتي طهر لهم متى حجوه للطائفين إلى آخره. العطف يقتضي مغايرة، فالطائف من يقصد البيت حاجا ومعتمرا فيطوف به، والعاكف من يقيم هناك. ويجاور أو يعتكف، والركع السجود جمعا راكع وساجد أي من يصلي هناك، وعن عطاء، إذا كان طائفا فهو من الطائفين، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين، وإذا كان مصليا فهو من الركع السجود. ويجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين يعني القائمين كما قال لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج: 26] والمعنى للطائفين والمصلين لأن القيام والركوع والسجود هيئات للمصلي، ولعل الوجه الأول أولى ليكون الركع والسجود كلاهما فقط بمعنى المصلين ولهذا لم يفصل بينهما بالواو. ثم إذا فسرنا الطائعين بالغرباء دلت الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة، لأنه تعالى مدحهم بذلك. وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل. وفي إطلاق الآية دليل على جواز الصلاة في البيت فرضا كانت أو نفلا خلافا لأحمد ومالك في الفريضة قالا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: 144] ومن كان داخل المسجد لم يكن متوجها إلى المسجد بل إلى جزء من أجزائه، وأجيب بأن التوجه إلى جزئه كاف لأن المتوجه الواحد لا يكون إلا كذلك وإن كان خارج المسجد، وبأن الفرق بين الفرض والنفل لاغ. قوله تعالى وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ قيل: في الآية تقديم وتأخير لأن قوله رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً لا يمكن لا بعد دخول البلد في الوجود. فقوله وَإِذْ يَرْفَعُ [البقرة: 127] وإن كان متأخرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 في التلاوة فهو متقدم من حيث المعنى قلت: في ترتيب القصة فوائد منها: أنه أجمل القصة في قوله وَإِذِ ابْتَلى إلى فَأَتَمَّهُنَّ ثم فسر، وفي التفسير قدم الأهم فالأهم، ولا ريب أن ذكر جعل إبراهيم إماما أولى بالتقديم لعموم نفعه للخلائق ولتقدمه في الوجود أيضا، ثم ذكر جعل البيت مثابة للناس وأمنا لأنه المقصود من عمارة البيت ثم حكاية عمارة البيت. وقد حصل في ضمن رعاية الأهم فوائد أخر منها: أنه كما كان مبنى القصة على الإجمال والتفسير وقع كل من أجزائها أيضا كذلك فقوله وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً مجمل، ثم فسر ذلك بأن جعله ذا أمن كان بسبب دعاء إبراهيم. وذكر البيت أولا وقع مجملا ثم فسر بأنه كيف بني ومنها أنه وقع ختم الكلام بأدعية إبراهيم عليه السلام ووقع ختم الأدعية بذكر خاتم النبيين، وهذا ترتيب لا يتصور أحسن منه ولعل ما فاتنا من أسرار هذا الترتيب أكثر مما أحصينا. هذا بَلَداً آمِناً ذا أمن مثل عيشة راضية أو آمنا من فيه كقولك «ليل نائم» وإنما قيل هاهنا بلدا آمنا على التنكير وفي سورة إبراهيم هَذَا الْبَلَدَ آمِناً إما لأن هذا الدعاء صدر منه قبل جعل المكان بلدا فكأنه قال: واجعل هذا الوادي بلدا آمنا، وذاك الدعاء صدر وقد جعل بلدا فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذي صيرته بلدا بلدا ذا أمن، وإما لأن الدعوتين واحدة والمراد اجعل هذا البلد بلدا آمنا فيفيد مبالغة زائدة كقولك «هذا اليوم يوم جار» معناه اجعله من البلدان الكاملة من الأمن بخلاف قوله اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إبراهيم: 35] ففيه طلب الأمن نفسه قيل: سأل الأمن من القحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي ضرع ولا زرع وقيل: من الخسف والمسخ، وقيل: من القتل كيلا يكون سؤال الرزق بعده تكرارا، وأجيب بأن التوسعة في الرزق مغايرة لطلب إزالة القحط. ثم إنه تعالى استجاب دعاءه فجعله آمنا من الآفات فلم يصل إليه جبار إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل. قيل: أليس أن الحجاج حارب ابن الزبير وخرب الكعبة وقصد أهلها بكل سوء؟ وأجيب بأن مقصوده لم يكن تخريب الكعبة نفسها وإنما كان غرضه شيئا آخر. مِنَ الثَّمَراتِ «من» للابتداء لا للتبعيض بدليل قوله يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص: 57] وإنما سأل إبراهيم عليه السلام الأمن وأن يجبى إليه الثمرات وإن كان يتعلق بالدنيا لأن البلد إذا كان آمنا ذا خصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى ويكون سببا لاجتماع الناس وإتيانهم إليه من كل أوب زائرين وعاكفين، وطلب الدنيا لأجل الدين من سنن الصالحين «نعم المال الصالح للرجل الصالح» «1» واختلف في أن مكة هل كانت آمنة محرمة قبل دعوة   (1) رواه أحمد في مسنده (4/ 197، 202) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 إبراهيم وصار ذلك مؤكدا بدعائه فقيل: نعم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض» «1» ولقوله عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم: 37] وقيل: إنما صارت حرما آمنا بدعوته، وقبلها كانت كسائر البلاد بدليل قوله: «إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة» «2» وقيل بالجمع بينهما، وذلك أنه كان ممنوعا قبله بمنع الله تعالى من الاصطلام وبما أوقع في النفوس من التعظيم ثم صار آمنا على ألسنة الرسل. ومَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من أَهْلَهُ يعني وارزق المؤمنين من أهله خاصة كأنه قاس الرزق على الإمامة حيث ميز هناك بين المؤمن والكافر فقيل: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فعرف الفرق بينهما فقيل وَمَنْ كَفَرَ عطفا على مَنْ آمَنَ كما مر في وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أو هو مبتدأ مضمن معنى الشرط جوابه فَأُمَتِّعُهُ وذلك أن الاستخلاف استرعاء يختص بمن ينصح للمرعي فيؤدي عن الله أمره ونهيه ولا يأخذه في الدين لومة لائم ولا سطوة جبار وظالم وأبعد الناس عن النصيحة الظالم ولهذا قيل: من استرعى الذئب فقد ظلم. وأما الرزق فلا يقبح إيصاله إلى المؤمن والكافر والصالح والفاجر لعموم الرحمة، ولأنه قد يكون استدراجا للمرزوق وإلزاما للحجة على أنه متاع قليل وأمد يسير فيما بين الأزل والأبد وقَلِيلًا أي إمتاعا أو تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا فنعمة المؤمنين في العاجل موصولة بنعيمهم في الآجل، ونعمة الكافرين مقطوعة عنهم بعد الموت، والزائل لا يجدي بطائل أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء: 205- 207] ومعنى الاضطرار أن يفعل به ما يلجئه إلى النار كقوله يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور: 13] وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ [الزمر: 71] أو أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك الفعل اختيارا كالاضطرار إلى أكل الميتة مثلا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ذلك الذي اضطر إليه أو ذلك الاضطرار، فحذف المخصوص للعلم به. والمصير إما مصدر بمعنى الصيرورة يقال: صرت إلى فلان مصيرا وإما موضع وكلاهما شاذ والقياس مصار مثل «معاش» وكلاهما مستعمل والله أعلم.   (1) رواه البخاري في كتاب العلم باب 37. الترمذي في كتاب الحج باب 1. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 103. أحمد في مسنده (1/ 253) . (2) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 74. مسلم في كتاب الحج حديث 445. أبو داود في كتاب المناسك باب 96. الترمذي في كتاب المناقب باب 67. الموطأ في كتاب المدينة حديث 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 [سورة البقرة (2) : الآيات 127 الى 134] وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) القراآت: أَرِنا وبابه ساكنة الراء: ابن كثير ورويس قياسا على كسرة فخذ إذ تسكن فيقال «فخذ» . وقرأ أبو عمرو بالاختلاس طلبا للخفة وحذرا من الإجحاف وَيُعَلِّمُهُمُ بالاختلاس: ابن عباس، وكذلك كل فعل مستقبل مجموع حيث وقع. وروى ابن رومي عن ابن عباس يُكَلِّمُنَا وتَعِدُنا وكل كلمة تضمنت جمعين من الأسماء باختلاس مثل فِي أَعْيُنِكُمْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ وأوصى من الإيصاء: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون وَصَّى بالتشديد. شُهَداءَ إِذْ عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. والباقون شهداء يذ وكذلك ما أشبهه في كل القرآن. الوقوف: وَإِسْماعِيلَ (ط) لإضمار القول أي يقولان ومحله نصب على الحال مِنَّا (ط) للابتداء بأن ولجواز الوصل وجه لطيف على تقدير فإنك أو لأنك الْعَلِيمُ (هـ) مُسْلِمَةً لَكَ (ص) لعطف المتفقين عَلَيْنا (ط) وقد ذكر الرَّحِيمُ (هـ) وَيُزَكِّيهِمْ (ط) الْحَكِيمُ (هـ) نَفْسَهُ (ط) للفصل بين الاستفهام والإخبار فِي الدُّنْيا (ج) لعطف الجملتين الصَّالِحِينَ (هـ) أَسْلِمْ (ط) لأن قوله «قال» عامل «إذ» وإلا وجب أن يقال «فقال» وإلا انقطع النظم الْعالَمِينَ (هـ) وَيَعْقُوبُ (ط) لإرادة القول على الأصح، ومن وصل جعل الوصية في معنى القول مُسْلِمُونَ (ط) لأن «أم» بمعنى همزة الاستفهام للإنكار الْمَوْتُ (لا) لأن «إذ» بدل من «إذ» الأولى و «إذ» الأولى ظرف شُهَداءَ و «إذ» الثانية ظرف حَضَرَ ومن قطعها عن الأول فوقف على الموت وجعل قالُوا عاملا ولم يقف على بَعْدِي فله وجه لا يتضح لأن الإنكار متوجه على قولهم: إن يعقوب أوصى بنيه باليهودية لا على أن يعقوب قد مات مِنْ بَعْدِي (ط) واحِداً (ج) لعطف الجملتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 المختلفتين والوصل أجوز على جعل الواو حالا مُسْلِمُونَ (هـ) قَدْ خَلَتْ (ج) لأن ما بعدها تصلح صفة للأمة وتصلح استئنافا وهو واضح لعطف وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ عليها وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ (ج) لعطف الجملتين المختلفتين يَعْمَلُونَ (هـ) . التفسير: عن وهب بن منبه قال: إن آدم صلى الله عليه وسلم لما أهبط إلى الأرض استوحش منها لما رأى من سعتها، ولأنه لم ير فيها أحدا غيره فقال: يا رب أما لأرضك عامر يسبحك فيها ويقدس لك غيري؟ فقال الله: إني سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدي ويقدس لي، وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكري وسأبوئك منها بيتا أختاره لنفسي وأخصه بكرامتي وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمي وأسميه بيتي، أعظمه بعظمتي وأحوطه بحرمتي، وأضعه في البقعة التي اخترت لنفسي، فإني اخترت مكانه يوم خلقت السموات والأرض، أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرما وأمنا أحرم بحرمته ما فوقه وما تحته وما حوله، فمن حرمه بحرمتي فقد عظم حرمتي، ومن أحله فقد أباح حرمتي، ومن أمن أهله استوجب بذلك أماني، ومن أخافهم فقد جفاني، ومن عظم شأنه فقد عظم في عيني، ومن تهاون به فقد صغر في عيني، سكانها جيراني، وعمارها وفدي، وزوارها أضيافي، أجعله أوّل بيت وضع للناس، وأعمره بأهل السماء والأرض، يأتونه أفواجا شعثا غبرا على كل ضامر يأتين من كل فج عميق، يعجون بالتكبير عجيجا ويضجون بالتلبية ضجيجا، فمن اعتمره لا يريد غيري فقد زاري وضافني ووفد عليّ ونزل بي فحق علي أن ألحقه بكرامتي وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وزواره وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته، تعمره يا آدم ما كنت حيا ثم يعمره من بعدك الأمم في القرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة وقرنا بعد قرن ونبيا بعد نبي حتى ينتهي بعد ذلك إلى نبي من ولدك يقال له «محمد» وهو خاتم النبيين فأجعله من عماره، وسكانه وحماته وولاته، يكون أميني عليه ما دام حيا، فإذا انقلب إلي وجدني وقد ذخرت له من أجره ما يتمكن به من القربة إلي والوسيلة عندي وأجعل اسم ذلك البيت وشرفه وذكره ومجده وسناه ومكرمته لنبي من ولدك يكون قبل هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبوه يقال له «إبراهيم» ، أرفع به قواعده وأقضي على يديه عمارته، وأعلمه مشاعره ومناسكه، وأجعله أمة واحدة قانتا قائما بأمري داعيا إلى سبيلي، أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم، أبتليه فيصبر وأعافيه فيشكر وآمره فيفعل وينذر لي فيفي، أستجيب دعاءه في ولده وذريته من بعده، وأشفعه فيهم وأجعلهم أهل ذلك البيت وحماته وسقاته وخدمه وخزانه وحجابه حتى يبدلوا ويغيروا وأجعل إبراهيم إمام ذلك البيت وأهل تلك الشريعة، يأتم به من حضر تلك المواطن من جميع الخلق الجن والإنس. وروي أن الله تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 الجنة له بابان من زمرد شرقي وغربي. وقال لآدم: أهبطت لك بيتا يطاف به كما يطاف حول عرشي، فتوجه إليه آدم من أرض الهند ماشيا وتلقته الملائكة فقالوا: برّ حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. وحج آدم أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه، فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيام الطوفان إلى السماء الرابعة، فهو البيت المعمور. ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم ببنائه وعرفه جبرائيل مكانه. وعن علي عليه السلام: البيت المعمور بيت في السماء يقال له «الضراح» وهو بحيال الكعبة من فوقها، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة لا يعودون فيه أبدا. وعن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لاضاءا ما بين المشرق والمغرب وما مسهما ذو عاهة ولا سقيم إلا شفي» وعن ابن عباس أنه كان أشد بياضا من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك. وأما قصة إسماعيل عليه السلام وأمه، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: 63] وواحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي في الإسلام فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك. فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها فأتى بها وقام إبراهيم إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت، فعاد فقبضت يده أشد من القبضة الأولى فقال لها مثل ذلك، فعاد فقبضت يده أشد من القبضتين الأولتين فقال: ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت فأطلقت يده ودعا الذي جاء بها فقال له: إنك إنما جئتني بشيطان ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر. قال: فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم انصرف فقال: مهيم. فقالت: خيرا كفى الله يد الفاجر وأخدم خادما» قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء. قلت: وذلك أنها ملكتها سارة إبراهيم فولدت له إسماعيل أبا العرب. وأما تتمة القصة، بعد أن غارت سارة على هاجر حيث لم يكن لسارة من إبراهيم ولد فإنها ولدت إسحق بعد ولادة هاجر إسماعيل بأربع عشرة سنة. فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أول ما اتخذت النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هناك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ولك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت فانطلق إبراهيم صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه فقال رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ حتى بلغ يَشْكُرُونَ [إبراهيم: 37] وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك سعى الناس بينهما. فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت صوتا أيضا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه- أو قال بجناحه- حتى ظهر الماء، فجعلت تحوّضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد أن تغرف. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أم إسماعيل لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا. قال: فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء. فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا وأخبروهم، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس. فنزلوا وأرسلوا إلى أهاليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب الغلام، فلما أدرك الغلام زوجوه امرأة منهم. وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة وشكت. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول: غير عتبة بابك. قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك فطلقها. وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم أتاهم بعد ذلك فلم يجده فدخل على امرأته فسأل عنه قالت: خرج يبتغي لنا قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله عز وجل. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه وصنعا ما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتا هاهنا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء إبراهيم بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وعن علي كرم الله وجهه أنه مر عليه الدهر بعد بناء إبراهيم فانهدم فبنته العمالقة، ومر عليه الدهر فانهدم فبناه قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ شاب، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا: يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مرط ثم يرفعه جميع القبائل فرفعوه فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه. واعلم أن للبيت أربعة أركان: ركنان يمانيان وركنان شاميان، وكان لاصقا بالأرض، وله بابان شرقي وغربي فذكر أن السيل هدمه قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين فأعادت قريش عمارته على الهيئة التي هي عليها اليوم، ولم يجدوا من النذور والهدايا والأموال الطيبة ما يفي بالنفقة فتركوا من جانب الحجر بعض البيت وخلفوا الركنين الشاميين عن قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وضيقوا عرض الجدار من الأسود إلى الشامي الذي يليه فبقي من الأساس شبه الدكان مرتفعا وهو الذي يسمى الشاذروان، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة «لولا حدثان قومك بالشرك لهدمت البيت ولبنيته على قواعد إبراهيم فألصقته بالأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وجعلت لها بابين شرقيا وغربيا» «1» ثم إن ابن الزبير هدمه أيام ولايته وبناه على قواعد إبراهيم، ثم لما استولى عليه الحجاج هدمه وأعاده على الصورة التي هو عليها اليوم وهي بناء قريش. ولنعد إلى المقصود فنقول يَرْفَعُ حكاية حال ماضية، والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه وهي صفة غالبة معناها الثابتة، ورفع الأساس البناء عليها لأنها إذا بنى عليها نقلت من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع، ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء لأن كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه فيرتفع كل منها بسبب وضع الآخر عليه، ورفع القواعد صريح فيما ذهب إليه الأكثرون من أن القواعد كانت موجودة وأن ابراهيم عمّرها ورفعها كما مر في الأحاديث. وإنما لم يقل «قواعد البيت» ليكون الكلام مبنيا على تبيين بعد إبهام ففيه تفخيم لشأن المبين، ثم إن الله تعالى حكى عنهما ثلاثة أنواع من الدعاء في تلك الحالة الأول: قولهما تَقَبَّلْ مِنَّا وقبول الله عمل العبد عبارة عن كون العمل بحيث يرضاه الله تعالى أو يثبت عليه، والأول ألذ عند العارفين من الثاني، شبه الفعل من العبد بالهدية، وإثابة الله تعالى عليه ورضاه به بالقبول. وقيل: إن بين القبول والتقبل فرقا، فالتقبل عبارة عن تكلف القبول وذلك حيث يكون العمل ناقصا لا يستحق أن يقبل، فاختير تقبل هضما وتواضعا واستقصارا. وقد يستدل بهذا على أن الفعل المقرون بالإخلاص لا يجب ترتب الثواب عليه وإلا لم يكن في طلبه فائدة، ويحتمل أن يقال: الطلب متوجه إلى جعله من جملة الأفعال المقرونة بالإخلاص، فكنى بطلب القبول عن ذلك ويؤكده قولهما إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ يعني سماع إجابة العليم بنياتنا. النوع الثاني رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ فإن أريد بالإسلام الدين والاعتقاد توجه الطلب إلى الثبات والدوام أي ثبتنا على ذلك وإلا كان تحصيلا للحاصل بالنسبة إليهما وقتئذ، وإن أريد الاستسلام والخضوع والإذعان الكلي والرضا بكل ما قدر وأمر فتوجه الطلب إلى هذه الأمور أنفسها غير مفيد لأنها أمور خارجة عن الضبط لا تتيسر إلا بمجرد تيسير الله وتوفيقه بخلاف أصل الإسلام الذي وقع به التكليف فإنه مضبوط. وقد يظن أن للعبد اختيارا فيه وإن كان اختياره على تقدير ثبوته ينتهي إلى مسبب الأسباب. وقوله وَاجْعَلْنا إما معطوف على تَقَبَّلْ وقوله إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنا اعتراض للتأكيد وإما معطوف على محذوف أي ربنا افعل هذا واجعلنا. وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا من للتبعيض كما في قوله وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة: 124] .   (1) رواه البخاري في كتاب الحج باب 42. مسلم في كتاب الحج حديث 399. النسائي في كتاب الحج باب 125. الموطأ في كتاب الحج حديث 104. أحمد في مسنده (6/ 112، 252) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 والأمة الجماعة من الناس، وقيل أراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم مُسْلِمَةً يحتمل هاهنا أصل الإسلام والزيادة عليه أيضا. وقيل: أسلم مطلقا يفيد الإيمان والاعتقاد ومعدى باللام معناه الاستسلام والانقياد الكلي. طلب الإسلام لهم بعد ما طلب لهم الإمامة إظهارا للشفقة. فالشفيق بسوء الظن مولع، ويحتمل أن يكون هذا الدعاء بيانا لما أجمل هناك فيكونان واحدا. وتخصيص الذرية بالدعاء من بين الخلائق لأنهم أحق بالنصيحة وأقوم قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: 6] ولأنهم أئمة بصلاحهم يصلح غيرهم وفي سدادهم يكون سداد من وراءهم. ولقد استجاب الله دعاءه فلم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا، ولم يزل الرسل من ذرية إبراهيم، وقد كان في الجاهلية زيد بن عمرو ابن نفيل وقس بن ساعدة. ويقال عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم على دين الحق قائلين بالإبداء والإعادة والثواب والعقاب يوحدون الله ولا يأكلون الميتة ولا يعبدون الأوثان وَأَرِنا إن كان منقولا عن رؤية العلم فمعناه علمنا أن شرائع حجنا كيف هي إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعو الناس إلى حجه، وإن كان منقولا عن رؤية البصر- وهو الأظهر- ولذلك لم يتجاوز مفعولين ظاهرا. فالمعنى بصرنا متعبداتنا في الحج. قال الحسن: إن جبريل أرى إبراهيم المناسك كلها حتى بلغ عرفات فقال: يا إبراهيم أعرفت ما أريتك من المناسك؟ قال: نعم، فسميت عرفات. فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت عرض له إبليس فسد عليه الطريق، فأمر جبريل أن يرميه بسبع حصيات ففعل فذهب الشيطان، ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع وكل ذلك يأمره جبريل برمي الحصيات. وقيل: المراد العلم والرؤية معا لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعا وليس ببعيد، فإن اللفظ المشترك يصح إطلاقه على معنييه معا وكذلك مدلولا الحقيقة والمجاز يصح إرادتهما معا من لفظ واحد كالعقد والوطء من النكاح. غاية ما في الباب أن يكون هذا الإطلاق مجازا، ومن الناس من يحمل المناسك على المذابح. فقد يسمى الذبح للتقرب نسكا والذبيحة نسيكة، وليس لهذا التخصيص وجه فإن الذبح إنما يسمى نسكا لدخوله تحت أصل معنى النسك وهو التعبد، فحمل المناسك على جميع أعمال الحج أولى قال صلى الله عليه وسلم «خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا» «1» بل لا يبعد أن يحمل على جميع ما شرعه الله لإبراهيم أي علمنا كيف نعبدك ومتى وأين نعبدك، وبماذا نتقرب إليك حتى نخدمك بذلك خدمة العبد لمولاه؟ وَتُبْ عَلَيْنا التوبة منهما محمولة على ما عسى أن يكون فرط منهما من الصغائر عند من يجوّزها على   (1) رواه النسائي في كتاب المناسك باب 220. أحمد في مسنده (3/ 318) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 الأنبياء، وعلى ترك الأولى ونحو ذلك عند غيرهم، ويمكن أن تكون التوبة منهما تصويرا لأنفسهما بصورة النادم العازم على التحرز تشددا في الانصراف عما لا يليق بهما. قال صلى الله عليه وسلم «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة» «1» وأيضا لعلهما استتابا لذريتهما لعلمهما بأن فيهم ظالمين لقوله تعالى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وذلك لغاية شفقتهما عليهم. وباقي مباحث التوبة، قد مر في قصة آدم فليتذكر النوع الثالث رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وفيه أمران: الأول: أن يبعث في تلك الأمة رسولا ليبين لهم الشرع القويم وينهج الصراط المستقيم، والثاني: أن يكون ذلك الرسول منهم لا من غيرهم لأن الرسول والمرسل إليهم إذا كانوا جميعا من ذريته كان رتبته أجل، ولأنه إذا كان منهم عرفوا مولده ومنشأه فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه وأمانته، ولأنه إذا كان منهم كان أحرص عليهم وأشفق من أجنبي لو أرسل إليهم. وأما الرسول فهو محمد صلى الله عليه وسلم بإجماع المفسرين وهو حجة ولقوله تعالى في موضع آخر لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران: 164] ولقوله صلى الله عليه وسلم «أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي» «2» أما الدعوة فهذه، وأما البشارة فقوله تعالى في سورة الصف وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] وأما الرؤيا فما رأت آمنة وهي حامل أنه خرج منها نور أضاء ما بين الخافقين. وهاهنا نكتة وهي أن الخليل لما دعا للحبيب بقوله رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا فلا جرم قضى الله تعالى حق الحبيب للخليل بأن أجرى ذكره على ألسنة أمته إلى يوم القيامة يقولون في صلاتهم: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم. ولهذا الذكر مناسبات أخر منها: أن الخليل دعا لنفسه بقوله وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 84] أي أبق لي ثناء حسنا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فأجابه الله تعالى وقرن ذكره بذكر حبيبه. ومنها أن إبراهيم أبو الملة مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الحج: 78] ومحمد صلى الله عليه وسلم أبو الرحمة بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6] «إنما أنا لكم مثل الوالد لولده» «3» يعني في الرأفة والرحمة،   (1) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث 41. أبو داود في كتاب الوتر باب 26. الترمذي في تفسير سورة 47 باب 1. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 57. الدارمي في كتاب الرقاق باب 15. (2) رواه أحمد في مسنده (5/ 262) . (3) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 4. النسائي في كتاب الطهارة باب 35. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 16. أحمد في مسنده (2/ 247، 250) . [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 فلما ثبت لكل منهما الأبوة قرن بين ذكرهما في التحية. ومنها أن إبراهيم منادي الشريعة وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج: 27] ومحمد منادي الدين سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ [آل عمران: 193] ومنها أنه كان أول الأنبياء بعد الطوفان، ومحمد خاتم النبيين ورسول آخر الزمان. ومنها إن الخليل تبرأ عن سائر الأديان أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [هود: 54] والحبيب تنزه عن جميع الأكوان ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] ثم إن إبراهيم عليه السلام ذكر لذلك الرسول صفات أولاها يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ فهو الفرقان المتلو عليهم، أو جميع ما بلغه من دلائل التوحيد وغيره «أوتيت القرآن ومثله معه» وثانيتها «ويعلمهم الكتاب» أي معانيه وحقائقه، وذلك أن التلاوة وإن كانت مطلوبة لبقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصونا من التحريف، ولأن لفظه ونظمه معجز وفي تلاوته نوع عبادة ولا سيما في الصلوات إلا أن الحكمة العظمى والمقصود الأسنى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام. وثالثتها قوله وَالْحِكْمَةَ أي ويعلمهم الحكمة. وقيل: هي الإصابة في القول والعمل جميعا، فلا يسمى حكيما إلا وقد اجتمع فيه الأمران فيضع كل شيء موضعه ولهذا عبر عنها بعض الحكماء بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية، ويناسبه قوله صلى الله عليه وسلم «تخلقوا بأخلاق الله» وعن ابن وهب قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال: معرفة الدين والفقه فيه والاتباع له. وعن قتادة وإليه ذهب الشافعي: هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه ذكر تلاوة الكتاب ثم تعليمه ثم عطف عليه الحكمة فيكون شيئا خارجا عنهما وليس ذلك إلا سنة الرسول، فإن الدلائل العقلية الدالة على التوحيد والنبوة وما يتلوهما مستقلة بالفهم فحمل اللفظ على ما لا يستفاد إلا من الشرع أولى. وقيل: هي الفصل بين الحق والباطل من الحكم. وقيل: المراد بالكتاب الآيات المحكمات، وبالحكمة المتشابهات. وقيل: هي ما في أحكام الكتاب من الحكم والمصالح. ورابعتها وَيُزَكِّيهِمْ لأن الإرشاد يتم بأمرين: التحلية والتخلية. فكما يجب على المعلم التنبيه على نعوت الكمال ليحظى المتعلم بها، يجب عليه التحذير عن النقصان ليتحرز عنها وذلك بنحو ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة من الوعد والإيعاد والوعظ والتذكير والتشبث بأمور الدنيا لتتقوى بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح، ولذلك مدح بأنه على خلق عظيم وأنه أوتي مكارم الأخلاق. وقيل: يزكيهم يطهرهم عن الشرك وسائر الأرجاس كقوله وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف: 157] وقيل: يشهد لهم بأنهم عدول يوم القيامة وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] وعن ابن عباس: التزكية هي الطاعة لله والإخلاص إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القادر الذي لا يغلب الْحَكِيمُ العالم الذي لا يفعل إلا على وفق المصالح، وإذا كان كذلك صح منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 إجابة الدعاء وبعثة الرسل وإنزال الكتب وَمَنْ يَرْغَبُ الاستفهام فيه لتقرير النفي أي لا يرغب أحد. يقال: رغب عن الأمر إذا كرهه ورغب فيه إذا أراده. ومحل مَنْ سَفِهَ الرفع على البدل من الضمير في يَرْغَبُ وذلك أنه غير موجب مثل «هل جاءك أحد إلا زيد» وسفه إما متعد: ومعنى سفه نفسه امتهنها واستخفها فأصل السفه الخفة وفي الحديث «الكبر أن نسفه الحق وتغمص الناس» لأنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إذالة نفسه وتعجيزها حيث خالف بها كل نفس عاقلة. وعن الحسن: إلا من جهل نفسه فلم يفكر فيها، فيستدل بما يجده فيها من آثار الصنع على وحدانية الله تعالى وحكمته ويرتقي إلى صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وعن أبي عبيدة: أهلك نفسه وأوبقها. وقيل: أضل نفسه وإما لازم فمعناه سفه في نفسه فحذف الجار نحو «زيد ظني مقيم» أي في ظني وقيل: نصب على التمييز نحو «غبن رأيه وألم رأسه» وهذا عند الكوفيين. فإن التمييز عندهم يجوز أن يكون معرفة. وفيه توبيخ لليهود والنصارى ومشركي العرب وتعجيب من حالهم، فإن أعظم مفاخرهم وفضائلهم الانتماء إلى إبراهيم، ثم إنهم لا يؤمنون بالرسول الذي هو دعوته ومطلوبه بالتضرع والإخلاص. فإن قيل: ملة إبراهيم عين ملة محمد في الأصول والفروع، أو هما متحدتان في الأصول كالتوحيد والنبوة، وأصول مكارم الأخلاق ولكنهما مختلفتان في فروع الأعمال ولا سبيل إلى الأول وإلا لم يكن شرع محمد صلى الله عليه وسلم ناسخا لسائر الشرائع ولا إلى الثاني لأنه يلزم أن يكون محمد أيضا راغبا عن ملة إبراهيم، ولأن الاعتراف بالأصول لا يقتضي الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: المختار اتحاد الملتين في الأصول فقط، لكن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جملة الأصول التي مهدها إبراهيم عليه السلام. والمراد بملة إبراهيم في الآية أصولها التي لا تختلف بمر الأعصار وكر الدهور، فلا يلزم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم راغبا عنها لأنه أمر باتباعها ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل: 123] روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما: قد علمنا أن الله قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون. فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فنزلت. ثم إنه تعالى لما سفه من يرغب عن ملة إبراهيم بين السبب في ذلك فقال وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا أي اخترناه للرسالة من دون الخليفة وعرفناه الملة الجامعة للتوحيد والعدل والإمامة الباقية إلى قيام الساعة حتى نال منزلة الخلة وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ فيلزمه ما يلزمهم من الكرامة وحسن الثواب فليتحقق كل ذي لب أن الراغب عن سيرة من هو فائز بسعادة الدارين لا رأي له والله الموفق. ثم بين سبب الاصطفاء فأعمل اصْطَفَيْناهُ في إِذْ قالَ أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 اخترناه في ذلك الوقت، ويجوز أن ينتصب بإضمار «اذكر» استشهادا على ما ذكر من حاله كأنه قيل له: اذكر الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ من باب الالتفات، ولولا ذلك لكان حقه أن يقال: إذ قلنا له، والأكثرون على أنه تعالى قال له ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس واطلاعه على أمارة الحدوث فيها، فلما عرف ربه قال له أسلم، فإنه لا يجوز أن يقول له قبل أن عرف ربه. ويحتمل أن يكون ذلك قبل الاستدلال، ولا يكون المراد منه نفس القول بل دلالة الدليل عليه كقولهم «نطق الحال» قال تعالى أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم: 35] فجعل دلالة البرهان كلاما، ويحتمل أن يكون هذا بعد النبوة والمراد استقامته على الإسلام وثباته عليه كقوله فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] أو المقصود الانقياد لأوامر الله تعالى والمسارعة إلى تلقيها بالقبول وترك الاعتراض بالقلب واللسان. وقيل: الإيمان صفة القلب والإسلام صفة الجوارح، وإن إبراهيم عليه السلام كان عارفا بالله تعالى بقلبه فكلفه الله تعالى بعد ذلك بعمل الجوارح. وفي تخصيص لفظ الرب بهذا الموضع بل بأكثر قصص إبراهيم إشارة إلى أن طريق عرفانه النظر في المربوبات فلا جرم وصل إلى الرب، وطريق عرفان محمد صلى الله عليه وسلم عكس ذلك الترتيب فلا جرم بدأ من الله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19] والأول طريق حسن سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] لكن الطريق الثاني أحسن أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] ومن هنا يعرف أكملية محمد صلى الله عليه وسلم. وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم يستطعه الأوائل فألف إبراهيم دلالة على استقامة سيرته، وميم محمد دليل على أنه مكمل الأوضاع وبه ابتدأ الأمر من حيث انتهى فتمت دائرة النبوة وحصلت الخاتمة. وكما أن ألف إبراهيم دليل على وجود الاستقامة إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: 31] فألف إبليس دليل عدم الاستقامة إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ [البقرة: 34] والوجود خير والعدم شر فحصل من خاء الخير مع لام الابتلاء وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [البقرة: 124] تركيب الخلة وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النساء: 125] ومن شين الشر مع دال الدوام على الكفر وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ [البقرة: 34] اسم الشدة وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ [الشورى: 26] ثم إن الخلة مأخوذة من التخلل بين الشيئين ومنه الخلال فلا جرم كان إبراهيم عليه السلام واسطة في الطريقة أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل: 123] والمحبة مأخوذة من الحبة وهو خالص كل شيء وداخله، ومنه حبة القلب فلا جرم كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وحبيب رب العالمين وزبدة الكائنات وغاية الحركات، لولاك لما خلقت الأفلاك، أول الفكر آخر العمل «أول ما خلق الله تعالى نوري، أنا أول من ينشق عنه قبر، آدم ومن دونه تحت لوائي، أنا سيد المرسلين ولا فخر» محمد صلى الله عليه وسلم أبو الحقيقة وإن كان إبراهيم عليه السلام أبا الطريقة، والحقيقة لكونها مقصودة بالذات أقوى من الطريقة، لا جرم وقع الصلاة على إبراهيم في الصلاة تبعا للصلاة على محمد «اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم» وأن الصلاة لا تصح بدون الصلاة على محمد بخلاف الصلاة على غيره. ولنعد إلى ما كنا فيه وَوَصَّى التوصية من جملة الأمور المستحسنة التي حكاها الله تعالى عن إبراهيم. أوصيته بكذا ووصيته بمعنى، وأصله من وصيت الشيء بكذا بالتخفيف إذا وصلته إليه. وأرض واصية متصلة النبات، فالموصي يصل القربة الحاصلة له بعد الموت إلى القربات الحاصلة له في الحياة ويحمد الموصي على هذا الوصل بسبب الوصية. والضمير في (بها) قيل: يعود إلى الكلمة أو الجملة وهي أسلمت لرب العالمين، ونحوه رجوع الضمير في قوله وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً [الزخرف: 28] إلى قوله إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف: 26] وقيل: الأولى أن يرجع إلى الملة لأنها مذكورة صريحا في قوله وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ ولأن الوصية بالملة جامعة لجميع أسباب الفلاح بخلاف الوصية بالشهادة وحدها اللهم إلا أن يحمل الإسلام على الانقياد الكلي. وفي الآية دقائق مرعية في قبول الدين منها: أنه لم يقل وأمر بها لأن الوصية عند أمارات الموت وعند ذلك يكون الاهتمام بالأمور أشد. ومنها أنه لم يقل وأمر بها لأن الوصية عند أمارات أنه كان يدعو كل الناس إلى الدين، فدل على أنه لا شيء عنده أهم من ذلك. ومنها التعميم لجميع الأبناء وأنه لم يقيد الوصية بزمان أو مكان ولم يخلطها بشيء آخر، ثم نهاهم أن يموتوا غير مسلمين وكل هذه دلائل شدة الاهتمام بالأمور وهو المشهود له بالفضل وحسن السيرة، فيجب قبول قوله لكل عاقل وكذلك وصى بها يعقوب بنيه. وقرىء يعقوب بالنصب فمعناه وصى بها إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب قائلا لكل منهما يا بَنِيَّ أصله يا بنون فأضيف إلى ياء المتكلم فسقطت النون وصار الواو ياء لأجل النصب فأدغم الياء في الياء إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ استخلصه واختاره لكم بأن أقام عليه الدلائل الواضحة ودعاكم إليه ومنعكم من غيره ووفقكم للأخذ به فَلا تَمُوتُنَّ فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام نحو «لا تصل إلا وأنت خاشع» لا ينهاه عن نفس الصلاة ولكن عن ترك الخشوع في صلاته. والنكتة فيه إظهار أن الصلاة التي لا خشوع فيها كلا صلاة ومثله قوله صلى الله عليه وسلم «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» فإنه في قوة قوله لجار المسجد: لا تصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 إلا في المسجد. فكان موتهم لا على حال الإسلام موتا لا خير فيه لأنه ليس بموت السعداء ومن حق هذا الموت أن لا يحل فيهم. أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ يحتمل أن تكون «أم» منقطعة، ومعنى الهمزة فيها الإنكار لمجرد الحضور عند وفاته والخطاب للمؤمنين أي ما كنتم حاضرين حين احتضر يعقوب، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي، أو لأهل الكتاب المعاصرين كأنه قيل لهم: كيف تزعمون أن ما أنتم عليه دين الرسل ولم تشهدوا وصايا الأنبياء ولو شهدتم ذلك وسمعتم قولهم لنبيهم لظهر لكم حرصهم على ملة الإسلام والدين الحنيفي فرغبتم في دين محمد صلى الله عليه وسلم؟ ويحتمل كون «أم» متصلة على أن يقدر قبلها محذوف معناه، أتدعون على الأنبياء اليهودية أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ قيل: أي إن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد ودين الإسلام، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه براء وفيه نظر، لأن «أم» المعادلة أحد الأمرين كائن فيها فقط، فإن كان الحضور ثابتا لم تكن الدعوى ثابتة لكنها ثابتة ولهذا توجه الإنكار عليها، فالوجه أن يقال: المراد أن الحضور غير ثابت لتطاول الزمان، فإذن دعواهم يهودية الأنبياء دعوى بلا دليل فلا تسمع منهم على أنه تعالى نص على بطلانها بقوله إِذْ قالَ لِبَنِيهِ إلى آخره، ويتجه على هذا التقدير أن تكون «أم» منقطعة كأنه استفهم أولا على سبيل الإنكار أي لم تدعون، ثم استأنف استفهاما ثانيا لتقرير النفي أي ما كنتم شهداء أو لتقرير الإثبات على أن أوائلهم قد شهدوا فيكون مؤكدا لذلك الإنكار ما تَعْبُدُونَ أي شيء تعبدون. و «ما» عام لأولي العلم وغيرهم، «ومن» مختص بأولي العلم ولهذا قال العلماء «من» لما يعقل. و «من» خصص «ما» بغير أولي العقل قال: المراد السؤال عن صفة المعبود كما تقول «ما زيد» تريد أفقيه أم طبيب روي أن يعقوب عليه السلام لما دخل مصر رأى أهلها يعبدون الأوثان والنيران فخاف على بنيه بعد وفاته فقال لهم هذا القول تحريضا على التمسك بعبادة الله لا أنهم كانوا يعبدون غير الله، لأن مبادرتهم إلى الاعتراف بالتوحيد تنافي ذلك، ولأن المشهور من أمر الأسباط أنهم كانوا قوما صالحين، وإِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ عطف بيان لآبائك، وقدم إسماعيل لأنه أسن، وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه لأن العمل أب والخالة أم لانخراطهما في سلك واحد هو الأخوة قال صلى الله عليه وسلم «عم الرجل صنو أبيه» أي لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة. وأيضا أطلق اسم الأب على إبراهيم وهو جده فعن الشافعي أنه مجاز ولهذا قال: الإخوة والأخوات للأب والأم لا يسقطون بالجد، وإليه ذهب مالك وأبو يوسف ومحمد وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد، وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 أبو حنيفة: إنه حقيقة وإنهم يسقطون بالجد وهو قول أبي بكر وابن عباس وعائشة والحسن وطاوس وعطاء. ثم التعليمية قالوا: لا طريق لنا إلى معرفة الله تعالى إلا بتعليم الرسول والإمام لأنهم لم يقولوا نعبد الإله الذي دل العقل عليه بل قالوا: نعبد الإله الذي أنت تعبده وآباؤك يعبدونه، فدل على أن طريق المعرفة هو التعليم. وأجيب بمنع دلالة الآية على ذلك بل لعل المعرفة حلت لهم بالاستدلال إلا أنهم اختصروا الكلام فتركوا شرح صفات الله وبيان ذلك، وأيضا إنه أقرب إلى سكون نفس يعقوب فكأنهم قالوا: لسنا نجري إلا على مثل طريقتك من اليقين بالله والإخلاص له في عبادته. وأيضا لعل مرادهم نعبد الإله الذي دل عليه وجودك ووجود آبائك كقوله اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 21] إِلهاً واحِداً بدل من إِلهَ آبائِكَ مثل ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ [العلق: 15، 16] أو نصب على الاختصاص والمدح وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مذعنون أو مخلصون التوحيد ومحله النصب حالا من فاعل نَعْبُدُ أو من مفعوله لرجوع الضمير في لَهُ إليه، ويجوز أن يكون جملة معطوفة على نَعْبُدُ أو جملة معترضة مؤكدة تِلْكَ إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون، خَلَتْ مضت وانقرضت والغرض أنه لم يبق منهم أثر سوى ما عملوا، ولهذا قيل لَها ما كَسَبَتْ أي ثوابه يريد أني اقتصصت عليكم أخبارهم وما كانوا عليه من الدعوة إلى الإسلام فليس لكم نفع في سيرتهم دون أن تفعلوا ما فعلوه، فإن أنتم فعلتم ذلك فزتم كما فازوا، وإن أبيتم خسرتم أنتم دونهم وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا ينفعكم حسناتهم، وفيه تكذيب لليهود حيث قالوا إنهم يعذبون أياما معدودة لكفر آبائهم باتخاذ العجل. وفي الآية وعيد شديد للأبناء إذا لم يعملوا بعمل الآباء قال صلى الله عليه وسلم «يا صفية عمة محمد يا فاطمة بنت محمد ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم فإني لا أغني عنكم من الله شيئا» «1» «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» «2» ثم الآية تدل على أن للعبد كسبا ولكن الأئمة اختلفوا في تفسيره، فالأشعري على أنه لا تأثير لقدرة العبد في مقدور أصلا، لأنه لو كان موحدا لأفعاله لكان عالما بتفاصيل فعله وليس كذلك، ولما وقع إلا ما أراده العبد وليس كذلك، بل المقدور والقدرة كلاهما واقع بقدرة الله تعالى، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله وهو متعلق القدرة الحادثة هو الكسب، واعترض عليه بأن مقدور العبد إذا كان واقعا بخلق الله   (1) رواه النسائي في كتاب الوصايا باب 6. البخاري في كتاب الوصايا باب 11. الدارمي في كتاب الرقاق باب 23. أحمد في مسنده (1/ 206) . (2) رواه أبو داود في كتاب العلم باب 1. الترمذي في كتاب القرآن باب 10. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 17. أحمد في مسنده (2/ 252، 407) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 تعالى، فإذا خلقه فيه استحال من العبد أن لا يتصف حينئذ به، وإذا لم يخلقه فيه استحال أن يتصف به، فأي معنى لكون العبد قادرا عليه؟ وأيضا الذي هو مكتسب العبد إما أن يكون واقعا بقدرة الله فلا أثر للعبد فلا يكون مكتسبا له وإن وقع بالقدرتين معا فلا تكون قدرة الله تعالى مستقلة، والمفروض بالخلاف، فبقي أن يكون بقدرة العبد، وعن القاضي: أن ذات الفعل واقعة بقدرة الله تعالى ثم يحصل لذلك الفعل صفة طاعة أو صفة معصية، فهذه الصفة تقع بقدرة العبد. وضعف بأن المحرم من الجلوس في الدار المغصوبة ليس إلا شغل تلك الأحياز، فهذا الشغل إن حصل بفعل الله تعالى فعين المنهي عنه قد خلقه الله فيه وهذا تكليف ما لا يطاق، وإن حصل بقدرة العبد فهو المطلوب. وزعم الأستاذ أبو إسحق الإسفرايني أن ذات الفعل تقع بالقدرتين، وزيف بأن قدرة الله مستقلة بالتأثير. ومنهم من زعم أن القدرة الحادثة مع الداعي توجب الفعل، فالله تعالى هو الخالق للكل بمعنى أنه سبحانه هو الذي وضع الأسباب المؤدية إلى دخول هذه الأفعال في الوجود، والعبد هو المكتسب بمعنى أن المؤثر في وقوع فعله هو القدرة والداعية القائمتان به، وإلى هذا ذهب إمام الحرمين وهو مناسب لقول الفلاسفة. وزعم جمهور المعتزلة أن القدرة مع الداعي لا توجب الفعل بل العبد قادر على الفعل والترك متمكن منهما إن شاء فعل وإن شاء ترك وهذا هو الفعل والكسب. فهذا تقرير المذاهب، وقول الأشعري أقرب إلى الأدب، وقول إمام الحرمين أقرب إلى التحقيق لأن نسبة الأثر إلى المؤثر القريب لا تنافي كون ذلك المؤثر منسوبا إلى أثر آخر بعيد، ثم إلى أبعد إلى أن ينتهي إلى مسبب الأسباب وفاعل الكل ومبدأ المبادئ وإليك الاختيار بعقلك دون هواك. التأويل: من قوله وَإِذِ ابْتَلى البلاء للولاء كاللهب للذهب فأصدقهم ولاء أشدهم بلاء وَإِذِ ابْتَلى الخليل بكلمات هي أحكام النبوة الخصال العشر في جسده ولوازم الرسالة الصبر عند صدمات المكروهات وفقدان المألوفات. وموجبات الخلة التبري عما سوى الخليل إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 78] وعداوة غير الخليل فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 77] ورفع الوسائط حيث قال له جبريل في الهواء هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا والتسليم أسلمت لرب العالمين، والرضا بما أمر به عند ذبح الولد فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103] بخلاف ما قال نوح إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود: 45] فلا جرم زيد له في الاصطفاء وشرف بكرامة الإمامة والاقتداء به وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ [البقرة: 125] بيت القلب كما جاء «أن الله تعالى أوحى إلى داود فرغ لي بيتا أسكن فيه فقال: وكيف يا رب؟ فقال: فرغ لي قلبك» أي جعلنا القلب الإنساني مثابة للناس ترجعون إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 يا طلابي وزواري كما ترجعون إلى الكعبة في الصورة، ومأمنا للسالك من تصرفات الشيطان ومكايده حين بلغ منزل القلب، لأن القلب خزانة الحق محروسة من دخول الشيطان. وإنما جولان لص الشيطان في ميادين الصدور كقوله يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس: 5] وَاتَّخِذُوا [البقرة: 125] عند الوصول إلى كعبة القلب مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ [البقرة: 125] وهو الخلة قبلة توجهكم ليكون قصدكم إلي لا إلى غيري كما قال إبراهيم إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [البقرة: 125] في الميثاق أَنْ طَهِّرا القلب من أدناس تعلقات الكونين وأوضار ملاحظة الأغيار لِلطَّائِفِينَ [البقرة: 125] وهي واردات الأحوال وَالْعاكِفِينَ [البقرة: 125] وهي الملكات والمقامات وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة: 125] وهي صفات القلب المطهرة من الإرادة والصدق والإخلاص والتواضع والخوف والرجاء والتسليم والرضا والتوكل. وجملة هذه الصفات العبودية وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ [البقرة: 126] الآية لما أهبط آدم الروح إلى الأرض الجسد وفقد ما كان يجد من روائح ألطاف الحق في جنة حظيرة القدس استوحش، فأنزل الله تعالى ياقوتة القلب من جنة حظيرة القدس له بابان شرقي إلى حظيرة رب العالمين تطلع منها شوارق الألطاف، وباب غربي إلى عالم الجسد وفيه قناديل العقل، وأنزل حجر الذرة المخاطبة بخطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] منورا بنور جواب بَلى قد ألقم كتاب العهد يوم الميثاق وهو يمين الله في أرضه، فلما كان طوفان آفات الصفات البشرية من الطفولية إلى البلوغ، وفار تنور الشهوات رفع بيت معمور القلب إلى السماء الرابعة يعني حجب أستار خواص العناصر الأربع، وخبىء حجر الذرة في أبي قبيس صفات النفس، فلما أمر إبراهيم الروح بعد البلوغ ببناء بيت القلب وعمارته من خمس أجبل أركان الإسلام وقد اهتدى إلى موضع بيت القلب بدلالة بيت السكينة هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [الفتح: 4] فجعل إسماعيل النفس المطمئنة يجيء بأحجار أعمال الشريعة من جبال أركان الإسلام ويناولها إبراهيم الروح وهو يبني إلى أن بلغ موضع الحجر فنودي من أبي قبيس الهوى إن لك عندي وديعة فخذها. فخلص حجر الذرة من أستار صفات النفس والهوى فوضعه مكانه، وكان أبيض فلما لمسته حيض اللذات الدنيوية ومشركو الشهوات النفسانية في جاهلية الطفولية اسودّ، فلما فرغا من رفع قواعد بيت القلب سألا ربهما الاستسلام لأحكامه الظاهرة الشرعية والباطنة التي جف القلم بها في الأزل، وكذا لذريتهما المتولدات من الصفات الروحانية والنفسانية وأن يبعث فيهم رسولا منهم لا من الخارج، فمن لم يكن له في القلب رسول وارد من الحق وهو السر لم يسمع كلام الرسول لخارجي. ثم إن إبراهيم الروح يوصي لمتولداته من القلب وصفاته والسر وصفاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 والنفس وصفاتها والقوى البشرية والحواس الخمس والأعضاء والجوارح كلها ملته. وفي الآيات إشارة إلى أنه تعالى إذا تجلى لروح عبد مخلص متضرع إليه محب له، ظهرت آثار أنوار تجليه على قلبه وسره ونفسه وقواه وحواسه وجميع أعضائه ويخضعون له بكليتهم فيعبدون إلها أحدا لا متفرقا من الهوى والدنيا والآخرة والله ولي التوفيق. [سورة البقرة (2) : الآيات 135 الى 141] وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) القراآت: أَمْ تَقُولُونَ بتاء الخطاب: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر والحماد والمفضل، الباقون: بياء الغيبة. الوقوف: تَهْتَدُوا (ط) الْمُشْرِكِينَ (هـ) ومِنْ رَبِّهِمْ (ج) لطول الكلام والاستئناف والأصح أنه حال أي آمنا غير مفرقين مِنْهُمْ (ج) لاحتمال الابتداء والحال أوجه مُسْلِمُونَ (هـ) اهْتَدَوْا (ج) لابتداء شرط آخر مع العطف شِقاقٍ ج للابتداء بسين الوعيد مع دخول الفاء فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ (ج) لاحتمال الواو الابتداء والحال الْعَلِيمُ (ط) لأن الجملة الناصبة لقوله صِبْغَةَ اللَّهِ محذوفة يدل عليها قوله آمَنَّا بِاللَّهِ وقوله فَإِنْ آمَنُوا شرط معترض صِبْغَةَ اللَّهِ (ج) لابتداء الاستفهام مع أن الواو للحال صِبْغَةَ (ج) على جعل الواو للابتداء أو للحال أو للعطف على آمنا عابِدُونَ (هـ) وَرَبُّكُمْ (ج) لأن الواو يصلح أن يكون عطفا على الحال الأولى ويصلح أن يكون مستأنفا أَعْمالُكُمْ (ج) مُخْلِصُونَ (ط) لمن قرأ أم يقولون بياء الغيبة، ومن قرأ بالتاء لم يقف لكون «أم» معادلة للهمزة في أَتُحَاجُّونَنا أَوْ نَصارى (ط) أَمِ اللَّهُ (ط) مِنَ اللَّهِ (ط) تَعْمَلُونَ (هـ) قَدْ خَلَتْ (ج) ما كَسَبْتُمْ (ج) يَعْمَلُونَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 التفسير: إنه تعالى لما بين بالدلائل المتقدمة صحة دين الإسلام، ذكر أنواعا من شبه الطاعنين منها: أن اليهود قالوا كُونُوا هُوداً تهتدوا، والنصارى قالوا كذلك، لما علم من التعادي بين الفريقين كما بين كل منهما وبين المسلمين وقد مر مثل هذا في قوله تعالى وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 111] فأجابهم الله بقوله قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي نكون أهل ملته مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] أي أهلها، أو بل نتبع ملة إبراهيم وقرىء بالرفع أي ملتنا أو أمرنا ملته أو نحن أهل ملته، وحنيفا حال من المضاف إليه كقولك «رأيت وجه هند قائمة» وذلك أن المضاف إليه متضمن للحرف فيقتضي متعلقا هو الفعل أو شبهه، وحينئذ يشتمل على فاعل ومفعول. فالحال عن المضاف إليه ترجع في التحقيق إلى الحال عن أحدهما وعند الكوفيين نصب على القطع أراد ملة إبراهيم الحنيف، فلما سقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منها فانتصب، والحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق، وتحنف إذا مال وحاصل الجواب أن المعوّل في الدين إن كان النظر والاستدلال فقد قدمنا الدلائل، وإن كان التقليد فالمتفق أولى من المختلف. وقد اتفق الكل على صحة دين إبراهيم فاتباعه أولى وهذا جواب إلزامي، ثم لما كان من المحتمل أن يزعم اليهود والنصارى أنهم على دين إبراهيم أزيحت علتهم بقوله وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لكون النصارى قائلين بالتثليث واليهود بالتشبيه، وأيضا قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله، فليسوا من ملة إبراهيم التي هي محض التوحيد وخالص الإسلام في شيء قُولُوا خطاب للمؤمنين، ويجوز أن يكون للكافرين أي قولوا لتكونوا على الحق وإلا فأنتم على الباطل، وكذلك قوله بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ يجوز أن يكون أمرا لهم أي اتبعوا ملة إبراهيم أو كونوا أهل ملته، وهذا جواب آخر برهاني، وذلك أن طريق معرفة نبوة الأنبياء ظهور المعجز على أيديهم، ولما ظهر المعجز على يد محمد صلى الله عليه وسلم وجب الاعتراف بنبوته والإيمان به وبما أنزل عليه كما اعترفوا بنبوة إبراهيم وموسى وعيسى، فإن تخصيص البعض بالقبول وتخصيص البعض بالرد يوجب المناقضة في الدليل وعن الحسن أن قوله قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ خطاب للنبي وقوله قُولُوا خطاب لأمته والظاهر العموم وإنما قدم الإيمان بالله لأن معرفة النبي والكتاب متوفقة على معرفته وفيه إبطال ما ذهب إليه التعليمية والمقلدة من أن طريق معرفة الله الكتاب والسنة، قال الخليل: الأسباط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب. وقيل: السبط الحافد، وكان الحسن والحسين سبطي النبي صلى الله عليه وسلم فهم حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر، عدّد بعض الأنبياء لتقدمهم وشرفهم ثم عمم لتعذر التفصيل. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 كأهل الكتاب. ومعنى الإيمان بجميعهم أن كلا منهم حق في زمانه أو لا نقول إنهم متفرقون في أصول الديانة شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: 13] وأحد في معنى الجماعة ولذلك صح دخول بين عليه وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ إذعانا وإخلاصا فلا جرم لا نخص بالقبول بعض عبيده المؤيدين بالمعجزات خلاف من كان إسلامه تقليدا أو هوى. ولما بين الطريق الواضح في الدين وهو أن يعترف الإنسان بنبوة كل من قامت الدلالة على نبوته من غير مناقضة، رغبهم في مثل هذا الإيمان، وهاهنا سؤال وهو أن دين الإسلام وهو الحق واحد فما معنى المثل في قوله بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ؟ والجواب أن قوله فَإِنْ آمَنُوا بكلمة الشك دليل على أن الأمر مبني على الفرض، والتقدير أي فإن حصلوا دينا آخر مثل دينكم ومساويا له في الصحة والسداد فَقَدِ اهْتَدَوْا لكن لا دين صحيحا سوى هذا لسلامته عن التناقض بخلاف غيره فلا اهتداء إلا بهذا، ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه «هذا هو الرأي الصواب فإن كان عندك رأي أصوب منه فاعمل به» وقد علمت أن لا أصوب من رأيك، ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه وقيل: الباء للاستعانة لا للإلصاق والتمثيل بين التصديقين أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم. وقيل: المثل صلة ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مسعود فإن آمنوا بما آمنتم به وقيل: معناه إنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف، فإن آمنوا هم بمثل ذلك في التوراة فقد اهتدوا لأنهم يتوسلون به إلى معرفة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وفي الآية دليل على أن الهداية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء وهي الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عن وجوهها، والاهتداء قبولها والعمل بها ليفوزوا بالسعادة العظمى. وإن تولوا عما قيل لهم ولم ينصفوا فما هم إلا في شقاق خلاف وعداوة وهو مأخوذ من الشق كأنه صار في شق غير شق صاحبه، أو من الشق لأنه فارق الجماعة وشق عصاهم، أو من المشقة لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه، وفي وصف القوم بذلك دليل على معاداتهم الرسول وإضمارهم له كل سوء وتربصهم به الإيقاع في المحن، فلا جرم آمنه الله تعالى والمؤمنين من كيدهم وقال فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وناهيك به من كاف كافل. ومعنى السين أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين وذلك أن فيها معنى التوكيد لوقوعها في مقابلة «لن» قال سيبويه: لن أفعل نفى سأفعل، ولقد أنجز وعده عما قريب بقتل قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير وضرب الجزية عليهم، وهذا إخبار بالغيب وكم من مثله في القرآن وكل ذلك مما يتأكد به إعجاز التنزيل العزيز وحصوله بطريق الوحي الصراح وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي يسمع دعاءك ويعلم نيتك في أعلاء كلمة الحق وإعلانها فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 يستجيب لك لا محالة، ووعيد لأعدائه أي هو منهم بمرأى ومسمع يعلم ما يسرون من الحسد والحقد والغل فيكافئهم على ذلك صِبْغَةَ اللَّهِ مصدر مؤكد منتصب عن قوله آمَنَّا بِاللَّهِ مثل وعد الله قاله سيبويه وقيل: بدل من مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أو نصب على الإغراء أي عليكم صبغة الله، وفيما فك لنظم الكلام وإخراج له عن الالتئام. والصبغة فعلة من صبغ للحالة التي يقع عليها الصبغ كالجلسة. والمعنى تطهير الله لأن الإيمان يطهر النفس. وأصله أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه بالمعمودية ويقولون هو تطهير لهم وبه يصير الواحد منهم نصرانيا حقا، فأمر المسلمون أن يقولوا لهم آمنا وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتكم، وذلك على طريق المشاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار اغرس كما يغرس فلان تريد رجلا يصطنع الكرام، ونظيره قوله إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] وقيل: اللفظة من قولهم «فلان يصبغ فلانا في الشر» أي يدخله فيه ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازما للثوب. وقيل: سمي الدين صبغة لظهور هيئته عند صاحبه. سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح: 29] «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» وقيل: وصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله ليبين أن المباينة بينه وبين غيره ظاهرة جلية يدركها كل ذي حس سليم كما يدرك الألوان. وقيل: صبغة الله فطرته. أقول: وذلك أن آثار النقص الإمكاني لازمة للإنسان لزوم الصبغ للثوب، فيمكنه أن يتدرج منها إلى وجود الصانع والإيمان به. وقيل: صبغة الله الختان. وقيل: حجة الله. وقيل: سنة الله. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً معنى الاستفهام الإنكار وصبغة تمييز أي لا صبغة أحسن من الإيمان بالله والدين الذي شرع لكم ليطهركم به من أوضار الكفر وأوزار الشرك. وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ عبارة عن كمال الإيمان كما تقدم مرارا. قُلْ أَتُحَاجُّونَنا أما المحاجة فهي إما قولهم نحن أحق بأن تكون النبوة فينا لأنا أهل الكتاب والعرب عبدة أوثان، وإما قولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] وقولهم كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا وأما الخطاب فإما لأهل الكتاب وإما لمشركي العرب حيث قالوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] وإما للكل والمعنى، أتجادلون في شأن الله أو في دينه وهو ربنا وربكم وللرب أن يفعل بمربوبه ما يعلم فيه مصلحته ويعرفه أهلا له، عبيده كلهم فوضى في ذلك لا يختص به عجمي دون عربي وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ فكما أن لكم أعمالا ترجون نيل الكرامة بها فنحن كذلك، فالعمل هو الأساس وبه الاعتبار ولكن نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ موحدون لا نقصد بالعبادة أحدا سواه، فلا يبعد أن يؤهل أهل إخلاصه بمزيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 الكرامة من عنده. أَمْ تَقُولُونَ من قرأ بتاء الخطاب احتمل أن تكون «أم» منقطعة بمعنى استئناف استفهام آخر أي بل أتقولون والهمزة للإنكار كما في أَتُحَاجُّونَنا واحتمل أن تكون متصلة بمعنى أي الأمرين تأتون المحاجة في حكمة الله أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء إنكارا عليهم واستجهالا لهم بما كان منهم. وعن الزجاج: بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا، أبالتوحيد فنحن موحدون، أم باتباع دين الأنبياء فنحن متبعون؟ ومن قرأ بياء الغيبة فلا تكون إلا منقطعة لانقطاع الاستفهام الأول بسبب الالتفات. قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ بل الله أعلم وخبره أصدق، وقد أخبر في التوراة والإنجيل والقرآن بأن إبراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما، وكيف لا وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده؟ ولأنهم مقرون بأن الله أعلم، وقد أخبر بنقيض ما ادعوه فإن قالوا ذلك عن ظن فقد بان لهم خطؤه، وإن قالوا ذلك عن جحود وعناد فما أجهلهم وأشقاهم، فإذن فائدة الكلام إما التنبيه وإما التجهيل. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ قوله مِنَ اللَّهِ إما أن يتعلق بأظلم والمعنى لو كان إبراهيم وبنوه هودا أو نصارى، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم شهادة أظلم منه لأن الظلم من الأعدل أشنع، وإما أن يتعلق بكتم أي لا أحد أظلم ممن عنده شهادة، ثم إنه لم يقمها عند الله وكتمها وأخفاها منه وإما أن يتعلق بشهادة كقولك «عندي شهادة من فلان» ومثله بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ والمعنى ليس أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده جاءته من الله، وفيه إشارة إلى أن المؤمنين لم يكتموا ما عندهم من الحق وشهدوا لإبراهيم بالحنيفية، وتعريض بأن أهل الكتاب قد كتموا شهادات الله فأنكروا نبوة محمد وحنيفية إبراهيم وغير ذلك من تحريفاتهم. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ كلام جامع لكل وعيد لهم ولأضرابهم، ولو أن أحدا كان عليه رقيب من قبل ملك مجازي لكان دائم الحذر والوجل، فكيف بالرقيب القريب الذي يعلم أسراره وبعد عليه أنفاسه وأفكاره ثم هو يقدر على أن يدخله جنته أو ناره؟ تِلْكَ أُمَّةٌ إشارة إلى إبراهيم وبنيه. كما مر، وإنما أعيدت الآية هاهنا لغرض آخر وهو زجرهم عن الاشتغال بوصف ما عليه الأمم السالفة من الدين فإن أديانهم لا تنفع إلا إياهم لاندراس آثارها وانطماس أنوارها، وأما الآن فالدين هو الإسلام الثابت بالدليل القاطع والبرهان البين فيجب اتباع المعلوم واقتفاؤه وإلقاء المظنون وإلغاؤه، ولا يسأل المتأخر عن المتقدم ولا المحسن عن المسيء وكل بعمله مجزي. تم الجزء الأول، ويليه الجزء الثاني أوله: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الثاني من أجزاء القرآن الكريم [سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 152] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) القراآت: مَنْ يَشاءُ إِلى بهمزتين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. الباقون يشاء ولى بقلب الثانية واوا. وروى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة يشاو إلى بقلب الأولى واوا لَرَؤُفٌ مهموزا مشبعا: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص والمفضل والبرجمي. وقرأ يزيد بتليين الهمزة والإشباع. الباقون: لَرَؤُفٌ على وزن «الرعف» .. يَعْمَلُونَ وَلَئِنْ بياء الغيبة: ابن كثير ونافع وخلف وعاصم وأبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 عمرو ويعقوب، الباقون: بالتاء مولاها بالألف: ابن عامر والباقون: بالباء وكسر اللام يَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ بياء المغايبة: أبو عمرو. الباقون: بالتاء ليلا مدغمة غير مهموزة عن ورش، وعن ابن كثير وحمزة وعلي وخلف ويعقوب مدغما مهموزا. الباقون: مظهرا مهموزا، والاختيار عن يعقوب وهشام الإظهار. فَاذْكُرُونِي بفتح الياء: ابن كثير. الوقوف: عَلَيْها ط الْمَغْرِبُ ط مُسْتَقِيمٍ هـ شَهِيداً ط عَقِبَيْهِ ط هَدَى اللَّهُ ط إِيمانَكُمْ ط رَحِيمٌ هـ فِي السَّماءِ ج لأن الجملتين وإن اتفقتا فقد دخل الثانية حرفا توكيد يختصان بالقسم والقسم مصدّر تَرْضاها ص لأن فاء التعقيب لتعجيل الموعود الْحَرامِ ط شَطْرَهُ ط مِنْ رَبِّهِمْ ط يَعْمَلُونَ هـ قِبْلَتَكَ ج قِبْلَتَهُمْ ج وكلاهما لتفصيل الأحوال مع اتحاد المقصود قِبْلَةَ بَعْضٍ ط مِنَ الْعِلْمِ لا لأن «ان» جواب معنى القسم في «لئن» ، فلو فصل كان لَمِنَ الظَّالِمِينَ مطلقا وفي الإطلاق حظر الظَّالِمِينَ هـ م لانه لو وصل صار «الذين» صفة وهو مبتدأ في مدح عبد الله ابن سلام وأضرابه أَبْناءَهُمْ ط يَعْلَمُونَ هـ الْمُمْتَرِينَ هْ خَيْراتِ طمِيعاً طدِيرٌ هـ الْحَرامِ (ط) مِنْ رَبِّكَ ط تَعْمَلُونَ هـ الْحَرامِ ط لأن «حيث» متضمن الشرط شَطْرَهُ لا لتعلق لام في حُجَّةٌ ط قبل تحرزا عن إثبات الحجة بعد النفي والوصل هـ في العربية أوضح، ولا منافاة لأن المراد من الحجة الخصومة وبيان الحق لا ينافي الخصومة تَهْتَدُونَ إذا علق كَما أَرْسَلْنا بما قبله ووقف على تَعْلَمُونَ وإن علق بما بعده وقف على تَهْتَدُونَ دون تَعْلَمُونَ تَعْلَمُونَ هـ وَلا تَكْفُرُونِ هـ. التفسير: هذه شبهة ثانية من أهل الكتاب طعنا في الإسلام. قالوا: النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل لأن الأمر إن كان خاليا عن القيد كفى فعله مرة واحدة، فلا يكون ورود الأمر بعده على خلافه ناسخا مقيدا. وإن كان مقيدا بالدوام فكذلك، وإن كان مقيدا بالدوام فإن كان الآمر يعتقد دوامه ثم رفعه كان جهلا وبداء، وإن كان عالما بلا دوامه كان تجهيلا، وكل هذه من الحكيم قبيح. ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة، وهو أنّا إذا جوزنا النسخ عند اختلاف المصالح فههنا لا مصلحة فإن الجهات متساوية وهذا دليل على أن هذا التغيير ليس من عند الله. قال القفال: لفظ سَيَقُولُ وإن كان للاستقبال لكنه قد يستعمل في الماضي كالرجل يعمل عملا فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول: أنا أعلم أنهم سيطعنون فيّ. كأنه يريد أنه إذا ذكر مرة فسيذكرونه مرات أخرى، ويؤيد ذلك ما ورد من الأخبار أنهم لما قالوا ذلك نزلت الآية. والمشهور أن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 الكلام أنهم سيذكرونه، وفيه فوائد منها: أنه إخبار بالغيب فيكون معجزا. ومنها أن مفاجأة المكروه أشد مما إذا وطن النفس له. ومنها أن الجواب العتيد أقطع للخصم وقبل الرمي يراش السهم، والسفهاء الخفاف الأحلام وإذا كان من لا يميز بين ما له وعليه في أمر دنياه يعدّ سفيها شرعا، فالذي يضيع أمر آخرته أولى بهذا الاسم. عن ابن عباس ومجاهد: هم اليهود، ذلك أنهم كانوا يأنسون بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم في القبلة، فلمّا تحول استوحشوا لا سيما وأنهم لا يرون النسخ. وعن البراء بن عازب والحسن الأصم: أنهم مشركو العرب قالوا: أبى إلّا الرجوع إلى موافقتنا ولو ثبت عليه أولا كان أولى به. وقيل: هم المنافقون ذكروا ذلك استهزاء من حيث إن تميز بعض الجهات عن بعض ليس له دليل معقول فحملوا الأمر على العبث والعمل بالرأي والتشهي والأقرب أن يكون الكل داخلا فيه، لأن الأعداء جبلت على الغيظ وطلب التشفي، فإذا وجدوا مجالا لم يتركوا مقالا ما وَلَّاهُمْ ما صرفهم استفهموا على جهة التعجب والاستهزاء عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها القبلة بيت المقدس، وضمير الجمع للرسول والمؤمنين هذا هو المجمع عليه عند المفسرين، ولولا الإجماع لاحتمل أن يعود الضمير في «كانوا» إلى «السفهاء» أي ما الذي صرف الرسول والمؤمنين عن القبلة التي كان السفهاء عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلّا قبلة اليهود وهي إلى المغرب وقبلة النصارى وهي إلى المشرق؟ فكأنهم قالوا: كيف يتوجه أحد إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين؟ فاجابهم الله عن شبهتهم بقوله قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي بلادهما، والأرض كلها والجهات بأسرها ملكا وملكا، ثم أكد ذلك بقوله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو القبلة التي اقتضت الحكمة في هذا الزمان توجيه الناس إليها ويحتمل أن يراد به الطريقة المؤدية إلى سعادة الدارين فيشتمل القبلة وغيرها. وحاصل الجواب بعد ما مر في آية النسخ أنه تعالى فاعل لما يشاء كما يشاء، لا اعتراض لأحد عليه كما لا اعتراض على من يتصرف في ملكه كما يريد، وأفعاله تعالى لا تعلل بغرض وإن كانت لا تخلو عن فائدة وحكمة كما سبق، وكثير منها مما لا يهتدي عقول البشر إلى تفاصيل حكمها لكنهم قد يستنبطون بحسب أفهامهم لبعضها وجوها مناسبة، أما تعيين القبلة في الصلاة فالحكمة فيه أن للإنسان قوة عقلية يدرك المجردات والمعقولات بها وقوة خيالية يتصرف بها في عالم الأجسام، وقلما تنفك العقلية عن الخيالية وإعانتها كالمهندس يضع في إدراك أحكام المقادير صورة معيّنة وشكلا معينا ليصير الحس والخيال معينين له على إدراك تلك الأحكام الكلية، وكالذي يريد أن يثني على ملك مجازي فإنه يستقبله بوجهه ثم يشتغل بالثناء والخدمة. فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلا للملك، والقراءة تجري مجرى الثناء عليه، والركوع والسجود جاريان مجرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 الخدمة. وأيضا الخشوع في الصلاة لا يحصل إلا مع السكون وترك الالتفات، ولا يتأتى ذلك إلّا إذا بقي في جميع صلاته مستقبلا لجهة واحدة على التعيين. وإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف في الأوهام فاستقباله أولى. وأيضا إنه تعالى يحب الموافقة والألفة بين المؤمنين وقد من عليهم بذلك وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [آل عمران: 103] . وتوجه كل مصل إلى أي جهة تتفق مظنة الاختلاف فلم يكن بد من تعيين جهة ليحصل الاتفاق. وأيضا كأنه تعالى يقول: يا مؤمن أنت عبد، والكعبة بيتي، والصلاة خدمتي، وقلبك عرشي، والجنة دار كرامتي، فاستقبل بوجهك إلى بيتي وبقلبك إليّ، أبوئك دار كرامتي. وأيضا اليهود استقبلوا مغرب الأنوار وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ [القصص: 44] . والنصارى استقبلوا مطلع الأنوار إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا [مريم: 16] فالمؤمنون استقبلوا مظهر الأنوار وهو مكة، فمنها محمد ومنه خلق الأنوار ولأجله دار الفلك الدوّار. وأيضا المغرب قبلة موسى، والمشرق قبلة عيسى، وبينهما قبلة إبراهيم ومحمد، وخير الأمور أوسطها وأيضا الكعبة سرة الأرض ووسطها، وأمة محمد وسط وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً. والوسط بالوسط أولى الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ [النور: 26] . وأيضا العرش قبلة الحملة، والكرسي قبلة البررة، والبيت المعمور قبلة السفرة، والكعبة قبلة المؤمنين، والحق قبلة المتحيرين فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ والعرش مخلوق من النور، والكرسي من الدر، والبيت المعمور من الياقوت، والكعبة من جبال خمسة: سينا وزيتا وجوديّ ولبنان وحراء. كأنه قال: إن كان عليك مثل هذه الجبال ذنوبا فأتيت الكعبة حاجا أو معتمرا أو توجهت مصليا الصلوات الخمس غفرتها لك. وأيضا لما كان بناء هذا البيت سببا لظهور دولة العرب كانت رغبتهم في توجهها أشد وأيضا اليهود كانوا يعيرون المسلمين بأنا قد أرشدناكم إلى القبلة وينكسر بذلك قلوب المسلمين. فأزيل تشويشهم، وأيضا الكعبة منشأ محمد، فتعظيمها يقتضي تعظيمه، وتعظيمه مما يعين على قبول أوامره ونواهيه، فبمقدار حشمة المرء يكون قبول قوله. فهذه هي الوجوه المناسبة، والوجه الأقوى هو الذي ذكره الله تعالى في قوله وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وقوله وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ الكاف للتشبيه، وفي اسم الإشارة وجوه. فقيل: راجع إلى معنى يهدي أي كما أنعمنا عليكم بالهداية كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم، أو كما هديناكم إلى أوسط البقلة جعلناكم أمة وسطا. وقيل: عائد إلى قوله وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ [البقرة: 130] . أي كما اصطفينا إبراهيم في الدنيا جعلناكم. وقيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 ينصرف إلى قوله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي كما خصصنا بعض الجهات المتساوية بمزيد التشريف والتكريم حتى صارت قبلة فضلا منا وإحسانا، جعلناكم مختصين بالعدالة برا منا وامتنانا مع تساوي الخلق في العبودية. وقيل: قد يذكر ضمير الشيء وإن لم يكن المضمر مذكورا إذا كان المضمر مشهورا معروفا مثل إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ثم من المشهور المعروف عند كل أحد أنه سبحانه هو القادر على إعزاز من يشاء وإذلال من يشاء، فالمعنى ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد غيري جعلناكم أمة وسطا. الجوهري: يقال جلست وسط القوم بالتسكين لأنه ظرف، وجلست وسط الدار بالتحريك لأنه اسم، وكل موضع صلح فيه بين فهو وسط، وإن لم يصلح فيه بين هو وسط بالتحريك. قال: والوسط من كل شيء أعدله، وشيء وسط أي بين الجيد والرديء، وأمة وسطا أي عدولا قال زهير: همو وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم وذلك أن العدل متوسط في الأخلاق بين طرفي الإفراط والتفريط، ولهذا ذكره الله تعالى في معرض المدح والامتنان. وقيل: الوسط الخيار لأنه يستعمل في الجمادات. قال في الكشاف: اكتريت بمكة جمل أعرابي فقال: أعطني من سطاتهن- أراد من خيار الدنانير- ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] وإنما أطلق الوسط على الخيار لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والعيب، والأوساط محمية محوطة. وقيل: المراد بالوسط هاهنا أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرّط والغالي والمقصر في شأن الأنبياء لا كالنصارى حيث جعلوا النبي صلى الله عليه وسلم ابنا وإلها، ولا كاليهود حيث قتلوا الأنبياء وبدلوا الكتب، ولأن الوسط في الأصل اسم وصف به استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ الأكثرون على أن هذه الشهادة في الآخرة إما بأن يكونوا شهداء للأنبياء على أممهم الذين يكذبونهم. روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء يوم القيامة فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا- وهو أعلم- فيؤتى بأمة محمد فيشهدون فيقول الأمم: من أين عرفتم؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق. فيؤتى بمحمد فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله تعالى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] قلت: والحكمة في ذلك تمييز أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الفضل عن سائر الأمم حيث يبادرون إلى تصديق الله تعالى وتصديق جميع الأنبياء والإيمان بهم جميعا، فهم بالنسبة إلى غيرهم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق، ولذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 تقبل شهادتهم على الأمم، ولا تقبل شهادة الأمم عليهم. وإنما سمي هذا الإخبار شهادة لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا علمت مثل الشمس فاشهد» . والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه معلوم مثل الشمس فتصح الشهادة عليه، وإما بأن يشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها. قال ابن زيد: الأشهاد أربعة: الملائكة الحفظة وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 21] والنبيون وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وأمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر: 51] والجوارح يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ [النور: 24] . وقيل: إن هذه الشهادة في الدنيا، وذلك أن الشاهد في عرف الشرع من يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة، فكل من عرف حال شخص فله أن يشهد عليه فإن الشهادة خبر قاطع، وشهادة الأمة لا يجوز أن تكون موقوفة على الآخرة لأن عدالتهم في الدنيا ثابتة بدليل جَعَلْناكُمْ بلفظ الماضي، فلا أقل من حصولها في الحال. ثم رتب كونهم شهداء على عدالتهم، فيجب أن يكونوا شهداء في الدنيا. وإن قيل: لعل التحمل في الدنيا ولكن الأداء في الآخرة. قلنا: المراد في الآية الأداء لأن العدالة إنما تعتبر في الأداء لا في التحمل، ومن هنا يعلم أن إجماعهم حجة لا بمعنى أن كل واحد منهم محق في نفسه، بل بمعنى أن هيئتهم الاجتماعية تقتضي كونهم محقين، وهذا من خواص هذه الأمة، ثم لا يبعد أن يحصل مع ذلك لهم الشهادة في الآخرة فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمل لأنهم إذا بينوا الحق عرفوا عنده من القابل ومن الراد، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة كما أن الشاهد على العقود يعرف ما الذي تم وما الذي لم يتم ثم يشهد بذلك عند الحاكم، أو يكون المعنى لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلّا بشهادة العدول الأخيار، ويكون الرسول عليكم شهيدا يزكيكم ويعلم بعدالتكم. وإنما قدمت صلة الشهادة في الثاني لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم فقط، فبقيت صلة الشهادة في مركزها. والغرض في الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم فأزيلت عن مركزها ليفيد الاختصاص. وإنما لم يقل لكم شهيدا مع أن شهادته لهم لا عليهم، لأنه ضمن معنى الرقيب مثل وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة: 6] مع رعاية الطباق للأول. وإنما قيل «شهداء على الناس في الدنيا» لأن قولهم يقتضي التكليف إما بفعل أو بقول وذلك عليهم لا لهم في الحال. قيل: الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد منهم بها وليس كذلك، فلا بد من حملها على البعض. فنحن نحملها على الأئمة المعصومين سلمناه لكن الخطاب في جَعَلْناكُمْ للموجودين عند نزول الآية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 لأن خطاب من لم يوجد محال. فالآية تدل على أن إجماع أولئك حق لكنا لا نعلم بقاء جميعهم بأعيانهم إلى ما بعد وفاة الرسول فلا تثبت صحة الإجماع وقتئذ. سلمنا ذلك لكن المراد بالعدالة اجتناب الكبائر فقط، فيحتمل أن الذي اجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم وعدالتهم. وأجيب بأن حال الشخص في نفسه غير حاله بالقياس إلى غيره، فلم يجوز أن يكون الشخص غير مقبول القول عند الانفراد ويكون مقبولا عند الاجتماع؟ والخطاب لجميع الأمة من حين نزول الآية إلى قيام الساعة كما في سائر التكاليف مثل كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما [البقرة: 183] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [البقرة: 178] فللموجودين بالذات وللباقين بالتبعية، لكنا لو اعتبرنا أوّل الأمة وآخرها بأسرها لزالت فائدة الآية إذا لم يبق بعد انقضائها من تكون الآية حجة عليه، فعلمنا أن المراد به أهل كل عصر. ثم إن الله تعالى منّ على هذه الأمة بأن جعلهم خيارا أو عدولا عند الاجتماع، فلو أمكن اجتماعهم على الخطأ لم يبق بينهم وبين سائر الأمم فرق في ذلك فلا منة. وَما جَعَلْنَا يريد الجعل بمعنى الشرع والحكم. الَّتِي صفة موصوف محذوف هو ثاني مفعولي «جعل» أي وما جعلنا القبلة أي الجهة التي كنت عليها أي كنت معتقدا لاستقبالها كقولك «الشافعي على كذا» ثم هاهنا وجهان: أحدهما أن هذا الكلام بيان للحكمة في جعل الكعبة قبلة وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود وامتحانا للذين اتّبعوه بمكة، ثم حول إلى الكعبة اختبارا ثانيا أي ما رددناك إلى الجهة التي كنت عليها أولا إلا امتحانا للناس وابتلاء وثانيهما أنه بيان للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة، يعني أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة وأن استقبالك بيت المقدس كان أمرا عارضا لفائدة هي أن نمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول ومن لا يتبعه. واللام في لِنَعْلَمَ ليست لأجل الغرض وإنما هي لتقرير الحكمة والفائدة التي يستتبعها الجعل. فإن قيل: كيف؟ قال لِنَعْلَمَ ولم يزل عالما بذلك؟ فالجواب أن معناه ليعلم حزبنا من النبي والمؤمنين كما يقول الملك: فتحنا البلد. وإنما فتحه جنده أو لنعلمه موجودا حاصلا وهو العلم الذي يتعلق به الجزاء. ولا يلزم منه أن يحدث لله علم فإن العلم الأزلي بالحادث الفلاني في الوقت الفلاني غير متغير، وإنما هو قبل حدوث الحادث كهو حال حدوثه. وإنما جاء المضي والاستقبال من ضرورة كون الحادث زمانيا وكون كل زمان مكنوفا بزمانين: سابق ولا حق. فإذا نسبت العلم الأزلي إلى الزمان السابق قلت «سيعلم الله» وإذا نسبت إلى زمانه قلت «يعلم» وإذا نسبت إلى الزمان اللاحق قلت «قد علم» فجميع هذه التغيرات انبعثت من اعتباراتك، وعلم الله واحد فافهم. أو لنميز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 التابع من الناكص كقوله لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال: 37] فسمي التمييز علما لأنه أحد فوائد العلم وثمراته، أو لنرى كما تستعمل الرؤية مكان العلم. وعن الفراء: أن حدوث العلم في الآية راجع إلى المخاطبين ومثاله: أن جاهلا وعاقلا اجتمعا فيقول الجاهل: الحطب يحرق النار. ويقول العاقل: بل النار تحرق الحطب، وسنجمع بينهما لنعلم أيهما يحرق صاحبه، معناه لنعلم أينا الجاهل. وهذا من كلام المصنف مثل وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] وقوله مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ استعارة للكفر والارتداد كأنه يرجع إلى حيث أتى ثم إن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة. أو بسبب تحويلها من الناس، من قال بالأول لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى الكعبة، فلما جاء إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم، ثم لما تحول إلى الكعبة شق ذلك على اليهود. والأكثرون على الثاني لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم منها في تعيين القبلة، عن ابن جريج أنه قال: بلغني أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا مرة هاهنا ومرة هاهنا، ولو كان على يقين من أمر تغير رأيه. وعن السدي: لما توجه إلى الكعبة اختلفوا، قال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها؟ وقال المسلمون: ليتنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وقد صلوا نحو البيت المقدس. وقال آخرون: اشتاق إلى بلد أبيه ومولده. وقال المشركون: تحير في دينه. وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً هي «إن» المخففة التي يلزمها اللام الفارقة بينها وبين «إن» النافية، وتتهيأ بالتخفيف للدخول على الأفعال. لكن البصريين أوجبوا كون الفعل الذي دخلت هي عليه من باب «كان» أو «علم» ويبطل عمل «إن» في الظاهر، وكذا في التقدير، فلا يقدر ضمير الشأن كما يقدر في «أن» المفتوحة إذا خففت، فقوله لَكَبِيرَةً خبر «كانت» واسمها الضمير العائد إلى القبلة لأنها هي المذكورة، أو إلى ما دل عليه الكلام السابق من التولية في ما وَلَّاهُمْ أو الجعلة، أو الردة، أو التحويلة في وَما جَعَلْنَا ومعنى لكبيرة لثقيلة شاقة مستنكرة كقوله كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وذلك أن الامتحان إن وقع بنفس القبلة فالفطام عن المألوف شديد والإعراض عن طريقة الآباء والأسلاف عسير، وإن وقع بالتحويل فهو مبني على جواز النسخ وفيه ما فيه من الشبه والإشكال فيصعب اعتقاد حقيقته إلا على الذين هدى الله. الراجع محذوف أي هداهم الله إلى الثبات على دين الإسلام بأن نصب لهم الدلائل أولا، ثم جعلهم منتفعين بها ثانيا، وإلا فالدلالة عامة للكل وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ الخطاب للمؤمنين المعاصرين، واللام لتأكيد النفي الداخل في «كان» ينتصب المضارع بعدها بتقدير «أن» أي لن يضيع الله ثواب ثباتكم على الإيمان، وأنكم لم تزلوا ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 ترتابوا، بل شكر صنيعكم وأعدّ لكم الثواب الجزيل عن الحسن. وقال ابن زيد: ما كان الله ليترك تحويلكم من بيت المقدس إلى الكعبة لعلمه بأن تقريركم على ذلك مفسدة لكم وإضاعة لصلواتكم، أي لثوابها. أطلق الإيمان على الصلاة لأنها أعظم آثار الإيمان وأشرف نتائجه، أو لأن المراد لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة. وعن ابن عباس: لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فنزلت. وإنما خوطبوا تغليبا للأحياء مثل وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [البقرة: 72] وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة: 50] والمراد أهل ملتهم. وليس هذا السؤال من الشك في حقية النسخ في شيء وإنما هو لأجل الاطمئنان وازدياد اليقين ولعلهم إنما خصوا السؤال بالأموات لأنهم ظنوا أنفسهم مستغنين عن ذلك حيث تقع صلاتهم إلى الكعبة بقية عمرهم مكفرة لما سلف منهم، فأجيبوا بما يخرج عنه جواب الأموات والأحياء جميعا، فإن المنسوخ حق في وقته كما أن الناسخ حق في وقته، سواء عمل المكلف بهما في وقتيهما أو لم يعمل إلا بالمنسوخ لانقضاء أجله قبل الناسخ. وجوز بعضهم أن يكون السؤال صادرا عن منافق فنبه الله المسلمين على الجواب. وقيل: بل المعنى وفقتكم لقبول هذا التكليف لئلا يضيع إيمانكم، فإنهم لو ردوا هذا التكليف لكفروا. يحكى عن الحجاج أنه قال للحسن: ما رأيك في أبي تراب؟ فقرأ قوله إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ثم قال: وعلي منهم وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته وأقرب الناس إليه وأحبهم إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ الجوهري: الرأفة أشد الرحمة. رؤفت به أرؤف بالضم فيهما رأفة ورافة ورأفت به أرأف بالفتح فيهما. ورئفت به بالكسر رأفا والصفة رؤوف ورؤف على «فعول» و «فعل» وقيل: الرحمة تقع في الكراهة للمصلحة، والرأفة لا تكاد تكون في الكراهة، وقيل: الرأفة مبالغة في رحمة خاصة هي دفع المكروه وإزالة الضرر قال وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ [النور: 2] . والرحمة اسم جامع خصص أولا ثم عمم. والمراد أن الرؤوف الرحيم كيف يتصور منه الإضاعة، أو كيف لا ينقلكم من شرع إلى شرع هو أصلح لكم وإنما هدى من هدى لأنه بالناس رؤف رحيم، فمن كان أقبل للفيض كان الأثر عليه أظهر. قوله عز من قائل قَدْ نَرى معناه كثرة الرؤية هاهنا وإن كان في الأصل للتقليل قال: قد أترك القرن مصفرا أنامله ... كأن أثوابه مجت بفرصاد كما أن «رب» في الأصل للتقليل، ثم قد تستعمل في معنى التكثير كقوله «فإن تمس مهجور الفناء فربما» . أقام به بعد الوفود وفود. ووجه ذلك أن المادح يستقل الشيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 الكثير من المدائح لأن الكثير منها كأنه قليل بالنسبة إلى الممدوح ومثله قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ فإن المتمدح بكثرة العلم يقول لا تنكر أن أعرف شيئا من العلم. تَقَلُّبَ وَجْهِكَ تردد نظرك في جهة السماء وذلك لانتظار تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. عن ابن عباس أنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود الى غيرها فقد كرهتها. فقال له جبريل عليه السلام: أنا عبد مثلك فسل ربك ذلك. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء مجيء جبريل بما سأل فنزلت. وإنما أحب ذلك لأن اليهود كانوا يقولون: إنه يخالفنا ثم إنه يتبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل أو لأن الكعبة كانت قبلة أبيه إبراهيم ولأن ذلك أدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم، ولأنه أحب أن يحصل هذا الشرف للمسجد الذي في بلدته ومنشئه، ولا يبعد أن يميل طبعه إلى شيء ثم يتمنى في قلبه إذن الله فيه. وقيل: إنه استأذن جبريل في أن يدعو الله تعالى فأخبره بأن الله قد أذن له في الدعاء، فكان يقلب وجهه في السماء ينتظر مجيء جبريل للإجابة. وعن الحسن: أن جبريل أخبره بأن الله تعالى سيحوّل القبلة عن بيت المقدس من غير تعيين للمحول إليها- ولم تكن قبلة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة- فكان ينتظر الوحي بذلك وعلى هذا فقيل: منع من استقبال بيت المقدس ولم يعين له القبلة وكان يخاف أن يدخل وقت الصلاة ولا قبلة، فلذلك كان يقلب وجهه عن الأصم. وقيل: بل وعد بذلك. وقبلة بيت المقدس باقية بحيث تجوز الصلاة إليها لكن لأجل الوعد كان يقلب طرفه وهذا وإلا لم تكن القبلة ناسخة للأولى بل كانت مبتدأة، لكن المفسرين أجمعوا على أنها ناسخة للأولى، لأنه لا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلا مع بيان موضع التوجه. واختلف في صلاته بمكة فقيل: كان يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر أو ثلاثة عشر أو ستة عشر أو سبعة عشر- وهو الأكثر- أو ثمانية عشر أو سنتين أقوال. وقيل: بل كان بمكة يصلي إلى بيت المقدس إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس. واختلفوا أيضا في أن توجه بيت المقدس هل كان فرضا لا يجوز غيره أو كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرا في توجهه إليه وإلى غيره. فعن الربيع بن أنس أنه كان مخيرا لقوله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة: 115] الآية. ولما روي أن قوما قصدوا الرسول من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة فتوجه بعضهم في الطريق لصلاته إلى الكعبة وبعضهم إلى بيت المقدس، فلما قدموا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فلم ينكر عليهم. وعن ابن عباس أن ذلك كان فرضا لقوله فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فدل على أنه ما كان مخيرا بينها وبين الكعبة. ومعنى «فلنولينك» فلنعطينك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 ولنمكننك من استقبالها من قولهم «وليته كذا» جعلته واليا له، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس. ترضاها تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته. وعن الأصم: كل جهة وجهك الله إليها يجب أن تكون رضا لا تسخطها كما فعل من انقلب على عقبيه. وقيل: ترضى عاقبتها لأنك تميز بها الموافق عن المنافق. فَوَلِّ وَجْهَكَ أي كل بدنك لأن الواجب على الشخص أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط. وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء وبه تتميز الأشخاص. وشطر المسجد الحرام أي نحوه وجهته قاله جمهور المفسرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وعن بعضهم أن الشطر نصف الشيء والكعبة واقعة من المسجد في النصف من جميع الجوانب، فاختبر هذه العبارة ليعرف أن الواجب هو التوجه إلى بقعة الكعبة، وزيف بالفرق بين النصف وبين المنتصف والمكلف مأمور بالثاني دون الأول. عن ابن عباس: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن النبي قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وفي الموطأ: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قدم المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس ثم حوّلت القبلة قبل بدر بشهرين. واختلفوا في المراد بالمسجد الحرام. ففي شرح السنة عن ابن عباس أنه قال: البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب، وهذا قول مالك. وقال آخرون: القبلة هي الكعبة لما أخرج في الصحيحين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة بن زيد قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال: هذه القبلة. وقد وردت أخبار كثيرة في صرف القبلة إلى الكعبة كما قلنا في حديث ابن عمر، فاستداروا إلى الكعبة. وقال آخرون: القبلة هي المسجد الحرام كله. واعلم أن الواجب عند الشافعي في أظهر قوليه أن يستقبل المصلي عين الكعبة قريبا كان أو بعيدا لظاهر قوله تعالى وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ولقوله صلى الله عليه وسلم: «هذه القبلة» مشيرا به إلى العين، ولأن تعظيم الكعبة من النبي صلى الله عليه وسلم بلغ مبلغ التواتر. وتوقيف صحة الصلاة وهي من أعظم شعائر الدين على استقبال عين الكعبة مما يوجب مزيد شرف الكعبة، فوجب أن يكون مشروعا. ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم وغيره مشكوك فيه والأخذ بالمعلوم أحوط. وأما عند أبي حنيفة ويوافقه القول الآخر للشافعي، فمحاذاة جهة الكعبة كافية لأن في استقبال عين الكعبة حرجا عظيما للبعيد، ولأن في ذكر المسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 الحرام دون الكعبة دلالة على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين، ولأن الشطر الجانب واكتفى به في الآية، ولأن أهل قباء استداروا إلى الكعبة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل ومن المعلوم أن مقابلة العين من المدينة إلى مكة حيث إنها تحتاج إلى النظر الدقيق لم يتأت لهم حينئذ، ثم لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وسمى مسجدهم بذي القبلتين، ولأن استقبال عين الكعبة لو كان واجبا ولا سبيل إليه إلا بالدلائل الهندسية فإنها هي المفيدة لليقين وغيرها من الأمارات لا يفيد إلا الظن، والقادر على اليقين لا يجوز له الاكتفاء بالظن وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لزم أن يكون تعلم تلك الدلائل واجبا، ولم يذهب إليه أحد والإنصاف أن القول الأول أقرب إلى التعبد، وإصابة العين للبعيد غير بعيد، فما من نقطتين في الأرض ولا في السماء إلا ويمكن أن يوصل بينهما بخط، والغرض أن يكون المصلي ساجدا على قوس عظيمة أرضية مارّة بقدميه وموضع سجوده ووسط البيت بشرط أن يكون القوس أقل من نصف الدور. وغير عسير معرفة هذا القدر بالدائرة الهندسية وغيرها من الطرق المشهورة فيما بين أهل الهيئة وقد برهنا على كثير منها في كتبنا النجومية، وذكرها هاهنا خروج عن الصناعة مع أن المتعلم لا ينتفع بها دون مقدماتها. ولمعرفة القبلة أمارات أخر قد يستعين بها المتحير وهي: إما أرضية وهي الجبال والقرى والأنهار، أو هوائية وهي الرياح، أو سماوية وهي النجوم. أما الأرضية والهوائية فغير مضبوطة لكن ربما يكون في الطريق جبل مرتفع يعلم أنه على يمين المستقبل أو شماله أو قدامه أو خلفه، وكذلك الرياح قد تهب في بعض النواحي من صوب معين، وأما السماوية ففي النهار لا بد أن يراعي قبل الخروج عن البلد، الشمس عند الزوال هي بين الحاجبين أم على العين اليمنى أم على اليسرى أم تميل ميلا أكثر من ذلك، فإن الشمس في البلاد الشمالية قلما تعد وهذه المواقع. وكذلك يراعى وقت العصر ويعرف وقت الغروب أنها تغرب عن يمين المستقبل أو هي مائلة إلى وجهه أو قفاه. وكذلك يعرف وقت العشاء الاخرة موضع الشفق، ووقت الصبح مشرق الشمس، ويحتاط في مشرق الصيف والشتاء ومغربها. وبالليل يستدل بالكوكب الذي يقال له «الجدي» فيعرف أنه على قفا المستقبل أو على منكبه الأيمن أو الأيسر في البلاد الشمالية من مكة وفي البلاد الجنوبية منها بخلاف ذلك. فإذا عرف هذه الدلائل في بلده فليعول عليها في الطريق كله إلا إذا طال السفر، فحينئذ إذا انتهى إلى بلد سأل أهل البصيرة أو يراقب هذه الكواكب وهو يستقبل محراب جامع البلد ثم يستدل بها في سائر طريقه. ومعرفة دلائل القبلة فرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 على العين أم فرض على الكفاية؟ أصح الوجهين في مذهب الشافعي الأول كأركان الصلاة وشرائطها. قوله تعالى وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ليس بتكرار لأن الأول الخطاب للرسول وهذا خطاب للأمة، أو لأن الأمة قد دخلت في الأول تبعا. واحتمل أيضا أن يكون الخطاب مختصا بأهل المدينة وفي الثاني عم المكلفين جميعا في جميع بقاع الأرض. واعلم أن الاستقبال يتوقف على مستقبل ومستقبل نحوه هو القبلة، ولا بد من حالة يقع فيها الاستقبال، فلنتكلم في هذه الأركان الثلاثة على الإجمال وتفصيل ذلك في كتبنا الفقهية. الركن الأول الحالة: وهي الصلاة للإجماع على أن الاستقبال خارج الصلاة غير واجب وإن كان طاعة لقوله صلى الله عليه وسلم «خير المجالس ما استقبل به القبلة» والصلاة إما فريضة ويتعين الاستقبال فيها إلا في حالة الخوف، وإما نافلة ويجب فيها الاستقبال إلا في حالة الخوف، وفي السفر راكبا أو ماشيا متوجها إلى طريقه لما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في السفر في راحلته حيث توجهت به. ويحكى عن أحمد خلاف في الماشي وكذا عن أبي حنيفة. وهل يجب على المتنقل أن يستقبل القبلة عند التحرم؟ الأصح نعم إن سهل بأن لم تكن مقطرة أو لاحران بها وإلا فلا، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر وأراد أن يتطوع استقبل القبلة بناقته وكبر ثم صلى حيث وجهه ركابه. وأم عدم الاشتراط عند الصعوبة فلدفع المشقة واختلال أمر السير عليه، وأما الاستقبال عند السلام فالأصح أنه لا يشترط كما في سائر الأركان إلا الماشي فعليه الاستقبال في كل ركوع وسجود كما عليه الإتمام بخلاف الراكب فإنه لا يكلف الاستقبال فيهما ولا وضع الجبهة في السجود على السرج أو الإكاف، بل يقتصر فيهما على الإيماء ويجعل السجود أخفض. وليس لراكب التعاسيف الذي لا مقصد له رخصة ترك الاستقبال في التنقل. الركن الثاني القبلة: للمصلي إن وقف في جوف الكعبة وهي على هيئتها مبنية تصح صلاته فريضة كانت أو نافلة خلافا لأحمد ومالك في الفريضة. قيل لنا إنه صلى متوجها إلى بعض أجزاء الكعبة فتصح صلاته كالنافلة كما يتوجه إليها من خارج، ثم يتخير في استقبال أي جدار شاء. ويجوز أن يستقبل الباب أيضا إن كان مردودا، وإن كان مفتوحا فإن كانت العتبة قدر مؤخرة الرحل صحت صلاته وإلا فلا. ومؤخرة الرحل ثلثا ذراع إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ذراع تقريبا كأنهم راعوا أن يكون في سجوده يسامت بمعظم بدنه الشاخص. وإن انهدمت الكعبة- حاشاها- وبقي موضعها عرصة فإن وقف خارجها وصلى إليها جاز لأن المتوجه إلى هواء البيت والحالة هذه متوجه نحو المسجد الحرام كمن صلى على أبي قبيس والكعبة تحته يجوز لتوجهه إلى هواء البيت. ولو صلى في العرصة فالحكم كما لو وقف الآن على سطح الكعبة، فإن لم يكن بين يديه شاخص من نفس الكعبة قدر مؤخرة الرحل فالأصح أنه لا يجزيه خلافا لأبي حنيفة. وإن كان المصلي خارج الكعبة فإن كان حاضر المسجد الحرام وجب عليه لا محالة استقبال عين الكعبة بكل بدنه لأنه قادر عليه، والإمام يقف خلف المقام استحبابا، والقوم يقفون مستديرين بالبيت وإلا فصلاة الخارجين عن محاذاة الكعبة باطلة إلا عند من يرى الجهة كافية. ولو تراخى الصف الطويل ووقفوا في آخر باب المسجد صحت صلاتهم لأن البعيد تزداد محاذاته. يتبين ذلك إذا جعلت البيت رأس مثلث متساوي الساقين والصفوف خطوطا موازية لقاعدته. وإن كان خارج المسجد فإن كان يعاين القبلة سوّى محرابه بناء على العيان وصلى إليه أبدا. ومحراب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة نازل منزلة الكعبة لأنه لا يقر على الخطأ فهو صواب قطعا فيسوّي سائر المحاريب عليه. وفي معنى المدينة سائر البقاع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ضبط المحراب، وكذا المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين. وفي الطرق التي هي جادتهم يتعين التوجه إليها وكذلك في القرية الصغيرة التي نشأ فيها قرن من المسلمين، ولا بد من الاجتهاد في التيامن والتياسر، وأما في محراب الرسول صلى الله عليه وسلم فلا. ولا يجوز الاجتهاد في الجهة في شيء من محاريب المسلمين لأن الخطأ منهم في الجهة بعيد بخلاف التيامن والتياسر. ويقال: إن عبد الله بن المبارك كان يقول بعد رجوعه من الحج: تياسروا يا أهل مرو. الركن الثالث المستقبل: إذا قدر على اليقين بالمعاينة أو بأمارات أخر فلا يجتهد ولا يقلد وإن لم يقدر، فإن وجد من يخبره عن علم وكان المخبر ممن يعتد بقوله رجع إلى قوله ولم يجتهد أيضا كما في الوقت إذا أخبره عدل عن طلوع الفجر يأخذ بقوله ولا يجتهد وكذلك في الحوادث إذا روى العدل خبرا يؤخذ به، وكل ذلك قبول الخبر من أهل الرواية وليس من التقليد في شيء ويشترط في المخبر أن يكون عدلا يستوي فيه الرجل والمرأة والحر والعبد، ولا يقبل خبر الكافر بحال وكذا خبر الصبي غير المميز عند الأكثرين. ثم الإخبار عن القبلة قد يكون صريحا وذلك ظاهر، وقد يكون دلالة كما في نصب المحاريب في المواضع التي يعتمد عليها. ولا فرق في لزوم الرجوع إلى الخبر بين أن يكون الشخص من أهل الاجتهاد وبين أن لا يكون. فإن لم يجد من يخبره عن علم فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 قدر على الاجتهاد ولا يتيسر إلا بمعرفة أدلة القبلة كما عددنا اجتهد ولم يقلد كما في الأحكام الشرعية، ولو فعل يلزمه القضاء ولا فرق في وجوب الاجتهاد هاهنا بين الغائب عن مكة والحاضر بها إذا حال بينه وبين الكعبة حائل أصليّ كالجبال أو حادث كالأبنية، ولو خفيت الدلائل على المجتهد بغيم أو حبس أو تعارضت، صلّى كيف اتفق لحق الوقت ويقتضي. وإن عجز عن الاجتهاد فإن لم يمكنه التعلم لعدم البصر أو لعدم البصيرة فالواجب عليه التقليد كالعامي في الأحكام، وتقليد الغير هو قبول قول المستند إلى الاجتهاد بعد أن كان المجتهد مسلما عدلا عارفا بأدلة القبلة يستوي فيه الرجل والمرأة والحر والعبد. فإن وجد مجتهدين مختلفين قلد من شاء منهما، والأحب أن يقلد الأوثق الأعلم عنده، وإن أمكنه التعلم فليس له التقليد بناء على ما مر من أن تعلم الأدلة فرض العين. فإن قلد قضى، وإن ضاق الوقت عن التعلم صلى لحق الوقت وقضى. ثم المجتهد إن بان له الخطأ يقينا أو كان دليل الاجتهاد الثاني أرجح ولم يشرع بعد في الصلاة، عمل بمقتضى الثاني. وإن بان بعد الفراغ من الصلاة فإن تيقن الخطأ قضى على الأصح، وإن ظن لم يقض. وإن تغير الاجتهاد في أثناء الصلاة انحرف ويبني. فهذه هي المسائل المستنبطة من الآية التي ذكرناها لأنها من أهم مهمات الدين وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني أحبار اليهود وعلماء النصارى لعموم اللفظ ولشمول الكتاب التوراة والإنجيل، ولكن يجب أن يكونوا أقل من عدد أهل التواتر ليصح عنهم الكتمان. وعن السدي: أنهم اليهود خاصة، والكتاب التوراة، والضمير في أنه الحق إما للرسول أي أنه مع شرعه ونبوته حق يشمل أمر القبلة وغيرها، وإما لهذا التكليف الخاص وهو أنسب بالمقام، وذلك أن علماءهم عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول وأنه يصلي إلى القبلتين وأن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وأيضا أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزات والبشارات وكل ما أتى النبي صلى الله عليه وسلم فهو حق، فهذا التحويل حق. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وعد للمتقين ووعيد للناكصين والمعاندين، ثم بين استمرار أهل الكتاب على عنادهم فقال وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قيل: هم جميع اليهود والنصارى لعموم اللفظ، وقيل: هم علماؤهم المذكورون في الآية المتقدمة لأنهم وصفوا باتباع الهوى في قوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ ومجرد اعتقاد الباطل لا يكفي فيه، بل الذين بقلوبهم ثم يقولون غير الحق في الظاهر فهم المتبعون للهوى. ونوقش فيه بأن صاحب كل شبهة صاحب هوى. قالوا: الآيتان المكتنفتان بهذه الآية مخصوصتان بالعلماء منهم لأن الجمع العظيم لا يجوز منهم الكتمان فكذا هذه الآية. وأجيب بأنه لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 يلزم من تخصيصهما تخصيصها. قالوا: أخبر عنهم بالإصرار والاستمرار وهذا شأن المعاند اللجوج لا دأب العامي المتحير. وردّ بأن المقلد أيضا قد يصر. قالوا: الحمل على العموم يكذبه الوجود فإن كثيرا من أهل الكتاب آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبع قبلته. ووجه بأن المراد من قوله ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ أنهم لا يجتمعون على الاتباع كقوله وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الأنعام: 35] وسلب الاجتماع لا ينافى اتباع البعض بِكُلِّ آيَةٍ بكل برهان قاطع على أن التوجه إلى الكعبة هو الحق ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ جواب للقسم المحذوف ساد مسد جواب الشرط واللام في وَلَئِنْ لتوطئه القسم أي والله لئن أتيتهم بكل برهان ما اجتمعوا على قبلتك لأن فيهم من قد ترك اتباعك لا لشبهة تزيلها بإيراد الحجة بل عنادا ومكابرة مع علمهم بما في كتبهم من نعتك. ومن خص اللفظ بالعلماء بأن صح عنده أنه لم يتبع منهم أحد قبلتنا لم يحتج إلى هذا التأويل بل يكون ما تبعوا في قوة ما تبع أحد منهم وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ رفع لتجويز النسخ وبيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة بالتوجه إلى بيت المقدس حسما لأطماع أهل الكتاب فإنهم طمعوا في رجوعه إلى قبلتهم وقالوا: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره. وفيه أنه لا يجب عليه استصلاحهم باتباع قبلتهم لأن ذلك معصية. وإنما وحد القبلة للعلم بأن لليهود قبلة وللنصارى قبلة أخرى أو لأنهما بحكم الاتحاد في البطلان واحد وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ إن حمل على الحال فالمعنى أنهم ليسوا مجتمعين على قبلة واحدة حتى يمكن رضاهم باتباعها أو أنهم مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة فكيف يدعونك إلى شيئين مختلفين؟ أو أنه إذا جاز أن يختلف قبلتاهما للمصلحة فلم لا يجوز أن تكون المصلحة في ثالث؟ وإن حمل على الاستقبال فالمعنى أن اليهود لا تترك قبلتهم إلى المشرق، ولا النصارى إلى المغرب، بحيث تتعطل إحدى القبلتين، لا أن اليهودي لا يصير نصرانيا أو بالعكس فإن ذلك قد وقع. أخبر الله تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه محقا أو مبطلا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ كلام على سبيل الفرض والتقدير لقرينة وما أنت بتابع قبلتهم المعنى لئن اتبعت مثلا بعد وضوح الدلائل وانكشاف جلية الأمر في باب الديانة إِنَّكَ إِذاً أي إذا اتبعت لمن المرتكبين الظلم الفاحش لأن صغائر الرجل الكبير كبائر فكيف بكبائره؟ وفيه أن ترك العمل من العلماء أقبح، وفيه لطف للنبي صلى الله عليه وسلم فإن مزيد المحبة تقتضي التخصيص بمزيد التحذير، ولعله كان في بعض الأمور يتبع أغراضهم كترك المخاشنة في القول واستمالة قلوبهم طمعا منه في إسلامهم ومعاضدتهم، فنهى عن ذلك القدر أيضا وآيسه منهم بالكلية. كقوله وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 [الإسراء: 74] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 73] وفيه إشارة للأمة كالرجل الحازم يقبل على أبرّ أولاده وأصلحهم فيزجره عن شيء بحضرة سائر الأولاد والغرض زجرهم وإصلاحهم وأنه لا محالة يؤاخذون بالطريق الأولى لو خالفوه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هم علماؤهم بدليل يَعْرِفُونَهُ أي الرسول معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره بالمشخصات من النعت والنسب والقبلة حسب ما وجدوه في كتبهم كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم. «وما» مصدرية أو كافة، والغرض تشبيه عرفان شخصه بعرفان أشخاص الأبناء لا تشبيه العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالعلم ببنوة الأبناء وإلا كان تشبيه المعلوم بالمظنون. عن عمر أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أعلم به مني يا بني. قال: لم؟ قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبي، فأما ولدي فلعل والدته قد خانت، فقبل عمر رأسه. وجاز إضمار الرسول وإن لم يجز له ذكر لدلالة الكلام عليه، وفيه تفخيم لشأنه وأنه معلوم بغير إعلام، ولا يصح أن يقال: المراد بالمعرفة معرفتهم الحاصلة من قبل ظهور المعجزات على يده لأنه لا يفيد إلا كونه نبيا وهم لا ينكرون ذلك، وإنما ينكرون كونه النبي صلى الله عليه وسلم المنعوت في كتبهم فرد الله عليه ذلك فافهم. وإنما خص الأبناء بالذكر لأنهم أعرف وأشهر وبصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق ولو تساويا فالذكور أولى بالذكر. وقيل: الضمير للعلم أو القرآن أو تحويل القبلة وفي الكل تكلف ينبو عنه قوله أَبْناءَهُمْ ويباينه الحديث عن عبد الله بن سلام ولما كان من علمائهم العارفين بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم من آمن به وأظهر الحق وهو ما يجب القول به ويجب العمل بمقتضاه كعبد الله بن سلام وأتباعه. قال تعالى وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ يريد من سوى المسلمين المؤمنين منهم لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ الذي هو أمر محمد أو أمر القبلة ثم أكد ذلك بقوله وَهُمْ يَعْلَمُونَ فإنه لا يوصف بالكتمان إلا من علم المكتوم الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق، «ومن ربك» خبر بعد خبر أو حال. وأن يكون مبتدأ خبره «من ربك» . ثم في اللام يكون وجهان: العهد والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إلى الحق الذي في قوله لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ أو الجنس على معنى الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه وما سواه كما يدعيه أهل الكتاب باطل فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم أو في كون الحق من ربك. وقد يجوز أن ينهى الشخص عما يعلم أنه منته عنه لمثل ما تقرر في قوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ. لِكُلٍ التنوين فيه عوض عن المضاف إليه، والوجهة اسم الجهة ولذلك ثبتت الواو كما قالوا «ولدة» في جمع الوليد الصبي، وإنما لا تجمع مع الهاء في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 المصادر، وقوله وَإما أن يعود إلى الكل وإما أن يعود إلى الله. وثاني مفعولي وَلِّيها محذوف أي هو موليها وجهه، أو الله موليها إياه. ثم اختلف في التفسير فقيل: المعنى ولكل أهل دين من الأديان المختلفة قبلة وجهة إما بشريعة وإما بهوى هو مستقبلها ومتوجه إليها لصلاته التي يتقرب بها إلى ربه، وكل يفرح بما هو عليه ولا يفارقه فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة، ولستم تؤاخذون بفعل غيركم فإنما لهم أعمالهم ولكم أعمالكم اسْتَبِقُوا أنتمْ خَيْراتِ الدنيوية وهي الشرف والفخر بقبلة إبراهيم، والأخروية وهي الثواب الجزيل المعد للمطيعين. أَيْنَما تَكُونُوا من جهات الأرض أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً في صعيد القيامة فيفصل بين المحق منكم والمبطل والمصيب والمخطئ إنه قادر على ذلك. وقيل: إن الله تعالى عرفنا أن كل واحدة من بيت المقدس والكعبة قبلة. فالجهتان من الله تعالى وهو الذي ولى وجوه عباده إليهما فاستبقوا الخيرات بالانقياد لأمره في الحالين ولا تلتفتوا إلى مطاعن السفهاء فإن الله يجمعكم وإياهم يوم القيامة فيحكم بينكم. وقيل: ولكل قوم منكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم جهة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية، فاستبقوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت أَيْنَما تَكُونُوا من الجهات المختلفةأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يجمعكم للجزاء ويجعل صلواتكم واحدة كأنها إلى جهة واحدة لمحاذاة الجميع الكعبة. ولقراءة ابن عامر مولاها معنيان: أحدهما أن ما وليته فقد ولاك والآخر زينت له تلك الجهة وحببت إليه. وقيل: ولكل مخلوق قبلة فقبلة المقربين العرش، وقبلة الروحانيين الكرسي، وقبلة الكروبيين البيت المعمور، وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس، وقبلتك أنت الكعبة، بل قبلة جسدك هي، وقبلة روحك أنا، وقبلتي أنت «أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي» . ثم إن الشافعي استدل بقوله اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ على أن الصلاة في أول الوقت أفضل. وعند أبي حنيفة: التأخير أفضل إحرازا لفضيلة الانتظار ولتكثر الجماعة، ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» «1» وقال ابن مسعود: ما رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حافظوا على شيء ما حافظوا على التنوير بالفجر. وأجيب بأن الانتظار قبل مجيء الوقت لقوله صلى الله عليه وسلم «يا علي ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤا» «2» وأن المراد بالإسفار   (1) رواه الترمذي في كتاب الصلاة باب 3. النسائي في كتاب المواقيت باب 27. الدارمي في كتاب الصلاة باب 21. أحمد في مسنده 5/ 429. (2) رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب 13، أحمد في مسنده 1/ 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 والتنوير هو طلوع الفجر الصادق بحيث لا يشك فيه وذلك مما لا نزاع فيه، وإنما النزاع فيما إذا تحقق دخول الوقت ثم تكاسل المكلف وتثاقل أو بغير أسباب الصلاة تشاغل. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ومن أي بلد خرجت يا محمد فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إذا صليت وَإِنَّهُ وإن هذا المأمور به لَلْحَقُّ الذي يجب أن يقبل ويعمل به حال كونه مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعد للمتشاغلين ووعيد للمتغافلين. واعلم أن أمر التولية ذكره الله تعالى ثلاث مرات، وللعلماء في سبب التكرير أقوال: أولها: أن الآية الأولى محمولة على أن يكون المكلف حاضر المسجد الحرام، والثانية على أن يكون غائبا عنه ولكن يكون في البلد، والثالثة على أن يكون خارج البلد في أقطار الأرض، فقد يمكن أن يتوهم للقريب من التكليف ما ليس للبعيد فأزيل ذلك الوهم. وثانيها: أنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر، وذلك أنه أكد الأول بأن أهل الكتاب يعلمون حقيته بشهادة التوراة والإنجيل، وأكد الثاني بإخبار الله تعالى عن حقيته وكفى به شهيدا، وأتبع الثالث غرض التحويل وهو قوله لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ كما أن قوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وأمثال ذلك تكرر حيث نيط بكل منها فائدة. وثالثها: أن الآية الأولى توهم أن التحويل إنما فعل رضا للنبي صلى الله عليه وسلم وطلبا لهواه حيث قال فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فأزيل الوهم بتكرار الأمر وتعقيبه بقوله وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك وهواك كقبلة اليهود والمنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والتشهي، ولكنها حق من ربك بعد أنها وافقت رضاك، وفي الثالثة بيان الغرض. ورابعها: أن الأولى لتعميم الأحوال والثانية لتعميم الأمكنة، والثالثة لتعميم الأزمنة إشعارا بأنها لا تصير منسوخة البتة. وخامسها: الزم هذه القبلة فإنها التي كنت تهواها، الزم هذه القبلة فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى. الزم هذه القبلة فبها ينقطع عنك حجج العدا وهذا قريب من الثالث. وسادسها: هذه الواقعة أولى الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرير لمزيد التأكيد والتقرير. وسابعها: قلت: الآية الأولى مشتملة على تكليف خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ثم على تكليف عام له ولأمته وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ والآية الثانية وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لأجل تكليف أخص وهو تكليف الالتفات عما سوى الله إلى الله وهو تكليف الصدّيقين وهو سنة خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: 49] ومما يؤيد هذا التأويل تعقيبه بقوله وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لم يستظهر على هذا إلا بشهادة نفسه حيث لم يبق إلا هو وهو مقام الفناء في الله بخلاف الآية الأولى فإنها أكدت بشهادة الغير. وأيضا اقتصر هاهنا على أمر النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة لأن هذه المرتبة وهي المسجد الحرام- حرام لا يليق بكل أحد جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد. وأيضا قدم على الآية قوله لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ فدل على أن المذكور بعدها مرتبة السابقين وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر: 32] لما كان من المحتمل أن يظن أن التكليف الأخص ناسخ للتكليف الخاص منه والعام له ولأمته، كرر الآية الأولى بعينها ليعلم أن حكمها باق بالنسبة إلى عموم المكلفين والله تعالى أعلم بحقائق الأمور. قوله لِئَلَّا يَكُونَ أي ولوا لأجل هذا الغرض. وقال الزجاج: يتعلق بمحذوف أي عرفتكم لئلا يكون الناس عليكم حجة. والناس قيل للعموم، وقيل هم اليهود كانوا يطعنون بأنه يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا ويقولون ما درى محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه. وقيل: هم العرب قالوا: إنه يقول أنا على دين إبراهيم، ولما ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم. وإنما أطلق الحجة على قول المعاندين لأن المراد بها المحاجة، أو سماها حجة تهكما أو طباقا أو بناء على معتقدهم لأنهم يسوقونها سياق الحجة. وقد تكون الحجة باطلة قال تعالى حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الشورى: 16] وكل كلام يقصد به غلبة الغير حجة، وعلى هذا فالاستثناء متصل. والمراد بالذين ظلموا المعاندون من اليهود القائلون بأنه ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء، أو بعض العرب القائلون بأن محمدا عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى ديننا بالكلية. وقيل: الاستثناء منقطع. وقيل: «إلا» بمعنى الواو وأنشد شعر: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان يعني والفرقدان. وإذا طعنوا في دينكم من غير ما سبب فَلا تَخْشَوْهُمْ فإنهم لا يضرونكم وَاخْشَوْنِي واحذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم على وفق مصلحتكم، فعلى المرء أن ينصب بين عينيه في كل أفعاله وتروكه خشية الله ويقطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 الرجاء والخوف عمن سواه. قوله وَلِأُتِمَّ قيل: معطوف على لِئَلَّا أي حوّلتكم إلى هذه القبلة لحكمتين: إحداهما انقطاع حجتهم، والثانية إتمام النعمة بحصول شرف قبلة إبراهيم. وقيل: متعلقة محذوف معناه ولإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك. وقيل: معطوف على علة مقدرة كأنه قال: واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم وهذا الإتمام لا ينافي ما أنزل في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] فإن لله تعالى في كل وقت نعمة على المكلفين ولها تمام بحسبها، فهذا إتمام النعمة في أمر القبلة، وذاك تمام النعمة في أمر الدين على الإطلاق وعن علي عليه السلام: تمام النعمة الموت على الإسلام. وفي الحديث «تمام النعمة دخول الجنة» «1» كَما أَرْسَلْنا «ما» مصدرية أو كافة. ثم إن الجار والمجرور يتعلق بما قبله أو بما بعده. وعلى الأول قيل: معناه ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف وفي الآخرة بالفوز بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول، أو لأتم نعمتي ببيان الشرائع، أو أهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم حيث قال وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا [البقرة: 128] كما أرسلنا فيكم رسولا إجابة لدعوته حيث قال رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا [البقرة: 129] وقيل: معناه كذلك جعلناكم أمة وسطا كما أرسلنا فيكم رسولا، وعلى الثاني معناه كما ذكرتكم بإرسال الرسول فاذكروني أذكركم تارة أخرى. وفيه أن نعمه على العبد لا تنقطع، فكل نعمة سابقة فسيضم إليها أخرى لاحقة حتى يكون له الفضل أولا وأخيرا وبداية ونهاية. وفي إرساله فيهم ومنهم أي من العرب نعمة عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف، ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب. وكون القرآن متلوا من أعظم النعم لأنه معجزة باقية ولأنه يتلى فتتأدى به العبادات، ولأنه يتلى فتستفاد منه جميع العلوم، ولأنه يتلى فيوقف على مجامع الأخلاق الحميدة ففي تلاوته خير الدنيا والآخرة. ومعنى التزكية وتعليم الكتاب والحكمة قد مر في دعاء إبراهيم. وفي قوله يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ تنبيه على أنه تعالى أرسله على فترة من الرسل وجهالة من الأمر وتحير الناس في أمر الديانة، فعلمهم ما احتاجوا إليه في صلاح معاشهم ومعادهم وذلك من أعظم أنواع النعم فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ تكليف بأمرين: الذكر والشكر. وقد مر ذكر الشكر في تفسير الحمد وقوله وَلا تَكْفُرُونِ عطف بالواو ليعلم أن جحود النعمة منهيّ عنه كما أن الشكر مأمور به. ولو قطع على طريقة قوله:   (1) رواه الترمذي في كتاب الدعاء باب 93. أحمد في مسنده (5/ 231، 235) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 «أقول له ارحل لا تقيمن عندنا» لأوهم أن المقصود بالذات هو الثاني والأول في حكم المنحى. ويحتمل من حيث العربية أن تكون «لا» نافية والنون ليست للوقاية، ومحل الجملة النصب على الحال أي اشكروا لي غير جاحدين لنعمتي. وأما الذكر فباللسان وهو أن يحمده ويسبحه ويمجده ويقرأ كتابه، أو بالقلب وهو أن يتفكر في الدلائل على ذاته وصفاته، وفي الأجوبة عن شبه الطاعنين فيها وفي الدلائل على كيفية تكاليفه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ليعمل بمقتضاها، ثم يتفكر في أسرار المخلوقات متوصلا من كل ذرة إلى موجدها، أو بالجوارح وهو أن تكون مستغرقة في الأعمال المأمور بها فارغة عن الأشغال المنهي عنها. وبهذا الوجه سمى الصلاة ذكرا فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] وأما ذكر الله تعالى فلا بد أن يحمل على ما له تعلق بالثواب وإظهار الرضا واستحقاق المنزلة والإكرام فالحاصل اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي، اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة، اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة، اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات، اذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء، اذكروني بالمجاهدة أذكركم بالهداية، اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص، اذكروني بالعبودية أذكركم بالربوبية، اذكروني بالفناء أذكركم بالبقاء. [سورة البقرة (2) : الآيات 153 الى 157] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) القراآت: إِنَّا لِلَّهِ بالإمالة فيهما: قتيبة ونصير. وإنما جازت مع امتناعها في الحروف لكثرة استعمال كلمة الاسترجاع. الوقوف: وَالصَّلاةِ ط الصَّابِرِينَ لا أَمْواتٌ ط لا تَشْعُرُونَ هـ وَالثَّمَراتِ ط الصَّابِرِينَ لا لأن صفتهم مُصِيبَةٌ لا لأن «قالوا» جواب «إذا» راجِعُونَ ط لأن «أولئك» مبتدأ على الأصح ومن ابتداء بالذين فخبره «أولئك» مع ما يتلوه ووقف على الصابرين ولم يقف على راجِعُونَ الْمُهْتَدُونَ هـ. التفسير: أنه تعالى لما أوجب بقوله فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي جميع الطاعات ورغب بقوله وَلا تَكْفُرُونِ عن جميع المنهيات فإن الشكر بالحقيقة صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه إلى ما أعطاه لأجله، ندب إلى الاستعانة على تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 الوظائف بالصبر والصلاة. فالصبر قهر النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى، والصلاة إذا اشتملت على مواجب الخشوع والتذلل للمعبود والتدبر لآيات الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، انجر ذلك إلى أداء حقوق سائر الطاعات والاجتناب عن جميع الفواحش والمنكرات إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصر والتأييد ومزيد التوفيق والتسديد وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مريم: 76] وقيل: الصبر الصوم. وقيل: الجهاد بدليل قوله وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ أي هم أموات بل هم أحياء. وعلى الوجه الأول كأنه قيل: استعينوا بالصبر والصلاة في إقامة ديني وسلوك سبيلي، فإن احتجتم في ذلك إلى مجاهدة عدوّي بأموالكم وأنفسكم فتلفت فإن قتلاكم أحياء عندي، من قتله محبته فديته رؤيته. ثم إن أكثر المفسرين على أنهم أحياء في الحال، فمن الجائز أن يجمع الله تعالى من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم وإن كانت في حجم الذرة فيرى معظم جسد الشهيد ميتا فلا يحس بحياته وإليه الإشارة بقوله وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ومما يؤيد هذا القول الآيات الدالة على إثبات عذاب القبر النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر: 46] أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً [نوح: 25] والفاء للتعقيب وقال صلى الله عليه وسلم «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفرة النيران» «1» . ولم يزل أرباب القلوب يزورون قبور الشهداء ويعظمونها. وقيل: المعنى لا تسموهم بالأموات وقولوا لهم الشهداء الأحياء. أو المراد: قولوا لهم أحياء في الدين وإنهم على هدى ونور من ربهم لا كما يزعم المشركون أنهم ليسوا من الدين في شيء أو لا تقولوا مثل ما يقول منكرو البعث إنهم لا ينشرون وقد ضيعوا أعمارهم، ولكنهم سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة. وعلى هذه الوجوه لا يبقى لتخصيص الشهداء بكونهم أحياء فائدة وكذا لقوله مع المؤمنين ولكن لا تشعرون. وقيل: إن الثواب وكذا العقاب للروح لا للقالب، لأنه مدرك للجزئيات أيضا فلا يمتنع أن يتألم ويلتذ. ثم إنه سبحانه يرد الروح إلى البدن في القيامة الكبرى حتى يضم الأحوال الجسمانية إلى الإدراكات الروحانية. عن ابن عباس أن الآية نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. وعن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من ثمر الجنة» «2» أي تأكل وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم هل تصبرون   (1) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 36. بدون لفظ «أو حفرة من حفر النار» . (2) رواه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب 13. الدارمي في كتاب الجهاد باب 18. أحمد في مسنده (6/ 386) بدون لفظ «حواصل» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وتثبتون على ما أنتم عليه من أداء حقوق الطاعة وتسلمون لأمر الله وحكمه، أم تنقلبون على أعقابكم وتظهرون الجزع على استرداد ما يدكم فيه يد المستعير؟ أمر أولا بالشكر على إكمال الشرائع، ثم بالصبر على التكاليف الدينية، ثم حض على التثبت عند طروق النوائب وبروق المصائب، ومعنى بِشَيْءٍ بيان من هذه الأشياء وأيضا لو قال «بأشياء» لأوهم أن من كل واحد من الخوف وغيره ضروبا وليس بمراد. وفيه أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل هو بالنسبة إليه، وفيه أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم. واعلم أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب فإذا خطر ببالك وهو قد مضى سمي ذكرا وتذكرا، وإن كان في الحال سمي ذوقا ووجدا لأنها حالة تجدها من نفسك، وإن تعلق بالاستقبال وغلب خطوره على قلبك سمي انتظارا وتوقعا، فإن كان المنتظر مكروها حصل منه ألم في القلب يسمى خوفا وإشفاقا، وإن كان محبوبا سمي ذلك ارتياحا والارتياح رجاء. وأما الجوع فالمراد منه القحط وتعذر تحصيل القوت. عن عطاء والربيع بن أنس: أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة وقد حصل لهم عند مكاشفة العرب خوف شديد بسبب الدين، فكانوا لا يأمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم وقد كان من الخوف في وقعة الأحزاب ما كان هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [الأحزاب: 11] وأما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي إلى المدينة لقلة أموالهم حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان يشد الحجر على بطنه. وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم فالتقى مع أبي بكر فقال: ما أخرجك؟ قال: الجوع. قال: أخرجني ما أخرجك وكانوا ينفقون أموالهم في الاستعداد للجهاد ثم يقتلون. فهناك يحصل النقص في المال والنفس، وقد يحصل الجوع في سفر الجهاد عند فناء الزاد ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى قوله إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ [التوبة: 120] وقد يكون النقص في النفس بموت الإخوان والأخدان. وإما نقص الثمرات فقد يكون بالجدوب وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد. وعن الشافعي: الخوف خوف الله، والجوع صيام شهر رمضان، والنقص من الأموال الزكوات والصدقات، ومن الأنفس الأمراض، ومن الثمرات موت الأولاد. قال صلى الله عليه وسلم «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم. فيقول الله تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع فيقول الله: «ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد» «1»   (1) رواه الترمذي في كتاب الجنائز باب 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وَنَقْصٍ عطف على بِشَيْءٍ ويحتمل أن يعطف على الخوف بمعنى وشيء من نقص الأموال. والخطاب في وَبَشِّرِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يتأتى منه البشارة. قال الإمام الغزالي رحمه الله: الصبر من خواص الإنسان ولا يتصور ذلك في البهائم لنقصانها، فليس لشهواتها عقل يعارضها حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبرا، ولا في الملائكة فليس لعقلهم شهوة تصرفهم عن الاشتغال بخدمة الكبير المتعال وتمنعهم عن الاستغراق في مطالعة حضرة ذي الجلال. وأما الإنسان فإنه في الصبا بمنزلة البهيمة ليس له إلا شهوة الغذاء، ثم شهوة اللعب بعد حين، ثم شهوة النكاح لكنه إذا بلغ انضم له مع الشهوة الباعثة على اللذات العاجلة عقل يدعوه إلى الإعراض عنها والإقبال على تحصيل السعادات الباقية، فيقع بين داعيتي العقل والشهوة تضاد قصد العقل إياها هو المعنى بالصبر. وإنه ضربان: بدني فعلا كتعاطي الأعمال الشاقة، أو انفعالا كالثبات على الآلام، ونفساني وهو منع النفس عن مقتضيات الطبع، فإن كان حبسا عن شهوة البطن والفرج سمي عفة، وإن كان احتمال مكروه، فإن كان من مصيبة خص باسم الصبر ويضاده حالة هي الجزع وهي إطلاق داعي الهوى في رفع الصوت وضرب الخد وشق الجيب ونحوها، وإن كان في حال الغنى سمي ضبط النفس، ويضاده حالة البطر. وإن كان في حال مبارزة الأقران سمي شجاعة ويضاده الجبن، وإن كان في كظم الغيظ والغضب يسمى حلما ويضاده النزق، وإن كان في نائبة من النوائب سمي سعة الصدر ويضاده الضجر وضيق الصدر، وإن كان في إخفاء كلام يسمى كتمان النفس، وإن كان عن فضول العيش سمي زهدا وضده الحرص، وإن كان على قدر يسير من المال سمي قناعه ويضاده الشره. وليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ولا أن لا يكره ذلك فإنه غير ممكن، وإنما الصبر على المصيبة هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع. ولا بأس بظهور الدمع وتغير اللون فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى على إبراهيم ابنه فقيل له في ذلك فقال: إنها رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء. ثم قال: العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا. ثم الصبر عند الصدمة الأولى وإلا سمي سلوا وهو مما لا بد منه ولهذا قيل: لو كلف الناس إدامة الجزع لم يقدروا عليه. وقد وصف الله تعالى الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعا وأضاف أكثر الخيرات إليه فقال وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا [السجدة: 27] وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [اعراف: 137] وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 96] إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] فما من طاعة إلا وأجرها مقدر إلا الصبر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 ولأن الصوم من الصبر قال تعالى في الحديث القدسي «الصوم لي» فأضافه إلى نفسه ووعد الصابرين بأنه معهم فقال وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46] وعلق النصرة بالصبر فقال إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [آل عمران: 125] وجمع للصابرين أمورا لم يجمعها لغيرهم أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ وقال صلى الله عليه وسلم «الصبر نصف الإيمان» لأن الإيمان لا يتم إلا بترك ما لا ينبغي، والإتيان بما ينبغي والاستمرار على كل منهما إنما يتأتى بالصبر. فكل الإيمان صبر إلا أن كل واحد منهما قد يكون مطابقا لمقتضى الشهوة فلا يحتاج فيه إلى الصبر، فلهذا عاد إلى النصف. وقد جاء «الإيمان هو الصبر» وذلك كقوله «الحج عرفة» «1» وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر» وقال: «يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له أترضى أن نجزيك كما جزينا هذا الشاكر فيقول نعم يا رب فيقول تعالى لقد أنعمت عليه فشكر وابتليتك فصبرت لأضعفنّ لك الأجر فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين» ومن فضيلة الصبر أن قال صلى الله عليه وسلم: «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر» «2» فإن المشبه به يجب أن يكون أقوى كما قال «شارب الخمر كعابد الوثن» «3» وروي أن سليمان يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفا لمكان ملكه، وآخر أصحابي دخولا الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه. وفي الخبر: أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد. وأول من يدخله أهل البلاء إمامهم أيوب. ثم إن الله تعالى بيّن أن الإنسان كيف يكون صابرا وأنه متى يستحق البشارة فقال الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ هي من الصفات الغالية التي لا تكاد تستعمل موصوفاتها وتختص من بين ما يصيب الإنسان بحالة مكروهة كالنازلة والواقعة والملمة، وإنما نكرت لتشمل كل مضرة تناله من قبل الأسباب السماوية والأرضية المنتهية إلى مسبب الأسباب بواسطة ظاهرة أو خفية قالُوا: إِنَّا لِلَّهِ إقرار بالعبودية وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ تفويض للأمر إليه كما يقال: إن الملك والدولة رجع إلى فلان لا يراد الانتقال بل القدرة وترك المنازعة إِنَّا لِلَّهِ اعتراف منا له بالملك وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إقرار على   (1) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة البقرة باب 22. أبو داود في كتاب المناسك باب 68. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 57. الدارمي في كتاب المناسك باب 54 بلفظ «الحج عرفات» . (2) رواه ابن ماجه في كتاب الصيام باب 55. الترمذي في كتاب القيامة باب 43. الدارمي في كتاب الأطعمة باب 4. أحمد، في مسنده (2/ 283، 289) . (3) رواه ابن ماجه في كتاب الأشربة باب 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 أنفسنا بالهلك إِنَّا لِلَّهِ إشارة إلى المبدأ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ تصريح بالمعاد. إِنَّا لِلَّهِ إعلام بالفناء فيه وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إشعار بالبقاء به. إِنَّا لِلَّهِ إيمان بقضائه وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إيمان بقدره. واعلم أن الرضا بالقضاء إنما يحصل للعبد من الله تعالى بطريقين: الصرف أو الجذب أما الصرف فمتى مال قلبه إلى شيء والتفت خاطره إليه جعله تعالى منشأ للآفات لينصرف وجه قلبه من عالم الحدوث إلى جانب القدس، كما أن آدم لما تعلق قلبه بالجنة جعلها محنة عليه حتى زالت الجنة فبقي آدم مع ذكر الله. ولما استأنس يعقوب بيوسف أوقع الفراق بينهما فبقي يعقوب مع ذكر الحق. ولما طمع محمد صلى الله عليه وسلم من أهل مكة في النصرة والإعانة صاروا من أشد الناس بغضا له فأخرجوه. وقد لا يجعل ذلك الشيء بلاء ولكن يرفعه من البين حتى لا يبقى لا البلاء ولا الرحمة، فحينئذ يرجع العبد إلى الله. وقد يتوقع العبد من جانب خيرا فيعطيه الله تعالى ذلك بلا واسطة فيستحي العبد فيرجع إلى الله. وأما الجذب فجذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين. ومن جذبه الحق إلى نفسه صار مغلوبا لأن الحق غالب فتصير الربوبية غالبة على العبودية، والحقيقة مستعلية على المجاز، كالعبد الداخل على السلطان المهيب ينصرف فكره إليه ويشتغل بالكلية عمن سواه ويصير فانيا عن نفسه وعن حظوظها فيحصل له مرتبة الرضا بأقضية الحق سبحانه من غير أن يبقى في طاعته شبهة المنازعة. عن النبي صلى الله عليه وسلم «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضاه» وروي أنه طفىء سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فقيل: أمصيبة هي؟ قال: نعم. كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة. وعن أم سلمة أن أبا سلمة حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمر الله به» من قوله: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني منها وعوّضني خيرا منها ألا أجره الله عليها وعوضه خيرا منها» «1» . قالت: فلما توفي أبو سلمة ذكرت هذا الحديث وقلت: هذا القول فعوّضني الله محمدا صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس: أخبر الله تعالى أن المؤمن إذا سلم لأمر الله ورجع واسترجع عند مصيبته كتب الله تعالى له ثلاث خصال: الصلاة من الله والرحمة وتحقيق سبيل الهدى. وعن عمر قال: نعم العدلان إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ونعم العلاوة وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ. قيل: الصلوات من الله الثناء والمدح والتعظيم،   (1) رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب 18. الترمذي في كتاب الدعوات باب 83. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 55. أحمد في مسنده (4/ 27) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 والرحمة النعم العاجلة والآجلة. وقيل: الصلاة الحنو والتعطف وضعت موضع الرأفة كقوله رَأْفَةً وَرَحْمَةً لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ والمعنى عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة أيّ رحمة وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ لطريق الصواب والفائزون بالكرامة والثواب، أو هم المستمسكون بآدابه المستنون بما ألزم وأمر وفي الآية حكمان: فرض ونفل. فالفرض هو التسليم لأمر الله تعالى والرضا بقضائه والصبر على أداء فرائضه لا يصرفه عنها مصائب الدنيا، والنفل قوله إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فإن في إظهاره فوائد منها: أن غيره يقتدي به إذا سمعه، ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله تعالى والثبات على طاعته. وأما الحكمة في تقديم تعريف الابتلاء فهي أن يوطنوا نفوسهم لهذه المصائب إذا وردت فتكون أبعد من الجزع. وأيضا إذا علموا أنه سيصل إليهم تلك المحن اشتد حزنهم فيكون ذلك الحزن تعجيلا للابتلاء فيستحقون بذلك مزيد الثواب. وأيضا إذا أخبروا بوقوع هذا الابتلاء ثم وقع كان ذلك إخبارا بالغيب فيكون معجزة. وأيضا فيه تنفير وتمييز له عن الموافق. كما أن الحكمة في نفس الابتلاء أيضا ذلك. دعوى الإخاء على الإخاء كثيرة ... بل في الشدائد تعرف الإخوان إذا قلت أهدى الهجر إن خلل البلى ... يقولون لولا الهجر لم يطب الحب وإن قلت كربي دائم قالت إنما ... يعدّ محبا من يدوم له الكرب وإن قلت ما أذنبت قالت مجيبة ... حياتك ذنب لا يقاس به ذنب [سورة البقرة (2) : الآيات 158 الى 162] إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) القراآت: من يطوع بتشديد الطاء والجزم: حمزة وعلي وخلف وزيد ورويس الباقون: بالتاء والتخفيف وفتح الآخر على المضي. الوقوف: شَعائِرِ اللَّهِ ج للشرط مع فاء التعقيب بِهِما ط لأن التطوع خارج عن موجب كونهما من شعائر الله فكان استئناف حكم عَلِيمٌ، فِي الْكِتابِ لا لأن «أولئك» خبر «إن» اللَّاعِنُونَ لا للاستثناء أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ج لاحتمال الواو للاستئناف والحال الرَّحِيمُ هـ أَجْمَعِينَ لا لأن «خالدين» حال عامله معنى الفعل في اللعنة أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 لعنهم الله حتى قرأ الحسن وَالْمَلائِكَةِ وما بعده بالرفع فِيها ج لأن ما بعده حال بعد حال واستئناف إخبار يُنْظَرُونَ هـ. التفسير: إن في تعليق الآية بما قبلها وجوها منها: أن السعي بين الصفا والمروة من شرائع إبراهيم عليه السلام كما مر في قصة هاجر، فذكر عقيب تحويل القبلة الذي فيه إحياء شرع إبراهيم. ومنها أنه من آثار هاجر وإسماعيل، وفيه تذكير لما جرى عليهما من البلوى وحسن عاقبتهما، فناسب أن يردف آية الابتلاء ليعلم أن من صبر على البلوى نال الدرجة العليا في الدنيا والعقبى. ومنها أن أقسام التكاليف ثلاثة: أولها ما يهتدي العقل إلى حسنه كشكر المنعم وذكره وأشير إلى ذلك بقوله فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي [البقرة: 152] وثانيها ما ركز في العقول قبحه والنفور عنه كالآلام والفقر والمحن فإنه تعالى يتألم منه إلا أن الشرع لما ورد به وبين الحكمة فيه وهي الابتلاء والامتحان فحينئذ يعتقد المسلم حسنه وكونه حكمة وصوابا وذلك قوله وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ [البقرة: 155] الآية، وثالثها ما ليس يهتدي العقل إلى حسنه ولا إلى قبحه بل يراه كالعبث الخالي عن المنفعة والمضرة فيأتي به تعبدا محضا وهو أكثر أفعال الحج من السعي ورمي الجمار ونحوهما، فذكرت طرق من هذا القسم عقيب القسمين الأولين تتميما للأحكام واستيفاء لجميع الأقسام. والصفا والمروة هكذا باللام علمان للجبلين المعروفين بمكة- زادها الله شرفا. والصفاة في اللغة صخرة ملساء وفي المثل «ما تندى صفاته» والجمع صفا مقصور وأصفاء وصفي على «فعول» وإذا نعتوا الصخرة قالوا «صفاة صفواء» وإذا ذكروا قالوا «صفا صفوان» قال تعالى كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ [البقرة: 264] وعن الأصمعي: المرو حجارة بيض براقة يقدح منها النار، الواحدة مروة. والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة. وذلك أن السعي بين الجبلين من أعلام دين الله، أو هما من متعبداته. وقد شرعه الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولإبراهيم عليه السلام قبل ذلك كما مر قوله وَأَرِنا مَناسِكَنا [البقرة: 138] وليس السعي عبادة تامة في نفسه وإنما يصير عبادة إذا كان بعضا من أبعاض الحج فلهذا قرن بقوله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ والحج لغة القصد. رجل محجوج أي مقصود وهو أيضا كثرة الاختلاف والتردد، وحج فلان فلانا إذا أطال الاختلاف إليه. ثم غلب استعماله في القصد إلى مكة للنسك. والحاج يأتي البيت أولا ليعرفه ثم يعود إليه للطواف ثم ينصرف إلى منى ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم يعود إليه لطواف الصدر. ومنه محجة الطريق لكثرة تردد الناس فيها. والاعتمار لغة الزيارة. فالمعتمر يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ثم ينصرف كالزائر يزور ثم ينصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 والعمرة اسم من الاعتمار غلبت على النسك المعروف. والجناح الحرج والإثم من قولهم «جنح لكذا» أي مال إليه، كأن صاحبه مال إلى الباطل. أو لأن الناس يميلون إلى صاحبه بالمطالبة ثم قوله فَلا جُناحَ عَلَيْهِ يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح. وظاهر الآية لا يدل على أحد الثلاثة بالتعيين فلهذا اختلف العلماء في أن السعي واجب أم لا، متمسكين بدلائل أخر. فعن الشافعي أنه ركن ولا يقوم الدم مقامه لقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا» وليس المراد منه العدو بل الجد والاجتهاد في ذلك المشي بحيث لا يفوت لقوله تعالى فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] ولما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم سعى فيجب علينا اتباعه لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ ولقوله صلى الله عليه وسلم «خذوا عني مناسككم» «1» والأمر للوجوب. وعن أبي حنيفة أنه ليس بركن ولكنه واجب وعلى تاركه دم. وعن ابن الزبير وابن عباس وأنس: أنه تطوع وليس على تاركه شيء لأن رفع الحرج دليل الإباحة لقوله بعد ذلك وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً أجاب الشافعي بما يروى أنه كان على الصفا أساف وعلى المروة نائلة وهما صنمان. كانا رجلا وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما، فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية وأن يكون عليهم جناح في ذلك فرفع عنهم الجناح. فالإباحة تنصرف إلى وجود الصنمين حال السعي لا إلى نفس السعي كما لو كان على الثوب نجاسة يسيرة عند أبي حنيفة، أو دم البراغيث عندنا، فيقال: لا جناح عليك أن تصلي فيه. فإن رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة لا إلى نفس الصلاة، ولهذا قال عروة لعائشة: أرى أنه ما على أحد من جناح أن يطوف بالصفا والمروة، قالت: بئسما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت على ما أولتها كانت «لا جناح عليه أن يطوّف بهما» وأصل «يطوف» «يتطوف» فأدغم كمن قرأ «يطوع» بالتشديد وأصله «يتطوع» والتطوع ما ترغب من ذات نفسك من غير إيجاب عليك. ومن قال: إن السعي واجب فسر هذا التطوع بالسعي الزائد على قدر الواجب. وعن الحسن: المراد منه جميع الطاعات. وهذا أولى لعموم اللفظ فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ، أي مجازيهم على الطاعة سمي جزاء الطاعة شكرا تشبيها بجزاء النعمة، وفيه تلطف العباد مثل مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [البقرة: 245] كأنه يقول: إني وإن كنت غنيا عن طاعتك إلا أني أجعل لها من الموقع ما لو صح عليّ أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل. عَلِيمٌ بالسرائر   (1) رواه النسائي في كتاب المناسك باب 220. أحمد في مسنده (3/ 318) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 فيوفي كل ذي حق حقه. وهو وعد ليناسب قرنية الشكر وإن كان أيضا يحتمل التحذير من الإخلال بوظائف الإخلاص في العبادة إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ كلام مستأنف يتناول كل من كتم شيئا من الدين. وقيل: هم أهل الكتاب. وقيل: اليهود خاصة لما روي عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار سألوا نفرا من اليهود عما في التوراة من صفة صلى الله عليه وسلم ومن الأحكام فكتموا فنزلت، والأول أولى لعموم اللفظ، ولأن خصوص السبب لا يوجب خصوص الحكم، ولأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فلا ريب أن كتمان الدين يناسب استحقاق اللعن من الله تعالى فيعم الحكم حسب عموم الوصف. ولا يخفى أنّ القرآن قبل صيرورته متواترا يمكن كتمانه، والمجمل من القرآن إذا كان بيانه بخبر الواحد يجري فيه الكتمان. وكذا القول فيما يحتاج إليه المكلف من الدلائل العقلية، ولأن جماعة من الصحابة حملوه على العموم. عن عائشة أنها قالت: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد أعظم الفرية على الله والله تعالى يقول إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ فحملت الآية على العموم. وعن أبي هريرة قال: لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثا بعد أن قال الناس: أكثر أبو هريرة وتلا إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ قال بعض المحققين: الكتمان ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهاره لأنه متى لم يكن كذلك لا يعد كتمانا. فلما كان ما أنزل الله من البينات والهدى من أشد ما يحتاج إليه في الدين، وصف من علمه ولم يظهره بالكتمان كما يوصف أحدنا في أمور الدنيا بالكتمان إذا كانت مما تقوى الدواعي على إظهارها. وعلى هذا الوجه يمدح من يقدر على كتمان السر لأن الكتمان مما يشق على النفس. وفي الآية دليل على أن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يكتم، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته، والمراد بالبينات كل ما أنزله على الأنبياء كتابا ووحيا دون أدلة العقل. والهدى يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية، لأن الهدى الدلالة فيعم الكل. وبعبارة أخرى الأول هو التنزيل، والثاني ما يقتضيه التنزيل من الفوائد. ولقوله مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ فيشمل كون خبر الواحد والإجماع والقياس حجة لأن الكتاب دل على هذه الأمور. وهذا الإظهار فرض على الكفاية لا على التعيين، لأنه إذا أظهره البعض صار بحيث يتمكن كل أحد من الوصول إليه ولم يبق مكتوما، وإذا خرج عن حد الكتمان لم يجب على الباقين إظهاره مرة أخرى. وقيل: لم لا يجوز أن يكون كل واحد منهيا عن الكتمان مأمور بالبيان ليكثر المخبرون فيتواتر الخبر؟ وأجيب بأن هذا غلط لأنهم ما نهوا عن الكتمان، إلا وهم فمن يجوز عليهم الكتمان ومن جاز منهم التواطؤ على الوضع والافتراء، فلا يكون خبرهم موجبا للعلم. ومن الناس من يحتج بالآية على وجوب قبول خبر الواحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 لأن وجوب الإظهار دل على وجوب العمل بالذي أظهر لا سيما وقد قال إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فحكم بوقوع البيان بخبرهم. واستدل بالآية أيضا على عدم جواز أخذ الأجرة على التعليم لأنها دلت على وجوب التعليم ولا أجرة على أداء الواجب. وقيل في الكتاب أي في التوراة والإنجيل من نعت الرسول ومن الأحكام. والمعنى أنا لخصناه بحيث لم ندع فيه موضع إشكال فعمدوا إلى ذلك المبين الملخص فكتموه ولبسوا على الناس. وقيل: أراد بالمنزل الأول كتب الأولين وبالهدى القرآن أُولئِكَ تبعيد لهم عن درجة الاعتبار يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ يبعدهم عن كل خير وَيَلْعَنُهُمُ يدعو عليهم باللعن اللَّاعِنُونَ الذين يتأتى منهم اللعن ويعتدّ بلعنهم من الملائكة وصالحي الثقلين. وقيل: يدخل فيهم دواب الأرض وهوامها فإنها تقول: منعنا القطر بشؤم معاصي بني آدم. واللاعنون دون اللاعنات تغليب للعقلاء: وإذا قيل: هم الهوام فقط فالتذكير لأنه تعالى وصفهم بصفات العقلاء مثل وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النمل: 18] وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ [فصلت: 21] وقيل: كل شيء سوى الثقلين بتقدير أنها لو كانت عاقلة كانت تلعنهم، أو لأنها في الآخرة إذا أعيدت وجعلت من العقلاء فإنها تلعن من فعل ذلك في الدنيا ومات عليه. وقيل: إن أهل النار يلعنونهم أيضا لأنهم كتموهم الدين كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الأعراف: 38] وعن ابن مسعود: إذا تلاعن المتلاعنان وقعت اللعنة على المستحق، فإن لم يكن مستحق رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله سبحانه. وعن ابن عباس: أن لهم لعنتين: لعنة الله ولعنة الخلائق. قال: وذلك إذا وضع الرجل في قبره فيسأل ما دينك ومن نبيك ومن ربك؟ فيقول: لا أدري. فيضرب ضربة يسمعها كل شيء إلا الثقلين فلا يسمع شيء صوته إلا لعنه ويقول له الملك: لا دريت ولا تليت إِلَّا الَّذِينَ استثناء منهم، وفيه من الرحمة ما فيه. وقد مر أن التوبة عبارة عن الندم على فعل القبيح لقبحه لا لغرض سواه، فإن من ترك رد الوديعة ثم ندم لأن الناس لاموه أو لأن الحاكم رد شهادته لم يكن تائبا وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم وَبَيَّنُوا ما كتموه أو بينوا للناس ما أحدثوه من توبتهم ليعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به ويقتدى بهم غيرهم من المفسدين فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أقبل توبتهم بأن أسقط عنهم تجملا وأضع مكانه الثواب تفضلا بدلالة قوله وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا عام في كل من كان كذلك. وقيل: مخصوص بهؤلاء الكاتمين. ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتا إذا لم يتوبوا على هذا القول يكون إطلاق الكفر عليهم- وهم من أصحاب الكبائر- مجازا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 تغليظا، أو يراد بالكفر جحود الحق وستره. والمراد بالناس اللاعنين من يعتد بلعنه وهم المؤمنون أجمعون، وقيل: يوم القيامة يلعن بعض الكفار بعضا فيعم المؤمن والكافر. وقيل: لعن الجاهل والظالم مقرر في العقول حتى إن الظالم قد يلعن نفسه إذا تأمل في حاله. وقيل: وقوع اللعن محمول على استحقاق اللعن، على من مات كافرا وإن زال التكليف عنه بالموت على أن الكافر إذا جن لم يكن زوال التكليف عنه بالجنون مسقطا للعنه والبراءة منه، وكذلك سبيل ما يوجب المدح والموالاة من الإيمان والصلاح إذا مات صاحبه أو جن لا يغير حكمه عما كان عليه قبل حدوث الحال. وفي الآية دليل على أن الأمور بخواتيمها، وأنه إذا كفر ومات لا على الكفر لم يكن ملعونا ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط خالِدِينَ فِيها في اللعنة. وقيل: في النار. وأضمرت وإن لم يجر لها ذكر تفخيما لشأنها وتهويلا لمكانها. والأول أولى لتقدم ذكره لفظا، ولأن اللعنة تشمل النار وزيادة، ولأنها تصح في الحال والمآل جميعا بخلاف النار فإنها في الاستقبال. فمن فسر «الذين كفروا» بالكاتمين وجوّز الخلاص على صاحب الكبيرة فسر الخلود بالمكث الطويل وقد سلف مثل ذلك لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ بل يتشابه في الأوقات باقيا على المبلغ الذي أتيح له حسب ما استحقه وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ إذا استنظروا من الإنظار الإمهال، أو لا ينظرون ليعتذروا، أو لا ينظر إليهم نظر رحمة أعاذنا الله تعالى من تلك الحالة بعميم فضله وجسيم طوله. التأويل: الصفا للسر، والمروة للروح، والسالك بينهما يسعى. ففي صفا السر يقطع التعلقات عن الكونين وهو التعظيم لأمر الله، وفي مروة الروح يوصل الخير إلى أهله وعياله ونفسه لمراقبة أحوال الباطن ومزاولة أعمال الظاهر وهو الشفقة على خلق الله، ومعنى سبع مرات أن تصل بركات سعيه إلى سبعة آرابه في الظاهر وإلى سبعة أطواره في الباطن وإلى سبعة أقاليم العالم لقوله تعالى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النجم: 39، 40] . ومن كمال رأفته بأهل محبته أن جعل آثار أقدامهم أشرف الأمكنة، وساعات أيامهم أعز الأزمنة. فإلى تلك المعاهد والأطلال تشد الرحال، وتلك المشاهد والآثار تعظم وتزار. أهوى هواها لمن قد كان ساكنها ... وليس في الدار لي هم ولا وطر حسبي الله ونعم الوكيل. [سورة البقرة (2) : الآيات 163 الى 164] وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 القراآت: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ بالمد وكذلك جميع التهليل. روى الهاشمي عن ابن كثير لورود الأثر في هذه الكلمة وهو قوله صلى الله عليه وسلم «من قال لا إله إلا الله ومدها غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» وروى أبو الفرج عن قتيبة «إلا» هو بالإمالة حيث كان. الريح مفردا: حمزة وعلي وخلف. الباقون: الرياح مجموعا. الوقوف: واحِدٌ ج نظرا إلى أن ما بعده وصف آخر. وإلى الاختلاف بالنفي والإثبات الرَّحِيمُ هـ مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ص ضرورة طول الآية وإلا فاسم «إن» لَآياتٍ والجار وما يتصل به معترض، والأولى الوصل والرجوع. يَعْقِلُونَ هـ. التفسير: الواحد قد يكون اسما وذلك في العدد واحد، اثنان، ثلاثة. وقد يكون صفة كقولك «شخص واحد» ومعناه أنه لا ينقسم من جهة ما قيل: له إنه واحد. فالإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم من حيث هو إنسان، لأن الإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم إلى إنسانين، بل قد ينقسم إلى الأبعاض والأجزاء وذلك من جهة أخرى. ثم زعم قوم أن الواحدية صفة زائدة على الذات لأن الجوهر قد يشارك العرض في كونه واحدا لا يشاركه في كونه جوهرا فقط، ولأنه يصح تعقل الجوهر مع الذهول عن كونه واحدا، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم، ولأن قولنا «الجوهر واحد» ليس يجري مجرى قولنا «الجوهر جوهر» ولأن مقابل الجوهر العرض، ومقابل الواحد هو الكثير. ثم المفهوم من كونه واحدا أمر ثبوتي لأنه لو كان سلبيا لكان سلبا للكثرة. فإن كانت الكثرة سلبية وسلب السلب ثبوت فالوحدة ثبوتية وهو المطلوب، وإن كانت الكثرة ثبوتية ولا معنى للكثرة إلا مجموع الوحدات فإن كانت الوحدة سلبية حصل من الأمور المعدومة أمر موجود وهو محال، فثبت أن الوحدة صفة زائدة ثبوتية. ثم إنه لا يمكن أن يقال: إنه لا تحقق لها إلا في الذهن لأنا نعلم بالضرورة أن الشيء المحكوم عليه بأنه واحد قد كان واحدا في نفسه قبل أن يوجد في ذهننا واعتبارنا فثبت أن كون الشيء واحدا صفة ثبوتية زائدة على ذاته قائمة بتلك الذات. والجواب أن كون الشيء واحدا في ذاته معناه كونه بحيث يصح أن يدرك الذهن منه معنى الوحدة، وهذه الحيثية لا تتوقف على حصول الذهن في الخارج. ثم إن الوحدة لو كانت صفة زائدة على الذات كانت الوحدات متساوية في ماهية الوحدة ومتباينة بتعيناتها، فيكون للوحدة وحدة أخرى وهلم جرا وذلك محال، ثم إن شيئا من الموجودات لا ينفك عن الوحدة حتى العدد، فإن العشرة الواحدة يعرض لها الوحدة من حيث هي عشرة واحدة. فإن قلت: عشر ثان فالعشرتان مرة واحدة قد عرضت لها الوحدة من هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 الجهة، فلا شيء من الموجودات ينفك عن الوحدة. ولكن الوحدة تغاير الوجود لأن الموجود ينقسم إلى الواحد، والكثير والمنقسم إلى شيئين: مغاير لما به الانقسام. والواحد الحق سبحانه وتعالى واحد باعتبارين: أحدهما أن ذاته ليست مركبة من أمور كثيرة بل ولا من أمرين أيضا وإليه الإشارة بقوله إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ والخطاب للممكنات بأسرهم. والتذكير لتغليب ذوي العقول الذكور، وثانيهما أنه ليس في الوجود ما يشاركه في كونه واجب وفي كونه مبدأ لجميع الممكنات وهو المراد بقوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ويمكن أن يقال: القرينتان تدلان على نفي الشريك إلا أن الأولى منهما تدل على إثبات وحدته في الإلهية بالمطابقة. ويلزم منه نفي الشريك كقولك «هو سيد واحد» تريد الوحدة في السيادة، فيلزم نفي أن يكون غيره سيدا. والقرينة الثانية تدل على نفي الشريك بالمطابقة. ثم على إثبات المعبودية بالحق فمعناه لا إله في الوجود إلا هو. وفيه نكتة شريفة وهي أن إثبات الحق وقع في كلتا القرينتين بالمطابقة ليعلم أنه المقصد الأسنى والغاية القصوى. وتحقيقه أن العارف له رجوع وعروج، وذلك أنه قد يفنى في عالم اللاهوت ويبقى ببقاء الحي الذي لا يموت، ويطالع عالم الشهود فيلزمه حينئذ نفي ما سوى الحق. وإذا رجع إلى عالم الناسوت ضرورة وجب عليه نفي كل من سواه حتى يعرج إلى المقصود. فهذا سر عكس الترتيب في القرينتين، ولأن الأولى مرتبة الصديقين السابقين فلا جرم وقع التكليف بالترتيب الأخير «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» . ثم البرهان العقلي على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه لا يجمعه أجزاء مقدارية كما للأجسام، ولا يحصره أجزاء معنوية كما في البسائط النوعية، ولا أجزاء اعتبارية كما في البسائط الجنسية، هو أن كل مركب فإنه يفتقر في تحققه إلى تحقق أجزائه، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجب الوجود لذاته. وأيضا فكل ممكن فإن وجوده زائد على ماهيته في العقل والاعتبار فإنه يمكن تصور الممكن من حيث إنه ممكن مع الشك في وجوده الخارجي. ولكن لا يمكن تعقل الواجب من حيث إنه واجب مع الشك في وجوده، ولا نعني بكون الوجود زائدا على الماهية وغير زائد إلا هذا. وأما أنه تعالى وحده لا شريك له فلأن وجوب الوجود يقتضي أن لا يكون الواجب لذاته مفتقرا في شيء إلى شيء أصلا، ولا يكون كذلك إلا إذا كان في غاية الكمال ونهاية الجلال والجمال، ولا ريب أن من كمالات الجميل كونه عديم النظير. ومن تحقق معنى وجوب الوجود بنور الباطن وصفاء الضمير لم يشك في وجوده تعالى ولا في أن واجب الوجود من جميع جهاته، وواجب الوجود في جميع صفاته، وواحد بجميع اعتباراته حتى عن جمل الوحدة عليه وعن تصور ذاته. وهاهنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 حالة عجيبة، فإن العقل ما دام يلتفت إلى الوحدة فهو بعد لم يصل إلى عالم الوحدة، فإذا ترك الوحدة فقد وصل إلى الوحدة. فاعرف هذه الأسرار لتتخلص عن ظلمات شبهات الأشرار وتفوز بمقامات الأبرار وتستغرق في بحار عالم الأنوار بعون الملك الجبار وشروق أنوار الواحد القهار. ولك أن تقول: إنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له. أما أنه واحد في ذاته فلأنه لو شاركه غيره في حقيقته لزم تركبه مما به الاشتراك وما به الامتياز، وكل مركب مفتقر، وكل مفتقر ممكن. وأما أنه واحد في صفاته فلأن صفات غيره من غيره وصفاته من نفسه، ولأن صفات غيره زمانية دون صفاته ولأن صفات غيره متناهية وصفاته غير متناهية كعلمه مثلا، فإن له معلومات غير متناهية بل له في كل معلوم علوم غير متناهية بحسب أحياز ذلك المعلوم وأوقاته وسائر أحواله، ولأن موصوفية ذاته بالصفات ليست بمعنى كونها حالة في ذاته وكون ذات محلا لها، ولا بمعنى أن ذاته تستكمل بها لأن ذاته كالمبدأ لتلك الصفات ولن يستكمل المبدأ بما عن المبدأ بل ذاته مستكملة بذاته. ومن لوازم ذلك الاستكمال الذاتي تحقق صفات الكمال، وقد يفضي التقرير هاهنا إلى حيث تقصر العبارة عن الوفاء به، وتلك أنه لا خبر عند العقول من صفاته كما أنه لا خبر عندها من ذاته، فإنا لا نعرف من علمه إلا أنه الآمر الذي لأجله ظهر الأحكام والإتقان في المخلوقات، كما أنا لا نعلم من ذاته إلا أنه مبدأ جميع الممكنات. من طبع على قلبه مني بالخذلان، ومن كشف له الغطاء صار حيران فلا إحاطة للقطرة بكرة الماء، ولا ظهور لضوء السهى عند حلول الشمس. كبد السماء أشتاقه فإذا بدا ... أطرقت من إجلاله لا خيفة بل هيبة ... وصيانة لجماله فالموت في إدباره ... والعيش في إقباله وأصدّ عنه إذا بدا ... وأروم طيف خياله وأما أنه واحد في أفعاله فلأن ما سواه ممكن الوجود لذاته، وبقدر البون بين الواجب للذات والممكن للذات يوجد التفاوت بين فعليهما إن فرض للمكن فعل من نفسه اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم: 40] ثم إنه تعالى خص الموضع بذكر الرحمن الرحيم، لأن الإلهية والفردانية يفيد القهر والعلو، فعقبهما بذكر الصفتين ترويحا للقلوب عن هيبة الإلهية وعزة الفردانية وإشعارا بأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية. ذكر علماء المعاني في إيجاز هذه الآية أن في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 ترجيح وقوع أيّ ممكن كان على «لا وقوعه» لآيات للعقلاء. إلا أن الكلام لما كان مع الإنس أو الجن فحسب بل مع الثقلين، ولا مع قرن دون قرن بل مع القرون كلهم إلى انقراض الدنيا وفيهم من مرتكبي التقصير في باب النظر والعلم بالصانع من لا يحصي من طوائف الغواة، لم يكن مقام أدعى لترك الإيجاز إلى الإطناب من هذا. عن عطاء قال: نزل بالمدينة على النبي صلى الله عليه وسلم وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فقالت كفار قريش بمكة- ولهم حينئذ حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما-: كيف يسع الناس إله واحد؟ فنزلت إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى آخرها وعن سعيد بن مسروق: لما نزلت وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ تعجب المشركون وقالوا: إله واحد؟ إن كان صادقا فليأتنا بآية فنزلت. وزعم بعض الناس أن الخلق هو المخلوق وهو الذي يدل على الصانع. والتحقيق أنه غيره لأن الخلق التقدير، وتقدير المخلوقات غير نفس المخلوقات، ولو كان عينها والخالقية صفة لله تعالى لزم اتصافه تعالى بالقاذورات، والشياطين. ولأنه يصح تعليل حدوث الحادث بخلق الله تعالى فلا يصح تعليل حدوثه بنفس ذلك الحادث، ولأنه يصح أن يقال: خلق السواد وخلق البياض ومفهوم الخلق فيهما واحد، ومفهوم السواد غير مفهوم البياض، ولاتفاق المعتبرين من النحاة على أن العالم في قول «خلق الله العالم» مفعول به لا مفعول مطلق. ثم لا نزاع في الاستدلال على الخالق بالمخلوق، لكن لا من جهة عينه بل من جهة خلق الله إياه، وهذه الجهة التي صيرته آية. وقد عدد الله تعالى في هذه الآية ثماني آيات: الأولى: خلق السموات وقد تكلمنا في عددها وترتيبها في تفسير قوله تعالى فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: 29] وقد زعم أهل الهيئة لما شاهدوا من كل واحد من السيارات السبع حركات مختلفة كالبطء والسرعة بعد التوسط في الحركة والوقوف والرجوع بعد الاستقامة وهي الحركة على توالي البروج وعندهم مقدمتان كليتان إحداهما أن السماويات لا يتطرق إليها إلا الاختلاف الوضعي. الثانية: أن حركة الكوكب في الفلك ليست كحركة السمك في الماء ولكنه يدور بإدارة الفلك إياه، أن كل واحد من أفلاك السيارات ينقسم إلى أفلاك أخر يتضمنها فلكه الكلي الذي مركزه مركز العالم، ومراكزها تخالف مركزه في الأغلب. ثم إن كان مع المخالفة في المركز محيطا بالأرض يخص باسم الخارج المركز ويبقى بعد توهم انفصاله من الفلك الكلي جسمان تعليميان متبادلا وضع الغلظ والرقة يسميان المتممين، وإن لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 يكن محيطا بالأرض سمي بالتدوير، ويكون الكوكب مركوزا فيه كالفص في الخاتم. ويلزم له من مجموع الحركات المركبة من تلك الأفلاك حركة مختلفة في النظر، وإن كان كل منهما متشابها في نفس الأمر، ويعني بالتشابه هاهنا أن يقطع المتحرك من المحيط في أزمنة متساوية قسيا متساوية، أو يحدث عند المركز زوايا متساوية وبالاختلاف نقيض ذلك. فللقمر من تلك الأفلاك أربعة: اثنان متوافقان في المركز وخارج وتدوير. وللعطارد أربعة: أحدها يوافق مركزه مركز العالم وخارجان وتدوير. وللزهرة ثلاثة: وللشمس اثنان: موافق وخارج. ولكل من الثلاثة العلوية كما للزهرة. ومقادير حركات هذه الأفلاك بسيطة موضوعة في الزيجات، وأما المختلفة فالشمس تقطع جميع الفلك في سنة شمسية وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم إلا كسرا، والقمر في ثمانية وعشرين يوما، وكل من عطارد والزهرة كالشمس وزحل في ثلاثين سنة، والمريخ في سنتين، والمشتري في اثنتي عشرة سنة جميع ذلك بالتقريب. وإذا تقرر ذلك على الإجمال فنقول في كيفية الاستدلال بهذه الأحوال: إن اختصاص مقادير كل واحد من الأفلاك بمقدار معين مع اشتراكها في الطبيعة الفلكية، تدل على مخصص مدبر مختار خبير قهار. وكذا تخصص كل منها بحيز معين، وكذا تعيين نقطتين من سطح الفلك للقطبية مع تساوي جميع النقط المفروضة عليه في صلوح ذلك، وكذا حصول الكواكب أو التدوير في جانب معين من الفلك، وكذا تفصيل الأفلاك الكلية إلى الخوارج المراكز وإبقاء المتممات على أقدار معينة في الرقة والغلظ، وكذا تعيين كل من الأجرام بحركة معينة. السيارات كما قلنا آنفا والثوابت بحيث تتم دورا في ستة وثلاثين ألف سنة على ما في المجسطي، أو في خمسة وعشرين ألف سنة ومائتي سنة عند المتأخرين، والفلك الأعظم في يوم بليلة. وكذا تعيين جهات الحركات شرقا أو غربا أو شمالا أو جنوبا، وكذا تعيين مبادئ الحركات وتخصيصها بزمان دون زمان، فإن الأفلاك سواء قلنا أن ذواتها حادثة أو يقال إنها أزلية، لا بد أن يكون لحركاتها أول فإن الحركة انتقال من حالة إلى حالة، وكون الحركة أزلية ينافي المسبوقية بالغير. فالابتداء بالحركة بعد أن لم تكن يقتضي الافتقار إلى فاعل مختار يكون الكل تحت قهره وتسخيره، وكذا تخصيص كل من الكواكب بعظم آخر وبلون آخر وبلون آخر كصفرة عطارد وبياض الزهرة كمودة زحل ودريّة المشتري وحمرة المريخ وظلمة القمر في ذاته بحيث إذا حال حائل بين الناظر وبين الشمس- وذلك في الاجتماع المرئي- كسفه. وكذا اختلاف تأثيراتها في هذا العالم بإذن خالقها. وبالجملة فإن هذا الترتيب العجيب والنسق الأنيق في تركيب هذه الأفلاك وائتلاف حركتها وارتباط أجرامها واختلاف أوضاعها المستتبعة لاتصالاتها وانصرافاتها، أترى أنها مبنية على حكمة وبقدرة قدير خبير أم هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 واقعة عبثا وجزافا؟ هيهات فإن من جوّز في بناء رفيع وقصر مشيد أن التراب والماء انضم أحدهما إلى الآخر ثم تولد منهما اللبنات ثم تركبت تلك اللبنات وتولدت من تركيبها القصر ثم تزين بنفسه بالنقوش الغريبة والرسوم اللطيفة، قضى العقل له بالجنون وسجل عليه بسخافة الرأي بل يعد من زمرة الأنعام من جملة الأنام. الآية الثانية خلق الأرض: ومن تأمل في شكلها من الاستدارة وفي حيزها من كونها واقعة في مركز العالم حتى انبعث منها بوقوع الشمس عليها مخروط ظلي في مقابلة الشمس متى وقع القمر فيه انخسف، ومن انكشاف بعضها عن كرة الماء لمكان الاستقرار عليها، وفي اختلاف أوضاع بقاعها بالنسبة إلى السماء حتى اختلف مرور الشمس وسائر الكواكب بسمت رؤوس قطان البلدان وتباينت الفصول والأمزجة والأخلاق وتغايرت الطوالع والمطالع بحسب تغاير الآفاق، ومن سائر أعراضها ومنافعها التي تقرر طرف منها في تفسير قوله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: 22] علم افتقارها إلى مدبر قدير وعليم خبير واحد في ملكه يفعل ما يشاء كما يشاء من غير منازع ومعاند. الثالثة: اختلاف الليل والنهار: أما النهار فإنه عبارة عن مدة كون الشمس فوق الأفق. وفي عرف الشرع: زيادة ما بين طلوع الفجر الصادق إلى طلوع جرم الشمس. وأما الليل، فعبارة عن مدة خفاء الشمس تحت الأفق، أو بنقصان الزيادة المذكورة، وذلك لأن الشمس إذا غابت ارتفع رأس مخروط ظل الأرض إلى فوق فوقع الإبصار داخله إلى أن يظهر الضلع المستنير منه من جانب الأفق الشرقي فيكون أول الفجر الكاذب إن كان الضوء مرتفعا عن الأفق بعد، وأول الفجر الصادق إذا قرب من الأفق جدا وانبسط النور حتى إذا غاب رأس المخروط تحت الأفق طلع مركز جرم الشمس في مقابله فظهر أن الليل والنهار كيف يختلفان أي يتعاقبان مجيئا وذهابا كقوله وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الفرقان: 62] أو يختلفان ظلاما وضياء أو طولا وقصرا لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر ضرورة كون مجموعهما أربعا وعشرين ساعة. أو كيف يختلفان في الأمكنة فإن نهار كل بقعة تقابلها ضرورة كروية الأرض. أو كيف يختلفان باختلاف البلدان فإن البلد كلما ازداد عرضا عن خط الاستواء- وهو الموضع المحاذي لمنطقة الفلك الأعظم المسماة معدل النهار- ازداد نهاره في الصيف طولا وفي الشتاء قصرا وبالعكس في الليل وقد يرتقي طول النهار بحسب تزايد ارتفاع القطب إلى حيث يصير اليوم بليلته نهارا كله وبإزائه الليل، ثم إلى أكثر من ذلك إلى حيث يكون نصف السنة نهارا ونصفها الآخر ليلا وذلك إذا صار قطب الفلك الأعظم محاذيا لسمت الرأس ولا عمارة هناك، ولا حيث يزيد النهار الأطول على يوم بليلته لشدة البرد اللازم من قبل انخفاض الشمس. وكون الليل والنهار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 في أنفسهما آيتين على وجود الصانع ووحدانيته ظاهر، وكذا من جهة ارتباطهما بحركة النير الأعظم، وكذا من جهة انتظام أحوال العباد بهما بسبب طلب المعاش في الأيام والنوم والراحة في الليالي. ومن الغرائب تعاون المتنافيين على أمر واحد هو إصلاح معاش الحيوان، وأن إقبال الخلق في أول الليل على النوم يشبه موت الخلائق أولا عند النفخة الأولى، ويقظتهم عند طلوع الفجر تضاهي عود الحياة إليهم في النفخة الثانية، وانشقاق ظلمة الليل بظهور الفجر المستطيل فيه من أعجب الأشياء كأنه جدول ماء صاف يسيل فيما بين بحر كدر بحيث لا يمتزجان. وكل هذه الأمور دلائل على وجود مبدع عظيم الشأن غني عن الزمان والمكان مبرأ عن سمات الحدوث والإمكان. الرابعة: الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس أي متلبسة بالذي ينفعهم مما يحمل فيها، أو بنفع الناس. والفلك بالضم والسكون السفينة، واحد وجمع. فضمة الواحد ضمة برد وضمة الجمع ضمة أسد، وتأنيث صفته هاهنا أن يكون لتضمين معنى السفينة، ويحتمل أن يكون لمعنى الجمعية أي المراكب التي تجري، والتركيب يدل على الاستدارة والدوران ومنه «الفلك جسم كروي يحيط به سطحان متوازيان مركزهما واحد» «وفلكة المغزل» «وفلك ثدي الجارية استدار» . والبحر خلاف البر. قيل: سمي بذلك لاتساعه وتعمقه ومنه «تبحر في العلم والمال» ويسمى الفرس الواسع الجري بحرا. قال صلى الله عليه وسلم في فرس أبي طلحة: إن وجدناه لبحرا وقيل: من الشق بحرت أذن الناقة شققتها. ومنه البحيرة. هذا وقد سلف في تفسير قوله عز من قائل الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: 22] . أن الماء محيط بأكثر جوانب القدر المعمور من الأرض فذلك هو البحر المحيط. وقد دخل من ذلك الماء من جانب الجنوب متصلا بالمحيط الشرقي ومنقطعا عن الغربي إلى وسط العمارة أربعة خلجان: أولها إذا ابتدئ من الغرب الخليج البربري لكونه حدود بربر من أرض الحبشة طوله من الجنوب إلى الشمال مائة وستون فرسخا، وعرضه خمسة وثلاثون فرسخا. وعلى ضلعه الغربي بلاد كفار الحبشة وبعض الزنج، وعلى الشرقي بلاد مسلمي الحبشة. وثانيها الخليج الأحمر، طوله من الجنوب إلى الشمال أربعمائة وستون فرسخا، وعرضه بقرب منتهاه ستون فرسخا، وبين طرفه وفسطاط مصر الذي على شرقي النيل مسيرة ثلاثة أيام على البر، وعلى ضلعه الغربي بلاد الزنج من البربر وبعض بلاد الحبشة، وعلى ضلعه الشرقي سواحل عليها فرضة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لقوافل مصر والحبشة إلى الحجاز، ثم سواحل اليمن، ثم عدن على الزاوية الشرقية منه. وثالثها خليج فارس، طوله من الجنوب إلى الشمال أربعمائة وستون فرسخا، وعرضه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 قريب مائة وثمانين، وعلى سواحل ضلعه الغربي اليمن وبلاد عمان ولهذا ينسب البحر هناك إليها. وجملة ولاية العرب وأحيائهم من الحجاز واليمن والطائف وغيرها وبواديهم بين الضلع الغربي من هذا البحر والشرقي من الخليج الأحمر، فلهذا تسمى العمارة الواقعة بينهما جزيرة العرب وفيها مكة زاد الله شرفها. وعلى سواحل ضلعه الشرقي بلاد فارس ثم هرموز ثم مكران ثم سواحل السند. ورابعها الخليج الأخضر مثلث الشكل آخذ من الجنوب إلى الشمال. ضلعه الشرقي من بلاد فارس ثم هرموز ثم مكران يتصل بالمحيط الشرقي. وضلعه الغربي خمسمائة فرسخ تقريبا. وعلى سواحل هذا الضلع ولايات القتا والصين ولهذا يسمى بحر الصين، ومن زاويته الشرقية من بحر فارس يسمى بحر الهند لكون بعض ولاياتهم على سواحله، وأيضا قد دخل إلى العمارة من جانب الغرب خليج عظيم يمر من جانب الجنوب على كثير من بلاد المغرب ويحاذي أرض السودان وينتهي إلى بلاد مصر والشام، ومن جانب الشمال على بلاد أندلس والجلانقة والصقالبة إلى بلاد الروم والشام، ويتشعب منه شعبة من شمال أرض الصقالبة إلى أرض مسلمي بلغار يسمى بحر ورتك. طوله المعلوم مائة فرسخ، وعرضه ثلاثة وثلاثون. وإذا جاوز تلك النواحي امتدّ نحو المشرق عما وراء جبال غير مسلوكة وأرض غير مسكونة، ويتشعب منه أيضا شعبة تسمى بحر طرابزون. فهذه هي البحار المتصلة بالمحيط. أما غير المتصلة فأعظمها بحر طبرستان وجيلان وباب الأبواب والخرز والبكون، لكون هذه الولايات على سواحله مستطيل الشكل آخذ من المشرق إلى المغرب بأكثر من مائتين وخمسين فرسخا، ومن الجنوب إلى الشمال تقريب من مائتين. ومن عجائب البحار الحيوانات المختلفة الأعظام والأنواع والأصناف، ومنها الجزائر الواقعة فيها. فقد يقال في بحر الهند من الجزائر العامرة وغير العامرة ألف وثلاثمائة وسبعون، منها جزيرة عظيمة في أقصى البحر تقابل أرض الهند في ناحية المشرق. وعند بلاد الصين تسمى جزيرة سرنديب دورها ثلاثة آلاف ميل، فيها جبال عظيمة وأنهار كثيرة ومنها يخرج الياقوت الأحمر. وحول هذه الجزيرة تسع عشرة جزيرة عامرة فيها مدائن وقرى كثيرة، ومن جزائر هذا البحر جزيرة «كلة» التي يجلب منها الرصاص القلعي، وجزيرة «سريرة» التي يجلب منها الكافور. وغرائب البحر كثيرة ولهذا قيل: حدث عن البحر ولا حرج وسئل بعض العقلاء ما رأيت من عجائب البحر؟ قال: سلامتي منه. والسفينة مما ألهم الله تعالى تركيبها ثم أجراها بقدرته على وجه الماء، فلولا رقة الماء وخفة مادة السفينة ثم عجيب صنعتها لما تم جريها، ولولا الرياح المعينة على تحركها لما تكامل النفع بها، ولولا اعتدال الريح لما سلمت من تلاطم الأمواج، ولولا تقوية قلوب راكبيها لما صبروا على شدائد ركوبها، ولولا أنه تعالى خص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 كل طرف بشيء لم تنبعث الدواعي إلى اقتحام الأخطار في هذه الأسفار وحمل الأمتعة إلى الأمصار في البراري والبحار، فلا جرم ينتفع الحامل من حيث إنه يربح، وينتفع المحمول إليه من حيث إنه يجد ما أعوزه. وفي الآية دليل على إباحة ركوب السفينة وإباحة الانتفاع بالتجارة. الخامسة: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أما نزول المطر من السماء فقد مر تحقيق ذلك في تفسير قوله تعالى أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [البقرة: 19] وأن المراد من السماء السحاب أو التقدير من جانب السماء. وأما تنكير مِنْ ماءٍ فلأن الغرض الوحدة الشخصية أو الصنفية يعني ماء هو سبب حياة الأرض لا المطر الذي قد لا ينبت شيئا كما جاء في الحديث «ليس السنة بالتي لا تمطر وإنما السنة التي تمطر ولا تنبت» «1» ولا ريب أن في إنزال ذلك الماء دلالات على الصانع ووحدانيته حيث جعله في غاية الصفاء واللطافة والعذوبة وصيره سببا للأرزاق وأنزله بعد قنوط الناس منه وشدة احتياجهم إليه وأودع في نزوله حياة الأرض أي حسنها ونضارتها ورواءها وبهجتها وخضرتها بخروج أصناف النبات وضروب الأعشاب وألوان الأزهار وأنواع الأشجار والأثمار وجريان الجداول بينها والأنهار بحيث تروق الناظرين وتشوق السامعين. فوقت الربيع في الأزمان ... كسن الصبا في الأسنان. وموت الأرض من ترشيح الاستعارة، فإنه لما عبر عن بهجتها ونضرتها وخضرتها بالحياة، عبر عن جمودها وكمودتها وبقائها على الهيئة الأصلية بالموت كأنها جسد لا روح فيه. فلا دواء عليه. السادسة: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وإنه معطوف على أَنْزَلَ فيدخل تحت حكم الصلة، ويصح عود الضمير فِيها إلى الأرض لأن قوله فَأَحْيا عطف على أَنْزَلَ فاتصل به وصارا جميعا كالشيء الواحد. فكأنه قيل: وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة ويجوز عطفه على فَأَحْيا أي فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة، لأن معاش الحيوان بل حياته يدور على الماء وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: 30] . واعلم أن الحيوان إما توليدي أو توالدي، وكلا الصنفين يحتاج إلى صانع   (1) رواه مسلم في كتاب الفتن حديث 45. أحمد في مسنده (2/ 342) . [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 فرد حكيم. يحكى أن شخصا قال بحضرة عمر: إني أتعجب من أمر الشطرنج ورقعته صغيرة ولو لعب الإنسان به ألف مرة لم يتفق مرتان فقال عمر: هاهنا ما هو أعجب منه، وهو أن مقدار الوجه شبر في شبر، ثم إن مواضع الأعضاء التي فيها من الحاجبين والعينين والأنف والفم لا يتغير البتة ومع ذلك لا ترى شخصين أبدا يشتبهان في الصورة. فما أعظم تلك القدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرقعة الصغيرة هذه الاختلافات التي لا حد لها، ولولا هذا الاختلاف لاشتبه الناس بعضهم ببعض وانقطع نظم معايشهم وحوائجهم. ومن تأمل كتب التشريح وقرأ كتاب الحيوان وتتبع عجائب المخلوقات وقف من تراكيبها وخواصها على ما يقضي منه العجب ويفضي إلى الاعتراف بوحدانية الرب. السابعة: تصريف الله تعالى الرياح مع دقتها ولطافتها وفي ذلك نفع عظيم لانتفاع الحيوان بتنشق الهواء البارد، وبجريان السفن بهبوب الرياح، ومن قبل تلقيح الأشجار وسوق السحاب إلى حيث يرسله الله تعالى، ومن جهة تصحيح الأهوية الوبائية إلى غير ذلك من المنافع. والمراد بتصريفها تقليبها في جهات العالم على حسب المصالح شمالا وجنوبا وشرقا وغربا أي صبا ودبورا على كيفيات متخالفة حارّة وباردة وعاصفة ورخاء. ومن قرأ الريح بالموحدة فليس فيها دلالة على العذاب في هذا المقام، والذي جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت الريح قال: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا. فلا يدل إلا على أن مواضع الرحمة بالجمع أدل كما قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الروم: 46] وقال وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذاريات: 41] وقد تختص اللفظة في القرآن بشيء فتكون أمارة له. فمن ذلك أن عامة ما جاء في التنزيل من قوله وَما يُدْرِيكَ مبهم غير معين قال وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى: 17] وما كان من لفظ «أدراك» فإنه مفسر وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ [القارعة: 3] وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ [القارعة: 10] . الثامنة: السحاب المسخر بين السماء والأرض سمي سحابا لانسحابه في الهواء. ومعنى التسخير التذليل. وذلك أن طبع الماء ثقيل يقتضي النزول فكان بقاؤه في جو الهواء على خلاف طبعه بقاسر ومخسر. وأيضا لو دام لعظم ضرره من حيث إنه يستر ضوء الشمس ويكثر الأنداء والأمطار ويتعذر التردد في الحوائج، ولو انقطع لعظم ضرره لاستلزامه الجدب والإمحال، فكان تقديره بالمقدار المعلوم والإتيان به في وقت الحاجة ودفعه عند زوالها بمدبر ومسخر لا محالة. وفي نفس السحاب من عظمه وتراكمه وارتفاعه وانخفاضه وانبساطه وتخلخله وسده الأفق في لحظة وانقشاعه في أخرى واشتماله على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 الرعد والبرق والسحمة والتطبيق إلى غير ذلك من العجائب دلالات واضحة على كمال حكمة موجده ومقدّره. وأما قوله تعالى لَآياتٍ فيحتمل أن يكون راجعا إلى الكل أي مجموع هذه الأشياء الثمانية آيات، ويحتمل أن يكون راجعا إلى كل واحد فإن كل واحد منها يدل على مدلولات كثيرة كما فصلنا. وأيضا فكل واحدة منها من حيث إنها موجودة فدل على وجود موجدها، وكونه قادرا ومن حيث إنها وقعت على وجه الإحكام والإتقان تدل على علم الصانع، ومن حيث حدوثها واختصاصها بوقت دون وقت تدل على إرادته واختياره، ومن حيث إنها وجدت على الاتساق والانتظام دلت على وحدانية الله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] . وأما قوله تعالى لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فإنما خص الآيات بهم لأنهم الذين يتمكنون من النظر فيه والاستدلال به. وفي الآية من الفوائد أن التقليد مذموم فيما إلى تحقيقه سبيل. وفيها أن جميع المعارف ليست ضرورية وإلا لم يحتج إلى النظر في شيء منها، وإنما خص الآيات الثمانية بالذكر مع أن سائر الأجسام والأعراض مستوية في الاستدلال بها على وجود الصانع بل كل ذرّة من الذرات، لأنها جامعة بين كونها نعما على المكلفين، ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثيرا في الخواطر. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها» أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها حسبي الله ونعم الوكيل. [سورة البقرة (2) : الآيات 165 الى 167] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) القراآت: ولو ترى بتاء الخطاب: نافع وابن عامر وسهل ويعقوب. الباقون: بالياء إِذْ يَرَوْنَ بضم الياء من الإراءة: ابن عامر أَنَّ الْقُوَّةَ وَأَنَّ اللَّهَ بكسر الألف فيهما: يزيد وسهل ويعقوب إِذْ تَبَرَّأَ بإدغام الذال في التاء وكذا ما أشبهه: هشام وسهل وأبو عمرو وحمزة وعلي وخلف. يُرِيهِمُ اللَّهُ بكسر الهاء والميم: أبو عمرو وسهل. وقرأ حمزة وعلي وخلف ويعقوب بضم الهاء والميم. والباقون بكسر الهاء وضم الميم بِخارِجِينَ بالإمالة: عباس وقتيبة لجوار من النار. الوقوف: كَحُبِّ اللَّهِ ط حُبًّا لِلَّهِ ط الْعَذابَ لا وكذلك وجَمِيعاً لا من قرأ «أن» و «إن» بالكسر فيهما شَدِيدُ الْعَذابِ هـ الْأَسْبابُ هـ تَبَرَّؤُا مِنَّا ط عَلَيْهِمْ ط مِنَ النَّارِ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 التفسير: أنه سبحانه وتعالى لما قرر للتوحيد الدلائل الباهرة عقبها تقبيح ما يضاده «فبضدها تتبين الأشياء» والند المثل المناد كما سلف. والمراد بالأنداد هاهنا هي الأصنام التي اعتقد المشركون أنها تقربهم إلى الله زلفى، ونذروا لها النذور وقربوا لأجلها القرابين، وقيل: يعني السادة الذين كانوا يطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم محلين ما حرم الله ومحرّمين ما أحل. عن السدى: واستدل على تفسيره بأن قوله يُحِبُّونَهُمْ فيه ضمير العقلاء ولأنه من المستبعد أن تكون محبتهم لها كمحبتهم لله تعالى مع علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع ولقوله إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ العقلاء أندادا وأمثالا لله تعالى يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ما يلتزمه المؤمنون لله تعالى. ويمكن تزييف الحجج بأن ضمير العقلاء جاز عوده إلى الأصنام بناء على اعتقاد الجهلة حيث نظموها في سلك المعبود الحق. قال تعالى إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ [فاطر: 14] . وأيضا علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع ممنوع ولو علموا بذلك ما أشركوا وأيضا التبري لا يمتنع من الأصنام بدليل قوله تعالى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر: 14] وقال أهل العرفان: كل شيء شغلت قلبك به سوى الله فقد جعلته في قلبك ندا لله تعالى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: 23] يُحِبُّونَهُمْ يحبون عبادتهم أو التقرب إليهم والانقياد لهم، أو يعظمونهم ويخضعون لهم كحب الله من إضافة المصدر إلى المفعول أي كما يحب الله على أنه مصدر من المبني المفعول. وإنما استغنى عن ذكر من يحبه وهم المؤمنون لأنه غير ملتبس. وقيل: كالحب اللازم عليهم لله وقيل: كحبهم الله أي يسوّون بينه وبينهم في محبتهم بناء على أنهم كانوا مقرّين بالله فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: 65] وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره في السراء ولا في الضراء، ولا يجعلون وسائط بينهم وبينه بخلاف المشركين يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره، أو يأكلونه كما أكلت باهلة آلهتها من حيس وهو الأقط والسمن والتمر عام المجاعة وفيهم قال الشاعر: أكلت حنيفة ربها ... زمن التقحم والمجاعة لم يحذروا من ربهم ... سوء العواقب والتباعة واعلم أن إطلاق محبة العبد لله تعالى قد ورد في القرآن والحديث كما في هذه الآية وكقوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] ويروى أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت. وقد جاء لقبض روحه- هل رأيت خليلا يميت خليله؟ فأوحى الله إليه: هل رأيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 خليلا يكره لقاء خليله. فقال: يا ملك الموت الآن فاقبض. وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فقال: ماذا أعددت لها؟ فقال: ما أعددت كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله. فقال صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحبه. ثم إن الأئمة اختلفوا في معناها فقال جمهور المتكلمين: إن المحبة نوع من أنواع الإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات، ويستحيل تعلق المحبة بذات الله وصفاته، فمعنى قولنا يحب الله يحب طاعة الله وخدمته أو يحب ثوابه وإحسانه. وأما العارفون فيقولون: إنا نحب الله لذاته لا لغرض، ولو كان كل شيء محبوبا لأجل شيء آخر دار أو تسلسل وإذا كنا نحب الرجل العالم لعلمه، والرجل الشجاع لقوته وغلبته، والرجل الزاهد لبراءة ساحته عن المثالب، فالله تعالى أحق بالمحبة لأن كل كمال بالنسبة إلى كماله نقص، والكمال مطلوب لذاته محبوب لنفسه. وكلما كان الاطلاع على دقائق حكمة الله وقدرته وصنعه أكثر كان حبه له أتم، وبحسب الترقي في درجات العرفان تزداد المحبة إلى أن يستولي سلطان الحب على قلب المؤمن فيشغله عن الالتفات لغيره ويفنى عن حظوظ نفسه، فيه يسمع وبه يبصر وبه يمشي ويتكلم بلسان الحال «ليس في جبتي سوى الله» فلا يعصي الله طرفة عين ولا يشتغل بحظ نفسه لمحة بصر كما قيل: تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في الفعال بديع لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع ويحب الله ويحب أولياءه ومقربيه ويناوىء أعداءه ومخالفيه أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة: 54] . لعين تغدى ألف عين ويتقى ... ويكرم ألف للحبيب المكرم وَلَوْ يَرَى قرىء بالياء والتاء «وأن» «وإن» بالفتح والكسر فههنا أربعة تقديرات: الأول: لو يعلم الذين ظلموا أنفسهم باتخاذ الأنداد إذا عاينوا العذاب يوم القيامة أن القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم وأن عذاب الله للظالمين شديد، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم. وحذف جواب «لو» دليل على فخامة شأن المحذوف ليذهب الوهم كل مذهب ويقدر من الفظاعة ما لا يكتنه كنهه كقولهم «لو رأيت فلانا والسياط تأخذه» بخلاف ما وقع التعبير عنه بلفظ معين. الثاني: ولو ترى- يا محمد أو يا من يتأتى منه الرؤية- هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم وقت معاينتهم العذاب بمعاينتهم أن القدرة كلها لله وأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 شديد العذاب، لرأيت أمرا عظيما. فعلى هذا «أن» «وإن» مع معمولهما بدل من العذاب. قال الفراء: الوجه فيه تكرير الرؤية أي يرون أن القوة لله جميعا. الثالث: بياء الغيبة وكسر «إن» و «إن» ومعناه كالأول، والجملتان معترضتان. أو المعنى لقيل: إن القوة لله. والرابع: على هذا القياس. ودخول «لو» وكذا «إذا» في المستقبل مع «أن» حقهما الدخول على الماضي نظم للمستقبل في سلك الماضي المقطوع به لصدوره عمن لا خلاف في إخباره. وقيل: لأن الساعة قريب فكأنها قد وقعت وكذا الكلام في إِذْ تَبَرَّأَ وأنه بدل من إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ وقيل: هو معمول شديد. والمراد بالذين اتبعوا القادة والرؤساء من مشركي الإنس. عن قتادة والربيع وعطاء: أو شياطين الجن الذين صاروا متبوعين بالوسوسة عن السدي: وقيل الأوثان. والتبري إما بالقول وهو أقرب، وإما بظهور العجز والندم بحيث لا يغنون عن أنفسهم من عقاب الله شيئا فكيف عن غيرهم؟ وَرَأَوُا الْعَذابَ الواو للحال أي تبرؤا في حال رؤيتهم العذاب وَتَقَطَّعَتْ عطف على تَبَرَّأَ بِهِمُ أي عنهم فإن «تقطع» في معنى «زال أو وقع» تقطع الأسباب ملتبسة بهم مثل لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: 94] بضم النون أو الباء للتعدية كأن أسباب الوصل صارت أسباب القطع ومصالحهم انقلبت عليهم مفاسد. والسبب في اللغة الحبل ثم استعير لكل ما يتوصل به. قالوا: ولا يدعى الحبل سببا حتى ينزل ويصعد به. والمراد هاهنا الوصل التي كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد ومن الأنساب والمحاب والأتباع والأشياع والعهود والعقود لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً تمنّ ولذلك أجيب بالفاء كأنه قيل: ليت لنا كرة رجعة إلى الدنيا وإلى حال التكليف والمتبوعون مفتقرون إلى اتباعنا ونصرتنا حتى نتبرأ منهم بعدم النصرة والإعانة كما فعلوا هم اليوم كَذلِكَ مثل ذلك الإراء الفظيع يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ هو ثالث مفعول «أرى» أو مثل ذلك التبرؤ يريهم أعمالهم حسرات، فإن ذلك التبرؤ نوع إراءة. والمراد بالأعمال قيل الطاعات لزمتهم فلم يقوموا بها وضيعوها. عن السدي: وقيل المعاصي وأعمالهم الخبيثة يتحسرون لم عملوها. عن الربيع وابن زيد: وقيل ثواب طاعاتهم التي أتوا بها فأحبطوه بالكفر. عن الأصم: وقيل أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم. والحسرة شدة الندم على ما فات حتى بقي النادم كالحسير من الدواب وهو الذي لا منفعة فيه. والتركيب يدور على الكشف ومنه انحسر الطائر انكشف بذهاب ريشه. والحاصل أنهم لا يرون مكان أعمالهم إلا حسرات. فيا أيها المغرور بالسلامة ما أعددت ليوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يوم يجعل الولدان شيبا، يوم يدع المسرور كئيبا. الدنيا دار تجارة فالويل لمن تزود منها الخسارة وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ استدل الأشاعرة بالتقديم على التخصيص فقالوا: إن أصحاب الكبيرة من أهل القبلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 يخرجون من النار. وزعم المعتزلة أن بناء الكلام على «هم» لتقوي الحكم وإفادة التأكيد كقوله تعالى وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف: 19] فإنه لا يدل على أن غير الأصنام غير مخلوق والله أعلم حسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى. [سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 171] يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) القراآت: خُطُواتِ ساكنة الطاء حيث كان: أبو عمرو وغير عباس ونافع وحمزة وخلف الهاشمي وأبو ربيعة عن البزي والقواس والحماد وأبو بكر غير البرجمي. الباقون: بالضم. بَلْ نَتَّبِعُ. وبابه مثل هَلْ نُنَبِّئُكُمْ [الكهف: 103] وبَلْ نَقْذِفُ [الأنبياء: 18] مدغما حيث كان: علي وهشام. الوقوف: طَيِّباً ز والوصل أجوز لعطف الجملتين المتفقتين الشَّيْطانِ ط مُبِينٌ هـ ما لا تَعْلَمُونَ هـ آباءَنا ط لابتداء الاستفهام وَلا يَهْتَدُونَ هـ وَنِداءً ط لحق المحذوف أي هم صم لا يَعْقِلُونَ هـ. التفسير: قال الكلبي: نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة، حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. والآية مسوقة لتقرير طرف من جهالات المشركين المتخذين من دون الله أندادا. وحلالا مفعول كلوا أو حال مما في الأرض وهو المباح الذي انحلت عقدة الحظر عنه من الحل الذي يقابل العقد. ومنه حل بالمكان إذا نزل، وحل عقد الرحال، وحل الدين وجب لانحلال العقدة بانقضاء المدة، والحلة لأنها تحل عن الطي للبس. وتحلة القسم لأن عقدة اليمين تنحل به. ثم الحرام قد يكون حراما في جنسه كالميتة والدم، وقد يكون حراما لعرض كملك الغير إذا لم يأذن في أكله، فالحلال هو الخالي عن القيدين والطيب إن أريد به ما يقرب من الحلال لأن الحرام يوصف بالخبيث قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ [المائدة: 100] فالوصف لتأكيد المدح مثل نَفْخَةٌ واحِدَةٌ [الحاقة: 13] أي الطاهر من كل شبهة. ويمكن أن يراد بالطيب اللذيذ، أو يراد بالحلال ما يكون بجنسه حلالا وبالطيب ما لا يتعلق به حق الغير. والخطوة بالضم ما بين قدمي الخاطي كالغرفة بالضم اسم لما يغترف والفعلة بالضم والسكون إذا كانت اسما تجمع في الصحيح بسكون العين وضمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 يقال: اتبع خطواته ووطئ على عقبه إذا اقتدى به واستن بسنته مُبِينٌ ظاهر العداوة لا خفاء به قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 82] لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الأعراف: 16- 17] إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ السوء متناول جميع المعاصي من أفعال الجوارح وأفعال القلوب، والفحشاء هي التي جاوزت الحد في القبح فلهذا قد تحقق الأول بما لم يجب فيه الحد والثاني بما يجب فيه الحد وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وهذا أقبح الكل لأن وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم الكبائر فهذه الآية كالتفسير لقوله وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ والصغائر والكبائر والكفر والجهل كلها من مأمورات الشيطان، بل لا يأمر الشيطان إلا بهذه الأمور بدليل «إنما» وهي للحصر وقد يدعو الشيطان إلى الخير ظاهرا وغرضه أن يجرّه إلى الشر آخرا مثل أن يجرّه من الأفضل إلى الفاضل فيتمكن بعد ذلك أن يجرّه إلى الشر. ومثل أن يجره من الفاضل السهل إلى الأفضل الأشق ليصير ازدياد المشقة سببا لتنفره عن الطاعة. ويدخل في قوله وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ جميع المذاهب الباطلة والعقائد الفاسدة وقول الرجل هذا حلال وهذا حرام بغير علم بل يتناول مقلد الحق لأنه وإن كان مقلدا للحق لكنه قال ما لا يعلم فصار مستحقا للذم من جهة أنه قادر على تحصيل العلم بالحق، ثم إنه قنع بالظن والتخمين. ومعنى أمر الشيطان وسوسته وقد سلف في شرح الاستعاذة، وفي التعبير عن وسوسته بالأمر رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم أو قبولكم وساوسه. وإذا كان الآمر المطاع مرجوما مذموما فكيف حال المأمور المطيع؟ وفي هذا معتبر للبصراء ومزدجر للعقلاء أعاذنا الله بحوله وأيده من مكر الشيطان وكيده. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي للمتخذين من دون الله أندادا أو للناس. والالتفات إلى الغيبة للنداء على ضلالتهم كأنه يقول للعقلاء: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون: وعن ابن عباس: نزلت في اليهود حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا: نتبع ما ألفينا أي وجدنا عليه آباءنا، فإنهم كانوا خيرا منا وأعلم. وقد يعود الضمير إلى المعلوم كما يعود إلى المذكور، وعلى هذا فالآية مستأنفة. وإنما خص هذا الموضع بقوله أَلْفَيْنا لأن «ألفيت» يتعدى إلى مفعولين البتة فكان نصا في ذلك فورد في الموضع الأول على الأصل. واقتصر في المائدة ولقمان على لفظ «وجدنا» المشترك بين المتعدي إلى واحد والمتعدي إلى اثنين اكتفاء بما ورد في الأول مع تغيير العبارة عارضوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة بالتقليد فما أغفلهم وأنفسهم فلا جرم أجاب الله تعالى بقوله أَوَلَوْ كانَ الواو للعطف لا للحال على ما وقع في الكشاف، والهمزة للرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 والتعجب وفعل الاستفهام، محذوف وكذا جواب الشرط، أيتبعونهم ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدين ولا يهتدون للثواب، أيتبعونهم أيضا؟ وتقرير الجواب أن يقال للمقلد: أعرفت أن المقلد محق أم لا. فإن لم تعرف فكيف قلدته مع احتمال كونه مبطلا، وإن عرفت فإما بتقليد آخر ويستلزم التسلسل، أو بالعقل فذلك كاف في معرفة الحق والتقليد ضائع. وأيضا علم المقلد إن حصل بالتقليد تسلسل، وإن حصل بالدليل فإنما يتبعه المقلد إذا علم ذلك الدليل أيضا وإلا كان مخالفا فظهر .... «1» فقال وضلال وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه للعلماء طريقان: أحدهما تصحيح المعنى بإضمار إما في المشبه أي مثل من يدعو الحق كمثل الذي ينعق يقال: نعق الراعي بالضأن إذا صاح بها. وأما نغق الغراب فبالغين المعجمة شبه الداعي إلى الحق براعي الغنم والكفرة بالغنم ووجه التشبيه أن البهيمة تسمع الصوت ولا تعلم المراد، وهؤلاء الكفار يسمعون صوت الرسول وألفاظه وما كانوا ينتفعون بها فكأنهم لا يفهمون معانيها. وإما بإضمار في المشبه به أي مثل الذين كفروا كبهائم الذي ينعق الطريق. الثاني: التصحيح بغير إضمار أي مثلهم في دعائهم الأصنام كمثل الناعق بما لا يسمع، لكن قوله إِلَّا دُعاءً وَنِداءً لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع شيئا. أو مثلهم في دعائهم آلهتهم كمثل الناعق في دعائه عند الجبل فإنه لا يسمع إلا صدى صوته. فإذا قال: يا زيد. يسمع من الصدى يا زيد، فكذلك هؤلاء الكفار إذا دعوا الأوثان لا يسمعون إلا ما تلفظوا به من الدعاء والنداء. أو مثلهم في قلة عقلهم حيث عبدوا الأوثان كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم. فكما أن الكلام مع البهائم دليل سخافة العقل فكذلك عبادتهم لها أي ومثلهم في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم كمثل الذي يتكلم مع البهائم، فكما أن ذلك عبث ضائع فكذا تقليدهم واتباعهم صُمٌّ عن استماع الحق والانتفاع به بُكْمٌ عن إجابة الداعي إلى سبيل الخير عُمْيٌ عن النظر في الدلائل فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ العقل المسموع ولا المطبوع وذلك أن طريق الاكتساب الاستعانة بالحواس ولهذا قيل: من فقد حسا فقد علما. فلما فقدوا فائدة الحواس فكأنهم عدموها خلقة، قال شابور بن أردشير: العقل نوعان: مطبوع ومسموع. فلا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه فإن أحدهما بمنزلة العين والآخر بمثابة الشمس ولا يكمل الإبصار إلا بتعاونهما. وقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن لكل شيء دعامة ودعامة عمل المرء عقله» فبقدر عقله تكون عبادته لربه. أما سمعتم قول الله عز وجلّ حكاية عن الفجار؟ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ [الملك: 10] وقال: «ما اكتسب المرء مثل عقل يهدي صاحبه إلى هدى ويرده عن ردى» . التأويل: الذين كفروا لم يسمعوا إذ خاطبهم الحق بقوله أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:   (1) موضع النقط كلمات مطموسة في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 172] إلا دعاء ونداء لأنهم كانوا في الصف الأخير من الأرواح المجندة في أربعة صفوف: الأول للأنبياء، والثاني للأولياء، والثالث للمؤمنين، والرابع للكافرين فما شاهدوا شيئا من أنوار الحق ولكنهم قالوا بالتقليد بلى فبقوا على التقليد بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا. [سورة البقرة (2) : الآيات 172 الى 176] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) القراآت: الْمَيْتَةَ بتشديد الياء: يزيد. الباقون: بالسكون فَمَنِ اضْطُرَّ بكسر النون وضم الطاء: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وكسر الطاء: يزيد. الباقون: بضمهما. الوقوف: تَعْبُدُونَ هـ لِغَيْرِ اللَّهِ ج الشرط مع فاء التعقيب عَلَيْهِ ط رَحِيمٌ هـ قَلِيلًا لا لأن ما بعده خبر «إن» يُزَكِّيهِمْ ج والوصل أولى لاتصال بعض جزائهم بالبعض أَلِيمٌ هـ بِالْمَغْفِرَةِ ج للابتداء بالتعجب أو الاستفهام والوجه الوصل للمبالغة في الإنكار. عَلَى النَّارِ هـ بِالْحَقِّ ط للابتداء بأن بَعِيدٍ ربع الجزء. التفسير: إنه سبحانه تكلم من أول السورة إلى هاهنا في دلائل التوحيد والنبوة واستقصى شرح أهل النفاق والشقاق من المشركين وأهل الكتاب، وذيل كلا من ذلك بما يناسبه، ومن هاهنا شرع في بيان الأحكام الشرعية. الحكم الأول: إباحة الأكل للمؤمنين بعد ما عمم للناس كلهم، وهذا بالنظر إلى الأصل. وقد يصير واجبا العارض كما لو أشرف على الهلاك بسبب المجاعة، وقد يكون مندوبا كموافقة الضيف واستدل بقوله مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ على أن الرزق قد يكون حراما فإن الطيب هو الحلال. ولو كان الرزق حلالا البتة لم يبق في ذكر الطيب فائدة إذ يصير المعنى كلوا من حلالات ما أحللنا لكم وأجيب بالمنع من أن معنى الطيب ما ذكر بل المعنى كلوا من متلذذات ما رزقناكم، ولعل أقواما ظنوا أن التوسع في الأكل الحلال والاستكثار من الملاذ ممنوع منه فرفع الحرج. وَاشْكُرُوا لِلَّهِ الذي رزقكموها إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه مولى النعم فإن الشكر رأس العبادة، والتركيب يدور على الكشف والإظهار ومنه كشر إذا كشف عن ثغره، فنشر النعم وحصرها باللسان من الشكر. وباطن الشكر أن يستعين بالنعم على الطاعة دون المعصية وقال بعضهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 أو ليتني نعما أبوح بشكرها ... وكفيتني كل الأمور بأسرها فلأشكرنك ما حييت فإن أمت ... فلتشكرنك أعظمي في قبرها عن النبي صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري» ولما أجمل في الآية ما يباح أكله ذيل بحصر ما هو محرّم ليبقى ما عدا ذلك على أصل الإباحة فقيل إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ يتناول ما مات حتف أنفه وما لم تدرك ذكاته على الوجه الشرعي. وإذا كانت محرمة وجب الحكم بنجاستها إجماعا، ولأن تحريم ما ليس بمحرم ولا فيه ضر وظاهر يدل على النجاسة. وليس في الآية إجمال عند الأكثرين، لأن المفهوم من تحريم الميتة ليس تحريم أعيانها وإنما المفهوم في العرف حرمة التصرف في هذه الأجسام كما لو قيل: فلان يملك جارية. فهم منه عرفا أنه يملك التصرف فيها. وعلى هذا فالآية تدل على حرمة جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل المخصص كالسمك والجراد لقوله صلى الله عليه وسلم «أحلت لنا ميتتان ودمان. أما الميتتان فالجراد والنون. وأما الدمان فالطحال والكبد» «1» . وقال صلى الله عليه وسلم في صفة البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» «2» وهذا عام لجميع الحيوانات التي لا تعيش إلا في الماء وإن لم تكن على صورة السمكة المشهورة. ولا فرق أيضا بين ما يؤكل نظيره في البر كالبقر والشاة وبين ما لا يؤكل كخنزير الماء وكلبه على أصح القولين للشافعي. وقد زعم بعض الناس كصاحب الكشاف أن السمك والجراد يخرج بنفسه لأن الميتة لا تتناولهما عرفا وعادة، ولهذا من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث، وإن أكل لحما في الحقيقة لقوله تعالى لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا [النحل: 14] وشبهوه بما لو حلف لا يركب دابة فركب كافرا لم يحنث وإن عدّ الكافر من الدواب لقوله تعالى إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 55] وفيه نظر. لأن عدم التناول عرفا إنما هو بعد تخصيص الشارع فلا يمكن أن يجعل دليلا على عمومه. وكالجنين الذي يوجد ميتا عند ذبح الأم عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد وهو المروي عن علي رضي الله عنه وابن مسعود وابن عمر لقوله صلى الله عليه وسلم «ذكاة الجنين ذكاة أمه» «3» وقال أبو حنيفة: لا يؤكل إلا أن يخرج حيا فيذبح وحمل الحديث   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الأطعمة باب 31. (2) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 41. الترمذي في كتاب الطهارة باب 52. النسائي في كتاب الطهارة باب 46. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 38. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 12. (3) رواه الترمذي في كتاب الصيد باب 10. أبو داود في كتاب الأضاحي باب 17. ابن ماجه في كتاب الذبائح باب 15. الدارمي في كتاب الأضاحي باب 17. أحمد في مسنده (3/ 31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 على الإضمار أي ذكاة الجنين كذكاة أمه وردّ بأن الإضمار خلاف الأصل، وبأنه إذا خرج لا يسمى جنينا، وبأنه لا يبقى للخبر حينئذ فائدة، لأن ذلك معلوم، ولما روي عن أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الجنين يخرج ميتا قال: «إن شئتم فكلوه فإن ذكاته ذكاة أمه» «1» وكشعر الميتة وصوفها فإنهما عند أبي حنيفة ظاهران لقوله تعالى في معرض الامتنان وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ [النحل: 80] ولقوله صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة «إنما حرم من الميتة أكلها» «2» ولأنهم كانوا يلبسون جلود الثعالب، ولأن الشعر، والصوف لا حياة فيه لأن حكم الحياة الإدراك والشعور. ومن هاهنا ذهب مالك إلى تحريم العظام دون الشعور، وعند الشافعي الشعر والعظم ونحوهما كالقرن والظفر والسن كلها نجسة لقوله صلى الله عليه وسلم «ما أبين من حي فهو ميت» ولأن الحياة عندنا عبارة عن كونه متعرض للفساد والتعفن، وهذا المعنى يعم الشعر واللحم. وأما الإهاب فللفقهاء فيه مذاهب سبعة. فأوسع الناس قولا الزهري. جوز استعمال الجلود بأسرها قبل الدباغ، ثم داود قال: تطهر كلها بالدباغ لقوله صلى الله عليه وسلم «أيما إهاب دبغ فقد طهر» «3» ولأن الدباغ يعيد الجلد إلى ما كان عليه حال الحياة من عدم التعفن والفساد. ثم مالك يطهر ظاهر كلها دون باطنها. ثم أبو حنيفة يطهر كلها إلا جلد الخنزير لدسومته والآدمي لكرامته. ثم الشافعي يطهر الكل إلا جلد الكلب والخنزير. ثم الأوزاعي وأبو ثور يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط. ثم أحمد بن حنبل والشيعة لا يطهر شيء منها بالدباغ لإطلاق الآية ولقول عبد الله بن حكيم: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب. واختلف في أنه هل يجوز الانتفاع بالميتة بإطعام البازي والبهيمة؟ فمنهم من منع منه حتى قال بعضهم: إذا أقدم البازي من عند نفسه على أكل الميتة وجب علينا منعه. وجوز الشافعي استعمال نجس العين كجلد الكلب والخنزير للضرورة كمفاجأة قتال مع فقدان غيره، وكدفع الحر والبرد المهلكين، ولأجل تجليل الكلب وإن لم يكن ضرورة، وكذا استعمال جلد الميتة قبل الدباغ لتجليل الدابة والكلب، وكذا استعمال النجس العين كودك الميتة والخنزير والزبل للاستصباح   (1) رواه أبو داود في الأضاحي في باب 18. ابن ماجه في كتاب الذبائح باب 15. أحمد في مسنده (3/ 31) . (2) رواه البخاري في كتاب الزكاة: باب 61. مسلم في كتاب الحيض حديث 100، 101. أبو داود في كتاب اللباس باب 38. الدارمي في كتاب الأضاحي باب 20. الموطأ في كتاب الصيد حديث 16. (3) رواه مسلم في كتاب الحيض حديث 105. أبو داود في كتاب اللباس باب 38. الترمذي في كتاب اللباس باب 7. النسائي في كتاب الفرع باب 4 الدارمي في كتاب الأضاحي باب 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 وتسميد الأرض لعموم الحاجة القريبة من الضرورة، وقد نقله الأثبات عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسئل عليه السلام عن الفأرة تقع في السمن فقال: استصبحوا به ولا تأكلوه. والدخان وإن كان نجسا لكنه قليل معفو عنه. وعند أبي حنيفة: إذا مات في الماء القليل ما ليس له نفس سائلة أي دم كالذباب والبعوض والخنفساء والعقرب وبنات وردان لم يفسد الماء قل أو كثر لأن رطوبة هذه الحيوانات تشبه رطوبة النبات فهي حية وميتة على هيئة واحدة. وعند الشافعي فيه قولان: وعامة الأصحاب عدّوا دود الطعام من جملة ما ليس له نفس سائلة وقالوا: لا ينجس الطعام الذي تولد منه بموته فيه بلا خلاف. وإن وقع في ماء أو في مائع آخر فقولان. ثم الذباب والبعوض ونحوهما وإن حكم بطهارة ميتتهما فهي محرمة لأنها مستقذرة مندرجة تحت عموم اسم الميتة. وفي جواز أكل دود الطعام والفواكه والماء وجهان، والأظهر تحريمها عند الانفراد، ومع هذه الأشياء يمكن أن يسامح به. وسأل عبد الله بن المبارك أبا حنيفة عن طائر وقع في قدر مطبوخ فمات فقال أبو حنيفة لأصحابه: ما ترون فيها؟ فذكروا له عن ابن عباس أن اللحم يؤكل بعد ما يغسل فيهراق المرق. فقال أبو حنيفة: بهذا نقول على شريطة إن كان وقع فيها في حال سكونها: فكما في هذه الرواية، وإن وقع فيها في حال غليانها لم يؤكل اللحم ولا المرق. قال ابن المبارك: ولم ذلك؟ قال: لأنه إذا سقط فيها في حال غليانها فمات فقد داخلت الميتة اللحم، وإذا وقع فيها في حال سكونها فمات فقد وسخت الميتة اللحم. فاستحسنه ابن المبارك. وعند أبي حنيفة: ذبح ما لا يؤكل لحمه يستعقب الطهارة. وعند الشافعي لا يستعقبها كما لا يستعقب حل الأكل، وكما لو ذبح المجوسي مأكول اللحم. ولبن الشاة الميتة وأنفحتها طاهران عند أبي حنيفة دون الشافعي ومالك، لا لأن الآية لا تتناولهما فإن اللبن لا يوصف بأن ميتة، بل لتنجسهما بمجاورة الميتة. وبيض مأكول اللحم إذا مات ووجد ذلك في جوفه فإن كان متصلبا فطاهر بعد أن يغسل وإلّا فلا. وأما الدم فعند الشافعي جميعه محرم سواء كان مسفوحا أو غير مسفوح لإطلاق الآية إلا الكبد والطحال للخبر عند من يقول بتناول الآية إياهما، وعند من يقول بذلك لا تخصيص. وقال أبو حنيفة: دم السمك ليس بمحرم، وأما لحم الخنزير فأجمعت الأمة على أن الخنزير بجميع أجزائه محرم، وتخصيص اللحم بالذكر لأن معظم الانتفاع متعلق به. أما شعر الخنزير فغير داخل في الظاهر وإن أجمعوا على تحريمه وتنجيسه. واختلفوا في أنه هل يجوز الانتفاع به للخرز؟ فأبو حنيفة ومحمد يجوز، والشافعي لا يجوز. واحتج أبو حنيفة بأنا نرى المسلمين يقرون الأساكفة على استعماله من غير نكير، ولأن الحاجة ماسة اليه. وأما ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 أهل به لغير الله فمعناه رفع به الصوت للصنم وذلك قول أهل الجاهلية باسم اللات والعزى. وأهل المعتمر إذا رفع صوته بالتلبية. قال العلماء: لو أن مسلما ذبح ذبيحة وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتدا، وذبيحة ذبيحة مرتد. وقدم به في هذه السورة وأخر في المائدة والأنعام والنحل لأن تقدم الباء هو الأصل لأنه يجري في إفادة التعدية مجرى الهمزة والتضعيف، فكان الموضع الأول هو اللائق بهذا الأصل، وفي سائر المواضع قدم ما هو المستنكر وهو الذبح لغير الله، ولهذا لم يذكر في سائر الآية قوله فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ اكتفاء بما ذكر في الموضع الأول. ويستثنى مما أهل به لغير الله ذبائح أهل الكتاب إذا سمي عليها باسم المسيح مثلا لإطلاق قوله تعالى وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة: 5] ولأن النصراني إذا سمي الله تعالى فإنما يريد به المسيح وهو مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه: إذا ذبحوا على اسم المسيح فقد أهلوا به لغير الله فوجب أن يحرم. وإذا ذبحوا على اسم الله فظاهر اللفظ يقتضي الحل ولا عبرة بما لو أراد به المسيح. وعن علي كرم الله وجهه: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. واعلم أن ظاهر الآية يقتضي أن يكون سوى هذه الأشياء محرما، لكنا نعلم أن في الشرع أشياء أخر سواها من المحرمات، فكلمة إنما متروكة العمل بظاهرها والله أعلم فَمَنِ اضْطُرَّ افتعل من الضر وهو الضيق أي ألجئ. استثنى من التحريم حالة الضرورة ولها سببان: أحدهما الجوع الشديد وأن لا يجد مأكولا حلالا يسد به الرمق فعند ذلك يكون مضطرا إلى أكل المحرم. الثاني: إذا أكرهه على تناوله مكره فيحل له تناول ما أكره عليه. والاضطرار ليس من أفعال المكلف حتى يقال إنه لا إثم عليه فيه، فلا بد من إضمار وهو الأكل. أي فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه، وإنما حذف للعلم به. «وغير» هاهنا بمعنى «لا» النافية كأنه قيل: فمن اضطر باغيا ولا عاديا. والبغي في اللغة الظلم والخروج عن الإنصاف. بغي الجرح ورم وترامي إلى فساد. وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء فهو بغي. والعدوان الظلم الصراح وتجاوز الحد. وللأئمة في الآية قولان: أحدهما وإليه ذهب أبو حنيفة تخصيص البغي والعدوان بالأكل، وعلى هذا فالمعنى غير باغ بأن يجد حلالا تكرهه النفس، فعد إلى أكل الحرام للذته وَلا عادٍ أي متجاوز قدر الرخصة، أو غير باغ أي طالب للذة ولا عاد متجاوز سدا لجوعه، عن الحسن وقتادة والربيع ومجاهد وابن زيد: أو غير باغ على مضطر آخر بالاستئثار عليه، ولا عاد في سد الجوعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 والثاني وإليه ذهب الشافعي والإمامية: غير باغ على إمام المسلمين، ولا عاد بالمعصية طريق المحقين. ويتفرع على الاختلاف أن العاصي بسفره هل يترخص أم لا؟ فعند أبي حنيفة يترخص لأنه مضطر وغير باغ ولا عاد في الأكل. وعند الشافعي لا يترخص لأنه موصوف بالعدوان ويؤيده الآية الأخرى فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ [المائدة: 3] وأيضا غير باغ ولا عاد حالان من الاضطرار، فلا بد أن يكون وصف الاضطرار باقيا في الحالين وليس كذلك، لأنه حال الأكل لا يبقى وصف الاضطرار. وأيضا الإنسان نفور بطبعه عن تناول الميتة والدم فلا حاجة الى نهيه عن التعدي في الأكل. وأيضا إنه نفي ماهية البغي والعدوان، وإنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها ويتحقق حينئذ نفي العدوان في السفر كما هو مقصودنا. وأما تخصيص البغي بالأكل كما ذهبتم إليه فترجيح من غير دليل. حجة أبي حنيفة قوله تعالى في آية أخرى وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام: 119] وهذا الشخص مضطر فوجب أن يترخص. وأيضا قال تعالى وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] والامتناع عن الأكل سعي في قتل النفس، فيحرم كما لو ترك دفع أسباب الهلاك عن نفسه إذا صال عليه جمل أو فيل أو حية. وأيضا الضرورة تبيح تناول طعام الغير من دون الرضا بل على سبيل القهر، وهذا التناول محرم لولا الاضطرار فكذا هاهنا. أجاب الشافعي: بأنه يمكنه الوصول إلى استباحة هذه الرخص بالتوبة، فإذا لم يتب فهو الجاني على نفسه. ثم إن الرخصة إعانة على السفر وإذا كان السفر معصية فالرخصة إعانة على المعصية، والسعي في تحصيل المعصية محظور، فالجمع غير ممكن ثم اتفق الإمامان على أن المضطر لا يأكل من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه إلا إذا عجز عن السير ويهلك فيتناول المشبع. وقال عبد الله بن الحسن العنبري: يأكل منها ما يسد جوعته. وعن مالك: يأكل منها حتى يشبع ويتزود فإن وجد غنى عنها طرحها. والأول أقرب، لأن سبب الرخصة إذا كان الإلجاء فمتى ارتفع الإلجاء ارتفعت الرخصة، كما لو وجد الحلال لم يحل له تناول الميتة، وكما أن الجوعة في الابتداء لا تبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضررا بتركه. وهذه الرخصة لجميع المحرمات عند الأكثرين، وبعضهم خصصها بما سوى لحم الخنزير، والشافعي منع عن شرب الخمر لشدة العطش دون إساغة اللقمة. وفي التداوي بها وجهان، وبسائر المحرمات يجوز ولا يجب الامتناع إلى أن يشرف على الموت فإن الأكل حينئذ لا ينفع، بل لو انتهى إلى تلك الحالة له التناول. وحدوث مرض مخوف في جنسه كخوف الموت، وهكذا إن كان يخاف منه لطوله وتماديه. ولا يشترط في جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 ذلك إلا غلبة الظن دون التيقن. ومعنى قوله فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ رفع الحرج والضيق كما مر في قوله فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة: 158] ورفع الحرج قدر مشترك بين الواجب والمندوب والمباح فلا ينافي وجوب الأكل في حالة الاضطرار. ومعنى قوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أن المقتضي للحرمة قائم إلا أنه زالت الحرمة لوجود العارض، فلما كان تناوله تناول ما حصل فيه المقتضى للحرمة ذكر بعده المغفرة، ثم ذكر أنه رحيم يعني لأجل الرحمة أبحت لكم ذلك، أو لعل المضطر يزيد على تناول قدر الحاجة فهو سبحانه غفور بأن يغفر ذنبه في تناول الزيادة، رحيم حيث أباح تناول قدر الحاجة. أو أنه لما بين هذه الأحكام فالمكلفون بالنسبة إليها إما أن يعصوا فذكر أنه غفور لهم إذا تابوا، أو يطيعوا فهو رحيم حيث وفقهم للطاعة. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ عن ابن عباس: نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم- كعب بن الأشرف وحي بن أخطب ونحوهما- كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضول، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم فعمدوا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم وقالوا: هذا نعت نبي آخر الزمان لا يشبه نعت هذا النبي الذي بمكة. فإذا نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفا لصفة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتبعونه وَيَشْتَرُونَ بِهِ أي بالكتمان لدلالة الفعل عليه، أو بالمنزل. وقد سبق معنى الاشتراء والثمن القليل فِي بُطُونِهِمْ حال أي ملء بطونهم. أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه إِلَّا النَّارَ لأنه إذا أكل ما يلتبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار كقولهم «أكل الدم» أي الدية التي هي بدل منه: قال: أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر وذلك أنهم كانوا يستنكفون عن أخذ الدية وبعيدة مهوى القرط كناية عن طول العنق. ويمكن أن يقال: إنهم يأكلون في الآخرة النار لأكلهم في الدنيا الحرام وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ بما يحبون لأنهم كتموا كلامه في الدنيا بل بنحو اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] أو لا يكلمهم الله أصلا لغضبه عليهم كما هو ديدن الملوك من الإعراض عند السخط والإقبال عند الرضا وَلا يُزَكِّيهِمْ بالإثناء عليهم أو بقبول أعمالهم أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى بيان لتماديهم في الخسارة فإن أحسن الأشياء في الدنيا الاهتداء والعلم، وأقبحها الضلال والجهل. وفي الآخرة أنفع الأشياء المغفرة، وأضرها العذاب فهم في خسران الدارين لاستبدالهم في الدنيا أقبح الأمور بأحسنها، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 الآخرة أضر الأشياء بأنفعها. فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ تعجب من حالهم في تلبسهم بمواجب النار من غير مبالاة منهم، فإن الراضي بموجب الشيء لا بد أن يكون راضيا بمعلوله ولازمه إذا علم ذلك اللزوم كما تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان «ما أصبرك على القيد والسجن» وهذا التعجب منهم في حال التكليف واشترائهم الضلالة بالهدى. وعن الأصم: أن المراد أنه إذا قيل لهم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] فهم يسكتون ويصبرون على النار لليأس من الخلاص. وضعف بأنه خلاف الظاهر وبأن أهل النار قد يقع منهم الجزع والاستغاثة. وقيل: إن «ما» في فَما أَصْبَرَهُمْ للاستفهام لمعنى التوبيخ معناه أي شيء صبرهم عليها حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل؟ وهذا أصل معنى فعل التعجب والتعجب استعظام الشيء مع خفاء سبب حصول عظم ذلك الشيء هذا هو الأصل، ثم قد يستعمل لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب كما في حق الله تعالى ذلِكَ الوعيد الشديد أو ذلك الكتمان وسوء معاملتهم إنما هو بسبب بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ يعني جنس الكتب السماوية أو القرآن بِالْحَقِّ بالصدق أو ببيان الحق وقد نزل في جملة ما نزل أن هؤلاء الرؤساء من أهل الكتاب لا يؤمنون ولا يكون منهم إلا الإصرار على الكفر فإنه تعالى ختم على قلوبهم وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ جنسه فقالوا في البعض حق وفي البعض باطل وهم أهل الكتاب لَفِي شِقاقٍ خلاف بَعِيدٍ عن الحق، أو الذين اختلفوا في القرآن فقال بعضهم شعر، وبعضهم سحر، وبعضهم أساطير الأولين، أو الذين اختلفوا في التوراة والإنجيل فقدح كل منهما في الآخر، أو ذكر كل منهما للآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تأويلا آخر فاسدا، أو حرفوا كلا منهما على وجه آخر لأجل عداوتك هم فيما بينهم في شقاق بعيد ومنازعة شديدة. فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتفاقهم على العداوة، فإنه ليس فيما بينهم مؤالفة وموافقة. وعن أبي مسلم: اختلفوا في الكتاب أي توارده مثل إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [يونس: 6] أي تعاقبهما. واعلم أن الآية وإن نزلت في أهل الكتاب، يشبه أن تكون عامة في كل من كتم شيئا من باب الدين فيكون حكما ثانيا للمسلمين، ويصلح أن يتمسك بها القاطعون بوعيد أصحاب الكبائر. وكان السبب في تعقيب هذا الحكم الحكم الأول أن أهل الكتاب قد حرموا بعض ما أحل الله كلحوم الإبل وألبانها وأحلوا بعض الشحوم، فسيقت الآية تعريضا بصنعهم وتصريحا بجزائهم وجزاء أضرابهم والله أعلم. التأويل: الميتة جيفة الدنيا والدم وهي الشهوات النفسانية «إن الشيطان يجري من ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 آدم مجرى الدم» «1» وقال أيضا صلى الله عليه وسلم «سدوا مجاري الشيطان بالجوع» ولحم الخنزير مادة الشره والحرص، وما أهل به لغير الله كل ما يتقرب به إلى الله رياء وسمعة والله تعالى أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 177] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) القراآت: لَيْسَ الْبِرَّ بنصب الراء: حمزة وحفص الخراز عنه مخير. الباقون: بالرفع وَلكِنَّ خفيفا الْبِرَّ رفعا وكذلك فيما بعد: نافع وابن عامر. الباقون: بالتشديد والنصب. الوقوف: وَالنَّبِيِّينَ ج لطول الكلام واختلاف المعنى لأن ما قبله أصول الإيمان وما بعده فروع: وَفِي الرِّقابِ ج للطول مع انتهاء شرع المكارم وابتداء اللوازم الزَّكاةَ ج عاهَدُوا ج للعدول عن النسق الى المدح والتقدير: هم الموفون أعني الصابرين الْبَأْسِ ط صَدَقُوا ط الْمُتَّقُونَ هـ. التفسير: هذا حكم آخر من أحكام الإسلام. عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البر فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال: وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ثم مات على ذلك وجبت له الجنة. وقيل: كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة فقيل: ليس البر العظيم الذي يجب أن تذهلوا لشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة، ولكن البر الذي يجب صرف الهمة إليه بر من آمن وقام بهذه الأعمال، وعلى هذا فالخطاب عام. وقيل: الخطاب لأهل الكتاب لأن المشرق قبلة النصارى، والمغرب قبلة اليهود، وأنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حولت إلى الكعبة. وزعم كل من الفريقين أن البر هو التوجه إلى قبلته، فرد عليهم بأن ما أنتم عليه خارج من البر. أما أولا فلأنه منسوخ، وأما ثانيا فلأنه على تقدير صحته شرط من شرائط أعمال البر لأن من جملتها الصلاة واستقبال القبلة شرط فيها، ولن يكون شرط جزء الشيء تمام حقيقة ذلك الشيء، وذلك أن البر اسم جامع للطاعات وأعمال الخير   (1) رواه البخاري في كتاب الأحكام باب 21. أبو داود في كتاب الصيام باب 78. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 65. الدارمي في كتاب الرقاق (128) باب 66. أحمد في مسنده (3/ 156، 285) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 المقربة إلى الله ومنه بر الوالدين وهو استرضاؤهما بكل ما أمكن. والتركيب يدل على الاتساع ومنه البر خلاف البحر. قيل: إن قراءة رفع البر أولى ليكون الاسم مقدما على الخبر على الأصل. وقيل: بالنصب أولى لأن «أن» مع صلتها تشبه المضمر في أنها لا توصف، والمضمر أدخل في الاختصاص من المظهر فهو أولى بأن يكون اسما وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ على تقدير حذف المضاف أي بر من آمن. وقيل: التقدير هكذا ولكن ذا البر من آمن. وقيل: البر بمعنى البار مثل رجل صوم أي صائم. وعن المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت وَلكِنَّ الْبِرَّ بفتح الباء. قال في التفسير الكبير: إنه تعالى اعتبر في تحقيق ماهية البر أمورا: الأول: الإيمان بأمور خمسة: أولها الإيمان بالله، ولن يحصل العلم بالله إلا عند العلم بذاته المخصوصة والعلم بما يجب ويجوز ويستحيل عليه، ولن يحصل العلم بهذه الأمور إلا عند العلم بالدلائل الدالة عليها فيدخل فيها العلم بحدوث العالم. والعلم بالأصول التي عليها يتفرع حدوث العالم ويدخل في العلم بما يجب له من الصفات العلم بوجوبه وقدمه وبقائه وكونه عالما بكل المعلومات، قادرا على كل الممكنات، حيا مريدا سميعا بصيرا متكلما، ويدخل في العلم بما يستحيل عليه العلم بكونه منزها عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية. ويدخل في العلم بما يجوز عليه اقتداره على الخلق والإيجاد وبعثه الرسل. وثانيها الإيمان باليوم الآخر ويتفرع على كونه تعالى عالما بجميع المعلومات قادرا على كل الممكنات. وثالثها الإيمان بالملائكة ورابعها الإيمان بالكتب السماوية. وخامسها الإيمان بالنبيين. وسبب هذا الترتيب أن للمكلف مبدأ وسطا ونهاية، ومعرفة المبتدأ والمنتهي هو المقصود بالذات أعني الإيمان بالله واليوم الآخر، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة وهي منوطة بالوحي الذي يأتي به الملك، فثبت أن كل ما يلزم المكلف التصديق به داخل في الآية. الثاني: إيتاء المال على حبه أي على حب المال. عن أبي هريرة أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة خير؟ قال: «أن تتصدق وأنت صحيح حريص، تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا» «1» . عن أبي الدرداء أنه صلى الله عليه وسلم قال «مثل الذي تصدق عند الموت مثل الذي يهدي بعد ما يشبع» والسبب   (1) رواه البخاري في كتاب الوصايا باب 7. مسلم في كتاب الزكاة حديث 92. أبو داود في كتاب الوصايا باب 3. ابن ماجه في كتاب الوصايا باب 4. أحمد في مسند (2/ 221) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 أنه عند الصحة يحصل ظن الحاجة إلى المال، وعند ظن الموت يحصل الاستغناء، وبذل الشيء عند الاحتياج أدل على الطاعة من بذله عند الاستغناء عنه. وأيضا الإعطاء عند الصحة أدل على كونه متيقنا بالوعد والوعيد من إعطائه حال المرض والموت. وأيضا الهبة عند الموت تشبه الهبة عند الخوف من الفوت. وقيل: الضمير يرجع إلى الإيتاء أي يعطي ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله. وقيل: يرجع إلى الله أي يعطي المال على حب الله وطلب مرضاته. ثم ذكر سبحانه وتعالى ممن يؤتون المال أصنافا ستة: أولهم القرابة، وثانيهم اليتامى، وثالثهم المساكين وقد مر ما يتعلق بكل منهم في تفسير قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة: 83] وإنما قدم ذوي القربى لأنهم أحق قال صلى الله عليه وسلم: «صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذي رحمك اثنتان» لأنها صدقة وصلة ولتأكد استحقاقه نال رتبة الوارثة ويحجر بسببه على المالك في الوصية حتى لا يمكن من الوصية إلا في الثلث. وأطلق ذوي القربى واليتامى والمراد الفقراء منهم لعد الإلباس، وتقديم اليتامى على المساكين لأن الصغير الفقير الذي لا والد له ولا هو كاسب منقطع الحيلة من كل الوجوه. ورابع الأصناف ابن السبيل المسافر المنقطع عن ماله. جعل ابنا للسبيل لملازمته له كما يقال لطير الماء «ابن الماء» وللشجاع «أخو الحرب» وللناس «بنو الزمان» . وقيل: هو الضيف لأن السبيل يرعف به. وخامسهم السائلون وهم المستطعمون ويدخل فيه المسلم والكافر وقريب منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «للسائل حق وإن جاء على فرس» وسادسهم المكاتبون وأشار إليه بقوله وَفِي الرِّقابِ أي في معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم. وقيل: في ابتياع الرقاب وإعتاقها. وقيل: في فك الأسارى. والرقاب جمع الرقبة وهو مؤخر أصل العنق. واشتقاقها من المراقبة وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم، ولهذا يقال للمملوك رقبة كأنه يراقب العذاب ولا يقال له عنق. الثالث والرابع: قوله وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وقد سلف مباحثهما. ثم إن الأئمة حيث ذكر الله تعالى، إيتاء المال في الوجوه المذكورة، ثم قفاه بإيتاء الزكاة. ومن حق المعطوف عليه، غلب على ظنونهم أن في المال حقا سوى الزكاة. وكيف لا وقد اكتنف الإيتاء فرضان وهما الإيمان وإقامة الصلاة؟ وأيضا قال صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعان وجاره طاو إلى جنبه» . ولا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة. وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم، ولو امتنعوا من الإعطاء جاز الأخذ منهم قهرا. وما روي عن علي عليه السلام أن الزكاة نسخت كل حق كأنه أراد الحقوق المقدّرة بدليل أنه يلزم التصدق عند الضرورة والنفقة على الأقارب وعلى المملوك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 الخامس: قوله الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وهو مرفوع على المدح أي هم الموفون، أو عطف على مَنْ آمَنَ والمراد بالعهد ما أخذه الله من العهود على عباده بقولهم وعلى ألسنة رسله إليهم بالقيام بحدوده والعمل بطاعته، فقبل العباد ذلك حيث آمنوا بالأنبياء والكتب. ويندرج فيه ما يلتزمه المكلف ابتداء من تلقاء نفسه مما يكون بينه وبين الله كالنذور والأيمان، أو بينه وبين رسول الله كبيعة الرضوان بايعوه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أن لا يقولوا إلا بالحق أينما كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، أو بينه وبين الناس واجبا كعقود المعاوضات، أو مندوبا كالمواعيد، فلهذا قال المفسرون هاهنا: هم الذين إذا واعدوا أنجزوا، وإذا حلفوا أو نذروا أوفوا، وإذا اؤتمنوا أدّوا، وإذا قالوا صدقوا. السادس: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وهو نصب على المدح والاختصاص إظهارا لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال. قال أبو علي الفارسي: إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها، لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القبول، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجها واحدا أو جملة واحدة. وذكر المحققون في إفادة اختلاف الحركة المدح والذم أن أصل المدح والذم من كلام السامع، وذلك أن الرجل إذا أخبر غيره فقال له: قام زيد. فربما أثنى السامع على زيد وقال: ذكرت والله الظريف وذكرت العاقل. أو هو- والله- الطريف، أو هو العاقل. فأراد المتكلم أن يمدحه بمثل ما مدحه به السامع فجرى الإعراب على ذلك أي أريد الظريف أو العاقل والْبَأْساءِ الفقر والشدة وَالضَّرَّاءِ المرض والزمانة. وهما فعلاء من البؤس والضر لا أفعل لهما لأنهما ليسا بنعتين وَحِينَ الْبَأْسِ القتال في سبيل الله والجهاد. وأصل البأس الشدة أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في إيمانهم وجدّوا في الدين وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ونظير هاتين الجملتين في القطع للاستئناف قوله أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5] كأنه قيل: ما للمستقلين بهذه الصفات وصفوا بالبر الذي هو أصل كل خير؟ فأجيب بأن أولئك الموصوفين لهم قدم صدق في الإسلام، وهم المتسمون بسمة التقوى. وكل منهم منطو على جميع الخيرات ومتضمن لكل المأمورات والمنهيات، فلهذا اتصفوا بتلك الصفات. وذكر الواحدي هاهنا أن الواوان في هذه الأوصاف للجمع. فمن شرائط البر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وتمام شرط البار أن يجتمع فيه هذه الأوصاف، ومن قام بواحدة منها لم يستحق الوصف بالبر فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده من جملة من قام بالبر وكذا الصابر في البأساء، بل لا يكون قائما بالبر إلا عند استجماع هذه الخصال حتى قال بعضهم: إن البر من خواص الأنبياء. والحق أنه ليس بمستبعد أن يوجد في الأمة موصوف بالبر إلا أن كمال البر لا يكون إلا في النبي ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ثم إن أهل الكتاب كما أخلوا بجميع أوصاف البر أخلوا بالإيمان بالله وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64] وذهبت اليهود إلى التجسيم، والنصارى إلى الحلول والاتحاد، وأنكروا المعاد الجسماني وقالوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 111] لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: 8] وقالوا: إن جبريل عدوّنا وكفروا بالكتب السماوية أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: 85] وقتلوا النبيين وطعنوا في نبوة المرسلين، واتسموا بسمة الشح حتى اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، ونقضوا العهود أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة: 100] ولم يصبروا في اللأواء لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [البقرة: 61] ولا حين البأس فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: 24] فالعجب كل العجب منهم حيث ادّعوا البر ولا شيء ولا واحد من أجزاء البر فيهم، وهذا غاية القحة ونهاية العناد والله بصير بالعباد. التأويل: ليس البر بركم بتولية وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر الحقيقي هو بري معكم بتولية وجوه أرواحكم بجذبات المحبة قبل الحضرة الربوبية المحبوبية لتؤمنوا بدلالة نور بري بي وببر حبي لكم تحبوني، والملائكة يحبونكم ببر حبي لكم. وبر حبي لكم ليس بمحدث كبركم معي بل هو بر قديم في الكتاب القديم، وبنور هذه المحبة تحبون أهل محبتي وهم النبيون. فالجنسية علة الضم. وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ أي ما حصل للعبد من بر الحب وما مال إلى سره من عواطف الحق ينفقه على حب حبيبه بأداء حقوق الشريعة والطريقة بالمعاملات القالبية والقلبية ذَوِي الْقُرْبى وهم الروح والقلب والسر ذوو قرابة الحق وَالْيَتامى المتولدات من النفس الحيوانية الأمارة بالسوء إذا ماتت النفس عن صفاتها بسطوات تجلي صفات الحق وَالْمَساكِينَ هم الأعضاء والجوارح وَابْنَ السَّبِيلِ القوى البشرية والحواس الخمس فإنهم في التردد والسفر إلى عوالم المعقولات والمخيلات والمحسوسات والموهومات وَالسَّائِلِينَ الدواعي الحيوانية والروحانية وَفِي الرِّقابِ في فك رقبة السر عن أسر تعلقات الكونين. فحينئذ أقام صلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 المحاضرة مع الله بالله وآتى زكاة مواهب الحق إلى أهل استحقاقها من الخلق وهم الموفون بعهدهم إذا عاهدوا مع الله بالتوحيد والعبودية الخالصة يوم الميثاق، والصابرين في بأساء مراعاة الحقوق وضراء مخالفات الحظوظ وفناء الوجود عند لقاء الشهود وحين بأس سطوات تجلي صفات الجلال أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ببذل الوجود وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ من شرك الأنانية والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) الوقوف: فِي الْقَتْلى ط بِالْأُنْثى ط لأن العفو إعطاء الدية صلحا فكان خارجا عن أصل موجب القتل مستأنفا بِإِحْسانٍ ط رَحْمَةٌ ط لأن الاعتداء خارج عن أصل الموجب وفرعه فكان مستأنفا أَلِيمٌ هـ تَتَّقُونَ هـ. التفسير: هذا حكم آخر، وسببه أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط، والنصارى يوجبون العفو فقط. فأما العرب فتارة كانوا يوجبون القتل وأخرى يوجبون الدية، لكنهم كانوا يظهرون التعدي في كل واحد من الحكمين. فإذا وقع القتل بين قبيلتين كان يقول الشريف للخسيس لنقتلن بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، وبالرجل منا الرجلين منهم، وكانوا يجعلون جراحاتهم ضعف جراحات خصومهم، وربما زادوا على ذلك على ما يروى أن رجلا قتل رجلا من الأشراف ثم اجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول فقالوا: ماذا تريد؟ قال: إحدى ثلاث. قالوا: وما هي؟ قال: تحيون ولدي، أو تملؤن داري من نجوم السماء، أو تدفعون إليّ جملة قومكم حتى أقتلهم، ثم لا أرى أني أخذت عوضا. وكانوا يجعلون دية الشريف أضعاف دية الخسيس فبعث الله محمدا بالعدل وسوّى بين عباده في القصاص. وقيل: نزلت في واقعة قتل حمزة. ومعنى كتب فرض وأوجب كقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: 183] ولفظة «على» أيضا تفيد الوجوب كقوله وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ والقصاص أن تفعل بالإنسان مثل ما فعل من قولك «اقتص فلان أثر فلان» إذا فعل مثل فعله. ومنه القصة لأن الحكاية تساوي المحكي والمقص لتعادل جانبيه. وقوله فِي الْقَتْلى أي بسبب قتل القتلى كقوله «في النفس المؤمنة مائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 إبل» «1» أي بسببها. فظاهر الآية يدل على وجوب القصاص على جميع المؤمنين بسبب جميع القتلى إلا أنهم أجمعوا على أن غير القاتل خارج عن هذا العموم. وأما القاتل فقد دخله التخصيص أيضا في صور كما إذا قتل الوالد ولده، والسيد عبده، والمسلم حربيا أو معاهدا، أو مسلم مسلما خطأ إلا أن العام الذي دخله التخصيص يبقى حجة فيما عداه. فإن قيل: لو وجب القصاص لوجب إما على القاتل وليس عليه أن يقتل نفسه بل يحرم عليه ذلك، وإما على ولي الدم وهو مخير بين الفعل والترك، بل هو مندوب إلى الترك. وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ [الأعراف: 134] وإما على أجنبي وليس ذلك بالاتفاق. وأيضا القصاص عبارة عن التسوية، ووجوب رعاية المساواة على تقدير القتل لا يوجب نفس القتل. قلنا عن الأول إن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام أو من يجري مجرى الإمام، لأنه متى حصلت شرائط وجوب القود فإنه لا يحل للإمام أن يترك القود وهو من جملة المؤمنين فالتقدير: يا أيها الأئمة كتب عليكم استيفاء القصاص إن أرادوا لي الدم استيفاء. ويحتمل أن يكون خطابا مع القاتل لأنه كتب عليه تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص. وذلك أن القاتل ليس له أن يمتنع هاهنا وليس له أن ينكر، بل للزاني والسارق الهرب من الحدود، ولهما أيضا أن يستترا بستر الله فلا يعترفا، فكان أمر القتل أشنع، وفيه حق الآدمي أكثر. وعن الثاني أن ظاهر الآية يقتضي إيجاب التسوية في القتل، والتسوية في القتل صفة للقتل، وإيجاب الصفة يقتضي إيجاب الذات. فالآية تفيد إيجاب القتل. ثم اختلفوا في كيفية المماثلة التي تجب رعايتها فقال الشافعي: إن كان قتله بقطع اليد قطعت يد القاتل، فإن مات عنه في تلك المرة وإلا حزت رقبته. وكذلك إن أحرق الأول بالنار أحرق الثاني، فإن مات في تلك المرة وإلا حزت رقبته. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه» ورضخ يهودي رأس جارية بالحجارة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يفعل به مثله. ولأنه لا يجوز أن يقال: كتبت التسوية في القتلى إلا في كيفية القتل، وحيث لم يستثن دخل. وأيضا الحكم بالعموم يوجب التخصيص في بعض الصور كما لو قتله بالسحر فلا يقتل السحر لأنه محرم بل بالسيف. وكما لو قتل صغيرا باللواط فإنه يقتل بالسيف على الأصح. ولو لم يحكم بالعموم لزم الإجمال، والتخصيص أهون منه. وأيضا لو لم تفد الآية إلا إيجاب التسوية في أمر من الأمور فلا شيئين إلا وهما متساويان في بعض الأمور، فلا يستفاد من الآية شيء البتة. وقال أبو حنيفة: المراد بالمماثلة تماثل   (1) رواه النسائي في كتاب القسامة باب 23. أبو داود في كتاب الديات باب 16 أحمد في مسنده (2/ 178، 183) بلفظ «من قتل خطأ فديته مائة من الإبل» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 النفس ويتعين السيف لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا قود إلا بالسيف» «1» واتفقوا على أن القاتل إذا لم يتب وأصر على ترك التوبة فإن القصاص مشروع في حقه عقوبة له من الله. أما إذا تاب فقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة للدلائل الدالة على قبول التوبة وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الشورى: 25] فما الحكمة في وجوب قتله؟ أجاب أصحابنا بأنه تعالى يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل. وقالت المعتزلة: إنما شرع ليكون لطفا. وكيف يتصور هذا اللطف ولا تكليف بعد القتل؟ قالوا: فيه منفعة للقاتل من حيث إنه إذا علم أنه لا بد وأن يقتل صار ذلك داعيا له إلى الخير وترك الإصرار والتمرد، ومنفعة لولي المقتول من حيث التشفي، ومنفعة لسائر المكلفين من حيث الانزجار عن القتل. قوله عز من قائل الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى الباء للبدّل نحو «بعت هذا بذاك» أي الحر مقتول بدل الحر. ثم فيه قولان: الأول ويروى عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعطاء وعكرمة، أن لا يكون القصاص مشروعا إلا بين الحرين وبين العبدين وبين الأنثيين، لأن الألف واللام تفيد العموم أي كل حر يقتل بحر. فلو كان قتل حر بعبد مشروعا لكان ذلك الحر مقتولا بعير حر وهو يناقض الآية. ولأن هذا القول خرج مخرج البيان لقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ وإيجاب القصاص على الحر بقتل العبد إهمال للتسوية فلا يكون مشروعا وهو يناقض الآية، وإلى هذا ذهب الشافعي ومالك وقالا: لما قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحر وهو فوقه أولى، وكذا القول في قتل الأنثى بالذكر. وأما قتل الذكر بالأنثى فليس فيه إلا الإجماع، وكأن سنده أن الذكورة والأنوثة فضيلتان كالعلم والجهل والشرف والخسة، فكما أنه لم يفرق بين العالم والجاهل فكذلك بين الذكر والأنثى، ويروى عن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن «أن الذكر يقتل الأنثى» . القول الثاني ويروى عن سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والنوري وهذا مذهب أبي حنيفة، أن الحر بالحر لا يفيد الحصر البتة بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على حال سائر الأقسام. لأن قوله وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى يقتضي قصاص الحرة بالمرأة الرقيقة، فلو كان قوله الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مانعا من ذلك تناقض. وأيضا قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ جملة مستقلة وقوله الْحُرُّ بِالْحُرِّ تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر، فلا يمنع من ثبوت الحكم في سائر الجزئيات. ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وقوله صلى الله عليه وسلم «المسلمون   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الديات باب 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 تتكافأ دماؤهم» «1» وقد يقتل الجماعة بواحد فدل على أن التفاضل غير معتبر في الأنفس ثم إنهم قالوا: الفائدة في تخصيص هذه الجزئيات بالذكر ما ذكرنا في سبب النزول أنهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل فمنعوا عن ذلك. وأيضا نقل عن علي رضي الله عنه والحسن البصري أن الغرض أن هذه الصورة هي التي يكتفى فيها بالقصاص. أما في سائر الصور وهي ما إذا كان القصاص واقعا بين الحر والعبد وبين الذكر والأنثى فهناك لا يكتفي بالقصاص، بل لا بد من التراجع. فأيما حر قتل عبدا فقود به، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه بشرط أن يسقطوا قيمة العبد من دية الحر ويؤدوا إلى أولياء الحر بقية ديته، وإن قتل عبد حرا فهو به فإن شاء أولياء الحر قتلوا وأسقطوا قيمة العبد من دية الحر وأدوا بعد ذلك إلى أولياء الحر بقية ديته، وإن شاءوا أخذوا كل الدية وتركوا قتل العبد. وإن قتل رجل امرأة فهو بها قود، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدوا بعد ذلك نصف ديته إلى أوليائه، وإن شاءوا تركوا قتله وأخذوا ديتها. وإذا قتلت امرأة رجلا فهي به قود، فإن شاء أولياء الرجل قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإن شاءوا تركوها وأخذوا كل الدية، فعلى هذا الغرض من الآية أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرين والعبدين والذكرين والأنثيين، فأما عند اختلاف الجنس فالاكتفاء بالقصاص غير مشروع. قوله تعالى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ المعنى فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو كقولك «سير بزيد بعض السير وطائفة من السير» ولا يصح أن يكون شيء في معنى المفعول به لأن عفا لا يتعدى إلى مفعول به إلا بواسطة. فإن قيل: إن «عفا» يتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله فَمَنْ عُفِيَ لَهُ فالجواب أنه يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال: عفوت عن فلان وعن ذنبه. قال تعالى عَفَا اللَّهُ عَنْكَ [التوبة: 23] فإذا تعدى إلى الذنب وإلى الجاني معا قيل «عفوت لفلان عما جنى» كما تقول «غفرت له ذنبه» وتجاوزت له عنه. فمعنى الآية فمن عفى له عن جنابته. فاستغنى عن ذكر الجناية. فإنما قيل شيء من العفو ليعلم أنه إذا عفي له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم يجب إلا الدية. وأخوه هو ولي المقتول وإنما قيل له أخوه لأنه لابسه من قبل أنه ولي الدم ومطالبه به كما تقول للرجل «قل لصاحبك كذا» إذا كان بينهما أدنى تعلق. أو ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على   (1) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 147. النسائي في كتاب القسامة باب 10. ابن ماجه في كتاب الديات باب 31. بلفظ «المؤمنون» بدل «المسلمون» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام. وقد يستدل بهذا على أن الفاسق مؤمن لأنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وبين ولي الدم، ولا شك أن هذه الأخوة بسبب الدين إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] مع أن قتل العمد العدوان بالإجماع من الكبائر. وأيضا إنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل، والعفو إنما يليق عن المؤمن. ويحتمل أن يجاب بأن القاتل قبل إقدامه على القتل كان مؤمنا فلعله تعالى سماه مؤمنا بهذا التأويل، وبأن القاتل قد يتوب وعند ذلك يكون مؤمنا. ثم إنه تعالى أدخل غير التائب فيه على سبيل التغليب. وأيضا لعل الآية نازلة قبل أن يقتل أحد أحدا. ولا شك أن المؤمنين أخوة قبل الإقدام على القتل. وأيضا الظاهر أن الفاسق يتوب، وعلى هذا التقدير يكون ولي المقتول أخا له. وأيضا يجوز أن يكون قد جعله أخا له في النسب كقوله تعالى وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [هود: 50] فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ أي فليكن اتباع، أو فالأمر، أو فحكمه اتباع. أو فعلية اتباع فقيل: على العافي اتباع بالمعروف بأن يشدد في المطالبة بل يجري فيها على العادة المألوفة، فإن كان معسرا فالنظرة وإن كان واجدا لعين المال فإنه لا يطالبه بالزيادة على قدر الحق، وإن كان واجدا بغير المال الواجب فالإمهال إلى أن يستدل وأن لا يمنعه بسبب الاتباع عن تقديم الأهم من الواجبات وَإلى المعفو عنه أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ بأن لا يدعي الإعدام في حال الإمكان ولا يؤخره مع الوجود، ولا يقدم ما ليس بواجب عليه، وأن يؤدي ذلك المال على بشر وطلاقة وقول جميل من غير مطل وبخس، هذا قول ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد. وقيل: هما على المعفو عنه فإنه يتبع عفو العافي بمعروف ويؤدي ذلك المعروف إليه بإحسان ذلِكَ قيل: إشارة إلى الاتباع والأداء. وعن ابن عباس: وهو الأقرب إنه إشارة إلى الحكم بسرع القصاص والدية والعفو، فإن هذه الأمة خيرت بينهن توسعة وتيسيرا، ولم يكن لليهود إلا القصاص وللنصارى إلا العفو وإثبات الخيرة فضل من الله ورحمة في حقنا، لأن ولي الدم قد تكون الدية آثر عنده من القود إذا كان محتجا إلى المال، وقد يكون القود آثر عنده إذا كان راغبا في التشفي ودفع شر القاتل عن نفسه. وقد يؤثر ثواب الآخرة فيعفو عن القصاص وعن بدله جميعا وهو الدية. فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ التخفيف فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل مع قتل القاتل أو دونه أو قتل بعد أخذ الدية والعفو فقد كان لولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقبوله الدية ثم يظفر به فيقتله فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ نوع من العذاب الأليم في الآخرة. وعن قتادة: العذاب الأليم أن يقتل لا محالة ولا يقبل من الدية كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال «لا أعافي أحدا قتل بعد أخذه الدية» وهو مذهب الحسن وسعيد بن جبير وضعفه غيرهم. ولما كانت الآية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 مشتملة على إيلام العبد الضعيف وأنه لا يليق بكمال رحمته عقبها بقوله وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ. قال المفسرون: القصاص إزالة الحياة، وإزالة الشيء لا تكون نفس ذلك الشيء فالمراد لكم في شرع القصاص حياة وأيّ حياة. وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل. وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة، ويحتمل أن يقال: نفس القصاص سبب لنوع من الحياة وهي الحاصلة بالارتداع عن القتل، لأن القاتل إذا قيد منه ارتدع من كان بهم بالقتل فلم يقتل ولم يقتل فكان القصاص سبب حياة نفسين. وقرأ أبو الجوزاء وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أي فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص. وقيل: القصص القرآن أي لكم في القرآن حياة للقلوب. وهذا وقد اتفق علماء البيان على أن قوله سبحانه وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ بلغ في الإيجاز نهاية الإعجاز، وذلك أن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة كقولهم «قتل البعض أحياء للجميع» وأكبروا القتل وأوجز ذلك قولهم «القتل أنفى للقتل» . والترجيح مع ذلك للآية من وجوه: الأول أن قولهم لا يصح على العموم لأن القتل ظلما ليس أنفى للقتل قصاصا بل أدعى له. ولو خصص فقيل «القتل قصاصا أنفى للقتل ظلما» طال. والآية تفيد هذا المعنى من غير تقدير وتكلف. الثاني: أن القتل قصاصا لا ينفي القتل ظلما من حيث إنه قتل بل من حيث إنه قصاص. وهذه الحيثية معتبرة في الآية لا في كلامهم. الثالث: أن الحياة هي الغرض الأصلي ونفي القتل إنما يراد لحصول الحياة. فالتنصيص على المقصود الأصلي أولى. الرابع: التكرار من غير ضرورة مستهجن وأنه في كلامهم لا في الآية. الخامس: أن الحروف الملفوظة التي يعتمد عليها في اعتبار الوجازة لا المكتوبة هي في الآية عشرة، وفي كلامهم أربعة عشر. السادس: أن الأغلب في كلامهم أسباب خفاف وذلك مما يخل بسلاسة التركيب، والآية مع غاية وجازتها فيها السبب والوتد والفاصلة. السابع: ظاهر قولهم يقتضي كون الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محال، وفي الآية جعل نوع من القتل وهو القصاص سببا لنوع من الحياة ولا استبعاد فيه لظهور التغاير. الثامن: المطابقة مرعية في الآية لمكان التضاد بين لفظي القصاص وحياة بخلاف كلامهم. التاسع: اشتمال الآية على لفظ يصلح للتفاؤل وهو الحياة، بخلاف كلامهم فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان وأنه لكما يليق بهم. العاشر: اشتمال الآية على اسمين وأداة، واشتمال كلامهم على ثلاثة أسماء وأداة. وإن اعتبرت أداة التعريف ففي الآية واحدة وفي كلامهم ثنتان، وإن اعتبر التنوين في الآية تقاصت الأدوات وتبقى زيادة الأسماء بحالها، على أن أفعل التفضيل إذا لم يكن فيه اللام والإضافة يستعمل بمن. فتقدير كلامهم «القتل أنفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 للقتل من كل شيء» فأين الوجازة يا أُولِي الْأَلْبابِ يا ذوي العقول وأولو جمع لا واحد له من لفظه، وواحده ذو بمعنى صاحب. وأولات للإناث واحدتها ذات بمعنى صاحبة قال تعالى وَأُولاتُ الْأَحْمالِ [الطلاق: 4] وإعراب أولو كإعراب جمع المذكر السالم. وزادوا في «أولي» واوا فرقا بينها وبين «إلى» وأجرى «أولو» عليه. واللب العقل، ولب النخلة قلبها، وخالص كل شيء لبه. خاطب العقلاء الذين يتفكرون في العواقب ويعرفون جهات الخوف فلا يرضون بإتلاف أنفسهم لإتلاف غيرهم إلا في سبيل الله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يتعلق بمحذوف أي أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس لتكونوا على بصيرة في إقامته، راجين أن تعملوا عمل أهل التقوى في الحكم به. وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة، أو لعلكم تتقون نفس القتل الخوف القصاص. عن الحسن والأصم: وقد بقي على الآية بحث، وهو أنه سئل إذا صح أن المقتول إن لم يقتل فهو يموت لأن المقدر من عمره ذلك القدر، وكذا إذا هم إنسان بقتل آخر فارتدع خوفا عن القصاص فإن ذلك الآخر يموت وإن لم يقتله ذلك الإنسان لأن كل وقت صح وقوع قتله صح وقوع موته، فكيف يفيد شرع القصاص حياة؟ والجواب أنه تعالى قد جعل لكل شيء سببا يدور مسببه معه وجودا وعدما. وشرعية القصاص مما جعلها تعالى سببا لحياة من أراد حياته بعد أن تصور الهامّ قتله، وذلك بأن تذكر القصاص فارتدع عما هم به. ففائدة شرع القصاص هي فائدة سائر الأسباب والوسائط ومنكر فائدتها. وكلا الإنكارين مذموم وصاحبهما عند العقلاء ملوم والله أعلم. التأويل: كما كتب القصاص في قتلاكم كتب على نفسه الرحمة في قتلاه وقال: من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى أي من كان متوجها إليه تعالى بالكلية كان فيضه تعالى متصلا به بالكلية، ومن كان في رق غيره من المكوّنات لم يتصل به فيضه غاية الاتصال، ومن كان ناقصا في دعوى محبته لم يكن مستحقا لكمال محبته فَمَنْ عُفِيَ لَهُ من الأحباء والأصفياء شَيْءٌ من أنواع البلاء والابتلاء الذي هو موكل بالأنبياء والأولياء فإنه معروف من معارفه. فالواجب على العبد أداء شكره إلى الله بإحسان. فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ الوفاء بملابسة الجفاء وألقى جلباب الحياء فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ فإن الكفر مرتعه وخيم وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ الدارين والتقاء برب الثقلين يا أُولِي الْأَلْبابِ الذين بدلوا قشر الروح الإنساني عند شهود الجلال الصمداني لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ شرك وجودكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 [سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) القراآت: خافَ بالإمالة حيث كان: حمزة. مُوصٍ بالتشديد: يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص وجبلة الباقون: بالتخفيف من الإيصاء. الوقوف: خَيْراً ج لأن قوله الْوَصِيَّةُ مفعول كُتِبَ وإنما لم يؤنث الفعل لتقدمه ولاعتراض ظرف وشرط بينهما، أو «الوصية» مبتدأ «وللوالدين» خبره، ومفعول «كتب» محذوف أي كتب عليكم أن توصوا. ثم بين لمن الوصية والوصل أولى لئلا يحتاج إلى الحذف. بِالْمَعْرُوفِ ح لأن التقدير حق ذلك حقا أو كتب الوصية حقا. الْمُتَّقِينَ ط وإن كان بعدها فاء التعقيب لأنه حكم آخر يُبَدِّلُونَهُ ط عليم كذلك عَلَيْهِ ط رَحِيمٌ (هـ) . التفسير: وهذا حكم آخر. قوله كُتِبَ عَلَيْكُمْ يقتضي الوجوب كما مر. والمراد من حضور الموت ليس معاينة الموت لأنه في ذلك الوقت يكونه عاجزا عن الإيصاء والأكثرون قالوا: المراد ظهور أمارة الموت وهو المرض المخوف كما يقال لمن قارب البلد: إنه وصل. وعن الأصم: المراد فرض عليكم في حال الصحة الوصية بأن تقولوا إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا، وزيف بأنه ترك للظاهر. ولا شك أن الخير قد ورد في القرآن بمعنى المال وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ [البقرة: 272] وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8] مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24] لكن الأئمة اختلفوا في المراد بالخير هاهنا بعد اتفاقهم على أنه المال. فعن الزهري: أنه المال مطلقا قليلا كان أو كثيرا بدليل قوله مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] وأنه تعالى اعتبر أحكام المواريث فيما يبقى من المال قل أم كثر قال تعالى وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [النساء: 7] فكذا الوصية، ولأن كل ما ينتفع به فهو خير. والأكثرون على أن لفظ الخير في الآية مختص بالمال الكثير كما لو قيل «فلان ذو مال» يفهم منه أن ماله قد جاوز حد أهل الحاجة وإن كان اسم المال يقع في الحقيقة على ما يتموله الإنسان من قليل أو كثير. وكما إذا قيل «فلان في نعمة من الله تعالى» فإنه يراد تكثير النعمة وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله وهو باب من المجاز مشهور ينفون الاسم عن الشيء لنقصه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» ولو كانت الوصية واجبة في كل ما يترك لم يكن لقوله إِنْ تَرَكَ خَيْراً فائدة لندرة من يموت فاقدا أقل ما يتمول. ثم القائلون بهذا اختلفوا في أن المسمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 بالخير في الآية مقدر بمقدار معين أم لا. فمنهم من قال: إنه غير مقدّر ويختلف ذلك باختلاف حال الرجل. فقد يوصف المرء لمقدار من المال بأنه غنيّ ولا يوصف غيره بالغنى لذلك المقدار لأجل كثرة العيال وتوسع النفقة، فيكون التعيين في كل صورة موكولا إلى الاجتهاد، وهذا لا ينافي أصل الإيجاب. ومنهم من قال: إنه مقدر. ثم اختلفوا فعن علي كرم الله وجهه: أنه دخل على مولى في مرض الموت وله سبعمائة درهم فقال: ألا أوصي؟ قال: لا قال الله تعالى إِنْ تَرَكَ خَيْراً وليس لك كثير مال. وعن عائشة أن رجلا قال لها: إني أريد أن أوصي. قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: كم عيالك؟ قال أربعة. قالت: قال الله تعالى إِنْ تَرَكَ خَيْراً وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل. وعن ابن عباس: أنه إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي، فإذا بلغ ثمانمائة درهم أوصى. وعن قتادة: ألف درهم. وعن النخعي من ألف إلى خمسمائة درهم. قال أبو البقاء: جواب الشرط عند الأخفش الوصية بحذف الفاء أي فالوصية للوالدين على الابتداء والخبر واحتج بقول الشاعر: من يفعل الحسنات الله يشكرها وقال غيره: جواب الشرط في المعنى ما تقدم من كتب الوصية كما تقول «لك كذا إن فعلت» ويجوز أن يكون جواب الشرط معنى الإيصاء لا معنى الكتب بناء على رفع الوصية بكتب وهو الوجه. وقيل: المرفوع بكتب الجار والمجرور وهو عَلَيْكُمْ وليس بشيء وأما إذا فهو ظرف لمعنى الوصية ولا يحتاج إلى جواب. والأقربين قيل هم الأولاد عن ابن زيد. وقيل من عدا الولد عن ابن عباس ومجاهد. وقيل: جميع القرابات. وقيل: غير الوارث. وقوله بِالْمَعْرُوفِ أمر بأن يسلك في الوصية الطريقة الجميلة. فلو حرم الفقير ووصى للغني لم يكن معروفا، ولو سوّى بين الوالدين مع عظم حقهما وبين بني العم لم يكن معروفا، ولو أوصى لأولاد الجد البعيد مع حضور الإخوة لم يكن ما يأتيه معروفا. وحَقًّا مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا على المتقين على الذين آثر والتقوى وجعلوها مذهبا لهم وسيرة. واعلم أن الأئمة القائلين بوجوب هذه الوصية اختلفوا في أنها منسوخة أم لا. أما أبو مسلم فإنه اختار عدم نسخها وقال: معناها كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين في قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11] أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى الله به لهم عليهم وأن لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 ينقص من أنصبائهم، أو لا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء مع ثبوت الوصية. فالميراث عطية من الله تعالى والوصية عطية ممن حضره الموت، فالوارث يجمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين، ولو قدرنا حصول المنافاة فهذه الآية توجب الوصية للوالدين والأقربين. ثم آية الميراث تخرج القريب الوارث ويبقى القريب الذي لا يكون وارثا داخلا في الآية. وذلك أن من الوالدين من لا يرث بسبب اختلاف الدين والرق والقتل، ومن الأقارب من يسقط في حال ويثبت في حال، ومنهم من يسقط في كل حال إذا كانوا ذوي رحم. فآية الميراث مخصصة لهذه الآية لا ناسخة لها. وأكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء على أن الآية منسوخة قالوا: نسخت بآية المواريث أو بالإجماع أو بقوله صلى الله عليه وسلم «أن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث» «1» وهذا وإن كان خبر واحد إلا أن الأمة تلقته بالقبول حتى التحق بالمتواتر فيجوز نسخ القرآن به عند الجمهور. ومن أئمة الأمة من قال: هي منسوخة في حق من يرث، ثابتة فيمن لا يرث وهو مذهب ابن عباس والحسن البصري ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد حتى قال الضحاك: من مات من غير أن يوصي لأقربائه فقد ختم عمله بمعصية. وقال طاوس: إن أوصى للأجانب وترك الأقارب نزع منهم ورد إلى الأقارب. قالوا: الآية دلت على وجوب الوصية للقريب ترك العمل به في حق القريب الوارث، إما بآية المواريث أو بقوله «لا وصية لوارث» «2» أو بإجماع الأمة. فبقيت الآية دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثا. وأيضا قال صلى الله عليه وسلم «ما من حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه» وفي رواية «له شيء يريد أن يوصي به أن يبيت ليلتين» وفي رواية «ثلاث ليال إلا ووصيته مكتوبة عنده» «3» لكن الوصية لغير الأقارب غير واجبة بالإجماع فوجب أن تختص بالأقارب. وهؤلاء القائلون بأن الآية صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثا اختلفوا في موضعين: الأول: نقل عن ابن مسعود أنه جعل هذه الوصية للأفقر فالأفقر من الأقرباء. وقال الحسن البصري والأغنياء سواء. الثاني: عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن معلى أنهم   (1) رواه البخاري في كتاب الوصايا باب 6. أبو داود في كتاب الوصايا باب 6. الترمذي في كتاب الوصايا باب 5. النسائي في كتاب الوصايا باب 5. ابن ماجه في كتاب الوصايا باب 6. (2) المصدر السابق. [ ..... ] (3) رواه البخاري في كتاب الوصايا باب 1. مسلم في كتاب الوصية حديث 1 أبو داود في كتاب الوصايا باب 1. الترمذي في كتاب الوصايا باب 3. النسائي في كتاب الوصايا 1. ابن ماجه في كتاب الوصايا باب 2. الدارمي في كتاب الوصايا باب 1. الموطأ في كتاب الوصايا حديث 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 قالوا فيمن يوصي لغير قرابته وله قرابة لا ترثه: يجعل ثلثي الثلث لذوي القرابة، وثلث الثلث لمن أوصى له. وعن طاوس: أن الأقارب إن كانوا محتاجين انتزغت الوصية من الأجانب وردت إلى الأقارب فَمَنْ بَدَّلَهُ فمن غير الإيصاء أو ما قاله الميت وأوصى به عن وجهه إن كان موافقا للشرع بَعْدَ ما سَمِعَهُ وتحققه فلا معنى للسماع لو لم يقع العلم به والمبدل إما الوصي بأن يغير الوصية في الكتابة، أو في قسمة الحقوق، وإما الشاهد بأن يغير شهادته أو يكتمها غير هما بأن يمنع من وصول ذلك المال إلى مستحقه، وقيل: المنهي عن التغيير هو الموصي، نهي عن تغيير الوصية عن الموضع الذي بيّن الله تعالى الوصية فيه. فإنهم كانوا يوصون في الجاهلية للأبعدين طلبا للفخر والشرف، ويتركون الأقارب في الضر والفقر، فأمرهم بالوصية للأقربين وأوعدهم على تركها. فَإِنَّما إِثْمُهُ ما إثم الإيصاء المغير أو إثم التبديل إلا على الذين يبدلونه، فإن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره. ومنه يعلم أن الطفل لا يعذب بكفر أبيه، وأن الإنسان إذا أمر الوارث بقضاء دينه فإن الميت لا يعذب بتقصير ذلك الوارث، وأن الميت لا يعذب بنياحة غيره عليه إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يسمع الوصية على حدها ويعلمها على صفتها فلا تخفى عليه خافية من التغيير الواقع فيها، وفي ذلك وعيد للمبدّل وأيّ وعيد. ثم إنه سبحانه لما أطلق الإيعاد على التبديل أتبعه قوله فَمَنْ خافَ ليعلم أن التغيير من الباطل إلى الحق على طريق الإصلاح مستحسن شرعا كما هو حسن عقلا، وللخوف هاهنا تفسيران: أحدهما: الخشية فيسأل أنه إنما يصح في أمر منتظر مظنون والوصية وقعت وعلمت. وأجيب بأن المراد أن هذا المصلح إذا شاهد الموصي يوصي فظهرت منه أمارات الجنف الذي هو الميل عن طريق الحق مع ضرب من الجهالة، أو مع التأويل أو شاهد فيه إثما أي تعمدا بأن يزيد غير المستحق، أو ينقص المستحق أو يعدل عن المستحق. فعند ظهور أمارات ذلك وقبل تحقق الوصية يأخذ في الإصلاح بينهم أي بين أهل الوصية، لأن قوله مِنْ مُوصٍ يدل على سائر ملابساته. فكأن الموصي يقول وقد حضر الوصي والشاهد على وجه المشورة: أريد أن أوصي للأباعد دون الأقارب، أو أن أزيد فلانا مع أنه غير مستحق للزيادة، أو أنقص فلانا مع أنه مستحق للزيادة، فعند ذلك يصير السامع خائفا من جنف أو إثم لا قاطعا به، وأيضا الجائز أن لا يستمر الموصي على وصيته فإن له الفسخ ما دام في حياته، فمن أين يحصل الثقة بما فعل وقد يعدل عن الحق في آخر الأمر؟ وبتقدير أن تستقر الوصية ومات الوصي على ذلك لم يبعد أن يقع بين الورثة والموصى لهم تنازع فيما نسب إلى الموصي، وقد يعزى حينئذ إلى الجنف أو الإثم فيحتاج إلى الإصلاح بينهم بإجرائهم على قانون الشرع. والتفسير الثاني إن خافَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 بمعنى علم. وقد يستعمل الخوف والخشية مقام العلم، لأن الخوف منشؤه ظن مخصوص، وبين العلم والظن مشابهة من وجوه كثيرة، فصح إطلاق أحدهما على الآخر استعمالا شائعا من ذلك قولهم «أخاف أن ترسل السماء» يريدون التوقع. والظن الغالب الجاري مجرى العلم. فمعنى الآية أن الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمدا فلا حرج على من علم ذلك أن يرده إلى الصلاح بعد موته وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع. وفي الآية دليل على جواز الإصلاح بين المتنازعين إذا خاف المصلح إفضاء المنازعة إلى محذور شرعا. والغرض من قوله فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ رفع الحرج حتى لا ينافي الوجوب. وفيه مع ذلك نكتة هي أن الإصلاح بين القوم يحتاج إلى الإكثار من القول وذلك قد يفضي إلى الإسهاب والتكلم ببعض ما لا ينبغي فبين تعالى أنه لا مؤاخذة على المصلح من هذا الجنس إذا كان غرضه الأصلي صحيحا ولهذا أتبعه قوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وأيضا كأنه قيل: أنا الذي أغفر الذنوب ثم أرحم المذنب، فلأن أوصل رحمتي إليك أيها المصلح مع تحمل أعباء الإصلاح أولى. أو المراد أن الموصي الذي أقدم على الجنف أو الإثم متى أصلح خلل وصيته فإن الله يغفر له ويرحمه بفضله. وبهذا التأويل يجوز أن يرجع الضمير في قوله فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إلى الموصي. واعلم أن أكثر الأئمة وإن ذهبوا إلى أن وجوب الوصية منسوخ بآية المواريث إلا أنهم اتفقوا على أنها الآن جائزة في الثلث لما روي أنه صلى الله عليه وسلم عاد سعد ابن أبي وقاص فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: لا. قال: فبشطره؟ قال: لا قال: فبالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير. لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس. فأفاد الحديث المنع من الزيادة واستحباب النقصان عن الثلث إن كانت الورثة فقراء. والوصية أوسع مجالا من الإرث، فإذا أراد الوصية فالأفضل أن يقدم من لا يرث من أقاربه لأن الله أعطى الأقربين الميراث ويقدم منهم المحارم ثم يقدم بالرضاع ثم بالمصاهرة ثم بالولاء ثم بالجوار كما في الصدقات المنجزة. فإن أوصى للورثة بعضهم جاز لكن بالإجازة من سائر الورثة كما لو زاد على الثلث للأجنبي، فإن الزائد يحتاج إلى إجازة الورثة. التأويل: كتب على الأغنياء الوصية بالمال وعلى الأولياء الوصية بالحال، والأغنياء يوصون في آخر أعمارهم بالثلث والأولياء يخرجون في مبادئ أحوالهم عن الكل. والمعنى إذا حضر قلب أحدكم مع الله وأمات نفسه عن الصفات الحيوانية، فعليه أن يوصي للوالدين. وهما الروح العلوي والبدن السفلي، فإن النفس تولدت من ازدواجهما، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 وللأقربين- وهم القلب- والسر بترك كل مشرب يظهر لهم من المشارب الروحانية والجسمانية بالمعروف من غير إسراف يفضي إلى الإتلاف معرضا عن الشهوات مجتنبا من الرسوم والعادات كما قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت لرفع العادات وترك الشهوات بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» «1» ومن مكارم الأخلاق أن يجعل المشارب مشربا واحدا والمذاهب مذهبا واحدا. وكل له سؤل ودين ومذهب ... ووصلكم سؤلي وديني هواكم وأنتم من الدنيا مرادي وهمتي ... مناي مناكم واختياري رضاكم حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ من الشرك الخفي ولهذا لم يقل على المسلمين أو المؤمنين لأنهم أهل الظواهر والمتقون هم أهل البواطن كما قال صلى الله عليه وسلم «التقوى هاهنا» «2» وأشار إلى صدره. وأحكام الظواهر يحتمل النسخ وأحكام البواطن وهي الحكم والحقائق لا تحتمل النسخ. فحكم الوصية في حق المتقين غير منسوخ أبدا فَمَنْ بَدَّلَهُ فمن غير من الروح والقلب والسر والوصية الصادرة من نفسه الميتة فَإِنَّما إِثْمُهُ عليهم. وسبب هذا التوكيد أن السر والقلب والروح كلهم من العالم الروحاني، وصفاتهم حميدة باقية فترك مشاربها والخروج عنها صعب جدا فَمَنْ خافَ تفرس مِنْ مُوصٍ جَنَفاً في ترك المشارب بأن يبالغ في المجاهدات لنيل المشاهدات أَوْ إِثْماً تجاوزا عن حد الشرع في رفع الطبع فَأَصْلَحَ بينهم بين الروح والبدن والقلب والسر ولكن بنظر شيخ كامل ومرب عارف، فلا حرج على المصلح والله الموفق. [سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 187] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)   (1) رواه مالك في الموطأ في كتاب حسن الخلق حديث 8. أحمد في مسنده (2/ 381) بلفظ «بعثت لأتمم حسن الأخلاق» . (2) رواه مسلم في كتاب البر حديث 35. الترمذي في كتاب البر باب 18. أحمد في مسنده (2/ 277، 360) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 القراآت: فِدْيَةٌ طَعامُ مضافا مساكين بالجمع: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان. وروى الحلواني والداري عن هشام والنجاري فِدْيَةٌ بالتنوين طَعامُ بالرفع مضافا إلى مساكين بالجمع. الباقون: مثل هذا إلا أن مِسْكِينٍ مفرد مجرور فَمَنْ تَطَوَّعَ بتشديد الطاء والواو وبياء الغيبة وجزم العين: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بلفظ الماضي من باب التفعل الْقُرْآنُ غير مهموز حيث كان: ابن كثير وعباس وحمزة في الوقف فإذا كان بمعنى القراءة فإن عباسا فيه مخير إن شاء همز وإن شاء لم يهمز كقوله تعالى وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء: 78] وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ [طه: 114] إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة: 17] فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة: 18] الباقون بالهمز الْيُسْرَ والْعُسْرَ حيث كانا مثقلين: يزيد إلا قوله فَالْجارِياتِ يُسْراً [الذاريات: 3] وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ من التكميل: أبو بكر وحماد وعباس ورويس. والباقون: من الإكمال. الداعي إذا دعاني بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل. وافق أبو جعفر ونافع غير قالون وأبو عمرو بالياء في الوصل. والباقون بغير ياء فيها في الحالين في لَعَلَّهُمْ بفتح الياء: ورش. الباقون: بالسكون. الوقوف: تَتَّقُونَ لا لأن «أياما» ظرف «الصيام» أو الاتقاء مَعْدُوداتٍ ط لأن المرض والسفر عارضان فكانا خارجين عن أصل الوضع أُخَرَ ط لأن خبر الجار منتظر وهو «فدية» فلا تعلق له بما قبله مِسْكِينٍ ط لأن التطوع خارج عن موجب الأصل خَيْرٌ لَهُ ط لأن التقدير والصوم خير لكم. تَعْلَمُونَ هـ وَالْفُرْقانِ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب فَلْيَصُمْهُ ط للابتداء بشرط آخر أُخَرَ ط الْعُسْرَ ز قد يجوز تَشْكُرُونَ هـ قَرِيبٌ ط لأن قوله «أجيب مستأنف» دَعانِ ص للفاء يَرْشُدُونَ هـ لَهُنَّ ط عَنْكُمْ ج لعطف الجملتين المختلفتين لَكُمْ ص لذلك إِلَى اللَّيْلِ ج وإن اتفقت الجملتان لأن حكم الصوم والاعتكاف مختلفان ولكل واحد شأن فِي الْمَساجِدِ ط لأن «تلك» مبتدأ فَلا تَقْرَبُوها ط لأن كذلك صفة مصدر محذوف أي يبين الله بيانا كبيان ما تقدم يَتَّقُونَ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 التفسير: هذا حكم آخر. والصيام مصدر صام كالقيام والعياذ. وهو في اللغة الإمساك عن الشيء. قال الخليل: الصوم قيام بلا عمل. وصام الفرس صوما أي قام على غير اعتلاف. وقال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم. وإنه في الشرع عبارة عن الإمساك عن أشياء مخصوصة تسمى المفطرات كالأكل والشرب والوقاع في زمان مخصوص هو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس. ولا بد في صحته من النية وأن يقع في غير يومي العيد بالاتفاق، وفي غير أيام التشريق عند الأكثرين. ويوافقه الجديد من قول الشافعي «ومن غير يوم الشك بلا ورد ونذر وقضاء وكفارة» . ولا بد للصائم من الإسلام والنقاء عن الحيض والنفاس، ومن العقل كل اليوم، ومن انتفاء الإغماء في جزء من اليوم. وقوله سبحانه كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم. قال علي كرم الله وجهه: أوّلهم آدم يعني أن الصوم عبادة أصلية قديمة ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم لم يفرضها عليكم وحدكم. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بالمحافظة عليها لقدمها، أو المعاصي لأن في الصوم ظلفا للنفس عن المناهي ومواقعة السوء، أو لعلكم تنتظمون في سلك أهل التقوى فإن الصوم شعارهم. وقيل: معناه صومكم كصومهم في عدد الأيام وهو رمضان، كتب على النصارى فأصابهم موتان فزادوا عشرا قبله وعشرا بعده. وقيل: كان يقع في البرد الشديد والحر الشديد فشق عليهم فجعلوه بين الشتاء والربيع وزادوا عشرين كفارة. ومعنى معدودات مؤقتات بعدد معلوم أو قلائل مثل دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ [يوسف: 20] وأصله أن المال القليل يعدّ عدّا، والكثير يحثى حثيا كأنه قال: إني رحمتكم فلم أفرض عليكم صيام الدهر كله ولا أكثره ولكن أياما معدودة قليلة، وعلى هذا يحتمل أن يكون وجه الشبه بين الفرضين مجرد تعليق الصوم بمدة غير متطاولة وإن اختلفت المدتان. ثم إن الأئمة اختلفوا في هذه الأيام على قولين: الأول: أنها غير رمضان. فعن عطاء: ثلاثة أيام من كل شهر. وعن قتادة: هي مع صوم عاشوراء. ثم اختلفوا أيضا فقيل: كان تطوّعا ثم فرض وقيل بل كان واجبا. واتفقوا أنه نسخ بصوم رمضان واستدلوا على قولهم إنها غير صوم رمضان بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن صوم رمضان نسخ كل صوم» فدل على أن صوما آخر كان واجبا. وأيضا ذكر حكم المريض والمسافر في هذه الآية وفي التي تتلوها، فلو اتحد الصومان كان تكريرا محضا. وأيضا ذكر في هذه الآية التخيير بين الصوم والفدية وصوم رمضان واجب على التعيين فيختلفان. والثاني: وهو اختيار أبي مسلم والحسن وأكثر المحققين أنها شهر رمضان أجمل أولا ذكر الصيام، ثم بينه بعض البيان بقوله أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ثم كمل البيان بقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 شَهْرُ رَمَضانَ وهذا ترتيب في غاية الحسن من غير زيادة ولا نقصان. وأجيب عن استدلالهم الأول بأنه ليس في الخبر أنه نسخ عنه وعن أمته كل صوم فلم لا يجوز أن يراد به نسخ كل صوم وجب الشرائع المتقدمة. سلمنا أن المراد به صوم ثبت في شرعه ولكن لم لا يجوز أن يكون ناسخا لصيام وجب بغير هذه الآية. وعن الثاني أن صوم رمضان كان واجبا مخيرا، وفي الآية الثانية جعل واجبا على التعيين، فأعيد حكم المريض والمسافر ليعلم أن حالهما ثانيا في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالهما أولا. وعن الثالث أن الاختلاف مسلم لكن في التخيير والتعيين، أما في نفس الصوم فلا. وهاهنا سؤال وهو أن قوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ كيف كان ناسخا للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ؟ والجواب أن الاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول، بل المقدم في التلاوة يمكن أن يكون ناسخا والمتأخر منسوخا كآية الاعتداد بالحول. وهكذا نجد في القرآن آية مكية متأخرة في التلاوة عن الآية المدنية وذلك كثير. قال القفال: انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف، فبين أولا أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمم السالفة، فإن الأمور الشاقة إذا عمت خفت. ثم بين ثانيا وجه الحكمة في إيجاب الصوم وحصول التقوى. ثم بين ثالثا أنه مختص بأيام قلائل لا بكلها ولا بأكثرها. ثم بين رابعا أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن ليعلم شرفه فتوطن النفس له. ثم ذكر خامسا إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى زمن الرفاهية والصحة وهي هيئة يكون بها بدن الإنسان في مزاجه وتركيبه بحيث يصدر عنها الأفعال كلها سليمة والمرض زوالها. واختلف الأئمة في المرض والسفر المبيحين للإفطار على أقوال: أحدها أن أيّ مريض كان، وأيّ مسافر كان، فله أن يترخص تنزيلا للفظ المطلق على أقل أحواله، وهذا قول الحسن وابن سيرين. يروى أنه دخل عليه في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع أصبعه. وعن داود: الرخصة حاصلة في كل سفر ولو كان فرسخا. وثانيها أنه المرض الذي لو صام لوقع في مشقة وجهد وكذا السفر وهو قول الأصم. وحاصله تنزيل اللفظ على أكمل أحواله. وثالثها وهو قول الشافعي وأكثر الفقهاء أنه الذي يؤدي إلى ضرر في النفس أو زيادة في العلة إذ لا فرق في العقل بين ما يخاف منه وبين ما يؤدي إلى ما يخاف منه كالمحموم إذا خاف أنه لو صام اشتد حماه، والأرمد يخاف أن يشتد وجع عينه. قالوا: وكيف يمكن أن يقال: كل مرض مرخص مع علمنا بأن في الأمراض ما ينفعه الصوم؟ فالمراد إذن منه ما يؤثر الصوم في تقويته تأثيرا يعتد به والتأثير اليسير لا عبرة به. والمرض المرخص لا يفرق فيه بين أن يعرف كونه كذلك بنفسه أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 يخبره بذلك طبيب حاذق بشرط كونه مسلما بالغا عدلا. وأصل السفر من الكشف لأنه يكشف عن أحوال الرجال وأخلاقهم. وعن الأزهري: سمي مسافرا لكشف قناع الكن عن وجهه وبروزه للأرض الفضاء. قال الأوزاعي: السفر المبيح مسافة يوم. وعند الشافعي مقدر بستة عشر فرسخا ولا يحسب منه مسافة الإياب. كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قدر أميال البادية، كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة. وإلى هذه ذهب مالك وأحمد وإسحق، وذلك أن تعب اليوم الواحد يسهل تحمله بخلاف ما إذا تكرر في يومين فحينئذ يناسب الرخصة، ولما روى الشافعي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان» قال أهل اللغة: كل بريد أربعة فراسخ. وروى الشافعي أيضا أن عطاء قال لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ فقال: لا فقال: إلى مرّ الظهران؟ فقال: لا. ولكن اقصر إلى جدّة وعسفان والطائف. قال مالك: بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد. وقال أبو حنيفة والثوري: رخصة السفر لا تحصل إلا في ثلاث مراحل، أربعة وعشرين فرسخا قياسا على المسح. والإجماع على الرخصة في هذا المدة والخلاف فيما دون ذلك فيبقى المختلف فيه على أصل وجوب الصوم. وأجيب بأن قوله صلى الله عليه وسلم «يمسح المقيم يوما وليلة» «1» لا يدل على أنه لا تحصل الإقامة في أقل من يوم وليلة، لأنه لو نوى الإقامة في موضع الإقامة ساعة يصير مقيما. وكذا قوله صلى الله عليه وسلم «والمسافر ثلاثة أيام» «2» لا يوجب أن لا يحصل السفر في أقل من ثلاثة أيام. وأيضا الترجيح للإفطار لقوله صلى الله عليه وسلم في قصر الصلاة «هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» «3» وإنما قيل أَوْ عَلى سَفَرٍ دون أن يقول مسافرا كما قال مَرِيضاً لأن السفر يتعلق بقصده واختياره حتى لو عزم على الإقامة في منزل من المنازل لم يبق على قصد السفر، فلا يصح الإفطار وإن كان مسافرا وهذا بخلاف المرض فإنه صفة قائمة به إن حصلت حصلت وإلا فلا. وعدّة فعلة من العدّ بمعنى المعدود كالطحن بمعنى المطحون، وعدة المرأة من هذا. وإنما قيل فَعِدَّةٌ على التنكير ولم يقل «فعدتها» أي فعدة الأيام المعدودات للعلم بأنه لا يؤثر عدد على عددها وأنه لا يأتي إلا بمثل ذلك العدد ظاهرا، فأغنى ذلك عن   (1، 2) رواه النسائي في كتاب الطهارة باب 98. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 86. (3) رواه مسلم في كتاب المسافرين حديث 4. أبو داود في كتاب السفر باب 1. الترمذي في كتاب تفسير سورة النساء باب 20. النسائي في كتاب الخوف باب 1. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 التعريف بالإضافة. والمعنى فعليه صوم عدّة. وقرىء بالنصب أي فليصم عدّة. وأخر جمع أخرى تأنيث آخر، وإنه غير مصروف للصفة والعدل من أخر من كذا. واعلم أن قوما من علماء الصحابة ذهبوا إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ويصوما عدة من أيام أخر وهو قول ابن عباس وابن عمر حتى قالا: لو صام في السفر قضى في الحضر. واختاره داود بن علي الأصفهاني وهو مذهب الإمامية لأن قوله تعالى فَعِدَّةٌ أي فعليه عدّة مشعر بالوجوب عليه. ولأن قوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ينبىء عن إرادته الإفطار ولقوله صلى الله عليه وسلم «ليس من البر الصيام في السفر» «1» وفي الرواية بدل لام التعريف ميم التعريف. وقوله «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر» «2» وذهب أكثر الفقهاء إلى أن هذا الإفطار رخصة فإن شاء أفطر وإن شاء صام لما يجيء من قوله تعالى وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ولما روى أبو داود في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل أصوم في السفر فقال: صم إن شئت وأفطر إن شئت. قالوا وفي الآية إضمار التقدير: فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر كقوله تعالى أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة: 196] أي فحلق فعليه فدية. ثم اختلف هؤلاء فعن الشافعي وأبو حنيفة ومالك والثوري وأبي يوسف ومحمد: أن الصوم أفضل. وقالت طائفة: الأفضل الفطر وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد وإسحق. وقيل: أفضل الأمرين أيسرهما على المرء. واختلف أيضا في القضاء فعامة العلماء على التخيير. وعن أبي عبيدة بن الجراح: أن الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه إن شئت فواتر وإن شئت ففرّق. وعن علي كرم الله وجهه وابن عمر والشعبي وغيرهم: أنه يقضي كما فات متتابعا ويؤيده قراءة أبي فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ متتابعات قوله سبحانه وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فيه ثلاثة أقوال: الأول: وهو قول أكثر المفسرين: أن المعنى وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر بهم لكونهم مقيمين صحيحين إن أفطروا فدية هي طعام مسكين. والفدية في معنى الجزاء وهو عبارة عن البدل القائم عن الشيء وأنه هاهنا عند أهل العراق- ومنهم أبو حنيفة- نصف صاع من بر أو صاع من غيره. وعند أهل الحجاز- ومنهم الشافعي- مدّ من   (1) رواه البخاري في كتاب الصوم باب 36. مسلم في كتاب الصوم حديث 92 أبو داود في كتاب الصوم باب 43. الترمذي في كتاب الصوم باب 18. النسائي في كتاب الصيام باب 46. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 11. (2) رواه النسائي في كتاب الصيام باب 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 غالب قوت البلد لكل يوم ويصرف إلى الفقير والمسكين. قالوا: كان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعوّدوه فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية. عن سلمة بن الأكوع: لما نزلت وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ كان من أراد أن يفطر يفطر ويفتدي حتى نزلت فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فنسختها. من قرأ بإضافة الفدية إلى طعام فالإضافة فيه كهي في قولك «خاتم حديد» ومن قرأ «مساكين» على الجمع فلأن الذين يطيقونه جمع فكل واحد منهم يلزمه طعام مسكين لكل يوم. والاعتبار بمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مائة وثلاثة وسبعون درهما وثلث الدرهم. الثاني: أن هذا راجع إلى المسافر والمريض. وذلك أن المريض والمسافر منهما من لا يطيق أصلا وإليه الإشارة بقوله فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ومنهما من يطيق الصوم مع الكلفة وهو المراد بقوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قالوا: هذا أولى ليلزم النسخ أقل، فإن نسخ التخيير بين الصوم والفدية عن المريض المطيق أقل من نسخ التخيير عنه وعن الصحيح المقيم. الثالث: أنه نزل في الشيخ الهرم. عن السدي: وعلى هذا لا تكون الآية منسوخة ويؤيده القراءة الشاذة يطوّقونه تفعيل من الطوق إما بمعنى الطاقة أو القلادة أي يكلفونه، أو يقلدونه. والتركيب يستعمل فيمن يقدر على شيء مع ضرب من المشقة والكلفة وبعضهم أضاف إلى الشيخ الهرم الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما وولديهما. واتفقوا على أن الشيخ إذا أفطر فعليه الفدية، وأما الحامل والمرضع إذا أفطرتا فقال الشافعي: عليهما القضاء والفدية لحق الوقت. وقال أبو حنيفة: لا يجب إلا القضاء كيلا يلزم الجمع بين البدلين. فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً بأن يطعم مسكينين أو أكثر أو يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب، أو صام مع الفدية عن الزهري. فَهُوَ أي التطوع خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا أيها المطيقون أو المطوقون وتحملتم متاعب الصيام خَيْرٌ لَكُمْ من الفدية وتطوّع الخير. ويجوز أن ينتظم في الخطاب المريض والمسافر أيضا عند من يرى أن الصوم لهما أفضل إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن الصوم أشق عليكم وأن أجركم على قدر نصبكم، أو تعلمون بالله فتخشونه فتمتثلون أمره إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] أو تعلمون ما في الصوم من الفوائد الدنيوية والأخروية. عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يقول الله عز وجلّ الصوم لي وأنا أجزي به وللصائم فرحتان حين يفطر وحين يلقى ربه. والذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» «1» وعنه صلى الله عليه وسلم «إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم» «2» وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» «3» وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا» «4» وعن النبي صلى الله عليه وسلم «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» «5» وفضيلة الصوم ومنافعه أكثر من أن تحصى ولو لم يكن فيه إلا التشبه بالملائكة والارتقاء من حضيض حظوظ النفس البهيمية إلى ذروة التشبه بالروحانيات المجرّدة لكفى به فضلا ومنقبة. هذا صوم الشريعة، فأما صوم الطريقة فالإمساك عما حرم الله عزّ وجلّ والإفطار بما أباح وأحل، وصوم الحقيقة الإمساك عن الأكوان والإفطار بمشاهدة الرحمن. صمت عن غيره فلما تجلى ... كأن بي شاغل عن الإفطار وتشوّقت مدة ثم لما ... زارني جلّ عن مدى الأنظار قوله عز من قائل شَهْرُ رَمَضانَ الشهر مأخوذ من الشهرة. عن مجاهد: رمضان اسم الله تعالى. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ولكن قولوا جاء شهر رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله» وعلى هذا شهر رمضان أي شهر الله.   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 35. مسلم في كتاب الصيام حديث 164. الترمذي في كتاب الصوم باب 55. النسائي في كتاب الصوم باب 41، 42. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 1. الدارمي في كتاب الصوم باب 50. أحمد في مسنده (1/ 446) ، (2/ 266، 393) . (2) رواه البخاري في كتاب الصوم باب 4. مسلم في كتاب الصيام حديث 166. (3) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 28، ليلة القدر باب 1، الصوم باب 6. مسلم في كتاب الصيام حديث 203. أبو داود في كتاب رمضان باب 1. الترمذي في كتاب الصوم باب 1. النسائي في كتاب الصيام باب 39. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 173. الدارمي في كتاب الصوم باب 44. أحمد في مسنده (2/ 232، 241) ، (3/ 55، 308) . (4) رواه الترمذي في كتاب الصوم باب 82. الدارمي في كتاب الصوم باب 13. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 45. أحمد في مسنده (4/ 114، 116) . (5) رواه البخاري في كتاب الصوم باب 10. مسلم في كتاب النكاح حديث 1، 3. أبو داود في كتاب النكاح باب 1. النسائي في كتاب الصيام باب 43. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 1. الدارمي في كتاب النكاح باب 2. أحمد في مسنده (1/ 378، 424) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 والأكثرون على أنه اسم علم للشهر كرجب وشعبان ومنع الصرف للعلمية والألف والنون. ثم اختلف في اشتقاقه فعن الخليل: أنه من الرمض بتسكين الميم وهو مطر يأتي وقت الخريف ويطهر وجه الأرض عن الغبار، سمي الشهر بذلك لأنه يطهر الأبدان عن أوضار الأوزار. وقيل: من الرمض بمعنى شدة الحر من وقع الشمس والأرض رمضاء. وفي الكشاف: الرمضان مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء، سمي بذلك إما لارتماضهم فيه من حر الجوع كما سموه ناتقا لأنه كان ينتقهم أي يزعجهم لشدته عليهم، أو لأن الذنوب ترمض فيه أي تحترق. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إنما سمي رمضان لأنه يرمض ذنوب عباده» وكأن هذا من قولهم «رمضت النصل» جعلته بين حجرين أملسين ثم دققته ليرق. وعن الأزهري: أنهم كانوا يرمضون أسلحتهم فيه ليقضوا منها أوطارهم في شوّال قبل دخول الأشهر الحرم. وقيل: إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمي بذلك. وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء، وإضافة الشهر إليه إضافة العام إلى الخاص، ولو لم يتلفظ بالشهر جاز كقوله صلى الله عليه وسلم «من صام رمضان إيمانا» «1» الحديث. لأن التسمية وقعت برمضان فقط. وارتفاعه على أنه مبتدأ خبره الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أو على أنه بدل من الصيام في قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي أي الأيام المعدودات شهر رمضان. وعلى هذين الوجهين يكون الموصول مع صلته صفة لشهر رمضان. قال أبو علي: وهذا أولى ليكون أيضا في الأمر بصوم الشهر وإلا كان خبرا عن إنزال القرآن فيه. وقرىء بالنصب على صوموا شهر رمضان أو على الإبدال من أَيَّاماً أو على مفعول وَأَنْ تَصُومُوا وفي هذا الوجه نظر من قبل الفصل بين أَنْ تَصُومُوا ومعموله بالخبر. وفائدة وصف الشهر بإنزال القرآن فيه التنبيه على علة تخصيصه بالصوم فيه. وذلك أنه لما خص بأعظم آيات الربوبية ناسب أن يخص بأشق سمات العبودية فبقدر هضم النفس يترقى العبد في مدارج الأنس ويصل إلى معارج القدس وتنخرق له الحجب الناسوتية ويطلع على الحكم اللاهوتية ويفهم معاني القرآن ويتبدل له العلم بالعيان وكان حينئذ من العجائب ما كان. وفي إنزال القرآن في رمضان أقوال. فعن سفيان بن عيينة أنزل في فضله القرآن كما تقول أنزل في علي عليه السلام كذا. وقال ابن الأنباري: أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن كما تقول: أنزل الله في الزكاة كذا أي في إيجابها، وأنزل   (1) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 28، كتاب الصوم باب 6 مسلم في كتاب المسافرين حديث 175. أبو داود في كتاب رمضان باب 1. الترمذي في كتاب الصوم باب 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 في الخمر كذا أي في تحريمها. والقولان متقاربان، أو هما واحد فإنه لم ينزل سوى قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ الآيات. واختيار الجمهور أن الله تعالى أنزل القرآن في رمضان. عن النبي صلى الله عليه وسلم «نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين» «1» ثم إنه لا شك أن القرآن قد نزل منجما مفرقا على حسب المصالح والوقائع، فأوّلت الآية بأن المراد أنه ابتدئ فيه إنزاله وذلك ليلة القدر. ومبادئ الملل والدول هي التي يؤرخ بها لشرفها وانضباطها. وهذا قول محمد بن إسحق. أو أنه أنزل جملة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل إلى الأرض نجوما، وليس يبعد أن يكون للملائكة الذين هم سكان سماء الدنيا مصلحة في إنزال ذلك إليهم، وفيه مصلحة للرسول من حيث توقع الوحي عن أقرب الجهات. ولعل فيه مصلحة لجبريل المأمور بالإنزال والتأدية ولا سيما على رأي الفلاسفة الذين جبريل عندهم هو العقل الفعال الأخير الذي يدبر عالم الكون والفساد وخاصة نوع الإنسان. وعلى هذا القول يحتمل أن يقال: إن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم نزله على محمد صلى الله عليه وسلم منجما إلى آخر عمره. ويحتمل أن يقال: إنه سبحانه كان ينزل إلى السماء الدنيا ليلة القدر كل سنة ما يحتاجون إليه في تلك السنة وكذلك أبدا إلى أن تم إنزاله. وعلى هذا يكون تعين رمضان الذي أنزل فيه القرآن نوعيا لا شخصيا هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ منصوبان على الحالية أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو آيات واضحات مكشوفات من جملة ما يهدى إلى الحق ويفرق بينه وبين الباطل من الكتب السماوية. وذلك أن الهدى قسمان: جلي مكشوف وخفي مشتبه، فوصفه أولا بجنس الهداية ثم قال: إنه من نوع البين الواضح. ويحتمل أن يقال: القرآن هدى من نفسه ومع ذلك ففيه أيضا بينات من هدى الكتب المتقدمة، فيكون المراد بالهدى والفرقان والتوراة والإنجيل، أو يقال: الهدى الأول أصول الدين، والثاني فروعه، فيزول التكرار. نقل الواحدي عن الأخفش والمازني أن الفاء في فَمَنْ شَهِدَ زائدة إذ لا معنى للعطف والجزاء هاهنا وهذا وهم لظهور كونها للجزاء كأنه قيل: لما علمتم اختصاص هذا الشهر بفضيلة إنزال القرآن فيه فأنتم أيضا خصوه بهذه العبادة، ومعنى شهد أي حضر. ثم قيل: إن مفعوله محذوف وَالشَّهْرَ منصوب على الظرف وكذلك الهاء في فَلْيَصُمْهُ ولا يكون مفعولا به كقولك «شهدت الجمعة» لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان الشهر. فالمعنى فمن شهد منكم في الشهر المذكور المعلوم البلد أو المقام فليصم في الشهر.   (1) رواه أحمد في مسنده (4/ 107) . [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 وصاحب هذا القول ارتكب الإضمار حذرا من لزوم التخصيص في حق المسافر إلا أنه يلزمه ما فر منه أية سلك لأن الصبي والمجنون والمريض كل منهم شهد البلد مع أنه لا يجب عليه الصوم. أما إذا قيل: إن الشهر مفعول به مثل «شهدت عصر فلان وأدركت زمانه» فلا يلزم منه إلا أحد الأمرين وهو التخصيص بقوله وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فيكون أولى من الأول لأن الإضمار والتخصيص إذا تعارضا فالتخصيص أولى، فكيف إذا وقع الإضمار والتخصيص في جانب والتخصيص وحده في جانب؟ هذا ما قاله الإمام فخر الدين الرازي معترضا به على صاحب الكشاف وغيره. (قلت) : الإنصاف أن الترجيح مع صاحب الكشاف لأن لزوم الإضمار في الآية ممنوع، وذلك أن شَهِدَ هاهنا متروك المفعول كقولهم «فلان يعطى ويمنع» ومعنى من شهد من كان على حالة الحضر سواء كان في البلد أو في منزل من المنازل ونوى الإقامة. وأما التخصيص فمشترك على القولين إلا أنه على قول صاحب الكشاف أقل لعدم دخول المسافر فيه، فيكون أولى. فإن قيل: فعلى هذا يكون قوله بعيد ذلك أَوْ عَلى سَفَرٍ تكرارا قلنا: إنما أعيد ليترتب عليه حكم القضاء كما للمريض. وأيضا لا يلزم من إيجاب الصوم على الحاضر عدم إيجابه على المسافر، ولو سلم فبالمفهوم أوّلا وبالمنطوق ثانيا، فأين التكرار؟ وإنما وضع المظهر وهو الشهر مقام المضمر حيث لم يقل فمن شهده اعتناء بشأنه واعتلاء لمكانه وتمكينا في القلوب وتعظيما في النفوس كقوله: أن يسأل الحق يعطى الحق سائله. وهاهنا بحث وهو أن قوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ جملة شرطية، وما لم يوجد الشرط بتمامه لم يترتب عليه الجزاء، والشهر عبارة عن زمان مخصوص من أوله إلى آخره، فظاهر الآية يقتضي أن الصوم لا يجب عليه إلا عند شهود الجزء الأخير وهو محال لأنه يقتضي إيقاع الفعل في الزمان المنقضي. وأجيب بأن المراد من الشهر جزء من أجزائه وهذا مجاز مشهور، والمعنى من شهد جزءا من أجزاء الشهر فليصم كل الشهر. ثم إن كان هذا الجزء من أول الشهر كما لو شهد هلال رمضان فهذا موافق لما نقل عن علي كرم الله وجهه: أن من دخل عليه الشهر وهو مقيم ثم سافر وجب أن يصوم الكل. وأما سائر المجتهدين فيقولون: هذا عام يدخل فيه الحاضر والمسافر إلا أن قوله وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ يخصصه، وإن كان في أثناء الشهر فيوافق قول أبي حنيفة: إن المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر لزمه قضاء ما مضى. قلت: لا حاجة إلى ارتكاب التجوز المذكور وهو إطلاق لفظ الشهر على جزء من أجزائه، ولا يلزم منه المحال المذكور إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 المراد من شهد الشهر أجمع فليكن بحيث قد وجد منه الصوم في جميع أيامه، أو المراد من عزم على كونه مقيما في الشهر فليصمه. ويعلم منه أنه إن كان حاضرا في بعضه يتعلق إيجاب الصوم بذلك البعض فقط بدليل قوله وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فإنه لما علم الوجوب للحاضر في كله والرخصة للمسافر في كله علم الحكمان جميعا للحاضر في بعضه والمسافر في البعض الآخر، فكل يوم مستقل بنفسه فيما يقتضيه، والصوم فيه عبادة مستقلة، وكأن ما نقل عن علي كرم الله وجهه أمر إلزامي رعاية لحرمة الشهر كما لو أدركت الحائض من أول الوقت قدر ما يسع تلك الصلاة، وفي قول قدر ركعة، وفي قول قدر تكبيرة، لزمها قضاؤها إذا طهرت. وأما أن شهر رمضان بم يثبت حتى يعتبر الشهود فيه فقد قال صلى الله عليه وسلم «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاستكملوا العدة» «1» يعني عدة شعبان ثلاثين يوما. ومهما شهد عند القاضي عدل واحد أنه رأى الهلال ثبت لما روي عن عمر أنه رأى الهلال وحده فشهد عند النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الناس بالصوم. ولما روي أن عليا عليه السلام شهد عنده رجل على رؤية هلال رمضان فصام وقال: صيام يوم من شعبان أحب إليّ من أن أفطر يوما من رمضان ، وللاحتياط في أمر العبادة. ولا يثبت الهلال في سائر الشهور إلا برؤية عدلين، وعند أبي حنيفة: يثبت هلال رمضان في الغيم بواحد وفي الصحو تعتبر الاستفاضة. وإذا رؤي في موضع شمل الحكم لمن هو على ما دون مسافة القصر منه ولا يجب الصوم بذلك على من عداهم. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ معناه في اللغة السهولة ومنه اليسار للغني لأنه يتسهل به الأمور وتتسنى المقاصد واليد اليسرى لبقائها على اليسر، أو لأن الأمور تسهل بمعاونتها اليمنى والعسر نقيضه. وفي الصحاح: قال عيسى بن عمر: كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم وأوسطه ساكن فمن العرب من يثقله ومنهم من يخففه. أوجب الصوم على سبيل السهولة لأنه ما أوجب إلا في مدة قليلة من السنة، ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض والمسافر وهاهنا يتحقق صدق قوله صلى الله عليه وسلم «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» «2» . ومن كمال رأفته تعالى أنه نفى الحرج أولا ضمنا بقوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ثم نفاه صريحا بقوله وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ والظاهر أن الألف واللام في اليسر والعسر يفيد العموم، فيمكن أن يستدل به على عدم وقوع التكليف بما لا يطاق. والمعتزلة تمسكوا بالآية أنه قد يقع من العبد ما لا يريد الله تعالى، فإن   (1) رواه البخاري في كتاب الصوم باب 11. الترمذي في كتاب الصوم باب 3، 5. النسائي في كتاب الصيام باب 8. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 7. أحمد في مسنده (1/ 226) (2/ 415) . (2) رواه أحمد في مسنده (5/ 266) (6/ 116، 233) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 المريض لو حمل نفسه على الصوم حتى أجهده فقد ما لم يرد الله منه إذ كان لا يريد العسر. وأجيب بأنا نحمل اللفظ على أنه تعالى لا يأمره بالعسر وإن كان قدير يدمنه العسر فإن الأمر عندنا قد يثبت بدون الإرادة. فكما أنه يجوز أن يأمر ولا يريد جاز أن يريد ولا يأمر. قوله وَلِتُكْمِلُوا أجمعوا على أن الفعل المعلل محذوف فيه. فعن الفراء: التقدير ولتكلموا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون. شرع جملة ما ذكره وهو الأمر بصوم العدة وتعليم كيفية القضاء والرخصة في إباحة الفطر. وهذا نوع من اللف لطيف المسلك. فقوله لِتُكْمِلُوا علة الأمر بمراعاة العدة وَلِتُكَبِّرُوا علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي إرادة أن تشكروا علة الترخيص والتيسير. وعن الزجاج: أن المحذوف فعل أمر مقدر قبله كأنه قيل: لتعلموا ما تعملون ولتكملوا. والفرق أن حذف النون في الأول للنصب وفي هذا للجزم. ولا يخفى أن قوله وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يبقى في هذا الوجه غير مرتبط بما قبله إلا أن يقال: إنه في قوة «ولتشكروا» . وفيه أيضا بعد ويحتمل أن يقال وَلِتُكْمِلُوا معطوف على اليسر كأنه قيل: يريد الله بكم اليسر ويريد بكم لتكملوا كقوله يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا [الصف: 8] وإنما قيل وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ولم يقل «ولتكملوا الشهر» ليشمل عدة أيام الشهر وعدة أيام القضاء جميعا. وعدى فعل التكبير بعلى لتضمين معنى الحمد أي ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم. والمراد بالتكبير قيل: إنه تعظيم الله تعالى والثناء عليه شكرا على ما وفق لهذه الطاعة. وتمام هذا التكبير إنما يكون بالقول والاعتقاد والعمل. فالقول أن يقر بصفاته العلى وأسمائه الحسنى وينزهه عما يليق به من ند وصاحبة وولد وتشبيه بالخلق، وكل ذلك لا يعتدّ به إلا مع الاعتقاد القلبي. وأما العمل فالتعبد بالأوامر والتبعد عن النواهي. وهذا لا يختص بوقت استكمال عدة رمضان، ولكنه شامل لجميع الأحيان. وقيل: هو تكبير الفطر وإنه مشروع في العيدين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعا صوته بالتهليل والتكبير حتى يأتي المصلى. وأوّل وقته في العيدين جميعا غروب الشمس ليلة العيد. وعن أحمد ومالك أنه لا تكبير ليلة العيد وإنما يكبر في يومه. لنا قوله تعالى وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ قال الشافعي: سمعت من أرضى به من أهل العلم بالقرآن يقول وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ أي عدة صوم رمضان وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عند إكمالها، وإكمالها بغروب الشمس آخر يوم من رمضان وأما آخر التكبير فأصح الأقوال أنهم يكبرون إلى أن يحرم الإمام بصلاة العيد، لأن الكلام مباح إلى تلك الغاية والتكبير أولى ما يقع به الاشتغال. والمسنون في صيغته أن يكبر ثلاثا نسقا وبه قال مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 وقال أحمد وأبو حنيفة: يكبر مرتين. لنا الرواية عن جابر وابن عباس. وأيضا فإنه تكبير موضوع شعارا للعيد فكان وترا كتكبير الصلاة. قال الشافعي: وما زاد من ذكر الله فحسن. واستحسن في «الأم» أن تكون زيادته ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قاله على الصفا وهو: «الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده فلا شيء بعده لا إله إلا الله والله أكبر» قال في الشامل: والذي يقوله الناس لا بأس به أيضا وهو: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر والله أكبر ولله الحمد. يرفع الناس أصواتهم بالتكبير ليلتي العيد في المنازل والمساجد والطرق والأسواق سفرا كانوا أو حاضرين في اليومين في طريق المصلي وبالمصلى إلى الغاية المذكورة سواء كان يصلي المكبر مع الإمام أو لا يصلي. ويستثني من ذلك الحاج فلا يكبر ليلة الأضحى. واختلف في أن التكبير في أي العيدين أوكد، ففي القديم ليلة النحر لإجماع السلف عليها، وفي الجديد ليلة الفطر لورود النص فيها. قوله سبحانه وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي وجه اتصاله بما قبله هو أنه لما أمر العباد بالتكبير الذي هو الذكر وبالشكر نبههم على أنه مطلع على ذكرهم وشكرهم فيسمع نداءهم ويجيب دعاءهم ولا يخيب رجاءهم، أو أنه أمرهم بالثناء ثم رغبهم في الدعاء تعليما للمسألة وتنبيها على حسن الطلب، وسبب نزوله ما روي أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ وقيل: كان في غزاة وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتهليل والدعاء فقال صلى الله عليه وسلم: إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا. وعن قتادة أن الصحابة قالوا: يا نبي الله كيف ندعو ربنا فنزلت. وعن عطاء أنهم سألوا في أي ساعة ندعو فنزلت. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهود أهل المدينة قالوا: يا محمد كيف يسمع ربك دعاءنا؟ فنزلت. وعن الحسن: سألت الصحابة فقالوا أين ربنا فنزلت. وقيل: فرض عليهم الصيام كما كتب على الذين من قبلهم أي إذا ناموا حرم عليهم ما يحرم على الصائم فشق ذلك على بعضهم حتى عصوا ربهم في ذلك التكليف، ثم ندموا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن توبتهم فنزلت مبشرة بقبول توبتهم. ونسخ ذلك التشديد بسبب دعائهم وتضرعهم، وبهذا الوجه تصير الآية مناسبة لما قبلها ولما بعدها. ثم إن سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الله إما أن يكون عن ذاته بأن يكون السائل ممن يجوّز التشبيه فيسأل عن القرب والبعد بحسب الذات، وإما أن يكون عن صفاته بأنه هل يسمع دعاءنا، أو عن أفعاله بأنه إذا سمع دعاءنا فهل يجيبنا إلى مطلوبنا، أو كيف أذن في الدعاء وهل أذن في أن ندعوه بجميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 الأسماء، أو ما أذن إلا بأن ندعوه بأسماء معينة، وهل أذن أن ندعوه كيف شئنا، أو ما أذن إلا بأن ندعوه على وجه معين كما قال تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها [الإسراء: 110] وكل هذه الوجوه محتملة لأن قوله فَإِنِّي قَرِيبٌ يدل على أن السؤال كان عن الذات وقوله أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ دليل على أن السؤال عن الصفة لأن الإجابة بعد السماع وإطلاق قوله إِذا دَعانِ يرشد إلى الإذن في الدعاء على أي نحو أراد ما لم يتجاوز قانون الأدب عرفا كقوله تعالى وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف: 180] قال العلماء: ليس القرب هاهنا بالمكان، لأنه لو كان في المكان كان مشارا إليه بالحس ومنقسما إذ يمتنع أن يكون في الصغر والحقارة كالجوهر الفرد. وكل منقسم مفتقر في تحققه إلى أجزائه. وكل مفتقر ممكن. وأيضا لو كان في المكان، فإما أن يكون غير متناه من جميع الجوانب وهو محال فإن كل بعد متناه ببرهان تناهي الأبعاد أو من جانب واحد فكذلك مع أن كونه بحيث يقتضي جانب منه عدم التناهي، وجانب منه التناهي يوجب كونه مركبا من أجزاء مختلفة الطبائع، أو يكون متناهيا من جميع الجوانب وهو باطل بالاتفاق. وأيضا هذه الآية من أقوى الدلائل على أن القرب ليس بالجهة لأنه لو كان في المكان لما كان قريبا من الكل بل لو كان قريبا من حملة العرش يكون بعيدا عن غيرهم، ولو كان قريبا من المشرقي كان بعيدا عن المغربي. قالوا: فثبت أن المراد بالقرب قربه بالتدبير والحفظ والكلاءة. قال في الكشاف: هو تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بحال من قرب مكانه. فإذا دعى أسرعت تلبيته ونحوه وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] وقوله صلى الله عليه وسلم «هو بينكم وبين أعناق رواحلكم» «1» وقد أشار بعض المحققين إلى أن اتصاف ماهيات الممكنات بوجودها لما كان بإيجاد الصانع فهو كالمتوسط بين ماهياتها ووجوداتها، فيكون أقرب إلى ماهية كل ممكن من وجود تلك الماهية إليها بل ماهية كل شيء إنما صارت هي هي بجعل الصانع حتى ماهية الوجود فبه صار الجوهر جوهرا والسواد سوادا والعقل عقلا والنفس نفسا. فالصانع أقرب إلى كل ماهية من تلك الماهيات إلى نفسها (قلت) استصحاب المكان لا يوجب الافتقار إلى المكان. ولئن سلم أن كل مفتقر إلى المكان ينقسم، فانقسام كل مستصحب للمكان ممنوع، وبراهين تناهي الأبعاد مختلة زيفناها في مواضعها. فلا ذرة من ذرات العالم إلا ونور الأنوار محيط بها قاهر عليها قريب منها، أقرب من وجودها إليها،   (1) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 57 بلفظ «رؤوس» بدل «أعناق» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 لا بمجرد العلم فقط ولا بمعنى الصنع والإيجاد فقط بل بضرب آخر لا يكشف المقال عنه غير الخيال، مع أن التعبير عن بعض ذلك يوجب شنعة الجهال. شعر: رمزت إليه حذار الرقيب ... وكتمان سر الحبيب حبيب إذا ما تلاشيت في نوره ... يقول لي ادع فإني قريب فإن سألوه عليه السلام: أين ربنا؟ صح الجواب بأني قريب، وإن سألوه: هل يسمع ربنا دعاءنا؟ صح الجواب بأني قريب، وإن سألوه كيف ندعوه أبرفع الصوت أم بإخفائه؟ صح أن يجاب إني قريب، وإن سألوه: هل يعطينا ربنا مطلوبنا بالدعاء صحّ في الجواب فإني قريب، وإن سألوه إذا أذنبنا ثم تبنا فهل يقبل الله توبتنا؟ صحّ أن يجاب إني قريب أي بالنظر إليهم والتجاوز عنهم. واعلم أن الدعاء مصدر دعوت أدعو وقد يكون اسما. تقول: سمعت دعاء كما تقول سمعت صوتا. وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية والاستمداد والمعونة. قال بعض الظاهريين: لا فائدة في الدعاء لأن المطلوب به إن كان معلوم الوقوع عند الله كان واجب الوقوع وإلا فلا. ولأن الأقدار سابقة والأقضية جارية وقد جف القلم بما هو كائن، فالدعاء لا يزيد فيها شيئا ولا ينقص، ولأن المقصود إن كان من صالح العبد فالجواد لطق لا يبخل به، وإن لم يكن من مصالحه لم يجز طلبه، ولأن أجل مقامات الصدّيقين الرضا بالقضاء وإهمال حظوظ النفس. والاشتغال بالدعاء ينافي ذلك، ولأن الدعاء شبيه بالأمر أو النهي وذلك خارج عن الأدب، ولهذا ورد في الكلام القدسي «من شغله قراءة القرآن عن مسألتي أعطيه أفضل ما أعطي السائلين» «1» وقال جمهور العقلاء: إن الدعاء من أعظم مقامات العبودية وإنه من شعار الصالحين ودأب الأنبياء والمرسلين. والقرآن ناطق بصحته عن الصديقين، والأحاديث مشحونة بالأدعية المأثورة بحيث لا مساغ للإنكار ولا مجال للعناد. والسبب العقلي فيه أن كيفية علم الله وقضائه وقدره غائبة عن العقول، والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد معلقا بين الرجاء والخوف اللذين بهما تتم العبودية. وبهذا الطريق صححنا القول بالتكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله وجريان قضائه وقدره في الكل. وما روي عن جابر أنه جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن ففيم العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل؟ قال: بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له. وكل عامل بعمله   (1) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 25. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 منبه على ما قلنا، فإنه صلى الله عليه وسلم علقهم بين الأمرين، رهبهم بسابق القدر ثم رغبهم في العمل ولم يترك أحد الأمرين للآخر فقال: كل ميسر لما خلق له. يريد أنه ميسر في أيام حياته للعمل الذي سبق به القدر قبل وجوده إلا أنك تحب أن تعرف الفرق بين الميسر والمسخر كيلا تغرق في لجة القضاء والقدر، وكذا القول في باب الرزق والكسب. والحاصل أن الأسباب والوسائط والروابط معتبرة في جميع أمور هذا العالم. ومن جملة الوسائل في قضاء الأوطار الدعاء والالتماس كما في الشاهد. فلعل الله تعالى قد جعل دعاء العبد سببا لبعض مناجحه. فإذا كان كذلك فلابد أن يدعو حتى يصل إلى مطلوبه، ولم يكن شيء من ذلك خارجا عن قانون القضاء السابق وناسخا للكتاب المسطور. ومن فوائد الدعاء إظهار شعار الذل والانكسار، والإقرار بسمة العجز والافتقار، وتصحيح نسبة العبودية، والانغماس في غمرات النقصان الإمكاني، والإفلاس عن ذروة الترفع، والاستغناء إلى حضيض الاستكانة، والحاجة والفاقة، ولهذا ورد «من لم يسأل الله يغضب عليه» «1» فإذا كان الداعي عارفا بالله تعالى وعالما بأنه لا يفعل إلا ما وافق مشيئته وسبق به قضاؤه وقدره، ودعا على النمط المذكور من غير أن يكون في دعائه حظ من حظوظ النفس الأمارة، راجيا فيما عند الله من الخير، خائفا من الإقدام على موقف المسألة والمناجاة، وأن تكون استجابته صورة الاستدراج، كان دعاؤه خليقا بالإجابة وجديرا بالقبول وأن تعود بركته عليه قال صلى الله عليه وسلم «ما من رجل يدعو الله بدعاء إلا استجيب له. فإذا أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل» قالوا يا رسول الله وكيف يستعجل؟ قال: «يقول دعوت ربي فما استجاب لي» «2» وأما هيئة الداعي فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» «3» وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم» «4» وأما شرائط الدعاء فمنها بعد ما مر من الإخلاص وغيره   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 443، 477) . ابن ماجه في كتاب الدعاء باب 1. بلفظ «من لم يدع ..... » . (2) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 114. الموطأ في كتاب القرآن حديث 36. أحمد في مسنده (2/ 448) . (3) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 65. أحمد في مسنده (2/ 17) . (4) رواه أبو داود في كتاب الوتر باب 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 تزكية البدن وإصلاحه بلقمة الحلال. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر يمد يده إلى السماء أشعث أغبر يقول: يا رب يا رب. ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟ وذكر المحققون أن الدعاء مفتاح باب السماء، وأسنانه لقمة الحلال. وأما وقت الدعاء ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» «1» وعن أبي أمامة قال: يا رسول الله أيّ الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات. وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الدعاء بين الآذان والإقامة لا يرد» «2» وزاد في رواية قال: فماذا نقول يا رسول الله؟ قال: سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد فأكثروا الدعاء» «3» وعنه أنه قال «من سره أن يستجيب الله له دعاءه عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء» وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين» «4» وأما كيفية الدعاء فعن فضالة بن عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو في صلاته فلم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره «إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بعد ما شاء» . وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد حتى يصلى عليّ فلا تجعلوني كغمر الراكب صلوا عليّ أول الدعاء وأوسطه وآخره» . ومن لطائف الآية أنه تعالى قال فَإِنِّي قَرِيبٌ دون أن يقول «فقل إني قريب» كما قال في سائر الأسئلة والأجوبة. وذلك في مواضع من كتابه وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85]   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 521) (4/ 16) . (2) رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 35. الترمذي في كتاب الصلاة باب 44. أحمد في مسنده (3/ 119، 155) . (3) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 215. النسائي في كتاب المواقيت باب 35. الترمذي في كتاب الدعوات باب 118. أحمد في مسنده 2/ 421. (4) رواه الترمذي في كتاب الجنة باب 2، كتاب الدعوات باب 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه: 105] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي [الأعراف: 187] وهذه الأسئلة أصولية. يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: 215] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة: 220] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً [البقرة: 222] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء: 127] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء: 176] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال: 1] وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي [يونس: 53] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً [الكهف: 83] فكأنه سبحانه يقول: عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء، أما في الدعاء فلا واسطة بيني وبينك. وأيضا في مقام السؤال قال: عِبادِي وهذا يدل على أن العبد له، وفي مقام الإجابة قال فَإِنِّي قَرِيبٌ وهذا يدل على أنه للعبد. وأيضا لم يقل «العبد مني قريب» بل قال فَإِنِّي قَرِيبٌ منه إشارة إلى أنه ما للتراب ورب الأرباب وإنما يصل من حضيض الإمكان الذاتي إلى ذروة الوجود والبقاء بفضل الواجب وفيضه فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أجاب واستجاب بمعنى يقال: أجاب واستجاب له أي فليمتثلوا أمري إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة وَلْيُؤْمِنُوا بِي وليستقيموا وليعزموا على الاستجابة، وليؤمنوا كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم إرادة أن يكونوا من الراشدين المهتدين إلى مصالح دينهم ودنياهم، فإن طاعة الله تعالى هي المستتبعة للخيرات عاجلا وآجلا مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] وفي ضده وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه: 124] وحاصل الكلام: أنا أجيب دعاءكم مع أني غني عنكم على الإطلاق فكونوا أنتم مجيبين دعوتي مع افتقاركم إليّ من جميع الوجوه. وفيه نكتة وهي أنه تعالى لم يقل أجب دعائي حتى أجيب دعاءك لئلا يصير المذنب محروما عن هذا الإكرام بل قال: أنا أجيب دعاءك على جميع أحوالك فكن أنت مجيبا لدعائي وهذا يدل على أن نعمه تعالى شاملة ورحمته كاملة تعم المطيعين والمذنبين والكاملين والناقصين. وقيل: الدعاء في الآية هو العبادة لما روي عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الدعاء هو العبادة» «1» وقرأ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: 60]   (1) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة البقرة باب 16. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب 1. أحمد في مسنده (4/ 267، 271) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 وعلى هذا فالإجابة عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب كقوله تعالى وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الشورى: 26] وقيل: المراد من الدعاء التوبة. وذلك أن التائب يدعو الله عند التوبة، فإجابة الدعوة على هذا التفسير عبارة عن قبول التوبة. قوله عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ الآية جمهور المفسرين على أنها ناسخة لما عليه الناس في أول الإسلام. روي عن ابن عباس أنه لما نزلت كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانوا إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب وصاموا إلى القابلة، فاختان رجل فجامع امرأته وقد صلى العشاء ولم يفطر، فأراد الله أن يجعل ذلك تيسيرا لمن بقي ورخصة ومنفعة. وعن البراء قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ويومه حتى يمسي. وقال: إن قيس بن صرمة الأنصاري، أو صرمة بن قيس، أو قيس بن عمرو- على اختلاف الروايات- كان صائما. فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: أعندك طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عينه فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت أُحِلَّ لَكُمْ ففرحوا بها فرحا شديدا، وأبو مسلم خالف الجمهور بناء على مذهبه من أنه لم يقع في القرآن نسخ البتة. احتج الجمهور بوجوه منها. أنه تعالى شبه إيجاب الصوم على هذه الأمة بإيجابه على من قبلهم، فيلزم منه حرمة الأكل والشرب والوقاع بعد النوم في شرعنا كما كانت في شرعهم. وإذا كانت الحرمة ثابتة فهذه الآية رافعة لها ناسخة لحكمها. ومنع أبو مسلم من أن مقتضى التشبيه حصول المشابهة في كل الأمور، فلعلهم إنما كانوا يمتنعون من الأكل والشرب والوقاع اعتقادا منهم ببقاء تلك الحرمة في شرعنا كما هي في شرع من قبلنا مع جواز كونها مباحة في نفس الأمر. ومع قيام هذا الاحتمال فلا جزم بالنسخ ومنها قوله تعالى عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ولو كان ذلك حلالا لم ينسبوا إلى الخيانة، قيل: إن عمر رضي الله عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة وأخبره بما فعل. فقال صلى الله عليه وسلم: ما كنت جديرا بذلك يا عمر. فقام رجال فاعترفوا بما كانوا صنعوا بعد العشاء فنزلت. قال أبو مسلم: أصل الخيانة النقص. وخان واختان وتخوّن بمعنى واحد مثل كسب واكتسب وتكسب. والمعنى علم الله أنكم كنتم تنقصون أنفسكم حظها من اللذات لا من الثواب والخير. ومنها قوله فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 والتوبة والعفو يكونان بعد المعصية وارتكاب ما هو محرم. قال أبو مسلم: التوبة من العباد الرجوع إلى الله بالعبادة، ومن الله الرجوع إلى العبد بالرحمة والإحسان. والعفو التسهيل والتوسعة والتخفيف. قال صلى الله عليه وسلم «عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهم» وقال «أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله» والمراد التخفيف بتأخير الصلاة إلى آخر الوقت. ويقال: أتاني هذا المال عفوا أي سهلا. فالمعنى عاد عليكم بالرحمة وسع عليكم بإباحة هذه الأشياء المحرمة على الذين من قبلكم. وأما الروايات فأخبار آحاد لا يوجب شيء منها حمل القرآن عل النسخ. ولنشتغل بتفسير الألفاظ فنقول: ليلة الصيام قال الواحدي: أراد ليالي الصوم، فوضع الواحد موضع الجمع. ويمكن أن يقال: أضاف الليلة إلى هذه الحقيقة فتتناول الكل من غير تكلف. والرفث الجماع. والرفث أيضا الفحش من القول وكلام النساء في الجماع. وقيل لابن عباس. حين أنشد: وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا أترفث وأنت محرم؟ فقال: إنما الرفث ما واجه به النساء. هميسا أي مشيا لينا، ولميس اسم امرأة أي أن يصدق الفأل ننكها. وقال أبو علي: معناه الفرج. ويقال: جامع الرجل أو ناك. فإذا أردت الكناية عن هذه العبارة قلت: رفث الرجل. وإنما كني عنه هاهنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح ولم يعبر عنه بالإفضاء أو الغشيان أو المس ونحوها كما في مواضع آخر وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ [النساء: 21] فَلَمَّا تَغَشَّاها [الأعراف: 189] بَاشِرُوهُنَّ [البقرة: 187] مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 237] أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء: 43] وفي قوله: دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء: 23] فَأْتُوا حَرْثَكُمْ [البقرة: 223] فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ [النساء: 24] وَلا تَقْرَبُوهُنَّ [البقرة: 222] حتى استهجان لما وجد منهم قبل الإباحة، أو البيان كما سماه اختيانا لأنفسهم. قال الأخفش إنما عدي الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء في قوله وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ [النساء: 21] هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وجه التشبيه أنهما يعتنقان فينضم جسد أحدهما إلى جسد صاحبه ويشتمل عليه كالثوب. قال الربيع: هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن. وقال ابن زيد: كل منهما يستر صاحبه عن الأبصار عند الجماع. قال الجعدي: إذا ما الضجيع ثنى عطفها ... تثنت فكانت عليه لباسا أو سميا لباسا لستر كل منهما صاحبه عما لا يحل كما في الخبر «من تزوّج فقد أحرز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 ثلثي دينه» أو المراد تستره بها عن جميع المفاسد التي تقع في البيت لو لم تكن المرأة حاضرة كما يتستر الإنسان بلباسه عن الحر والبرد وكثير من المضار. وعن الأصم: أن كل واحد منهما كاللباس الساتر للآخر في ذلك المحظور الذي كانوا يفعلونه، وزيف بأن هذه القرينة واردة في معرض الإنعام لا في مقام الذم. ووحد اللباس إما لأنه جنس وإما لأنه مصدر «لابس» وضع موضع الصفة. وموقع قوله هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ استئناف لأنه كالبيان لسبب الإحلال، فإن مثل هذه المخالطة والملابسة توجب قلة الصبر عنهن. ومعنى عَلِمَ اللَّهُ ظهر معلومه أو هو عالم، ولم يذكر في الآية أن الخيانة فيما ذا إلا أن الذي تقدم هو ذكر الجماع والذي تأخر هو مثله بدليل فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ فتعين أن يكون المراد به الخيانة في الجماع. ومن المعلوم أن كل واحد منهم لم يختن فالخطاب لبعضهم، وكل من عصى الله ورسوله فقد خان نفسه لأنه جلب إليها العقاب ونقص حظها من الثواب. وقيل: إن الآية لا تدل على وقوع الخيانة منهم، وإنما المراد علم الله أنكم بحيث لو دام هذا التكليف تختانون أنفسكم لضعفكم وقلة صبركم، فوسع الأمر عليكم حتى لا تقعوا في الخيانة. فَتابَ عَلَيْكُمْ من الفاء الفصيحة أي فتبتم فقبل توبتكم. وعلى قول أبي مسلم لا إضمار. فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ تأكيد لقوله أُحِلَّ لَكُمْ وفيه ضرب من البيان لأن حل الرفث في ليلة الصيام لا يوجب حله في جميع أجزائها حتى الصباح. والجمهور على أن المراد بالمباشرة هاهنا الجماع، سمي بهذا الاسم لتلاصق البشرتين فيه. ومنه ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال «لا يباشر الرجل الرجل والمرأة المرأة» «1» وإنما قلنا إن المراد بها الجماع لأن السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم، ولأن الرفث أريد به ذلك إلا أن إباحة الجماع تتضمن إباحة ما دونه فصح ما نقل عن الأصم أن المراد بها الجماع وغيره ورجع النزاع لفظيا. وأما المباشرة في قوله وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ فلا يعود النزاع فيها إلى اللفظ، لأن المنع من الجماع لا يدل على المنع مما دونه من الاستمتاعات. وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ جعل أو قضى أو كتب في اللوح من الولد أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن للغرض الأصلي من النكاح وهو التناسل. قال صلى الله عليه وسلم «تناكحوا تكثروا» «2» وقيل: هو نهي عن العزل فقد وردت الأخبار في كراهية ذلك. وعن الشافعي: لا يعزل الرجل عن الحرة إلا بإذنها، ولا بأس أن يعزل عن الأمة. وعن علي كرم الله وجهه: أنه كان يكره العزل. وقيل: اطلبوا المحل الذي حلله الله لكم كقوله تعالى   (1) رواه أحمد في مسنده (1/ 304، 380) (2/ 326) . [ ..... ] (2) رواه ابن ماجه في كتاب النكاح باب 8. بلفظ «انكحوا فإني مكاثر بكم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة: 222] وقيل: وابتغوا هذه المباشرة التي كتب الله لكم بعد أن كانت محرمة عليكم، وعن أبي مسلم: وابتغوا المباشرة التي كان الله كتبها لكم، وإن كنتم تظنون أنها محرّمة عليكم. وقيل: يعني لا تباشروهن إلا في الأوقات والأحوال التي أذن الله لكم في مباشرتهن دون أوقات الحيض والنفاس والعدّة والردة. وقيل: أي لا تبتغوا المباشرة إلا من الزوجة والمملوكة وهو الذي كتب في القرآن من قوله إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: 6] وعن معاذ بن جبل وابن عباس في رواية أبي الجوزاء: اطلبوا ليلة القدر وما كتب الله لكم من الثواب إن أصبتموها. واستبعده بعضهم وليس ببعيد، فإن توزع الفكر بسبب الشهوة المشوّشة قد يمنع عن الإخلاص في العبودية ولا يتفرغ المكلف حينئذ لطلب ليلة القدر التي هي حاصل صوم رمضان فقال سبحانه فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ لتفرغوا لطلب الغاية من صيامكم والله أعلم بمراده، عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي، وجعلت أنظر إليهما من الليل ولا يستبين لي، فإذا تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت. فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك وقال: إنك لعريض القفا إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل. وكنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك عن بلاهة عديّ وقلة فطنته، وفي الصحيحين أيضا عن سهل بن سعد: نزلت ولم ينزل مِنَ الْفَجْرِ فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله عز وجل بعد مِنَ الْفَجْرِ فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار. واعلم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع بالاتفاق إلا عند من يجوّز تكليف ما لا يطاق، وأما تأخيره عن وقت الخطاب فجائز عند الأكثرين. ولما كان من مستعملات العرب إطلاق الخيط الأبيض على أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود، والخيط الأسود على ما يمتد معه من غبس الليل قال أبو داود: فلما أضاءت لنا سدفة ... ولاح من الصبح خيط أنارا والسدفة الضياء المخلوط بالظلام، اقتصر على الاستعارة أوّلا، ثم لما اشتبه الأمر على بعض من لا دراية له باللغة العربية نزل من الفجر بيانا للخيط الأبيض واستغنى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما يستتبع بيان الآخر. وخرج الكلام من الاستعارة إلى التشبيه البليغ كما أن قولك «رأيت أسدا» مجاز، فإذا زدت «من فلان» رجع تشبها. فالاستعارة وإن كانت أبلغ من التشبيه وأدخل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 الفصاحة من حيث إنها استعارة كما بين في موضعه إلا أن رفع الاشتباه عن المكلفين أهم وأولى. فالفصاحة في هذا المقام ترك الاستعارة، وليس هذا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة على الإطلاق، لأن المحتاجين هاهنا إلى البيان ساقطون عن درجة الاعتبار لأن فهم المعنى من اللفظ إنما يعتبر بالنسبة إلى العارف بقوانين العرب واستعمالاتهم لا بالإضافة إلى الأغبياء منهم. نعم التفهيم يعم البليد والذكي والله المستعان. ولا يسبقنّ إلى الوهم أن المشبه بالخيط الأبيض هو الصبح الكاذب المستطيل لأنه يناقض ما ورد في الخبر «لا يغرنكم الفجر المستطيل فكلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير» «1» وإنما المشبه هو الفجر الصادق، وهو أيضا يبدو دقيقا ولكن يرتفع مستطيرا أي منتشرا في الأفق لا مستطيلا. ويمكن أن يقال: الفصل المشترك بين ما انفجر من الضياء. أي انشق وبين ما هو مظلم بعد يشبه خيطين اتصلا عرضا. فالذي انتهى إليه الضياء خيط أبيض، والذي ابتدأ منه الظلام خيط أسود. وقد سبق تقرير الصبح في تفسير قوله تعالى وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [البقرة: 164] فليتذكر. قيل: ويجوز أن تكون «من» في قوله تعالى مِنَ الْفَجْرِ للتبعيض لأنه بعض الفجر وأوّله: ولا شك أن «حتى» لانتهاء الغاية فدلت الآية على أن حل المباشرة والأكل والشرب ينتهي عند طلوع الصبح. فاستدل بهذا على جواز صوم من يصبح جنبا. وبقوله ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ على أن الصوم ينتهي عند غروب الشمس، لأن ما بعد «إلى» لا يدخل فيما قبلها وخاصة إذا لم يكن من جنسه، بل على حرمة الوصال. ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد غربت الشمس وأفطر الصائم «2» فيجب على المكلف أن يتناول في هذا الوقت شيئا. وكيف لا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الوصال فقيل: يا رسول الله إنك تواصل. فقال: إني لست مثلكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني. أي من طعام الجنة، أو إني على ثقة بأني لو احتجت أطعمني من الجنة، أو إني أعطيت قوة من طعم وشرب. والتحقيق أن استغراقه في مطالعة جلال الله يشغله عن الالتفات إلى ما سواه، فإذا تناول شيئا قليلا ولو قطرة من الماء فبعد ذلك كان بالخيار في الاستيفاء إلا أن يخاف التقصير في الصوم المستأنف أو في سائر العبادات فيلزم حينئذ أن يتناول بمقدار الحاجة، وقد يتشبث الحنفي بالآية على جواز النية في نهار صوم رمضان لأن مدة الإمساك هو   (1) رواه مسلم في كتاب الصيام حديث 51. الترمذي في كتاب الصوم باب 12 أحمد في مسنده (1/ 25، 48) . (2) رواه مسلم في كتاب الصيام حديث 40 بلفظ «الفجر هو المعترض وليس بالمستطيل» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 النهار فقط فيجب قصد الإمساك فيه فقط، ومقتضى هذا الدليل صحة الفرض بنيته بعد الزوال إلا أنا نقول: الأقل ملحق بالأغلب، فأبطلنا الصوم بنيته بعد الزوال وصححناه بنيته قبله. حجة الشافعي قوله صلى الله عليه وسلم «من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له» ويروى «من لم ينو» وإنما جوز في النفل أن ينوي قبل الزوال لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل على بعض أزواجه فيقول: هل من غداء؟ فإن قالوا لا قال: إني صائم، وأيضا الحنفي: يجب إتمام الصوم النفل لقوله ثُمَّ أَتِمُّوا والأمر للوجوب. وقال الشافعي: قد ورد هذا عقيب الفرض فيتخصص به وأعلم أنه سبحانه خصص بالذكر من المفطرات الرفث والأكل والشرب لأن النفس تميل إليها. وهاهنا مفطرات أخر استنبطت من الآية أو استفيدت من السنة فمنها الاستمناء لأن الإيلاج من غير إنزال مبطل. فالإنزال بنوع شهوة أولى، وكذا الإنزال باللمس أو القبلة دون الفكر أو النظر بشهوة لأن هذا يشبه الاحتلام، وعند مالك الإنزال بالنظر مفطر، وعند أحمد إن كرر النظر حتى أنزل أفطر. ومنها الاستقاء لقوله صلى الله عليه وسلم «من ذرعه القيء وهو صائم فلا قضاء عليه ومن استقاء فليقض» «1» ومنها دخول الشيء جوفه من منفذ مفتوح سواء كان فيه قوة محيلة تحيل الواصل إليه من غذاء أو دواء أولا، فالحلق جوف وكذا باطن الدماغ والبطن والأمعاء والمثانة لما روي عن ابن عباس أن الفطر مما دخل والوضوء مما خرج، فالحقنة مبطلة للصوم وكذا السعوط إذا وصل إلى الدماغ. ولا بأس بالاكتحال، وليست العين من الأجواف فإنه صلى الله عليه وسلم اكتحل في رمضان وهو صائم. وعن مالك وأحمد إنه إذا وجد في الحلق طعما أفطر. والتقطير في الأذن إذا وصل إلى الباطن كالسعوط وكذا في الإحليل وإن لم يصل عليه إلى المثانة. ولا بأس بالفصد والحجامة لكن يكره خيفة الضعف. احتجم صلى الله عليه وسلم وهو صائم محرم في حجة الوداع. وقال أحمد: يفسد الصوم بالحجامة. ولو دهن رأسه أو بطنه فوصل إلى جوفه بتشرب المسام لم يضر كالاغتسال والانغماس عند الشافعي، ولا بد أن يكون الواصل عن قصد منه فلو طارت ذبابة إلى حلقه أو وصل غبار الطريق أو غربلة الدقيق إلى جوفه لم يفطر. ولو فتح فاه عمدا لما في الحفظ من العسر. ولو ضبطت المرأة ووطئت أو وجيء بالسكين أو أوجر بغير اختياره فلا إفطار. وكذا لو كان مغمى عليه فأوجر معالجة ولو أكره حتى أكل بنفسه أفطر لأنه أتى بضد الصوم، ولا أثر لدفع الضرر كما لو أكل أو شرب لدفع   (1) رواه أبو داود في كتاب الصوم باب 33. الترمذي في كتاب الصوم باب 24. ابن ماجه في كتاب الصيام في باب 16. الدارمي في كتاب الصوم باب 25. الموطأ في كتاب الصيام حديث 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 الجوع أو العطش. وعند أحمد لا يفطر. وابتلاع الريق الصرف الطاهر من الفم لا يفطر، والنخامة إن لم تحصل في حد الظاهر من الفم لم تضر وإن حصلت فيه بانصبابها من الدماغ إلى الثقبة النافذة منه إلى أقصى الفم فوق الحلقوم، فإن قدر على مجه ولم يمج حتى جرى بنفسه بطل صومه لتقصيره وإلا فلا، وإذا تمضمض فسبق الماء إلى جوفه أو استنشق فوصل الماء إلى دماغه لم يفطر على الأصح إن لم يبالغ وبه قال أحمد. وعند أبي حنيفة ومالك يفطر وإن بالغ أفطر وفاقا. قال صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة: «بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما» «1» ولو بقي طعام في خلل أسنانه فابتلعه عمدا أفطر خلافا لأبي حنيفة فيما إذا كان يسيرا، وربما قدره بالحمصة. وإن جرى به الريق من غير قصد منه لم يفطر على الأصح. ولا بد أيضا في وصول العين من ذكر الصوم، فإذا أكل ناسيا، فإن قل لم يفطر لقوله صلى الله عليه وسلم «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» «2» وخالف مالك. وإن كثر أفطر. ولو جامع ناسيا للصوم فالأصح أنه لا يبطل كما في الأكل. ولو أكل على ظن أن الصبح لم يطلع بعد، أو أن الشمس قد غربت وكان غالطا لم يجزئه صومه على الأشهر لأنه تحقق خلاف ما ظنه واليقين مقدم على الظن. ثم إن كان الصوم واجبا قضى، وإن كان تطوعا فلا قضاء. والأحوط في آخر النهار أن لا يأكل إلا بعد تيقن غروب الشمس لأن الأصل بقاء النهار ولو اجتهد وغلب على ظنه دخول الليل بورد أو غيره، فالأصح جواز الأكل، وقد أفطر الناس في زمان عمر ثم انكشف السحاب وظهرت الشمس. وأما في أول النهار فيجوز الأكل بالظن والاجتهاد إلى طلوع الفجر لأن الأصل بقاء الليل، فإن قيل: إن أول الفجر كيف يدرك ويحس ومتى عرف المترصد الطلوع كان الطلوع الحقيقي مقدما عليه؟ فيجاب إما بأن المسألة موضوعة على التقدير كدأب الفقهاء في أمثالها وإما بأنا نتعبد بما يطلع عليه. ولا معنى للصبح إلا بظهور الضوء للناظر وما قبله لا حكم له كالزوال عند زيادة الظل، وإذا كان الشخص عارفا بالأوقات ومنازل القمر، وكان بحيث لا حائل بينه وبين مطلع الفجر وترصد فمتى أدرك فهو أول الصبح المعتبر، وحينئذ يحرم المفطرات وعن الأعمش أنه يحل الأكل والشرب والوقاع إلى طلوع الشمس قياسا لأول النهار على آخره. وجعل الخيط الأبيض وقت الطلوع   (1) رواه الترمذي في كتاب الصوم باب 68. أبو داود في كتاب الطهارة باب 56. النسائي في كتاب الطهارة باب 70. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 44. أحمد في مسنده (4/ 33) . (2) رواه البخاري في كتاب الصوم باب 26. مسلم في كتاب الصيام حديث 17. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 15. الدارمي في كتاب الصوم باب 23. أحمد في مسنده (2/ 395، 425) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 والخيط الأسود ما اتصل به من آخر الليل. ومن الناس من قال: لا يجوز الإفطار إلا عند غروب الحمرة، كما أنه لا يجوز الأكل إلا إلى طلوع الفجر. وهذه المذاهب قد انقرضت، والفقهاء أجمعوا على بطلانها. يحكى عن الأعمش أنه دخل عليه أبو حنيفة يعوده فقال له الأعمش: إنك لثقيل على قلبي وأنت في بيتك فكيف إذا زرتني؟ فسكت عنه أبو حنيفة، فلما خرج قيل له: لم سكت عنه؟ قال: ماذا أقول في رجل ما صام ولا صلى في دهره عنى أنه كان يأكل بعد الفجر الثاني قبل طلوع الشمس فلا صوم له، وكان لا يغتسل من الإكسال فلا صلاة له. واعلم أن في الآية ترتيبا عجيبا ونسقا أنيقا وذلك أن الرفث لما كان من أشنع الأمور التي يجب الإمساك عنها في رمضان حتى قال بعض الناس إنه كان حراما في رمضان ليلا ونهارا وفيه قد وقعت الخيانة كما مر في الإخبار. قدم إباحته أولا ثم بين السبب في إباحته، ثم وبخ المختانون في شأنه وعقب التوبيخ بالعفو وقبول التوبة، ثم أعيد ذكر إباحته ليترتب عليه الغرض الأصلي من الرفث وهو طلب النسل، وليعطف عليه إباحة الأكل والشرب جميع ذلك إلى آخر جزء من أجزاء الليل، ثم لما بين مدة الإفطار وما أبيح فيها بين مدة الصوم الذي هو المقصود الأصلي تلك المدة هي ما بقي من مدة الإفطار إلى تمام أربع وعشرين ساعة هي مجموع اليوم بليلته، أعني من أول الفجر الصادق إلى غروب الشمس، ثم لما كان زمان الاعتكاف مستثنى من ذلك لأنه فهم من الآية أن الإمساك عن الرفث كان مختصا بنهار رمضان لا بليلته ولا بسائر أيام السنة ولياليها عقب إباحة الرفث فيما سوى نهار رمضان بخطره في حال الاعتكاف فقيل وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ قال الشافعي: الاعتكاف حبس المرء نفسه على شيء برا كان أو إثما. قال تعالى يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ [الأعراف: 138] والاعتكاف الشرعي: المكث في بيت الله تعالى تقربا إليه. وهو من الشرائع القديمة. قال تعالى أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ [البقرة: 125] وللأئمة خلاف في المراد من المباشرة هاهنا. فعن الشافعي: في أصح قوليه ووافقه أبو حنيفة وأحمد: إنها الجماع والمقدمات المفضية إلى الإنزال. لأن الأصل في لفظ المباشرة ملاقاة البشرتين. فالمنع من هذه الحقيقة ما دام في المعتكف وحين يخرج لحاجة ولم تتم مدة الاعتكاف منع عن القبلة والعناق وكل ما فيه تلاصق البشرتين. خالفنا الدليل فيما إذا لم ينزل من هذه الأمور لتبين عدم الشهوة فيها، وقد علم أن اللمس بغير شهوة جائزة لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدني رأسه من عائشة لترجل رأسه وهو صلى الله عليه وسلم معتكف، فيبقى ما فيه الشهوة على أصل المنع. احتج من قال إنها لا تبطل الاعتكاف بأن هذه الأمور لا تبطل الصوم والحج فلا تفسد الاعتكاف، لأنه ليس أعلى درجة منهما. وأجيب بأن النص مقدم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 القياس. واتفقوا على أن شرط الاعتكاف الجلوس في المسجد لأنه مميز عن سائر البقاع من حيث إنه بنى لإقامة الطاعات. ثم اختلفوا فعن علي رضي الله عنه أنه لا يجوز إلا في المسجد الحرام لقوله تعالى طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ [البقرة: 125] أي لجميع العاكفين. وعن عطاء فيه وفي مسجد المدينة لقوله صلى الله عليه وسلم «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» «1» وعن حذيفة فيهما وفي مسجد بيت المقدس لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا» «2» الزهري: لا يصح إلا في الجامع. أبو حنيفة: لا يصح إلا في مسجد له إمام راتب ومؤذن راتب. الشافعي: يجوز في جميع المساجد لإطلاق قوله فِي الْمَساجِدِ إلا أن الجامع أولى حتى لا يحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة. ولا خلاف أن الاعتكاف مع الصوم أفضل وهل يجوز بغير صوم؟ الشافعي: نعم لأنه بغير الصوم عاكف وأنه تعالى منع العاكف من المباشرة ولو كان اعتكافه باطلا لما كان ممنوعا. وأيضا لو كان الاعتكاف موجبا للصوم لم يصح الاعتكاف في رمضان لأن ذمته مشغولة بالصوم الواجب لشهود الشهر فلا يمكنه الاشتغال بالصوم الذي يوجبه الاعتكاف، لكنهم أجمعوا على صحة الاعتكاف في رمضان. وأيضا لو تلازما لخرج المعتكف عن اعتكافه بالليل كما يخرج عن الصوم لكنه لا يخرج. وأيضا روي أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة، فقال صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك. ومعلوم أنه لا يجوز الصوم في الليلة. أبو حنيفة: لا يجوز لأنه يجب الصيام في الاعتكاف بالنذر فيجب بغير نذر أيضا كعكسه في الصلاة حال الاعتكاف، وهو أن الصلاة لما لم تجب في النذر بالإجماع لم تجب في غير النذر، أيضا وفرق بأن الصوم والاعتكاف متقاربان، فكل منهما كف وإمساك، والصلاة أفعال مباشرة لا مناسبة بينها وبين الاعتكاف فلا يجعل أحدهما وصفا للآخر، ولهذا قلنا: إنه لو نذر أن يعتكف صائما أو يصوم معتكاف لزمه كلاهما، والجمع بينهما. ولو نذر أن يعتكف مصليا أو يصلي معتكفا لزمه كلاهما دون الجمع بينهما. ويتفرع على المذهبين أنه يجوز أن ينذر   (1) رواه البخاري في كتاب مسجد مكة باب 1. مسلم في كتاب الحج حديث 505- 510 النسائي في كتاب المناسك باب 124. الترمذي في كتاب المواقيت باب 126. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 195، 198. الموطأ في كتاب القبلة حديث 9. (2) رواه البخاري في كتاب مسجد مكة باب 1، 6 مسلم في كتاب الحج حديث 415. أبو داود في كتاب المناسك باب 415. الترمذي في كتاب الصلاة باب 126. النسائي في كتاب المساجد باب 10. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 196. الدارمي في كتاب الصلاة باب 132. الموطأ في كتاب الجمعة حديث 16. أحمد في مسنده (2/ 234، 278) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 اعتكاف ساعة عند الشافعي، وأما عند أبي حنيفة فلا يجوز أقل من يوم بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر ويخرج بعد غروب الشمس. قال الشافعي: وأحب أن يعتكف يوما وإنما قال ذلك للخروج عن الخلاف. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى جميع ما تقدم من أول آية الصيام إلى هاهنا لا إلى عدم المباشرة في الاعتكاف وحده، لأنه حد واحد أللهم إلا أن يراد أمثال تلك الجملة. وحد الشيء مقطعه ومنتهاه، وحد الدار ما يمنع غيرها أن يدخل فيها، والحد الكلام الجامع لمانع فحدود الله ما منع من مخالفتها بعد أن قدرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة. وإنما قال هاهنا فَلا تَقْرَبُوها وفي موضع آخر فَلا تَعْتَدُوها [البقرة: 229] لأن العامل بشرائع الله أوامر ونواهي منصرف في حيز الحق، فإذا تعداه وقع في حيز الباطل. فالنهي عن التعدي هو المقصود إلا أن الأحوط أن لا يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل كيلا يذهل فيقع في الباطل. عن النعمان بن بشير: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ألا ولكل ملك حمى وحمى الله محارمه» «1» . وقيل: لا تقربوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ [الإسراء: 34] وقيل: الأحكام المذكورة بعضها أمر وأكثرها نهي، فغلب جانب التحريم أي لا تقربوا تلك الأشياء التي منعتم عنها. وأما في الأوامر فقال فَلا تَعْتَدُوها [البقرة: 229] أي اثبتوا عليها ولا تتخطوها، كَذلِكَ أي كما بين ما أمركم به وما نهاكم عنه في هذا المقام يُبَيِّنُ سائر أدلته على دينه وشرعه إرادة أن يتصف الناس بالتقوى جعلنا الله تعالى من المتقين بفضله ورحمته. التأويل: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» «2» الضمير عائد إلى الحق. على كل عضو في الظاهر صوم، وعلى كل صفة في الباطن صوم. فصوم اللسان عن الكذب والنميمة، وصوم العين عن محل الريبة، وصوم السمع عن استماع الملاهي، وعلى هذا فقس   (1) رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 3. الترمذي في كتاب البيوع باب 1. النسائي في كتاب البيوع باب 2. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 14. الدارمي في كتاب المقدمة باب 20. أحمد في مسنده (4/ 269، 275) . (2) رواه البخاري في كتاب الصوم باب 11. الترمذي في كتاب الصوم باب 3، 5. النسائي في كتاب الصيام باب 8. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 7. الدارمي في كتاب الصوم باب 1. أحمد في مسنده (1/ 226) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 البواقي. وصوم النفس عن التمني والشهوات، وصوم القلب عن حب الدنيا وزخارفها، وصوم الروح عن نعيم الآخرة ولذاتها، وصوم السر عن شهود غير الله كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي على بسائطكم وأجزائكم فإنها كانت صائمة عن المشارب كلها، فلما تعلق الروح بالقلب صارت أجزاء القالب مستدعية للحظوظ الحيوانية والروحانية لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مشارب المركبات وتطهرون عن هنس الحظوظ الحيوانيات والروحانيات، فحين يأفل كوكب استدعاء الحظوظ الفانية تطلع شمس حقوق الملاقاة الروحانية الباقية كما قال صلى الله عليه وسلم «للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه» فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أي وقع له فترة في السلوك لمرض غلبات صفات النفس وكسل الطبيعة أَوْ عَلى سَفَرٍ حصل له وقفة للعجز عن القيام بأعباء أحكام الحقيقة، فليمهل حتى تدركه العناية ويعالج سقمه بمعاجين الإلطاف وأشربة الإعطاف فيتداركه في أيام سلامة القلب. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ على من كان له قوة في صدق الطلب طَعامُ مِسْكِينٍ فالطعام كل مشرب غير مشرب ألطاف الحق، والمسكين من يكون مشربه غير ما عند الله ويقنع به، فيدفع تلك المشارب إلى أهاليها ويخرج عما سوى الله، ويواصل الصوم ولا يفطر إلا على طعام مواهب الحق وشراب مشاربه وهو معنى «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «1» فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فمن زاد في الفداء أي كلما فطم من مشرب وسقى من مشرب آخر. وروي فدى ذلك المشرب أيضا أي تركه إلى أن يصير مشربه ترك المشارب كلها وداوم الصوم كقوله تعالى وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ فينزل فيه حقائق القرآن وهذا معنى قوله شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فيكون على مأدبة الله لا بمعنى أنه يأكل من المأدبة فإنه دائم الصوم، ولكن المأدبة تأكله حتى تفنيه عن وجوده وتبقيه بشهوده فيكون خلقه القرآن وحينئذ يفرق بين الوجود الحقيقي والوجود المجازي كما قال وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فيقال يا محمد له أصبت فالزم وهو معنى قوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ قال أبو يزيد: ناداني ربي وقال: أنا بدك اللازم فالزم بدك. رمضان يرمض ذنوب قوم، ورمضان الحقيقي يحرق وجود قوم. رمضان اسم من أسماء الله أي من حضر مع الله فليمسك عن غير الله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وهو مقام الوصول وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وهو ما في الطريق من الرياضة والمجاهدة كالطبيب يسقي دواء مرا، فمراده حصول   (1) رواه البخاري في كتاب التمني باب 9، الصوم باب 20. مسلم في كتاب الصيام حديث 57. الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده (3/ 8) ، (6/ 126) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 الصحة لا إذاقة مرارة الدواء. وأيضا «كل ميسر لما خلق له» لو لم يرد بنا اليسر لم يجعلنا طالبين لليسر (شعر) : لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه ... من فيض جودك ما علمتني الطلبا وَلِتُكْمِلُوا عدة أنواع الغاية بجذبات يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ ولتعظموه عَلى ما هَداكُمْ إلى عالم الوصال بتجلي صفات الجمال وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة الوصال بتنزيه ذي الجلال عن إدراك عقول أهل الكمال وإحاطة الوهم والخيال. قوله سبحانه أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ اعلم أن في الإنسان تلونا في الأحوال. فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في ضياء نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية وهو حالة السكر، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردودا إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذه حالة الصحو، فخصه الله تعالى بنهار كشف الأستار وطلوع شموس الأسرار ليصوموا فيه عما سواه، وبليلة إسبال أستار الرحمة ليسكنوا فيها ويستريحوا بها كما منّ الله تعالى بقوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً [القصص: 72] الآيتين. ومعنى الرفث إلى النساء التمتع بالحظوظ الدنيوية التي تتصرف النفس فيها تصرف الرجال في النساء هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ أي الصفات والحظوظ الإنسانية ستر لكم يحميكم عن حرارة شموس الجلال لكيلا تحرقكم سطوات التجلي وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ تسترون معايب الدنيا بالأموال الصالحة واستعمال الأموال على قوانين الشرع والعقل «نعم المال الصالح للرجل الصالح» فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ بقدر الحاجة الضرورية وَابْتَغُوا بقوة هذه المباشرة ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ من المقامات العلية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا في ليالي الصحو حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ آثار أنوار المحو فالأحوال تنقسم إلى بسط وقبض، وزيادة ونقص، وجذب وحجب، وجمع وفرق، وأخذ ورد، وكشف وستر، وسكر وصحو، وإثبات ومحو، وتمكين وتكوين، كما قيل: كأن شيئا لم يزل إذا أتى ... كان شيئا لم يكن إذا مضى فِي الْمَساجِدِ أي في مقامات القربة والأنس. وفيه إشارة إلى أنه يجب أن يكون الاشتغال بالضروريات من حيث الصورة وتكون الأسرار والأرواح مع الحق، وهذا مقام أهل التمكين فَلا تَقْرَبُوها بالخروج عنها يا أهل الكشوف والعكوف وبالدخول فيها يا أهل الكسوف والخسوف حسبي الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 [سورة البقرة (2) : الآيات 188 الى 189] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) القراآت: الْبُيُوتَ بضم الباء: أبو جعفر ونافع غير قالون وأبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص والمفضل والبرجمي وهشام غير الحلواني. الباقون: بكسر الباء. الوقوف: تَعْلَمُونَ هـ عَنِ الْأَهِلَّةِ ط لابتداء حكم آخر مع النفي مَنِ اتَّقى ج والْحَجِّ ط ج لعطف الجملتين المختلفتين أَبْوابِها ص لعطف المتفقتين تُفْلِحُونَ هـ. التفسير: لما كان الصوم منتهيا إلى الإفطار والإفطار يتضمن الأكل، ناسب أن يردف حكم الصيام بحكم ما يصلح للأكل وما لا يصلح له. ولما كان الصوم والفطر منوطين برؤية الهلال عقبا بذكر السؤال عن حال الأهلة. قال الإمام الغزالي في الإحياء: المال يحرم إما لمعنى في عينه أو لخلل في جهة اكتسابه، والأول إما أن يكون من المعادن أو من النبات أو من الحيوان، أما المعادن والنبات فلا يحرم شيء منهما إلا ما يزيل الحياة وهي السموم، أو الصحة وهي الأدوية في غير وقتها، أو العقل كالخمر والبنج وسائر المسكرات. وأما حدثنا الحيوان فينقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل. وما يحل فإنما يحل إذا ذبح ذبحا شرعيا، وإذا ذبح فلا يحل جميع أجزائه بل يحرم منه الدم والفرث وكل ذلك مذكور في كتب الفقه. والثاني وهو ما يحرم لخلل في جهة إثبات اليد عليه نقول فيه أخذ المال إما أن يكون باختيار المتملك أو بغير اختياره كالإرث. والذي باختياره إما أن لا يكون مأخوذا من مالك كالمعادن، وإما أن يكون مأخوذا من مالك وذلك إما أن يؤخذ قهرا أو بالتراضي. والمأخوذ قهرا إما أن يكون لسقوط عصمة المالك كالغنائم، أولا لاستحقاق الأخذ كزكوات الممتنعين والنفقات الواجبة عليهم. والمأخوذ تراضيا إما أن يؤخذ بعوض كالبيع والصداق والأجرة، وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية، فهذه أقسام ستة: الأول: ما لا يؤخذ من مالك كنيل المعادن وإحياء الموات والاصطياد والاحتطاب والاستقاء من الأنهار والاحتشاش، فهذا حلال بشرط أن لا يكون المأخوذ مختصا بذي حرمة من الآدميين. الثاني: المأخوذ قهرا ممن لا حرمة له وهو الفيء والغنيمة وسائر أموال الكفار المحاربين وذلك حلال للمسلمين إذا أخرجوا منه الخمس فقسموه بين المستحقين بالعدل ولم يأخذوه من كافر له حرمة وأمان وعهده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 الثالث: المأخوذ قهرا بالاستحقاق عند امتناع من عليه فيؤخذ دون رضاه وذلك حلال إذا تم سبب الاستحقاق وتم وصف المستحق واقتصر على المستحق. الرابع: ما يؤخذ تراضيا بمعاوضة وذلك حلال إذا روعي شرط العوضين وشرط العاقدين وشرط لفظي الإيجاب والقبول مع ما يعتد الشرع به من اجتناب الشروط المفسدة. الخامس: ما يؤخذ بالرضا من غير عوض كما في الهبة والوصية والصدقة إذا روعي شرط المعقود عليه وشرط العاقدين وشرط العقد ولم يؤد إلى ضرر بوارث أو غيره. السادس: ما يحصل بغير اختياره كالميراث وهو حلال إذا كان المورث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه حلال، ثم كان ذلك بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا وتعديل القسمة بين الورثة وإفراز الزكاة والحج والكفارة إن كانت واجبة. فهذه مجامع مداخل الحلال وما سوى ذلك فحرام لا يجوز أكله. وكذا إن كان من هذه الجهات وصرفه إلى غير المصارف الشرعية كالخمر والزمر والزنا واللواط والميسر والسرف المحرم، وكل هذه الوجوه داخلة تحت قوله سبحانه وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ أي بالوجه الذي لم يبحه الله تعالى ولم يشرعه بَيْنَكُمْ أي في المعاملات الجارية بينكم والتصرفات الواقعة بينكم. وليس المراد منه الأكل خاصة بل غير الأكل من التصرف كالأكل في هذا الباب إلا أنه خص الأكل بالذكر لأنه المقصود الأعظم من المال. وقد يقال لمن أنفق ماله إنه أكله. والإدلاء أصله من أدليت دلوي أرسلتها في البئر للاستقاء، فإذا استخرجتها قلت دلوتها. ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء. ومنه يقال للمحتج أدلى بحجته كأنه يرسلها ليصير إلى مراده. وفلان يدلي إلى الميت بقرابة ورحم إذا كان منتسبا إليه فيطلب الميراث بتلك النسبة طلب المستقي الماء بالدلو. قوله وَتُدْلُوا داخل في حكم النهي أي ولا تدلوا بها إلى الحكام أي لا ترشوها إليهم، أو لا تلقوا أمرها والحكومة فيها إليهم لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالإثم بشهادة الزور أو باليمين الكاذبة أو بالصلح مع العلم بأن المقضى له ظالم. والفرق بين الوجهين أن الحكام على الأول حكام السوء الذين يقبلون الرشا التي هي رشا الحاجة، فبها يصير المقصود البعيد قريبا، وإذا أخذها حاكم السوء مضى في الحكم من غير ثبت كمضي الدلو في الإرسال. وعلى الثاني قد يكون الحاكم عادلا ولكن قد يشتبه عليه الحق كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للخصمين: «إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه. فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئا فإنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 أقضي له قطعة من نار» «1» فبكيا وقال كل واحد منهما: حقي لصاحبي. فقال: اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه. «فتوخيا» أي اقصدا الحق فيما تصنعانه من القسمة واقترعا وليأخذ كل منكما ما تخرجه القسمة بالقرعة ثم تحاللا: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنكم على الباطل وارتكاب المعاصي مع العلم بقبحها أقبح وصاحبه بالتوبيخ أحق. روي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلىء ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ألا يكون على حالة واحدة؟ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ وقيل: إن السائلين هم اليهود. ثم إن الله تعالى لم يجبهم بأنه إنما يرى كذلك لأنه يستفيد النور من الشمس وأنه مظلم في ذاته ويفصل أبدا بين المضيء والمظلم منه دائرة لاستداره المنير والمستنير، ويفصل بين المرئي وغير المرئي من القمر أيضا دائرة. والدائرتان تتطابقان في الاجتماع بحيث لا يظهر شيء من المستنير وتكون القطعة المظلمة مما يلي البصر وهذه الحالة هي المحاق. وكذا في الاستقبال لكن القطعة المضيئة هي التي تلي البصر والقمر في هذه الحالة يسمى بدرا. وفي سائر الأوضاع يتقاطعان. أما في التربيعين فعلى زوايا قوائم تقريبا، وفي غير التربيعين على زوايا حادة ومنفرجة، وعلى التقديرين تنقسم كرة القمر بهما إلى أربع قطع: اثنتان مضيئتان وهما اللتان تليان الشمس، والباقيتان مظلمتان. ويقع في مخروط البصر إحدى الأوليين وإحدى الأخريين، لكنه يحس بالمضيئة دون المظلمة. والقطع الأربع في التربيعين متساويات تقريبا، وفي غيرهما تختلف المتجاورتان وتتساوى المتقابلتان. والقطعة المرئية من المتجاورتين الواقعتين في مخروط البصر في الربعين الأول والأخير من الشهر أصغرهما، لأن زاوية تلك القطعة أصغر اللتين يليان الإبصار أعني أنها حادة وتسمى القطعة المرئية الصغيرة أول ما يبدو إلى ليلتين هلالا ويجمع على أهلة، لأنه يتعدد اعتبارا. وفي الربعين الباقيين من الشهر القطعة المضيئة المرئية أعظم المتجاورتين الموصوفتين لأن زاويتها أعظم المذكورتين أعني أنها منفرجة، وإنما لم يجابوا بذلك لأن المكلف لا يهمه معرفة هذه التصورات في باب العمل، وإنما الذي يعود عليه من فوائده وحكمه في باب التكليف معرفة المواقيت وهي المعالم التي يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدد نسائهم وأيام حيضهن ومدد حملهن ومعالم للحج يعرف بها وقته. والميقات من الوقت كالميزان من الوزن، ولعمري إنه لو منع مانع من أن ضبط هذه الأمور لا يتسهل ولا يتسنى إلا بوقوع الاختلاف في تشكلات   (1) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 القمر حيث سمى عوده من كل تشكل إلى مثله ولا سيما من الهلالية إلى مثلها شهرا وبذلك قدر السنون، وضبطت الأوقات والفصول فلن يمكنه جحود فائدته على تقدير وجود، ولو لم يكن في الإظهار رسمة الحدوث والإمكان والزوال والنقصان في الفلكيات حتى لا يظن بها وجوب الوجود، أو الاشتراك في القدم مع مفيض الخير والجود، أو امتناع الخرق والالتئام كما ذهب إلى كل من ذلك طائفة من اللئام لكفى به تنبيها وعناية وإرشادا وهداية إلى افتقار الفلكيات إلى فاعل مختار ومدبر قهار جاعل الظلم والأنوار، ومصير الأهلة والأقمار، وفي إفراد الحج بالذكر مع أن الأهلة مواقيت عبادات أخر كالصوم والزكاة إشارة إلى أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى له، وأنه لا يجوز نقل الحج عن تلك الأشهر إلى شهر آخر كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء. ويمكن أن يقال: توقف الصوم على الهلال قد علم من قوله شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 184] والزكاة تتعلق بالحول. والأصل في تقدير السنين لعودة الشمس من نقطة كأول الحمل مثلا إلى مثلها بحركتها الخاصة، والأيمان والجهاد لا يتعلقان بوقت معين، والصلاة تتعلق باليوم بليلته، فلم يبق من الأركان المتعلقة بالشهر سوى الحج فتعين ذكره في هذه الآية والله أعلم. قوله تعالى عز من قائل وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ عن البراء قال: نزلت هذه الآية فينا. كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عير بذلك فنزلت وفي رواية كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله الآية. والحاصل أن ناسا من الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطا ولا دارا ولا فسطاطا من باب فإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء. فقيل لهم: ليس البر بتحرجكم من دخول الباب تشديدا لأمر الإحرام وَلكِنَّ الْبِرَّ بر مَنِ اتَّقى ولكن ذا البر من اتقى مخالفة الله. وقيل: إن الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة سموا حمسا لتشددهم في دينهم والحماسة الشدة. كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا بيوتهم البتة، ولم يجلسوا تحت سقف البيت، ولم يستظلوا الوبر، ولم يأكلوا السمن والأقط. وعن الحسن والأصم: كان الرجل في الجاهلية إذا هم فتعسر عليه مطلوبه لم يدخل بيته من بابه بل يأتيه من خلفه، ويبقى على هذه الحالة حولا كاملا فنهاهم الله تعالى عن ذلك لأنهم كانوا يفعلونه تطيرا. وأما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله بناء على الأسباب المروية في نزوله وعليه أكثر المفسرين، فهو أنهم لما سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلة قيل لهم: اتركوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 السؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم وارجعوا إلى ما البحث عنه أهم، ولا تعتقدوا أن جميع ما سنح لكم هو على شاكلة الصواب: وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم تحسبونها برا وليست من البر في شيء، أو أنه تعالى لما ذكر الحكمة في الأهلة وهي جعلها مواقيت الناس والحج وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبروها في الحج، فلا جرم تكلم الله تعالى فيه استطرادا، أو اتفق وقوع القصتين في وقت واحد فنزلت الآية فيهما معا في وقت واحد. وقيل: إنه تمثيل لتعكيسهم في سؤالهم، فإن الطريق المستقيم هو الاستدلال بالمعلوم على المظنون، فأما أن يستدل بالمظنون على المعلوم فذاك عكس الواجب، ولما ثبت بالدلائل أن للعالم صانعا مختارا حكيما، وثبت أن الحكيم لا يفعل إلا الصواب البريء عن العبث والسفه، فإذا رأينا اختلاف حال القمر وجب أن نعلم أن فيه حكمة ومصلحة، وهذا استدلال بالمعلوم على المجهول. فأما أن يستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله غير حكيم فهو استدلال بالمجهول على المعلوم، فكأنه تعالى يقول: لما لم تعلموا حكمته في اختلاف نور القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق أو قاربتم الشك، فقد أتيتم الأمر من ورائه وهذا ليس من البر ولا من كمال العقل، إنما البر أن تأتوا الأمور من وجوهها التي يجب أن تؤتى منها، وهذا باب مشهور في الكناية قال الأعشى: ويأس شربت على رغبة ... وأخرى تداويت منها بها لكي يعلم الناس أني امرؤ ... أتيت المعيشة من بابها وعن أبي مسلم: أن هذا إشارة إلى ما كانوا يفعلونه من النسيء وكان يقع الحج في غير وقته، فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثلا لمخالفتهم الواجب في الحج وشهوره. ثم إنه تعالى أمرهم بالتقوى التي تتضمن الإتيان بجميع الواجبات والاجتناب عن الفواحش والمنكرات إرادة أن يظفروا بالمطالب الدينية والدنيوية والله ولي التوفيق. التأويل: بِالْباطِلِ أي بهوى النفس والحرص والإسراف وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ يعني النفوس الأمارة بالسوء مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ من الأموال التي خلقت للاستعانة بها على العبودية. الأهلة للزاهدين مواقيت أورادهم وللصديقين مواقيت مراقباتهم. والحج إشارة إلى ما يرد بحكم الوقت عليهم من غير اختيارهم، فمن كان وقته الصحو كان قيامه بالشريعة، ومن كان وقته المحو فالغالب عليه أحكام الحقيقة، فإن تجلى لهم بوصف الجلال طاشوا، وإن تجلى لهم بوصف الجمال عاشوا، فليس للمحبين وقت إلا أوقات محبوبهم كما ليس لهم وصف إلا أوصاف محبوبهم والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 [سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 195] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) القراآت: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ حمزة وعلي وخلف. الباقون: من باب المفاعلة. وقيل: إنه من جملة ما يكتب في المصحف بغير ألف كالرحمن. الوقوف: وَلا تَعْتَدُوا ط الْمُعْتَدِينَ هـ مِنَ الْقَتْلِ ج للعارض بين الجملتين المتفقتين فِيهِ ج للابتداء بالشرط مع الفاء فَاقْتُلُوهُمْ ط الْكافِرِينَ هـ رَحِيمٌ هـ الدِّينُ لِلَّهِ ط لتبدل الحكم الظَّالِمِينَ هـ قِصاصٌ ط لأن الاعتداء خارج عن أصل الموجب وفرعه مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ص لعطف الجملتين المتفقتين الْمُتَّقِينَ هـ التَّهْلُكَةِ ج لاختلاف المعنى أي لا تقتحموا في الحرب فوق ما يطاق وَأَحْسِنُوا ج لاحتمال تقدير الفاء واللام الْمُحْسِنِينَ هـ التفسير: لما أمر في الآية المتقدمة بالتقوى، أمر في هذه الآية بأشق أقسامها على النفس وهو المقاتلة في سبيل الله. عن أبي موسى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عمن يقاتل في سبيل الله فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ولا يقاتل رياء ولا سمعة» الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ الذين يناجزونكم القتال دون المحاجزين أعني الذين هم بصدد القتال بالفعل دون التاركين. قيل: وعلى هذا يكون منسوخا بقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة: 36] ومنع بأن الأمر بقتال من يقاتل لا يدل على المنع من قتال من لا يقاتل. وكذا ما روي عن الربيع بن أنس: هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف. أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان والرهبان والنساء أي المستعدين للقتال سوى من جنح للسلم، أو الكفرة كلهم لأنهم جميعا مضادون للمسلمين قاصدون لمقاتلتهم مستحلون لها فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا. وقيل في سبب نزول الآية إنه صلّى الله عليه وسلّم خرج مع أصحابه لإرادة الحج، فلما نزل بالحديبية وهو موضع كثير الشجر والماء صدهم المشركون عن دخول البيت فأقام شهرا لا يقدر على ذلك، فصالحوه على أن يرجع ذلك العام ويعود إليهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 العام القابل ويتركوا له مكة ثلاثة أيام حتى يطوف وينحر الهدى ويفعل ما يشاء، فرضي صلّى الله عليه وسلّم بذلك وصالحهم عليه وعاد إلى المدينة. وتجهز في السنة القابلة ثم خاف أصحابه من قريش أن لا يفوا بالوعد ويصدوهم عن المسجد الحرام وأن يقاتلوهم. وكانوا كارهين لقتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم. فأنزل الله هذه الآيات وبيّن له كيفية المقاتلة إن احتاجوا إليها فقال: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا بابتداء القتال. وإنما كان ذلك في أول الأمر لقلة المسلمين ولكون الصلاح في استعمال الرفق واللين، فلما قوي الإسلام وكثر الجمع وأقام من أقام منهم على الشرك بعد ظهور المعجزات وتكررها عليهم حصل اليأس من إسلامهم، فأمروا بالقتال على الإطلاق. أو لا تعتدوا بقتال من نهيتم عن قتاله من غير المستعدين كالنساء والشيوخ والصبيان والذين بينكم وبينهم عهد، أو بالمثلة، أو المفاجأة من غير دعوة إلى الإسلام. وهذه المعاني الثلاثة بإزاء التفاسير الثلاثة في الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين عما شرع الله لهم. في الصحاح: ثقفته أي صادفته. وفي الكشاف، الثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة، ومنه رجل ثقف أي سريع الأخذ لأقرانه قال: فإما تثقفوني فاقتلوني ... فمن أثقف فليس إلى خلود أمر في الآية الأولى بالجهاد بشرط إقدام الكفار على القتال، وفي هذه الآية زاد في التكليف فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا. واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام، وسمي حراما لأنه ممنوع أن يفعل فيه ما منع من فعله وأصل الحرمة المنع مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي من الموضع الذي أخرجوكم وهو مكة، وقد فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمن لم يسلم منهم يوم الفتح. أو أخرجوهم من منازلهم كما أخرجوكم من منازلكم، وقد أجلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المشركين من المدينة بل قال: «لا يجمع دينان في جزيرة العرب» «1» والمراد بالإخراج تكليفهم الخروج قهرا أو تخويفهم وتشديد الأمر عليهم حتى اضطروا إلى الخروج وَالْفِتْنَةُ عن ابن عباس أنها الكفر بالله لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى الظلم والهرج وفيه الفتنة. وأيضا الكفر ذنب يستحق العقاب الدائم بالاتفاق والقتل ليس كذلك والكفر يخرج به صاحبه عن الأمة دون القتل. روي أن صحابيا قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام فعابه المؤمنون على ذلك فنزلت. أن لا تستعظموا الإقدام على القتل في   (1) رواه مالك في الموطأ في كتاب المدينة حديث 17- 19. أحمد في مسنده (6/ 275) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 الشهر الحرام، فإن إقدام الكفار على الكفر في الشهر الحرام أعظم من ذلك. وقيل الفتنة أصلها عرض الذهب على النار للخلاص من الغش، ثم صار اسما لكل محنة. والمعنى إن إقدام الكفار على تخويف المؤمنين وعلى تشديد الأمر عليهم حتى صاروا ملجئين إلى ترك الأهل والأوطان هربا من إضلالهم في الدين وإبقاء على مهجهم وحرمهم، أشد من القتل الذي أوجبته عليكم جزاء عن تلك الفتنة لأنه يقتضي التخلص، من غموم الدنيا وآفاتها. لقتل بحد السيف أهون موقعا ... على النفس من قتل بحد فراق وقيل: الفتنة العذاب الدائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم، فكأنه قيل: اقتلوهم حيث ثقفتموهم، واعلموا أن وراء ذلك من عذاب الله ما هو أشد منه قال عز من قائل: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: 13] وقيل: فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام لأنه سعي في المنع عن الطاعة التي ما خلق الجن والإنس إلا لها، أشد من قتلكم إياهم في الحرم. وقيل: ارتداد المؤمن أشد من أن يقتل محقا. فالمعنى وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولو أتى ذلك على أنفسكم فإنكم إن قتلتم وأنتم على الحق كان ذلك أولى بكم من أن ترتدوا على أدباركم أو تتكاسلوا عن طاعة معبودكم. يروى أن الأعمش قال لحمزة: أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولا فبعد ذلك كيف يصير قاتلا لغيره؟ فقال حمزة: إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا قتلنا، وإذا ضرب منهم واحد قالوا ضربنا، وذلك أن وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم. فَإِنِ انْتَهَوْا قيل: أي عن القتال لأن المقصود من الإذن في القتال منع المقاتلة عن ابن عباس. وقيل: أي عن الشرك بدليل قوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ الدال على أنه يغفر لهم ويرحهم والكافر لا ينال غفران الله ورحمته بترك القتال بل بترك الكفر، عن الحسن. قلت: إن أريد بالقتال استحلالهم قتل المسلمين تلازم القولان، والانتهاء عن الكفر ظاهره التلفظ بكلمة الإسلام وأنه مؤثر في حقن الدم وعصمة المال، وباطنه هو التشبث بأركان الإسلام جميعا ويؤثر في استحقاق الرحمة والغفران. وقد يستدل بقوله: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ على أن التوبة عن قتل العمد بل من كل ذنب. مقبولة لأن الشرك أعظم الذنوب، فإذا قبل الله تعالى توبة الكافر فقبول توبة القاتل أولى. وأيضا الكافر القاتل مقبول التوبة بالاتفاق إذا أسلم، فالقاتل غير الكافر أولى. ويمكن أن يجاب بأن حق الله تعالى مبني على المساهلة فظهر الفرق. وأيضا الإيمان يجب ما قبله، فلا يلزم من عدم مؤاخذة الكافر بقتله إذا أسلم أن لا يؤاخذ المسلم بقتله، ولهذا يجب قضاء الصلوات الفائتة على المسلم إذا تاب عن ترك الصلاة، ولا يجب على الكافر إذا أسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 قوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ وقيل: إنه ناسخ لقوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وهو وهم لأن البداءة بالمقاتلة عند المسجد الحرام نفت حرمته. غاية ما في الباب أن هذه الآية عامة وما قبلها مخصصة إياها وهذا جائز، فإن القرآن ليس على ترتيب النزول، ولو كان على الترتيب أيضا فلا يضرنا لجواز نزول الخاص قبل العام عندنا وذلك أن الخاص قاطع في دلالته تقدم أو تأخر، والعام دلالته على ما يدل عليه الخاص غير مقطوع بها فلا بد من التخصيص جمعا بينهما حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قيل: أي شرك وكفر. وعلى هذا فالآية محمولة على الأغلب. فإن قتالهم لا يزيل الكفر رأسا، وإنما الغالب الإزالة لأن من قتل منهم فقد زال كفره ومن لم يقتل كان خائفا من الثبات على كفره. والحاصل قاتلوهم حتى تكون كلمة الله هي العليا وهو المراد أيضا من قوله: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ أي ليس للشيطان فيه نصيب لوضوح شأنه وسطوع برهانه كما قال تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الصف: 9] ولا يعبأ بالمخالف لقلة شوكته وسقوطه عن درجة الاعتداد به، أو محمولة على قصد إزالة الكفر فترتب هذا العزم على القتال كلي لا يتخلف عنه. وقيل: فتنتهم أنهم كانوا يضربون أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ويؤذونهم حتى ذهب بعضهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة، أي قاتلوهم حتى تظهروا عليهم ولا يفتنوكم عن دينكم. وعن أبي مسلم: معناه قاتلوهم حتى لا يكون منهم القتال الذي إذا بدأوا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون عنده من أنواع المضار. ولا يخفى أن قوله: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ يرجح القول الأول ليكون المعنى: وقاتلوهم حتى يزول الكفر ويظهر الإسلام فَإِنِ انْتَهَوْا عن الأمر الذي وجب قتالهم لأجله وهو إما الكفر أو القتال فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ أي فلا تعدوا على المنتهين فيكون مجموع قوله إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ قائما مقام على المنتهين. لأن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم، فنهوا عنه بدليل انحصاره في غير المنتهين. أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين. وعلى الوجهين سمي جزاء الظلم ظلما للمشاكلة كما يجيء في قوله تعالى: فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ أو أريد إنكم إن تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيتسلط عليكم من يعدو عليكم. قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة سنة ست من الهجرة وصدّوهم عن البيت. فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال وذاك في ذي القعدة سنة سبع الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ أي هذا الشهر بذاك الشهر، وهتكه بهتكه. فلما لم تمنعكم حرمته عن الكفر والأفعال القبيحة فكيف تمنعنا عن القتال معكم دفعا لشروركم وإصلاحا لفسادكم؟ والحرمة ما لا يحل انتهاكه، والقصاص المساواة أي وكل حرمة يجري فيها القصاص من هتك حرمة أيّ حرمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 كانت، اقتص منه بأن يهتك له حرمة. والحرمات الشهر الحرام والبيت الحرام والإحرام، فلما أضاعوا هذه الحرمات في سنة ست فقد وفقتكم حتى قضيتموها على رغمهم في سنة سبع، وإن أقدموا على مقاتلتكم فقد أذنت لكم في قتالهم فافعلوا بهم مثل ما فعلوا ولا تبالوا. ثم أكد ذلك بقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ حين تنتصرون ممن اعتدى عليكم حتى لا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالنصر والتأييد والتقوية والتسديد، فإن الاستصحاب بالعلم أو بالمكان إن جاز شامل للمتقين وغيرهم. قوله عز من قائل وَأَنْفِقُوا وجه اتصاله بما قبله أنه تعالى لما أمر بالقتال وأنه يفتقر إلى العدد والعدد قد يكون ذو المال عاجزا عن القتال، وقد يكون القوي على القتال عديم المال فلهذا أمر الله الأغنياء بالإنفاق في سبيله إعدادا للرجال وتجهيزا للأبطال ويروى أنه لما نزل الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ قال رجل من الحاضرين: والله يا رسول الله ما لنا زاد وليس أحد يطعمنا. فأمر صلّى الله عليه وسلّم أن ينفقوا في سبيل الله وأن يتصدقوا وأن لا يكفوا أيديهم عن الصدقة ولو بشق تمرة ولو بمشقص يحمل في سبيل الله فيهلكوا فنزلت هذه الآية على وفق قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم. والإنفاق صرف المال في وجوه المصالح. فلا يقال للمضيع: إنه منفق وإنما يقال: مبذر. وسبيل الله دينه فيشمل الإنفاق فيه الإنفاق في الحج والعمرة والجهاد والتجهيز والإنفاق في صلة الرحم وفي الصدقات أو على العيال أو في الزكاة والكفارات أو في عمارة بقاع الخير وغير ذلك. الأقرب في هذه الآية. وقد تقدم ذكر القتال. أن يراد به الإنفاق في الجهاد، ولكنه تعالى عبر عنه بقوله فِي سَبِيلِ اللَّهِ ليكون كالتنبيه على السبب في وجوب هذا الإنفاق. فالمال مال الله فيجب إنفاقه في سبيل الله، ولأن المؤمن إذا سمع ذكر الله اهتز نفسه ونشط وهان عليه ما دعي إليه. والباء في بِأَيْدِيكُمْ مزيدة مثلها في «أعطى بيده للمنقاد» والمعنى: ولا تقبضوا التهلكة أيديكم أي لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم. وقيل: الأيدي الأنفس كقوله: فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الأنفال: 51] أي لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة. وقيل: بل هاهنا حذف أي لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة كما يقال «أهلك فلان نفسه بيده» إذا تسبب لهلاكها. عن أبي عبيدة والزجاج: إن التهلكة والهلاك والهلك واحد. لم يوجد مصدر على تفعلة بضم العين سوى هذا، إلا ما حكاه سيبويه من قولهم «التضرة» «والتسرة» ونحوها في الأعيان «التنضبة» لشجر و «التتفلة» لولد الثعلب. ويجوز أن يقال: أصلها التهلكة بالكسر كالتجربة والتبصرة على أنها مصدر من هلك مشدد العين، فأبدلت من الكسرة ضمة كما جاء الجوار في الجوار. وليس الغرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 من هذا التكلف على ما ظن تصحيح لفظ القرآن كيلا تنخرم فصاحته فإنه أجل من أن يحتاج في تصحيحه إلى الاستشهاد بكلام الفصحاء من البشر، وكيف لا وهو حجة على غيره وليس لغيره أن يكون حجة عليه. وإنما الغرض الضبط والتسهيل ما أمكن فتنبه. وللمفسرين في هذا الإلقاء خلاف فمنهم من قال إنه راجع إلى الإنفاق. وروى البخاري في صحيحه عن حذيفة قال: نزلت هذه الآية في النفقة. وذلك أن لا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم فيستولي العدو عليهم ويهلكهم، أو ينفقوا كل مالهم فيحتاجوا ويجتاحوا فيكون نهيا عن التقتير والإسراف وعنهما جميعا وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الفرقان: 67] أو المعنى: أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا إن أنفقنا نهلك ذلا وفقرا. نهوا عن أن يحكموا على أنفسهم بالهلاك للإنفاق، أو أنفقوا ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة والإحباط منا أو أذى أو رياء وسمعة مثل وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ [محمد: 33] ومنهم من قال: إنه راجع إلى غير الإنفاق أي لا تخلوا بالجهاد فتتعرضوا للهلاك الذي هو سخط الله وعذاب النار، أو لا تقحموا في الحرب حيث لا ترجون النفع ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم فإن ذلك لا يحل كما روي عن البراء بن عازب أنه قال في هذه الآية: هو الرجل يستقتل بين الصفين. وإنما يجب أن يتقحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل. روى الشافعي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر الجنة فقال له رجل من الأنصار: أرأيت يا رسول الله إن قتلت صابرا محتسبا؟ قال: لك الجنة. فانغمس في جماعة العدو فقتلوه. وأن رجلا من الأنصار ألقى درعا كان عليه حين ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم الجنة. ثم انغمس في العدو فقتلوه بين يدي الرسول. وروي أن رجلا من الأنصار تخلف من أصحاب بئر معونة فرأى الطير عكوفا على من قتل من أصحابه. فقال لبعض من معه: سأتقدم إلى العدو فيقتلونني ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ففعل ذلك. فذكروا للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال فيه قولا حسنا. وروى أسلم أبو عمران قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: أيها الناس، إنكم تأوّلون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرا دون النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه. فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله تعالى على نبيه يرد علينا ما قلنا، فكانت التهلكة الإقامة في الأموال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 وإصلاحها وترك الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم. وقيل: إن الآية من تمام ما قبلها أي إن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فإن الحرمات قصاص، ولا تحملنكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم فتهلكوا بترككم القتال. وعن النعمان بن بشير: كان الرجل يذنب فيقول: لا يغفر لي فأنزل الله تعالى هذه الآية. وذلك أنه يرى أنه لا ينفعه معه عمل فيترك العبودية ويصر على الذنب فنهى عن القنوط من رحمة الله وَأَحْسِنُوا في الإنفاق بأن يكون مقرونا بطلاقة الوجه أو على قضية العدالة بين التقتير والإسراف أو في فرائض الله عن الحسن إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ إذ الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وهذا مقام القرب، والقرب يقتضي الإرادة الذاتية وهذا رمز والله ولي كل خير. التأويل: وَقاتِلُوا من يمنعكم عن السير في سبيل الله أو أراد أن يقطع عليكم طريقه من شياطين الإنس والجن حتى نفوسكم التي هي أعدى عدوكم وَلا تَعْتَدُوا لا تتجاوزوا عن حد الشرع فتجاهدوا بالطبع، ولكن كونوا ثابتين على قدم الاستقامة بقدر الاستطاعة من غير إفراط وتفريط، واقتلوا كفار النفس بسيف الرياضة حيث ظفرتم بهم، ومجاهدتها مخالفة هواها. وَأَخْرِجُوهُمْ من صفات النفس كما أَخْرَجُوكُمْ من جمعية القلب وحضوره وَالْفِتْنَةُ أي المحنة التي ترد على القلب من طوارق صفات النفس الحاجبة عن الله أَشَدُّ مِنَ قتل النفس بمخالفة هواها وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لا تلتفتوا إلى النفس وصفاتها إذا كنتم آمنين مطمئنين في مقامات القلب والروح حتى يزاحموكم في الحضور وداعية الهوى فإن نازعوكم في الجمعية والحضور فَاقْتُلُوهُمْ بسيف الصدق واقطعوا مادة تلك الدواعي عن نفوسكم بكل ما أمكن لئلا يبقى لكم علاقة تصدكم عن الله فَإِنِ انْتَهَوْا بأن قنعت بما لا بد لها فلا تغلوا في مجاهدتها. الشَّهْرُ الْحَرامُ أي ما يفوتكم من الأوقات والأوراد بتواني النفس ونزاعها وغلبات صفاتها فتداركوه الشهر بالشهر واليوم باليوم فَمَنِ اعْتَدى فكل صفة غلبت واستولت فعالجوها بضدها البخل بالسخاء، والغضب بالحلم، والحرص بالزهد، والشهوة بالعفة، وَاتَّقُوا اللَّهَ في الإفراط والتفريط وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ بالتفريط في الحقوق والإفراط في الحظوظ أو بموافقة النفوس ومخالفة النصوص، أو بالركوب إلى الفتور بالحسبان والغرور والله المستعان على ما يصفون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 [سورة البقرة (2) : آية 196] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) القراآت: مِنْ رَأْسِهِ وكذلك «البأس» و «الكأس» كلها بغير همزة أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى وحمزة في الوقف. الوقوف: لِلَّهِ ط لأن عارض الإحصار خارج عن موجب الأصل مِنَ الْهَدْيِ ج لعطف المختلفتين مَحِلَّهُ ط لابتداء حكم كفارة الضرورة أَوْ نُسُكٍ ج لأن «إذا» للشرط مع الفاء وجوابه محذوف أي فإذا أمنتم من خوف العدو وضعف المرض فامضوا. أمنتم وقف لحق الحذف ولابتداء الشرط في حكم آخر وهو التمتع مِنَ الْهَدْيِ ج رَجَعْتُمْ ط كامِلَةٌ ط الْحَرامِ ط الْعِقابِ هـ. التفسير: الحج في اللغة القصد كما مر في قوله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ [البقرة: 158] وفي الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة. وهي على ثلاثة أقسام: أركان وأبعاض وهيئات. لأن كل عمل يفرض فيه فإما أن يتوقف التحلل عليه وهو الركن، أو لا يتوقف. فإما أن يجبر بالدم وهو البعض، أو لا يجبر وهو الهيئة. والأركان عند الشافعي خمسة: الإحرام والوقوف بعرفة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وحلق الرأس أو تقصيره. وخالف أبو حنيفة في السعي، ولا مدخل للجبران في الأركان. وأما الأبعاض أعني الواجبات المجبورة بالدم، فالإحرام من الميقات والرمي وفاقا وفي الوقوف بعرفة إلى أن تغرب الشمس وفي المبيت بمزدلفة والمبيت بمنى، وفي طواف الوداع خلاف. وأما الهيئات فالاغتسال وطواف القدوم والرمي والاضطباع في الطواف وفي السعي واستلام الركن وتقبيله والسعي في موضع السعي والمشي في موضع المشي والخطب والأذكار والأدعية إلى غير ذلك. وبالجملة ما سوى الأركان والأبعاض ولا دم في تركها. وأما في العمرة فما سوى الوقوف من أركان الحج أركان فيها. ثم إن قوله عز من قائل: وَأَتِمُّوا أمر بالإتمام. وهل هذا الأمر مطلق أو مشروط؟ فالشافعي على أنه مطلق والمعنى: افعلوا الحج والعمرة على نعت التمام والكمال. وأبو حنيفة على أنه مشروط والمعنى: من شرح فيه فليتمه كما إذا كبر بالصلاة تطوعا لزمه الإتمام. وفائدة الخلاف تظهر في العمرة فإنها تصير واجبة على المعنى الأول دون الثاني. حجة الشافعي أن الإتمام قد يراد به فعل الشيء تاما كاملا كقوله وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة: 124] أي أدّاهن على التمام والكمال. وقوله ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 أي افعلوا الصيام تاما إلى الليل وهذا أولى من تقدير أنكم إذا شرعتم فيه فأتموه، لأن الأصل عدم إضمار هذا الشرط، ولأن المفسرين أجمعوا على أن هذه أول آية نزلت في الحج، فحملها على الإيجاب ليكون تأسيسا أولى من حملها على الإتمام بشرط الشروع، فإنها تكون حينئذ تبعا، ولأنه قرىء أقيموا الحج والعمرة والشاذ يصلح للترجيح وإن لم يصلح للقطع كخبر الواحد، ولأن الوجوب المطلق يستلزم الإتمام، والإتمام بشرط الشروع لا يستلزم أصل الوجوب. فتأويلنا أكثر فائدة، فيكون أولى. وأيضا أنه أحوط. واعتمر النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل الحج، ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب. وقال تعالى يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ [التوبة: 3] وفيه دليل على وجود حج أصغر وما ذاك إلا العمرة بالاتفاق. لكن الحج واجب على الإطلاق لقوله وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: 97] فيدخل فيه الأكبر والأصغر. حجة أبي حنيفة قصة الأعرابي الذي سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أركان الإسلام فعلمه الصلاة والزكاة والحج والصوم فقال الأعرابي: لا أزيد على هذا ولا أنقص. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أفلح الأعرابي إن صدق. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «بني الإسلام على خمس» «1» الحديث. ولم يذكر العمرة. وأجيب بأن العمرة حج أصغر فتدخل في مطلق الحج قالوا: روي عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن العمرة أواجبة هي أم لا؟ فقال: لا، وأن تعتمر خير لك. وعن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «الحج جهاد والعمرة تطوع» «2» وأجيب بأنها أخبار آحاد فلا تعارض القرآن. وأيضا لعل العمرة، ما كانت واجبة حينما ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم تلك الأحاديث، ثم نزل بعدها وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وذلك في السنة السابعة من الهجرة. وأيضا إنها معارضة بأخبار تدل على وجوبها. روى النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن أبي شيخ كبير أدرك الإسلام ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن، قال صلّى الله عليه وسلّم: حج عن أبيك واعتمر أمر بهما والأمر للوجوب. وروي عن ابن عباس أنه قال: إن العمرة لقرينة الحج، وحمله على أنهما يقترنان في الذكر تكلف. وعن عمر أن رجلا قال له: إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعا فقال: هديت لسنة نبيك وحمله على أن الوجوب مستفاد من الإهلال بهما لا يخلو من تعسف. قالوا: قرأ علي وابن مسعود والشعبي وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ بالرفع. فكأنهم قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الحج في   (1) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 1، 2. مسلم في كتاب الإيمان حديث 20، 21. الترمذي في كتاب الإيمان باب 3. النسائي في كتاب الإيمان باب 13. أحمد في مسنده (2/ 26، 93) . [ ..... ] (2) رواه ابن ماجه في كتاب المناسك باب 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 الوجوب. وأجيب بأن الشاذة لا تعارض المتواترة، وبأنها ضعيفة من حيث العربية لعطف الاسمية على الفعلية، والخبرية على الطلبية، وبأن كون العمرة عبادة لله لا ينافي وجوبها. واعلم أن لأداء النسكين وجوها ثلاثة: الإفراد والتمتع والقران فالإفراد أن يحج ثم بعد الفراغ منه يعتمر من أدنى الحل، أو يعتمر قبل أشهر الحج ثم يحج في تلك السنة. والقران أن يحرم بالحج والعمرة معا في أشهر الحج بأن ينويهما بقلبه معا، وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم قبل الطواف أدخل الحج عليها يصير قارنا. والتمتع هو أن يحرم بالعمرة من ميقات بلده في أشهر الحج ويأتي بأعمالها، ثم يحج في هذه السنة من مكة. سمي تمتعا لاستمتاعه بمحظورات الإحرام بينهما بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وأنه أيضا يربح ميقاتا لأنه لو أحرم بالحج من ميقات بلده لكان يحتاج بعد فراغه من الحج إلى أن يخرج إلى أدنى الحل فيحرم بالعمرة منه، وإذا تمتع استغنى عن الخروج لأنه يحرم بالحج من جوف مكة. ولا خلاف بين أئمة الأمة في جواز هذه الوجوه، وإنما الخلاف في الأفضلية فقال الشافعي: أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القران. وقال في اختلاف الحديث: التمتع أفضل من الإفراد وبه قال مالك. والإمامية قالوا: لا يجوز لغير حاضري المسجد الحرام العدول عن التمتع إلا لضرورة. وقال أبو حنيفة، القران أفضل ثم الإفراد ثم التمتع. وهو قول المزني وأبي إسحق المروزي. وقال أبو يوسف ومحمد: القران أفضل ثم التمتع ثم الإفراد. حجة الشافعي في أفضلية الإفراد قوله وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وذلك أن العطف يقتضي المغايرة وأنها تحصل عند الإفراد، فأما عند القران فالموجود شيء واحد هو حج وعمرة معا. وأيضا الأعمال عند الإفراد أكثر فيكون الثواب أكثر وذلك هو الفضل. وما روي عن أنس أنه قال: كنت واقفا عند جران ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لعابها يسيل على كتفي فسمعته يقول: لبيك بعمرة وحجة معا. معارض بما روى مسلم في صحيحه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج، وهكذا روى جابر وابن عمر. وقد رجح الشافعي رواية عائشة وجابر وابن عمر على رواية أنس بأنهم أعلم وأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقدم صحبة، أن أنسا كان صغيرا في ذلك الوقت قليل العلم. حجة القائلين بأفضلية القران: أن في القران مسارعة إلى النسكين، وفي الإفراد ترك المسارعة إلى أحدهما، فيكون أفضل لقوله وَسارِعُوا [آل عمران: 133] وأجيب بأنا لا نقول الحجة المفردة بلا عمرة أفضل من الحجة المقرونة، لكنا نقول: من أتى بالحج في وقته ثم بالعمرة في وقتها، فمجموع هذين الأمرين أفضل من الإتيان بالحجة المقرونة، واختلف في تفسير الإتمام في قوله تعالى وَأَتِمُّوا. فعن علي رضي الله عنه وابن عباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 وابن مسعود: أن إتمامهما أن تحرم من دويرة أهلك. وقال أبو مسلم: المعنى أن من نوى الحج والعمرة لله وجب عليه الإتمام قال: ويدل على صحة هذا التأويل أن الآية نزلت بعد أن منع الكفار النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الماضية عن الحج والعمرة. فالله تعالى أمر رسوله في هذه الآية بأن لا يرجع حتى يتم الفرض. ويعلم منه أن تطوع الحج والعمرة كفرضهما في وجوب الإتمام. وقال الأصم: المراد إتمام الآداب المعتبرة فيهما وهي عسرة على ما ذكر في الإحياء الأول: في المال، فينبغي أن يبدأ بالتوبة ورد المظالم وقضاء الديون وإعداد النفقة لكل من تلزمه نفقته إلى وقت الرجوع، ويرد ما عنده من الودائع ويستصحب من المال الطيب الحلال ما يكفيه لذهابه وإيابه من غير تقتير، بل على وجه يمكنه معه التوسع في الزاد والرفق بالفقراء، ويتصدق بشيء قبل خروجه ويشتري لنفسه دابة قوية على الحمل أو يكتريها. الثاني: الإخوان والرفقاء المقيمون يودعهم ويلتمس أدعيتهم فإن الله تعالى جعل في دعائهم خيرا. والسنة في الوداع أن يقول: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك. الثالث: إذا هم بالخروج صلى ركعتين يقرأ في الأولى بعد «الفاتحة» ، قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وفي الثانية «الإخلاص» وبعد الفراغ يتضرع إلى الله تعالى بالإخلاص. الرابع: إذا حصل على باب الدار قال: بسم الله، توكلت عل الله، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكلما كانت الدعوات أكبر كان أولى. الخامس: إذا ركب قال: بسم الله وبالله والله أكبر، توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ [الزخرف: 13] السادس: في النزول. والسنة أن يكون أكثر سيره بالليل ولا ينزل حتى يحمى النهار، وإذا نزل صلى ركعتين ودعا الله كثيرا. السابع: انق قصده عدوّ أو سبع بالليل أو بالنهار فليقرأ آية الكرسي وشَهِدَ اللَّهُ [آل عمران: 18] و «الإخلاص» و «المعوذتين» ثم يقول: تحصنت بالله العظيم واستعنت بالحي الذي لا يموت. الثامن: مهما علا نشزا من الأرض في الطريق يستحب أن يكبر ثلاثا. التاسع: أن لا يكون هذا السفر مشوبا بشيء من الأغراض العاجلة كالتجارة وغيرها. العاشر: أن يصون لسانه عن الرفث والفسوق والجدال، ثم بعد الإتيان بهذه المقدمات يأتي بجميع أركان الحج على الوجه الأصح الأقرب إلى موافقة الكتاب والسنة، ويكون غرضه في كل هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله تعالى ليكون مؤتمرا لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ اقتداء بإبراهيم عليه السلام حين ابتلي. بكلمات فأتمهن. وقيل: المراد من قوله: وَأَتِمُّوا أفردوا كل واحد منهما بسفره ويؤيد هذا تأويل من قال الإفراد أفضل. وأقرب هذه الأقوال ما يرجع حاصله إلى معنى ائتوا بالحج والعمرة تامين كاملين بمناسكهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 وشرائطهما وآدابهما لوجه الله بدليل قوله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ قال أحمد بن يحيى أصل الحصر والإحصار الحبس ومنه الحصير للملك لأنه كالمحبوس في الحجاب. والحصير معروف سمي به لانضمام بعض أجزائه إلى بعض. فكأن كلا منها محبوس مع غيره، والحصير المحبس أيضا. والأكثرون على أن لفظ الحصر مخصوص بمنع العدو. يقال: حصره العدو إذا منعه عن مراده وضيق عليه. وعن أبي عبيدة وابن السكيت والزجاج وغيرهم: أن لفظ الإحصار مختص بالمرض ونحوه من خوف وعجز قال تعالى الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: 273] وقيل: الإحصار مختص بمنع العدو. ومنه ما يروى عن ابن عمر وابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو. وفائدة الخلاف في الآية تظهر في مسألة فقهية وهي أنهم اتفقوا على أن حكم الإحصار عند حبس العدو ثابت. وهل يثبت بسبب المرض وسائر الموانع؟ قال أبو حنيفة: يثبت. وقال الشافعي ومالك وأحمد: لا يثبت، بل يصبر حتى يبرأ. نعم لو شرط أنه إذا مرض تحلل صح الشرط لما روي أنه صلى الله عليه وسلم مر بضباعة بنت الزبير فقال: أما تريدين الحج؟ فقالت: إني شاكية. فقال: حجي واشترطي أن تحلي حيث حبست. وفي حكم المرض كل غرض صحيح كضلال الطريق ونفاد الزاد، حجة أبي حنيفة ظاهر كلام أكثر أهل اللغة، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل» «1» وحجة الشافعي قول ابن عمر وابن عباس وطائفة من أهل اللغة. وأيضا الهمزة في أُحْصِرُوا ليس للتعدية لمساواته حصر في اقتضاء المفعول فتكون للوجود، أو لصيرورته ذا كذا فيؤوّل المعنى إلى أنكم إن وجدتم أو صرتم محصورين فلا يبقى النزاع، وأيضا المانع إنما يتحقق عند وجود المقتضي، والمريض لا قدرة له على الفعل فلا مانع بالنسبة إليه، فثبت أن لفظ الإحصار حقيقة في العدو دون المرض. وأيضا لفظ المانع على المرض غير معقول لأنه عرض لا يبقى زمانين. وأيضا لو كان المريض داخلا في المحصر لكان في قوله فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً نوع تكرار ولزم عطف الشيء على نفسه. واعتذر عن هذا بأن المريض إنما خص بالذكر لأن له حكما خاصا وهو حلق الرأس، فصار تقدير الآية إن منعتم لمرض تحللتم بدم، وإن تأذى رأسكم بمرض حلقتم وكفّرتم، وأيضا فإذا أمنتم يناسب الخوف من العدو إذ يقال في المرض شفي وعوفي لا أمن. ولو قيل: إن خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أولها قلنا: لا يلزم من عدم القدح وجود المناسبة.   (1) رواه أبو داود في كتاب المناسك باب 43. الترمذي في كتاب الحج باب 94 النسائي في كتاب المناسك باب 102. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 85، الدارمي في كتاب المناسك باب 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 وقيل: إنه منع المرض خاصة وهو باطل بالدلائل المذكورة وزيادة وهي أن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول الآية أن الكفار أحصروا النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية. والأئمة وإن اختلفوا في أن الآية هل تتناول غير سبب النزول أم لا، إلا أنهم اتفقوا على أن خروج ذلك السبب غير جائز. ثم في الآية إضماران، والتقدير: فتحللتم أو أردتم التحلل فعليكم ما استيسر، أو فاهدوا ما استيسر أي ما تيسر مثل استعظم وتعظم واستكبر وتكبر. أما الإضمار الأول فلأن نفس الإحصار لا يوجب هديا وإنما الموجب هو التحلل أو نية التحلل. وأما الإضمار الثاني فلأن قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ إما مرفوع على الابتداء وخبره محذوف، أو منصوب على المفعولية وناصبه محذوف. والهدي جمع هدية كما يقال في جدية السرج وهي شيء محشو تحت دفتي السرج جدي. وقرىء من الهدي جمع هدية كمطية ومطيّ، وهذه لغة تميم. ومعنى الهدي ما يهدى إلى بيت الله تقربا إليه بمنزلة الهدية. عن علي وابن عباس والحسن وقتادة رضي الله عنهم: أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدونها شاة. فعليه ما تيسر له من هذه الأجناس، والمحصر المحرم إذا أراد التحلل وذبح، وجب أن ينوي التحلل. البتة قبل الذبح، وأكثر الفقهاء على أن حكم العمرة في الإحصار حكم الحج، وعن ابن سيرين: أنه لا إحصار فيها لأنها غير موقتة. ورد بأن قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ مذكور عقيب الحج والعمرة فكان عائدا إليهما، وبأنه صلى الله عليه وسلم تحلل بالإحصار عام الحديبية وكان معتمرا. وما حد الإحصار؟ قالت العلماء: لو منعوا ولم يتمكنوا من المسير إلا ببذل مال فلهم أن يتحللوا ولا يبذلوا المال وإن قل إذ لا يجب احتمال الظلم في أداء الحج بل يكره البذل إن كان الطالبون كفارا، والأكثرون على إنه لا يجب القتال على الحجيج وإن كان العدو كفارا وكان في مقابلة كل مسلم أقل من مشركين ولو قاتلوا فلهم لبس الدروع والمغافر، لكنهم يفدون كما لو لبسوا المخيط لدفع حر أو برد، لا فرق على الأصح في جواز التحلل بين أن يمنعوا من المضي دون الرجوع أو يمنعوا من جميع الجوانب، لأنهم يستفيدون بالتحليل الأمن من العدو المواجه. ولو صد عن طريق وهناك طريق آخر ووجدوا شرائط الاستطاعة فيه لزمهم سلوكه ولم يكن لهم التحلل في الحال، وإذا سلكوه ففاتهم الحج لحزونته أو لطوله تحلّلوا بعمل عمرة ولا يلزمهم القضاء على الأظهر من قولي الشافعي، لأنهم بذلوا مجهودهم فصاروا كالمصدودين مطلقا، نعم لو استوى الطريقان من كل وجه وجب القضاء لأن الموجود فوات محض. وفي قوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ حذف لأن الرجل لا يتحلل ببلوغ الهدي محله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 بل لا يحصل التحلل إلا بالنحر. فالتقدير: حتى يبلغ الهدي محله وينحر. وإنما جاز تذكير الهدي لأن كل ما يفرق بين واحده وبينه بالتاء وعدمه جاز تذكيره وتأنيثه. قال تعالى: أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر: 20] وفي موضع آخر: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة: 7] والمحل اسم للزمان الذي يحصل فيه الحل، ومنه محل الدين لوقت وجوب قضائه أو اسم للمكان. قال الشافعي: يجوز إراقة دم الإحصار في الحرم بل حيث حبس. وقال أبو حنيفة: لا يجوز ذلك إلا في الحرم يبعث به ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار. حجة الشافعي أنه صلى الله عليه وسلم أحصر بالحديبية فنحر هناك. وأجيب بأن محصره طرف الحديبية الذي هو أسفل مكة وهو من الحرم. وعن الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هدية في الحرم وقال الواقدي: الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة. ورد بقوله تعالى هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح: 25] فإن هذه الآية صريحة في أنهم نحروا الهدي في غير الحرم. وأيضا قوله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يتناول كل من كان محصرا سواء كان في الحل أو في الحرم. وقوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ يدل على وجوب النحر فيجب أن يكون المحصر قادرا على إراقة الدم حيث أحصر. وأيضا التحلل موقوف على النحر فلو توقف النحر على وصوله إلى الحرم لم يحصل التحلل في الحال وهذا يناقض ما هو المقصود من شرع الحكم وهو تخليص النفس من العدو في الحال. وأيضا لو كان الموصل إلى الحرم هو المحصر فكيف يؤمر بهذا الفعل مع قيام الخوف؟ وإن كان غيره فقد لا يجد ذلك الغير فماذا يفعل؟ حجة أبي حنيفة أن المحل عبارة عن مكان الحل. وقوله حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ يدل على أنه غير بالغ في الحال إلى ذلك المكان. وأيضا هب أن لفظ المحل يشمل الزمان والمكان إلا أن قوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 33] وقوله هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: 95] يزيل احتمال الزمان والبيت نفسه لا يراق فيه الدماء، فتعين أن يكون هو الحرم، وأجيب بأن كل ما وجب على المحرم في ماله من فدية وجزاء وهدي لا يجزىء إلا في الحرم لمساكين أهله إلا إذا عطب الهدي فيذبح في طريقه ويخلى بينه وبين المساكين، وإلا إذا أحصر فإنه ينحر هديه حيث حبس بالدلائل المذكورة. قالوا: الهدية لا تكون هدية إلا إذا بعثها إلى دار المهدي إليه، فالهدي كذلك. وردّ بأن هذا تمسك بالاسم وهو محمول على الأفضل عند القدرة. والمحصر إذا كان عادما للهدي فهل له بدل ينتقل إليه؟ للشافعي فيه قولان: أحدهما لا بدل له ويكون الهدي في ذمته أبدا وبه قال أبو حنيفة لأنه تعالى أوجب له الهدي وما أثبت له بدلا، وعلى هذا فماذا يفعل؟ فيه قولان: أصحهما أنه يتحلل في الحال كما لو صام بدله كيلا تعظم المشقة، والآخر وإليه ميل أبي حنيفة أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 يقيم على إحرامه حتى يجده. والقول الثاني أن له بدلا وهذا أصح وبه قال أحمد قياسا على سائر الدماء الواجبة على المحرم، وعلى هذا فما ذلك البدل؟ الأصح الطعام لأن قيمة الهدي أقرب إليه من الصيام، وإذا لم يرد النص إلا بالهدي فالرجوع إلى الأقرب أولى. ثم الصيام عن كل مدّ يوما. وفي قول صوم المتمتع عشرة أيام. وقيل: صوم الأذى ثلاثة أيام. وبالجملة فالآية دلت على أن المحصرين لا ينبغي لهم أن يحلوا فيحلقوا رؤوسهم إلا بعد تقديم ما استيسر من الهدي كما أنه أمرهم أن لا يناجوا الرسول إلا بعد تقديم الصدقة ومعنى حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ حتى تنحروا هديكم حيث حبستم، أو حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن ينحر فيه أي الحرم. ولكن الأفضل في الحج منى وفي العمرة المروة. ولا بد من نية التحلل عند الذبح لأن الذبح قد يكون للتحلل وقد يكون لغيره، فلا بد من قصد صارف فإن كان مصدودا عن البيت دون أطراف الحرم فهل له أن يذبح في الحل؟ أصح الوجهين عند الشافعي أن له ذلك، وإذا أحصر فتحلل نظر إن كان نسكه تطوعا فلا قضاء عليه وبه قال مالك وأحمد لأن المصدودين مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ألفا وأربعمائة، والذين اعتمروا معه في عمرة القضاء كانوا نفرا يسيرا ولم يأمر الباقين بالقضاء، وقال أبو حنيفة: عليه القضاء. وإن لم يكن نسكه تطوعا نظر إن لم يكن مستقرا عليه كحجة الإسلام فيما بعد السنة الأولى من سني الإمكان وكالنذر والقضاء فهو باق في ذمته كما لو شرع في صلاة ولم يتمها تبقى في ذمته، ومهما أحصر بمرض ونحوه. وقد صححناه بالآية فحكم الهدي ما مر في الإحصار بالعدوّ وإن صححناه بأن كان قد شرط التحلل به إذا مرض فهل يلزمه الهدي للتحلل؟ فإن كان قد شرط التحلل بالهدي فنعم، وإن كان قد شرط التحلل بلا هدي فلا وكذا إن أطلق على الأظهر لمكان الشرط. قوله عز من قائل: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً قيل: إنه مختص بالمحصر. وذلك أنه قبل بلوغ الهدي محله ربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر فالله تعالى أذن له في إزالة ذلك المؤذي بشرط بذل الفدية. والأكثرون على أنه كلام مستأنف في كل محرم لحقه مرض في بدنه فاحتاج إلى علاج أو أذى في رأسه فاضطر إلى الحلق. والنسك العبادة وقرىء بالتخفيف، وقيل: جمع نسيكة وهي الذبيحة. قال ابن الأعرابي: النسك سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة، ثم قيل: للمتعبد «ناسك» لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث. ثم قيل للذبيحة نسك لأنها من أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله، واتفقوا في النسك على أن أقله شاة كما في الأضاحي، وأما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 الصيام والإطعام فليس في الآية ما يدل على كميتهما وكيفيتهما وبماذا يحصل بيانه؟ فيه قولان: أحدهما وعليه أكثر الفقهاء. ومنهم الشافعي وأبو حنيفة أن بيانه في حديث كعب بن عجرة قال: حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة؟ فقلت: لا. قال صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك. فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة وثانيهما عن ابن عباس والحسن الصيام كصيام المتمتع عشرة أيام والإطعام مثل ذلك في القدر. قال العلماء المرض قد يحوج إلى اللباس أو إلى الطيب أو إلى الدهن وفي كل منها نوع استمتاع فألحقوا فدية نحو هذه المحظورات بفدية الحلق لاشتراك الجميع في الترفه. والحاصل أنه يدخل فيه كل محظورات الإحرام سوى الجماع ففيه بدنة ثم بقرة ثم سبع شياه ثم طعام بقيمة البدنة ثم صيام بعدد الأمداد كما يجيء في قوله تعالى فَلا رَفَثَ [البقرة: 197] وسوى الصيد ففيه الجزاء على ما يجيء تفصيله في المائدة. وفي هذه الآية أيضا إضماران أي فحلق فعليه فدية فَإِذا أَمِنْتُمْ إن كان معناه الأمن بعد الخوف قبل التحلل فجواب الشرط وهو فامضوا محذوف. وإن كان معناه إذا لم تحصروا وكنتم في حال أمن وسعة فقوله فَمَنْ تَمَتَّعَ الشرط مع الجزاء جواب الشرط الأول ولا وقف على أَمِنْتُمْ ومعنى التمتع التلذذ. وأصله الطول حبل مانع أي طويل. وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به. وقد عرفت معنى التمتع بالعمرة إلى الحج وهو أن يقدم مكة فيعتمر في أشهر الحج ثم يقيم حلالا بمكة حتى ينشىء منها الحج فيحج من عامه ذلك. والتمتع بهذا الوجه صحيح لا كراهة فيه. وما يروى أن عمر خطب وقال: متعتان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج، ذكر الأئمة أن تلك المتعة هي أن يجمع بين الإحرامين ثم يفسخ الحج إلى العمرة ويتمتع بها إلى الحج. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه في ذلك ثم نسخ. وعن أبي ذر أنه قال: ما كانت متعة الحج إلا لنا خاصة. يعني الركب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم. وكان السبب فيه أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ويعدّونها من أفجر الفجور، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم إبطال ذلك الاعتقاد عليهم بالغ فيه بأن نقلهم في أشهر الحج من الحج إلى العمرة. وهذا سبب لا يشاركهم فيه غيرهم، فلهذا المعنى كان نسخ الحج في أشهر الحج خاصا بهم. ومعنى التمتع بالعمرة إلى الحج أنه يتمتع بمحظورات الإحرام بسبب إتيانه بالعمرة إلى أوان الحج، وقيل: استمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج انتفاعه بالتقرب بها إلى الله قبل الانتفاع بتقربه بالحج ولوجوب الدم على المتمتع شروط منها: أن لا يكون من حاضري المسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 الحرام لقوله تعالى ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ويجيء تمام الكلام فيه عما قريب ومنها أن يحرم بالعمرة من الميقات فإن جاوزه مريدا النسك ثم أحرم بها فإن كان الباقي أقل من مسافة القصر فليس عليه دم التمتع ولكن يلزمه دم الإساءة، وإن كان الباقي مسافة القصر فعليه دمان. ومنها أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، فلو أحرم وفرغ من أعمالها قبل أشهر الحج ثم حج لم يلزمه الهدي لأنه أشبه الإفراد، ولو أحرم بها قبل أشهر الحج وأتى بجميع أفعالها في أشهره فأصح قولي الشافعي أنه لا يلزمه الدم، وبه قال أحمد لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج لتقدم أحد أركان العمرة. ولو سبق الإحرام مع بعض الأعمال قبل أشهر الحج فعدم وجود الدم أولى. وعن مالك أنه مهما حصل التحلل في أشهر الحج وجب الدم. وعند أبي حنيفة إذا أتى بأكثر أعمال العمرة في الأشهر كان متمتعا. ومنها أن يقع الحج والعمرة في سنة واحدة، فلو اعتمر ثم حج في السنة القابلة فلا دم عليه سواء أقام بمكة إلى أن حج أو رجع وعاد لأن الدم إنما يجب إذا زاحم بالعمرة حجة في وقتها وترك الإحرام بحجة من الميقات مع حصوله في وقت الإمكان ولم يوجد. وعن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج وإذا لم يحجوا في عامهم ذلك لم يهدوا. ومنها أن يحرم بالحج من جوف مكة بعد الفراغ من العمرة، فإن عاد إلى ميقاته الذي أنشأ العمرة منه وأحرم بالحج فلا دم عليه لأنه لم يربح ميقاتا. وفي اشتراط نية التمتع وجهان: أصحهما لا تشترط كما لا تشترط نية القران، وهذا لأن الدم منوط بربح أحد السفرين. ولا يختلف ذلك بالنية وعدمها ويخالف اشتراط نية الجمع بين الصلاتين من حيث إن أشهر الحج كما هي وقت الحج فهي وقت العمرة بخلاف وقت الصلاة. ثم إن دم التمتع دم جبران الإساءة حتى لا يجوز له أن يأكل منه، أو دم نسك حتى يجوز أن يأكل. ذهب أبو حنيفة إلى الثاني ومال الشافعي إلى الأول لما روي أن عثمان كان ينهى عن المتعة فقال له علي رضي الله عنه: أعمدت إلى رخصة أثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم للغريب للحاجة فأبطلتها؟ فسمى المتعة رخصة، وهذا دليل النقص. وأيضا التمتع تلذذ وأنه ينافي العبادة لأنها مشقة وتكليف. وأيضا إنه تعالى أوجب الهدي على المتمتع بلا توقيت، ولو كان نسكا كان موقتا. وأيضا للصوم فيه مدخل ودم النسك لا يبدل بالصوم، والكلام في مراتب هذا الهدي كما مرّ وينبغي أن يكون الإبل ثنيا وهو الطاعن في السنة السادسة، وكذا البقر وهو الطاعن في السنة الثالثة، ويجزىء كل من الإبل والبقر عن سبعة شركاء. ولو اقتصر على الغنم فليكن ثني المعز وهو الذي دخل في السنة الثالثة، أو جذع الضأن وهو أيضا في السنة الثانية، يستوي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 هذا الباب الذكر والأنثى ويستحب أن يذبح يوم النحر، ولو ذبح بعد ما أحرم بالحج جاز لأن التمتع قد تحقق فترتب عليه الهدي جبرا له. وكذا قبل الإحرام بالحج وبعد التحلل من العمرة على الأصح، لأنه حق مالي تعلق بسببين وهما الفراغ من العمرة والشروع في الحج. فإذا وجد أحدهما بأن إخراجه كالزكاة والكفارة. وعند أبي حنيفة لا يجوز بناء على أنه نسك كدم الأضحية فيختص بيوم النحر وبه قال مالك وأحمد. فمن لم يجد الهدي وقيس عليه ما إذا لم يجد ما يشتريه به أو بيع بثمن غال، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج. قال الشافعي: أي بعد الإحرام بالحج لأنه تعالى جعل الحج ظرفا للصوم، ولا يصلح سائر أفعال الحج ظرفا له فلا أقل من الإحرام. وأيضا ما قبل الإحرام بالحج ليس وقتا للهدي الذي هو أصل فكذا لبدله، وقال أبو حنيفة، أي في وقت الحج وهو أشهره فجاز أن يصوم بعد الإحرام بالعمرة. وبمثله قال أحمد في رواية، وفي أخرى قال: يجوز بعد التحلل من العمرة، ولا يجوز أن يصوم شيئا منها في يوم النحر ولا في أيام التشريق كما مر في الصوم. والمستحب أن يصوم الأيام الثلاثة قبل يوم عرفة، فإن الأحب للحاج يوم عرفة أن يكون مفطرا كيلا يضعف عن الدعاء وأعمال الحج، ولم يصمه النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة بل يروى أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة. ويحكى عن أبي حنيفة أن الشخص إن كان بحيث لا يضعف فالأولى أن يصوم حيازة للفضيلتين. ويعلم مما ذكرنا أنه يستحب أن يحرم بالحج قبل يوم عرفة بثلاثة أيام ليصوم فيها. وأما الواجد للهدي فالمستحب له أن يحرم يوم التروية بعد الزوال متوجها إلى منى لما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توجهتم إلى منى فأهلوا بالحج» «1» وإذا فاته صوم الأيام الثلاثة في الحج لزمه القضاء عند الشافعي لأنه صوم واجب فلا يسقط بفوات وقته كصوم رمضان، وإذا قضاها لم يلزمه دم خلافا لأحمد. وعند أبي حنيفة يسقط الصوم بالفوات ويستقر الهدي في ذمته وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ للشافعي في المراد من الرجوع قولان: أصحهما الرجوع إلى الأهل والوطن لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال للمتمتعين «من كان معه هدي فليهد ومن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم» والثاني أن المراد منه الفراغ من أعمال الحج وبهذه قال أبو حنيفة وأحمد كأنه بالفراغ رجع عما كان مقبلا عليه من الأعمال. وعلى الأصح لو توطن مكة بعد فراغه من الحج صام بها، وإن لم يتوطنها لم يجز صومه بها ولا في الطريق على الأصح لأنه تقديم العبادة البدنية على وقتها. ثم إذا لم يصم الثلاثة في الحج حتى فرغ ورجع لزمه صوم العشرة عند الشافعي. وهل يجب التفريق في القضاء بين الثلاثة   (1) رواه أحمد في مسنده (3/ 318، 378) بلفظ «فإذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 والسبعة؟ الأصح عند إمام الحرمين وطائفة وبه قال أحمد أنه لا يجب لأن التفريق في الأداء يتعلق بالوقت فلا يبقى حكمه في القضاء كالتفريق في الصلوات المؤداة. والأصح عند أكثر أصحاب الشافعي وجوب التفريق كما في الأداء. ويفارق تفريق الصلوات فإن ذلك التفريق يتعلق بالوقت، وهذا يتعلق بالفعل وهو الحج. والرجوع وما قدر ما يقع به التفريق أصح الأقوال التفريق بأربعة أيام، ومدة إمكان مسيره إلى أهله على العادة الغالبة بناء على أصلين سبقا أحدهما: أن المتمتع ليس له صوم أيام التشريق، والثاني أن المراد بالرجوع الرجوع إلى أهله تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ طعن فيه بعض الملحدين أن هذا من إيضاح الواضحات. فمن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة وأيضا قوله كامِلَةٌ يوهم أن هاهنا عشرة غير كاملة وهو محال، فذكر العلماء من فوائده أن الواو في قوله وَسَبْعَةٍ ليس نصا قاطعا في الجمع بل قد يكون للإباحة بمعنى أو كما في قوله مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [فاطر: 1] وكما في قولك «جالس الحسن وابن سيرين» لو جالسهما جميعا أو واحدا منهما كان ممتثلا ففذلكت نفيا لتوهم الإباحة. وأيضا ففائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا وعلى هذا مدار علم السياقة وكفى به إفادة. وأيضا المعتاد أن البدل أضعف حالا من المبدل كالتيمم من الوضوء، فلعل المراد أن هذا البدل كامل في كونه قائما مقام المبدل وهما في الفضيلة سواء، وذكر العشرة لصحة التوصل به إلى هذا الوصف إذ لو اقتصر على تلك جاز أن يعود إلى الثلاثة أو إلى السبعة. وأيضا قوله تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ يدفع التخصيص الذي يتطرق إلى كثير من العمومات في الشرع ويصرف الكلام إلى التنصيص. وأيضا إن مراتب الأعداد ثلاث: الآحاد والعشرات والمئات. وهذه من وسائطها فكأنه قال: إنما أوجبت هذا العدد لكونه موصوفا بصفة التوسط والكمال. وأيضا التوكيد طريقة مسلوكة في كلام العرب يعرف منه كون المذكور مما يعقد به الهمم، ففيه زيادة توصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها وأيضا هذا الخطاب مع العرب ولم يكونوا أهل حساب فبين الله تعالى بذلك بيانا قاطعا كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال في الشهر هكذا وهكذا وهكذا ثم أشار بيده ثلاث مرات وأمسك إبهامه في الثالثة تنبيها بالإشارة الأولى على الثلاثين، وبالثانية على التسعة والعشرين. وأيضا فيه إزالة الاشتباه والتصحيف الذي يمكن أن يتولد من تشابه سبعة وتسعة في الخط. وأيضا يحتمل أن يراد كاملة في الإجزاء حتى لا يتوهم أنها بسبب التفريق غير مجزئة كما لا يجزىء في كفارات الظهار والقتل ووقاع رمضان إلا الصوم المتتابع. وأيضا يحتمل أن يكون خبرا في معنى الأمر أي فلتكن تلك الصيامات كاملة لتسد الخلل ويكون الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 المأمور به تاما كاملا كما قال وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ. واعلم أن الصوم مضاف إلى الله تعالى في قول النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى «الصوم لي وأنا أجزي به» «1» والحج أيضا مضاف إليه تعالى في الآية وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وكما دل النقل على هذا الاختصاص فالعقل أيضا يدل على ذلك. أما الصوم فلأنه عبادة لا يطلع عليها إلا الله سبحانه وهو مع ذلك شاق على النفس جدا، وأما الحج فلأنه عبادة لا يطلع العقل البتة على وجوه الحكمة فيها وهو مع ذلك شاق جدا لأنه يوجب مفارقة الأهل والولد ويقتضي التباعد عن أكثر اللذات والاستمتاعات، فكل منهما لا يؤتى به إلا لمحض ابتغاء مرضاة الله تعالى. ثم إن هذا الصوم بعضه واقع في زمان الحج فيكون جمعا بين مشقتين، وبعضه واقع بعد الفراغ من الحج وهو انتقال من مشقة إلى مشقة، والأجر على قدر النصب، فلا جرم وصفه الله تعالى بالكمال في باب العبادة والتنكير في اللفظ أيضا يؤيد ذلك زادنا الله اطلاعا على لطائف قرآنه العظيم ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ اختلف العلماء في أن المشار إليه ماذا؟ فقال أبو حنيفة وأصحابه: إنه إشارة إلى التمتع وما ترتب عليه لأنه ليس البعض أولى من البعض فيعود إلى كل ما تقدم فلا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام. وقال الشافعي: بل عودة إلى الأقرب أولى وهو الحكم بوجوب الهدي على المتمتع. وأيضا قوله فَمَنْ تَمَتَّعَ عام يشمل الحرمي والميقاتي والآفاقي. وأيضا إنه تعالى شرع القرآن والمتعة إبانة لنسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم العمرة في أشهر الحج، والنسخ يثبت في حق الناس كافة. ويتفرع على مذهب أبي حنيفة أن من تمتع أو قرن من حاضري المسجد الحرام كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه. وعلى مذهب الشافعي أن يصح تمتعهم وقرانهم ولا يجب عليهم شيء، فإن لزوم الهدي على الآفاقي بسبب أنه أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فيلزمه جبر الخلل بدم. والمكي لا يجب عليه أن يحرم من الميقات فلا خلل في حجة تمتع أو قرن أو أفرد، فلا يلزمه الهدي ولا بد له. ثم اختلفوا في حاضري المسجد الحرام فعن مالك أنهم أهل مكة وأهل ذي طوى. وعن طاوس هم أهل الحرم. وعن الشافعي هم الذين يكونون على أقل من مسافة القصر من مكة، فإن   (1) رواه البخاري في كتاب الصوم باب 2. مسلم في كتاب الصيام حديث 164 النسائي في كتاب الصيام باب 41. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 58. الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده (1/ 446) (2/ 232) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 كانوا على مسافة القصر فليسوا من الحاضرين، وبه قال أحمد. وعن أبي حنيفة أنهم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة. والمواقيت: ذو الحليفة على عشر مراحل من مكة وعلى ميل من المدينة، والجحفة لأهل الشام ومصر والمغرب على خمسين فرسخا من مكة، ويلملم من صوب اليمن وقرن لنجد الحجاز، وذات عرق من صوب المشرق والعراق وخراسان وكل هذه الثلاثة من مكة على مرحلتين. فهذه هي المذاهب وأوفقها للآية. مذهب مالك لأن أهل مكة هم الذين يحضرون المسجد الحرام. إلا أن الشافعي قال: قد يطلق المسجد الحرام على الحرم قال تعالى سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الإسراء: 1] ورسول الله صلى الله عليه وسلم أسري به من الحرم لا من المسجد. وقد يقال: حضر فلان فلانا إذا دنا منه. ومن كان مسكنه دون مسافة القصر فهو قريب نازل منزلة المقيم في نفس مكة. وفي مذهب أبي حنيفة بعد، فإن يؤديّ إلى إخراج القريب من الحاضرين وإدخال البعيد لتفاوت مسافات المواقيت، ثم إن مسافة القصر مرعية من نفس مكة أو من الحرم الأعراف هو الثاني لما قلنا إن المسجد الحرام يراد به جميع الحرم. قال الفراء: ذلك لمن لم يكن معناه ذلك الفرض الذي هو الدم أو الصوم لازم على من لم يكن من أهل مكة كقوله صلى الله عليه وسلم «اشتراطي لهم الولاء» أي عليهم وذكر حضور الأهل والمراد حضور الحرم لأن الغالب على الرجل أنه يسكن حيث أهله ساكنون وَاتَّقُوا اللَّهَ في محافظة حدوده وما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن تهاون بحدوده. قال أبو مسلم: العقاب والمعاقبة سيان، واشتقاقهما من العاقبة كأنه يراد عاقبة فعله السيء كقول القائل «لتذوقن فعلك» . التأويل: حج الخواص حج رب البيت وشهوده وهذه سيرة إبراهيم صلى الله عليه وسلم كما قال إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: 99] ولكنه أحصر في السماء السابعة فلا جرم أهدى بإسماعيل، ولما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وكان ذهابه بالله ما أحصره شيء فقيل له وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وجرى ما جرى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 9، 10] ثم قال لأمته: اسعوا في إتمام صورة الحج بقدر استطاعتكم، وفي الحقيقة بأن تخرجوا وجودكم فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ بأعداء النفس والهوى أو لملال القلب أو لكلال الروح أو باستجلاء الأحوال أو بتمني الآمال فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أعلاها الروح وأوسطها القلب وأدناها النفس يهدي ما كان الإحصار به. وَلا تَحْلِقُوا لا تشتغلوا بغير الله حتى تبلغوا المقصد، فإن عرض مرض في الإرادة أو يعلوه أذى من المزاحمات من غير فترة من نفسه فلم يجد بدا من الإناخة بفناء الرخص، فليجتهد أن يتداركه بالفدية فقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 قيل: من أقبل على الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله، والصيام هو الإمساك عن المشارب والصدقة الخروج عن المعلوم، والنسك ذبح النفس في مقاساته الشدائد فَإِذا أَمِنْتُمْ الإحصار وأقبل الجد الصاعد والزمان المساعد فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ واستراح في الطلب فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ من ترك مشارب الروح والقلب والنفس فَمَنْ لَمْ يَجِدْ لَمْ يَسْتَطِعْ ترك تلك المشارب لعلو شأنها وعظم مكانها فعليه الإمساك عن مشارب القوى الثلاث المدركة للمعاني والمتصرفة فيها وهي الوهم والحافظة والمتخيلة، هذا إذا كان في عالم المعنى، فإذا رجع إلى عالم الصورة أمسك عن القوى السبع مشار بها وهي الحس المشترك والخيال، لأن الأولى مدركة الصور، والثانية معينتها على الحفظ وبعدهما الحواس الخمس الظاهرة تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ هي الحواس الظاهرة والباطنة ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لأن الحاضر في مقام القرب والأنس لا يخاطب ولا يعاتب وإنما يلزم العتب، والطلب للسالك والسائر، فإذا وصل فقد استراح. وَاتَّقُوا أن تسكنوا في فترة أو وقفة أو تركنوا إلى مشرب من هذه المشارب وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ للغافلين عن هذا الخطاب القانعين بذل الحجاب. [سورة البقرة (2) : الآيات 197 الى 203] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) القراآت: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ بالرفع فيهما: أبو عمرو ويعقوب وابن كثير ويزيد. وزاد يزيد وَلا جِدالَ بالرفع. الباقون: بفتح الثلاثة وكذلك يروي القطعي عن أبي زيد من طريق الحسن الهاشمي، وَاتَّقُونِ بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل. وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل بالياء. وَمَنْ تَأَخَّرَ روى هبة الله بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 جعفر عن الأصفهاني عن ورش والشموني وحمزة في الوقف بالتليين. الوقوف: مَعْلُوماتٌ ط فِي الْحَجِّ ط يَعْلَمْهُ اللَّهُ ط التَّقْوى ز للعارض بين الجملتين المتفقتين الْأَلْبابِ هـ مِنْ رَبِّكُمْ ط لأن «إذا» أجيبت بالفاء فكانت شرطا في ابتداء حكم آخر الْحَرامِ ص لعطف المتفقتين هَداكُمْ ج لأن الواو تصلح حالا واستئنافا. الضَّالِّينَ هـ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ج رَحِيمٌ هـ ذِكْراً ط مِنْ خَلاقٍ هـ النَّارِ هـ مِمَّا كَسَبُوا ط الْحِسابِ هـ نصف الجزء. مَعْدُوداتٍ ط لأن الشرط في بيان حكم آخر عَلَيْهِ الأولى ط لابتداء شرط آخر مع العطف عَلَيْهِ الثانية لا لتعليق اللام. اتَّقى ط لاختلاف النظم تُحْشَرُونَ هـ. التفسير: من المعلوم أن الحج ليس نفس الأشهر، فالتقدير أشهر الحج أو وقته أشهر معلومات كقولك «البلد شهران» . أو الحج حج أشهر معلومات أي لا حج إلا فيها خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية من النسيء. وقيل: يمكن أن يقال: جعل الحج نفس الأشهر كما في قولهم «ليل قائم ونهار صائم» واتفق المفسرون على أن شوّالا وذا القعدة من أشهر الحج. واختلفوا في ذي الحجة فعن عروة بن الزبير ومالك كله لأن أقل الجمع ثلاثة، وقد يفعل الإنسان بعد النحر ما يتصل بالحج من رمي الجمار ونحوه. والمرأة إذا حاضت فقد تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى أيام بعد الشهر، من هنا ذهب عروة إلى جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر. وعن أبي حنيفة: عشر ذي الحجة وهو قول ابن عباس وابن عمرو النخعي والشعبي ومجاهد والحسن قالوا: لفظ الجمع يشترك فيما وراء الواحد بدليل قوله تعالى فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: 4] ونزل بعض الشهر منزلة كله كما يقال «رأيتك سنة كذا» وإنما رآه في ساعة منها. ورمي الجمار يفعله الإنسان وقد حل بالحلق والطواف والنحر من إحرامه فكأنه ليس من أعمال الحج. والحائض إذا طاف بعده فهو في حكم القضاء. وإنما قلنا إن يوم النحر من أشهر الحج لأنه وقت لركن من أركان الحج وهو طواف الزيارة. ومن المفسرين من زعم أن يوم الحج الأكبر يوم النحر. وعن الشافعي: التسعة الأولى من ذي الحجة من ليلة النحر، لأن الحج يفوت بطلوع يوم النحر ولا تفوت العبادة مع بقاء وقتها. قيل: إنه تعالى جعل كل الأهلة مواقيت للحج في قوله قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] وفي هذه الآية جعل وقت الحج أشهر معلومات. وأجيب بأن تلك الآية عامة وهذه خاصة والخاص مقدم على العام. وأقول: الميقات علامة الوقت فلولا الأهلة لم يعلم مدخل كل شهر على التعيين. فجميع الأهلة في الإعلام سواء بالنسبة إلى وقت مفروض، فلا منافاة بين كون جميع الأهلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 علامات الحج من حيث إنها تؤذن بما بقي من السنة إلى أوان الحج، وبين كون الأشهر المعلومات وقتا للحج، ومعنى قوله مَعْلُوماتٌ أن الحج إنما يكون في السنة مرة واحدة في أشهر معينة من شهورها ليس كالعمرة التي يؤتى بها في السنة مرارا، وأحالهم في معرفة تلك الأشهر على ما كانوا علموه قبل نزول هذا الشرع. وعلى هذا فهذا الشرع لم يأت على خلاف ما عرفوه وإنما جاء موافقا مقررا له. أو المراد أنها معلومات ببيان الرسول، أو المراد أنها مؤقتة بأوقات معينة لا يجوز تقديمها وتأخيرها كما يفعله أصحاب النسيء. ثم إن الشافعي استدل بالآية على أنه لا يجوز لأحد أن يهل بالحج قبل أشهر الحج، وبه قال أحمد وإسحق. وأيضا الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح قياسا على الصلاة. وأيضا الخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت لأنها أقيمت مقام ركعتين من الظهر حكما، فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة أولى. وأيضا الإحرام لا يبقى صحيحا لأداء الحج إذا ذهب وقت الحج قبل الأداء، فلأن لا ينعقد صحيحا لأداء الحج قبل الوقت أولى لأن البقاء أسهل من الابتداء. وعن أبي حنيفة ومالك والثوري: جواز الإحرام في جميع السنة لقوله تعالى قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] والجواب ما مر. قالوا: الإحرام التزام الحج فجاز تقدمه قبل الوقت كالنذر. والجواب الفرق بين النذر والإحرام، فإن الوقت معتبر للأداء ولا اتصال للنذر بالأداء بدليل أن الأداء لا يتصور إلا بعقد مبتدأ، وأما الإحرام مع كونه التزاما فهو أيضا شروع في الأداء وعقد عليه فلا جرم افتقر إلى الوقت. قالوا: اشتهر عن أكابر الصحابة أنهم قالوا: من إتمام الحج أن يحرم المرء من دويرة أهله. وقد تبعد داره بعدا شديدا يحتاج إلى أن يحرم قبل شوال. والجواب أن النص لا يعارضه الأثر على أنه يمكن تخصيص الأثر في حق من لا يكون داره سحيقا فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فمن ألزم نفسه في هذه الشهور أن يحج. وبماذا يحصل هذا الإلزام المسمى بالإحرام لأنه يحرم عليه حينئذ أشياء كانت حلالا له. قال الشافعي: إنه ينعقد الإحرام بمجرد النية من غير حاجة إلى التلبية. نعم إنها سنة عند النية وبه قال أحمد ومالك لقوله تعالى فَمَنْ فَرَضَ وفرض الحج على النية أدل منه على التلبية أو سوق الهدي. وفرض الحج موجب لانعقاد الحج بدليل قوله فَلا رَفَثَ فوجب أن تكون النية كافية في انعقاد الحج. وأيضا قال صلى الله عليه وسلم «لكل امرئ ما نوى» وأيضا إنه عبادة ليس في آخرها ولا في أثنائها نطق واجب، فكذلك في ابتدائها كالطهارة والصوم. وعند أبي حنيفة: التلبية شرط انعقاد الإحرام لإطباق الناس على الاعتناء به عند الإحرام إلا أن سوق الهدي وتقليده والتوجه معه يقوم مقام التلبية. وعن ابن عمر أنه قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 إذا قلد أو أشعر فقد أحرم. وعن ابن عباس: إذا قلد الهدي وصاحبه يريد العمرة أو الحج فقد أحرم. وروى أبو منصور الماوردي في تفسيره عن عائشة أنها قالت: لا يحرم إلا من أهل أو لبى. وأيضا إن الحج عبادة لها تحليل وتحريم فلا يشرع فيها بنفس النية كالصلاة. وصورة التلبية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، ولا تكره الزيادة على هذا. روي عن ابن عمر أنه كان يزيد فيها. لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك لبيك والرغبى إليك والعمل. فإن رأى شيئا يعجبه قال: لبيك إن العيش عيش الآخرة. ثبت ذلك عن رسول صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات أنه قال في تلبيته: لبيك حقا تعبدا ورقا. قال الشافعي في أصح قوليه: الأفضل أن ينوي ويلبي حين تنبعث به راحلته إن كان راكبا، وحين يتوجه إلى الطريق إن كان ماشيا لما روي أنه صلى الله عليه وسلم لم يهل حتى انبعثت به دابته، قال إمام الحرمين: ليس المراد من انبعاث الدابة ثورانها، بل المراد استواؤها في صوب مكة. فإذا استوت به راحلته متوجها إلى الطريق نوى: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني ولبى. وإن كان يريد القرآن نوى الحج والعمرة، وإن كان يريد العمرة نوى العمرة ولبى. والقول الثاني وبه قال أحمد ومالك وأبو حنيفة أن الأفضل أن ينوي ويلبي كما تحلل من الصلاة أي من ركعتي الإحرام وهو قاعد. ثم يأخذ في السير لرواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم، وتكثير التلبية في دوام إلا حرام مستحب قائما كان أو قاعدا راكبا أو ماشيا حتى في حالة الجنابة والحيض لأنه ذكر لا إعجاز فيه فأشبه التسبيح، قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت: افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت. قوله عز من قائل فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ من قرأ بفتح الثلاثة أو برفعها فلا إشكال، ومن قرأ برفع الأولين وفتح الأخير فقيل: لأن الأولين محمولان على معنى النهي كأنه قيل: فلا يكونن رفث ولا فسوق، ثم أخبر بانتفاء الجدال أي لا شك ولا خلاف في الحج. وذلك أن قريشا كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام، وسائر العرب يقفون بعرفة، وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء، فرد إلى وقت واحد، ورد الوقوف إلى عرفة فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج، وربما يستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى الله عليه وسلم «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كهيئته يوم ولدته أمه» «1» وإنه لم يذكر الجدال. وقيل: الاهتمام بنفي الجدال   (1) رواه البخاري في كتاب الحج باب 4. مسلم في كتاب الحج حديث 438. الترمذي في كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 أشد من الاهتمام بنفي الرفث والفسوق فلذلك قرىء كذلك. أما الأوّل فلأن الرفث عبارة عن قضاء الشهوة، والجدال مشتمل على ذلك لأن المجادل يشتهي تمشية قوله، والفسوق عبارة عن مخالفة أمر الله، والمجادل لا ينقاد للحق. وكثيرا ما يقدم على الإيذاء والإيحاش المؤدي إلى العداوة والبغضاء، فدل على أن الجدال مشتمل على جميع أنواع القبح. وأما أن القراءة تفيد ذلك فلأن الفتح يقتضي نفي الماهية، وانتفاؤها يوجب انتفاء جميع أفرادها. وأما الرفع فلا يوجب انتفاء جميع أفراد الماهية بل يجوّز، فيكون الفتح أدل على عموم النفي. أما تفسير الرفث فعن ابن عباس هو الجماع، وله في العمرة والحج نتائج منها. فساد النسك يروى ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وغيرهم من الصحابة ، واتفق الفقهاء عليه بعدهم، وإنما يفسد الحج بالجماع إذا وقع قبل التحللين لقوّة الإحرام. ولا فرق بين أن يقع قبل الوقوف بعرفة أو بعده خلافا لأبي حنيفة حيث قال: لا يفسد بالجماع بعد الوقوف ولكن يلزمه الفدية. وأما الجماع بين التحللين فلا أثر له في الفساد على الصحيح. وعن مالك وأحمد أنه يفسد ما بقي شيء من إحرامه، وتفسد العمرة أيضا بالجماع قبل حصول التحلل. ووقت التحلل عنها بعد الفراغ من الحلق بناء على أنه نسك وهو الأصح، فتفسد العمرة بالجماع قبل الحلق، واعلم أن للعمرة تحللا واحدا وذلك إذا طاف وسعى وحلق، وللحج تحللان وذلك أنه إذا أتى باثنين من الرمي والنحر والحلق والطواف أعني الرمي والحلق، أو الرمي والطواف، أو الحلق والطواف، حصل التحلل الأول وهو إباحة جميع المحظورات من التطيب والقلم ولبس المخيط وقتل الصيد وعقد النكاح إلا الجماع فإنه لا يحل إلى الإتيان بالأمر الثالث، فإذا أتى به حل الجماع أيضا وهو المراد بالتحلل الثاني قال الأئمة: الحج يطول زمانه وتكثر أعماله بخلاف العمرة فأبيح بعض محظوراته دفعة وبعضها أخرى. قال صلى الله عليه وسلم «إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب واللباس وكل شيء إلا النساء» واللواط وإتيان البهيمة في الإفساد كالوطء في الفرج وبه قال أحمد خلافا لأبي حنيفة فيهما ولمالك في إتيان البهيمة، ثم سائر العبادات لا حرمة لها بعد الفساد ويصير الشخص بالفساد خارجا منها، لكن الحج والعمرة وإن فسدا يجب المضي فيهما وذلك بإتمام ما كان يفعله لولا عروض الفساد روي عن عمر وعلي وابن عباس وغيرهم من أفسد حجه مضى في فاسده وقضى من قابل. ومن نتائج الفساد الكفارة يستوي فيها الحج والعمرة. وخصالها خمس على الترتيب بدنة إن وجدها لأن   الحج باب 2. النسائي في كتاب الحج باب 4. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 3. الدارمي في كتاب المناسك باب 7. أحمد في مسنده (2/ 229، 410) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 الصحابة نصوا على البدنة وإلا فبقرة وإلا فسبع من الغنم وإلا قومت البدنة دراهم والدراهم طعاما فإن لم يجد الطعام صام عن كل مد يوما. ومن النتائج القضاء باتفاق لما روينا عن كبار الصحابة وقضى من قابل، سواء كان المقضي عنه فرضا أو تطوعا فإن القضاء واجب، وأصح الوجهين في القضاء أنه على الفور لا على التراخي، لأنه لزم وتضيق بالشروع ويدل عليه ظاهر قول الصحابة و «قضى من قابل» . وكذا الكلام فيمن ترك الصوم أو الصلاة بعدوان على الأشبه، لأن جواز التأخير نوع ترفيه وتخفيف والمتعدي لا يستحق ذلك. ولو كانت المرأة محرمة نظر إن جامعها وهي نائمة أو مكرهة لم يفسد حجها وإلا فسد، ولكن لا يجب على أصح القولين إلا بدنة واحدة عنهما جميعا. وإذا أفسد حجه بالجماع ثم جامع ثانيا فإن لم يفد عن الأول لزم بدنة أخرى. وإن فدى لم يلزم إلا شاة. وعن الحسن: الرفث كل ما يتعلق بالجماع، فليس للمحرم التقبيل بالشهوة ولا المباشرة فيما دون الفرج. فلو باشر شيئا منها عمدا فالفدية. روي عن علي وابن عباس أنهما أوجبا بالقبلة شاة وإن كان ناسيا لم يلزمه شيء ولا يفسد شيء من مقدمات الجماع الحج ولا يوجب البدنة بحال سواء أنزل أو لم ينزل، وبه قال أبو حنيفة، وعند مالك يفسد الحج إذا أنزل وهو أظهر الروايتين عن أحمد. وقيل: الرفث باللسان ذكر المجامعة وما يتعلق بها. والرفث باليد اللمس والغمز، والرفث بالفرج الجماع. وقيل: الرفث هو قول الخنا والفحش لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه فليقل إني صائم» «1» وعن أبي عبيدة: الرفث الإفحاش وعنه الرفث اللغو في الكلام. وأما الفسوق فهو الخروج عن الطاعة وحدود الشريعة فيشمل كل المعاصي قال تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50] وقيل: هو التنابز بالألقاب والسباب قال تعالى وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وقال صلى الله عليه وسلم «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» «2» وقيل الإيذاء والإيحاش وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [البقرة: 282] وعن ابن زيد: هو الذبح للأصنام وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام: 121] وقيل: الرفث هو الجماع ومقدماته مع الحليلة والفسوق ذلك مع   (1) رواه البخاري في كتاب الصوم باب 2، مسلم في كتاب الصيام حديث 160، 163 أبو داود في كتاب الصوم باب 25. النسائي في كتاب الصيام باب 42. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 21. الموطأ في كتاب الصيام حديث 57. (2) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 36. مسلم في كتاب الإيمان حديث 116. الترمذي في كتاب البر باب 51. النسائي في كتاب التحريم باب 27. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 الأجنبية. وأما الجدال فإنه فعال من المجادلة وأصله من الجدل والفتل كأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه. واختلف المفسرون فيه. فعن الحسن: هو الجدال الذي يفضي إلى السباب والتكذيب والتجهيل، وإنه واجب الاجتناب في كل حال إلا أنه مع الرفقاء وفي الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة، وقال محمد بن كعب القرظي: إن قريشا كانوا إذا اجتمعوا بمنى قال بعضهم: حجنا أتم. وقال آخرون: بل حجنا أتم. وقال آخرون: بل حجنا أتم. فنهاهم الله عن ذلك. وقال مالك في الموطأ: الجدال في الحج أن قريشا كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بقزح وإنه جبل هناك، وكان غيرهم يقفون بعرفات، وكل من الفريقين يقول: نحن أصوب. وقال القاسم بن محمد: كانوا يجعلون الشهور على العدد فيختلفون في يوم النحر بسبب ذلك. فبعضهم يقول هذا يوم عيد، ويقول آخرون بل غدا فكأنه قيل لهم: قد بينا لكم أن الأهلة هي مواقيت الحج فاستقيموا على ذلك ولا تجادلوا فيه. قال القفال: ويدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فشق ذلك عليهم وقالوا: نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا. فقال صلى الله عليه وسلم «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة» فتركوا الجدال حينئذ. وقال عبد الرحمن بن زيد: جدالهم في الحج اختلافهم في أن أيهم المصيب مقام إبراهيم. وقيل: إنه النسيء نهوا عن ذلك فإن الزمان قد عاد إلى ما كان عليه الحج في وقت إبراهيم صلى الله عليه وسلم، قال القاضي أبو بكر الباقلاني: لو حمل النفي في الألفاظ الثلاثة على الخبر وجب أن يحمل الرفث على الجماع، والفسوق على الزنا، والجدال على الشك في الحج، ليصح خبر الله تعالى بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج المعتبر. وإن حملنا الكلام على النهي صح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش، وبالفسوق جميع أنواعه، وبالجدال جميع أصنافه، فعلى هذا يكون في الآية بعث على الأخلاق الحميدة والآداب الحسنة. وبالحقيقة لا رفث نهي عن طاعة القوّة الشهوية التي توجب الانهماك في الفجور، ولا فسوق إشارة إلى قهر القوّة الغضبية الداعية إلى التمرد والاستعلاء، ولا جدال رمز إلى تسخير القوّة الوهمية التي تحمل الإنسان على الخلاف في ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحكامه، فمنه تنشأ الآراء المتخالفة والأهواء المتصادمة والعقائد الفاسدة والمذاهب الباطلة. واعلم أن الجدال ليس منهيا عنه بجميع أقسامه وإنما المذموم منه هو الذي منشأه صرف العصبية ومحض المراء لتنفيذ الآراء الزائفة وتحصيل الأعراض الزائلة والأغراض الفارغة، وأما الذب عن الدين القويم والدعاء إلى الصراط المستقيم وإلزام الخصم الألد وإفحام المعاند اللجوج بمقدمات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 مشهورة وآراء محمودة حتى يستقر الحق في مركزه ويضمحل صولة الباطل ويركد ريحه فمأمور به في قوله عز من قائل وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] وإنه إحدى شعب البيان وقد يكون أنجع من قاطعة البرهان وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ لم يتعرض لمقابل الخير وإن كان عالما به أيضا لنكتة هي أني إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته، وإذا علمت منك ضده أخفيته وسترته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك هكذا في الدنيا فكيف تكون في العقبى؟ وفيه ترغيب للمطيعين وإيذان بأنهم من المحسنين «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «1» والعبد الصالح إذا علم اطلاع مولاه على سرائره وخفاياه اجتهد في أداء ما أمره به، واحترز عن ارتكاب ما نهاه عنه، ومن غاية عنايته حثهم على الخير بعد ما نهاهم عن الشر ليستعملوا مكان الرفث التفث، وبدل الفسوق رعاية الحقوق، ومقام الجدال والشقاق الوفاق مع الرفاق تتميما لمكارم الأخلاق وتنبيها على شرف النفس وطيب الأعراق بدليل قوله وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى أي اجعلوا زادكم إلى الآخرة اتقاء القبائح فإن ذلك خير الزاد. وليس السفر من الدنيا أهون من السفر في الدنيا، وهذا لا بد له من زاد فكذا ذلك. بل يزداد فإن زاد الدنيا يخلصك عن عذاب منقطع موهوم، وزاد الآخرة ينجيك من عذاب أبديّ معلوم. زاد الدنيا يوصلك إلى متاع الغرور، وزاد الآخرة يبلغك دار السرور. وزاد الدنيا سبب حصول حظوظ النفس، وزاد الآخرة سبب الوصول إلى عتبة الجلال والقدس. إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزوّدا ندمت على أن لا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد كما كان أرصدا وقيل: نزلت في ناس من اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون: نحن متوكلون. ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموهم وغصبوهم فأمرهم الله سبحانه أن يتزوّدوا ما يتبلغون به فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم. وفيه دليل على أن القادر على استصحاب الزاد في السفر، إذا لم يستصحب عصى الله في ذلك، ففيه إبطال حكمة الله تعالى ورفع الوسائط والروابط التي عليها تدور المناجح وبها تنتظم المصالح. روي أن بعض العارفين زهد فبلغ من زهده أن فارق الناس وخرج من الأمصار وقال: لا أسأل أحدا شيئا حتى يأتيني رزقي. فأخذ يسيح فأقام في سفح جبل سبعا لم يأته شيء   (1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 31 باب 2. مسلم في كتاب الإيمان حديث 57. أبو داود في كتاب السنة باب 16. الترمذي في كتاب الإيمان باب 4. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 9. أحمد في مسنده (1/ 27، 51) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 حتى كاد يتلف. فقال: يا رب إن أحببتني فأتني برزقي الذي قسمت لي وإلا فاقبضني إليك. فألهمه الله تعالى في قلبه: وعزتي وجلالي لا أرزقك حتى تدخل الأمصار وتقيم بين الناس فدخل المدينة وأقام بين ظهراني الناس فجاء هذا بطعام وهذا بشراب فأكل وشرب فأوجس في نفسه من ذلك، فسمع أردت أن تبطل حكمته بزهدك في الدنيا، أما علمت أنه يرزق العباد بأيدي العباد أحب إليه من أن يرزقهم بيد القدرة. وقيل: في الآية حذف أي تزودوا لعاجل سفركم وللآجل فإن خير الزاد التقوى واتقون وخافوا عقابي. وفيه تنبيه على كمال عظمته كقوله «أنا أبو النجم وشعري شعري» يا أُولِي الْأَلْبابِ يعني أن قضية العقل تقوى الله ومن لم يتقه فلا لب له في التحقيق. ولما منع الناس عن الجدال اختلج في قلب المكلف شبهة أن التجارة لكونها مفضية في الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها يجب أن تكون منهية. وأيضا أنها كانت محرمة في الجاهلية وقت الحج وأنه أمر غير مستحسن ظاهرا لأن المشتغل بخدمة الله تعالى يجب أن لا يتلوث بالأطماع الدنيوية. وأيضا كان من الممكن أن تقاس التجارة على سائر المباحات من الطيب والمباشرة والاصطياد في كونها محظورة بالإحرام فلدفع هذه الشبهة نزلت. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا أي في أن تطلبوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ عطاء منه وتفضلا أو زيادة في الرزق بسبب التجارة والربح بها كقوله وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل: 20] عن أبي مسلم: أنه حمل الآية على ما بعد الحج. قال: والتقدير واتقون في كل أفعال الحج، ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح أن تبتغوا كقوله فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10] وزيف بأن حمل الآية على موضع الشبهة أولى من حملها لا على موضع الشبهة، ومحل الاشتباه هو التجارة في زمان الحج، وأما بعد الفراغ فالحل معلوم، وقياس الحج على الصلاة فاسد، فإن الصلاة أعمالها متصلة فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها، وأعمال الحج متفرقة تحتمل التجارة في خلالها. وأيضا الفاء في قوله فَإِذا أَفَضْتُمْ ظاهرة في أن هذه الإفاضة حصلت عقيب ابتغاء الفضل وذلك يدل على أن المراد وقوع التجارة في زمان الحج ويؤيده قراءة ابن عباس فضلا من ربكم في مواسم الحج وقال ابن عباس في سبب نزول الآية كانوا يتأثمون أن يتجروا أيام الحج وإذا دخل العشر بالغوا في الكف عن البيع والشراء فلم يقم لهم سوق، ويسمون من يخرج للتجارة الداج ويقولون: هؤلاء الداج وليسوا بالحاج ومعنى الداج الأعوان والمكارون من الدجيج وهو الدبيب في السير. قال ابن السكيت: لا يطلق الدجيج إلا إذا كان جماعة ولا يقال ذلك للواحد. وقيل: كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يتجرون فيها في أيام الموسم، وكانت معايشهم منها. فلما جاء الإسلام تأثموا فرفع عنهم الحرج. ومن المعلوم أنه إنما يباح ما لم يشغل عن العبادة. وعن ابن عمر أن رجلا قال له: إنا قوم نكرى في هذا الوجه يعني في طريق الحج، وإن قوما يزعمون أن لا حج لنا. فقال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألت عنه فلم يرد عليه حتى نزل لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فدعا به فقال: أنتم حجاج. وعن عمر أنه قيل له: هل كنتم تكرهون التجارة في الحج؟ فقال: وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج؟! وعن جعفر الصادق رضي الله عنه: أن ابتغاء الفضل هاهنا طلب أعمال أخر زائدة على أعمال الحج موجبة لفضل الله تعالى ورحمته كإعانة الضعيف وإغاثة الملهوف وإطعام الجائع وإرواء العطشان. واعلم أن الفضل ورد في القرآن بمعان، منها ما يتعلق بالمصالح الدنيوية من المال والجاه والغذاء واللباس وهو المسمى بالرزق فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10] ومنها ما يتعلق بالمصالح الأخروية وهو الفضل والثواب والجنة والرحمة تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ [الفتح: 29] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ [النساء: 83] ومنها ما يتعلق بمواهب القربة ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ [الحديد: 21] وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء: 113] ورفع الجناح قد يستعمل في الواجب والمندوب مثل ما يستعمل في المباح كما مر في قوله فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة: 158] . فَإِذا أَفَضْتُمْ أي دفعتم بكثرة ومنه إفاضة الماء وهو صبه بكثرة. التقدير: أفضتم أنفسكم. فترك ذكر المفعول كما ترك في قولهم دفعوا من موضع كذا وصبوا. وعرفات جمع عرفة وكلاهما علم للموقف كأن كل قطعة من تلك الأرض عرفة فسمي مجموع تلك القطعة بعرفات كما قيل في باب الصفة «ثوب أخلاق» و «برمة أعشار» ثم سئل: هلا منعت الصرف وفيها سببان التعريف والتأنيث؟ فقيل: إنه لم يبق علما بعد ما جمع ثم جعل علما لمجموع القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في الصرف. وقيل: إن هذا التنوين تنوين المقابلة في نحو «مسلمات» ومن ذهب إلى أن تنوين المقابلة لا وجود له كجار الله وكثير من المتأخرين. وأن هذا التنوين تنوين الصرف. قالوا: إنما لم يسقط لأن التأنيث في نحو «مسلمات وعرفات» ضعيف. فإن التاء التي هي لمحض التأنيث سقطت، والباقية علامة لجمع المؤنث، وزيف بأن عرفات مؤنث. وإن قلنا إنه لا علامة تأنيث فيها لا متمحضة للتأنيث ولا مشتركة لأنه لا يعود الضمير إليها إلا مؤنثا تقول «هذه عرفات مباركا فيها» ولا يجوز «مباركا فيه» إلا بتأويل بعيد كما في قوله «ولا أرض أبقل إبقالها» فتأنيثها لا يقصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 عن تأنيث مصر الذي هو بتأويل البقعة. وقال بعض المتأخرين: الأولى أن يقال: إن التنوين للصرف وإنما لم يسقط في نحو «عرفات» لأنه لو سقط لتبعه الكسر في السقوط وتبع النصب وهو خلاف ما عليه الجمع السالم، إذ الكسر فيه متبوع لا تابع فهو فيه كالتنوين في غير المنصرف للضرورة لم يحذفا لمانع. هذا مع أنه جوز المبرد والزجاج هاهنا مع العلمية حذف التنوين وإبقاء الكسر كبيت امرئ القيس في رواية. تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي وبعضهم يفتح التاء في مثله مع حذف التنوين كسائر ما لا ينصرف. فعلى هذين الوجهين التنوين للظرف بلا خلاف، والأشهر بقاء التنوين في مثله مع العلمية. وقيل: التنوين عوض من منع الفتحة. واعلم أن اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بيوم التروية، واليوم التاسع منه يسمى بيوم عرفة. وعرفة وعرفات هي الموضع المخصوص. فقيل: التروية التفكر. وسببه أن آدم عليه السلام لما أمر ببناء البيت فبناء تفكر فقال: يا رب إن لكل عامل أجرا فما أجري على هذا العمل؟ قال: إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك. قال: يا رب زدني قال: أغفر لأولادك إذا طافوا به. قال: زدني، فقال: أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك. قال: حسبي يا رب حسبي. وقيل: ان إبراهيم عليه السلام رأى في منامه ليلة التروية كأنه يذبح ابنه فأصبح متفكرا هل هذا من الله أو من الشيطان، فلما رآه ليلة عرفة يؤمر به أصبح فقال: عرفت يا رب أنه من عندك. وقيل: إن أهل مكة يخرجون يوم التروية إلى منى فيروّون في الأدعية التي يذكرونها في الغد بعرفات. وقيل: التروية الإرواء فإن أهل مكة كانوا يجمعون الماء للحجيج الذي يقصدونهم من الآفاق فيتسعون في الماء بعد ما تعبوا في الطريق من قلة الماء، أو لأنهم يتزوّدون الماء إلى عرفة، أو لأن المذنبين كالعطاش وردوا بحار الرحمة فشربوا منها حتى رووا. أما يوم عرفة فقيل: إنه من المعرفة لأن آدم وحوّاء عليهما السلام التقيا بعرفة فعرف أحدهما صاحبه، عن ابن عباس أو لأن جبريل عليه السلام علم آدم مناسك الحج فلما وقف بعرفات قال له: أعرفت؟ قال: نعم. أو لأن إبراهيم عليه السلام عرفها حين رآها بما تقدم من النعت والصفة. عن علي عليه السلام وابن عباس وعطاء والسدي. أو لأن جبريل عرف بها إبراهيم المناسك وقد مر في قوله وَأَرِنا مَناسِكَنا [البقرة: 128] أو لأن إبراهيم وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة ورجع إلى الشام ولم يتلاقيا سنين ثم التقيا يوما بعرفات، وقد سبقت القصة في بناء البيت في قوله وَإِذْ يَرْفَعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ [البقرة: 127] ولما ذكرنا آنفا من مقام إبراهيم أو لأن الحاج يتعارفون فيه إذا وقفوا، أو لأنه تعالى يتعرف فيه إلى الحاج بالمغفرة والرحمة. وقيل: اشتقاقها من الاعتراف لأن الناس يعترفون هنالك للحق بالربوبية والجلال، ولأنفسهم بالفقر واختلاف الحال. يقال: إن آدم عليه السلام وحوّاء لما وقفا بعرفات قالا ربنا ظلمنا أنفسنا، فقال الله سبحانه: الآن عرفتما أنفسكما. وقيل: من العرف وهو الرائحة الطيبة لأن المذنبين يكتسبون بالمغفرة روائح طيبة عند الله مقام ضدها. قال صلى الله عليه وسلم «خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك» «1» وقد يسمى يوم عرفة يوم إياس الكفار من الإسلام ويوم إكمال الدين ويوم إتمام النعمة ويوم الرضوان أخذا من قوله تعالى في المائدة الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] عن عمر وابن عباس: نزلت هذه الآية عشية يوم عرفة وكان يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة في موقف إبراهيم عليه السلام في حجة الوداع وقد اضمحل الكفر وهدم منار الجاهلية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو يعلم الناس مالهم في هذه الآية لقرت أعينهم. قال يهودي لعمر: لو أن هذه الآية أنزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا فقال عمر: أما نحن فجعلناه عيدين. وكان ذلك يوم عرفة ويوم جمعة يوم صلة الواصلين الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] يوم قطيعة القاطعين أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة: 3] يوم إقالة عثرة النادمين وقبول توبة التائبين رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] يوم وفد الوافدين في الخبر «الحاج وفد الله والحاج زوّار الله وحق على المزور الكريم أن يكرم زائره» يوم الحج الأكبر وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ [التوبة: 3] يوم خص صومه بكثرة الثواب قال صلى الله عليه وسلم «صوم يوم التروية كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين» وقال «من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه، ومن صام يوم عرفة أعطاه الله مثل ثواب عيسى بن مريم» أقسم الله تعالى به في قوله عز من قائل وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر: 3] عن ابن عباس: الشفع يوم التروية وعرفة، والوتر يوم النحر يوم خص بكثرة الرحمة وسعة المغفرة. وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبيدا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو يتجلى ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء اشهدوا   (1) رواه البخاري في كتاب الصوم باب 3، 9. مسلم في كتاب الصيام حديث 162- 164 الترمذي في كتاب الصوم باب 54. النسائي في كتاب الصيام باب 41. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 1. الدارمي في كتاب الصوم باب 50. الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 ملائكتي أني قد غفرت لهم» ولا ضير أن نشير هاهنا إلى أعمال الحج إشارة خفيفة. اعلم أنه من دخل مكة محرما في ذي الحجة أو قبله فإن كان مفردا أو قارنا طاف طواف القدوم وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات، وإن كان متمتعا طاف وسعى وحلق وتحلل من عمرته وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفات، وحينئذ يحرم من جوف مكة بالحج ويخرج، وكذلك من أراد الحج من أهل مكة. والسنة للإمام أن يخطب بمكة اليوم السابع من ذي الحجة بعد ما صلى الظهر خطبة واحدة يأمر الناس فيها بالذهاب غدا بعد أن يصلوا الصبح إلى منى، ويعلمهم تلك الأعمال. ثم إن القوم يذهبون يوم التروية إلى منى بحيث يوافون الظهر بمنى ويصلون بها مع الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح من يوم عرفة، ثم إذا طلعت الشمس على ثبير توجهوا إلى عرفات، فإذا دنوا منها فالسنة أن لا يدخلوها بل تضرب قبة الإمام بنمرة. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث حتى طلعت الشمس ثم ركب وأمر بقبة من شعر أن تضرب له بنمرة فنزل بها. فإذا زالت الشمس خطب الإمام خطبتين يبين لهم مناسك الحج ويحرضهم على إكثار الدعاء والتهليل بالموقف، وبعد الفراغ من الخطبة الأولى جلس ثم قام وافتتح الخطبة الثانية والمؤذنون يأخذون في الأذان معه. ويخفف بحيث يكون فراغه منها مع فراغ المؤذنين من الأذان، ثم ينزل فيقيم المؤذنون فيصلي بهم الظهر، ثم يقيمون في الحال فيصلي. بهم العصر، وهذا الجمع متفق عليه. ثم بعد الفراغ من الصلاة يتوجهون إلى عرفات فيقفون عند الصخرات لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف هناك، وإذا وقفوا استقبلوا القبلة ويذكرون الله تعالى ويدعونه إلى غروب الشمس. والوقوف ركن لا يدرك الحج إلا به، ومن فاته ذلك فقد فاته الحج لقوله صلى الله عليه وسلم «الحج عرفة» فمن فاته عرفة فقد فاته الحج. وقد يستدل بالآية أيضا على ذلك لأنها دلت على ذكر الله عند المشعر الحرام عقيب الإفاضة من عرفات. والإفاضة من عرفات لا تتصور إلا بعد الحصول بعرفات. وجمهور الفقهاء على أن الوقوف بالمشعر الحرام ليس بركن لأنه تعالى أمر بالذكر عنده، فالوقوف به تبع لا أصل بخلاف الوقوف بعرفة لأنه جعله أصلا حيث لم يقل فإذا أفضتم عن الذكر بعرفات. ووقت الوقوف يدخل بزوال الشمس يوم عرفة ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر وذلك نصف يوم وليلة كاملة، وإذا حضر الحاج هناك في هذا الوقت لحظة واحدة من ليل أو نهار كفى. وقال أحمد: وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر. وإذا غربت الشمس دفع الإمام من عرفات وأخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة. قيل: سمي بها لأنهم يقربون فيها من منى والازدلاف القرب. وقيل: لأن الناس يجتمعون بها، والازدلاف الاجتماع. وقيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 لأنهم يزدلفون إلى الله أي يتقربون بالوقوف فيها. ويقال: للمزدلفة جمع لأنه يجمع فيها بين صلاتي المغرب والعشاء عن قتادة: وقيل: لأن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها أي دنا منها. ثم إذا أتى الإمام المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء بإقامتين. ثم يبيتون بها فإن لم يبت بها فعليه دم شاة. فإذا طلع الفجر صلوا الصبح بغلس. والتغليس بالفجر هاهنا أشد استحبابا منه في غيرها وهو متفق عليه. فإذا صلوا الصبح أخذوا منها الحصى للرمي، يأخذ كل إنسان سبعين حصاة ثم يذهبون إلى المشعر الحرام، وهو جبل يقول له قزح فيرقى فوقه إن أمكنه أو وقف بالقرب منه إن أمكنه، ويحمد الله ويهلله ويكبره، ولا يزال كذلك حتى يسفر جدا، ثم يدفع قبل طلع الشمس. ويكفي المرور كما في عرفة ثم يذهبون منه إلى وادي محسر، فإذا بلغوا بطن محسر فمن كان راكبا يحرك دابته، ومن كان ماشيا يسعى سعيا شديدا قدر رمية حجر. فإذا أتى منى رمى جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات ويقطع التلبية إذا رمى، ثم بعد ما رمى جمرة العقبة ذبح الهدي إن كان معه هدي وذلك سنة لو تركه لا شيء عليه لأنه ربما لا يكون معه هدي. ثم بعد ما ذبح الهدي يحلق رأسه أو يقصر، ثم بعد الحلق أتى مكة ويطوف بالبيت طواف الإفاضة وهو الركن ويصلي ركعتي الطواف ويسعى بين الصفا والمروة، ثم بعد ذلك يعود إلى منى في بقية يوم النحر، وعليهم البيتوتة بمنى ليالي التشريق لأجل الرمي. واعلم أن من مكة إلى منى فرسخين، ومن منى إلى عرفات فرسخين، ومزدلفة متوسطة بين منى وعرفات منها إلى كل واحد منهما فرسخ، ولا يقفون بها في سيرهم من منى إلى عرفات. والحاصل أن أعمال الحج يوم النحر إلى أن يعود إلى منى أربعة: رمي جمرة العقبة والذبح والحلق والتقصير والطواف طواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة أيضا لأنهم يأتون من منى زائرين للبيت ويعودون في الحال. والترتيب في الأعمال الأربعة على النسق المذكور مسنون وليس بواجب. أما أنه مسنون فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعلها، وأما أنه ليس بواجب فلما روي عن عبد الله بن عمرو قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى للناس يسألونه فجاء رجل فقال: يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي. قال: ارم ولا حرج. وأتاه آخر فقال: إني ذبحت قبل أن أرمي قال: ارم ولا حرج. وأتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي فقال: ارم ولا حرج، فما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال: افعل ولا حرج. وعن مالك وأحمد وأبي حنيفة أن الترتيب بينها واجب ولو تركه فعليه دم على تفصيل ليس هاهنا موضع بيانه. ثم إن أهل الجاهلية كانوا قد غيروا مناسك الحج من سنة إبراهيم صلى الله عليه وسلم. وذلك أن الحمس كانوا لا يقفون بعرفات ويقولون: لا نخرج من الحرم ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 نتركه في وقت الطاعة، وكان غيرهم يقفون بعرفة والذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل أن تغرب الشمس، والذين يقفون بمزدلفة إذا طلعت الشمس ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير أي نسرع للنحر. وقيل: أي ندفع من مزدلفة فندخل في غور الأرض. وثبير جبل هناك فأمر الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم بمخالفة القوم في الدفعتين فأمره بأن يفيض من عرفات بعد غروب الشمس. وبأن يفيض من المزدلفة قبل طلوع الشمس، فإن السنة أيضا من قبيل الوحي. قال الواحدي: المشعر الحرام هو المزدلفة سماه الله تعالى بذلك لأن الصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده. وقال في الكشاف: المشعر الحرام قزح وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة، أي: يوقد هناك النار في الجاهلية، قال: وقيل المشعر الحرام ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام. قال: والصحيح أنه الجبل لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر- يعني بالمزدلفة- بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ولم يزل واقفا حتى أسفر. وقال: عند المشعر الحرام معناه مما يلي المشعر الحرام قريبا منه وذلك للفضل كالقرب من جبل الرحمة وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر، أو جعلت أعقاب المزدلفة لكونها في حكم المشعر ومتصلة به عند المشعر. والمشعر المعلم لأنه معلم لعبادته ووصف بالحرام لحرمته. وأما الذكر المأمور به هناك فقيل: هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء. والصلاة تسمى ذكرا قال تعالى وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] والدليل عليه أن فَاذْكُرُوا أمر فهو للوجوب ولا ذكر يجب هناك إلا هذا، والجمهور على أن المراد ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل. عن ابن عباس أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال: لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون كَما هَداكُمْ «ما» مصدرية أو كافة. أطلق الأمر بالذكر أوّلا ثم قيده ثانيا. والمعنى: اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة كي تكونوا شاكرين والهداية إما كل أنواع الهدايات أو الهداية إلى سنة إبراهيم في مناسك الحج، أو اذكروا كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه بحسب الرأي والقياس، فإن أسماء الله تعالى توقيفية أو الذكر الأول محمول على الذكر باللسان، والثاني على الذكر بالقلب. أو المعنى اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته، أو المراد بتثنية الأمر تكريره وتكثيره كقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب: 41] وعلى هذا فيكون قوله كَما هَداكُمْ متعلقا بالأمرين جميعا، أو الذكر الأول مقيد بأنه عند المشعر الحرام والثاني مطلق يدل على وجوب ذكره في كل مكان وعلى كل حال. فالأول إقامة للوظيفة الشرعية والثاني ارتقاء إلى معارج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 الحقيقة وهو أن ينقطع القلب عن المشعر الحرام بل عن كل ما سواه من حلال وحرام. أو المراد بالأول الجمع بين الصلاتين هناك وبالثاني التسبيح والتحميد وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ من قبل الهدى، أو من قبل الرسول، أو من قبل إنزال الكتاب الذي بين فيه معالم دينكم لَمِنَ الضَّالِّينَ الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه. «وإن» هي المحففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ثُمَّ أَفِيضُوا في هذه الإفاضة قولان: أحدهما أنه الإفاضة من عرفات وعلى هذا فالأكثرون قالوا: إنه أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس لأنهم كانوا لا يتجاوزون المزدلفة ويتعللون بأن الحرم أشرف من غيره، فالوقوف به أولى. وبأنهم أهل الله وقطان حرمه فلا يليق بحالهم أن يساووا الناس بالوقوف في الموقف ترفعا وكبرا. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جعل أبا بكر أميرا في الحج أمره بإخراج الناس إلى عرفات. فلما ذهب مر على الحمس وتركهم فقالوا له: إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك؟ فلا تذهب. فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر الله إلى عرفات ووقف بها وأمر سائر الناس بالوقوف بها. والحاصل ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس الواقفون بعرفات لا من المزدلفة ومعنى «ثم» التفاوت بين الإفاضتين وأن الإفاضة المأمور بها صواب والأخرى خطأ كما تقول «أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم» تأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى كريم والإحسان إلى غيره، وبهذا التحقيق لا يلزم عطف الشيء على نفسه. وصيرورة المعنى: فإذا أفضتم من عرفات فأفيضوا من عرفات، ولا أن يقدر تقديم هذه الآية على ما قبلها في الوضع. ومن القائلين بأن المراد الإفاضة من عرفات من قال إنه أمر الناس جميعا. وقوله مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ المراد به إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام فإن من سنتهما ذلك. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف في الجاهلية بعرفة كسائر الناس ويخالف الحمس. وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيسا مقتدى به. إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران: 173] يعني نعيم بن مسعود إن الناس يعني أبا سفيان. ووجه ثالث وهو أن يكون قوله مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفات وأن ما عداه مبتدع كما يقال «هذا مما فعله الناس قديما» . القول الثاني عن الضحاك أن المراد الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر، وقوله مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ يعني إبراهيم وإسماعيل ومتبعيهما فإن طريقتهم الإفاضة من المزدلفة قبل طلوع الشمس على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والعرب الذين كانوا واقفين بالمزدلفة كانوا يفيضون بعد طلوع الشمس فأمرهم الله تعالى بأن تكون إفاضتهم من المزدلفة في الوقت الذي كان يحصل فيه إفاضة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وأورد على هذا القول أن استعمال «حيث» للزمان قليل، ويمكن أن يجاب بأن القرآن أولى ما يحتج به. وعن الزهري: أن الناس في هذه الآية آدم عليه السلام واحتج بقراءة سعيد بن جبير مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ بكسر السين اكتفاء من الياء بالكسرة من قوله وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ [طه: 115] والمعنى: أن الإفاضة من عرفات شرع قديم فلا تتركوه. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم، وليكن الاستغفار باللسان مع التوبة بالقلب وهي أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم أن لا يقصر فيما بعده ابتغاء لمرضاة الله لا للمنافع العاجلة. والاستغفار بالحقيقة يجب على كل مكلف وإن لم يعلم من ظاهر حاله خطيئة فإن النقص لازم الإمكان، والقصور من خصائص الإنسان وكيف لا وقد قالت الملائكة وإنهم أرفع حالا ما عبدناك حق عبادتك. وصورة الاستغفار على ما روى البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك وأبوء بذنبي فاغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» «1» ولو اقتصر على قوله «أستغفر الله» كفى. ولو زاد فقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وأنت التواب الرحيم. أو قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ذا الجلال والإكرام. من كل ذنب أذنبته ومعصية ارتكبتها، وأتوب إليه من الذنب الذي أعلم ومن الذي لا أعلم كان حسنا. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بناءان للمبالغة كما مر مرارا. واختلف أهل العلم في المغفرة الموعودة في هذه الآية. فمن قائل إنها عند الدفع من عرفات إلى جمع بناء على القول الأول في الإفاضة، ومن قائل إنها عند الدفع من جمع إلى منى بناء على القول الآخر. قوله عز من قائل فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ أي فرغتم من عباداتكم التي أمرتم بها في الحج، أو من أعمال مناسككم إذ المناسك جمع المنسك. وأنه يحتمل أن يكون مصدرا وأن يكون اسم مكان. وعن مجاهد أن قضاء المناسك هو إراقة الدماء. عن ابن عباس: أن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم بعد أيام التشريق يقفون بين مسجد منى وبين الجبل ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم ويتناشدون فيها الأشعار وغرضهم الشهرة والترفع بمآثر سلفهم. فلما أنعم الله عليهم بالإسلام أمرهم أن   (1) رواه البخاري في كتاب الدعوات باب 2، 16. الترمذي في كتاب الدعوات باب 15 النسائي في كتاب الاستعاذة باب 57. أحمد في مسنده (4/ 122) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 يكون ذكرهم لربهم لا لآبائهم. ثم الفاء في قوله فَاذْكُرُوا اللَّهَ تدل على أن الفراغ من المناسك يوجب هذا الذكر فلهذا قيل: هو الذكر على الذبيحة، وقيل: هو التكبيرات بعد الصلاة في أيام النحر والتشريق وقيل: هو الإقبال على الدعاء والاستغفار بعد الفراغ من الحج كالأدعية المأثورة عقيب الصلوات المكتوبة. وقيل: معناه فإذا قضيتم مناسككم وأزلتم آثار البشرية وقهرتم القوى الطبيعية وأمطتم الأذى من طريق السلوك، فاشتغلوا بعد ذلك بتنوير القلب بذكر الله فإن التخلية ليست مقصودة بالذات، وإنما الغرض منها التخلية بمواجب السعادات الباقيات، فالأولى نفي والثاني إثبات. ومعنى كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ توفروا على ذكر الله كما كنتم تتوفرون على ذكر الآباء، وأقيموا الثناء على الله مقام تعداد مفاخر الآباء فإنه إن كان كذبا أوجب الدناءة في الدنيا والعقوبة في العقبى، وإن كان صدقا استتبع العجب والتباهي، وإن كانوا يذكرون الآباء ليتوسلوا بذلك إلى إجابة الدعاء فالإقبال بالكلية على مولي النعماء أولى مع أن حسنات آبائهم محبطة لسبب إشراكهم. وعن الضحاك والربيع: اذكروا الله كذكركم آباءكم وأمهاتكم وذلك قول الصبي أول ما ينطق «أبه أبه أمه أمه» أي كونوا مواظبين على ذكر الله كما يكون الصبي في صغره مواظبا على ذكر أبيه وأمه، فاكتفي بالآباء عن الأمهات كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] وقال أبو مسلم: جرى ذكر الآباء مثلا لدوام الذكر. والمعنى: كما أن الرجل لا ينسى ذكر أبيه فكذلك يجب أن لا يغفل عن ذكر الله. وقال ابن الأنباري: العرب أكثر أقسامها في الجاهلية بالآباء فقال تعالى: عظموا الله كتعظيمكم آباءكم. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلف بالآباء وقال «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» «1» وقيل: اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آباءكم بالوحدانية فإن الواحد منكم لو نسب إلى والدين تأذى منه واستنكف. وقيل: كما أن الطفل يرجع إلى أبيه في طلب المهمات وكفاية الملمات فكونوا أنتم في ذكر الله كذلك. وعن ابن عباس معنى الآية أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالدك إذا ذكر بسوء. وقوله أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً إما في موضع جر عطفا على ما أضيف إليه الذكر في قوله كَذِكْرِكُمْ كما تقول «كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكرا. وإما في موضع نصف عطفا على آباءَكُمْ بمعنى أو أشد ذكرا من آبائكم على أن ذِكْراً من فعل المذكور وهو الآباء لا فعل الذاكر وهو الأبناء، فإن الذكر بل كل فعل معتد له اعتبارات اعتبار   (1) رواه البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب 26. أبو داود في كتاب الأيمان باب 4. الترمذي في كتاب النذور باب 9. النسائي في كتاب الأيمان باب 4. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب 2. الدارمي في كتاب النذور باب 6. الموطأ في كتاب النذور حديث 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 وقوعه على المفعول، واعتبار صدوره عن الفاعل. وذلك الفعل بأحد الاعتبارين مغاير له بالاعتبار الآخر. وإنما لزم اعتبار الفعل هاهنا من جهة وقوعه على المفعول لأنّ الآباء المفضل عليهم المذكورون لا الذاكرون. ويحتمل أن يقال: المعنى فاذكروا الله ذكرا مثل ذكركم آباءكم أو أشد ذكرا. ولكن برد عليه أن أفعل إنما يضاف إلى ما بعده إذا كان من جنس ما قبله كقولك: «وجهك أحسن وجه» أي أحسن الوجوه. فإذا نصب ما بعده كان غير الذي قبله كقوله «زيد أفره عبدا» . فالفراهة للعبد لا لزيد. والمذكور قبل أَشَدَّ هاهنا هو الذكر والذكر لا يذكر حتى يقال «أشد ذكرا إنما قياسه أن يقال: الذكر أشد ذكر جرا إضافة. وفيه وجه نصبه على ما قال أبو علي أن يجعل الذكر ذاكرا مجازا. ويجوز نسبة الذكر إلى الذكر بأن يسمع إنسان الذكر فيذكر، فكأن الذكر قد ذكر لحدوثه بسببه وعلى جميع الوجوه. فمعنى «أو» هاهنا ليس هو التشكيك وإنما المراد به النقل عن الشيء إلى ما هو أقرب وأولى كقول رجل لغيره «افعل هذا إلى شهر أو أسرع منه» . وإنما أمر الله تعالى أن يكون ذكره أشد لأن مفاخر آبائهم متناهية وصفاته الكمالية غير متناهية، وتلك مشكوكة وهذه متيقنة، وغاية الأول تضييع وحرمان، ولازم الثاني نور وبرهان. ثم إنه تعالى بعد ما أمر بالعبادة تصفية للنفس وتخلية لها عن ظلمات الكبر والضلال وأمر عقيب ذلك بتنوير الباطن بنور الجلال والجمال بكثرة الاشتغال بذكر الكبير المتعال، نبه على حسن طلب مزيد الإنعام والإفضال فذكر أن الناس فريقان: منهم من قصر دعاءه على طلب اللذات العاجلة، ومنهم من أضاف إلى ذلك الطلب نعيم الآخرة وأهمل القسم الثالث وهو أن يكون دعاؤه مقصورا على طلب الآخرة تنبيها على أن ذلك غير مشروع ومن حقه أن لا يوجد، فإن الإنسان خلق ضعيفا لا طاقة له بآلام الدنيا ولا بعذاب النار. فالأولى به أن يستعيذ بربه من آفات الدنيا الآخرة. عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل يعوده وقد أنهكه المرض فقال له: ما كنت تدعو الله به؟ قال: كنت أقول: اللهم إذا كنت تعاقبني به في الآخرة فعجلنيه في الدنيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله إنك لا تطيق ذلك ألا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؟ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فشفي. والإنصاف أنه سبحانه لو سلط الألم على عرق واحد في البدن أو على منبت شعرة واحدة عجز الإنسان عن الصبر عليه، وقد يفضي ذلك به إلى الجزع ويعوقه عن اكتساب الكمالات، ويحمله على إهمال وظائف الطاعات، ومن ذا الذي يستغني عن إمداد الله إياه في دنياه وعقباه؟! ثم المقصرون في الدعاء على طلب الدنيا من هم؟ عن ابن عباس: أنهم المشركون كانوا يقولون إذا وقفوا: اللهم ارزقنا إبلا وبقرا وغنما وإماء وعبيدا. وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 لإنكارهم البعث والمعاد. وعن أنس: كانوا يقولون: اسقنا المطر وأعطنا على عدوّنا الظفر، ويحكى عن أبي علي الدقاق أنه قال: أهل النار يستغيثون ثم يقولون: أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله في الدنيا. طلب المأكول والمشروب وفي النار طلب المأكول والمشروب، فلما غلبتهم شهواتهم افتضحوا في الدنيا والآخرة وقال الآخرون. يحتمل أن يكونوا مسلمين وعوقبوا لأنهم سألوا الله في أعظم المواقف وأشرف المشاهد أخس البضائع وأدون المطالب المشبه تارة بكنيف وأخرى بأحقر من جناح بعوضة، معرضين عن العيش الباقي والنعيم المقيم. وقوله رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا متروك المفعول الثاني لأنه كالمعلوم، ويحتمل أن يكون من قولهم «فلان معط» أي موجد الإعطاء، معناه اجعل إعطاءنا في الدنيا خاصة. واعلم أن مطامح النفس في الدنيا إحدى ثلاث خصال: روحانية هي تكميل القوة النظرية بالعلم وتتميم القوّة العملية بتحصيل الأخلاق الفاضلة، وبدنية هي الصحة والجمال، وخارجية هي الجاه والمال. وكل من لا يؤمن بالبعث فإنه لا يطلب فضيلة روحانية ولا جسمانية إلا لأجل الدنيا. فيطلب العلم لأجل الترفع على الأقران ويكتسب الأخلاق لتدبير الأمور المنزلية والمدنية. فلما قال عز من قائل وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أي طلب نصيب حذف مفعول آتِنا لأن كل من ليس له في الآخرة طلب، ولا لهمته إلى اقتناء السعادات الباقيات نزاع وطموح، فمطلوبه عبث وسفه ووبال وضلال أي شيء فرضت علما وعملا روحانيا أو جسمانيا. اللهم اجعلنا ممن لا ينظر في أي شيء بنظر إلا إليك، ولا يرغب في كل ما يرغب إلا لأجل ما لديك إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. ثم إنه سبحانه لم يذكر في هذه الآية أن هذا الفريق مجابة دعوتهم أولا. فقال طائفة من العلماء: إنهم ليسوا بأهل للإجابة، لأن كون الإنسان مجاب الدعوة صفة مدح ولا يليق إلا بأولياء الله والمرتضين من عباده وقال آخرون قد يكون الإنسان مجابا لا كرامة واجتباء بل مكرا واستدراجا ويؤيده قوله سبحانه مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: 20] وعلى هذا يصح أن يقال في الآية إضمار أي يقول: ربنا آتنا في الدنيا فيؤتيه الله في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق. لأن همته مقصورة على الدنيا. والحسنتان في دعاء الصالحين. أما في الدنيا فالصحة والأمن والكفاية والولد الصالح والزوجة الصالحة والنصرة على الأعداء، وقد سمى الله تعالى الخصب والسعة في الرزق وما أشبه ذلك حسنة إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التوبة: 50] قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة: 52] قيل: إما النصرة وإما الشهادة. وأما في الآخرة فالفوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 بالثواب والخلاص من العقاب، ولأن دفع الضرر أهم من جلب النفع. صرح بذلك في قوله وَقِنا عَذابَ النَّارِ وهذه بالجملة كلمة جامعة لجميع خيرات الدنيا والآخرة. روى حماد بن سلمة عن ثابت أنهم قالوا لأنس: ادع لنا فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قالوا: زدنا فأعادها قالوا: زدنا قال: فما تريدون سألت لكم خير الدنيا والآخرة. وعن علي رضي الله عنه الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة، وفي الآخرة الحوراء. وعذاب النار امرأة السوء. وقيل: الحسنة في الدنيا العمل النافع وهو الإيمان والطاعة، وفي الآخرة التنعم بذكر الله والإنس به وبرؤيته. قلت: لا تلذذ في الدنيا والآخرة إلا بهذا. الجسم مني للجليس مجالس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي وعن قتادة الحسنتان طلب العافية في الدارين. وعن الحسن: هي في الدنيا فهم كتاب الله، وفي الآخرة الجنة. ومنشأ البحث مجيء الحسنة منكرة في حيز الإثبات، فكل من المفسرين حمل اللفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة عقلا أو شرعا. ويمكن أن يقال: التنوين للتعظيم أي حسنة وأي حسنة أو يريد حسنة توافق حال الداعي وحكمة المدعو، وفيه من حسن الطلب ورعاية الطلب ورعاية الأدب ما ليس في التصريح به فإنه لا يكون إلا ما يشاء أو يريد حسنة ما وإن كانت قليلة، فإن النظر إلى المنعم لا إلى الإنعام. قليل منك يكفيني ولكن قليلك لا يقال له قليل. أُولئِكَ الداعون بالحسنتين لَهُمْ نَصِيبٌ وأي نصيب مِمَّا كَسَبُوا من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة. فمن للابتداء. ويحتمل التعليل أي من أجل ما كسبوا كقوله مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا [نوح: 25] والكسب ما يناله المرء بعمله ومنه يقال للأرباح «إنها كسب فلان» أولهم نصيب مما دعوا به يعطيهم بحسب مصالحهم في الدنيا واستحقاقهم في الآخرة وسمي الدعاء كسبا لأنه من الأعمال والأعمال موصوفة بالكسب وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] ويجوز أن يكون أُولئِكَ للفريقين جميعا وأن لكل فريق نصيبا من جنس ما كسبوا. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ السرعة نقيض البطء. والحساب مصدر كالمحاسبة وهو العدّ قال الزجاج: هو مأخوذ من قوله «حسبك كذا» أي كفاك. وذلك أن فيه كفاية وليس فيه زيادة على المقدار ولا نقصان. ومعنى كون الله محاسبا لخلقه قيل: إنه يعلمهم ما لهم وعليهم بأن يخلق العلم الضروري في قلوبهم بمقادير أعمالهم وكمياتها وكيفياتها، أو بمقادير ما لهم من الثواب والعقاب. ووجه هذا المجاز أن الحساب سبب لحصول علم الإنسان بماله وعليه، فإطلاق الحساب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 على هذا الإعلام إطلاق اسم السبب على المسبب. عن ابن عباس أنه قال: لا حساب على الخلق بل يقفون بين يدي الله يعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم فيقال لهم: هذه سيئاتكم قد تجاوزت عنها، ثم يعطون حسناتهم ويقال: هذه حسناتكم قد ضعفتها لكم. وقيل: المحاسبة المجازاة وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً [الطلاق: 8] ووجه المجاز أن الحساب سبب للأخذ والإعطاء. وقيل: إنه تعالى يكلم العباد في أحوال أعمالهم وكيفية ما لها من الثواب والعقاب. فمن قال: إن كلامه ليس بحرف ولا صوت قال: إنه تعالى يخلق في أذن المكلف سمعا يسمع به كلامه القديم كما يخلق في عينه رؤية يرى بها ذاته القديمة. ومن قال: إنه صوت قال: إنه تعالى يخلق كلاما يسمعه كل مكلف. إما بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كل واحد منهم أو في جسم يقرب من أذنه بحيث لا يبلغ قوة ذلك الصوت مبلغا يمنع الغير من فهم ما كلف به، فهذا هو المراد من كونه محاسبا لخلقه، ومعنى كونه سريع الحساب أو قدرته تعالى متعلقة بجميع الممكنات من غير أن يفتقر في أحداث شيء إلى فكر وروية ومدة وعدّة، ولذلك ورد في الخبر أنه يحاسب الخلق في مقدار حلب شاة، وروي في لمحة. أو أنه سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم لأنه قادر على أن يعطي مطالب جميع الخلائق في لحظة واحدة كما ورد في الدعاء المأثور «يا من لا يشغله سمع عن سمع» ، أو أن وقت جزائه وحسابه سريع يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد كقوله تعالى اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء: 1] وقوله تعالى وَاذْكُرُوا اللَّهَ أي بالتكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار يكبر مع كل حصاة. وفيه دليل على وجوب الرمي لأن الأمر بالتكبير أمر بالذي يتوقف التكبير على حضوره، وإنما اختير هذا النسق لأنهم ما كانوا منكرين للرمي وإنما كانوا يتركون ذكر الله تعالى عنده فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ هي أيام التشريق ثلاثة أيام بعد النحر: أولها يوم القر لأن الناس تستقر فيه بمنى. والثاني يوم النفر الأول لأن بعض الناس ينفرون في هذا اليوم من منى. والثالث يوم النفر الثاني. عن عبد الرحمن بن معمر الديلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مناديا ينادي الحج عرفة. من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج وأيام منى ثلاثة من تعجل في يومين فلا إثم عليه واعلم أن التكبير المشروع في غير الصلاة وخطبة العيدين نوعان: مرسل ومقيد. فالمرسل هو الذي لا يتقيد ببعض الأحوال بل يؤتى به في المنازل والمساجد والطرق ليلا ونهارا كما مر في تفسير قوله تعالى وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ [البقرة: 185] وذكرنا صورة التكبير هناك أيضا. ولا فرق في التكبير المرسل بين عيد الفطر والأضحى. وأما التكبير المقيد فأظهر الوجهين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 أنه لا يستحب في عيد الفطر لم ينقلوا ذلك عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، وإنما يستحب في الأضحى. وتقييده هو أن يؤتى به في أدبار الصلوات خاصة. واختلفوا في ابتدائه وانتهائه فقيل: من طهر يوم النحر إلى ما بعد طلوع الصبح من آخر أيام التشريق، فيكون التكبيرات على هذا في خمس عشرة صلاة وهو قول ابن عباس وابن عمر وبه قال مالك والشافعي في أشهر أقواله، وحجتهم أن الناس فيه تبع للحجاج وهم يبتدؤن التكبير عقيب الظهر يوم النحر إلى مضي خمس عشرة صلاة. فيكون آخرها صلاة الصبح من آخر أيام منى وذكرهم قبل ذلك التلبية. والقول الثاني للشافعي أنه يبتدأ به من صلاة المغرب ليلة النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق، فيكون التكبير في أعقاب ثماني عشرة صلاة. والقول الثالث أنه يبتدأ من صلاة الفجر يوم عرفة ويقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر، فتكون التكبيرات بعد ثماني صلوات، وهو قول علقمة والأسود والنخعي وأبي حنيفة. واعترض عليه بأن هذه التكبيرات تنسب إلى أيام التشريق، فوجب أن يؤتى بها فيها. وإن انضم معها زمن آخر فلا أقل من أن تكون هي أغلب. والقول الرابع يبتدأ به من صلاة الفجر يوم عرفة ويقطع بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق، فيكبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة، وهو قول أكابر الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وقول الثوري وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحق والمزني من الفقهاء لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم الصبح يوم عرفة ثم أقبل علينا وقال: الله أكبر. ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق، ولأن هذا هو الأحوط فتكثير التكبير خير من تقليله. وعلى هذا القول إنما تكون التكبيرات مضافة إلى أيام التشريق لأنها أكثر تلك المدة. قال الجوهري: تشريق اللحم تقديده، ومنه أيام التشريق لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها في الشمس. وقيل: هو من قولهم «أشرق ثبير كيما نغير» . وقيل: سميت بذلك لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس. وأما رمي أيام أيام التشريق فإنه يجب أن يرمي كل يوم بين الزوال والغروب بكل جمرة من الجمرات الثلاث بالترتيب مبتدئا من الجمرة الأولى من جانب المزدلفة ومختتما برمي جمرة العقبة وهي التي تلي مكة رميات سبعا في سبع دفعات لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك رماها. وقال: خذوا عني مناسككم. فجملة ما يرمي في الحج سبعون حصاة، يرمي إلى جمرة العقبة يوم النحر سبع حصيات، وإحدى وعشرون في كل يوم من أيام التشريق إلى الجمرات الثلاث إلى كل واحدة سبع تواتر النقل به قولا وفعلا، ويكبر مع كل حصاة. وعلى الحجيج أن يبيتوا بمنى الليلتين الأوليين من ليالي التشريق، فإذا رموا اليوم الثاني فمن أراد منهم أن ينفر قبل غروب الشمس فله ذلك ويسقط عنه مبيت الليلة الثالثة والرمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 من الغد وذلك قوله تعالى فَمَنْ تَعَجَّلَ أي عجل أو استعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ومن لم ينفر حتى غربت الشمس فعليه أن يبيت الليلة الثالثة ويرمي يومها، وبه قال أحمد ومالك والشافعي. وعند أبي حنيفة يسوغ النفر ما لم يطلع الفجر، فإذا طلع لزم التأخر إلى تمام الأيام الثلاثة وذلك قوله تعالى وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى قال في الكشاف: تعجل واستعجل يجيئان متعديين مثل تعجل الذهاب واستعجله، ويجيئان مطاوعين بمعنى عجل وهذا أوفق لقوله وَمَنْ تَأَخَّرَ والرمي في اليوم الثالث يجوز تقديمه على الزوال عند أبي حنيفة. وعند الشافعي لا يجوز كسائر الأيام. وقد سئل هاهنا أن المتأخر قد استوفى ما عليه من العمل فكيف ورد في حقه فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وهذا إنما يقال في حق المقصر الذي يظن أنه قد رهقه آثام فيما أقدم عليه. فأجيب بأن الرخصة قد تكون عزيمة كالقصر عند أبي حنيفة والشيعة لا يجوز في السفر غيره، فلمكان هذا الاحتمال رفع الحرج في الاستعجال والتأخر دلالة على أن الحاج مخير بين الأمرين، أو بأن أهل الجاهلية كانوا فريقين: منهم من يجعل المتعجل آثما، ومنهم من يجعل المتأخر آثما مخالفا لسنة الحج، فبيّن الله تعالى أن لا إثم على واحد منهما. وقيل: إن المعنى في إزالة الإثم عن المتأخر إنما هو لمن زاد على مقام الثلاثة. فكأنه قيل: إن أيام منى التي ينبغي المقام بها فيها ثلاثة، فمن نقص فلا إثم عليه، ومن زاد على الثلاثة ولم ينفر مع عامة الناس فلا شيء عليه. وقيل: إن الآية سيقت لبيان أن الحج مكفر للذنوب والآثام لا لبيان أن التعجل وتركه سيان كما أن الإنسان إذا تناول الترياق فالطبيب يقول له: الآن إذا تناولت السم فلا بأس، وإن لم تتناول فلا بأس، يريد أن الترياق دواء كامل في دفع المضار لا أن تناول السم وعدم تناوله يجريان مجرى واحدا. وقيل: إن جوار البيت مكروه عند كثير من العلماء لأن ذلك قد يفضي إلى نقص حشمة البيت ووقعه في قلبه وعينه فأمكن أن يختلج في قلب أحد أن التعجيل أفضل بناء على هذا المعنى، ولما في التعجل من المسارعة إلى طواف الزيارة، فبيّن تعالى أنه لا حرج في واحد منهما. وقال الواحدي: هذا من باب رعاية المقابلة والمشاكلة مثل وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] بل هاهنا أولى لأن المندوب يصدق عليه أنه لا إثم على صاحبه فيه، وجزاء السيئة ليس بسيئة أصلا. وأما قوله تعالى لِمَنِ اتَّقى أي ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي كيلا يتخالج في قلبه إثم منهما فإن ذا التقوى متحرز من كل ما يريبه. وقيل: معناه أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقيا قبل حجه كقوله إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] أو لمن كان متقيا عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج. وقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 وَاتَّقُوا اللَّهَ أي فيما يستقبل فيه حث على ملازمة التقوى فيما بقي من عمره وتنبيه على مجانبة الاغترار بالحج السابق كما أن قوله وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ توكيد للأمر بالتقوى وبعث على التشدد فيه لأن الحشر- وهو اسم يقع على ابتداء- خروج الناس من الأجداث إلى انتهاء الموقف يوجب تصوره، لزوم سيرة الاتقاء عن ترك الواجبات وفعل المحظورات. والمراد من قوله إِلَيْهِ أنه حيث لا مالك سواه ولا ملجأ إلا إليه، ولا مستعان إلا هو يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: 19] . التأويل: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ هي مدة الحياة الفانية، وقيل إلى أربعين سنة، ولهذا قيل: الصوفي بعد الأربعين بارد. نعم لو صدق طلبه قبل الأربعين وما أمكنه الوصول فقريب أن يحصل مقصوده بعد الأربعين، ومن فاته الطلب في عنفوان شبابه إلى أن بلغ الأربعين فحري منه عليه الحيف إذ ضيع اللبن في الصيف، لكنه يصلح للعبادة التي أجرها الجنة. فَلا رَفَثَ لا يميل إلى الدنيا وزينتها وليهجرها كالمحرم بعد الاغتسال بماء الإنابة يتزر بإزار التواضع والانكسار، ويتردى برداء التذلل والافتقار. وَلا فُسُوقَ ولا خروج من الأوامر والنواهي بل لا يخرج من حكم الوقت ولا يدخل فيما يورث المقت وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ لا نزاع للسالك الصادق في طلب الوصول لا بالفروع ولا بالأصول فلا في مالها مع أحد يخاصم ولا في جاهها لأحد يزاحم، فمن نازعه في شيء من ذلك يسلمها إليه ويسلم عليه وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] وتزودوا لكل سالك زاد. فزاد أولي القشور كعك وسويق وهم الذين مقصدهم البيت ومقصودهم الجنة، وزاد أولي الألباب التقوى وهم من مقصدهم ومقصودهم رب البيت. وتقوى أهل القشور مجانبة الزلات ومواظبة الطاعات، وتقوى أولي الألباب مجانبة الصفات بالصفات والذات بالذات. فلما كان مقصودهم خير المقاصد كان زادهم خير الزاد أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مقام ابتغاء الفضل بمعنى الرحمة بترك الموجود وبذل المجهود وهو في سيره إلى عرفات، ومقام ابتغائه بمعنى مواهب القربة ببذل الوجود عند الوقوف بعرفات، لأن الحج عرفة وعرفة المعرفة ومقام ابتغائه بمعنى الرزق هو قبل سيره إلى عرفات. وقال جمع من المحققين: إنه بعد استكمال الحج الحقيقي لأنه لقوة عرفانه بالله لا تضره الدنيا بل يكون تصرفه فيها بالله في الله لله عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ يعني القلب الذي حرام عليه الاطمئنان بغير ذكر الله وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أي كما هدى قلوبكم يهدي نفوسكم كيلا تقع في خطر حب الدنيا. وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قبل الوقوف بعرفات المعرفة لَمِنَ الضَّالِّينَ في طلب الدنيا وحظوظ النفس مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ يعنى محمدا وسائر الأنبياء والأولياء أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 لتكن الإفاضة من عرفات المعرفة لأجل أداء الحقوق بالتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ لأجل إزالة غين المخالطة مع الخلق كقوله إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ إلى قوله وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر: 1- 3] أي إذا وجدت هذا لا تخلو عن خط ما فاستغفره فَإِذا قَضَيْتُمْ مناسك الوصال وبلغتم مبلغ الرجال فلا تأمنوا مكر الله وواظبوا على الذكر كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ في صغركم للافتقار وفي كبركم للافتخار أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً لأنه يمكن الاستغناء من الأب ولا يمكن الاستغناء من الله وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ لأن أثر الطاعة وأثر المعصية تظهر في الحال على القلب فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ هي أيام البداية والوسط والنهاية فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ وقف على الوسط ليكون من أهل الجنة فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ إلى أن يصل يوم النهاية حتى يكون من أهل الله فذاك لمن اتقى الرجوع والوقوف، والله ولي التوفيق وهو حسبي. [سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 210] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) القراآت: مَرْضاتِ بالإمالة والوقف بالهاء: علي. وكذلك يقف على هَيْهاتَ هيهاه وعلى حَدائِقَ ذاتَ ذاه وعلى أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ اللاه وعلى وَلاتَ حِينَ ولاه، وعلى مَرْيَمَ ابْنَتَ ابنه. وافق أبو عمر وفي وَلاتَ حِينَ بالهاء السِّلْمِ بفتح السين. أبو جعفر ونافع وابن كثير وعلي. الباقون: بالكسر. وَالْمَلائِكَةُ بالجر: يزيد عطفا على «ظلل» أو على «الغمام» أو للجوار وإن كان فاعل «يأتهم» . الباقون: بالرفع تُرْجَعُ الْأُمُورُ حيث كان بفتح التاء وكسر الجيم: حمزة وعلي وخلف وابن عامر وسهل ويعقوب. الباقون: بضم التاء وفتح الجيم. الوقوف: قَلْبِهِ لا لأن الواو للحال الْخِصامِ هـ وَالنَّسْلَ ط الْفَسادَ ط جَهَنَّمُ ط الْمِهادُ هـ مَرْضاتِ اللَّهِ ط بِالْعِبادِ هـ كَافَّةً ص لعطف الجملتين المتفقتين الشَّيْطانِ ط مع احتمال الجواز مُبِينٌ هـ حَكِيمٌ هـ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ط الْأُمُورُ هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 التفسير: لما آل أمر بيان الحج إلى تعديد فرق الناس بحسب أغراضهم في الدعاء، ناسب أن يعطف على ذلك تقسيم آخر يعرف منه مطامح أنظار الناس على الإطلاق ليعرف أرباب النفاق. من أصحاب الوفاق. عن السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وهو حليف بني زهرة. أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأظهر له الإسلام وزعم أنه يحبه وقال: والله يعلم أني لصادق. فلما خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم مر بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع وعقر الحمر. وقيل: إنه أشار على بني زهرة بالرجوع يوم بدر وقال لهم: إن محمدا ابن أختكم فإن يك كاذبا كفاكموه سائر الناس، وإن يك صادقا كنتم أسعد الناس به. فقالوا: نعم الرأي ما رأيت. ثم خنس بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمى بهذا السبب أخنس- وكان اسمه أبي بن شريق- فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه. وعن ابن عباس والضحاك: أن كفار قريش بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفرا من علماء أصحابك فبعث إليهم جماعة، فلما كانوا ببعض الطريق ركب من الكفار سبعون راكبا فأحاطوا بهم فقتلوهم وصلبوهم ففيهم نزلت. وقوله بعد ذلك وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي إشارة إلى هؤلاء الشهداء. واختيار المحققين من المفسرين أنه لا يمتنع أن تكون الآية نازلة في الرجل ثم تكون عامة في أمثاله. فهذه الآية عامة في المنافقين، فإن ألسنتهم تحلو لي وقلوبهم أمر من الصبر. والضمير في يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ يعود إلى «من» ويحتمل أن يكون جمعا ولكنه أفرد نظرا إلى اللفظ. ومعنى يعجبك يروقك ويعظم في قلبك وفِي الْحَياةِ الدُّنْيا إما أن يتعلق بقوله أي يعجبك ما يقوله في باب الدنيا طلبا للمصالح العاجلة فقط كالأمان من القتل والأخذ من المغانم، وإما أن يتعلق بيعجبك لأن قوله وحلو كلامه إنما يعجب السامع في الدنيا ولا يعجبه في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الهيبة والحيرة، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام. والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل سامع. وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ يحتمل أن يكون ذلك الاستشهاد بالحلف، وأن يكون بقوله «شهد الله على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام» . وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ الألد الشديد الخصومة، واللديدان جانبا الوادي. كأن كلا من المتخاصمين في جانب. ومنه اللدود وهو ما يصب من الأدوية في أحد شقي الفم. وإضافة الألد بمعنى «في» كقولهم «ثبت الغدر» و «قتيل الصف» أو جعل الخصام ألد على المبالغة نحو «جد جده» . والخصام جمع خصم كصعاب في صعب. والمعنى: هو أشد الخصوم خصومة. والحاصل إنه جدل بالباطل شديد الفسوق في معصية الله عالم اللسان جاهل العمل، وإذا تولى عنك وذهب بعد إلانة القول وإحلاء المنطق سعى في الأرض ليفسد فيها كما فعل بأولئك المسلمين من إحراق الزروع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 وعقر المواشي. وأصل السعي المشي بسرعة، وقد يستعار لإيقاع الفتنة والتخريب بين الناس. وقيل: لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة، فبيتهم ليلا وأهلك مواشيهم وأحرق زروعهم، وعلى هذا فيقع قوله وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ تفصيلا لما أجمله قوله لِيُفْسِدَ وقيل: إفساده هو إلقاء الشبه في عقائد المسلمين، وعلى هذا فيكون إهلاك الحرث والنسل بمعنى آخر. وهذا تفسير مناسب لأن كمال الإنسان بالعلم والعمل ونقصه بضدهما، فيكون الإفساد إشارة إلى نقص قوّته النظرية والإهلاك عبارة عن فعل المنكرات وفيه نقصان قوّته العملية. وقيل: وَإِذا تَوَلَّى أي إذا كان واليا فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل. وقيل: يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل. فالحرث الزرع، والنسل الولد. ونسلت الناقة بولد كثير، والتركيب يدل على الخروج. وقيل: إهلاك الحرث قتل النسوان نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة: 223] وإهلاك النسل إفناء الصبيان وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ قالت المعتزلة: معناه لا يريد الفساد. وفيه دليل على أنه يريد القبائح وإذا لم يردها لم يخلقها لأن الخلق لا يمكن إلا بالإرادة. ومنع من أن المحبة نفس الإرادة، بل المحبة عبارة عن مدح الشيء وذكره بالتعظيم. ثم الدليل الدال على أن لا مرجح لأحد جانبي كل ممكن على الآخر إلا الله وإلا انسد باب إثبات الصانع يدل على أن الكل بإرادته ومشيئته، وقد مر تحقيق ذلك فيما سلف. واعلم أنه سبحانه حكى عن المنافق جملة من الأفعال الذميمة. أولها حسن كلامه في طلب الدنيا، وثانيها استشهاده بالله كذبا وبهتانا، وثالثها لحاجة في إبطال الحق وإثبات الباطل، ورابعها سعيه في الأرض للإفساد، وخامسها سعيه في إهلاك الحرث والنسل. فوقع قوله وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ جمله معترضة. ثم ذكر خصلة سادسة أشنع من الكل دالة على جهله المركب وخروجه عن أن يرجى منه خير وذلك مثله وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ في ارتكاب شيء من هذه المنهيات. والقائل إما الرسول صلى الله عليه وسلم قولا خاصا أو عاما لجميع المكلفين فيدخل المنافق فيه، وإما كل واعظ وناصح أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ من قولهم «أخذت فلانا بأن يفعل كذا» أي ألزمته ذلك وحملته عليه أي أخذته الغلبة والاستيلاء والأنفة وحمية الجاهلية أن يعمل الإثم، وذلك الإثم هو ترك الالتفات إلى هذا الوعظ وعدم الإصغاء إليه، أو من قوله «أخذته الحمى» أي لزمته، و «أخذه الكبر» أي اعتراه ذلك والمعنى لزمته العزة الحاصلة بسبب الإثم الذي في قلبه، وذلك الإثم هو الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ كافية هي جزاء له يستوي فيه الواحد والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث لأنه مصدر. ورفعه على الخبرية أو على الابتداء إذا كان ما بعده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 معرفة، أو على الابتداء فقط إن كان نكرة مثل «حسبك درهم» . وعلى هذا تكون الإضافة معنوية البتة، وعلى تقدير كونه خبر الوقوع المعرفة بعده تكون الإضافة لفظية أي فحسب وكاف له. قال يونس وأكثر النحويين: جهنم اسم للنار التي يعذب الله بها في الآخرة وهي أعجمية وفيها العلمية والتأنيث. وقال آخرون: إنه اسم عربي سميت نار الآخرة بها لبعد قعرها. حكي عن رؤبة أنه قال: ركية جهنام بكسر الجيم والهاء أي بعيدة القعر. وقيل: اشتقاقها من الجهومة وهي الغلظ. ومنه رجل جهم الوجه أي غليظه. سميت بذلك لغلظ أمرها في العذاب والعقاب. وَلَبِئْسَ الْمِهادُ أي ما يمهد لأجله فإن المعذب في النار يلقى على النار كما يوضع الشخص على الفراش. ويحتمل أن يكون مصدرا بمعنى التمهيد والتوطئة. قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي الآية. قال سعيد بن المسيب: أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتشل ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال: والله لا تصلون إليّ أو أرمي بكل سهم معي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي. وإن شئتم دللتكم على مال دفنته بمكة وخليتم سبيلي ففعلوا. فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ربح البيع أبا يحيى وتلا الآية. وقيل: أخذ المشركون صهيبا فعذبوه فقال لهم صهيب: إني شيخ كبير لا يضركم، أمنكم كنت أم من غيركم. فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني؟ ففعلوا ذلك. وكان قد شرط عليهم راحلة ونفقة فخرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر في رجال، فقال له أبو بكر: ربح بيعك أبا يحيى. قال صهيب: وبيعك. أفلا تخبرني ما ذاك؟ فقال: نزلت فيك كذا وقرأ الآية. عن الحسن: نزلت في أن المسلم أتى الكافر فقاتل حتى قتل. وقيل: نزلت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. سمع عمر بن الخطاب إنسانا يقرأ هذه الآية فقال عمر: إنا لله قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل. وقيل: نزلت في علي رضي الله عنه بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة خروجه إلى الغار. ويروى أنه لما نام على فراشة قام جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل ينادي بخ بخ. من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ونزلت الآية. ثم إن الآية تدل على أن هاهنا مبايعة، فأكثر المفسرين على أن العامل هو البائع. ومعنى يشري يبيع وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يوسف: 20] والله هو المشتري إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التوبة: 111] وعمل المكلف وهو بذل نفسه في طاعة الله من الصلاة والصيام والحج والجهاد هو الثمن والجنة هي المثمن. وقيل: يحتمل أن يراد بالشراء هاهنا الاشتراء وذلك أن من أقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 على الكفر والمعاصي. فكأن نفسه خرجت عن ملكه وصارت حقا للنار، وإذا أقدم على الطاعة صار كأنه اشترى نفسه من النار فصار حال المؤمن كالمكاتب يبذل دراهم معدودة ويشتري بها نفسه، والمؤمن يبذل أنفاسا معدودة ويشتري بها نفسه، لكن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. فكذا المكلف لا ينجو عن ربقة العبودية ما دام بقي له نفس واحد في الدنيا، وهذا كقول عيسى عليه السلام وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [مريم: 31] وقوله عز من قائل لنبيه وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99] وابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلب رضوانه نصب على العلة الغائية. وفيه دليل على أن كل مشقة يتحملها الإنسان يجب أن تكون على وفق الشرع ومطلوبا بها جانب الحق وإلا كان عمله ضلالا وكده وبالا. وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ فمن رأفته جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل، وجوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: 106] ومن رأفته أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، ومن رأفته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط عقابه وأعطاه ثوابه، ومن رأفته أن النفس له والمال له ثم إنه يشتري ملكه بملكه فضلا منه وامتنانا ورحمة وإحسانا. قوله سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أصل السلم بالكسر، والفتح الاستسلام والطاعة. ويطلق أيضا على الصلح وترك الحرب والمنازعة. وهو أيضا راجع إلى هذا وإنه يذكر ويؤنث. واختلف في المخاطبين فقيل: أمر للمسلمين بما يضاد حال المنافقين أي يا أيها الذين آمنوا بالألسنة والقلوب دوموا على الإسلام فيما تستأنفونه من أيامكم ولا تخرجوا منه ولا من شيء من شرائعه. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ لا تلتفتوا إلى الشبهات التي يلقيها إليكم أهل الغواية، والكائن في الدار إذا علم أن له في المستقبل خروجا منها لا يمتنع أن يؤمر بدخولها في المستقبل حالا بعد حال. ومعلوم أن المؤمنين قد يخرجون عن خصال الإيمان بالنوم والسهو وغيرهما من الأحوال، فلا يبعد أن يأمرهم الله بالدخول في الإسلام فيما يستأنف من الزمان. أو أمرهم بأن يكونوا مجتمعين في نصرة الدين واحتمال البلوى فيه. ولا تتبعوا آثار الشيطان بالإقبال على الدنيا والجبن والخور في أمر الدين مثل وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الأنفال: 46] أو يكون المراد بالدخول في السلم ترك الذنوب والمعاصي، فإن من مذهبنا أن الإيمان باق مع الذنب والعصيان، أو يكون المراد الرضا بالقضاء والتلقي لجميع المكاره بالبشر والطلاقة كما ورد في الخبر «الرضا بالقضاء باب الله الأعظم» أو يكون المراد ترك الانتقام وسلوك طريق العفو والإغماض وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] وقوله: كَافَّةً يصلح أن يكون حالا من المأمورين أي ادخلوا بأجمعكم في السلم ولا تتفرقوا ولا تختلفوا وأن يكون حالا من السلم على أنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 مؤنث كالحرب أي ادخلوا في شرائع الإسلام كلها وأصل الكف المنع فسمي الجميع كافة لأن الاجتماع بمنع التفرق والشذوذ. ورجل مكفوف أي كف بصره من أن ينظر. وكفة القميص لأنها تمنع الثوب من الانتشار. والكف طرف اليد لأنه يكف بها عن سائر البدن. وقيل: الخطاب للمنافقين والتقدير: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام ولا تتبعوا آثار تزيين الشيطان وتسويله بالإقامة على النفاق. وقيل: نزلت في مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه حين أرادوا أن يقيموا على بعض شرائع موسى كتعظيم السبت وقراءة التوراة واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأمروا أن يدخلوا في شرائع الإسلام كافة ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة لثبوت نسخها بالكلية، فإن التمسك بها بعد تبين نسخها من اتباع آثار الشيطان، وقيل: السلم الإسلام، والخطاب لأهل الكتاب، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالكتاب المتقدم كملوا طاعتكم بالإيمان بجميع أنبيائه وكتبه، ولا تتبعوا خطوات الشيطان بالشبهات التي يتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ عن أبي مسلم أن المبين من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره، ولا يخفى أنه أعرب عن عداوته لآدم ونسله. وقيل: مبين من الإبانة القطع وذلك أنه يقطع المكلف بوسوسته عن طاعة الله وثوابه ورضوانه. قوله فَإِنْ زَلَلْتُمْ المخاطبون هاهنا هم المخاطبون في قوله ادْخُلُوا فيجيء الخلاف هاهنا بحسب الخلاف هناك. والمعنى العام: فإن دحضت أقدامكم وانحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ الدلائل العقلية والسمعية على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يعجزه الانتقام منكم وهذه نهاية في الوعيد كما لو قال الوالد لولده: إن عصيتني فأنت عارف بي وبشدّة سطوتي. كان أبلغ في الزجر من التصريح بضرب من ضروب العذاب. وكما أن قوله عَزِيزٌ يشتمل على الوعيد البليغ فقوله حَكِيمٌ يشتمل على الوعد الحسن. فإن اللائق بالحكمة تمييز المحسن من المسيء وأن لا يسوّي بينهما في الثواب والعقاب. روي أن قارئا قرأ غفور رحيم فسمعه أعرابي فأنكره ولم يقرأ القرآن وقال: إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا. الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه يكون إغراء عليه. قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ الآية معنى النظر هاهنا الانتظار. وأما إتيان الله فقد أجمع المفسرون على أنه سبحانه منزه عن المجيء والذهاب لأن هذا من شأن المحدثات والمركبات وأنه تعالى أزلي فرد في ذاته وصفاته فذكروا في الآية وجهين: الأول: وهو مذهب السلف الصالح السكوت في مثل هذه الألفاظ عن التأويل وتفويضه إلى مراد الله تعالى كما يروى عن ابن عباس أنه قال: نزل القرآن على أربعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 أوجه: وجه لا يعذر أحد بجهالته، ووجه يعرفه العلماء ويفسرونه، ووجه يعرف من قبل العربية فقط، ووجه لا يعلمه إلا الله. الثاني: وهو قول جمهور المتكلمين: أنه لا بد من التأويل على سبيل التفصيل. فقيل: جعل مجيء الآيات مجيئا له تفخيما لها كما يقال «جاء الملك» إذا جاء جيش عظيم من جهته. وقيل: المراد إتيان أمره وبأسه فحذف المضاف بدليل قوله في موضع آخروْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ [النحل: 33] جاءَهُمْ بَأْسُنا وأيضا اللام في قوله وَقُضِيَ الْأَمْرُ تدل على معهود سابق وما ذاك إلا الذي أضمرناه. لا يقال أمر الله عندكم صفة قديمة فالإتيان عليها محال. وعند المعتزلة أصوات فتكون أعراضا. فالإتيان عليها أيضا محال لأنا نقول: الأمر قد يطلق على الفعل وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: 94] وحينئذ فالمراد ما يليق بتلك المواقف من الأهوال وإظهار الآيات المهيبة. وإن حملنا الأمر على ضد النهي فلا يبعد أن مناديا ينادي يوم القيامة ألا إن الله يأمركم بكذا. ومعنى كونه في ظلل من الغمام أن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في آن واحد، أو يكون المراد حصول أصوات مقطعة مخصوصة في تلك الغمامات تدل على حكم الله تعالى على أحد بما يليق به من السعادة والشقاوة، أو أنه تعالى يخلق نقوشا منظومة في ظلل من الغمام لشدة بياضها. وسواد تلك الكتابة يعرف بها حال أهل الموقف في الوعد والوعيد، وتكون فائدة الظلل أنه تعالى جعلها أمارة لما يريد إنزاله بالقوم ليعلموا أن الأمر قد حضر. وقيل: المأتي به محذوف والمعنى إلا أن يأتيهم الله ببأسه أو بنقمته الدالة عليه بقوله عَزِيزٌ. وفائدة الحذف كونه أبلغ في الوعيد لانقسام خواطرهم وذهاب فكرتهم في كل وجه. وقيل: إن «في» بمعنى الباء أي يأتيهم الله بظلل من الغمام، والمراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة. وقيل: الغرض من ذكر إتيان الله تصوير غاية الهيبة ونهاية الفزع كقوله تعالى وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] ولا قبض ولا طي ولا يمين وإنما الغرض تصوير عظمة شأنه. وقيل: بناء علي أن الخطاب في ادخلوا وزللتم لليهود المراد أنهم لا يقبلون دين الحق إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، وذلك أن اليهود كانوا على اعتقاد التشبيه ويجوّزون المجيء والذهاب على الله تعالى ويقولون: إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام، فطلبوا مثل ذلك في زمن محمد صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا يكون الكلام حكاية عن معتقد اليهود ولا يبقى إشكال فإن الآية لا تدل إلا على أن قوما ينتظرون إتيان الله وليس فيها دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أم مبطلون. والظلل جمع ظلة وهي ما أظلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 والغمام لا يكون كذلك إلا إذا كان مجتمعا ومتراكما. فالظلل من الغمام عبارة عن قطع متفرقة، كل قطعة منها تكون في غاية الكثافة والعظم، فكل قطعة ظلة والجمع ظلل. والاستفهام هاهنا في معنى النفي أي ما ينتظرون إلا أن يأتيهم عذاب الله في ظلل من الغمام، وفيه تفظيع شأن العذاب وتهويله لأن الغمام مظنة الرحمة، وإذا نزل منه العذاب كان أشنع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسر، فكيف إذا جاء الشر من حيث يتوقع الخير؟ أو نزول الغمام علامة لظهور الأهوال في القيامة قال: يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [الفرقان: 25، 26] واستعير لتتالي العذاب تتابع القطر وإتيان الملائكة ليقوموا بما أمروا به من تعذيب وتخريب ولا حاجة إلى التأويل لأن إتيانهم ممكن. وَقُضِيَ الْأَمْرُ فرغ من أمر إهلاكهم وتدميرهم أو عما كانوا يوعدون به، فلا تقال لهم عثرة ولا تصرف عنهم عقوبة ولا ينفع في دفع ما نزل بهم حيلة. والتقدير: إلا أن يأتيهم الله ويقضي الأمر، فوضع الماضي موضع المستقبل. إما للتنبيه في قرب العذاب أو الساعة «كل ما هو آت قريب» ، وإما لأن إخبار الله تعالى كالواقع المقطوع به. وقيل: الأمر المذكور هاهنا هو فصل القضاء بين الخلائق وأخذ الحقوق لأربابها وإنزال كل أحد من المكلفين منزله من الجنة والنار. وعن معاذ بن جبل وقضاء الأمر مصدر مرفوع عطفا على لفظي الله والملائكة. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ وذلك أنه ملك في الدنيا عباده كثيرا من أمور خلقه، أما إذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم بين العباد سواه وهذا كقولهم «رجع أمرنا إلى الأمير» إذا كان هو يختص بالنظر فيه. فعلى المكلف أن يدخل في السلم كما أمر ويحترز عن اتباع آثار الشيطان كما نهى. ثم إن الأمور ترجع إليه جل جلاله، وهو تعالى يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة. فهذا معنى القراءتين في تُرْجَعُ وأيضا قراءة ضم التاء وفتح الجيم على مذهب العرب في قولهم «فلان معجب بنفسه» ويقول الرجل لغيره: إلى أين ذهب بك؟ وإن لم يكن أحد يذهب به. أو المراد أن العباد يردّون أمورهم إلى خالقهم ويعترفون برجوعها إليه. أما المؤمنون فبالمقال، وأما الكافرون فبشهادة الحال وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرعد: 15] . التأويل: النفس الأمارة تظهر الأشياء المموهة والأقوال المزخرفة وترى أنها أولى الأولياء، ولكنها أعدى الأعداء وتسعى في تخريب أرض القلب وإبطال حرث الصدق في طلب السعادة إهلاك نسل ما يتولد من الأخلاق الحميدة وتشمخ بأنفها عن قبول الحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 فحسبه جهنم الميعاد وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي هذا شأن الأولياء باعوا أنفسهم خالصا لوجه الله لا لأجل الجنة ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي بجميع الأجزاء والأعضاء الظاهرة والباطنة. ودخول القلب في الإسلام يكون بدخول الإيمان في القلب، ودخول الروح في الإسلام يكون بتخلقه بأخلاق الله وتسليم الأحكام والأقضية لله، ودخول السر في الإسلام بفنائه في الله وبقائه بالله، وهذا مقام يضيق عن إعلانه نطاق النطق ولا يسع إظهاره ظروف الحروف. وإن قميصا خيط من نسج تسعة ... وعشرين حرفا من معانيه قاصر الله ولي التوفيق وهو حسبي. [سورة البقرة (2) : الآيات 211 الى 214] سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) القراآت: لِيَحْكُمَ بضم الياء وفتح الكاف: يزيد. وكذلك في آل عمران والنور في موضعين. الباقون بفتح الياء وضم الكاف يَقُولَ برفع اللام: نافع. الباقون: بالنصب. الوقوف: بَيِّنَةٍ ط لانتهاء الاستفهام إلى الشرط مع تقدير حذف أي فبدّلوا ومن يبدل إلخ الْعِقابِ هـ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا م لأن و «الذين» مبتدأ و «فوقهم» خبره. ولو وصل صار «فوقهم» ظرفا ليسخرون أو حالا لفاعل «يسخرون» وقبحه ظاهر. يَوْمَ الْقِيامَةِ ط حِسابٍ هـ وَمُنْذِرِينَ ص لعطف المتفقتين فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ط بَيْنَهُمْ ج لعطف المختلفتين بِإِذْنِهِ ط مُسْتَقِيمٍ هـ مِنْ قَبْلِكُمْ ط للفصل بين الاستفهام والإخبار لأن قوله «ولما يأتكم» عطف على «أم حسبتم» تقديره أحسبتم ولم يأتكم. مَتى نَصْرُ اللَّهِ ط قَرِيبٌ هـ. التفسير: أنه سبحانه لما أمر بالسلم ونهى عن مقابلها ثم قال: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ [البقرة: 209] أي فإن أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 للتهديد. ثم بين ذلك التهديد بقوله فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 209] ثم ثنى ذلك التهديد بقوله هَلْ يَنْظُرُونَ [البقرة: 210] الآية ثم ثلث التهديد بقوله سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد. وهذا السؤال سؤال تقريع كما يسأل الكفرة يوم القيامة، وإلا فكثرة الآيات التي أوتوها معلومة بإعلام الله تعالى. والمراد سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها لا جرم استوجبوا العقاب من الله تعالى، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون كي يعتبروا ويتعظوا. و «كم» تحتمل الاستفهامية والخبرية، ومِنْ آيَةٍ مميزها، وقد فصل بين المميز وبينها بالفعل. فإن كانت استفهامية فالتقدير: سلهم عن عدد إيتائنا الآيات إياهم حتى يخبروك عن كميتها. وإن كانت خبرية فالمعنى: سلهم عن أنا كثيرا من الآيات آتيناهم. والآيات الواضحات إما معجزات موسى عليه السلام كفرق البحر وتظليل الغمام وتكليم الله إياه والعصا واليد ونحوها وهي تسع وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الإسراء: 101] وإما الدلائل الدالة على صحة دين الإسلام فمنهم من أمن وأقر ومنهم من جحد وبدل وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ قيل: إنها الآيات والدلائل الدالة على صحة دين الإسلام وهي أجل أقسام النعم، لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة. ثم إن قلنا: الآيات معجزات موسى فتبديلها أن الله تعالى أظهرها لتكون أسباب هدايتهم فجعلوها أسباب ضلالتهم كقوله فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125] وإن قلنا: الآية البينة هي ما في التوراة والإنجيل من الدلائل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فتبديلها تحريفها وإدخال الشبه فيها. وقيل: المراد بنعمة الله ما آتاهم من أسباب الصحة والأمن والكفاية، فتبديلها أنهم لم يجعلوها واسطة الطاعة والقيام بما وعليهم من التكاليف، بل استعملوها في غير ما أوتيت هي لأجله. وعلى هذا فقوله مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ معناه ظاهر، وأما على القول الأول وهو أن المراد من النعمة لآيات فمعنى مجيئها التمكن من معرفتها أو عرفانها كقوله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ [البقرة: 75] لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها فكأنها غائبة. فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ قال الواحدي: الرابطة محذوفة أي له. والتحقيق أن ترك هذا الإضمار أولى فإنه إذا علم كونه تعالى موصوفا بهذا الوصف لزم من ذلك أنه يعاقب المبدل إن شاء، ولكن لا يلزم من كونه شديد العقاب للمبدّل كونه متصفا بذلك وصفا ذاتيا. ثم قال الواحدي. والعقاب عذاب يعقب الجرم. ثم إنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كان التبديل سيرتهم فقال: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الآية. والغرض تعريف المؤمنين ضعف عقول الكفار في ترجيح الفاني من زينة الدنيا على الباقي من نعيم الآخرة، والتذكير في زين إما لأن الحياة والإحياء واحد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 أو للفصل مع أن التأنيث ليس بحقيقي. عن ابن عباس أن الآية نزلت في أبي جهل وأضرابه من كبار قريش. وقيل: رؤساء اليهود وعلمائهم. وعن مقاتل: نزلت في المنافقين. ولا مانع من نزولها في جميعهم لأن كلهم وهم في التنعم والراحة كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين والمهاجرين. ثم المزين من هو؟ فعن المعتزلة أنهم غواة الجن والإنس قبحوا أمر الآخرة في أعين الكفار وأوهموا أن لا صحة لها فلا تنغصوا عيشكم في الدنيا كقول من قال: أتترك لذة الصهباء نقدا ... بما وعدوك من لبن وخمر؟ قالوا: وأما الذي يقوله المجبرة من أنه تعالى زين ذلك فباطل. لأن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه، وإذا كان المزين هو الله تعالى فلا بد أن يكون صادقا في ذلك الإخبار، فيكون فاعله المستحسن له مصيبا. وإن كان كافرا وإصابة الكافر كفر فهذا القول كفر، وزيف بأن مزين الكفر لجميع الكفار لا بد أن يكون خارجا منهم. وقولهم: «المزين للشيء هو المخبر عن حسنه» مردود، وإنما المزين من يجعل الشيء موصوفا بالأوصاف الحسنة. سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن الله تعالى يكون مخبرا عن حسنه من حيث إنه أخبر عما فيها من اللذات والراحات؟ وهذا إخبار عما ليس بكذب والتصديق به ليس بكفر. وقال أبو مسلم: الكفار زينوا لأنفسهم والعرب تقول: «أين يذهب بك» لا يريدون أن ذاهبا ذهب به ومنه قوله تعالى أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة: 75] أَنَّى يُصْرَفُونَ [غافر: 69] . ولما كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهرا فالإنسان بالحقيقة هو الذي زين لنفسه. والتحقيق أن المزين هو الله تعالى كما صرح بذلك في قوله إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] وكيف لا وانتهاء جميع الحوادث إليه أظهر في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب والحلاوة، وركب في الطبائع حب الشهوات والميل إلى الطيبات، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه، بل مع إمكان رد النفس عنها ليجاهد المؤمن هواه فيقصر نفسه على المباح ويكفها عن الحرام ويتم غرض الابتلاء. أو نقول: المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا ولم يمنعهم عن الإقبال عليها والحرص الشديد في طلبها. وقيل: إن الله تعالى زين من الحياة الدنيا ما كان من المباحات دون المحظورات وهو ضعيف، لأن الله تعالى خص بهذا التزيين الكفار وتزيين المباحات لا يختص بالكفار. وإن قيل: المراد من تزيين المباح للكافر أنه دائم السرور به. وإن قلت: ذات يده لكونه معقود الهمة به لا عيش عنده إلا عيش الدنيا، بخلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 المؤمن فإن تمتعه من طيبات الدنيا وبهجتها وإن كثر ماله وجاهه مكدر بالخوف والوجل من الحساب في الآخرة. قلنا: تزيين المباح في نظر الكافر بحيث يفضي به إلى الاشتغال عن الآخرة مستقبح. أيضا فالكلام فيه كالكلام في تزيين المحظور فيبقى الإشكال بحاله ولا مخلص إلا بإسناد الكل إليه تعالى بعد تذكر ما سلف لنا مرارا في حقيقة الجبر والقدر. ولما أخبر الله تعالى عنهم بأنه زين لهم الحياة العاجلة أخبر عنهم بعد ذلك بفعل يديمونه فقال: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا كابن مسعود وعمار وصهيب وغيرهم يقولون: هؤلاء المساكين تركوا طيبات الدنيا وتحملوا المتاعب لطلب الآخرة. ولا يخفى أنه لو بطل حديث المعاد لكان لهذه السخرية وجه، لكنه لو ثبت القول بالمعاد وصح كانت السخرية منقلبة عليهم لأنهم أعرضوا عن الملك الأبدي والنعيم المقيم بسبب لذات حقيرة في أنفاس معدودة فلهذا قال سبحانه وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أما بالمكان فلأنهم في عليين وهم في سجين، وأما بالرتبة والشرف فلأنهم في معارج الأنس وهم في هاوية الهوان. ويحتمل أن يراد أنهم فوقهم بالحجة لأن حجج الكفار وشبههم كان تؤثر بوسوسة الشيطان، وبمجرد استبعاد أمر المعاد وحجج المتقين يوم القيامة تستند إلى العيان وبمدد الرحمن وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ [الأعراف: 44] أو يراد أن سخرية المؤمنين بالكافرين يوم القيامة لكونها حقة وباقية فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا لكونها باطلة ومنقضية. وفي قوله وَالَّذِينَ اتَّقَوْا دون أن يقول آمنوا كما قال: مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بعث على التقوى وأن كرامة المؤمن منوطة بها. وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تقدير. وذلك أن الكفار كانوا يستدلون بحصول الزخارف الدنيوية لهم على أنهم على الحق وبحرمان فقراء المؤمنين عنها على أنهم على الباطل، فرد الله تعالى عليهم قولهم بأن ذلك متعلق بمحض المشيئة، وقد يستتبع غاية هي الاستدراج في حق الكافر والابتلاء في حق المؤمن، أو يرزق من يشاء من مؤمن وكافر بغير حساب يكون لأحد عليه ولا مطالبة ولا سؤال سائل، فالأمر أمره والحكم حكمه ولا يسأل عما يفعل. أو من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل «إذا جاءه ما لم يكن قد قدره ما كان هذا في حسابي» والمعنى أن الكفار وإن كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين فلعل الله تعالى يرزق المؤمنين من حيث لم يحتسبوا، ولقد فعل ذلك بهم فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود، ويسر لهم الفتوح حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر، أو المراد أن ما يرزق العبد في الدنيا من الدنيا فلحرامها عذاب ولحلالها حساب، وما يرزق العبد في الآخرة من النعيم المقيم فبغير عذاب وبغير حساب. ويحتمل أن يخص الرزق في الآية بالمؤمنين في الآخرة، وعلى هذا يكون معنى بِغَيْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 حِسابٍ أي رزقا واسعا وغذاء لا فناء له ولا انقطاع ولا حصر كقوله يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ [غافر: 40] أو يقال: إن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب وبعضها تفضل كما قال فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 173] فالفضل بلا حساب إذ الحساب إنما يحتاج إليه إذا كان بحيث إذا أعطى شيئا ينقص قدر الواجب عما كان والثواب ليس كذلك، فإنه بعد انقضاء الأدوار والأعصار يكون الثواب المستحق بحكم الوعد والفضل باقيا. فعلى هذا لا يتطرق الحساب البتة إلى الثواب. أو أراد أن الذي يعطى لا نسبة له إلى ما في خزائن ملكه وقدرته، فلا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي. أو معنى بغير حساب بغير استحقاق، وإنما يعطى بمجرد الفضل والإحسان. أو معناه أنه يزيد على قدر الكفاية إلى عشرة بل سبعمائة من قولهم «فلان ينفق بالحساب» إذا كان لا يزيد على قدر الكفاية. أو أنه لا يخاف نفاد ما عنده فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه. قوله سبحانه كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً الآية. فيه إشارة إلى أن التباغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا وطيباتها لا يختص بهذا الزمان، وإنما ذلك داء قديم في الإنسان. ثم الأمة كواحدة كانوا على الحق أو على الباطل فيه للمفسرين أقوال: الأول: أنهم كانوا على الحق واختاره المحققون لوجوه منها: قوله تعالى لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وهذا يدل على أن النبيين عليهم السلام بعثوا حين الاختلاف وصيرورة بعضهم مبطلا، ولو كانوا قبل ذلك مجتمعين على الكفر لكان بعث الأنبياء إليهم حينئذ أولى. ومنها النقل المتواتر إن آدم وأولاده كانوا مسلمين مطيعين لله تعالى إلى أن قتل قابيل هابيل حسدا وبغيا. وعن ابن عباس أنه كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون على شريعة من الحق. ومنها أن وقت الطوفان لم يبق إلا أهل السفينة وكلهم كانوا على الحق والدين الصحيح، فلعل الناس إشارة إليهم. ومنها أن الدين الحق يتوقف على النظر، والنظريات مستندة بالآخرة إلى مقدمات تعلم صحتها بضرورة العقل وإلى ترتيب. كذلك فالعقل السليم لا يغلط لو لم يعرض له سبب من خارج، فالصواب له بالذات والخطأ بالعرض وما بالذات أقدم مما بالعرض بحسب الاستحقاق وبحسب الزمان أيضا. فالأولى أن يقال: كان الناس على الحق ثم اختلفوا لأسباب خارجة كالبغي والحسد ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصرانه وبمجسانه» «1» .   (1) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 80. مسلم في كتاب القدر حديث 22، 23. أحمد في مسنده (2/ 315، 346) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 القول الثاني: وهو مروي عن ابن عباس والحسن وعطاء أنهم كانوا على الباطل لأن بعثة الأنبياء مترتبة على ذلك، ولو كانوا على الحق لم يحتج إلى بعثتهم. ولو قيل: إن تقدير الآية فاختلفوا فبعث الله كما قرأ به ابن مسعود، فالأصل عدم الإضمار، والقراءة الشاذة لا يعتد بها. ومتى كان الناس متفقين على الكفر؟ قالوا: من وفاة آدم إلى زمان نوح عليه السلام. كانوا كفارا بحكم الأغلب وإن كان فيهم بعض المسلمين كهابيل وشيث وإدريس عليهم السلام كما يقال: دار الكفر وإن كان فيها مسلمون. القول الثالث: عن أبي مسلم والقاضي أبي بكر أنهم كانوا أمة واحدة في التمسك بالشرائع العقلية وهي الاعتراف بوجود الصانع وصفاته والاشتغال بخدمته وشكر نعمته والاجتناب عن القبائح العقلية كالظلم والكذب والعبث. واحتجا بأن لفظ النبيين جمع معرف فيفيد العموم، والفاء توجب التعقيب فيعلم من ذلك أن تلك الواحدة متقدمة على جميع الشرائع، فلا تكون الاستفادة من العقل، ثم سأل القاضي نفسه فقال: أو ليس أول الناس آدم وأنه كان نبيا مبعوثا؟ وأجاب بأنه يحتمل أن يكون مع أولاده متمسكين بالشرائع العقلية أولا، ثم إن الله تعالى بعثه إلى أولاده. ويحتمل أن شريعته قد صارت مندرسة ثم رجع الناس إلى الشرائع العقلية. القول الرابع: التوقف فلا دلالة في الآية على أنهم كانوا محقين أو مبطلين. القول الخامس: أن المراد من الناس أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى عليه السلام ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد فبعث الله النبيين ومعهم الكتب كما بعث داود ومعه الزبور وعيسى ومعه الإنجيل ومحمدا صلى الله عليه وسلم ومعه الفرقان لتكون تلك الكتب حاكمة في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها. وهذا القول يوافق قول من قال: إن الخطاب في يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ لأهل الكتب. فيراد بالناس إذن ناس معهودون. ثم إنه تعالى وصف النبيين بصفات ثلاث: الأولى: كونهم مبشرين، والثانية: كونهم منذرين وقدمت البشارة على الإنذار لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة، والإنذار يجري مجرى إزالة المرض. أو الأول لكونه مقصود الغذاء، والثاني كتناول الدواء. والأول لكونه مقصودا بالذات مقدم على الثاني لأنه مقصود بالعرض. الصفة الثالثة: قوله وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وفي قوله «معهم» والضمير يعود إلى عامة النبيين دليل على أنه لا نبي إلا ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق والباطل، طال ذلك الكتاب أم قصر، ودوّن ذلك الكتاب أو لم يدوّن، معجزا كان أو غير معجز. قيل: إنزال الكتاب قبل وصول الأمر والنهي إلى المكلفين، ووصول الأمر والنهي إليهم قبل التبشير والإنذار، فلم قدم التبشير والإنذار على إنزال الكتاب؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 وأجيب بأن الوعد والوعيد منهم قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من المعرفة بالله وترك الظلم وغيرهما، وبأن المكلف إنما يتحمل النظر في دلالة المعجز على الصدق. وفي الفرق بين العجز والسحر إذا خاف أنه لو لم ينظر فربما ترك الحق فيصير مستحقا للعقاب والخوف إنما يقوى عند التبشير والإنذار فلهذا قدم ذكرهما على إنزال الكتاب. قلت: فيه فائدة أخرى لفظية هي أن لا يقع فاصلة كثيرة بين الثالثة وبين الأولين، أو بين الثالثة وبين ما رتب عليها من قوله لِيَحْكُمَ أي الكتاب لأنه أقرب. ولا محذور في نسبة الحكم إليه تجوزا كما لا محذور في كونه هدى وشفاء. واللام للجنس، أو أريد مع كل واحد كتابه. وقيل: ليحكم الله لأنه الحاكم في الحقيقة لا الكتاب. وقيل: ليحكم النبي المنزل عليه بين الناس فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في الحق ودين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق، أو في كل ما اختلفوا فيه ولم يعرفوا وجه الصواب في ذلك بحسب حكم الله وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ في الحق إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي أعطوا الحق وأدّوه لمباشرة أسبابه القريبة التي هي مجيء البينات. وقيل: الضمير للكتاب أي إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف، كأنهم عارضوا الكتاب بنقيض ما أنزل لأجله، أنزل لئلا يختلفوا فزادوا في الاختلاف. وفيه دليل على أن الاختلاف في الحق لم يوجد إلا بعد بعثة الأنبياء، وإنزال الكتب كما مر في القول الأول. وقال كثير من المفسرين: المراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى. واختلافهم إما تكفير بعضهم بعضا، وإما تحريفهم أو تبديلهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ يحتمل أن يكون كالبيان لإيتاء الكتاب أي وما اختلف فيه من اختلف إلا من بعد مجيء البينات التي هي الكتب كقوله تعالى وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: 4] ويحتمل أن تكون هذه البينات مغايرة لإيتاء الكتاب ويعني بها الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى إثبات الأصول التي لا يمكن إثباتها بالدلائل السمعية، وإذا حصلت الدلائل العقلية والسمعية لم يكن في العدول عذر ولا علة، ولو حصل الإعراض كان سببه بغيا بينهم وحسدا وظلما لحرصهم على الدنيا ولقلة الإنصاف وكثرة الاعتساف، ومِنَ الْحَقِّ بيان لما اختلفوا فيه أي فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف. واللام بمعنى «إلى» أي هداهم إلى ما اختلفوا فيه كقوله تعالى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا [المجادلة: 3] أي إلى ما قالوه بِإِذْنِهِ قال الزجاج: بعلمه. وقيل: بأمره فبالأمر يحصل التمييز بين الحق والباطل فتحصل الهداية. وقيل: في الآية إضمار أي فهداهم فاهتدوا بإذنه إذ لا جائز أن يأذن لنفسه وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو الحق الموصل إلى كمال الدارين، أو هو طلب الجنة. ولما كان ذلك الحق أو الطلب لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 يتأتى إلا باحتمال شدائد التكليف وأعباء الإرشاد والتعليم قال سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ على طريقة الالتفات التي هي أبلغ تشجيعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع المخالفين من أهل الكتاب والمشركين، فإن من كان نظره أعلى في مراتب قرب المولى فبلاؤه أقوى وهو بالابتلاء أولى. قال في الكشاف: «أم» منقطعة ومعنى الهمزة فيها التقرير وإنكار الحسبان واستبعاده. وقال القفال رضي الله عنه: تقدير الآية: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه حين صبروا على استهزاء قومهم أفتسلكون سبيلهم أم تحسبون أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ من غير سلوك سبيلهم وَلَمَّا يَأْتِكُمْ فيه معنى التوقع. وفيه دليل على أن الإيتاء متوقع منتظر. عن ابن عباس: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة اشتد الضرر عليهم لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم في أيدي المشركين، وأظهرت اليهود العداوة له فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم أَمْ حَسِبْتُمْ وقال قتادة والسدي: نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والخوف وكان كما قال سبحانه وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: 10] وقيل: نزلت في حرب أحد لما قال عبد الله ابن أبي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى متى تقتلون أنفسكم وتنصرون الباطل؟ لو كان محمد نبيا ما سلط الله عليكم الأسر والقتل. والمعنى أم حسبتم أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة بمجرد الإيمان بي والتصديق لرسولي دون أن تعبدوا الله بكل ما تعبدكم به وابتلاكم بالصبر عليه، وأن ينالكم من أذى الكفار، ومن احتمال الفقر والفاقة ومكابدة الضر والبؤس في المعيشة ومقاساة الأهوال في جهاد العدو كما نال ذلك من قبلكم من المؤمنين؟ ومَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا حالهم التي هي مثل في الشدة ومَسَّتْهُمُ بيان للمثل وهو استئناف كأن قائلا قال: كيف كان ذلك المثل؟ فقيل: مستهم الْبَأْساءُ وهي عبارة عن تضييق جهات الخير والمنفعة عليه وَالضَّرَّاءُ وهي إشارة إلى انفتاح أبواب الشر والآفة إليه وَزُلْزِلُوا حركوا وأزعجوا بأنواع البلايا والرزايا إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة وهي من زل الشيء عن مكانه، والتضعيف في اللفظ للتضعيف في المعنى. وقيل: معناه خوّفوا وليس ببعيد، لأن الخائف لا يستقر بل يضطرب لقلقه ولهذا لا يقال ذلك إلا في الخوف المقيم المقعد. ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك شيئا هو الغاية في الدلالة على كمال الضر والبؤس والمحنة فقال: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ لأن الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك غاية في الشدة لا مطمح وراءها. من قرأ «يقول» بالنصب فعلى إضمار أن، ومعنى الاستقبال بالنظر إلى ما قبل «حتى» وإن لم يكن مستقبلا عند الإخبار. ومن رفع فعلى الحال الماضية المحكية كقولهم «شربت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه» أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ أي فقيل لهم ذلك إجابة إلى طلبتهم، فكونوا أنتم معاشر المؤمنين كذلك في تحمل الأذى والمتاعب في طلب الحق، فإن نصر الله قريب لأنه آت وكل ما هو آت قريب، والحاصل أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينالهم من المشركين والمنافقين أذى كثير، ولما أذن لهم في القتال نالهم من الجراح وذهاب الأموال والأنفس ما لا يخفى فعزاهم تعالى في ذلك، وبيّن أن حال من قبلهم في طلب الدين كان ذلك، والمصيبة إذا عمت طابت. وذكر الله تعالى من قصة إبراهيم عليه السلام وإلقائه في النار، ومن أمر أيوب عليه السلام وما ابتلاه به، ومن أمر سائر الأنبياء في مصابرتهم على أنواع المكاره ما صار ذلك سلوة للمؤمنين. روى خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا. فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون. وهاهنا سؤال، وهو أنه كيف يليق بالرسول القاطع بصحة وعد الله ووعيده أن يقول على سبيل الاستبعاد: مت نصر الله؟ والجواب أن كونه رسولا لا يمنع من أن يتأذى من كيد الأعداء، فإذا ضاق قلبه وقلت حيلته وكان قد سمع من الله تعالى أنه ينصره إلا أنه ما عين له ذلك الوقت قال: - عند ضيق قلبه- متى نصر الله؟ حتى إنه إذا علم قرب الوقت زال همه وطاب وقته، ولهذا أجيب بأن نصر الله قريب لا بأن نصر الله كائن. وهذا الجواب يحتمل أن يكون من الله، ويحتمل أن يكون قولا لقوم منهم إذا رجعوا إلى أنفسهم وعلموا أن الله لا يخلف الميعاد. وقيل: إنه تعالى أخبر عن الرسول والذين آمنوا أنهم قالوا قولا ثم ذكروا كلامين: أحدهما متى نصر الله، والثاني ألا إن نصر الله قريب. فهذا الثاني قول الرسول، والأول قول المؤمنين كقوله وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص: 73] والمعنى لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله بالنهار. ثم في الآية دليل على أن كل من لحقه شدة يجب أن يعلم أنه سيظفر بزوالها لأنه إما أن يتخلص عنها وإما أن يموت، وإذا مات فقد وصل إلى من لا يهمل أمره ولا يضيع حقه وذلك من أعظم النصرة. اللهم انصرنا من عندك فإنك نعم المولى ونعم النصير. التأويل: إنه تعالى إذا فتح باب الملكوت على قلب عبد من خواصه يريد آياته وكراماته، فإن اغتر بأحواله تعجب بكماله فيضل على حظوظ النفس ويبدل نعمة الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 بموافقتها ورضاها فإن الله شديد العقاب بأن يغير أحواله ويسلب عنه كماله. كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً على الحق وعلى الفطرة يوم الميثاق وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ الذي جف به القلم للسعادة أو الشقاوة كقوله صلى الله عليه وسلم «ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها من الجنة أو النار» وَمَا اخْتَلَفَ كل فريق إلا وقد أوتوا السعادة أو الشقاوة في حكم الله وقضائه، ولكن ما حصلت السعادة والشقاوة للفريقين إلا من بعد البينات وهي معاملاتهم فبها يتبين السعيد من الشقي وبالعكس، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع المآب. [سورة البقرة (2) : الآيات 215 الى 218] يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) الوقوف: يُنْفِقُونَ ط السَّبِيلِ ط للابتداء بالشرط عَلِيمٌ هـ كُرْهٌ لَكُمْ ج خَيْرٌ لَكُمْ ج لتفصيل الأحوال شَرٌّ لَكُمْ ط لا تَعْلَمُونَ هـ قِتالٍ فِيهِ ط كَبِيرٌ ط على أن قوله «وصدّ» مبتدأ وما بعده معطوف عليه، وقوله «أكبر عند الله» خبره، وقد يقال: «وصد» عطف على «كبير» أي القتال فيه كبير، وسبب صد عن سبيل الله وكفر بالله تعالى وبنعمة المسجد الحرام، أو صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام فيوقف هاهنا، ويجعل «وإخراج أهله» مبتدأ. وقيل: «وصد» عطف الوقف على «سبيل الله» . و «كفر به» مبتدأ. والوجه هو الأول لانتظام المعنى أي القتال منا وإن كان كبيرا ولكن الصد والكفر والإخراج التي كانت منكم أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ط اسْتَطاعُوا ط وَالْآخِرَةِ ج لأن الجملتين وإن اتفقنا فتكرار «أولئك» ينبه على الابتداء مبالغة في تعظيم الأمر النَّارِ ج خالِدُونَ هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا لأن ما بعده خبر «إن» رَحْمَةِ اللَّهِ ط رَحِيمٌ هـ. المستقبل على المستقبل. يَتَذَكَّرُونَ هـ. التفسير: إنه سبحانه لما بالغ في وجوب الإعراض عن العاجل والإقبال على الآجل بكل ما يمكن من الدخول في السلم وبذل المهج والأموال والصبر على مواجب التكاليف والدعاء إلى الدين القويم انتظارا لنصرة الله، شرع بعد ذلك في بيان الأحكام وهو من هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 الآية إلى قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [البقرة: 243] جريا على سننه المرضى من خلط بيان التوحيد وذكر النصيحة والوعظ ببيان الأحكام، ليكون كل منهما مؤكدا للآخر. الحكم الأول: بيان مصرف الإنفاق يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ عن ابن عباس: نزلت الآية في رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي دينارا فقال: أنفقه على نفسك. فقال: إن لي دينارين. فقال: أنفقهما على أهلك. فقال: إن لي ثلاثة فقال: أنفقها على خادمك. فقال: إن لي أربعة قال: أنفقها على والديك. قال: إن لي خمسة قال: أنفقها على قرابتك. قال: إن لي ستة. قال: أنفقها في سبيل الله وهو أخسها أي أقلها ثوابا. وعنه في رواية أبي صالح أنها نزلت في عمرو بن الجموح وهو الذي قتل يوم أحد وكان شيخا كبيرا هرما وعنده ملك عظيم فقال: ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ أما بحث «ماذا» فقد تقدم في قوله ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا [المدثر: 31] وأما أن القوم سألوا عما ينفقون لا عمن تصرف النفقة إليهم فكيف طابق قوله في الجواب قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الآية. فالوجه فيه أنه حصل في الآية ما يكون جوابا عن السؤال، وضم إليه زيادة بها يكمل المقصود. وذلك أن قوله ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ تضمن بيان ما ينفقونه وهو كل خير، وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا إذا صرفت إلى جهة الاستحقاق. وقال القفال: السؤال وإن كان واردا بلفظ «ما» إلا أن المقصود هو الكيفية. فمن المعلوم لهم أن الذي أمروا بإنفاقه مال يخرج قربة إلى الله تعالى، وحينئذ يكون الجواب مطابقا للسؤال كما طابق قوله إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ [البقرة: 71] سؤالهم عن البقرة ما هي، حيث كان من المعلوم أن البقرة بهيمة شأنها كذا وكذا، فتوجه الطلب إلى تعيين الصفة لا الماهية. وقيل: إنهم لما سألوا هذا السؤال أجيبوا بأن السؤال فاسد، أنفق أي شيء كان ولكن بشرط كونه مالا حلالا ومصروفا إلى مصبه، كما لو سأل شخص صحيح المزاج طبيبا حاذقا أي طعام آكل؟ والطبيب يعلم أنه لا يضره أكل الطعام أي طعام كان، فيقول له: كل في اليوم مرتين أي كل ما شئت. لكن بهذا الشرط، فكذا هاهنا المعنى لينفق أي شيء أراد، لكن بشرط وهو أن يراعي الترتيب في الإنفاق فيقدم الوالدين لأنهما كالسبب لوجوده وقد ربياه صغيرا، ثم الأقربين لأن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع الفقراء، الترجيح لا بدّ له من مرحج والقرابة تصلح للترجيح لأنه أعرف بحاله. والإطلاع على غنى الغني مما يحمل المرء على الإنفاق. وأيضا لو لم يعطه قريبه احتاج إلى الرجوع إلى غيره وذلك عار وشنار. وأيضا قريب المرء كجزء منه والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير، ثم اليتامى لعدم قدرتهم على الاكتساب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 لصغرهم، ثم المساكين الذين هم غير اليتامى، وأبناء السبيل لأنهم بسبب الاشتراك في دار الإقامة من أنفسهم، ثم أبناء السبيل المنقطعون عن بلدهم ومالهم ما يتبلغون به إلى أوطانهم، وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ من إنفاق شيء من مال بناء على أن الخير هو المال أو من كل ما يتعلق بالبر والطاعة طلبا لجزيل الثواب وهربا من أليم العقاب. فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم أحسن الجزاء. عن السدي: أن الآية منسوخة بفرض الزكاة. وقال المحققون: ويروى عن الحسن أنها ثابتة، فقد يكون الإنفاق على الفروع والأصول واجبا، ويحتمل أن يكون المراد: من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة تطوعا فليراع هذا الترتيب. قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ كان النبي صلى الله عليه وسلم غير مأذون له في القتال مدة إقامته بمكة، فلما هاجر أذن في قتال من يقاتله من المشركين، ثم أذن في قتال المشركين عامة، ثم فرض الله تعالى الجهاد. قال بعض العلماء: إن هذه الآية تقتضي وجوب القتال على الكل فرض عين لا كفاية. أما الوجوب فمستفاد من لفظ الإيجاب ويكفي العمل به مرة واحدة، وقوله كُتِبَ وأما العموم فلأن قوله عَلَيْكُمُ لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد كما في قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [البقرة: 178] وكُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: 183] وعن مكحول أنه كان يحلف عند البيت بالله أن الغزو واجب. وعن ابن عمر وعطاء أن قوله كُتِبَ يقتضي الإيجاب ويكفي العمل به مرة واحدة، وقوله عَلَيْكُمُ يقتضي تخصيص هذا الكتاب بالموجودين في ذلك الوقت. والعموم في عَلَيْكُمُ الصِّيامُ مستفاد من دليل منفصل هو الإجماع. وذلك الدليل معقود هاهنا بل الإجماع منعقد على أنه من فروض الكفاية إلا أن يدخل المشركون ديار المسلمين فإنه يتعين الجهاد حينئذ على الكل. وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ليس المراد أن المؤمنين ساخطون لأوامر الله تعالى فإن ذلك ينافي الإسلام، وإنما المراد كون القتال شاقا على النفس وهكذا شأن سائر التكاليف، وكيف لا والتكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة وأنها في القتال أكثر لأن الحياة أعظم ما يميل إليه الطباع فبذلها ليس بهين؟ والجود بالنفس أقصى غاية الجود وأيضا كراهتهم للقتال قبل أن فرض لما فيه من الخوف من كثرة الأعداء وإنارة نوائر الفتن، فبيّن تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خير لكم من تركه للمصالح التي نذكرها. والكره الكراهة وضع المصدر موضع الوصف مبالغة، ويجوز أن يكون بمعنى «مفعول» كالخبز بمعنى المخبوز أي هو مكروه لكم. وقرىء بالفتح بمعنى المضموم كالضعف والضعف، ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على سبيل المجاز كأنهم أكرهوا عليه لشدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 كراهتهم له أو مشتقة عليهم كقوله تعالى حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وقال بعضهم: الكره بالضم ما كرهته مما لم تكره عليه، وإذا كان بالإكراه فبالفتح. وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فربما كان الشيء شاقا عليكم في الحال وهو سبب للمنافع الجليلة في الاستقبال وبالضد، ولهذا حسن شرب الدواء المر في الحال لتوقع حصول الصحة في الاستقبال، وحسن تحمل الأخطار في الأسفار لتحصيل الربح في المال، وكذا تحمل المتاعب في طلب العلم للفوز بالسعادة العظمى في الدنيا والعقبى. العلم أوله مر مذاقته ... لكنّ آخره أحلى من العسل وهاهنا كذلك لأن ترك الجهاد وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل وصون المال عن الإنفاق، ولكن فيه أنواع من المفاسد والمضار أدناها تسلط الكفار واستيلاؤهم على ديار المسلمين، وربما يؤدي إلى أن استباحوا بيضة الإسلام واستناخوا بحريمهم واستأصلوهم عن آخرهم. وأما منافع الجهاد فمنها الظفر بالغنائم، ومنها الفرح العظيم بالاستيلاء على العدو. وأما ما يتعلق بالدين فالثبات عليه والثواب في الآخرة. وترغيب الناس في الإسلام وإعلاء كلمة الله، وتوطين النفس للفراق عن دار البلاء والانقطاع عن عالم الحس قال الخليل: «عسى» من الله واجب في القرآن. قال: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة: 52] وقد وجد عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً [يوسف: 83] وقد حصل. والتحقيق أن معنى الرجاء فيه يعود إلى المكلف وإن كان المرجو حاله معلوما لله تعالى كما بينا في «لعل» وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وذلك أن علمه تعالى فعلي يعلم الأسباب وما يترتب عليها، والحوادث وما نشأت هي منها، يحيط علمه بالمبادىء والغايات لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ: 3] وعلمكم انفعالي فلعلكم تعكسون التصورات فتظنون المبادئ غايات وبالعكس، والمصالح مفاسد وبالضد. وفيه ترغيب عظيم في أداء وظائف التكاليف. وتخويف شديد عن تبعة العصيان والمرود، فإن الإنسان إذا تصور قصور نفسه وكمال علم الله تعالى علم أنه لا يأمر العبد إلا بما فيه خيره وصلاحه، فيلزم نفسه امتثاله وإن كرهه طبعه فكأنه تعالى يقول: يا أيها العبد، علمي أكمل من علمك فكن مشتغلا بطاعتي ولا تلتفت إلى مقتضى طبعك وهواك. فهذه الآية في هذا المقام تجري مجرى قوله تعالى في جواب الملائكة إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30] الحكم الثاني في قوله سبحانه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ أكثر المفسرين على أن هؤلاء السائلين هم المسلمون حيث اختلج في صدورهم أن يكون الأمر بالقتال مقيدا بغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 الشهر الحرام، والمسجد الحرام، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل يحل لهم القتال في هذا الزمان وهذا المكان أم لا؟ ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش- وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم- في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين، على رأس سبعة عشر شهرا من مقدمة المدينة، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين: سعد بن أبي وقاص الزهري، وعكاشة بن محصن الأسدي، وعتبة بن غزوان السلمي، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسهيل بن بيضاء، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله، وخالد بن بكير. وكتب لأميرهم عبد الله بن جحش كتابا وقال: سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين. فإذا نزلت منزلتين فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ثم امض لما أمرتك، ولا تستكرهن أحدا من أصحابك على السير معك. فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه «بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل على بطن نخلة فترصد بها عير قريش، لعلك أن تأتينا منه بخبر» فلما نظر عبد الله في الكتاب قال: سمع وطاعة. ثم قال لأصحابه ذلك وقال: إنه قد نهاني أن أستكره أحدا منكم. حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع قد أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فاستأذنا أن يتخلفا في طلب بعيرهما فأذن لهما فتخلفا في طلبه. ومضى عبد الله ببقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة- بين مكة والطائف- فبينما هم كذلك مرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة الطائف، فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل بن عبد الله المخزوميان. فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم فقال عبد الله بن جحش: إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منك فليتعرض لهم، فإذا رأوه محلوقا أمنوا وقالوا: قوم عمار. فحلقوا رأس عكاشة ثم أشرف عليهم فقالوا: قوم عمار لا بأس عليكم فأمنوهم. وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة، وكانوا يرون أنه من جمادى وهي رجب. فتشاور القوم فيهم وقالوا: لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم. فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله فكان أول قتيل من المشركين. واستأسر الحكم وعثمان فكان أول أسيرين في الإسلام، وأفلت نوفل فأعجزهم. واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. فقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف ويذعر فيه الناس لمعايشهم. سفك فيه الدماء وأخذ فيه الحرائب وعيّر بذلك أهل مكة من كان فيها من المسلمين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن جحش وأصحابه: ما أمرتكم بالقتال في الشهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 الحرام، ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا. فعظم ذلك على أصحاب السرية وظنوا أن قد هلكوا وسقطوا في أيديهم وقالوا: يا رسول الله إن قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى وأكثر الناس في ذلك فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير فعزل منها الخمس فكان أول خمس، وقسم الباقي بين أصحاب السرية فكان أول غنيمة في الإسلام. وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم فقال: بل نقفهما حتى يقدم سعد وعتبة، وإن لم يقدما قتلناهما بهما. فلما قدما فأداهما. فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة فمات بها كافرا، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا وقتله الله، وطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية. وقيل: إن هذا السؤال كان من الكفار، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال في الشهر الحرام حتى لو أخبرهم بأنه حرام استحلوا قتاله فيه فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ خفض على أنه بدل الاشتمال من الشهر. وفي قراءة ابن مسعود عن قتال فيه بتكرير العامل. وقرأ عكرمة قتل فيه قل قتال فيه كبير أي عظيم مستنكر كما يسمى الذنب العظيم كبيرة. وإنما جاز وقوع قتال مبتدأ لكونه موصوفا بالظرف. فإن قيل: كيف نكّر القتال في قوله تعالى قُلْ قِتالٌ ومن حق النكرة إذا تكررت أن يكون المذكور ثانيا معرفا مشارا به إلى الأول وإلا كان الثاني مغايرا للأول؟ قلنا: لأن المراد بالقتال الأول الذي سألوا عنه القتال الذي أقدم عليه عبد الله بن جحش. فلو جيء بالثاني معرفا لزم أن يكون ذلك من الكبائر، مع أن الغرض منه كان نصرة الإسلام وإعلاء كلمته، فاختير التنكير ليكون تنبيها على أن القتال المنهي عنه هو الذي فيه تقوية الكفر وهدم قواعد الدين لا الذي سألوا عنه. ثم الجمهور اتفقوا على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام، وهل بقي ذلك الحكم أو نسخ؟ عن ابن جريج أنه قال: حلف لي بالله عطاء أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا على سبيل الدفع. وروى جابر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى. وسئل سعيد بن المسيب هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال: نعم. قال أبو عبيد: والناس بالثغور اليوم جميعا على هذا القول، يرون الغزو مباحا في الأشهر الحرم كلها، ولم أر أحدا من علماء الشام والعراق ينكره عليهم. وكذلك أحسب قول أهل الحجاز والحجة في إباحته. قوله تعالى فَاقْتُلُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] ويمكن أن يقال أن قوله قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ نكرة في حين الإثبات فيتناول فردا واحدا لا كل الأفراد، فلا يلزم منه تحريم القتال في الشهر الحرام مطلقا، فلا حاجة فيه إلى تقدير النسخ والله أعلم. وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ من القتال في الأشهر الحرم فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أنه ظن أنه في جمادى الآخرة؟ واعلم أن قوله وَصَدٌّ قد مر وجوه إعرابه في الوقوف. أما قوله: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ فقيل: إنه معطوف على الهاء في «به» عند من يجوز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، كقراءة حمزة تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [النساء: 1] بالخفض. والكفر بالمسجد الحرام منع الناس عن الصلاة فيه والطواف به وقيل: إنه معطوف على سبيل الله أي صد عن سبيل الله وصد عن المسجد الحرام. واعترض بأنه يلزم الفصل بين صلة المصدر الذي هو الصد، وبين المصدر بالأجنبي الذي هو قوله وَكُفْرٌ بِهِ وأجيب بأن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشيء الواحد في المعنى، فكأنه لا فصل وبأن التقديم لفرط العناية مثل وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 4] وكان حق الكلام «ولم يكن أحد كفوا له» . وقيل: والمسجد الحرام عطف على الشهر الحرام أي يسألونك عن قتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام وهذا قول الفراء وأبي مسلم. وقيل: الواو في «والمسجد الحرام» للقسم. والصد عن سبيل الله هو المنع عن الإيمان بالله وبمحمد أو عن الهجرة. وقيل: منعهم المسلمين عام الحديبية عن عمرة البيت وزيف بأن الآية نزلت قبل غزوة بدر كما مر في قصة ابن جحش. وعام الحديبية كانت بعد غزوة بدر. وأجيب بأن معلوم الله كالواقع. والمراد بإخراج أهله، إخراج المسلمين من مكة. وإنما جعلهم أهلا له إذ كانوا هم القائمين بحقوق المسجد ولهذا قال عز من قائل وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها [الفتح: 26] وإنما كانت هذه الأمور أكبر لأن كل واحد منها كفر والكفر أعظم من القتال. وأيضا إنها أكبر من قتال في الشهر الحرام وهو قتال عبد الله بن جحش، ولم يكن قاطعا بأنه وقع في الشهر الحرام. وأما الكفار فيعلمون بأن هذه الأمور تصدر عنهم في الشهر الحرام وَالْفِتْنَةُ أي الشرك، أو إلقاء الشبهات في قلوب المؤمنين، أو التعذيب كفعلهم ببلال وصهيب وعمار. أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ لأن الفتنة تفضي إلى القتل في الدنيا وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة، فيصح أن الفتنة أكبر من القتل، فضلا عن ذلك القتل الذي وقع السؤال عنه وهو قتل ابن الحضرمي. يروى أنه لما نزلت الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكة «إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام» وَلا يَزالُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 يُقاتِلُونَكُمْ إخبار عن استمرار الكفار على عداوة المسلمين حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ كي يرودكم عنه كقولك «أسلمت حتى أدخل الجنة» بمعنى كي أدخل. ويجوز أن يكون بمعنى «إلى» كقوله وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120] وقوله إِنِ اسْتَطاعُوا استبعاد لاقتدارهم كقول الرجل لعدوّه وهو واثق بأنه لا يظفر به «إن ظفرت بي فلا تبق عليّ» وَمَنْ يَرْتَدِدْ ومن يرجع مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ باق على الردة فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أما في الدنيا فلما يفوته من فوائد الإسلام العاجلة فيقتل عند الظفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين موالاة ولا نصرا ولا ثناء حسنا وتبين زوجته منه ويحرم الميراث، وأما في الآخرة فيكفي في تقريره قوله وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ واعلم أن الردة أغلظ أنواع الكفر حكما، وأنها تارة تحصل بالقول الذي هو كفر كجحد مجمع عليه، وكسبّ نبي من الأنبياء. وأخرى بالفعل الذي يوجب استهزاء صريحا بالدين كالسجود للشمس والصنم وإلقاء المصحف في القاذورات. وكذا لو اعتقد وجوب ما ليس بواجب. ويشترط في صحة الردة التكليف، فلا تصح ردة الصبي والمجنون. وهاهنا بحث أصولي وهو أن جماعة من المتكلمين ذهبوا إلى أن شرط صحة الإيمان والكفر حصول الموافاة. فالإيمان لا يكون إيمانا إلا إذا مات المؤمن عليه، والكفر لا يكون كفرا إلا إذا مات الكافر عليه. لأن من كان مؤمنا ثم ارتد- والعياذ بالله- فلو كان ذلك الإيمان الظاهر إيمانا في الحقيقة لكان قد استحق عليه الثواب الأبدي. فإما أن يبقي الاستحقاقان وهو محال، وإما أن يقال إن الطارئ يزيل السابق وهو أيضا محال، لأنهما متنافيان وليس أحدهما أولى بالتأثير من الآخر، بل السابق بالدفع أولى من اللاحق بالرفع لأن الدفع أسهل من الرفع. وأيضا شرط طريان الطارئ زوال السابق. فلو عللنا زوال السابق بطريان الطارئ لزم الدور. وبحث فروعي: وهو أن المسلم إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في الوقت فعند الشافعي: لا إعادة عليه لأن شرط حبوط العمل أن يموت على الردة لقوله تعالى عطفا على الشرط فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ وعند أبي حنيفة لزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج لما جاء في موضع آخر مطلقا وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 88] والحبط في اللغة أن تأكل الإبل شيئا يضرها فتعظم بطونها فتهلك. وفي الحديث «وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم» «1» سمي بطلان الأعمال بهذا لأنه كفساد الشيء بسبب ورود المفسد عليه.   (1) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 37. مسلم في كتاب الزكاة حديث 121. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 18. أحمد في مسنده (3/ 7، 21) . [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 ولا شك أن المراد من إحباط العمل ليس هو إبطال نفس العمل، لأن العمل شيء كما وجد فني وزال وإعدام المعدوم محال. فقال المثبتون للإحباط والتكفير: المعنى أن عقاب الردة الحادثة يزيل ثواب الإيمان السابق. إما بشرط الوازنة كما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة، أو لا بشرط الموازنة كما هو مذهب أبي علي. وقال المنكرون للإحباط: المراد بالإحباط الوارد في كتاب الله تعالى هو أن المرتد إذا أتى بالردة فتلك الردة عمل محبط لا يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق ثوابا، فمعنى حبط عمله أنه أتى بعمل ليس فيه فائدة، بل فيه مضرة عظيمة، أو المراد أنه تبين أن أعماله السابقة لم تكن معتدا بها شرعا. وروي أن عبد الله بن جحش وأصحابه حين قتلوا ابن الحضرمي ظن قوم أنهم إن سلموا من الإثم لم يكن لهم أخر فنزلت إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية . لأن عبد الله كان مؤمنا وكان مهاجرا وصار بسبب هذا القتال مجاهدا. وقيل: إنه تعالى لما أوجب الجهاد بقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وبين أن تركه سبب للوعيد، أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويعقبه وعد. ومعنى هاجروا فارقوا أوطانهم وعشائرهم من الهجر الذي هو ضد الوصل. والهجر الكلام القبيح لأنه مما ينبغي أن يهجر. وجاز أن يكون المراد أن الأحباب والأقارب هجروه بسبب هذا الدين وهو أيضا هجرهم بهذا السبب فكان ذلك مهاجرة. والمجاهدة من الجهد بالفتح الذي هو المشقة، أو من الجهد بالضم الطاقة لأنه يبذل الجهد في قتال العدو عند فعل العدو مثل ذلك، ويجوز أن يكون معناها ضم جهده إلى جهد أخيه في نصرة دين الله كالمساعدة ضم ساعده إلى ساعد أخيه لتحصيل القوة أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ يحتمل أن يكون الرجاء بمعنى القطع واليقين ولكن في أصل الثواب، والظن إنما دخل في كميته وكيفيته وفي وقته. ويحتمل أن يراد المنافع التي يتوقعونها، فإن عبد الله بن جحش ما كان قاطعا بالثواب في عمله بل كان يظن ظنا، وإنما جعل الوعد معلقا بالرجاء ليعلم أن الثواب على الإيمان والعمل غير واجب، وإنما ذلك بفضله ورحمته كما هو مذهبنا. ولو وجب أيضا صح لأنه متعلق بأن لا يكفر بعد ذلك وهذا الشرط مشكوك. وأيضا المذكور هاهنا هو الإيمان والهجرة والجهاد. ولا بد للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال والتوفيق فيها مرجو من الله. وأيضا المراد وصفهم بأنهم يفارقون الدنيا مع هذه الخصال مستقصرين أنفسهم في نصرة دين الله، فيقدمون عليه راجين رحمته خائفين عقابه وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون: 60] . وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يحقق لهم رجاءهم إن شاء بعميم فضله وجسيم طوله. عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 قتادة: هؤلاء خيار هذه الأمة. ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وإنه من رجا طلب ومن خاف هرب. وقال شاه الكرماني: علامة الرجاء حسن الطاعة. وقيل: الرجاء رؤية الجلال بعين الجمال. وقيل: قرب القلب من ملاطفة الرب. روي عن لقمان أنه قال لابنه: خف الله تعالى خوفا لا تأمن فيه مكره، وأرجه رجاء أشد من خوفك. قال: فكيف أستطيع ذلك وإنما لي قلب واحد؟ قال: أما علمت أن المؤمن كذي قلبين يخاف بأحدهما ويرجو بالآخر؟ وهذا لأنهما من حكم الإيمان وهما للمؤمن كالجناحين للطائر، إذا استويا استوى الطير وتم في طيرانه. ومن هنا قيل: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا. [سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 221] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) القراآت: إثم كثير بالثاء المثلثة: حمزة وعلي. الباقون: بالباء. قُلِ الْعَفْوَ بالرفع أبو عمرو. الباقون: بالنصب. لَأَعْنَتَكُمْ بغير همز: روى أبو ربيعة عن أصحابه. وعن حمزة وجهان في الوقف ترك الهمزة لبيان المذهب، والهمز ليدل على أصل الكلمة. الوقوف: وَالْمَيْسِرِ ط لِلنَّاسِ ز قد يجوز مع اتفاق الجملتين تنبيها على أن بيان الثانية أهم من الأولى مِنْ نَفْعِهِما ط يُنْفِقُونَ ط الْعَفْوَ ط تَتَفَكَّرُونَ لا لتعلق الجار. وَالْآخِرَةِ ط الْيَتامى ط خَيْرٌ ط فَإِخْوانُكُمْ ط الْمُصْلِحِ ط لَأَعْنَتَكُمْ ط حَكِيمٌ هـ يُؤْمِنَّ ط لأجل لام الابتداء بعده أَعْجَبَتْكُمْ ج لوقوع العارض وإن اتفقت الجملتان يُؤْمِنُوا ط أَعْجَبَكُمْ ط إِلَى النَّارِ ج والوصل أجوز لأن مقصود الكلام بيان تفاوت الدعوتين مع اتفاق الجملتين، ومن وقف أراد الفصل بين ذكر الحق والباطل بِإِذْنِهِ ج لأن جملة «والله يدعو» تقابل الجملة الأولى فلم يكن قوله «ويبين آياته» من تمامها إذ ليس في الجملة الأولى ذكر بيان، ومن وصل فلعطف المستقبل على المستقبل يَتَذَكَّرُونَ (هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 التفسير: الحكم الثالث: بيان حرمة الخمر والميسر. قالوا: نزلت في الخمر أربع آيات نزلت بمكة وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النحل: 67] فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال، ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من أصحابه قالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزلت هذه الآية، فشربها قوم وتركها آخرون. ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا، فأمّ بعضهم فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون. فنزلت لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء: 43] فقلّ من يشربها. ثم دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد ابن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار، فضربه أعرابي بلحي بعير فشجه موضحة، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 90] فقال عمر: انتهينا يا رب. والحكمة في وقوع التحريم على هذا الوجه أن القوم قد ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بذلك كثيرا، فلو منعوا دفعة واحدة لشق ذلك عليهم فإن الفطام عن المألوف شديد، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج والرفق. واختلف العلماء في مفهوم الخمر فقال الشافعي: كل شراب مسكر فهو خمر. وقال أبو حنيفة: الخمر ما غلى واشتد وقذف بالزبد من عصير العنب. احتج الشافعي بما روى أبو داود في سننه عن الشعبي عن ابن عمر عن عمر قال: نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير. وهذا دليل على أن الخمر عندهم كل ما خامر العقل أي خالطه. والتركيب يدل على الستر والتغطية، ومنه خمار المرأة. وكذا ما روي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البر خمرا وإن من الشعير خمرا» ، قال الخطابي: إنما جرى ذكر هذه الأشياء خصوصا لكونها معهودة في ذلك الزمان، وكل ما في معناها من ذرة أو سلت أو عصارة شجر فحكمها حكم هذه الخمسة. كما أن تخصيص الأشياء الستة بالذكر في خبر الربا لا يمنع من ثبوت حكم الربا في غيرها. وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» «1» فمراد الشارع أن كل   (1) رواه مسلم في كتاب الأشربة حديث 73. أبو داود في كتاب الأشربة باب 5. الترمذي في كتاب الأشربة باب 1. ابن ماجه في كتاب الأشربة باب 9. أحمد في مسنده (2/ 16، 29) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 مسكر فهو خمر لغة أو شرعا فيكون حقيقة لغوية أو شرعية كالصلاة، ولئن منع ذلك فلا أقل من أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة وهو المراد. وعن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع- وهو شراب يتخذ من العسل- فقال صلى الله عليه وسلم: «كل شراب مسكر فهو حرام» «1» وعن أم سلمة قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر. قال: الخطابي: والمفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء. وأيضا الآيات الواردة في الخمر منها اثنتان بلفظ الخمر وغيرهما بلفظ المسكر مثل لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: 43] وفيه دليل على أن المراد بالخمر هو المسكر. وكذا في قول عمر ومعاذ «الخمر مذهبة للعقل» . فإنه يوجب أن كل ما كان مساويا للخمر في هذا المعنى إما أن يكون خمرا وإما أن يكون مساويا للخمر في علة التحريم. وأيضا قال تعالى إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة: 90] ولا شك أن هذه الأفعال معللة بالسكر فيعلم منه أن حرمة الخمر معللة بالإسكار. فإما أن يجب القطع بأن كل مسكر خمر، وإما أن يلزم الحكم بالحرمة في كل مسكر. حجة أبي حنيفة قوله تعالى تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النحل: 67] منّ الله علينا باتخاذ السكر والرزق الحسن، والنبيذ سكر ورزق حسن، فوجب أن يكون مباحا لأن المنة لا تكون إلا بالمباح، وأيضا ما روي في الصحيحين عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى فقال رجل: يا رسول الله، ألا أسقيك نبيذا؟ قال: بلى. فخرج يسعى فجاء بقدح فيه نبيذ فشرب. واعلم أن المسكر حرام جنسه قل أم كثر نيئا أو مطبوخا لقوله صلى الله عليه وسلم «ما أسكر كثيره فقليله حرام» «2» وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام» «3» قال الخطابي: الفرق مكيال يسع ستة عشر رطلا. وفيه أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب. وعن ابن عباس أنه جاء رجل فسأله عن العصير فقال: اشربه ما كان طريا. قال: إني أطبخه وفي نفسي منه شيء. قال: أكنت شاربه قبل أن تطبخه؟ قال: لا، قال: إن النار لا تحل شيئا وقد حرم. وقال   (1) رواه البخاري في كتاب الأشربة باب 4. بلفظ «إذا لم يسكر فلا بأس به» . (2) رواه أبو داود في كتاب الأشربة باب 5. الترمذي في كتاب الأشربة باب 3. النسائي في كتاب الأشربة باب 25. ابن ماجه في كتاب الأشربة باب 10. الدارمي في كتاب الأشربة باب 8. أحمد في مسنده (2/ 91، 167) . (3) رواه أبو داود في كتاب الأشربة باب 5. الترمذي في كتاب الأشربة باب 3. أحمد في مسنده (6/ 71، 72، 131) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 أبو حنيفة: المطبوخ من عصير العنب إن ذهب أقل من ثلثيه فهو حرام لكن لا حد على شاربه إلا إذا سكر، وإن ذهب ثلثاه فهو حلال إلا القدر المسكر فيحرم ويتعلق بشربه الحد. يروى أن عمر بن الخطاب كتب إلى بعض عماله «أما بعد فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان فإن له اثنين ولكن واحدا» . ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد فهو حرام ولكن لا حد فيه ما لم يسكر، فإن طبخ فهو حلال إلا المقدار الذي يسكر فإن ذلك حرام ويحد به، ولا يعتبر في النقيع ذهاب الثلثين. ونبيذ الحنطة والشعير والعسل وغيرها حلال نيئا كان أو مطبوخا، ولا يحرم منه إلا القدر المسكر. وذكروا في حد السكران عبارات فعن الشافعي: أنه الذي اختلط كلامه المنظوم وانكشف سره المكتوم. وقيل: الذي لا يفرق بين السماء والأرض وقيل: الذي يتمايل في مشيه ويهذي في كلامه. والأقرب أن الرجوع فيه إلى العادة. ثم إن قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ليس فيه بيان أنهم عن أي شيء سألوا، فيحتمل أنهم سألوا عن حقيقته وماهيته، ويحتمل أنهم سألوا عن حل الانتفاع وحرمته، ويحتمل أنهم سألوا عن حل شربه وحرمته إلا أنه تعالى لما أجاب بذكر الحرمة بل تخصيص الجواب على أن ذلك السؤال كان واقعا عن الحل والحرمة أي يسألونك عما في تعاطيهما. وأما كيفية دلالة الآية على الحرمة فهي أنها مشتملة على أن في الخمر إثما والإثم حرام لقوله تعالى قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ [الأعراف: 33] ومما يؤكد هذا أن السؤال كان واقعا عن مطلق الخمر وقد جعل الله تعالى الإثم لازما لهذه الماهية فيلزمها الإثم على جميع التقادير من الشرب وغير ذلك من وجوه الانتفاع والاستعمال. وصرح أيضا بأن الإثم الحاصل منها أكبر من النفع المتوهم فيها عاجلا، وإنما لم يقنع كبار الصحابة بهذه الآية طلبا لما هو آكد في التحريم ثقة واطمئنانا كما التمس إبراهيم عليه السلام مشاهدة إحياء الموتى طلبا لمزيد الإيقان وركونا إلى سكون النفس بالعيان. فإن قيل: لما كان الإثم لازما لماهية الخمر من حيث هي، فلم لم تكن محرمة في سائر الشرائع؟ قلت: كم من نقص في الأديان السالفة تممه شرع خاتم النبيين! وأيضا هذا لزوم شرعي، ويمكن أن تختلف الشرائع بحسب اختلاف الأزمان ولا سيما إذا اعتبرت مصالح الإنسان. والميسر القمار مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعليهما. يقال: يسرته أي قمرته مشتق من اليسار لأنه يسلب يساره. عن ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله. أو من اليسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير ما كدّ وتعب. وقال ابن قتيبة: الميسر من التجزئة والاقتسام يقال: يسروا الشيء إذا اقتسموه. فالجزور نفسه يسمى ميسرا لأنه يجزأ أجزاء والياسر الجازر. ثم يقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 للقامر: ياسر لأنه بسبب ذلك الفعل يجزىء لحم الجزور. وقال الواحدي: يسر الشيء أي وجب، والياسر الواجب بسبب القداح. وأما صفة الميسر على ما في الكشاف فهي: إنه كانت لهم عشرة أقداح- وهي الأزلام والأقلام- أساميها: الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد. لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤنها عشرة أجزاء. وقيل: ثمانية وعشرين. لا نصيب لثلاثة وهي المنيح والسفيح والوغد، وللفذ سهم، والتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة. يجعلونها في الربابة- وهي خريطة- ويضعونها على يدي عدل ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا منها. فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم. قال العلماء: وفي حكم الميسر سائر أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «إياكم وهاتين الكعبتين المشئومتين فإنهما من ميسر العجم» «1» وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء: كل شيء فيه خطر فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز. وروي أن عليا رضي الله عنه مر بقوم وهم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟. إلا أن الشافعي رخص في الشطرنج إذا خلا عن الرهان، وكف اللسان عن الطغيان، وحفظ الصلاة عن النسيان. فإن الميسر ما يوجب دفع مال وأخذ مال وهذا ليس كذلك. ويحكى اللعب به عن ابن الزبير وأبي هريرة وكثير من السلف. وأما السبق في النصل والخف والحافر فجائز بالاتفاق لقوله صلى الله عليه وسلم «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر» «2» وذلك لما فيها من التأهب للجهاد، والكلام في تفاصيلها وشروطها مذكور في كتب الفقه. قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ أي إنهما من الكبائر. ومن قرأ بالثاء فمعنى الكثرة أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة. أما في الخمر فلأنها عدوّ العقل الذي هو عقال الطبع وأشرف خصائص الإنسان ومقابل الأشرف يكون أخس الأشياء. حكى بعض الأدباء أنه مر على سكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضئ ويقول: الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا والماء طهورا. وعن العباس بن مرداس أنه قيل   (1) رواه أحمد في مسنده (1/ 446) بلفظ «وهاتان الكعبتان..» . (2) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 60. الترمذي في كتاب الجهاد باب 22. النسائي في كتاب الخيل باب 14. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 44. أحمد في مسنده (2/ 256، 358) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 له في الجاهلية: لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد في جرأتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمسي سفيههم، ومن خواصها أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر كان الميل إليها أتم، وقوة النفس عليها أقوى. بخلاف سائر المعاصي كالزنا وغيره، وكفى بقوله إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة: 90] وبقوله صلى الله عليه وسلم «الخمر أم الخبائث» «1» ذما لها وتقريرا لإثم شاربها. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب الخمر عشرة. وقال صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام» «2» «وإن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار» «3» وكذا الكلام في الميسر مع أن فيه أكل الأموال بالباطل. وأما المنافع المذكورة فهي أنهم كانوا يغالون بها إذا جلبوها من النواحي، وكان المشتري إذا ترك المماكسة في الثمن يعدّ ذلك فضيلة ومكرمة، وكان يكثر أرباحهم بذلك السبب قال أبو محجن: أقومها زقا يحق بذا كم يساق إلينا تجرها ونسوقها. قال أبقراط: في الخمر عشر منافع. خمس جسمانية وخمس نفسانية. فالجسمانية أنها تجوّد الهضم وتدرّ البول وتحسن البشرة وتطيب النكهة وتزيد في الباه. والنفسانية أنها تسر النفس وتقرب الأمل وتشجع النفس وتحسن الخلق وتزيل البخل. ومن منافع الميسر التوسعة على ذوي الحاجات لأنهم كانوا يفرقونه على المساكين فيكتسبون به الثناء والمدح. ولا ريب أن منافع الخمر والميسر لكونها مظنونة عاجلة أقل من إثمهما لكونه متيقن. الحساب الدائم العذاب، والعاقل لا يختار النفع القليل الزائل بعقاب أبدي لا نهاية له. الحكم الرابع: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ وقد تقدم ذكر هذا السؤال وأجيب عنه بذكر المصرف وأعيد هنا فأجيب بذكر الكمية. وذلك أن الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق وينبهان على عظم ثوابه، سألوا عن مقدار ما كلفوا به هل هو كل المال أو بعضه؟ ومعنى العفو ما تيسر وسهل مما يكون فاضلا عن الكفاية. ويشبه أن يكون العفو عن الذنب راجعا إلى التيسير والتسهيل. ويقال للأرض السهلة: العفو. ومن   (1) رواه النسائي في كتاب الأشربة باب 44. (2) رواه مسلم في كتاب الأشربة حديث 73. أبو داود في كتاب الأشربة باب 5. الترمذي في كتاب الأشربة باب 1. ابن ماجه في كتاب الأشربة باب 9. أحمد في مسنده (2/ 16، 29) . (3) رواه مسلم في كتاب الأشربة حديث 72. أبو داود في كتاب الأشربة باب 5. النسائي في كتاب الأشربة باب 45. أحمد في مسنده (2/ 178) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 قال إن العفو هو الزيادة، فهو أن الغالب أن ذلك إنما يكون فيما يفضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله. وحاصل الأمر يرجع إلى التوسط في الإنفاق والنهي عن التبذير والتقتير. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحبس لأهله قوت سنة. وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الصدقة ما أبقت غنى ولا يلام على كفاف» «1» وللعلماء في هذا الإنفاق خلاف. فعن أبي مسلم: أنه يجوز أن يكون العفو هو الزكوات، ذكرها هاهنا مجملة وتفصيلها في السنة، وقيل: إنه تطوع ولو كان مفروضا لبين مقداره ولم يفوّض إلى رأي المكلف. وقيل: إن هذا كان قبل نزول آية الصدقات، وكانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ما يكفيهم في عامهم وينفقون ما فضل ثم نسخ بالزكاة. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي كما بين لكم وجوه الإنفاق ومصارفه فهكذا يبين لكم في مستأنف أيامكم جميع ما تحتاجون إليه. لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فتأخذون بما هو أصلح لكم من سلوك سبيل العدالة للإنفاق وغيره، أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع. ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما أي لتتفكروا في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا حتى لا تختاروا الأدنى على الأعلى. ويجوز أن يتعلق ب «يبين» أي يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون. الحكم الخامس: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النساء: 10] عزلوا أموالهم عن أموالهم فنزلت. وعنه عن ابن عباس قال: لما أنزل الله تعالى وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام: 152] وقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ [النساء: 10] نطلق من كان عنده مال اليتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، وجعل يحبس له ما يفضل من طعامه حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وهو كلام جامع لمصالح اليتيم والولي. أما لليتيم فلأنه يتضمن صلاح نفسه بالتقويم والتأديب، وصلاح ماله بالتبقية والتثمير لئلا تأكله النفقة عليه والزكاة منه. وأما الولي فلأن إحراز الثواب خير له من التحرز عن مال اليتيم حتى تختل مصالحه وتفسد معيشته، وقيل: الخبر عائد إلى الولي يعني إصلاح أموالهم من غير عوض ولا أجرة خير للولي وأعظم أجرا، وقيل: عائد إلى اليتيم أي مخالطتهم بالإصلاح خير لهم من التفرد عنهم والإعراض عن أمورهم، والأصوب هو القول الأول، فإن جهات المصالح مختلفة غير مضبوطة فينبغي أن يكون نظر المتكفل لأمور اليتيم على تحصيل الخير في الدنيا والآخرة   (1) رواه الدارمي في كتاب الزكاة باب 21. بلفظ «خير الصدقة ما تصدق به عن ظهر غنى» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 لنفسه ولليتيم في ماله ونفسه. وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم في الإسلام، والمخالطة جمع يتعذر فيه التمييز. قيل: المراد وإن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والخدم بما لا يتضمن إفساد أموالهم فذلك جائز كما يفعله المرء بمال ولده ومع إخوانه في الدين، فإن هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة. وقيل: المراد بهذه المخالطة أخذ مقدار أجرة المثل في ذلك العمل، وسنشرح المذاهب في ذلك إن شاء الله تعالى إذا انتهينا إلى تفسير قوله تعالى وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 6] وقيل: المراد أن يخالطوا أموال اليتامى بأموالهم وأنفسهم على سبيل الشركة بشرط رعاية جهات المصلحة والغبطة للصبي وحمل بعضهم المخالطة على المصاهرة واختاره أبو مسلم، لأن هذا خلط اليتيم نفسه والشركة خلط لماله. وأيضا الشركة داخلة في قوله قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ والخلط من جهة النكاح وتزويج البنات منهم لم يدخل في ذلك، فحمل الكلام على هذا الخلط أقرب. وأيضا إنه تعالى قال بعد هذه الآية وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ فكان المعنى إن المخالطة المندوب إليها إنما هي في اليتامى الذين هم لكم إخوان في الإسلام لتتأكد الألفة بالمناكحة، فإن كان اليتيم من المشركين فلا تفعلوا ذلك وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ لأمورهم مِنَ الْمُصْلِحِ لها، أو يعلم ضمائر من أراد الإفساد والطمع في مالهم بالنكاح من المصلح فيجازيه على حسب غرضه ومقصده، فأحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح، وفيه تهديد عظيم فكأنه قال: أنا المتكفل بالحقيقة لأمر اليتيم، وأنا المطالب لوليه إن قصر. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ لحملكم على العنت وهو المشقة بأن ضيق عليكم طريق المخالطة معهم. وعن ابن عباس: لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا. وذلك أنهم كانوا في الجاهلية قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى وربما تزوجوا باليتيمة طمعا في مالها، أو يزوجها من ابن له كيلا يخرج مالها من يده. وقد يستدل بالآية على أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يقدر عليه وعلى أنه تعالى قادر على خلاف العدل لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعنات ما جاز أن يقول «ولو شاء لأعنت» ولهذا قال: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم ولكنه حَكِيمٌ لا يكلف إلا ما يتسع فيه طاقتهم. الحكم السادس: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ أكثر المفسرين على أن هذه الآية ابتداء شرع وحكم آخر في بيان ما يحل ويحرم. وعن أبي مسلم: أنه متعلق بقصة اليتامى ترغيبا في مخالطتهنّ دون مخالطة المشركات. عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي- وكان حليفا لبني هاشم- إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 يهوى امرأة في الجاهلية اسمها عناق. فأتته وقالت: ألا نخلو؟ فقال: ويحك إن الإسلام حال بيننا. فقالت: فهل لك أن تتزوّج بي؟ قال: نعم. ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمره فنزلت هذه الآية. ثم العلماء اختلفوا في الآية في موضعين: الأوّل في لفظ النكاح فقال أكثر أصحاب الشافعي: إنه حقيقة في العقد لقوله صلى الله عليه وسلم «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» «1» ولا شك أن المتوقف على الولي والشاهد هو العقد لا الوطء. ولقوله صلى الله عليه وسلم أيضا «ولدت من نكاح لا من سفاح» ولقوله تعالى وَأَنْكِحُوا الْأَيامى [النور: 32] وقال الجمهور من أصحاب أبي حنيفة: إنه حقيقة في الوطء لقوله تعالى حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] والنكاح الذي ينتهي إليه الحرمة ليس هو العقد بل هو الوطء بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» «2» وقال صلى الله عليه وسلم: «ناكح اليد ملعون وناكح البهيمة ملعون» ومن الناس من قال: النكاح عبارة عن الضم. يقال: نكح المطر الأرض إذا وصل إليها، ونكح النعاس عينيه. والضم حاصل في العقد وفي الوطء، فيحسن استعمال اللفظ فيهما جميعا. قال ابن جني: سألت أبا علي عن قولهم «نكح المرأة» فقال: فرقت العرب بالاستعمال فرقا لطيفا. فإذا قالوا: نكح فلان فلانة، أرادوا أنه تزوّجها وعقد عليها. وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجته. لم يريدوا غير المجامعة. إلا أن المفسرين أجمعوا على أن المراد بالنكاح في هذه الآية هو العقد أي لا تعقدوا على المشركات. الثاني لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب أم لا؟ قال الأكثرون: نعم لقوله تعالى وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ إلى قوله سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31] ولقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] فلو كان كفر اليهود والنصارى غير الشرك لاحتمل أن يغفر الله لهم وذلك باطل بالاتفاق. وأيضا النصارى قائلون بالتثليث وليس ذلك في الصفات، فإن أكثر المسلمين أيضا يثبتون لله تعالى صفات قديمة، فإذن هو في الذات وهذا شرك محض. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمّر أميرا وقال: إذا لقيت عدوّا من المشركين فادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فادعهم إلى الجزية وعقد الذمة، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. سمى من يقبل الجزية وعقد الذمة بالمشرك. وقال أبو بكر الأصم: كل من جحد رسالته فهو مشرك من حيث إن تلك المعجزات التي   (1) رواه البخاري في كتاب النكاح باب 36. أبو داود في كتاب النكاح باب 19. الترمذي في كتاب النكاح باب 14. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 15. الدارمي في كتاب النكاح باب 11. أحمد في مسنده (1/ 250) . (2) رواه البخاري في كتاب الطلاق باب 7، 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 ظهرت على يده كانت خارجة عن حدّ البشر، وهم أنكروها وأضافوها إلى الجن والشياطين، فقد أثبتوا شريكا لله سبحانه في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر. واعترض عليه بأن اليهودي حيث لا يسلم أن ما ظهر على يد محمد صلى الله عليه وسلم هو من جنس ما لا يقدر العباد عليه، لم يلزم أن يكون مشركا بسبب إضافة ذلك إلى غير الله. والجواب أنه لا اعتبار بإقراره، وإنما الاعتبار بالدليل، فإذا ثبت بالدليل أن ذلك المعجز خارج عن قدرة البشر، فمن أضاف ذلك إلى غير الله كان مشركا كما لو أسند خلق الحيوان والنبات إلى الأفلاك والكواكب. احتج المخالف بأنه تعالى فصل بين أهل الكتاب والمشركين في الذكر حيث قال ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [البقرة: 105] لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة: 1] والعطف يقتضي التغاير. وأجيب بأن كفر الوثني أغلظ وهذا القدر يكفي في العطف، أو لعله خص أوّلا ثم عمم. هذا وقد سلف في تفسير قوله عز من قائل فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً [البقرة: 22] أن أكثر عبدة الأوثان مقرون بأن إله العالم واحد، وأنه ليس له في الإلاهية بمعنى خلق العالم وتدبيره شريك ونظير، فظهر أن وقوع اسم المشرك عليهم ليس بحسب اللغة بل بالشرع كالصلاة والزكاة. وإذا كان كذلك فلا يبعد بل يجب اندراج كل كافر تحت هذا الاسم، لا سيما وقد تواتر النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يسم كل من كان كافرا بأنه مشرك. التفريع إن قيل: المشركات تشمل الحربيات والكتابيات جميعا فالآية منسوخة أو مخصصة بقوله وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: 5] لأن سورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ شيء منها قط وهو قول ابن عباس والأوزاعي. لا يقال: لعل المراد من آمن بعد أن كان من أهل الكتاب لأن قوله وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ [المائدة: 5] يشمل من آمن منهنّ فيبقى قوله وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [المائدة: 5] ضائعا ولإجماع الصحابة على جواز نكاح الكتابيات نقل أن حذيفة تزوّج بيهودية أو نصرانية فكتب إليه عمر أن خل سبيلها. فكتب إليه: أتزعم أنها حرام؟ فقال: لا، ولكني أخاف. وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نتزوّج نساء أهل الكتاب ولا يتزوّجون نساءنا» وعن عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزا لكان هذا الاستثناء خاليا عن الفائدة. وإن قيل: إن المشركات تختص بالحربيات، فالآية ثابتة وباقية على عمومها. ومن الناس من زعم أن هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التزوج بالمشركات. روي هذا عن الحسن وزيف بأن رفع مباح الأصل ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 بنسخ لأن الناسخ والمنسوخ يجب أن يكونا حكمين شرعيين إلا أن يقال: إن تجويز نكاح المشركة قبل نزول الآية كان ثابتا من قبل الشرع. قوله حَتَّى يُؤْمِنَّ اتفق الكل على أن المراد منه الإقرار بالشهادة والتزام أحكام الإسلام، ولكن لا يدل هذا على أن الإيمان في عرف الشرع عبارة عن الإقرار فقط لما مر في تفسير قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] أنه لا بد في الإيمان الحقيقي من التصديق القلبي، إلا أنه اكتفي هاهنا بالإقرار اللساني لأنه هو أمارة الإيمان بالنسبة إلينا، فلا اطلاع لنا على صميم القلب، والسرير موكولة إلى علام الخفيات. فإن وافق سره العلن كان مؤمنا حقا وإلا كان منافقا جدا وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ هذه اللام في إفادة التوكيد تشبه لام القسم. والمراد بالأمة وكذا بالعبد في قوله وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ أمة الله وعبده لأن الناس كلهم عبيدا لله وإماؤه أي ولا مرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ للمبالغة والجواب محذوف أي ولو كانت المشركة تعجبكم بمالها وجمالها ونسبها، فالمؤمنة خير منها لأن الإيمان يتعلق بالدين والمال، والجمال والنسب يتعلق بالدنيا، ورعاية الدين أولى من رعاية الدنيا إن لم يتيسر الجمع بينهما. وقد تحصل المحبة والتآلف عند التوافق في الدين فتكمل منافع الدنيا أيضا من حسن الصحبة والعشرة وحفظ الغيب وضبط الأموال والأولاد، وأما عند اختلاف الدين فتنعكس هذه القضايا. وقد يرى أضداد ما توقع منها ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسنها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك» «1» وقد ظن بعضهم أن المراد بالأمة ضد الحرة فقال: التقدير: ولأمة مؤمنة خير من حرة مشركة. ولهذا ذهب بعض آخر إلى أن في الآية دلالة على أن القادر على طول الحرة يجوز له التزوّج بالأمة على ما هو مذهب أبي حنيفة، لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يكون لا محالة واجدا لطول الحرة المسلمة، لأنه بسبب التفاوت في الإيمان والكفر لا يتفاوت قدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح، فيلزم قطعا أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأمة وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا لا خلاف هاهنا في أن المراد به الكل، وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر على اختلاف أقسام الكفر أُولئِكَ المشركات والمشركون يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي إلى ما يؤدي إليها، فإن الزوجية مظنة الألفة والمحبة في الظاهر، وقد تحمل المودة على الاتفاق في الدين   (1) رواه البخاري في كتاب النكاح باب 15. أبو داود في كتاب النكاح باب 2. النسائي في كتاب النكاح باب 13. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 6. الدارمي في كتاب النكاح باب 4. الموطأ في كتاب النكاح حديث 21. أحمد في مسنده (2/ 428) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 فلعل المؤمن يوافق الكافر، والاحتراز عن مظنة الارتداد أهم من الطموح إلى إسلام المشرك. فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلا المناصبة والقتال. وقيل: المراد أنهم يدعون إلى ترك المحاربة والجهاد، وفي ترك الجهاد استحقاق النار والعذاب. وغرض هذا القائل أن يجعل هذا فرقا بين الذمية وغيرها، فإن الذمية لا تحمل زوجها على ترك الجهاد. وقيل: إن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيصير الولد من أهل النار فهذا هو الدعوة إلى النار. وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ حيث أمر بالتزوج بالمسلمة حتى يكون الولد مسلما من أهل الجنة، أو المراد أن أولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة المغفرة وما يؤدي إليهما، فهم الذين تحب موالاتهم ومصاهرتهم وأن يؤثروا على غيرهم بِإِذْنِهِ بتوفيق الله وتيسيره للعمل الذي يستحق به الجنة والغفران وقرى الحسن وَالْمَغْفِرَةِ بالرفع على الابتداء أي المغفرة كائنة بتيسيره وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ معناه واضح. وقد عرفت فيما مر أن التذكر محاولة استرجاع الصورة المحفوظة، فكان الآيات تليه على ما هو مركوز في العقول من حقيقة دين الإسلام فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم: 30] . التأويل: إن خمر الظاهر كما يتخذ من أجناس مختلفة كالعنب والتمر والعسل والحنطة والشعير وغيرها، فكذلك خمر الباطن من أجناس مختلفة كالغفلة والشهوة والهوى وحب الدنيا وأمثالها. وهذه تسكر النفوس والعقول الإنسانية التي هي مناط التكليف فلهذا حرمت في عالم التكليف، وأما ما يسكر القلوب والأرواح والأسرار فهو شراب الواردات في أقداح المشاهدات من ساقي تجلي الصفات إذا دارت الكؤوس انخمدت شهوات النفوس، فتسكر القلوب بالمواجيد عن المواعيد، والأرواح بالشهود عن الوجود، والأسرار بمطالعة الجمال من ملاحظة الكمال، وهذا شراب حلال لأنه فوق عالم التكليف، وإنه يمزج الكثيف باللطيف فيه مَنافِعُ لِلنَّاسِ وملاذ لأهل القرب والاستئناس. فصحوك من لفظي هو الوصل كله ... وسكرك من لحظي يبيح لك الشربا فما مل ساقيها وما مل شارب ... عقار لحاظ كأسه يسكر اللبا قوم أسكرهم وجود الشراب وقوم أسكرهم شهود الساقي. فأسكر القوم دور كأس ... وكان سكري من المدير الكأس والشراب والساقي والمسقي هاهنا واحد كما قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر. وإثم الإعراض عن كؤوس الوصال في النهاية أكبر من نفع الطلب ألف سنة في البداية. أما الميسر فإثمه كبير عند الأخيار وإنه بعيد عن خصال الأبرار، ولكن نفعه عدم الالتفات إلى الكونين، وبذل نفوس العالمين في فردانية نقش الكعبتين. وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما لأن إثمهما للعوام ونفعهما للخواص، والعوام أكثر من الخواص. وبعبارة أخرى الإثم في الخمر الظاهر والميسر الظاهر، والنفع في الخمر الباطن والميسر الباطن، وأهل الظاهر أكثر من أهل الباطن والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 227] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) القراآت: حَتَّى يَطْهُرْنَ بالتشديد والأصل «يتطهرن» فأدغم التاء في الطاء: حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص. الباقون يَطْهُرْنَ بالتخفيف من الطهارة. أَنَّى بالإمالة المفرطة: حمزة وعلي وخلف. وقرأ العباس بالإمالة اللطيفة كل القرآن. الباقون بالتفخيم لا يُؤاخِذُكُمُ وبابه وكل همزة تحركت وتحرك ما قبلها مثل يُؤَخِّرَ ويَؤُدُهُ وأشباه ذلك بغير همز: يزيد وورش والشموني وحمزة في الوقف. الوقوف: عَنِ الْمَحِيضِ ط أَذىً ط لأن لكونه أذى تأثيرا بليغا في وجوب الاعتزال فِي الْمَحِيضِ لا للعطف. حَتَّى يَطْهُرْنَ ج لأن «إذا» متضمنة الشرط للفاء في جوابه مع فاء التعقيب فيها أَمَرَكُمُ اللَّهُ ط الْمُتَطَهِّرِينَ هـ حَرْثٌ لَكُمْ ص لأن الفاء كالجزاء أي إذا كن حرثا فأتوهن وإلا فقد اختلف الجملتان شِئْتُمْ ز قد يجوز لوقوع العارض. لِأَنْفُسِكُمْ ط مُلاقُوهُ ط الْمُؤْمِنِينَ هـ بَيْنَ النَّاسِ ط عَلِيمٌ هـ قُلُوبُكُمْ ط حَلِيمٌ هـ عَلِيمٌ هـ عَزَمُوا هـ. التفسير: الحكم السابع: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قيل: إنه تعالى جمع في هذا الموضع بين ستة أسئلة، فذكر الثلاثة الأول بغير الواو والباقية بالواو. والسبب أن سؤالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 عن تلك الحوادث وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت بحرف العطف، لأن كل واحد من تلك السؤالات سؤال مبتدأ، وسألوا عن الوقائع الأخر في وقت واحد فجيء بحرف الجمع لذلك كأنه قيل: يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن كذا وعن كذا. روي أن اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال حيضها، والنصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض، وكان أهل الجاهلية إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجالسوها على فرش، ولم يساكنوها في بيت. فقال ناس من الأعراب يا رسول الله، البرد شديد والثياب قليلة. فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت، وإن استأثرنا بها هلكت الحيض فنزلت الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن، ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت» يعني أن المراد من قوله تعالى فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فاعتزلوا مجامعتهن. واتفق المسلمون على حرمة الجماع في زمان الحيض، واتفقوا على حل الاستمتاع بالمرأة بما فوق السرة وتحت الركبة، واختلفوا فيما دون السرة وفوق الركبة. فالشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف قالوا: يجب اعتزال ما اشتمل عليه الإزار بناء على أن المحيض مصدر كالمجيء والمبيت، والتقدير: فاعتزلوا تمتع النساء في زمان الحيض. ترك العمل بالآية فيما فوق السرة وتحت الركبة للإجماع فبقي الباقي على الحرمة. وعن زيد بن أسلم أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها، وقيل: ما سوى الفرج حلال، لأن المراد بالمحيض موضع الحيض فالمعنى فاعتزلوا موضع الحيض من النساء، نعم المحيض الأول مصدر فيصلح عود الضمير إليه في قوله قُلْ هُوَ أَذىً أي الحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه نفرة وكراهة على أنه يحتمل أن يكون بمعنى المكان والتقدير هو ذو أذى، وإنما قدم قوله هُوَ أَذىً لترتب الحكم وهو وجوب الاعتزال عليه. وذلك أن دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من طريق الرحم، حتى لو احتبست تلك الفضلة لمرضت المرأة. فذلك الدم جار مجرى البول والغائط فكان أذى وقذرا. ولا يرد عليه دم الاستحاضة حيث لا يوجب الاعتزال، لأن ذاك دم صالح يسيل من عرق يتفجر في عنق الرحم، ويؤيده ما روي في الصحيحين عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: لا، إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي. ومعنى العرق أنه علة حدثت بها من تصدع العروق. وأصل الحيض في اللغة السيل. يقال: حاض السيل وفاض. قال الأزهري: منه قيل الحوض لأن الماء يحيض إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 أي يسيل. والواو والياء من حيز واحد. وقد ورد في الحديث لدم الحيض صفات منها السواد ويراد به أنه يعلوه حمرة متراكبة فيضرب من ذلك إلى السواد، ومنها الثخانة، ومنها المحتدم وهو المحرق من شدة حرارته، ومنها أنه ذو دفعات أي يخرج برفق ولا يسيل سيلا، ومنها أن له رائحة كريهة، ومنها أنه بحراني وهو الشديد الحمرة. وقيل: ما يحصل فيه كدورة تشبيها له بماء البحر. فمن الناس من قال: إن كان الدم موصوفا بهذه الصفات فهو الحيض وإلا فلا، وما اشتبه الأمر فيه فالأصل بقاء التكاليف، وزوالها إنما كان بعارض الحيض. فإذا كان غير معلوم الوجود بقيت التكاليف الواجبة على ما كانت. ومنهم من قال: هذه الصفات قد تشتبه على المكلف فإيجاب التأمل في تلك الدماء وفي تلك الصفات يقتضي عسرا ومشقة، فالشارع قدر وقتا مضبوطا متى حصلت الدماء فيه كان حكمها حكم الحيض، ومتى حصلت خارج ذلك الوقت لم يكن حكمها حكم الحيض كيف كانت صفة تلك الدماء. أما السن المحتمل للحيض فأصح الوجوه أنها تسع سنين فإن رأت الصبية دما قبل استكمال التسع فهو دم فساد. قال الشافعي: وأعجل من سمعت من النساء يحضن نساء تهامة يحضن لتسع سنين. وقيل: إن أول وقت الإمكان يدخل بالطعن في السنة التاسعة. وقيل: بمضي ستة أشهر من السنة التاسعة. والاعتبار على الوجوه بالسنين القمرية تقريبا على الأظهر لا تحديدا، حتى لو كان بين رؤية الدم وبين استكمال التسع على الوجه الأصح ما لا يسع حيضا وطهرا، كان ذلك الدم حيضا وإلا فلا، وأقل مدة الحيض عند الشافعي يوم وليلة، وعند أبي حنيفة ثلاثة أيام، وعن مالك لا حد لأقله. وأما أكثر الحيض فهو خمسة عشر يوما وليلة لقول علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه: ما زاد على خمسة عشر فهو استحاضة. وعن عطاء: رأيت من تحيض يوما ومن تحيض خمسة عشر يوما. وأما الطهر فأكثره لا حد له. فقد لا ترى المرأة الدم في عمرها إلا مرة واحدة، وأقله خمسة عشر يوما، وقال أحمد أقله ثلاثة عشر. وقال مالك: ما أعلم بين الحيضتين وقتا يعتمد عليه لنا الرجوع إلى الوجود، وقد ثبت ذلك من عادات النساء، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي» «1» أشعر ذلك بأقل الطهر وأكثر الحيض. وغالب عادات النساء في الحيض ست أو سبع، وفي الطهر باقي الشهر. قال صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش: «تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء ويطهرن» . ومعنى: «في علم الله» ، أي مما   (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 132. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 19 أحمد في مسنده (2/ 68) بلفظ « .... وتمكث الليالي ما تصلي» . [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 علمك الله من عادتك أو من غالب عادات النساء. ويحرم في الحيض عشرة أشياء: الصلاة والصوم والاعتكاف والمكث في المسجد والطواف ومس المصحف وقراءة القرآن والسجود والغشيان بنص القرآن والطلاق في حق بعضهن ثم إن أكثر فقهاء الأمصار على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا يحل مجامعتها إلا بعد أن تغتسل عن الحيض، وهذا قول مالك والأوزاعي والشافعي والثوري. والمشهور عن أبي حنيفة أنها إن رأت الطهر دون عشرة أيام لم يقربها زوجها حتى تغتسل ويمضي عليها وقت صلاة، وإن رأته عشرة أيام جاز له أن يقربها قبل الاغتسال. حجة الشافعي أن القراءة المتواترة حجة بالإجماع فإذا حصلت قراءتان متواترتان وجب الجمع بينهما ما أمكن. فمن قرأ «يطهرن» بالتخفيف فانتهاء الحرمة عنده انقطاع الدم، ومن قرأ «يطهرن» بالتثقيل فالنهاية تطهرها بالماء، والجمع بين الأمرين ممكن بأن يكون النهاية حصول الشيئين. ومعنى قوله وَلا تَقْرَبُوهُنَّ أي لا تجامعوهن وهذا كالتأكيد لقوله فَاعْتَزِلُوا ويحتمل أن يكون ذلك نهيا عن المباشرة في موضع الدم وهذا نهي عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع. وأيضا قوله فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ تعليق للإتيان على التطهر بكلمة «إذا» ، فوجب أن لا يجوز الإتيان عند عدم التطهر. والمراد بالتطهر الاغتسال لأن هذا الحكم عائد إلى ذات المرأة، فوجب أن يحصل في كل بدنها لا في بعض من أبعاض بدنها. وعن عطاء وطاوس هو أن تغسل الموضع وتتوضأ. وقال بعضهم: غسل الموضع. ثم القائلون بوجوب الاغتسال أجمعوا على أن التيمم يقوم مقامه عند إعواز الماء مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أي من المأتي الذي أمركم به وحلله لكم وهو القبل. عن ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وعكرمة. وقال الأصم والزجاج: فأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن وذلك بأن لا يكنّ صائمات ولا معتكفات ولا محرمات. وعن محمد ابن الحنيفة: فأتوهن من قبل الحلال دون الفجور. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ مما عسى أن يبدر عنهم من ارتكاب ما نهوا عنه من ذلك بمجامعة الحائض والطاهرة قبل الغسل وإتيان الدبر وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ المتنزهين عن تلك الفواحش. فالتائب هو الذي فعله ثم تركه، والمتطهر هو الذي ما فعله تنزها عنه لأن الذنب كأنه نجاسة روحانية حكمية إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] أو يحب التوابين الذين يطهرون أنفسهم بطهرة التوبة من كل ذنب، ويحب المتطهرين من جميع الأقذار والأوزار. الحكم الثامن نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ وإنه جار مجرى البيان والتوضيح لقوله فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ دلالة على أن الغرض الأصلي في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة فينبغي أن يؤتى المأتي الذي هو مكان الحرث، وعن جابر رضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 الله عنه قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فنزلت هذه الآية. وعن ابن عباس: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت. قال: وما أهلكك؟ قال: حوّلت رحلي الليلة. قال: فلم يرد عليّ شيئا. فأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية. وتحويل الرحل قيل: ظاهره الكناية عن الإتيان في غير المحل المعتاد. وقيل: إنه الإتيان في المحل المعتاد لكن من جهة ظهرها. وعنه كانت الأنصار تنكر أن يأتي الرجل المرأة مجبية أي في قبلها من دبرها وكانوا أخذوا ذلك من اليهود وكانت قريش تفعل ذلك ولما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي مقبلات ومدبرات ومستكفيات بعد أن يتقى الدبر والحيضة، وذلك أن قوله حَرْثٌ لَكُمْ أي مزرع ومنبت للولد وهذا على سبيل التشبيه. ففرج المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات، وإنما وحد الحرث لأنه مصدر أقيم مقام المضاف أي هن مواضع حرث فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم، لا تحظر عليكم جهة دون جهة، بعد أن يكون المأتي واحدا وهو موضع الحرث أعني القبل دون الدبر، هذا ما عليه أكثر العلماء ويؤيده قوله عز من قائل قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا جعل ثبوت الأذى علة للاعتزال ولا معنى للأذى، إلا ما يتأذى الإنسان منه بنتن وتلوث وتنفر طبع، والأذى في الدبر حاصل أبدا فالاعتزال عنه أولى بالوجوب. فمعنى أَنَّى شِئْتُمْ كيف شئتم من قبلها قائمة أو باركة أو مضطجعة. وقيل: «أنى» بمعنى «متى» أي فأتوا حرثكم أي وقت شئتم من أوقات الحل يعني إذا لم تكن أجنبية أو محرمة أو صائمة أو حائضا. وعن ابن عباس: المعنى إن شاء عزل وإن شاء لم يعزل. وقيل: متى شئتم من ليل أو نهار والأصح الأول وعن مالك والشيعة تجويز إتيان النساء في أدبارهن ويحكى أن نافعا نقل عن ابن عمر مثل ذلك واحتجوا بأن الحرث اسم المرأة لا الموضع المعين وبأن قوله أَنَّى شِئْتُمْ معناه من أين شئتم كقوله أَنَّى لَكِ هذا [مريم: 37] أي من أين. وكلمة «أين» تدل على تعدد الأمكنة فيلزم أن يكون المأتي بها متعددا. وبقوله إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: 6] ترك العمل بعمومه في حق الذكور لدلالة الإجماع فوجب أن يبقى معمولا به في حق الإناث. ولا يخفى ضعف هذه الحجج ولو سلم مساواتها دلائل الحرمة في القوة فالاجتناب أحوط، وكيف لا وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ملعون من أتى امرأة في دبرها» ولو لم يكن فيه إلا فوات غرض التوالد والتناسل الذي به بقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف أنواع الكائنات لكفى به منقصة وذما، وإذا كان لزنا لكونه مزيلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 للنسب محرما، وكذا الخمر لكونها رافعة للعقل، والقتل لكونه مفنيا للشخص، فلأن يحرم هذا الفعل لكونه متضمنا لفناء النوع أولى كاللواط وإتيان البهيمة والاستمناء ولهذا عقبه بقوله وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ أي افعلوا ما تستوجبون به الجنة والكرامة كقول الرجل لغيره «قدم لنفسك عملا صالحا» وذلك أن الآية اشتملت على الإذن في أحد الموضعين والمنع عن الموضع الآخر فكأنه قيل: لا تكونوا في قيد قضاء الشهوة وإنما يجب أن تكونوا في ربقة الإخلاص وتقديم الطاعة، ثم إنه أكد ذلك بقوله وَاتَّقُوا اللَّهَ ثم زاد التأكيد بقوله وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وهذه التهديدات الثلاثة المتوالية لا تحسن إلا إذا كانت مسبوقة بالنهي عن مشتهي. فقوله وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ تحريض على فعل الطاعات ويندرج فيه ابتغاء لولد والتسمية عند الوقاع وغير ذلك من بآداب الخلوة، وقوله وَاتَّقُوا اللَّهَ زجر عن المحظورات والمنكرات، وقوله وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ تذكير ليوم البعث والحساب الذي لولاه لضاع فعل الطاعات وترك المنهيات وما أحسن هذا الترتيب! ثم قال وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ كيلا يخلو الوعيد من الوعد. ولم يذكر المبشر به وهو الثواب والكرامة ونحوهما إما لأنه كالمعلوم من نحو قوله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: 47] ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ [البقرة: 25] وإما لأن الغرض نفس البشارة مثل «فلان يعطى» . الحكم التاسع: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ وهو نهي عن الجراءة على الله بكثرة الحلف، فإن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة أي معرضا له قال: فلا تجعلوني عرضة للوائم. وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم: 10] ، والحكمة فيه أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك فلا يؤمن إقدامه على الأيمان الكاذبة. وأيضا كلما كان الإنسان أكثر تعظيما لله كان أكمل في العبودية، ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يبتذله ويستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية. وقوله أَنْ تَبَرُّوا علة النهي اي إرادة أن تبروا وتتقوا وتصّلحوا بين الناس لأن الخلاف مجترئ على الله غير معظم له فلا يكون برا متقيا، فإذا ترك الحلف لاعتقاده أن الله أعظم وأجل من أن يستشهد باسمه العظيم في مطالب الدنيا اعتقد الناس في صدق لهجته وبعده من الأغراض الفاسدة فعدوه برا متخذا من الإخلال بواجب حق الله فيدخلونه في وساطاتهم وإصلاح ذات بينهم. ومعنى آخر وهو أن تكون العرضة «فعلة» بمعنى «مفعول» كالقبضة والغرفة فيكون اسما للشيء الذي يوضع في عرض الطريق فيصير مانع الناس من السلوك، ومنه «عرض العود على الإناء» وتقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 «فلان عرضة دون الخير» . وذلك أن الرجل كان يحلف على بعض الخيرات من صلة لرحم أو إصلاح أو إحسان أو عبادة ثم يقول: أخاف الله أن أحنث في يميني. فيترك البر إرادة البر في يمينه فقيل: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أي حاجزا لما حلفتم عليه. وسمي المحلوف عليه يمينا لتلبسه باليمين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك» «1» أي على شيء مما يحلف عليه. فيكون قوله أَنْ تَبَرُّوا عطف بيان لِأَيْمانِكُمْ أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى أو الإصلاح بين الناس، وعلى هذا فاللام في لِأَيْمانِكُمْ إما أن تتعلق بالفعل أي ولا تجعلوا الله لأيمانكم برزخا وحاجزا، وإما أن تتعلق ب عُرْضَةً لما فيها من معنى الاعتراض بمعنى لا تجعلوا شيئا يعترض البر. ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويتعلق أَنْ تَبَرُّوا بالعرضة أي لا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا وَاللَّهُ سَمِيعٌ إن حلفتم به عَلِيمٌ بنياتكم إن تركتم الحلف إجلالا لذكره، واليمين في الأصل عبارة عن القوة فسمي الحلف بذلك لأن المقصود بها تقوية جانب البر على جانب الحنث. اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ولهذا قيل: لما لا يعتد به ولا يخطر من أولاد الإبل في الدية «لغو» وهو في الأصل مصدر لغا يلغو. قال صلى الله عليه وسلم: «من قال يوم الجمعة لصاحبه صه والإمام يخطب فقد لغا» «2» واختلف الفقهاء في اللغو من اليمين فذهب الشافعي- وهو قول عائشة والشعبي وعكرمة- أنه قول العرب «لا والله» و «بلى والله» مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف. فلو قيل لواحد منهم: سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام لا ننكر ذلك ولعله قال: لا والله ألف مرة. ومذهب أبي حنيفة وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد والنخعي والزهري وسليمان بن يسار وقتادة والسدي ومكحول- أن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن. وفائدة الخلاف أن الشافعي لا يوجب الكفارة في قول الرجل «لا والله» و «بلى والله» ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن، وأبو حنيفة يحكم بالضد من ذلك. حجة الشافعي أن الآية تدل على أن لغو اليمين كالمقابل المضاد لما يحصل بسبب كسب القلب، لكن المراد من قوله بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ هو الذي يقصده الإنسان على سبيل   (1) رواه البخاري في كتاب الأيمان باب 1، 83 وكتاب الكفارات باب 10. مسلم في كتاب الأيمان حديث 19. أبو داود في كتاب الأيمان باب 12، 14. الترمذي في النذور باب 5. النسائي في كتاب الأيمان باب 15، 16. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب 7. (2) رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 203. النسائي في كتاب الجمعة باب 22. أحمد في مسنده (2/ 474) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 الجد ويربط به قلبه فيكون اللغو ما تعوّده الناس في الكلام «لا والله» و «بلى والله» فأما إذا حلف على شيء أنه كان حاصلا جدا ثم ظهر أنه لم يكن فقد قصد الإنسان بذلك اليمين المتصل تصديق قوله وربط قلبه بذلك فلم يكن لغوا البتة، وأيضا إنه سبحانه ذكر قبل هذه الآية النهي عن كثرة الحلف فذكر عقيب ذلك حال هؤلاء الذين يكثرون الحلف على سبيل الاعتياد في الكلام على سبيل القصد إلى الحلف، وبيّن أنه لا مؤاخذة عليهم ولا كفارة لأن إيجاب الكفارة والمؤاخذة عليهم يفضي إما إلى أن يمنعوا عن الكلام أو يلزمهم في كل لحظة كفارة وكلاهما حرج في الدين، فظهر أن تفسير اللغو بما ذكرنا هو المناسب ويؤده ما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لغو اليمين قول الرجل بين كلامه لا والله وبلى والله» وروي أنه صلى الله عليه وسلم مر بقوم ينتضلون ومعه رجل من أصحابه فرمى رجل من القوم فقال: أصبت والله ثم أخطأ فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «كل أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة» وعن عائشة أنها قالت: أيمان اللغو ما كان في الهزل والمراء والخصومة التي لا يعقد عليها القلب. وأثر الصحابي في تفسير كلام الله حجة. وقال أبو حنيفة: اليمين معنى لا يلحقه الفسخ فلا يعتبر فيه القصد كالطلاق والعتاق. وأيضا إنه صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه» أوجب الكفارة على الحانث مطلقا من غير فصل بين المجد والهازل. وقيل: إن يمين اللغو هو الحلف على ترك طاعة أو فعل معصية، فبين الله تعالى أنه لا يؤاخذ بترك هذه الأيمان وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي بإقامتكم على ذلك الذي حلفتم عليه من ترك الطاعة وفعل المعصية وعن الضحاك أن اللغو هي اليمين المكفرة كأنه قيل: لا يؤاخذكم الله بإثم الحلف إذا كفرتم. وقيل: هي ما يقع سهوا، والمراد بما كسبت قلوبكم هو العمد، واختاره القاضي أبو بكر. ثم إن الشافعي قال: معنى لا يؤاخذكم لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه، ولكن يلزمكم الكفارة بما نوت قلوبكم وقصدت من الأيمان ولم يكن كسب اللسان وحده. وقال أبو حنيفة: معناه لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم بالظن، ولكن يعاقبكم بما اقترفته قلوبكم من إثم القصد أي الكذب في اليمين، وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهو اليمين الغموس. وقال مالك في الموطأ: أحسن ما سمعت في ذلك أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه فلا كفارة. قال: والذي يحلف على شيء وهو يعلم أنه فيه آثم كاذب ليرضي به أحدا أو يعتذر لمخلوق أو يقتطع به مالا فهذا لا أعلم أن يكون فيه كفارة، وإنما الكفارة على من حلف أن لا يفعل الشيء المباح الذي له فعله ثم يفعله، أو أن يفعله ثم لا يفعله مثل: أن حلف ألا يبيع ثوبه بعشرة دراهم ثم يبيع بذلك، أو يحلف ليضربن غلامه ثم لا يضربه. فَإِنَّ اللَّهَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 غَفُورٌ رَحِيمٌ حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم وأخر عقوبتكم بما كسبت قلوبكم لعلكم تتفكرون أو تتوبون عنها. الحكم العاشر: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يقال في اللغة: آلى يؤلي إيلاء وائتلى ائتلاء وتألى تأليا. والإلية والقسم واليمين والحلف كلها واحد. وفي الحديث القدسي «آليت أن أفعل» «1» خلاف المقدرين والإيلاء في الشرع هو الحلف على الامتناع من وطء لزوجة مطلقا أو مدة تزيد على أربعة أشهر. وكان الإيلاء طلاقا في الجاهلية فغيّر الشرع حكمه. قال سعيد بن المسيب. كان الرجل لا يريد المرأة ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها وكان يتركها بذلك لا أيما ولا ذات بعل، والغرض منه مضارة المرأة. ثم إن أهل الإسلام كانوا يفعلون ذلك أيضا فأزال الله تعالى ذلك وأمهل الزوج مدة حتى يتروى ويتأمل. فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها، وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها. ثم المتعارف أن يقال: آليت على كذا وإنما عدي هاهنا بمن لأنه أريد لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر كما يقال: «لي منك كذا» أو ضمن في هذا القسم المخصوص معنى البعد فكأنه قيل: يبعدون من نسائهم أو يعتزلون مولين أو مقسمين. والتربص التلبث والانتظار وإضافته إلى أربعة أشهر إضافة المصدر إلى الظرف كقوله «بينهما يوم» أي مسيرة في يوم فَإِنْ فاؤُ فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك جماعها فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر للمولين ما عسى يقدمون عليه من طلب الضرار بالإيلاء وهو الغالب، وإن كان من الجائز كونه على رضا منهن إشفاقا منهن على الولد من القتل أو لغير ذلك من الأسباب وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ بان عقدوا القلب على حل رابطة النكاح فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة التي هي مثل التوبة. واعلم أن الإيلاء له أركان أربعة. الحالف والمحلوف به والمحلوف عليه ومدة هي ظرف المحلوف عليه. الركن الأول: الحالف وهو كل زوج يتصور منه الوقاع وكان تصرفه معتبرا في الشرع، فيصح إيلاء الذمي لعموم قوله لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ وبه قال أبو حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يصح إيلاؤه بالله تعالى ويصح بالطلاق والعتاق، وأيضا لا فرق عندنا بين الحر والرقيق في الحد. وعند أبي حنيفة يتنصف برق المرأة، وعند مالك برق الرجل كما قالا في الطلاق لنا أن التخصيص خلاف الظاهر، ولأن تقدير هذه المدة إن كان لأجل   (1) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 12. بلفظ «فآليت أن أقولها لك» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 معنى يرجع إلى الجبلة والطبع وهو قلة الصبر على مفارقة الزوج فيستوي فيه الحر والرقيق كالحيض ومدة الرضاع ومدة العنة. ويصح الإيلاء في حالتي الرضا والغضب بعموم الآية. وقال مالك: لا يصح إلا في حال الغضب. وأيضا يصح الإيلاء من المرأة سواء كانت في صلب النكاح أو كانت مطلقة طلقة رجعية، لأن الرجعية يصدق عليه أنها من نسائه بدليل أنه لو قال: نسائي طوالق. وقع الطلاق عليها فتدخل تحت ظاهر قوله يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ولهذا لو قال لأجنبية: والله لا أجامعك لم يكن موليا. وإيلاء الخصي صحيح لأنه يجامع كما يجامع الفحل غير أنه لا ينزل. ومن جبّ جميع ذكره لم يصح إيلاؤه على الأظهر لأنه لا يتحقق منه قصد الإيلاء لامتناع الأمر في نفسه. وكذا الأشل ومن بقي من ذكره بعد الجب ما دون قدر الحشفة. فإن آلى ثم جب فالأصح ثبوت الخيار لها فإن لم تفسخ بقي الإيلاء على الأظهر لأن العجز عارض وقد قصد الإضرار في الابتداء وإذا كانت المرأة رتقاء أو قرناء فالحكم كما في الجب ولا يصح إيلاء الصبي والمجنون بحال. الركن الثاني: المحلوف به وهو إما الله تعالى وصفاته أو غيره. فإن حلف بالله كان موليا، ثم إن جامعها في مدة الإيلاء خرج عن الإيلاء. وهل يجب عليه كفارة اليمين؟ الجديد وقول أبي حنيفة أنه يجب عليه كفارة اليمين، لأن الدلائل الدالة على وجوب الكفارة عند الحنث باليمين عامة. وأي فرق بين أن يقول: والله لا أقربك» ثم يقربها وبين أن يقوا. «والله لا أكلمك» ثم يكلمها. وإنما ترك ذكر الكفارة في الآية لأنها مبينة في سائر المواضع من القرآن وعلى لسان الرسول. وقوله تعالى فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يدل على عدم العقاب وأنه لا ينافي الكفارة كالتائب عن الزنا أو القتال لا عقاب عليه، ومع ذلك يجب عليه الحد والقصاص. وأما إن كان الحلف في الإيلاء بغير الله كما إذا قال: إن وطئتك فلله علي عتق رقبة أو صدقة أو حج أو صوم أو صلاة. فهل يكون موليا؟ الجديد وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة من العلماء أنه يكون موليا لأن العتق والطلاق المعلقين بالوطء يحصلان لو وطئ فيكون ما يلزمه الوطء مانعا له من الوطء، ويكون هو بتعليقه بالوطء مضرا بها فيثبت لها المطالبة كما في اليمين بالله تعالى حتى يضيق الأمر عليه بعد مضي أربعة أشهر ليفيء أو يطلق. ولا يخفى أنه لو كان المعلق به إلزام قربة في الذمة فعليه ما في نذر اللجاج. وفيه أقوال أصحها أن عليه كفارة اليمين، والثاني عليه الوفاء بما سمى، والثالث التخيير بين كفارة اليمين وبين الوفاء. الركن الثالث: المحلوف عليه وهو الجماع وهذا من صرائح ألفاظه، وكذا النيك والوطء والإصابة ومن كناياتها المباضعة والملامسة والمباشرة فلا تعمل إلا بالنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 الركن الرابع: المدة. فعن ابن عباس أنه لا يكون موليا حتى يحلف أن لا يطأها أبدا، وعن الحسن وإسحق أنه مول وإن حلف يوما. وهذان المذهبان في غاية البعد. وعن أبي حنيفة والثوري أنه لا يكون موليا حتى يحلف على أن لا يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد. وعن مالك وأحمد والشافعي أنه لا يكون موليا حتى تزيد المدة على أربعة أشهر. فعند الشافعي إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر أجل لأربعة أشهر. وهذه المدة تكون حقا للزوج فإذا مضت طالبت المرأة الزوج بالفيئة أو الطلاق، فإن امتنع الزوج منهما طلقها الحاكم عليه. وعند أبي حنيفة إذا مضت أربعة أشهر يقع الطلاق بنفسه، حجة الشافعي أن الفاء في قوله فَإِنْ فاؤُ تقتضي كون ما بعدها من حكمي الفيئة والطلاق مشروعا متراخيا عن انقضاء الأشهر الأربعة. وأيضا قوله وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ صريح في أن وقوع الطلاق وإنما يكون بإيقاع الزوج، وفي أن الزوج لا بد أن يصدر عنه شيء يكون مسموعا وما ذاك إلا إيقاع الطلاق. أجاب أبو حنيفة بأن قوله فَإِنْ فاؤُ تفصيل للحكم المتقدم كما تقول: «أنا نزيلكم هذا الشهر. فإن حمدتكم أقمت عندكم إلى آخره وإلا لم أقم وأتحول» وأيضا الإيلاء طلاق في نفسه، فالطلاق إشارة إليه. وأيضا الغالب أن العازم للطلاق والضرار وترك الفيئة لا يخلو من مقاولة ودمدمة وحديث نفس، فذلك الذي يسمعه الله كما يسمع وسوسة الشيطان. واستدل على صحة مذهبه في أن الفيئة لا بد أن تقع في الأشهر بقراءة عبد الله بن مسعود فإن فاؤا فيهن ورد بأنها شاذة فلا معول عليها والرجوع إلى الحق أولى الله حسبي. التأويل: كما أن النساء محيضا في الظاهر وهو سبب نقصان إيمانهن يمنعهن عن الصلاة والصيام فكذا للرجال محيض في الباطن وهو سبب نقصان إيمانهم يمنعهم عن حقيقة الصلاة وهي المناجاة، وعن حقيقة الصوم وهي الإمساك عن مشتهيات النفوس. وكما أن المحيض هو غلبة الدم فكذلك الهوى هو غلبة دواعي الصفات البشرية والحاجات الإنسانية، فكلما غلب الهوى تكدر الصفا وحصل الأذى. وقد قيل: قطرة من الهوى تكدر بحرا من الصفا. ولذلك نودي من سرادقات الجلال: يا قلوب الرجال اعتزلوا نساء النفوس في محيض غلبات الهوى حَتَّى يَطْهُرْنَ يفرغن من قضاء الحوائج الضرورية للإنسان من المأكول والمشروب والمنكوح فَإِذا تَطَهَّرْنَ بماء التوبة والإنابة ورجعن إلى الحضرة في طلب القربة فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ يعني عند ظهور شواهد الحق لزهوق باطل النفس واضمحلال هواها إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ عن أوصاف الوجود وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ بأخلاق المعبود بل يحب التوابين عن بقاء الوجود ويحب المتطهرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 ببقاء الشهود نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الرجال البالغون الواصلون إلى عالم الحقيقة المتصرفون فيما سوى الله بتصرف الحقّ فهم رجال وما دون الله نساؤهم وهم الأنبياء والأولياء القائمون بالله الداعون إلى الله بإذنه. فكما أن الدنيا مزرعة الآخرة لقوم، فالدنيا والآخرة مزرعتهم ومحرثهم يحرثون فيها أنى شاءوا وكيف شاءوا وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [التكوير: 29] فقد فنيت مشيئتهم في مشيئته تعالى وبقيت قدرة تصرفهم بتقويته لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ القلب كالأرض للزراعة، والجوارح كآلات الحراثة، والأعمال والأقوال كالبذر. فالبذر ما لم يقع في الأرض المرتبة للزراعة لا ينبت وإن كان فيها آلة من آلات الحراثة. أما إن كان لما يجري على الظواهر من الخبر أدنى أثر في القلب ولو كان مثقال ذرة فإن الله تعالى من كمال فضله وكرمه لا يضيعه بل يضاعفه، وإن كان ما يجري عليه في الظاهر شرا فإن لم يكن له أثر في القلب كان لغوا ولا يؤاخذه، وإن كان له أثر في القلب فهو بصدد المؤاخذة وإن شاء الله غفره. لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ من وقع له من أهل القصد وقفة أو فترة في أثناء السلوك من ملالة النفس أو نفرة الطبع فعلى الشيخ والأصحاب أن لا يفارقوه في الحقيقة ويعاونوه بالهمم العلية ويتربصوا أربعة أشهر للرجوع لأن هذه مدة تعلق الروح بالجنين كما جاء في الحديث «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك» «1» إلى آخره فَإِنْ فاؤُ الفيئة إلى صدق الطلب ورعاية حق الصحبة ونفخ فيه روح الإرادة مرة أخرى لا حظوه معين القبول، فإن هذا ربيع لا يرعاه إلا المهزولون، وربع لا يسكنه إلا المعزولون، بل شراب لا يذوقه إلا العارفون، وغناء لا يطرب عليه إلا العاشقون وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ لعزمه على طلاق منكوحة المواصلة فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لمقالتهم عَلِيمٌ بحالتهم وهو حسبي. [سورة البقرة (2) : الآيات 228 الى 232] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)   (1) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق باب 6. مسلم في كتاب القدر حديث 1. أبو داود في كتاب السنّة باب 16. الترمذي في كتاب القدر باب 4. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 10. أحمد في مسنده (1/ 382، 414) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 القراآت: أَنْ يَخافا بضم الياء: يزيد وحمزة ويعقوب الباقون بفتح الياء نبينها بالنون المفضل. الباقون بياء الغيبة يَفْعَلْ ذلِكَ مدغما حيث كان: أبو الحرث عن علي فَقَدْ ظَلَمَ مظهرا: ابن كثير وأبو جعفر ونافع غير ورش وعاصم غير الأعشى. الوقوف: قُرُوءٍ ط الْآخِرِ ط إِصْلاحاً ط بِالْمَعْرُوفِ ص لعطف المتفقتين ولا تمام المقصود في تفضيل الرجال دَرَجَةٌ ط حَكِيمٌ هـ مَرَّتانِ ص لعطف المتفقتين بِإِحْسانٍ ط حُدُودَ اللَّهِ الأول ط افْتَدَتْ بِهِ ط تَعْتَدُوها ج الظَّالِمُونَ هـ غَيْرَهُ ص لأن الطلاق للزوج الثاني على خطر الوجود لا منتظر معهود فكان خارجا من مقتضى الجملة الأولى أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ ط يَعْلَمُونَ هـ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ص لطول الكلام لِتَعْتَدُوا ج نَفْسَهُ ط هُزُواً ص لطول ما بعده يَعِظُكُمْ بِهِ ط بِالْمَعْرُوفِ ط الْآخِرِ ط وَأَطْهَرُ ط لا تَعْلَمُونَ هـ التفسير: الحكم الحادي عشر: الطلاق. ويشتمل على أحكام أولها: وجوب العدة. واعلم أن المطلقة وهي التي أوقع الطلاق عليها إما أن تكون أجنبية ولا يقع الطلاق عليها في عرف الشرع بالإجماع وإما أن تكون منكوحة وحينئذ إما أن لا تكون مدخولا بها ولا عدة عليه لقوله تعالى إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب: 49] وإما أن تكون مدخولا بها وحينئذ إن كانت حاملا فعدتها بوضع الحمل قال تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] وإن كانت حائلا فإن امتنع الحيض في حقها إما للصغر المفرط أو الكبر المفرط فعدتها بالأشهر لا بالأقراء لقوله سبحانه وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق: 4] وإن كان الحيض في حقها ممكنا فإن كانت رقيقة فعدتها قرآن، وإن كانت حرة فعدتها ثلاثة أقراء لهذه الآية، فظهر أن قوله وَالْمُطَلَّقاتُ لا يتناول إلا المنكوحة الحرة المدخول بها كالحائل من ذوات الحيض. لا يقال: العام إنما يحسن تخصيصه إذا كان الباقي أكثر من حيث إنه جرت العادة بإطلاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 لفظ الكل على الغالب لا المغلوب. فيقال: الثوب أسود إذا كان الغالب عليه السواد لا البياض. وهاهنا الباقي قسم واحد من الأقسام الخمسة فكيف يحسن إطلاق لفظ العام عليه؟ لأنا نقول: أما الأجنبية فتخرج بعرف الشرع كما مر، وأما غير المدخول بها فالقرينة تخرجها لأن المقصود من العدة براءة الرحم، وكذا الحامل والآيسة لأن إيجاب الاعتداء بالأقراء إنما يكون حيث يحصل الأقراء ولا أقراء في حقهما. وأما الرقيقة فتزويجها كالنادر فثبت أن اللفظ باق على تناوله الأغلب. وإنما لم يقل وليتربصن المطلقات بل أخرج الأمر في صورة الخبر إشعارا بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن فهو يخبر عن موجود. وبناء الكلام على المبتدأ مما زاده أيضا فضل تأكيد وتقوّ. ولو قيل: «وليتربصن المطلقات» لم يكن بتلك الوكادة وفي ذكر الأنفس دون أن يقال «يتربصن ثلاثة قروء» تهييج لهن على التربص لأن فيه ما يستنكفن منه، فإن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، نوازع إليهم، فأمرن أن يقبضن أنفسهن. والقروء جمع قرء بفتح القاف أو ضمها، والراء ساكنة في الحالين. وفي الصحاح بفتح القاف فقط. ولا خلاف أن اسم القرء يقع على الطهر والحيض، والمشهور أنه حقيقة فيهما. وقيل: حقيقة في الحيض مجاز في الطهر. وقيل بالعكس. وقيل: إنه موضوع لمعنى واحد مشترك بينهما إما لأن القرء هو الاجتماع ثم في وقت الحيض يجتمع الدم في الرحم وفي وقت الطهر يجتمع الدم في البدن وهو قول الأصمعي والأخفش والفراء والكسائي، وإما لأنه عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة وهو قول أبي عبيد، وإما لأن القرء هو الوقت. وقيل: «هذا قارئ الرياح» لوقت هبوبها. ولا يخفى أن لكل من الطهر والحيض وقتا معينا وهذا قول أبي عمرو بن العلاء. ثم إن الله تعالى أمر المطلقة بثلاثة أشياء تسمى أقراء، لكن العلماء أجمعوا على أن الثلاثة يجب أن تكون من أحد الجنسين. ثم اختلفوا فذهب الشافعي إلى أنها الأطهار، ويروى ذلك عن ابن عمر وزيد وعائشة ومالك وربيعة وأحمد في رواية. وقال عمر وعلي وابن مسعود: هي الحيض. وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى. وفائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر حتى لو طلقها في حال الطهر يحسب بقية الطهر قراءا وإن حاضت عقيبه في الحال إذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها. وعند أبي حنيفة ما لم تطهر من الحيضة الثالثة إن كان الطلاق في حال الطهر، أو من الحيضة الرابعة إن كان في حال الحيض لا يحكم بانقضاء عدتها. ثم قال: إذا طهرت لأكثر الحيض تنقضي عدتها قبل الغسل، وإن طهرت لأقل الحيض لم تنقض عدتها حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء أو يمضي عليها وقت صلاة حجة الشافعي قوله تعالى فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] أي في زمان عدتهن. وأجيب بأن معنى الآية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 مستقبلات لعدتهن كما تقول: «لثلاث بقين من الشهر» أي مستقبلا لثلاث. وقيل: هذا يقوي استدلال الشافعي لأن قول القائل: «لثلاث بقين من الشهر» معناه لزمان يقع الشروع في الثلاث عقيبه. فمعنى الآية طلقوهن بحيث يحصل الشروع في العدة عقيبه. ولما كان الإذن حاصلا بالتطليق في جميع زمان الطهر وجب أن يكون الطهر الحاصل عقيب زمان التطليق من العدة. وروي عن عائشة أنها قالت: هل تدرون ما الأقراء؟ الأقراء الأطهار. ثم قال الشافعي: النساء بهذا أعلم. وأيضا التركيب يدل على الجمع. وأكثر أحوال الرحم اجتماعا واشتمالا على الدم آخر الطهر، إذ لو لم تمتلىء بذلك الفائض لما سالت إلى الخارج. فمن أول الطهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره، والآخر هو حال كمال الاجتماع فآخر الطهر هو القرء بالحقيقة. وأيضا الاعتداد بالأطهار أقل زمانا من الاعتداد بالحيض، فيلزم المصير إليه لأن الأصل- أن لا يكون لأحد على غيره حق الحبس والمنع. ولما كانت المدة أقل كان أقرب إلى هذا الأصل وأوفق له. وأيضا الآية تدل على أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى أقراء خرجت عن العهدة فتكون متمكنة من الاعتداد بالأطهار التي مدتها أقل، ومن الاعتداد بالحيض التي مدتها أكثر، فيكون الاعتداد بالقدر الزائد على مدة الأطهار غير واجب. حجة أبي حنيفة قوله صلى الله عليه وسلم «دعي الصلاة أيام أقرائك» «1» وقوله «طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان» «2» ولأن الغرض الأصلي من العدة استبراء الرحم والحيض هو الذي يستبرأ به الأرحام، ولأن الأصل في الأبضاع الحرمة، وفي تقليل مدة العدة تحليل بضعها للزوج الثاني. فالتكثير أحوط ولأن إطلاق طهر كامل على بعض الطهر خلاف الظاهر، وإذا تعارضت الوجوه ضعفت الترجيحات ويكون حكم الله تعالى في كل أحد ما أدى اجتهاده إليه. وانتصاب ثَلاثَةَ قُرُوءٍ على أنه مفعول به كقولهم «المحتكر يتربص الغلاء» أي يتربصن مضي ثلاثة قروء. أو على الظرفية أي مدة ثلاثة قروء. وإنما جاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء للاتساع فإنهم يستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر ولهذا قال: بِأَنْفُسِهِنَّ وما هي إلا نفوس كثيرة. وأيضا فلعل القروء أكثر استعمالا فنزلا القليل بمنزلة المهمل فيكون مثل قولهم «ثلاثة شسوع» . ثم إن أمر العدة لما   (1) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 107، 109. الترمذي في كتاب الطهارة باب 94. النسائي في كتاب الطهارة باب 134. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 115. الدارمي في كتاب الوضوء باب 84، 94. (2) رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 6. الترمذي في كتاب الطلاق باب 7. ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 30. الدارمي في كتاب الطلاق باب 17 بلفظ «وقرؤها» بدل «وعدتها» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 كان مبنيا على انقضاء القرء في حق ذوات الأقراء وعلى وضع الحمل في حق الحامل وكان الوصول إلى معرفة ذلك متعذرا على الرجال، جعلت المرأة أمينة في العدة، وجعل القول قولها إذا ادعت انقضاء قرئها في مدة يمكن ذلك فيها، وهو عند الشافعي اثنان وثلاثون يوما وساعة. لأنها إذا طلقت طاهرا فحاضت بعد ساعة ثم حاضت يوما وليلة- وهو أقل الحيض- ثم طهرت خمسة عشر يوما- وهو أقل الطهر- ثم حاضت مرة أخرى يوما وليلة، ثم طهرت خمسة عشر ثم رأت الدم، فقد انقضت عدتها لحصول ثلاثة أطهار. فمتى ادعت هذا أو أكثر منه قبل قولها، وكذلك إذا كانت حاملا فادعت سقوط الولد كان القول قولها لأنها على أصل أمانتها ولهذا قال سبحانه: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ فأكثر المفسرين قالوا: إن الكتمان راجع إلى الحبل والحيض معا. وذلك أن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما. أما كتمان الحمل فإذا كتمت الحمل قصرت مدة عدتها فتتزوج بسرعة، وربما كرهت مراجعة الزوج الأول، وربما أحبت التزوج بزوج آخر وأحبت أن تلصق ولدها بالزوج الثاني. وأما كتمان الحيض فغرضها فيه أن المرأة إذا طلقها الزوج وهي من ذوات الأقراء، فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول، وقد تحب تقصير عدتها لتبطل رجعته، فإذا حاضت أولا فكتمته ثم أظهرت عند الحيضة الثانية أن ذلك أول حيضها فقد طولت العدة، وهكذا إن كتمت الحيضة الثالثة. وإذا كتمت أن حيضها باق فقد قطعت الرجعة على زوجها. وقيل: المراد النهي عن كتمان الحبل فقط لأن المخلوق في الأرحام هو الحبل لا الحيض، ولأن حمل المعنى على ما هو شريف أولى لقوله تعالى هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [آل عمران: 6] وقيل: المراد النهي عن كتمان الحيض لأن الآية وردت عقيب ذكر الأقراء ولم يتقدم ذكر الحمل. وقيل: يجوز أن يراد اللائي يبغين إسقاط ما في بطونهن من الأجنة فلا يعترفن به ويجحدنه لذلك، فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن إسقاطه. وفي قوله إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تعظيم لفعلهن، وإن من آمن بالله وبعقابه لا يجترىء على مثله من العظائم. وفيه أن من جعل أمينا في شيء فخان فيه فأمره عند الله شديد. الحكم الثاني للطلاق الحكم الثاني للطلاق: الرجعة وذلك قوله وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ والبعل الزوج والجمع البعولة. والتاء لتأكيد التأنيث في الجماعة كصقورة. وليس هذا في كل جمع وإنما هو مقصور على السماع. ويقال للمرأة أيضا بعل وبعلة كما يقال زوج وزوجة والبعل: السيد المالك. يقال: من بعل هذه الناقة؟ أي من ربها وصاحبها؟ ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قوله «بعل حسن البعولة» وعلى هذا فالمضاف محذوف أي أهل بعولتهن أحق بردهن برجعتهن. قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 تعالى في موضع: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي [الكهف: 36] وفي موضع آخر وَلَئِنْ رُجِعْتُ [فصلت: 50] فكأنه يردها من التربص إلى خلافه، ومن الحرمة إلى الحل في ذلك أي في مدة التربص، لأنه إذا انقضى ذلك الوقت بطل حق الرد والرجعة. وإنما تكون البعولة أحق عند الله تعالى برجعتهن إن أرادوا إصلاحا لما بينهم وبينهن وإحسانا إليهن لا الضرار وتطويل العدة كما في قوله وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا فلو راجعها لقصد المضارة استوجب من الله العقاب، وإن صحت رجعته شرعا لأنا نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. فإن قيل: كيف جعلوه أحق بالرجعة كأن للنساء حقا فيها؟ فالجواب أن الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها فهذا هو المعنى بالأحقية أو نقول: إنهن إن كتمن ما في أرحامهن لأجل أن يتزوّج بهن آخر، فإذا فعلن ذلك كان الزوج الأول أحق بردهن، وإن ثبت للزوج الثاني حق في الظاهر ولهن من الحق على الرجال مثل الذي للرجال عليهن بالمعروف بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس فلا يكلفنهم ما ليس لهن ولا يكلفونهن ما ليس لهم. والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب في كونهما من الحسنة لا في جنس الفعل. فإذا غسلت ثيابه أو خبزت لا يجب عليه أن يفعل نحو ذلك ولكن يقابله بما يليق بالرجال. قال أبو هريرة: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النساء خير؟ قال: «التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخونه في نفسها وماله بما يكره» وفي حديث حجة الوداع «ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن» «1» وعن ابن عباس أنه قال: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لقوله تعالى وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ وقيل: معنى الآية ولهن على الزوج من إرادة الإصلاح عند المراجعة مثل ما عليهن من ترك الكتمان. وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ زيادة في الحق وفضيلة وهي واحدة الدرجات الطبقات من المراتب. أصلها من درج الرجل. والضب يدرج دروجا أي مشى ودرج أي مضى لسبيله. ودرج القوم إذا انقرضوا. وفي المثل «أكذب من دبّ ودرج» أي أكذب الأحياء والأموات. وقد فضل الله الرجال على النساء في أمور: في العقل وفي الدية وفي الميراث وفي نصيبه من المغنم، وفي صلاحية الإمامة والقضاء والشهادة، وفي أن له أن يتزوج عليها ويتسرى وليس لها ذلك، وفي أن له أن   (1) رواه مسلم في كتاب الحج حديث 147. أبو داود في كتاب المناسك باب 56. الترمذي في كتاب تفسير سورة 9 باب 2. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 3. الدارمي في كتاب النكاح باب 34. أحمد في مسنده (5/ 73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 يطلقها وإذا طلقها راجعها شاءت المرأة أم أبت ولا قدرة للمرأة على التطليق ولا على الرجعة فإذن المرأة كالأسير العاجز في يد الرجل ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان» «1» وفي خبر آخر «اتقوا الله الضعيفين اليتيم والمرأة» وذلك أن من كانت نعمة الله عليه أكثر كان صدور الذنب عنه أقبح، واستحقاقه للزجر أشد، وقيل: بل الغرض من الآية أن فوائد الزوجية هي السكن والازدواج والألفة والمودة واشتباك الأنساب واستكثار الأعوان والأحباب وحصول اللذة، وكل ذلك مشترك بين الجانبين، بل يمكن أن يقال: نصيب المرأة منها أوفر. ثم إن الزوج اختص بأنواع من الكلفة وهي التزام المهر والنفقة والذب عنها والقيام بمصالحها، فيكون وجوب الخدمة على المرأة أشد رعاية لهذه الحقوق الزائدة فيكون هذا كقوله تعالى الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء: 34] وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لو أمرت أحدا بالسجود لغير الله لأمرت المرأة بالسجود لزوجها» «2» وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ غالب لا يمنع مصيب في أفعاله، وأحكامه لا يتطرق إليها احتمال العبث والسفه والغلط والباطل. الحكم الثالث للطلاق: هو الطلاق الذي يثبت فيه الرجعة. وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يطلق امرأته ثم يراجعها قبل أن تنقضي عدتها، ولو طلقها ألف مرة كانت القدرة على المراجعة ثابتة له. فجاءت امرأة إلى عائشة فشكت أن زوجها يطلقها ويراجعها يضارها بذلك، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل الطَّلاقُ مَرَّتانِ فعلى هذا تكون الآية متعلقة بما قبلها. والمعنى أن الطلاق الرجعي مرتان ولا رجعة بعد الثلاث. وهذا تفسير من جوز الجمع بين الطلقات الثلاث وهو مذهب الشافعي وهو أليق بنظم الكلام لأنه تعالى بيّن في الآية الأولى أن حق الرجعة ثابت للزوج ولم يذكر أن ذلك الحق ثابت دائما أو إلى غاية معينة فكان ذلك كالمجمل أو العام فيفتقر إلى مبين أو مخصص، فذكر عقيبه أن الطلاق المعهود السابق الذي يثبت فيه للزوج حق الرجعة هو أن يوجد طلقتان فقط، فإذا وصلت التطليقة إلى هذه الغاية بطل حق الرجعة. والطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم. وقيل: إن هذا كلام مبتدأ والمعنى: أن التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 1. مسلم في كتاب الرضاع حديث 62. الترمذي في كتاب الرضاع باب 11. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 3. (2) رواه ابن ماجه في كتاب النكاح باب 4. أحمد في مسنده (4/ 381) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 كقوله تعالى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] أي كرة بعد كرة، وقولهم «لبيك وسعديك» . وهذا التفسير قول من قال: الجمع بين الثلاث حرام. وزعم أبو زيد الدبوسي في الأسرار أن هذا هو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعمران بن الحصين وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وحذيفة رضي الله عنهم، ويؤكده العدول عن لفظ الأمر وهو «طلقوا مرتين أو دفعتين» إلى لفظ الخبر كما مر في قوله وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ ثم من هؤلاء من قال: لو طلقها ثنتين أو ثلاثا لا يقع إلا واحدة وهذا هو الأقيس، واختاره كثير من علماء أهل البيت لأن النهي يدل على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة، والقول بالوقوع سعي في إدخال تلك المفسدة في الوجود ومنهم من قال: - وهو اختيار أبي حنيفة- إنه وإن كان محرما إلا أنه يقع ويكون بدعة، والسنة أن لا يوقع عليها إلا واحدة في طهر لم يجامعها فيه. وهذا منه بناء على أن النهي لا يدل على الفساد، ومما يؤيد مذهب الشافعي حديث العجلاني الذي لاعن امرأته فطلقها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه، ومما يؤكد مذهب أبي حنيفة حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة. وأما قوله فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أي أمركم بعد الرجعة أو بعد معرفة كيفية التطليق أحد هذين. فالتسريح الإرسال والإطلاق والإمساك نقيضه. ومعنى الإمساك بالمعروف هو أن يراجعها لا على قصد المضارة بل على قصد الإصلاح ومعنى التسريح بإحسان قيل: هو أن يوقع عليها الطلقة الثالثة. روي أنه لما نزل قوله تعالى الطَّلاقُ مَرَّتانِ قيل له صلى الله عليه وسلم: فأين الثالثة؟ فقال: هو قوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وقيل: هو أن يترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة. ويروى عن الضحاك والسدي وهو أقرب لولا الخبر الذي رويناه لأن الفاء في قوله فَإِنْ طَلَّقَها تقتضي وقوع هذه الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح. فلو كان المراد بالتسريح هو الطلقة الثالثة لكان قوله فَإِنْ طَلَّقَها طلقة رابعة وإنه غير جائز. وأيضا لو حملنا التسريح على ترك المراجعة كانت الآية متناولة لجميع الأقسام، لأنه بعد الطلقة الثانية إما أن يراجعها وهو قوله فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أو لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي عدتها وتحصل البينونة وهو قوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أو يطلقها وذلك قوله فَإِنْ طَلَّقَها فلو جعلنا التسريح طلاقا لزم إهمال أحد الأقسام وتكرير بعضها. وأما الحكمة في إثبات حق الرجعة فهي أن النعم مجهولة إذا فقدت عرفت، فلو كانت الطلقة الواحدة مانعة عن الرجعة فربما ظهرت المحبة بعد المفارقة وعظمت المشقة. ثم إن كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة فلهذا ثبت حق المراجعة بعد المفارقة مرتين ليجرب الإنسان أحوال قلبه، فإن كان الأصلح له إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 وإن كان الأصلح تسريحها سرحها على أحسن الوجوه وهو أن يؤدي حقوقها المالية، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها، وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رأفته بعبده. الحكم الرابع من أحكام الطلاق: بيان الخلع وذلك قوله وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً وسبب ارتباط هذا بما قبله أنه تعالى لما أمر بالتسريح مقرونا بإحسان بيّن عقيبه أن من جملة الإحسان أنه إذا طلقها لا يأخذ منها شيئا مما أعطاها من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها، لأنه ملك بضعها واستمتع بها في مقابلة ما أعطاها إلا إذا فارقها على عوض ويدخل فيه النهي من أن يضيق عليها ليلجئها إلى الافتداء كما قال في سورة السناء وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء: 19] والخطاب في قوله وَلا يَحِلُّ لَكُمْ للأزواج وفي قوله فَإِنْ خِفْتُمْ للأئمة والحكام. ويجوز أن يكون الخطاب الأول أيضا للأئمة لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم الآخذون والمؤتون روي أن الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي. وفي سنن أبي داود أن المرأة كانت حبيبة بنت سهل الأنصارية، كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه أشد البغض وكان يحبها أشد الحب. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: فرق بيني وبينه، والله ما أعيب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام ما أطيقه بغضا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها. فقال ثابت: مرها فلترد علي الحديقة التي أعطيتها، فقال لها: ما تقولين؟ قالت: نعم وأزيده. فقال صلى الله عليه وسلم: لا، حديقته فقط. ثم قال لثابت: خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها ففعل، وكان ذلك أول خلع في الإسلام. ومعنى قوله إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ إلا أن يخاف الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من مواجب الزوجية واختلفوا في مقدار ما يجوز به الخلع. فعن الشعبي والزهري والحسن وعطاء وطاوس أنه لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهو قول علي كرم الله وجهه لقوله تعالى وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ثم قال: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي فلا جناح على الرجل فيما أخذ، ولا عليها فيما أعطت. ومعنى فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ فيما افتدت نفسها واختلعت به فوجب أن يكون هذا راجعا إلى ما آتاها، ولقوله صلى الله عليه وسلم لا حديقته فقط. حين قالت جميلة: نعم وأزيده. ولأن ذلك إجحاف بجانب المرأة وضرار بالمرأة بعد ما استبيح من بضعها ولهذا قال سعيد بن المسيب: لا يأخذ إلا دون ما أعطاها حتى يكون الفضل له. وأما سائر الفقهاء فإنهم قالوا: الخلع عقد معاوضة فينبغي أن لا يتقدر بمقدار معين. فكما أن للمرأة عند النكاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 أن لا ترضى إلا بالصداق الكثير، فكذلك للزوج أن لا يرضى عند المخالعة إلا بالبذل الكثير لا سيما وقد أظهرت الاستخفاف بالزوج حيث أظهرت بغضه وكراهته، ويتأكد هذا بما روي أن امرأة نشزت على زوجها فرفعت إلى عمر فأباتها في بيت الزبل ثلاث ليال ثم دعاها فقال: كيف وجدت مبيتك؟ قالت: ما بت منذ كنت عنده أقر ليعين منهن. فقال عمر لزوجها: اخلعها ولو بقرطها أي حتى قرطها. ولهذا قال قتادة يعني بمالها كله. وقيل: هو من قولهم «خذه ولو بقرطي مارية» وذلك فيهما درّتان قيمتهما أربعون ألف دينار. ويصح الخلع في حالتي الشقاق والوفاق عند أكثر المجتهدين لقوله تعالى فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء: 4] فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن يحصل لنفسها شيئا بإزاء ما بذلت، كان ذلك في الخلع الذي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى. وذهب الزهري والنخعي وداود إلى أنه لا يباح الخلع إلا عند الغضب والخوف من أن لا يقيما حدود الله كما في الآية، وإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فالخلع فاسد. والجمهور على أنه لا كراهة في الخلع إن جرى في حال الشقاق، أو كانت تكره صحبته لسوء خلقه أو دينه كما في الآية، أو وقع وتحرجت عن الإخلال ببعض حقوقه لما بها من الكراهة فافتدت ليطلقها، أو ضربها الزوج تأديبا فافتدت، أو منعها حقها من النفقة وغيرها فافتدت لتتخلص منه وإن كان الزوج يكره صحبتها فأساء العشرة ومنعها بعض حقها حتى ضجرت وافتدت، فالخلع مكروه وإن كان نافذا والزوج مأثوم بما فعل. فالخلع المباح هو أن تكون المرأة بحيث تخاف الفتنة على نفسها والزوج يخاف أنها إذا لم تطعه اعتدى عليها. ويجوز أن يكون الخوف بمعنى الظن كما سبق في قوله فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً [البقرة: 182] ومن قرأ إِلَّا أَنْ يَخافا على البناء للمفعول جعل أَلَّا يُقِيما بدلا من ألف الضمير بدل الاشتمال مثل «خيف زيد تركه إقامة حدود الله» ثم الفرقة الحاصلة على العوض إن كان بلفظ الطلاق فهو طلاق، وإن لم يجر إلا لفظ الخلع فللشافعي فيه قولان: الجديد أنه طلاق ينتقص به العدد وإذا خالعها ثلاث مرات لم ينكحها إلا بمحلل، ويروى هذا عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وبه قال أبو حنيفة ومالك واختاره المزني ووجه بأنها فرقة لا يملكها غير الزوج فيكون طلاقا كما لو قال: أنت طالق على كذا. ولأنه لو كان فسخا لما صح بالزيادة على المهر المسمى كالإقالة في البيع. وإذا خالعها ولم يذكر المهر وجب أن يرد عليها المهر كالإقالة فإن الثمن يجب رده وإن لم يذكراه. والقديم أنه فسخ لا ينتقص به العدد ويجوز تحديد النكاح بعد الخلع من غير حصر. ويروى هذا عن ابن عمر وابن عباس قالوا: لأنه لو كان طلاقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 وقد قال عقيب ذلك فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ لكان الطلاق أربعا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت في مخالعته امرأته ولم يستكشف عن الحال مع أن الطلاق في زمان الحيض وفي الطهر الذي حصل الجماع فيه حرام، ولما روى عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه جعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة ولو كانت مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد تِلْكَ أي المذكورات من أحكام الطلاق حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها فلا تتجاوزوا عنها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ والظالم اسم ذم وتحقير. فوقوع هذا الاسم عليه يكون جاريا مجرى الوعيد. وكيف لا والظالم ملعون أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ثم إنه ظلم من الإنسان على نفسه حيث أقدم على المعصية، وظلم على الغير أيضا بتقدير أن لا تتم المرأة عدته أو كتمت شيئا مما خلق في رحمها، أو ترك الرجل الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، أو أخذ من جملة ما آتاها شيئا لا بسبب نشوز من جهة المرأة. الحكم الخامس من أحكام الطلاق: بيان أن الطلقة الثالثة قاطعة لحق الرجعة وذلك قوله فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ والسبب في إيقاع آية الخلع بين آية الرجعة وبين هذه بعد ما مر من مناسبتها للتسريح بإحسان، هو أن الرجعة والخلع لا يصحان إلا قبل الطلقة الثالثة، ومعنى الآية فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرتين فلا تحل له من بعد ذلك التطليق حتى تنكح أي تتزوج غيره. والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كالتزوج فيقال: فلانة ناكح في بني فلان أي لها زوج منهم. هذا عند من يفسر قوله الطَّلاقُ مَرَّتانِ بالطلاق الرجعي. وأما عند من يفسره بأن التطليق الشرعي هو الذي يوقع على التفريق. فالمعنى عنده أنه إن طلقها الطلاق الموصوف بالتكرار في قوله الطَّلاقُ مَرَّتانِ واستوفى نصابه فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ ذلك حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ. ومذهب جمهور المجتهدين أن النكاح هاهنا بمعنى الوطء، لأن قوله زَوْجاً يدل على العقد. وقد نقلنا هذا عن أبي علي فيما سلف في تفسير قوله وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ [البقرة: 221] ويؤيد هذا ما روي عن عائشة أن امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني. وإن ما معه مثل هدبة الثوب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك. كنى بالعسيلة عن لذة الجماع وإنما أنث لأن من العرب من يؤنث العسل. ويروى أنها لبثت ما شاء الله ثم رجعت فقالت: إنه قد كان مسني فقال لها: كذبت في قولك الأول فلن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 أصدقك في الآخر، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر فقالت: أرجع إلى زوجي الأول فقال: قد عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لك ما قال فلا ترجعي إليه. فلما قبض أبو بكر قالت مثله لعمر فقال: إن أتيتني بعد مرتك هذه لأرجمنك فمنعها. وأيضا المقصود من توقيت حصول الحل على هذا الشرط زجر الزوج عن الطلاق لأن الغالب أن الزوج يستنكر أن يستفرش زوجته رجل آخر ولهذا قال بعض أهل العلم: إنما حرم الله على نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحن زوجا غيره لما فيه من الغضاضة. ومعلوم أن هذا الزجر إنما يحصل بتوقيف الحل على الدخول، فأما مجرد العقد فليس فيه زيادة نفرة فلا يصلح جعله مانعا وزاجرا. ثم قال الشافعي: إذا طلق زوجته واحدة أو ثنتين ثم نكحت زوجا آخر وأبانها ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد لم يكن له عليها إلا طلقة واحدة وهي التي بقيت من الطلقات، لأن هذه طلقة ثالثة من حيث إنها وجدت بعد طلقتين، والطلقة الثالثة توجب الحرمة الغليظة، وقال أبو حنيفة: بل يملك عليها ثلاثا كما لو نكحت زوجا بعد الثلاث وإذا تزوج الغير بالمطلقة ثلاثا على أنه إذا أحلها للأول بأن أصابها فلا نكاح بينهما فهذا متعة بأجل مجهول وهو باطل. ولو تزوجها بشرط أن يطلقها إذا أحلها للأول فقولان: أحدهما لا يصح، والثاني يصح ويبطل الشرط وبه قال أبو حنيفة. ولو تزوجها مطلقا مضمرا أنه إذا أحلها طلقها فالنكاح صحيح ويكره ذلك ويأثم به. وقال مالك وأحمد والثوري: هذا النكاح باطل. وحيث حكمنا بفساد النكاح فالوطء لا يقع به التحليل على الأصح. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لعن المحلل والمحلل له» «1» وعن عمر: لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. فَإِنْ طَلَّقَها أي الزوج الثاني الذي تزوجها بعد الطلقة الثالثة فَلا جُناحَ عَلَيْهِما على المرأة المطلقة والزوج الأول في أَنْ يَتَراجَعا بنكاح جديد إلى ما كانا عليه من النكاح فهذا تراجع لغوي وظاهر الآية يقتضي أن يحل للزوج الأول هذا التراجع عقيب ما يطلقها الزوج الثاني من غير عدة بدلالة فاء التعقيب في قوله فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ولهذا ذهب سعيد بن المسيب إلى أن النكاح هاهنا بمعنى العقد، وأن التحليل يحصل بمجرد العقد لأن الوطء لو كان معتبرا لكانت العدة واجبة. والجواب أن الآية مخصوصة بقوله تعالى وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ إن كان في ظنهما وفي عزيمتهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية، ولم يقل إن علما، ولا يجوز أن يفسر الظن هاهنا   (1) رواه أحمد في مسنده (1/ 448) . أبو داود في كتاب النكاح باب 15. الترمذي في كتاب النكاح باب 28. النسائي في كتاب الطلاق باب 13. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 بالعلم لأن اليقين في الاستقبال مغيب عن الإنسان، فإن لم يحصل هذا الظن وخافا عند المراجعة من نشوز منها أو إضرار منه فالرجوع مذموم إلا أنه يصح شرعا. من قرأ نبينها بالنون فمن طريقة الالتفات والنون للتعظيم، ومن قرأ بالياء فظاهر وصيغة المضارع أريد بها هاهنا الحال فلا إشكال. وجوز بعضهم أن يكون المراد بها الاستقبال، وذلك أن النصوص التي تقدمت أكثرها عامة يدخل فيها التخصيص وذلك يعرف بالسنة. فكان المراد- والله أعلم- إن هذه الأحكام التي تقدمت هي حدود الله، وسيبينها الله على لسان نبيه كمال البيان فهو كقوله تعالى وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ [النحل: 44] وإنما خص البيان بالعلماء لأنهم هم المنتفعون بذلك. ثم إنه تعالى لما بين الأحكام المهمة للطلاق استأنف لحكمي الإمساك والتسريح ببيانين آخرين في آيتين متعاقبتين، لأن جملة الأمر في الطلاق يؤل الى أحد هذين: الأول قوله سبحانه وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي آخر عدتهن وشارفن منتهاها. والأجل يقع على المدة كلها وعلى آخرها. يقال لعمر الإنسان أجل، وللموت الذي ينتهي به أجل، ويتسع في البلوغ أيضا يقال: بلغ البلد إذا شارفه وداناه، ويقول الرجل لصاحبه: إذا بلغت مكة فاغتسل بذي طوى يريد به مشارفة البلوغ. فهذا من باب المجاز الذي يطلق فيه اسم الكل على الأكثر، ولأنه قد علم أن الإمساك بعد تقضي الأجل لا وجه له لأنها بعد تقضيه غير زوجة له وفي غير عدة منه فلا سبيل له عليها فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ راجعوها من غير توخي ضرار بالمراجعة أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ خلوها حتى تنقضي عدتها ونبين. ولما أمر بعد الطلاق بأحد الأمرين، استأنف حكم كل منهما فقدم حكم الإمساك على طريقة النهي لا الأمر، لأن المأمور يمتثل بمرة واحدة فلعله يمسكها بمعروف في الحال لكن في قلبه أن يضارها في الاستقبال، والمنهي لا يمتثل إلا إذا انتهى في كل الأوقات فيكون أدل على الدوام والثبات فقال: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً مضارة وتشمل موجبات النفرة والعداوة كلها، وروي أن الرجل كان يطلق المرأة ثم يدعها فإذا قارب انقضاء القرء الثالث راجعها، وهكذا يفعل بها في العدة تسعة أشهر أو أكثر. وقيل: الضرار سوء العشرة. وقيل: تضييق النفقة وكانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأفعال رجاء أن تختلع المرأة منه بماله. ومعنى قوله لِتَعْتَدُوا أي لا تضاروهن ليكون عاقبة أمركم الاعتداء كقوله فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا [القصص: 8] أو لا تضاروهن على قصد الاعتداء عليهن فتكونون متعمدين لتلك المعصية. وقيل: لتلجؤهن إلى الافتداء وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بتعريضها لعقاب الله، أو بتفويته عليها منافع الدنيا والدين. أما الدنيا فلأنه إذا اشتهر بتلك المعاملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 لم يرغب في التزويج منه ولا في معاملته أحد، وأما منافع الدين فالثواب الحاصل على حسن العشرة مع الأهل وعلى الانقياد لأحكام الله تعالى وتكاليفه وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فمن أقربائه يجب طاعة الله وطاعة رسوله ثم وصلت إليه هذه التكاليف المذكورة في أبواب العدة والرجعة والخلع وترك المضارة ولم يتشمر لأدائها كان كالمستهزىء بها. أو المراد لا تتهاونوا بتكاليف الله كما يتهاون بما يكون من باب الهزء والعبث. وعن أبي الدرداء: كان الرجل يطلق في الجاهلية ويعتق ويتزوج ويقول: كنت لاعبا. فنزلت فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق والنكاح والرجعة» «1» وروي «الطلاق والعناق والنكاح» «2» وعن عطاء: المعنى أن المستغفر من الذنب إذا كان مصرا عليه أو على مثله كان كالمستهزىء بآيات الله. ثم إنه تعالى لما رغبهم في أداء التكاليف بما ذكر من التهديد رغبهم أيضا في أدائها بأن ذكرهم أقسام نعمه عليهم. فبدأ أولا بذكرها على الإجمال فقال: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وهذا يتناول كل نعمة لله على العبد في الدنيا والدين وقيل: المراد بها الإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم خصص نعم الدين بالذكر لشرفها فقال: وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ عطفا على النعمة مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها يَعِظُكُمْ بِهِ في محل النصب حالا مما أنزل أو من فاعل «أنزل» . ويحتمل أن يكون ما أَنْزَلَ الصلة والموصول مبتدأ، وقوله يَعِظُكُمْ بِهِ خبرا وَاتَّقُوا اللَّهَ في أوامره ونواهيه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيه وعد ووعيد وترغيب وترهيب الثاني: وهو حكم المرأة المطلقة بعد انقضاء العدة قوله عز من قائل وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ بلوغ الأجل هاهنا على الحقيقة. عن الشافعي: دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين فَلا تَعْضُلُوهُنَّ لا تحبسوهن ولا تضيقوا عليهن. وأصل العضل الضيق ومنه عضلت الدجاجة، إذا نشب بيضها فلم يخرج، وعضلت الأرض بالجيش إذا ضاقت بهم لكثرتهم، وأعضل الداء الأطباء إذا أعياهم، والعضلة اللحمة المجتمعة المكتنزة في عصبة. والخطاب للأزواج الذين يمنعون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلما وقسرا ولحمية الجاهلية من أن ينكحن أزواجهن الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهن إذا تراضوا- أي الرجال والنساء- تراضيا واقعا بينهم بالمعروف بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط كالعقد الحلال والمهر الجائز والشهود والعدول. وقيل: بمهر المثل وفرعوا عليه مسألة فقهية توافق   (1) رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 9. (2) رواه مالك في الموطأ كتاب النكاح حديث 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 مذهب أبي حنيفة وهي: أنها إذا زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها فالنكاح صحيح لكن للولي أن يعترض عليها بسبب النقصان عن المهر دفعا للشين عن الأولياء ولأن نساء العشيرة يتضررن بذلك فقد يعتبر مهورهن بمهرها. وزعم كثير من المفسرين أن الخطاب في قوله فَلا تَعْضُلُوهُنَّ للأولياء لما روى البخاري في صحيحه أن معقل بن يسار قال: كانت لي أخت تخطب إلي وأمنعها من الناس. فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقا له رجعة، ثم تركها حتى انقضت عدتها. فلما خطبت إلي أتاني يخطبها مع الخطاب فقلت له: خطبت إلي فمنعتها الناس وآثرتك بها وزوجتك ثم طلقتها طلاقا لك رجعة، ثم تركتها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب، والله لا أنكحتهكها أبدا. قال: ففيّ نزلت هذه الآية فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه. وعن مجاهد والسدي أن جابر بن عبد الله كانت له بنت عم فطلقها زوجها وأراد رجعتها بعد العدة فأبى جابر فنزلت. وأجيب بأن رعاية نظم كلام الله أولى من محافظة خبر الواحد، ولا يخفى تفكك النظم لو قيل: «وإذا طلقتم النساء أيها الأزواج فلا تعضلوهن أيها الأولياء» لأنه لا يبقى بين الشرط والجزاء مناسبة، قالوا: ليس بعد انقضاء العدة قدرة للزوج على عضل المرأة. والجواب أنه قد يقدر على الظلم وقد يجعد الطلاق أو يدعي أنه كان راجعها في العدة، أو يدس إلى من يخطبها بالوعيد والتهديد، أو ينسبها إلى أمور تنفر الناس عنها. قالوا: أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ يدل على أن الأولياء كانوا يمنعونهن من العود إلى أولئك الذين كانوا أزواجا لهن. والجواب أن العرب قد تسمي الشيء بما يؤل إليه. فالمراد من يردن أن يتزوّجنهم فيكونوا أزواجا لهن. وقيل: الوجه أن يكون خطابا للناس أي لا يوجد فيما بينكم عضل، لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين. ثم ن الشافعي تمسك بالآية في أن النكاح لا يجوز إلا بولي، لأنه لو جاز للمرأة أن تزوج نفسها أو توكل من يزوجها لما كان الولي قادرا على عضلها من النكاح، وهذا مبني على أن الخطاب في فَلا تَعْضُلُوهُنَّ للأولياء وفيه ما فيه. ولو سلم فلم يجوز أن يكون الاستبداد الشرعي حاصلا لهن، ولكن يمنعها الولي من بعض الجهات التي قلنا في الزوج. وأيضا فثبوت العضل في حق الولي ممتنع لأنه مهما عضل انعزل، وإذا انعزل لا يبقى لعضله أثر. وتمسك أبو حنيفة بقوله تعالى أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ على أن النكاح بغير ولي جائز، وذلك أنه تعالى أضاف النكاح إليها إضافة الفعل إلى فاعله والتصرف إلى مباشره، ونهى الولي عن منعها من ذلك. ولو كان ذلك التصرف فاسدا لما نهى الولي عن منعها منه، ويتأكد هذا النص بقوله حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ وأجيب بأن الفعل كما يضاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 إلى المباشر فقد يضاف أيضا إلى المتسبب مثل «بنى الأمير دارا» وإنما ذهبنا إلى هذا وإن كان مجازا لدلالة الحديث على بطلان هذا النكاح هذا. وأما قوله ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ فالخطاب فيه إما للرسول أو لكل أحد على الانفراد كما أن الخطاب في قوله في سورة الطلاق ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ [الطلاق: 2] للمكلفين مجموعين. وقوله مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تخصيص لهم بالوعظ لأنهم هم المنتفعون بذلك. ومن استدل بهذا على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة يكذبه التكاليف العامة كقوله وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وأيضا لا يلزم من تخصيص العظة بالمؤمنين تخصيص التكليف بهم ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ أي أنمى وهو إشارة إلى استحقاق الثواب الدائم، وأطهر أي من أدناس الآثام وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ لأن علمه تعالى فعلي كامل وعلمنا انفعالي ناقص. فقد تخفى المصلحة والعاقبة علينا، أو تشتبه المصلحة بالمفسدة فلا صلاح للمكلف إلا في طاعة علام الغيوب ليحوز سعادة الدارين والله ولي التوفيق. التأويل: إنه سبحانه من كمال الكرم والاصطناع إذا صدر من العبد أمارات النشوز والانقطاع أمهله إلى انقضاء عدة الجفاء، فلعله يعود إلى إقامة شرائط الوفاء، وتتحرك داعية في صميم قلبه من نتائج محبة ربه، إذ لم يكن له أن يكتم ما خلق الله في رحم قلبه من المحبة. وإن ابتلاه الله بمحنة الفرقة فيقرع بأصبع الندامة باب التوبة، ويقوم على قدم الغرامة في طلب الرجعة والأوبة فيقال له من غاية الفضل والنوال: يا قارع الباب دع نفسك وتعال، من طلب منا فلاحا فليلزم عتبتنا مساء وصباحا. وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ أي للعباد حق في ذمة الربوبية كما أن لله تعالى حقا في ذمة عباده، فإذا تقرب العبد إليه شبرا فالله أحق برعاية الحق قيقرب إليه ذراعا. والفضل له على الإطلاق لا بدرجة بل بدرجات غير متناهية وَاللَّهُ عَزِيزٌ أعز من أن يراعي العباد مع عجزهم كمال حقوقه حَكِيمٌ لا تقتضي حكمته أن يطالبهم بما ليس في وسعهم بل يقبل منهم القليل ويوفيهم الثواب الجزيل الطَّلاقُ مَرَّتانِ يعني أن أهل الصحبة لا يفارقون بجريمة ولا جريمتين كما في قصة موسى والخضر. ثم في الثالثة إن سلكوا سبيل الهجران فلا يحل للإخوان أن يواصلوا الخوان حتى يصاحب الخائن صديقا مثله، فإن ندم بعد ذلك عن أفعاله وسام ذلك الصديق وأمثاله ورجع إلى صحبة أشكاله فَلا جُناحَ في التراجع إِنْ ظَنَّا فيه خيرا ولا يجوز لأحد من الإخوان أن يعضله من صحبة الأقران. وفيه أن الله تعالى يتجاوز عن زلات العبد مرة بعد أخرى، فإذا أصر العبد ابتلاه بالخذلان وجعله قرين الشيطان كما قال: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ [الزخرف: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 36] فإن طلق قرين الشيطان ورجع إلى باب الرحمن تداركه بالغفران والرضوان. وأما قوله وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً فإشارة إلى أنه ليس لأهل الصحبة- وإن اتفقت المفارقة- أن يستردوا خواطرهم عن الرفقاء بالكلية، فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه إلا أن يؤدي إلى مداهنة وإهمال حق من حقوق الدين فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ كأن لم يكن بينهما صحبة فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بمقالتهم عَلِيمٌ بحالهم والله ولي التوفيق. [سورة البقرة (2) : الآيات 233 الى 237] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) القراآت: لا تُضَارَّ بضم الراء: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وقتيبة. الباقون بفتح الراء ولا خلاف في قوله وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة: 282] بالفتح ما آتَيْتُمْ مقصورا: ابن كثير. الباقون بالمد يُتَوَفَّوْنَ بفتح الياء وما بعده: المفضل. الباقون بضم الياء النِّساءِ أَوْ بهمزتين: عاصم وعلي وحمزة وخلف وابن عامر. الباقون النِّساءِ وروى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة النِّساءِ أَوْ. تماسوهن حيث وقعت: علي وحمزة وخلف. الباقون تَمَسُّوهُنَّ قَدَرُهُ بالتحريك: يزيد وابن ذكوان وروح وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون بالإسكان. الوقوف: الرَّضاعَةَ ط بِالْمَعْرُوفِ ط وُسْعَها ج لاستئناف اللفظ مع قرب المعنى مِثْلُ ذلِكَ ج عَلَيْهِما ط لابتداء الحكم في استرضاع الأجنبية بِالْمَعْرُوفِ ط بَصِيرٌ هـ وَعَشْراً ج بِالْمَعْرُوفِ ط خَبِيرٌ هـ أَنْفُسِكُمْ ط مَعْرُوفاً ط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 أَجَلَهُ ط لابتداء الأمر فَاحْذَرُوهُ ج للفصل بين موجبي الخوف والرجاء ولهذا كررت كلمة «واعلموا» تقديره غفور حليم فارجوه والوقف أليق حَلِيمٌ هـ فَرِيضَةً ج لعطف المختلفتين وَمَتِّعُوهُنَّ ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى، لأن الجملة الثانية لتقدير المأمور في الأولى قَدَرُهُ الثاني ج لأن «متاعا» مصدر «متعوهن» والوقف لبيان أنه غير متصل بما يليه من الجملتين العارضتين بِالْمَعْرُوفِ ج لأن «حقا» يصلح نعتا للمتاع أي متاعا حقا، ويصلح مصدر المحذوف أي حق ذلك حقا. الْمُحْسِنِينَ ط النِّكاحِ ط لِلتَّقْوى ط بَيْنَكُمْ هـ بَصِيرٌ هـ. التفسير: الحكم الثاني عشر: الإرضاع والوالدات. قيل: هن المطلقات والمزوجات لأن ظاهر اللفظ مشعر بالعموم. وقيل: المطلقات ولهذا ذكرت عقيب آية الطلاق. وتحقيقه أنه إذا حصلت الفرقة استتبعت التباغض والتعاند المتضمن لإيذاء الولد ليتأذى الزوج، وربما رغبت في التزوج بزوج آخر فيهمل أمر الطفل، فندب الله تعالى الوالدات المطلقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم. وأيضا إنه تعالى قال في الآية: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولو كانت الزوجية باقية لوجب ذلك للزوجية لا للرضاع ذكره السدي. وقال الواحدي في البسيط: الأولى أن يحمل على المزوجات في حال بقاء النكاح، لأن المطلقة لا تستحق النفقة وإنما تستحق الأجرة، ثم إن النفقة والكسوة تجبان في مقابلة التمكين، فإذا اشتغلت بالإرضاع والحضانة لم تتفرغ لخدمة الزوج، فلعل متوهما يتوهم أن مؤنتها قد سقطت بالخلل الواقع في الخدمة فأزيل ذلك الوهم بإيجاب الرزق والكسوة وإن اشتغلت بالإرضاع ويرضعن مثل يتربصن في أنه خبر في معنى الأمر المؤكد، وهذا الأمر على سبيل الندب بدليل قوله تعالى فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق: 6] ولو وجب عليها الإرضاع لم تستحق الأجرة. وإنما كان ندبا من حيث إن تربية الطفل بلبن الأم أصلح، ولأن شفقتها أكثر، ولا يجوز استئجار الأم عند أبي حنيفة ما دامت زوجة أو معتدة من نكاح، وعند الشافعي يجوز، فإذا انقضت عدتها جاز بالاتفاق. وقد يفضي الأمر إلى الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه، أو لم توجد له ظئر، أو كان الأب عاجزا عن الاستئجار. حَوْلَيْنِ أي عامين، والتركيب يدور على الانقلاب. فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني، وكامِلَيْنِ توكيد كقوله تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة: 196] فقد يقال: أقمت عند فلان حولين. وإنما أقام حولا وبعض الآخر. وليس التحديد بالحولين تحديد إيجاب لقوله تعالى بعد ذلك لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الإرضاع، أو اللام متعلقة بيرضعن كما تقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 أرضعت فلانة لفلان ولده أي يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة من الآباء، لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم وعليه أن يتخذ له ظئرا إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه. ثم المقصود من ذكر التحديد قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاعة، فإن أراد أحدهما أن يفطمه قبل الحولين ولم يرض الآخر لم يكن له ذلك. أما إذا اجتمعا على أن يفطما قبل تمام الحولين فلهما ذلك. وأيضا فللرضاع حكم خاص في الشريعة وهو قوله صلى الله عليه وسلم «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» فيعلم من التحديد أن الإرضاع ما لم يقع في هذا الزمان لا يفيد هذا الحكم هذا هو مذهب الشافعي وبه قال علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري. وعن أبي حنيفة أن مدة الرضاع ثلاثون شهرا. وقرىء أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ برفع الفعل تشبيها لأن بما لتآخيهما في التأويل أي في المصدر لأن كلمة «ما» ستارة تقع مصدرية فلا تنصب. وقرىء الرَّضاعَةَ بكسر الراء. وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ وعلى الذي يولد له وهو الوالد وله في عمل الرفع على الفاعلية لما عليهم في المغضوب عليهم. وإنما قيل: الْمَوْلُودِ لَهُ دون الوالد ليعلم أن الوالدات إنما ولدت لهم ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات. وفيه تنبيه على أن الولد إنما يلحق بالوالد لكونه مولودا على فراشه ما قال صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش» «1» وفيه أن نفع الأولاد عائد إلى الآباء فيجب عليهم رعاية مصالحه كما قيل: كله لك فكله عليك. فعليهم رزقهن وكسوتهن إذا أرضعه ولدهم كالأظار ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم تكن هذه المعاني مقصودة وذلك قوله وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً [لقمان: 33] بِالْمَعْرُوفِ تفسيره ما يتلوه وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضار. وأيضا المعروف في هذا الباب قد يكون محدودا بشرط وعقد، وقد يكون غير محدود إلا من جهة العرف، لأنه إذا قام بما يكفيها في طعامها وكسوتها فقد استغنى عن تقدير الأجرة، إذ لو كان ذلك أقل من قدر الكفاية لحقها ضرر من الجوع والعري، ويتعدى ذلك الضرر إلى الولد. وفي الآية دليل على أن حق الأم أكثر من حق الأب لأنه ليس بين الأم والطفل واسطة، وبين الأب وبينه واسطة، فإنه يستأجر المرأة على الإرضاع والحضانة بالنفقة والكسوة. والتكليف: الإلزام. قيل: أصله من الكلف وهو الأثر على الوجه. فمعنى تكلف   (1) رواه البخاري في كتاب البيوع باب 3، 100. مسلم في كتاب الرضاع حديث 36، 37. أبو داود في كتاب الطلاق باب 34. الترمذي في كتاب الرضاع باب 8. النسائي في كتاب الطلاق باب 48، 49، 84. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 59. الدارمي في كتاب النكاح باب 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 الأمر اجتهد أن يبين فيه أثره. وكلفه ألزمه ما يظهر فيه أثره. والوسع ما يسع الإنسان ولا يعجز عنه ولهذا قيل: الوسع فوق الطاقة. من قرأ لا تُضَارَّ بالرفع فعلى الإخبار في معنى النهي، ويحتمل البناء للفاعل والمفعول على أن الأصل تضار بكسر الراء، أو تضار بفتحها. ومن قرأ بالفتح فعلى النهي صريحا، ويحتمل البناءين أيضا. وتبيين ذلك أنه قرىء لا تضارر ولا تضارر بالجزم وكسر الراء الأولى وفتحها. ومعنى لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة وأن تشغل قلبه بسبب التفريط في شأن الولد، وأن تقول بعد ما ألفها الصبي: اطلب له ظئرا ونحو ذلك ولا يضار مَوْلُودٌ لَهُ امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من الرزق والكسوة، أو يأخذه منها وهي تريد إرضاعه، أو يكرهها على الإرضاع. وهكذا إذا كان مبنيا للمفعول كان نهيا عن أن يلحق بها الضرر من قبل الزوج، وعن أن يلحق الضرر بالزوج من قبلها بسبب الولد. ويحتمل أن يكون تضار بمعنى تضر، والباء من صلته أي لا تضر والدة بولدها بأن تسيء غذاءه وتعهده أو تفرّط فيما ينبغي له ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها، ولا يضر الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يفرط في شأنها فتقصر هي في حق الولد. وإنما قيل: بِوَلَدِها وبِوَلَدِهِ لأن المرأة لما نهيت عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافا لها عليه وأنه ليس بأجنبي منها فمن حقها أن تشفق عليه وكذلك الوالد. قوله سبحانه وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ للعلماء فيه أقوال من حيث إنه تقدم ذكر الوالد والولد والوالدة واحتمل في الوارث أن يكون مضافا إلى كل واحد من هؤلاء. فعن ابن عباس أن المراد وارث الأب، وقوله وَعَلَى الْوارِثِ عطف على قوله وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وما بينهما تفسير للمعروف. فالمعنى وعلى وارث المولود مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة أي إن مات المولود ألزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشرط المذكور من العدل وتجنب الضرار. وقيل: المراد وارث الولد الذي لو مات الصبي ورثه، فيجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجبا على الأب، وهذا قول الحسن وقتادة وأبي مسلم والقاضي. ثم اختلفوا في أنه أيّ وارث هو؟ فقيل: العصبات دون الأم والأخوة من الأم وهو قول عمر والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان وإبراهيم. وقيل: هو وارث الصبي من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث، عن قتادة وابن أبي ليلى. وقيل: وعلى الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون غيرهم من ابن العم والمولى عن أبي حنيفة وأصحابه. وعند الشافعي لا نفقة فيما عدا الولاد أي الأب والابن. وقيل: المراد من الوارث هو الصبي نفسه فإنه إن مات أبوه وورثه وجبت عليه أجرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 رضاعه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال أجبرت الأم على إرضاعه. وقيل: المراد من الوارث الباقي من الأبوين كما في الدعاء المروي «واجعله الوارث منا» أي الباقي وهو قول سفيان وجماعة فَإِنْ أَرادا فِصالًا أي فطاما وليس من باب المفاعلة وإنما هو ثلاثي على «فعال» كالعثار والإباق. وذلك أن الولد ينفصل عن الاغتذاء بثدي أمه إلى غيره من الأقوات. وعن أبي مسلم أنه يحتمل أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الولد والأم إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك، ولم يرجع ضرر إلى الولد وليكن الفصال صادرا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ مع أرباب التجارب وأصحاب الرأي فَلا جُناحَ عَلَيْهِما في ذلك زادا على الحولين لضعف في تركيب الصبي، أو نقصا. وهذه أيضا توسعة بعد التحديد وذلك أن الأم قد تمل من الإرضاع فتحاول الفطام والأب أيضا قد يمل إعطاء الأجرة على الإرضاع فيطلب الفطام دفعا لذلك لكنهما قد يتوافقان على الإضرار بالولد لغرض النفس فلهذا اعتبرت المشاورة مع غيرهما، وحينئذ يبعد موافقة الكل على ما يكون فيه إضرار بالولد، وإن اتفقوا على الفطام قبل الحولين وهذا غاية العناية من الرب بحال الطفل الضعيف، ومع اجتماع الشروط لم يصرح بالإذن بل رفع الحرج فقط. ولما بيّن حكم الأم وأنها أحق بالرضاع بيّن أنه يجوز العدول في هذا الباب عنها إلى غيرها فقال: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أي المواضع أولادكم فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يقال: أرضعت المرأة الصبي واسترضعتها الصبي بزيادة السين مفعولا ثانيا كما تقول: أنجى لحاجة واستنجته إياها. فحذف أحد المفعولين للعلم به. وعن الواحدي: التقدير أن تسترضعوا لأولادكم فحذف اللام للعلم به مثل وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ أي كالوا لهم أو وزنوا لهم. ومن موانع الإرضاع للأم ما إذا تزوجت بزوج آخر، فقيامها بحق ذلك الزوج يمنعها عن الإرضاع. ومنها أنه إذا طلقها الزوج الأول فقد تكره الإرضاع ليتزوج بها زوج آخر. ومنها أن تأبى المرأة قبول الولد إيذاء للزوج المطلق. ومنها أن تمرض أو ينقطع لبنها. فعند أحد هذه الأمور إذا وجدنا مرضعة أخرى وقبل الطفل لبنها جاز العدول عن الأم إلى غيرها، فإن لم نجد مرضعة أخرى أو وجدنا ولكن لا يقبل الطفل لبنها فالإرضاع واجب على الأم. إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المراضع ما آتَيْتُمْ ما آتيتموه المرأة أي ما أردتم إيتاءه مثل إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ قرأ ما آتَيْتُمْ بالقصر فهو من أتى إليه إحسانا إذا فعله كقوله تعالى إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أي مفعولا. وروى شيبّان عن عاصم ما أوتيتم أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة، وليس التسليم شرطا للجواز والصحة وإنما هو ندب إلى الأولى. وفيه حث على أن الذي يعطي المرضعة يجب أن يكون يدا بيد حتى يكون أهنأ وأطيب لنفسها لتحتاط في شأن الصبي، ولهذا قيد التسليم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 بأن يكون بالمعروف وهو أن يكونوا حينئذ مستبشري الوجوه ناطقين بالقول الجميل مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن قطعا لمعاذيرهن. ثم أكد الجميع بأن ختم الآية بنوع من التحذير فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. الحكم الثالث عشر: عدة الوفاة وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ومعناه يموتون ويقبضون قال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر: 42] وأصل التوفي أخذ الشيء كاملا وافيا. ويبنى للمفعول ومعناه ما قلنا، وللفاعل ومعناه استوفى أجله ورزقه وعليه قراءة علي رضي الله عنه يُتَوَفَّوْنَ بفتح الياء. والذي يحكى أن أبا الأسود الدؤلي كان يمشي خلف جنازة فقال له رجل: من المتوفي- بكسر الفاء-؟ فقال: الله. وكان أحد الأسباب الباعثة لعليّ رضي الله عنه على أن أمره بأن يضع كتابا في النحو. فلعل السبب فيه أن ذلك الشخص لم يكن بليغا وهذا المعنى من مستعملات البلغاء فلهذا لم يعتد بقوله، وحمله على متعارف الأوساط وَيَذَرُونَ يتركون ولا يستعمل منه الماضي والمصدر استغناء عنهما بتصاريف ترك. والأزواج هاهنا النساء يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مثل قوله يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] وقد مر. وَعَشْراً أي يعتددن هذه المدة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام. وإنما قيل: عَشْراً ذهابا إلى الليالي والأيام داخلة معها. قال في الكشاف: ولا نراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام. وقيل في سبب التغليب: إن مبدأ الشهر من الليل، والأوائل أقوى من الثواني. وأيضا هذه الأيام أيام الحزن، وأيام المكروه خليقة أن تسمى ليالي استعارة، أو المراد عشر مدد كل منها يوم بليلته. وذهب الأوزاعي والأصم إلى ظاهر الآية وأنها إذا انقضت لها أربعة أشهر وعشر ليال حلت للأزواج نقل عن الحسن وأبي العالية أنه تعالى إنما حد العدة بهذا القدر لأن الولد ينفخ فيه الروح في العشر بعد الأربعة. قلت: ولعل هذا من الأمور التي لا يعقل معناها كأعداد الركعات ونصب الزكوات، وإنما الله ورسوله أعلم بذلك. وهذه العدة واجبة على كل امرأة مات زوجها إلا إذا كانت أمة فإن عدتها نصف عدة الحرة عند أكثر الفقهاء. وعن الأصم أن عدتها عدة الحرائر تمسكا بظاهر عموم الآية، وقياسا على وضع الحمل وإلا إذا كانت المرأة حاملا فإنها إذا وضعت الحمل حلت وإن كان بعد وفاة الزوج بساعة لقوله تعالى وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] . ولو زعم قائل أن ذلك في الطلاق فليعول على قصة سبيعة الأسلمية، ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: حللت فانكحي من شئت. وعن علي رضي الله عنه أنها تتربص أبعد الأجلين. ولا فرق في عدة الوفاة بين الصغيرة والكبيرة وذات الأقراء وغيرها والمدخول بها وغيرها. وقال ابن عباس: لا عدة عليها قبل الدخول. ورد بعموم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 الآية، ولهذا أيضا لم يفرق بين أن ترى المعتدة في المدة المذكورة دم الحيض على عادتها أو لا تراه خلافا لمالك فإنه قال: لا تنقضي عدتها حتى ترعادتها من الحيض في تلك الأيام مثل التي كانت عادتها. فإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهر مرة فعليها في عدة الوفاة أربع حيض، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهرين مرة فعليها حيضتان، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل أربعة أشهر مرة يكفيها حيضة واحدة، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل خمسة أشهر مرة فههنا يكفيها الشهور، ثم مذهب الشافعي أنها إن ارتابت استبرأت نفسها من الريبة، كما أن ذات الأقراء لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط وتعتبر المدة بالهلال ما أمكن، فإن مات الزوج في خلال شهر هلالي والباقي أكثر من عشرة أيام فتعد ما بقي وتحسب ثلاثة أشهر بعده بالأهلة وتكمل ذلك الباقي ثلاثين وتضم إليها عشرة أيام، فإذا انتهت من اليوم الأخير إلى الوقت الذي مات فيه الزوج فقد انقضت العدة، وإن كان الباقي دون عشرة أيام فتعده وتحسب أربعة أشهر بالأهلة وتكمل الباقي عشرة من الشهر السادس، وإن كان الباقي عشرة أيام فتعتد بها وبأربعة أشهر بالأهلة بعدها، وإن انطبق الموت على أول الهلال فتعتد بأربعة أشهر بالأهلة وبعشرة أيام من الشهر الخامس. واختلفوا في أن هذه المدة سببها الوفاة أو العلم بالوفاة؟ فعن بعضهم- ويوافقه جديد قول الشافعي- أنها ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تعتد بانقضاء الأيام في العدة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها يقين موته أو طلاقه» وأيضا فالنكاح معلوم بيقين فلا يزال إلا بيقين. وقال الأكثرون: السبب هو الموت. فلو انقضت المدة أو أكثرها ثم بلغها خبر وفاة الزوج وجب أن تعتد بما انقضى، والدليل عليه أن الصغيرة التي لا علم لها تكفي في انقضاء عدتها هذه المدة. ثم المراد من تربصها بنفسها الامتناع عن النكاح بالإجماع، والامتناع عن الخروج من المنزل إلا عند الضرورة والحاجة والإحداد ويعني به ترك التزين بثياب الزينة وترك التحلي والتطيب والتدهن والاكتحال بالإثمد، ويحرم عليها أن تخضب بالحناء ونحو ذلك فيما يظهر من اليدين والرجلين والوجه. ولا منع منه فيما تحت الثياب ولا منع من التزين في الفرش والبسط والستور وأثاث البيت ومن التنظيف بغسل الرأس والامتشاط وقلم الأظفار والاستحداد ودخول الحمام وإزالة الأوساخ. والعدة تنقضي إن تركت الإحداد ولكنّها تعصي لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» «1» وعن الحسن   (1) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 31. مسلم في كتاب الرضاع حديث 125. أبو داود في [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 والشعبي أنه غير واجب لأن الحديث يقتضي حل الإحداد لا وجوبه لكنه صلى الله عليه وسلم قال: «المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل» «1» والممشقة المصبوغة بالمشق وهو الطين الأحمر. وقد يحتج بقوله وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ من قال: الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع وإلا لم يخص الخطاب في مِنْكُمْ بالمؤمنين. والجواب إنما خصوا بالخطاب لأنهم هم العالمون بذلك كقوله تعالى إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45] مع أنه منذر للكل لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1] فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ إذا انقضت عدتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الأولياء لأنهم الذين يتولون العقد، أو أيها الحكام وصلحاء المسلمين لأنهن إذا تزوجن في مدة العدة وجب على كل أحد منعهن عن ذلك، فإن عجز استعان بالسلطان وذلك لأن المقصود من هذه العدة الأمن من اشتمال فرجها على ماء زوجها الأول. وقيل: معناه لا جناح عليكم وعلى النساء فيما فعلن في أنفسهن من التعرض للخطاب بالتزين والتطيب ونحوهما مما تنفرد المرأة بفعله، وفيه دليل على وجوب الإحداد بالمعروف بالوجه الذي يحسن عقلا وشرعا. وقد يحمل أصحاب أبي حنيفة الفعل هاهنا على التزويج فيستدلونه به على جواز النكاح بلا ولي. بعد تسليم أن المراد من الفعل هو التزويج أن الفعل قد يسند إلى المسبب مثل «بنى الأمير دارا» وقد تقدم في قوله أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ [البقرة: 232] ثم ختم الآية بالتهديد المشتمل على الوعيد فقال: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. الحكم الرابع عشر: خطبة النساء وذلك قوله سبحانه وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ والتعريض ضد التصريح ومعناه أن تضمر كلامك كي يصلح للدلالة على المقصود وعلى غير المقصود إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح، ولهذا قد يقال: إنه سوق الكلام لموصوف غير مذكور كما يقول المحتاج: جئتك لأنظر إلى وجهك الكريم. ومنه قول الشاعر: وحسبك بالتسليم مني تقاضيا وأصله من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم حوله ولا يظهره ولهذا قيل: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» «2» وهو قسم من أقسام الكناية. والخطبة أصلها من الخطب   كتاب الطلاق باب 43، 46. الترمذي في كتاب الطلاق باب 18. النسائي في كتاب الطلاق باب 58، 59. ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 35. الدارمي في كتاب الطلاق باب 12. (1) رواه النسائي في كتاب الطلاق باب 65. أبو داود في كتاب الطلاق باب 46. أحمد في مسنده (6/ 302) . (2) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 وهو الأمر والشأن خطب فلان فلانة أي سألها أمرا وشأنا في نفسها. وكذا في الخطبة والخطاب فإن في كل منهما شأنا. ثم النساء على ثلاثة أقسام: أحدها: أن تجوز خطبتها تعريضا وتصريحا وهي الخالية عن الزوج والعدة إلا إذا كان قد خطبها آخر وأجيب إليه، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم «لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه» «1» فإن وجد صريح الإباء أو لم يوجد صريح الإجابة ولا صريح الرد فالأصح أنه يجوز خطبتها لأن السكوت لا يدل على الرضا خلافا لمالك. وثانيها: ما لا يجوز خطبتها تعريضا ولا تصريحا وهي منكوحة الغير، لأن خطبتها ربما صارت سببا لتشويش الأمر على زوجها، ولامتناع المرأة عن أداء حقوق الزوج إذا وجدت راغبا فيها، وكذا الرجعية فإنها في حكم المنكوحة بدليل أنه يصح طلاقها وظهارها ولعانها وتعتد منه عدة الوفاة ويتوارثان. وثالثها: ما يفصل في حقها بين التعريض والتصريح وهي المعتدة غير الرجعية سواء كانت معتدة عن وفاة، أو عن طلقات ثلاث، أو عن طلقة بائنة كالمختلعة، أو عن فسخ. وسبب التحريم أنها مستوحشة بالطلاق فربما كذبت في انقضاء العدة بالأقراء مسارعة إلى مكافاة الزوج. وأما المعتدة عن وفاة فظاهر الآية يدل على أنها في حقها لأنها ذكرت عقيب آية عدة المتوفى عنها زوجها، ثم إنه خص التعريض بعدم الجناح فوجب أن يكون التصريح بخلافه، ثم المعنى يؤكد ذلك وهو أن التصريح لا يحتمل غير النكاح، فالغالب أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار عن انقضاء العدة قبل أوانها بخلاف التعريض فإنه يحتمل غير ذلك فلا يدعوها إلى الكذب. قال الشافعي: والتعريض كثير كقوله «رب راغب فيك» أو «من يجد مثلك أو «لست بأيم» و «إذا حللت فأعلميني» . وعد آخرون من ألفاظ التعريض أن يقول لها: «إنك لجميلة» او «صالحة» و «من غرضي أن أتزوج» و «عسى الله أن ييسر لي امرأة صالحة» ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه. والتصريح أن يقول: إني أريد أن أنكحك أو أتزوجك أو أخطبك. وعن أبي جعفر محمد بن علي أنها دخلت عليه امرأة وهي في العدة فقال: قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدي عليّ وقدمي في الإسلام. فقالت: غفر الله لك أتخطبني في عدتي وأنت يؤخذ عنك؟ فقال: إنما أخبرتك بقرابتي من نبي الله. قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) رواه البخاري في كتاب النكاح باب 45. مسلم في كتاب البيوع حديث 8. أبو داود في كتاب النكاح باب 17. الترمذي في كتاب النكاح باب 38. النسائي في كتاب البيوع باب 19. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 10. الدارمي في كتاب النكاح باب 7. الموطأ في كتاب النكاح حديث 1، 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده. فما كانت تلك خطبة أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم، لا معرّضين ولا مصرحين. أباح التعريض في الحال أولا ثم أباح أن يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك بعد انقضاء العدة، ثم ذكر الوجه الذي لأجله أباح التعريض فقال: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ لأن شهوة النفس إذا حصلت في باب النكاح لم يكد المرء يصبر عن النطق بما ينبىء عن ذلك فأسقط الله تعالى عنه الحرج. ثم قال: وَلكِنْ أي فاذكروهن ولكن لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا والسر وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء لأنه مما يسر. ثم عبر به عن النكاح الذي هو العقد لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا. والمعنى لا تواعدوهن مواعدة سرية إلا مواعدة الإحسان إليها والاهتمام بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء مؤكدا لذلك التعريض. فالمواعدة المنهي عنها إما أن تكون المواعدة في السر بالنكاح فيكون منعا من التصريح، وإما المواعدة بذكر الجماع كقوله: إن نكحتك آنك الأربعة والخمسة. وعن ابن عباس أو كقوله: دعيني أجامعك فإذا أتممت عدتك أظهرت نكاحك. عن الحسن أو يكون ذلك نهيا عن مسارة الرجل المرأة الأجنبية لأن ذلك يورث نوع ريبة، أو نهيا أن يواعدها أن لا تتزوج بأحد سواه. ويحتمل أن يكون السر صفة للموعود به أي لا تواعدوهن بشيء يوصف بكونه سرا إلا بأن تقولوا قولا معروفا وهو التعريض. وعن ابن عباس هو أن يتواثقا أن لا تتزوج غيره وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ من عزم الأمر وعزم عليه. والعزم عقد القلب على فعل من الأفعال معناه ولا تعزموا عقد عقدة النكاح، أو لا تعزموا عقدة النكاح أن تعقدوها، وإذا نهى عن العزم فعن نفس الفعل أولى. وقيل: معنى العزم القطع أي لا تحققوا ذلك ولا توجبوه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» «1» وروي «لم يبيت الصيام» وقيل: لا تعزموا عليهن أن يعقدن النكاح مثل عزمت عليك أن تفعل كذا. وأصل العقد الشد والعهود والأنكحة تسمى عقودا تشبيها بالحبل الموثق بالعقد حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ المراد منه المكتوب أي تبلغ العدة المفروضة آخرها وانقضت، ويحتمل أن يكون مصدرا بمعنى الفرض أي حتى يبلغ هذا التكليف نهايته. وباقي الآية بيان موجبي الخوف والرجاء كما تقدم.   (1) رواه الترمذي في كتاب الصوم باب 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 الحكم الخامس عشر: حكم المطلقة قبل الدخول وقبل فرض المهر وذلك قوله عز من قائل لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً واعلم أن عقد النكاح يوجب بدلا على كل حال، وذلك البدل إما أن يكون مذكورا أو غير مذكور. فإن كان مذكورا فإن حصل الدخول استقر كله وعدتها ثلاثة قروء كما سبق، وإن لم يحصل الدخول سقط نصف المذكور بالطلاق كما يجيء في الآية التالية، وإن لم يكن البدل مذكورا فإن لم يحصل الدخول فحكمها في هذه الآية وهو أن لا مهر لها ويجب لها المتعة، وإن حصل الدخول فحكمها غير مذكور في هذه الآيات إلا أنهم اتفقوا على أن الواجب فيها مهر المثل قياسا على الموطوءة بالشبهة، بل أولى لوجود النكاح الصحيح. وقد يستنبط حكمها من قوله تعالى فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء: 24] ويحتمل أن يقال: هذه الآية تدل على أنه لا مهر للتي لا تكون ممسوسة ولا مفروضا لها، فيعرف من ذلك وجود المهر للممسوسة غير المفروض لها وللمفروض لها غير الممسوسة. وقد سلف حكم الممسوسة المفروض لها فتبين اشتمال القرآن على أحكام جميع الأقسام. فإن قيل: ظاهر الآية مشعر بأن نفي الجناح على المطلق مشروط بعدم المسيس وليس كذلك، فإنه لا جناح عليه أيضا بعد المسيس. قلنا: لعل الآية وردت لبيان إباحة الطلاق على الإطلاق، وهذا الإطلاق لا يصح إلا قبل المسيس إذ بعده يحتاج إلى أن يكون الطلاق في طهر لم يجامعها فيه، أو لعل «ما» بمعنى «التي» لا للمدة. والتقدير: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن. ولا يلزم منه وجود الجناح في تطليق غيرهن، أو المراد من الجناح في الآية لزوم المهر أي لا مهر عليكم ولا تبعة في تطليقهن، فإن الجناح في اللغة الثقل يقال: جنحت السفينة إذا مالت بثقلها. ومما يؤكد ذلك أنه نفي الجناح ممدودا إلى غاية هي إما المسيس أو الفرض. والجناح الذي ثبت عند أحد هذين الأمرين هو لزوم المهر فحصل القطع بأن الجناح المنفي في أول الآية هو لزوم المهر. وأيضا إن تطليق النساء قبل المسيس إما أن يكون قبل تقدير المهر أو بعده. وفي القسم الثاني أوجب نصف المفروض كما يجيء فيجب أن يكون المنفي في القسم الأول مقابل المثبت في الثاني. واتفقوا على أن المراد بالمسيس أو المماسة في الآية الجماع، ولا يخفى حسن موقع هذه الكناية، وفيه تأديب للعباد في اختيار أحسن الألفاظ للتخاطب والتفاهم. والفرض في اللغة التقدير أي تقدروا مقدرا من المهر. ومعنى «أو» هاهنا أن رفع الجناح منوط بعدم المسيس، أو بعدم الفرض على سبيل منع الخلوة فقط، ولهذا صح اجتماعهما في هذا الحكم. وقيل: إنها بمعنى الواو. وقيل: بمعنى «إلا أن» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 وقيل: بمعنى «حتى» والكل تعسف. ثم إنه تعالى لما بيّن أنها لا مهر لها قبل المسيس والتسمية، ذكر أن لها المتعة فقال: وَمَتِّعُوهُنَّ فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنها واجبة نظرا إلى الأمر، وأنه للوجوب ظاهرا وهو قول شريح والشعبي والزهري. وعن مالك: ويروى عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة أنهم كانوا لا يرونها واجبة لأنه تعالى قال في آخر الآية: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فجعلها من باب الإحسان. ورد بأن لفظ «على» منبىء عن الوجوب. وكذا قوله حَقًّا وأصل المتعة والمتاع ما ينتفع به انتفاعا منقضيا ولهذا قيل: الدنيا متاع. ويسمى التلذذ تمتعا لانقطاعه بسرعة. عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ أوسع الرجل إذا كان في سعة من ماله، وأقتر ضده من القترة وهي الغبار، فكأنه التصق بالأرض لضيق ذات يده. وقدره أي قدرا مكانه وطاقته فحذف المضاف، أو قدره مقداره الذي يطيقه لأن ما يطيقه هو الذي يختص به. والقدر والقدر لغتان في جميع معانيهما، وفي الآية دليل على أن تقدير المتعة مفوض إلى الاجتهاد كالنفقة التي أوجبها الله تعالى للزوجات وبيّن أن الموسع يخالف المقتر. قال الشافعي: المستحب على الموسع خادم، وعلى المتوسط ثلاثون درهما، وعلى المقتر مقنعة. وعن ابن عباس أنه قال: أكثر المتعة خادم، وأقلها مقنعة، وأي قدر أدى جاز في جانبي الكثرة والقلة، والنظر في اليسار والإعسار إلى العادة. وقال أبو حنيفة: المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل، لأن حال المرأة التي سمي لها المهر أحسن من حال التي لم يسم لها. ثم لما لم يجب زيادة على نصف المسمى إذا طلقها قبل الدخول فهذه أولى. مَتاعاً تأكيد لمتعوهن أي تمتيعا بالمعروف بالوجه الذي يحسن في الدين والمروءة، وعلى قدر حال الزوج في الغنى والفقر، وعلى ما يليق بالزوجة بحسب الشرف والوضاعة حق ذلك حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ لأنهم الذين ينتفعون بهذا البيان، أو من أراد أن يكون محسنا فهذا شأنه وطريقته، أو على المحسنين إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى. الحكم السادس عشر: حكم المطلقة قبل الدخول وبعد فرض المهر وذلك قوله سبحانه وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ الآية. واعلم أن مذهب الشافعي أن الخلوة لا تقرر المهر. وقال أبو حنيفة: الخلوة الصحيحة تقرر المهر وهي أن لا يكون هناك مانع حسي أو شرعي. فالحسي نحو الرتق والقرن والمرض أو يكون معهما ثالث وإن كان نائما. والشرعي كالحيض والنفاس وصوم الفرض وصلاة الفرض والإحرام المطلق فرضا كان أو نفلا. وقوله وَقَدْ فَرَضْتُمْ في موضع الحال. ومعنى قوله فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ فعليكم نصف ذلك، أو فنصف ما فرضتم ساقط أو ثابت إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أي المطلقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 عن أزواجهن فتقول المرأة: ما رآني ولا خدمته ولا استمتع بي فكيف آخذ منه شيئا؟ والفرق بين قولك «النساء يعفون» وبين «الرجال يعفون» هو أن الواو في الأول لام الفعل والنون ضمير جماعة النساء ولم يحذف منه شيء، وإنما وزنه يفعلن والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل، والواو في الثاني ضمير جماعة الذكور واللام محذوف ووزنه «يفعون» والنون علامة الرفع، فقوله أَوْ يَعْفُوَا عطف على محل أَنْ يَعْفُونَ والذي بيده عقدة النكاح الولي وهو قول الشافعي، ويروى عن الحسن ومجاهد وعلقمة. وقيل: الزوج وهو مذهب أبي حنيفة ويروى عن علي وسعيد بن المسيب. وكثير من الصحابة والتابعين قالوا: ليس للولي أن يهب مهر مولاته صغيرة كانت أو كبيرة. وأيضا الذي بيد الولي هو عقدة النكاح، فإذا عقد حصلت العقدة أي المعقودة كالأكلة واللقمة، ثم هذه العقدة بيد الزوج لا الولي وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول فأكمل لها الصداق وقال: أنا أحق بالعفو. حجة الأولين أن الصادر عن الزوج هو أن يعطها كل المهر وذلك يكون هبة والهبة لا تسمى عفوا اللهم إلا أن يقال: كان الغالب عندهم أن يسوق إليها المهر عند التزوج فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها، فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها. أو يقال: سماه عفوا على طريقة المشاكلة، أو لأن العفو والتسهيل. فعفو الرجل هو أن يبعث إليها كل الصداق على وجه السهولة. حجة أخرى لو كان المراد به الزوج وقد قال أولا: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ناسب أن يقال: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أو تعفو على سبيل الخطاب أيضا، وأجيب بأن سبب العدول عن الخطاب إلى الغيبة هو التنبيه على المعنى الذي لأجله يرغب في العفو. والمعنى إلا أن يعفون أو يعفو الزوج الذي حبسها بأن ملك عقدة نكاحها عن الأزواج ثم لم يكن منها سبب في الفراق، وإن فارقها الزوج فلا جرم كان حقيقا بأن لا ينقصها من مهرها ويكمل لها صداقها. ثم قال الشافعي: إذا ثبت أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، فهم منه أن النكاح لا ينعقد بدون الولي، وذلك للحصر المستفاد من تقديم بِيَدِهِ على عُقْدَةُ النِّكاحِ فتبين أنه ليس في يد المرأة من ذلك شيء وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى قيل: اللام بمعنى «إلى» والتقدير: العفو أقرب إلى التقوى. والخطاب للرجال والنساء جميعا إلا أنه غلب الذكور لأصالتهم وكمالهم، وإنما كان عفوا لبعض عن البعض أقرب إلى حصول معنى الاتقاء لأن من سمح بترك حقه تقربا إلى ربه فهو من أن يأخذ حق غيره أبعد، ولأنه إذا استحق بذلك الصنع الثواب فقد اتقى العقاب واحترز عنه وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ لا تتركوا التفضل والتسامح فيما بينكم، وليس نهيا عن النسيان فإن ذلك غير مقدور، بل المراد منه الترك. وذلك أن الرجل إذا تزوج المرأة فقد يتعلق قلبها به فإذا طلقها قبل المسيس صار ذلك سببا لتأذيها منه. وأيضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 إذا كلف الرجل أن يبذل لها مهرها من غير أن يكون قد انتفع بها صار ذلك سببا لتأذيه منها، فلا جرم ندب الله تعالى كلا منهما إلى تطييب قلب الآخر ببذل كل المهر أو تركه وإلا فالتنصيف. عن جبير بن مطعم أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه بنتا له فتزوجها. فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كملا فقيل له: لم تزوجتها؟ فقال: عرضها علي فكرهت رده. قيل: فلم بعثت بالصداق؟ قال: فأين الفضل؟ ثم إنه تعالى ختم الآية بما يجري مجرى الوعد والوعيد على العادة المعلومة فقال: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. [سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 242] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) القراآت: وَصِيَّةً بالنصب: أبو عمر وابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب غير روبس. الباقون بالرفع. الوقوف: قانِتِينَ هـ أَوْ رُكْباناً ج لأن «إذا» في معنى الشرط مع فاء التعقيب تَعْلَمُونَ هـ أَزْواجاً ج لانقطاع النظم ومكان الحذف لأن التقدير فعليهم وصية أو فليوصوا وصية، والوصل أجوز لاتصال المعنى فإن وصية أو وصية قام مقام خبر المبتدأ. إِخْراجٍ ج مِنْ مَعْرُوفٍ ط حَكِيمٌ هـ بِالْمَعْرُوفِ ط الْمُتَّقِينَ هـ تَعْقِلُونَ. التفسير: الحكم السابع عشر: الصلاة، وذلك أنه سبحانه لما بين للمكلفين ما بين من معالم الدين وشعائر اليقين أعقبها بذكر الصلاة التي تفيد انكسار القلب من هيبة الله تعالى وزوال التمرد وحصول الانقياد لأوامره والانتهاء عن مناهيه تحصيلا لسعادة الطرفين وتكميلا لمصالح الدارين. وقد أجمع المسلمون على أن الصلوات المكتوبة خمس، وفي الآية إشارة إلى ذلك لأن الصلوات جمع فأقلها ثلاث، والصلاة الوسطى تدل على شيء زائد والإلزام التكرار، وذلك الزائد لو كان الرابع لم يكن للمجموع وسطى فلا أقل من خمسة. والمراد بمحافظتها رعاية جميع شرائطها من طهارة البدن والثوب والمكان، ومن ستر العورة واستقبال القبلة والإتيان بأركانها وأبعاضها وهيآتها والاحتراز عن مفسداتها من أعمال القلب وأعمال اللسان والجوارح. ومعنى المفاعلة في المحافظة إما لأنها بين العبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 والرب كأنه قيل: احفظ الصلاة يحفظك الإله الذي أمرك بالصلاة كقوله فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] وفي الحديث «احفظ الله يحفظك» وإما لأنها بين المصلي والصلاة فمن حفظ الصلاة حفظته الصلاة عن المناهي إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] وحفظته عن الفتن والمحن وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45] وكيف لا وفي الصلاة القراءة والقرآن شافع مشفع. في الخبر «تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان فتشهدان وتشفعان» «1» و «إن سورة الملك تصرف عن المتهجد بها عذاب القبر وتجادل عنه في الحشر وتقف في الصراط عند قدميه وتقول للنار لا سبيل لك عليه» . وفي الصلاة الوسطى سبعة أقوال: الأول: أنه تعالى أمرنا بالمحافظة على الصلاة الوسطى ولم يبين لنا أنها أي الصلوات. وما يروى من أخبار الآحاد لا معوّل عليها فيجب أن تؤدى كلها على نعت الكمال والتمام، ولعل هذا هو الحكمة في إبهامها، ولمثل ذلك أخفى الله تعالى ليلة القدر في ليالي رمضان، وساعة الإجابة في يوم الجمعة، واسمه الأعظم في أسمائه، ووقت الموت في الأوقات ليكون المكلف خائفا عازما على التوبة في كل الأوقات، وهذا القول اختاره جمع من العلماء، عن محمد بن سيرين أن رجلا سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال: حافظ على الصلوات كلها تصبها. وعن الربيع: أرأيت لو علمتها بعينها أكنت محافظا عليها ومضيعا سائرهن؟ قال السائل: لا. قال الربيع: فإن حافظت عليهن فقد حافظت على الصلاة الوسطى. القول الثاني: أن الوسطى مجموع الصلوات الخمس، فإن الإيمان بضع وسبعون درجة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطرق. والصلوات المكتوبات واسطة بين الطرفين. القول الثالث: أنها صلاة الصبح وهو قول علي وعمر وابن عباس وابن عمر وجابر وأبي أمامة. ومن التابعين قول طاوس وعطاء وعكرمة ومجاهد وهو مذهب الشافعي قالوا: إن هذه الصلاة تصلى في الغلس فبعضها في ظلمة الليل وآخرها في ضوء النهار. وأيضا إن في النهار صلاتين: الظهر والعصر، وفي الليل صلاتين: المغرب والعشاء، والصبح متوسط بينهما. وأيضا الظهر والعصر يجمعان في السفر وكذا المغرب والعشاء والفجر منفرد بينهما. قال القفال: وتحقيق هذا يرجع إلى ما يقوله الناس: فلان متوسط إذا لم يمل إلى أحد   (1) رواه مسلم في كتاب المسافرين حديث 252، 253. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 15. أحمد في مسنده (4/ 183) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 الخصمين وكان منفردا بنفسه عنهما. وقد أقسم الله تعالى بها في قوله وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر: 1، 2] وأيضا قال تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء: 28] واتفقوا على أن المراد منه صلاة الفجر فخصها في تلك الآية بالذكر للتأكيد وخص الصلاة الوسطى في هذه الآية بالذكر للتأكيد، فيغلب على الظن أنهما واحد. وأيضا قرن هذه الصلاة بذكر القنوت في قوله وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ وليس في المفروضة صلاة صبح فيها القنوت إلا الصبح. وأيضا لا شك أنه تعالى أفردها بالذكر لأجل التأكيد والصبح أحوج الصلوات إلى ذلك، ففيه ترك النوم اللذيذ واستعمال الماء البارد والخروج إلى المسجد في الوقت الموحش. وأيضا الإفراد بالذكر ينبىء عن الفضل، ولا ريب في فضيلة صلاة الصبح ولهذا جاء وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آل عمران: 17] وروي أن التكبيرة الأولى منها في الجماعة خير من الدنيا وما فيها. وخصت بالأذان مرتين: أولاهما قبل الوقت إيقاظا للناس حتى لا تفوتهم البتة، وخص أذانها بالتثويب وهو أن يقول بعد الحيعلتين: الصلاة خير من النوم. وإن الإنسان إذا قام من منامه فكأنه صار موجودا بعد العدم، وعند ذلك يزول عن الخلائق ظلمة الليل وظلمة النوم والغفلة وظلمة الفجر والحيرة، ويملأ العالم نورا والأبدان حياة وعقلا وقوة وفهما. فهذا الوقت أليق الأوقات بأن يشتغل العبد بأداء العبودية وإظهار الخضوع والاستكانة لفاطر السموات والأرض وجاعل الظلمات والنور. وعن علي عليه السلام أنه سئل عن الصلاة الوسطى فقال: كنا نرى أنها الفجر. وعن ابن عباس أنه صلى الصبح ثم قال: هذه هي الصلاة الوسطى. القول الرابع: أنها صلاة الظهر ويروى عن عمر وزيد وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، لأن الظهر كان شاقا عليهم لوقوعه في وقت القيلولة وشدة الحر فصرف المبالغة إليه أولى. وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالهاجرة وكانت أثقل الصلوات على أصحابه، وربما لم يكن وراءه إلا الصف والصفان فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم» «1» فنزلت هذه الآية. وأيضا ليس في المكتوبات صلاة وقعت وسط الليل والنهار إلا هذه، وإنها صلاة بين صلاتين نهاريتين: الفجر والعصر وأنها صلاة بين البردين: برد الغداة وبرد العشي، وإن أول إمامة جبرائيل كان في صلاة الظهر كما ورد في الأحاديث الصحاح، وإن صلاة   (1) رواه البخاري في كتاب الأذان باب 29، 34. مسلم في كتاب المساجد حديث 251- 254. أبو داود في كتاب الصلاة باب 46. الترمذي في كتاب الصلاة باب 48. النسائي في كتاب الإمامة باب 49. ابن ماجه في كتاب المساجد باب 17. الدارمي في كتاب الصلاة باب 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 الجمعة مع ما ورد في فضلها تنوب عن الظهر لا عن غيرها. وعن عائشة أنها كانت تقرأ والصلاة الوسطى وصلاة العصر وكانت تقول: سمعت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيغلب على الظن أن المعطوف عليه العصر هو الظهر الذي قبله. وروي أن قوما كانوا عند زيد بن ثابت فأرسلوا إلى أسامة بن زيد وسألوه عن الصلاة الوسطى فقال: هي صلاة الظهر، كانت تقام في الهاجرة. القول الخامس: أنها صلاة العصر ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم، ومن الفقهاء النخعي وقتادة والضحاك وهو مروي عن أبي حنيفة أيضا لما ورد من التأكيد فيه كقوله صلى الله عليه وسلم «من فاته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» «1» وقد أقسم الله بها في قوله وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 1، 2] ولما يحتاج في معرفة وقتها إلى تأمل أكثر من حال الظهر. فالمغرب يعرف بغروب جرم الشمس، والعشاء يعرف بغروب الشفق، والفجر بطلوع الصبح الصادق، والظهر بدلوك الشمس عن دائرة نصف النهار، ولما في وقتها من اشتغال الناس بحوائجهم. وعن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: «شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا» «2» رواه البخاري ومسلم وسائر الأئمة. وهو عظيم الموقع في المسألة. وفي صحيح مسلم «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر» وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب. وعن حفصة أنها قالت لمن كتب لها المصحف: إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتى أملي عليك كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها فأملت عليه والصلاة الوسطى صلاة العصر. القول السادس: أنها صلاة المغرب. عن قبيصة بن ذؤيب لأنها بين بياض النهار وسواد الليل، ولأنها وسط في الطول والقصر. القول السابع: أنها صلاة العشاء لأنها متوسطة بين صلاتين لا تقصران: المغرب والصبح. ولما ورد في فضلها عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم «من صلى العشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة» «3» وقال أهل التحقيق: القلب هو الذي في وسط   (1) رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 14. مسلم في كتاب المساجد حديث 200، 201. أبو داود في كتاب الصلاة باب 5. الترمذي في كتاب المواقيت باب 14. النسائي في كتاب الصلاة باب 17. ابن ماجه في كتاب الصلاة باب 6. (2) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 98. مسلم في كتاب المساجد حديث 202- 206. النسائي في كتاب الصلاة باب 14. ابن ماجه في كتاب الصلاة باب 6. أحمد في مسنده (1/ 79) . (3) رواه مسلم في كتاب المساجد حديث 260. البخاري في كتاب الأذان باب 34. الترمذي في كتاب الصلاة باب 51. ابن ماجه في كتاب المساجد باب 18. الدارمي في كتاب الصلاة باب 28. أحمد في مسنده (1/ 58، 68) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 الإنسان بل هو واسطة بين الروح والجسد فكأنه قيل: حافظوا على صورة الصلوات بشرائطها، وحافظوا على معاني الصلوات وحقائقها بدوام شهود القلب للرب في الصلاة وبعدها. ثم إن الشافعي احتج بالآية على أن الوتر ليس بواجب وإلا كانت الصلوات ستا فلم يبق لها وسطى. وهذا إنما يتم لو كان المراد الوسطى في العدد، لكنه يحتمل أن يكون الوسطى في الفضيلة من قوله وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] أو الوسطى في الزمان وهو الظهر، أو الوسطى في المقدار كالمغرب فإنه ثلاث ركعات فيتوسط بين الاثنتين والأربع، أو الوسطى في الصفة كصلاة الصبح يتوسط بين صفتي الظلام والضياء وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ عن ابن عباس أن القنوت هو الدعاء والذكر لقوله تعالى أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً [الزمر: 9] ولأن قوله حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ أمر بما في الصلاة من الفعل فيكون القنوت عبارة عن كل ما في الصلاة من الذكر. وعن الحسن والشعبي وسعيد بن جبير وطاوس وقتادة والضحاك ومقاتل: قانتين أي مطيعين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كل قنوت في القرآن فهو الطاعة» «1» وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [الأحزاب: 31] فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ [النساء: 34] فالقنوت عبارة عن إكمال الطاعة والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها وآدابها. وفيه زجر لمن لم يبال كيف صلى فخفف واقتصر على ما لا يجزى وذهب إلى أنه لا حاجة لله إلى صلاة العباد، ولو كان كما قالوا وجب أن لا يصلي أصلا لأنه تعالى كما لا يحتاج إلى الكثير من عبادتنا فكذلك لا يحتاج إلى القليل، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الرسل والسلف الصالح فأطالوا وخشعوا واستكانوا وكانوا أعلم بالله من هؤلاء الجهال وقيل: قانتين ساكتين. عن زيد بن أرقم وعبد الله بن مسعود كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه حتى نزلت وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. وعن مجاهد: القنوت عبارة عن الخشوع وخفض الجناح وسكون الأطراف، وكان أحدهم إذا صلى خاف ربه فلا يلتفت، ولا يقلب الحصى، ولا يبعث بشيء من جسده. ولا فحذف المفعول به للعلم به أو فإن حصل لكم خوف أو كنتم على حالة الخوف على أنه متروك المفعول فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً أي فصلوا راجلين أو راكبين. وقيل: المعنى فإن خفتم فوات الوقت إن أخرتم الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم فصلوا رجالا أو ركبانا. وعلى هذا فالآية تدل على تأكيد فرض الوقت حتى يترخص لأجل المحافظة عليه بترك القيام والركوع والسجود. ورجالا جمع راجل كقيام جمع قائم وتجار جمع تاجر، أو جمع رجل يقال:   (1) رواه أحمد في مسنده (3/ 75) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 رجل رجل أي راجل. والركبان جمع راكب كفارس وفرسان. ولا يقال راكب إلا لمن كان على إبل، فإن كان على فرس فإنما يقال له: فارس. لكن المراد في الآية أعم، وتخصيص اللفظ بالركبان لأنه الغالب فيهم. واعلم أن صلاة الخوف، إما أن تكون في غير حال القتال وسوف يجيء بيانها في سورة النساء إن شاء الله تعالى، وإما أن تكون عند التحام القتال وهو المراد بهذه الآية. ومذهب الشافعي أنهم يصلون ركبانا على دوابهم ومشاة على أقدامهم إلى القبلة وإلى غير القبلة، ويقتصرون من الركوع والسجود على الإيماء إلا أنهم يجعلون السجود أخفض من الركوع، ويحترزون عن الصيحان، أنّه لا ضرورة إليه بل الشجاع الساكت أهيب. وقال أبو حنيفة: لا يصلي الماشي بل يؤخر لأنه صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة يوم الخندق. وأجيب بأن الآية ناسخة لذلك الفعل. ويدخل في الخوف المفيد لهذه الرخصة الخوف في القتال الواجب كالقتال مع الكفار أو مع أهل البغي، وفي القتال المباح كالدفاع عن النفس، أو عن حيوان محترم، أو عن المال. أما القتال المحظور فإنه لا يجوز فيه صلاة الخوف لأن الرخص لا تناط بالمعاصي والخوف الحاصل لا في القتال كالهارب من الحرق والغرق والسبع، وكذا المطالب إذا كان معسرا خائفا من الحبس عاجزا عن بينة الإعسار يرخص أيضا في هذه الصلاة لأن قوله فَإِنْ خِفْتُمْ مطلق يتناول الكل فَإِذا أَمِنْتُمْ فإذا زال خوفكم فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ من صلاة الأمن بقوله حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى كما بينه بشروطه وأركانه. والصلاة قد تسمى ذكرا فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وقيل: فاذكروا الله أي فاشكروا الله لأجل إنعامه عليكم بالأمن. وقيل: فاشكروه على الأمن واذكروه بالعبادة كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع على لسان نبيه. وكيف تصلون في حال الخوف وفي حال الأمن. و «ما» في كَما عَلَّمَكُمْ إما مصدرية أو كافة. الحكم الثامن عشر: عدة الوفاة بوجه آخر وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ الآية. من قرأ وَصِيَّةً بالرفع ف وَصِيَّةً مبتدأ وخبره لِأَزْواجِهِمْ وجاز وقوع النكرة مبتدأ لتخصيصه بما تخصص منهم وصية، أو وصية الذين يتوفون وصية، أو الذين يتوفون أهل وصية إلى الحول، وكل هذه الوجوه جائز حسن. ومن قرأ بالنصب فعلى تقدير فليوصوا وصية أو يوصون وصية مثل «أنت سير البريد» أي أنت تسير سير البريد أو ألزم الذين يتوفون منكم وصية متاعا نصب على المصدر على معنى فليوصوا لهن وصية وليمتعوهن متاعا. والتقدير: جعل الله لهن ذلك متاعا لأن ما قبله من الكلام يدل عليه، أو نصب على الحال، أو نصب بالوصية وغَيْرَ إِخْراجٍ نصب على المصدر المؤكد كقولك «هذا القول غير ما تقول» أو بدل من مَتاعاً أو حال من الأزواج أي غير مخرجات. والمعنى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 حق الذين يتوفون منكم عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعده حولا كاملا أي ينفق عليهن من تركته ولا يخرجن من مساكنهن. وأكثر المفسرين على أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234] أو نسخ ما زاد منه على هذا المقدار بالإرث الذي هو الربع والثمن لقوله صلى الله عليه وسلم «ألا لا وصية لوارث» «1» وعن علي عليه السلام وابن عمر أن لها النفقة وإن كانت حائلا. وأما السكنى فعند أبي حنيفة وأصحابه لا سكنى لهن وهو قول علي وابن عباس وعائشة، واختاره المزني قياسا على النفقة في مقابلة التمكين ولا تمكين. وأما السكنى فلتحصين الماء وهو موجود، وعند الشافعي لهن ذلك على الأظهر وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود وابن عمر وأم سلمة، ووافقه مالك والثوري وأحمد. وبناء الخلاف على خبر فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي ما أنزلني بمنزل يملكه فقال: نعم. فانصرفت حتى إذا كنت في المسجد أو في الحجرة دعاني فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله. فحمل بعضهم الأمر الثاني على النسخ وآخرون على الاستحباب. وعن مجاهد أنها إن لم تختر السكنى في دار زوجها ولم تأخذ النفقة من مال زوجها كانت عدتها أربعة أشهر وعشرا وإن اختارت السكنى في داره والأخذ من ماله وتركته فعدتها الحول. قال: وإنما نزلنا الآية على هذين التقديرين لتكون كل واحدة منهما معمولا بها. وعن أبي مسلم: إنكم تضيفون الوصية إلى حكم الله تعالى فيلزمكم القول بالنسخ، ونحن نضيف الحكم إلى الزوج حتى يصير معنى الآية: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وقد وصوا وصية لأزواجهم بالنفقة والسكنى حولا. فهذا المجموع شرط وجوابه فإن خرجن- أي قبل ذلك- وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ أي نكاح صحيح، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة. والسبب فيه أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولا، وكانوا يوجبون على المرأة الاعتداد بالحول، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب. ويؤكده ما روت زينب بنت أبي سلمة قالت: سمعت أمي أم سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا مرتين أو   (1) رواه البخاري في كتاب الوصايا باب 6. أبو داود في كتاب الوصايا باب 6. الترمذي في كتاب الوصايا باب 5. النسائي في كتاب الوصايا باب 5. ابن ماجه في كتاب الوصايا باب 6. الدارمي في كتاب الوصايا باب 28. أحمد في مسنده (4/ 186) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 ثلاثا كل ذلك يقول: لا. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول. قال حميد: فقلت لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا أي بيتا صغيرا، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبا حتى يمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر فتقتض به. قال مالك: أي تمسح به جلدها فقلما تقتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد بما شاءت من طيب أو غيره، فلا جناح عليكم يا أولياء الميت فيما فعلن في أنفسهن من التزين والإقدام على النكاح. ومن قطع نفقتهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول ومن ترك منعهن من الخروج لأن مقامها حولا في بيت زوجها ليس بواجب عليها. وإنما قال هاهنا مِنْ مَعْرُوفٍ منكرا لأن المراد بوجه من الوجوه التي لهن أن يأتينه. وأما في الآية السابقة فإنه أراد بالوجه المعروف من الشرع. ويمكن أن يقال: إن تلك الآية متأخرة في النزول عن هذه بإجماع المفسرين فلهذا نكر أولا، ثم عرف لأن النكرة إذا تكررت صارت معرفة قال سبحانه: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل: 16] . الحكم التاسع عشر: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ عم المطلقات بإيجاب المتعة لهن بعد ما أوجبها لواحدة منهن وهي المذكورة في الحكم الخامس عشر. وروي أنها لما نزلت وَمَتِّعُوهُنَّ إلى قوله مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ قال رجل من المسلمين: إن أحسنت فعلت فإن لم أرد ذلك لم أفعل فنزلت هذه الآية أي حقا على من كان متقيا عن الكفر والمعاصي واعلم أن المطلقات قسمان: مطلقة قبل الدخول فلها المتعة إن لم يفرض لها مهر كما مر في الحكم الخامس عشر، وإن فرض لها مهر فلا متعة لها وحسبها نصف المهر لأنه تعالى اقتصر على ذلك ولم يذكر المتعة فهي مستثناة من عموم هذه الآية. ومطلقة بعد الدخول سواء فرض لها أم لم يفرض. واختلفوا في استحقاقها المتعة. فالقديم من قول الشافعي وبه قال أبو حنيفة، لا متعة لها لأنها تستحق المهر كالمطلقة بعد الفرض وقبل الدخول. وفي الجديد لها المتعة وهو قول علي وابنه الحسن وابن عمر لعموم الآية، ولقوله تعالى فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ [الأحزاب: 28] وكان ذلك في حق نساء دخل بهن النبي. وليست كالمطلقة المذكورة لأنها استحقت الصداق لا بمقابلة عوض، وهذه استحقت الصداق في مقابلة استباحة البضع فيجب لها المتعة للإيحاش. وعن سعيد بن جبير وأبي العالية والزهري أنها واجبة لكل مطلقة تمسكا بظاهر عموم الآية. وقيل: المراد بهذا المتعة النفقة في العدة بدليل مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 [سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 245] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) القراآت: فَيُضاعِفَهُ بالألف والنصب: عاصم غير المفضل وسهل «فيضعفه» بالتشديد والنصب: ابن عامر ويعقوب غير روح. فيضعفه بالتشديد والرفع: ابن كثير ويزيد وروح. الباقون فيضاعفه بالألف والرفع وكذلك في سورة الحديد وَيَبْصُطُ بالصاد: ابن كثير وأبو جعفر ونافع غير الخزاعي عن ابن فليح، وابن مجاهد وأبي عون عن قنبل، وسهل وعاصم وابن ذكوان وغير ابن مجاهد والنقاش وشجاع وعلي الحلواني من قالون مخير. الباقون بالسين. الوقوف: الْمَوْتِ ص أَحْياهُمْ ط لا يَشْكُرُونَ هـ عَلِيمٌ هـ كَثِيرَةً ط وَيَبْصُطُ ص تُرْجَعُونَ هـ. التفسير: قد جرت عادته سبحانه أن يذكر بعد بيان الأحكام القصص اعتبارا للسامعين ليحملهم ذلك الاعتبار على ترك التمرد والعناد ومزيد الخضوع والانقياد فقال: أَلَمْ تَرَ وفيه تقرير لمن سمع بقصتهم ووقف على أخبار الأولين وتعجيب من حالهم. ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجب، أو تكون الرؤية بمعنى العلم والمعنى: ألم ينته علمك ولهذا عدي بإلى. وعلى هذا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف هذه القصة إلا بهذه الآية، ويجوز أن يقال: كان العلم بها سابقا على نزول هذه الآية، ثم إنه تعالى أنزل الآية على وفق ذلك. روي أن أهل داوردان- قرية قبل واسط- وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفر من حكم الله وقضائه. ويروى أن حزقيل النبي الذي يقال له: ذو الكفل مر عليهم بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم، فتعجب مما رأى فأوحى إليه: أتريد أن أريك كيف أحيهم؟ فقال: نعم فقيل له: ناد أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي. فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتى تمت العظام. ثم أوحى الله إليه: نادها إن الله يأمرك أن تكتسي لحما فصارت لحما ودما. ثم نادها إن الله يأمرك أن تقومي فقامت. فلما أحياهم كانوا يقولون: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت. ثم رجعوا إلى قومهم بعد حياتهم، وكانت تظهر أمارات الموت في وجوههم إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم. وعن ابن عباس أن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 فخافوا القتال فهربوا وقالوا لملكهم: إن الأرض التي نذهب إليها فيها الوباء، فنحن لا نذهب إليها حتى يزول ذلك الوباء. فأماتهم الله بأسرهم وبقوا ثمانية أيام حتى انتفخوا. وبلغ بني إسرائيل موتهم فخرجوا لدفنهم فعجزوا من كثرتهم فحظروا عليهم الحظائر وأحياهم الله تعالى بعد الثمانية، فبقي فيهم شيء من ذلك النتن وبقي ذلك في أولادهم إلى هذا اليوم وقيل: إن حزقيل النبي ندب قومه إلى الجهاد فكرهوا وجبنوا فأرسل الله تعالى عليهم الموت، فلما كثر فيهم الموت خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، فلما رأى حزقيل ذلك قال: اللهم إله يعقوب وإله موسى ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم تدلهم على نفاذ قدرتك وأنهم لا يخرجون عن قبضتك. فأرسل الله عليهم الموت فلما رآه عليه السلام ضاق قلبه فدعا مرة أخرى فأحياهم الله تعالى. أما قوله سبحانه وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ففيه دليل على الألوف الكثيرة ولكنهم اختلفوا. فقيل: عشرة آلاف، وقيل: ثلاثون، وقيل: سبعون. وعن بعضهم أن الألوف جمع آلف كقعود جمع قاعد أي خرجوا وهم مؤتلفو القلوب، وزيف بأن ورود الموت عليهم وفيهم كثرة يفيد مزيد اعتبار بحالهم بخلافهم لو كانوا نفرا يسيرا. فأما ورود الموت على قوم بينهم ائتلاف ومحبة فكوروده على قوم بينهم اختلاف كثير في أن وجه الاعتبار لا يتغير، وقد يوجه بأن المراد إلفهم بالدنيا ومحبتهم لها فأهلكوا ليعلم أن حرص الإنسان على الحياة لا يعصمه عن الفوت. وحَذَرَ الْمَوْتِ مفعول لأجله. فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا معناه فأماتهم وجيء بهذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد، وأنها خارجة عن العادة ولا أمر ولا قول كما مر في قوله سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم: 35] ويدل عليه قوله ثُمَّ أَحْياهُمْ وإذا صح الإحياء بلا قول فكذا الإماتة. ويحتمل أنه تعالى أمر الرسول بأن يقول لهم موتوا. والظاهر أنهم لم يكونوا رأوا عند الموت من الأهوال والأحوال ما تصير بها معارفهم ضرورية ويمنع من صحة التكليف بعد الإحياء كما في الآخرة. وقال قتادة: إنما أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ تفضل عليهم بأن خرجوا من الدنيا على المعصية فأعادهم إلى الدنيا ومكنهم من التوبة والتلافي، وتفضل على منكري المعاد باقتصاص خبرهم ليستبصروا ويعتبروا، وذلك أن تركب الأجزاء على الشكل المخصوص ممكن وإلا لما وجد أولا، وإذا كان ممكنا في نفسه، وقد أخبر الصادق بوجوده وجب القطع به. وفي القصة تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وأن الموت إذا لم ينفع منه الفرار فأولى أن يكون في سبيل الله، ولهذا أتبعت بقوله وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثم إن كان هذا الأمر خطابا للذين أحياهم على ما قال الضحاك أحياهم ثم أمرهم بأن يذهبوا إلى الجهاد، فلا بد من إضمار تقديره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 وقيل لهم: قاتلوا. وإن كان استئناف خطاب للحاضرين على ما هو اختيار الجمهور من المفسرين فلا إضمار، وفيه ترغيب وإرهاب كيلا ينكص على عقبيه محب للحياة بسبب خوف الموت فإن الحذر لا يغني عن القدر. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يسمع ما يقوله القاعدون والمجاهدون ويعلم ما يضمرونه وهو من وراء الجزاء. ولما أمر المكلفين بالقتال في سبيل الله أردف ذلك بقوله مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي في باب الجهاد، كأنه ندب العاجز عن الجهاد أن ينفق على الفقير القادر على الجهاد، وأمر القادر على الجهاد أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد. و «ذا» في مَنْ ذَا إما زائدة و «من» استفهام في موضع الرفع، و «الذي» مع صلتها خبره أو موصولة و «الذي» بدلها أو اسم إشارة خبر «من» و «الذي» نعت له، أو بدل منه. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون «من» و «ذا» بمنزلة اسم واحد كما كانت «ماذا» لأن «ما» أشد إبهاما من «من» إذا كانت «من» لمن يعقل. وقد بني الكلام على طريقة الاستفهام لأن ذلك أدخل في الترغيب والحث على الفعل من ظاهر الأمر. وقيل: إن هذا الكلام مبتدأ لا تعلق له بما قبله، وإنما ورد مستأنفا في الإنفاق إما على الإطلاق وهو الأليق بعموم لفظ القرض، وإما الواجب منه لأن قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ كالزجر. وهو إنما يليق بالواجب، وأما غير الواجب لأن القرض بالتبرع أشبه وهذا قول الأصم. وقد يروى عن بعض أصحاب ابن مسعود أن المراد من هذا القرض هو قول الرجل «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» . وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من لم يكن عنده ما يتصدق به فليلعن اليهود فإنه له صدقة» ويشبه أن يكون الفقير الذي لا يملك شيئا إذا كان في قلبه أنه إذا قدر أنفق وأعطى، قامت تلك النية مقام الإنفاق. وعن الزجاج أن لفظ القرض حقيقة في كل ما يفعل ليجازى عليه. وأصل القرض القطع ومنه المقراض والانقراض لانقطاع الأثر، ومن أقرض فكأنما قطع له من ماله أو عمله قطعة يجازى عليها. وقيل: إن لفظ القرض في الآية مجاز، فإن القرض إنما يأخذه من يحتاج إليه لفقره وذلك في حق الله محال، ولأن البدل في القرض المعتاد لا يكون إلا بالمثل وهنا يضاعف، ولأن المال الذي يأخذه المستقرض لا يكون ملكا له وهاهنا المال المأخوذ ملك الله. ثم مع حصول هذه الفروق سماه الله تعالى قرضا تنبيها على أن ذلك لا يضيع عند الله. فكما أن القرض يجب أداؤه ولا يجوز الإخلال به فكذا الثواب المستحق على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة. وقوله قَرْضاً حَسَناً يحتمل كونه اسم مصدر وكونه مصدرا بمعنى الإقراض. ومعنى كونه حسنا حلالا خالصا لا يختلط به الحرام ولا يشوبه من ولا أذى ولا يفعله رياء وسمعة، وإنما يفعله خالصا لوجه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 وأَضْعافاً نصب على الحال أو على المفعول الثاني إن ضمن ضاعف معنى صير، ويجوز أن يكون مصدرا لأن الضعف وإن كان اسما إلا أنه قد يقع موقع المصدر كالعطاء فإنه اسم للمعطى، وقد يستعمل بمعنى الإعطاء قال القطامي: أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا؟ وإنما جاز جمع المصدر بحسب اختلاف أنواع الجزاء لاختلاف الإقراض في المقدار والإخلاص وغير ذلك. والضعف المثل، والتضعيف والأضعاف والمضاعفة كلها الزيادة على أصل الشيء حتى يصير مثلين أو أكثر. قيل: الواحد بسبعمائة. وعن السدي أن هذا التضعيف لا يعلم أحدكم هو وما هو، وإنما أبهمه الله تعالى لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر المحدود وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ يقتر على عباده ويوسع فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا يبدلكم الضيقة بالسعة. وأيضا من كتب له الفقر فليس له إلا ذلك سواء أنفق أو لم ينفق، ومن كتب له الغنى فليس له إلا ذلك. فعلى التقديرين يكون إنفاق المال في سبيل الله أولى. وإذا علم المكلف أن القبض والبسط بالله انقطع نظره عن مال الدنيا وبقي اعتماده على الله، فحينئذ يسهل عليه الإنفاق في مرضاة الله. ويحتمل أن يكون المعنى: والله يقبض بعض القلوب حتى لا يقدم على هذه الطاعة، ويبسط بعضها حتى يسهل عليه البذل وصرف المال. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم بحسب ما قدمتم من أعمال الخير والله ولي التوفيق وإليه انتهاء الطريق. [سورة البقرة (2) : الآيات 246 الى 251] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 القراآت: عَسَيْتُمْ بكسر السين حيث كان نافع. الباقون بالفتح. وزاده بالإمالة: حمزة ونصير وابن مجاهد والنقاش عن ابن عباس وذكوان. بصطه بالصاد: أبو نشيط والشموني غير النقاد، وكذلك بباصط [المائدة: 28] ويبصط الرزق [الرعد: 26] ولا تبصطها كل البصط [الإسراء: 29] فما اصطاعوا [الكهف: 97] وما أشبه ذلك مِنِّي إِلَّا بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. الباقون بالسكون. غُرْفَةً بفتح العين: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو. الباقون بالضم هُوَ وَالَّذِينَ بالإدغام روى ابن مهران ومحمد العطار عن أبي شعيب وشجاع وكذلك ما أشبهها فئة ومئة وبابهما غير مهموزتين: يزيد وشموني وحمزة في الوقف دفاع الله وكذلك في سورة الحج: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب. الباقون دَفْعُ اللَّهِ. الوقوف: مِنْ بَعْدِ مُوسى م لأنه لو وصل صار «إذ» ظرفا لقوله «ألم تر» وهو محال فِي سَبِيلِ اللَّهِ ط أَلَّا تُقاتِلُوا ط وَأَبْنائِنا ط تعظيما لابتداء أمر معظم مِنْهُمْ ط بِالظَّالِمِينَ هـ مَلِكاً ط مِنَ الْمالِ ط وَالْجِسْمِ ط مَنْ يَشاءُ ط عَلِيمٌ هـ الْمَلائِكَةُ ط مُؤْمِنِينَ هـ بِالْجُنُودِ لا لأن «قال» جواب لما بِنَهَرٍ ج للابتداء بالشرط مع الفاء فَلَيْسَ مِنِّي ج للابتداء بشرط آخر اتحاد المقصود بِيَدِهِ ج لعطف المختلفين مِنْهُمْ ط تعظيما لابتداء أمر معظم مَعَهُ (لا) لأن «قالوا» جواب لما وَجُنُودِهِ ط مُلاقُوا اللَّهِ (لا) لأن ما بعده مفعول «قال» بِإِذْنِ اللَّهِ ط الصَّابِرِينَ هـ الْكافِرِينَ هـ ط لأن ما قبله دعاء وما بعده خبر ماض يتصل بكلام طويل بعده ولا وقف على «بإذن الله» لاتصال اللفظ واتساق المعنى فإن الهزيمة كانت من قتل داود جالوت مِمَّا يَشاءُ ط الْعالَمِينَ هـ. التفسير: القصة الثانية قصة طالوت، والملأ اسم جماعة من الناس كالقوم والرهط لأنهم يملؤن العيون هيبة، أو لأنهم ملأى بالأحلام والآراء الصائبة وجمعه أملاء. قال: وقال لها الأملاء من كل معشر. وخير أقاويل الرجال سديدها. قال الزجاج: الملأ الرؤساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 سموا بذلك لأنهم ملؤا بما يحتج إليه من كفايات الأمور وتدبيرها من قولهم «ملؤ الرجل ملاءة فهو ملؤ» إذا كان مطيقا له، لأنهم يتمالؤن أي يتظاهرون ويتساندون. والغرض من إيراد هذه القصة عقيب آية القتال، ترغيب المكلفين على الجهاد وأن لا يكونوا كمن أمروا بالقتال فخالفوا وظلموا إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ لم يحصل العلم بذلك النبي وبأولئك الملأ من الخبر المتواتر، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن. لكن المقصود وهو الحث على الجهاد حاصل. منهم من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو يوشع بن نون بن إفرايم بن يوسف لقوله تعالى مِنْ بَعْدِ مُوسى ولكنه لا يلزم منه حصوله من بعده على الاتصال. والأكثرون على أنه أشمويل واسمه بالعربية إسماعيل. وعن السدي هو شمعون سمته أمه بذلك لأنها دعت الله أن يرزقها إياه فسمع دعاءها فسمته شمعون. والسين تصير شينا بالعبرانية وهو من ولد لاوى بن يعقوب. ابْعَثْ لَنا مَلِكاً أنهض للقتال معنا أميرا نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وتنتظم به كلمتنا. وكان قوام بين إسرائيل بملك يجتمعون عليه يجاهد الأعداء ويجري الأحكام، ونبي يطيعه الملك ويقيم أمر دينهم ويأتيهم بالخبر من ربهم نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بالنون والجزم على الجواب وهي القراءة المشهورة. وقرىء بالنون والرفع على أنه حال أي ابعث لنا ملكا مقدرين القتال، أو استئناف كأنه قال لهم. ما تصنعون بالملك؟ فقالوا: نقاتل. وقرىء «يقاتل» بالياء والجزم على الجواب، وبالرفع على أنه صفة ل مَلِكاً وهَلْ عَسَيْتُمْ خبره أَلَّا تُقاتِلُوا والشرط فاصل بينهما، وجواب الشرط محذوف يدل عليه المذكور أي إن كتب عليكم القتال فهل يتوقع منكم الجبن والخور؟ وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ قال المبرد: «ما» نافية أي ليس لنا ترك القتال. والأكثرون على أنه للاستفهام، وأورد عليه أنه خلاف المشهور فإنه لا يقال: مالك أن لا تفعل كذا، وإنما يقال: مالك لا تفعل. فعن الأخفش أن «أن» زائدة أي ما لنا لا نقاتل. ورد بأن الزيادة خلاف الأصل ولا سيما في كلام رب العزة. وعن الفراء أن الكلام محمول على المعنى لأن قولك «ما لك لا تقاتل» معناه ما منعك أن تقاتل، فلما ذهب إلى معنى المنع حسن إدخال «أن» فيه. وعن الكسائي: واستحسنه الفارسي أن التقدير أيّ شيء لنا وأيّ داع أو غرض في ترك القتال فسقطت كلمة «في» على القياس وَقَدْ أُخْرِجْنا أي وحالنا أنا أخرجنا من ديارنا بالسبي والقهر على نواحيها، ومن بلغ منه العدو هذا المبلغ فالظاهر منه الاجتهاد في قمع عدوّه. روي أن قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين. وهاهنا محذوف التقدير: فسأل الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكا وكتب عليهم القتال. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين عبروا النهر وسيأتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 ذكرهم وأنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وعيد لهم ولكل مكلف في الإسلام على القعود عن القتال. وأي وعيد أبلغ من أن وضع الظالمين موضع الضمير العائد إليهم. قوله سبحانه وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً طالوت اسم أعجمي كجالوت وداود، امتنع من الصرف للعلمية والعجمة المعتبرة. وقد يمكن تكلف اشتقاقه من الطول لما يجيء من وصفه بالبسطة في الجسم، وقد يوافق العبراني العربي. ومَلِكاً نصب على الحال، أو التمييز، أو مفعول ثان على أن بعث بمعنى صير. وفي الآية تقرير لتوليهم وتأكيد لذلك، فإن أولى ما تولوا هو إنكارهم أمر النبي المبعوث إليهم بالتماسهم وذلك أنهم قالُوا أَنَّى يَكُونُ كيف ومن أين يصح ويصلح لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ الواو الأولى للحال، والثانية للعطف. فانتظمت الجملتان في سلك الحالية. استبعدوا تملكه من وجهين: الأول: أن النبوة كانت في سبط لاوى بن يعقوب ومنه موسى وهارون، والملك كان في سبط يهوذا ومنه داود وسليمان، وأن طالوت ما كان من أحد هذين السبطين بل كان من ولد بنيامين. الثاني: أنه كان فقيرا ولا بد للملك من مال يعتضد به. فعن وهب أنه كان دباغا. وعن السدي أنه كان مكاريا. وقال الآخرون: كان سقاء فأزيلت شبهتهم بوجوه: الأول: قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ اختاره دونكم واستخلصه من بينكم وأمره عليكم، ولا اعتراض لأحد على حكم الله. وروي أن نبيهم دعا الله حين طلبوا منه ملكا فأتي بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت. الثاني: وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ طعنوا فيه بنقصان الجاه والمال فقابلهما الله تعالى بوصفين العلم والقدرة وأنهما أشد مناسبة لاستحقاق الملك من النسب والمال، لأن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية دونهما وبالعلم والقدرة يتوسل إلى الجاه والمال ولا ينعكس، والعلم والقدرة من الكمالات الحاصلة لحق الإنسان، والمال والجاه أمران منفصلان عن ذات الإنسان وأنهما لا يمكن سلبهما عن ذات الإنسان بخلافهما. وإن العالم بأمر الحروب ذا القوة والبطش يكون الانتفاع به في مصالح البلاد والعباد أتم من النسيب الغني إذا لم يكن له علم يضبط المصالح وقدرة على دفع الأعداء. والظاهر أن المراد بالبسط في العلم هو حذقه فيما طلبوه لأجله من أمر الحرب، ويجوز أن يكون عالما في الديانات وبغيرها. وذلك أن الملك ينبغي أن يكون عالما وإلا كان مزدري غير منتفع به، وأن يكون جسيما يملأ العين مهابة وحشمة. والبسطة السعة والامتداد وطول القامة. روي أنه كان يفوق الناس برأسه ومنكبيه. وقيل: المراد منه الجمال وكان أجمل بني إسرائيل. والأظهر أن يراد بها القوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 لأنها المنتفع بها في دفع الأعداء لا الطول والجمال. الوجه الثالث: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ فالملك له والعبيد له والمالك إذا تصرف في ملك نفسه فلا اعتراض لأحد عليه. الوجه الرابع: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فإذا فوض الملك إليه فإن علم أن الملك لا يتمشى إلا بالمال فتح عليه باب الرزق ويوسع عليه. قوله عز من قائل وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ الآية. اعلم أن ظاهر قوله تعالى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً يدل على أنهم كانوا معترفين بنبوة ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إنه لما قال: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً كان هذا دليلا قاطعا على أنه ملك، لكنه تعالى لكمال رأفته بالمكلفين ضم إلى ذلك الدليل دليلا آخر دل على صدق النبي، وإكثار الدلائل من الله تعالى جائز. ولهذا كثرت معجزات محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزات موسى وعيسى عليهما السلام. ثم إن مجيء التابوت لا بد أن يقع على وجه يكون خارقا للعادة حتى يصح أن يكون معجزة وآية من عند الله دالة على صدق تلك الدعوى. فقيل: إن الله تعالى أنزل على آدم تابوتا فيه صور الأنبياء من أولاده فتوارثوه إلى أن وصل إلى يعقوب، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل فكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم، وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا النصر، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه، فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت قال ذلك النبي: إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره. وكان الكفار الذين سلبوا التابوت قد جعلوه في موضع البول والغائط، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في ذلك الوقت فسلط الله على أولئك الكفار البلاء حتى إن كل من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله بالبواسير، فعلم الكفار أن ذلك لأجل استخفافهم بالتابوت فأخرجوه ووضعوه على ثورين، فأقبل الثوران يسيران ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت. فعلى هذا إتيان التابوت مجاز لأنه أتى به ولم يأت هو بنفسه. وقيل: إنه صندوق من خشب كان موسى يضع التوراة فيه وكانوا يعرفونه، ثم إن الله تعالى رفعه بعد ما قبض موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل. ثم قال نبي ذلك القوم: إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء، فنزل من السماء والملائكة كانوا يحفظونه والقوم ينظرون حتى نزل عند طالوت وهذا قول ابن عباس. وعلى هذا الإتيان حقيقة، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين جميعا لأن من حفظ شيئا في الطريق جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء. أما شكل التابوت فقيل: كان من خشب الشمشار مموها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 بالذهب نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. وقرأ أبي وزيد بن ثابت التابوه بالهاء وهي لغة الأنصار. وأما وزن التابوت فلا يخلو إما أن يكون «فعلوتا» أو «فاعولا» لا سبيل إلى الثاني لقلة باب سلسل وقلق ولأنه تركيب غير معروف فهو «فعلوت» من التوب أي الرجوع لأنه ظرف، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته. والظاهر أن مجيء التابوت كان معجزة لنبي ذلك الزمان، ومع كونه معجزة له كان آية قاطعة في ثبوت ملك طالوت، وقيل: إن طالوت كان نبيا وإتيان التابوت معجزته لأنه كان مقرونا بالتحدي. والجواب أن التحدي كان من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته فِيهِ سَكِينَةٌ هي «فعيلة» من السكون ضد الحركة ومعناه الوقار، ومصدر وقع موقع الاسم كالعزيمة. وأما البقية فبمعنى الباقية. يقال: بقي من الشيء بقية. والمراد بالسكينة والبقية إما أن يكون شيئا حاصلا في التابوت أولا، والثاني قول الأصم وعلى هذا فمعناه أنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة اطمأنت نفوسهم وأقروا له بالملك وانتظم أمر ما بقي من دين موسى وهارون ومن شريعتهما فهذا كقوله صلى الله عليه وسلم «في النفس المؤمنة مائة من الإبل» «1» أي بسببها. وعلى الأول أقوال فعن أبي مسلم: كان في التابوت بشارات من كتب الله المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام بأن الله تعالى ينصر طالوت وجنوده فيزول خوف العدو عنهم. وعن ابن عباس: هي صورة من زبرجد وياقوت لها رأس كرأس الهر، وذنب كذنبه، وجناحان فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه، فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر. وعن علي رضي الله عنه: كان لها وجه كوجه الإنسان، وفيها ريح هفافة أي طيبة. وأما البقية فهي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وقفيز من المنّ الذي أنزل عليهم. قال بعض العلماء: إنما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون لأن ذلك التابوت قد تداولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت. وفي التابوت أشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون فيكون الآل هم الأتباع. قال تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ [غافر: 46] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة: 49] ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود» «2» وأراد به داود   (1) رواه النسائي في كتاب القسامة باب 33. أبو داود في كتاب الديات باب 16. أحمد في مسنده (2/ 178، 182) بلفظ «من قتل خطأ فديته مائة من الإبل» . (2) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب 31. مسلم في كتاب المسافرين حديث 235. الترمذي في كتاب المناقب باب 55. النسائي في كتاب الافتتاح باب 83. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 176. الدارمي في كتاب الصلاة باب 171. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 نفسه إذ لم يكن لأحد من آل داود من الصوت الحسن ما كان لداود إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بدلالة المعجزة على صدق المدعي وهاهنا محذوف والتقدير: فأتاهم التابوت فأذعنوا لطالوت وأجابوا إلى المسير تحت رايته. فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ أصله فصل نفسه ثم كثر حذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي والمعنى: انفصل عن بلده مع الجنود. والجند الأعوان والأنصار وكل صنف من الخلق جند قال صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة» «1» . روي أن طالوت قال لقومه: لا ينبغي أن يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه، ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا متزوج بامرأة لم يبن فيها. ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ. فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا، وكان الوقت قيظا وسلكوا مفازة فسألوا الله أن يجري لهم نهرا. فقال نبيهم: على قول، أو طالوت على الأظهر، وذلك إما بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أو بالوحي إن كان نبيا إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ بما اقترحتموه من النهر. قيل في حكمة هذا ابتلاء: إنه لما كان من عادة بني إسرائيل مخالفة الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات الباهرة، أظهر الله علامة قبل لقاء العدو يتميز بها الصابر على الحرب من غير الصابر، لأن الرجوع قبل لقاء العدو لا يؤثر كتأثيره حال لقاء العدو. عن ابن عباس والسدي أنه نهر فلسطين، وعن قتادة والربيع أنه نهر بين الأردن وفلسطين. ونهر بتحريك الهاء وتسكينها لغتان ومُبْتَلِيكُمْ أي ممتحنكم. ولما كان الابتلاء من الناس إنما يكون بظهور الشيء، وثبت أن الله لا يثيب ولا يعاقب على علمه إنما يظهر ذلك بظهور الأفعال من الناس وذلك لا يحصل إلا بالتكليف، لا جرم سمى التكليف ابتلاء. فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي هو كالزجر أي ليس بمتصل بي ولا بمتحد معي من قولهم «فلان مني» يريد أنه كأنه بعضه لاختلاطهما واتحادهما، أو ليس من أهل ديني وطاعتي ومن حزبي وأشياعي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ ومن لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه. ومنه طعم الشيء لمذاقه. واعلم أن الفقهاء اختلفوا في أن من حلف أن لا يشرب من هذا النهر كيف يحنث؟ فقال أبو حنيفة: لا يحنث إلا إذا كرع في النهر. حتى لو اغترف بالكوز ماء من ذلك النهر وشربه لا يحنث لأن الشرب من الشيء هو أن يكون ابتداء شربك متصلا بذلك الشيء. وقال الباقون: بل إذا اغترف الماء بالكوز من ذلك النهر وشربه يحنث لأن هذا وإن كان مجازا إلا أنه مجاز مشهور، فلما كان من المحتمل في اللفظ الأول أن يكون النهي مقصورا على الشرب من النهر حتى لو أخذه بالكوز وشربه لا   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 2. مسلم في كتاب البر حديث 159. أبو داود في كتاب الأدب باب 16. أحمد في مسنده (2/ 295، 527) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 يكون داخلا تحت النهي. ذكر في اللفظ الثاني ما يزيل هذا الإبهام فقال: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ استثناء من قوله فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ليصح النظم وإنما فصل قوله وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ بين المستثنى والمستثنى منه للعناية. ومعنى الاستثناء الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع. والغرفة بالفتح بمعنى المصدر، وبالضم بمعنى المغروف ملء الكف. عن ابن عباس: كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه، ويحتمل منها. ولعل ذلك من معجزات نبي ذلك الزمان كما يروى عن نبينا صلى الله عليه وسلم من إرواء الخلق العظيم من الماء القليل، ويحتمل أنه كان مأذونا أن يأخذ من الماء ما شاء مرة واحدة بقربة أو جرة بحيث كان المأخوذ في المرة الواحدة يكفيه ولدوابه ولخدمه ولأن يحمله مع نفسه إلا أن قوله بِيَدِهِ لا يجاوب هذا الاحتمال فَشَرِبُوا مِنْهُ كرعوا فيه إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وقرأ أبي والأعمش إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وهذا من باب الميل إلى المعنى والإعراض عن اللفظ جانبا كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا قليل منهم. فبهذا تميز الموافق عن المنافق والصديق عن الزنديق. يروى أن أصحاب طالوت لما هجموا على النهر بعد عطش شديد وقع أكثرهم في النهر وأكثروا الشرب فاسودت شفاههم وغلبهم العطش وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو، وأطاع قوم قليل منهم أمر الله تعالى فلم يزيدوا على الاغتراف فقوي قلبهم وصح أيمانهم وعبروا النهر سالمين. والمشهور أنهم كانوا على عدد أهل بدر لما روي أن النبي قال لأصحابه يوم بدر: أنتم اليوم على عدد أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاز معه إلا مؤمن. قال البراء بن عازب: وكنا يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. وقيل: إنهم كانوا أربعة آلاف. ولا خلاف بين المفسرين أن الذين عصوا الله وشربوا من النهر رجعوا إلى بلدهم ولم يتوجه معه إلى لقاء العدو إلا من أطاعه، وإنما الخلاف في أنهم رجعوا قبل عبور النهر أو بعده، والحق أنه ما عبر معه إلا المطيعون لقوله تعالى فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ولقوله: فَلَيْسَ مِنِّي أي ليس من أصحابي في سفري، ولأن المقصود من الابتلاء أن يتميز المطيع عن العاصي، وإذا تميزا فالظاهر أنه لم يأذن للعاصين، وصرفهم عن نفسه قبل أن يرتدوا عند لقاء العدو، وقيل: إنه استصحب كل جنوده لأنهم قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده. ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالمؤمن المنقاد لأمر ربه، بل لا يصدر إلا عن المنافق أو الفاسق. والجواب لعل طالوت والمؤمنين لما جاوزوا النهر ورأوا القوم تخلفوا وما جاوزوه، سألوهم عن سبب التخلف فذكروا ذلك، وما كان النهر في العظم بحيث يمنع المكالمة، أو المراد بالمجاوزة قرب حصول المجاوزة، أو المؤمنون الذين عبروا النهر كانوا فريقين: منهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 يكره الموت ويغلب الخوف والجزع على طبعه وهم الذين قالوا: لا طاقة لنا، ومنهم من كان شجاعا قوي القلب وهم الذين أجابوا بقولهم كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً أو أنهم لما شاهدوا قلة عسكرهم قال بعضهم: لا طاقة لنا اليوم. فلا بد أن نوطن أنفسنا للقتل. وقال الآخرون: بل نرجو من الله الفتح والظفر. فكأن غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز بالجنة، وغرض الآخرين التحريض على رجاء الفتح والظفر، وكلا الغرضين محمود. والطاقة اسم بمنزلة الإطاقة. يقال: أطقت الشيء إطاقة وطاقة ومثلها أطاع إطاعة والاسم الطاعة وأغار إغارة والاسم الغارة، وأجاب يجيب إجابة والاسم الجابة. وفي المثل «أساء سمعا فأساء جابة» أي جوابا ومعنى قوله يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ يغلب على ظنونهم أنهم لا يتخلصون من الموت. عن قتادة: أو يظنون أنهم ملاقوا ثواب الله بسبب هذه الطاعة، وذلك أن أحدا لا يعلم عاقبة أمره، وعن أبي مسلم: أو تظنون أنهم ملاقو طاعة الله من غير رياء وسمعة وبنية خالصة، أو أنهم عرفوا مما في التابوت من الكتب الإلهية يقين النصر والظفر إلا أن حصول ذلك في المرة الأولى ما كان إلا على سبيل الظن، أو المراد بقوله يَظُنُّونَ يعلمون ويوقنون لما بين اليقين والظن من المشابهة في تأكد الاعتقاد، والفئة الجماعة لأن بعضهم قد فاء إلى بعض فصاروا جماعة، وقال الزجاج: هي من قولهم «فأوت رأسه بالسيف» وفأيت أي قطعت كأن الفئة قطعة من الناس. والمراد تقوية قلوب الذين قالوا: لا طاقة لنا إذ العبرة بالتأييد الإلهي والنصرة الإلهية، فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة والذلة، وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعدة، ومحل «كم» رفع بالابتداء وغَلَبَتْ الجملة خبره، بِإِذْنِ اللَّهِ بتيسيره وتسهيله. وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ بالمعونة والتأييد يحتمل أن يكون من قوله تعالى وأن يكون من قول الذين يظنون. قوله سبحانه وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ الآية البراز الأرض الفضاء ومنه البروز والمبارزة في الحرب كأن كل واحد منهما حصل بحيث يرى صاحبه. واعلم أن العلماء والأقوياء من عسكر طالوت لما قرروا مع ضعفائهم وعوامهم أن الغلبة لا تتعلق بكثرة العدد وأن النصر والظفر بإعانة الله اشتغلوا بالدعاء وقالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وهكذا كان يفعل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما روي في قصة بدر أنه كان يصلي ويستنجز من الله وعده، وكان متى لقي عدوا قال: اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم، اللهم بك أصول وبك أجول. والإفراغ إخلاء الإناء مما فيه، وإنما يخلو بصب كل ما فيه فيفيد المبالغة. أي صب علينا أتم صبر وأبلغه وهذا هو الركن الأعظم في المحاربة، فإنه إن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 جبانا لم يجد بطائل. ثم إن الشجاع مع ذلك يحتاج إلى الآلات والعدد والاتفاقات الحسنة حتى يمكنه أن يقف ويثبت ولا يصير ملجأ إلى الفرار، فاقترحوها بقولهم وَثَبِّتْ أَقْدامَنا ثم إنه مع كل هذه الأشياء يفتقر إلى أن تزيد قوته على قوة عدوه حتى يغلبهم وهو المراد بقولهم وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فلا جرم استجاب الله دعاءهم فَهَزَمُوهُمْ كسروهم بِإِذْنِ اللَّهِ بتوفيقه وإعانته وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ عن ابن عباس أن داود كان راعيا ومعه سبعة إخوة مع طالوت، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم أيشا أرسل ابنه داود- وكان صغيرا- إليهم ليأتيه بخبرهم، فأتاهم وهم في المصاف، وبرز جالوت الجبار وكان من قوم عاد وكانت بيضته فيها ثلاثمائة رطل من الحديد، فلم يخرج إليه أحد فقال: يا بني إسرائيل، لو كنتم على الحق لبارزني بعضكم. فقال داود لإخوته: أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوه. فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت وهو يحرّض الناس فقال له داود: ما تصنعون لمن يقتل هذا؟ فقال طالوت: أنكحه ابنتي وأعطيه نصف مملكتي. فقال داود: فأنا خارج إليه. وكانت عادته أنه يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في المرعى وكان طالوت عارفا جلادته فلما هم داود بأن يخرج إلى جالوت مر بثلاثة أحجار فقلن: يا داود خذنا معك ففينا ميتة جالوت. ثم لما خرج إلى جالوت رماه فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه وقتل بعده ناسا كثيرا. قيل: فحسده طالوت ولم يف له وعده ثم ندم على صنيعه فذهب يطلبه إلى أن قتل. وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها وَالْحِكْمَةَ أي النبوّة لأن الحكمة وضع الأمور موضعها على الوجه الأصوب والنحو الأصلح. وكمال هذا المعنى إنما يحصل بالنبوة، والمشهور من أحوال بني إسرائيل، أن الله تعالى كان يبعث إليهم نبيا وعليهم ملكا كان ذلك الملك ينفذ أمور ذلك النبي، وكان نبي ذلك الزمان أشمويل وملكه طالوت، فلما توفي أشمويل أعطى الله دود النبوّة، ولما توفي طالوت أعطى الله الملك إياه أيضا، ولم يجتمع الملك والنبوّة على أحد من بني إسرائيل قبله. ويروى أن بين قتله جالوت وبين ما أعطاه الله الملك والحكمة سبع سنين. قال بعضهم: هذا الإتيان جبرا له على ما فعل من الطاعة وبذل النفس في سبيل الله، ولا ممتنع في جعل النبوّة جزاء على بعض الطاعات كما قال تعالى: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ [الدخان: 32] وقال: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] ولهذا ذكر بعده حديث الهزيمة والقتل. وترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية لا سيما وقد نطقت الأحجار معه، وقد قهر العدو العظيم المهيب بالآلة الحقيرة. وقال آخرون: إن النبوّة لا يجوز جعلها جزاء على الأعمال ولكنها محض عناية الله تعالى ببعض عبيده كما قال: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 [الحج: 75] فإن قيل: لم قدم الملك على الحكمة مع أنه أدون منها؟ فالجواب أنه تعالى أراد أن يذكر كيفية ترقي داود عليه السلام في معارج السعادات، والتدرج في مثل هذا المقام من الأدون إلى الأشرف هو الترتيب الطبيعي. وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ قيل: هو صنعة الدروع لقوله وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [الأنبياء: 80] وقيل: منطق الطير عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل: 16] وقيل: ما يتعلق بمصالح الملك فإنه ما تعلم ذلك من آبائه فإنهم كانوا رعاة. وقيل: علم الدين والقضاء وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص: 20] ولا يبعد حمل اللفظ على الكل والغرض منه التنبيه على أن العبد لا ينتهي قط إلى حالة يستغني عن التعلم سواء كان نبيا أو لم يكن ولهذا قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ معناه ظاهر وأما من قرأ بالألف فإما أن يكون مصدر الدفع نحو جمح جماحا وكتب كتابا وقام قياما، وإما أن يكون بمعنى أنه سبحانه يكف الظلمة والعصاة عن المؤمنين على أيدي أنبيائه وأئمة دينه، فكان يقع بين أولئك المحقين وأولئك المبطلين مدافعات كقوله إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 20] . واعلم أن الله تعالى ذكر في الآية المدفوع وهو بعض الناس، والمدفوع به وهو البعض الآخر. وأما المدفوع عنه فغير مذكور للعلم به وهو الشرور في الدين كالكفر والفسق والمعاصي، فعلى هذا الدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى ومن يجري مجراهم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والشرور في الدنيا كالهرج والمرج وإثارة الفتن. فالدافعون إما الأنبياء أو الملوك الذابون عن شرائعهم ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «الملك والدين توأمان» «الإسلام أس والسلطان حارس فما لا أس له فهو منهدم وما لا حارس له فهو ضائع» وعلى هذا فمعنى قوله لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أي بطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وغير ذلك من سائر أسباب العمران. وقيل: المراد بالدفع نصر المسلمين على الكفار. ومعنى فساد الأرض عبث الكفار فيها وقتالهم المسلمين. وقيل: المعنى لو لم يدفع الكفار بالمسلمين لعم الكفر ونزل سخط الله، فاستؤصل أهل الأرض وتصديق ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدفع بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين» ثم تلا هذه الآية وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ بسبب ذلك الدفاع. وفيه أن الكل بقضاء الله وقدره وبقهره ولطفه وبعدله وفضله. التأويل: فقوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ أن القوم لما أظهروا خلاف ما أضمروا وزعموا غير ما كتموا، عرض نقد دعواهم على محك معناهم فما أفلحوا عند الامتحان إذ عجزوا عن البرهان، وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، وهذا حال أكثر مدّعي الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 والإيمان والذين يزعمون نصلي ونصوم ونحج ونزكي لله وفي الله باللسان دون صدق الجنان، وسيظهر ما كان لله وما كان للهوى في كفتي الميزان فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تبين الأبطال من البطال ف تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وأن أهل الحق أعز من العنقاء وأعوز من الكيمياء. تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل تعيرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل وإنما لم ينل المدعون مقصودهم لأنه لم تخلص لله قصودهم ولو أنهم قالوا: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وقد أمرنا ربنا وأوجب القتال علينا وأنه سيدنا ومولانا فلعل الله صدق دعواهم وأعطى مناهم وأكرم مثواهم كما قال قوم من السعداء في أثناء البكاء والصعداء وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة: 84] فلا جرم أثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين. إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً فيه إشارة إلى أن الحكم الإلهية حلت وتجلت في جلباب تعاليها عن إدراك العقول البشرية كنه معنى من معانيها، ولهذا. قالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وليس هذا بأعجب من قول المقرّبين المؤيدين بالأنوار القدسية أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] استحقارا لشأن آدم واحتجابا بحجب الأنانية والنحنية، فلما تكبر بنو إسرائيل وقالوا: نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ وضعهم الله وحرموا الملك، ولما تواضع طالوت لله وقال: كيف أستحق الملك وسبطي أدنى أسباط بني إسرائيل وبيتي أدنى بيوت بني إسرائيل، رفعه الله وأعطاه الملك. ولما تفوقت الملائكة وترفعوا بقولهم وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [البقرة: 30] أمرهم بالسجود لآدم، ولما عرضت الخلافة على آدم فتواضع لله وقال: ما للتراب ورب الأرباب أكرمه الله تعالى بسجود الملائكة وحمل أعباء الأمانة إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فيه إشارة إلى أن آية خلافة العبد أن يظفر بتابوت قلب فِيهِ سَكِينَةٌ من ربه وهي الطمأنينة بالإيمان والأنس مع الله أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى هو عصا الذكر كلمة لا إله إلا الله وهي الثعبان الذي إذا فغر فاه تلقف عظيم سحر سحرة صفات فرعون النفس. وإن تابوتهم الذي فيه سكينتهم كان يتداوله أيدي الحدثان، وتابوت قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن، وإن كان في تابوتهم بعض التوراة ففي تابوت قلب المؤمن جميع القرآن، وإن كان في تابوتهم صور الأنبياء ففي تابوت المؤمن رب الأرض والسماء كما قال: «لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن» فإذا حصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 لطالوت الروح الإنساني تابوت القلب الرباني سلم له ملك الخلافة، وانقاد له جميع أسباط صفات الإنسان فلا يركن إلى الدنيا ويتجهز لقتال جالوت النفس الأمارة إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ هو نهر الدنيا وما زين للخلق فيها زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ [آل عمران: 14] ليظهر المحسن من المسيء ويميز الخبيث من الطيب إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ قنع من متاع الدنيا بما لا بد له منه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن وصحبة الخلق على حد الاضطرار، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا» أي ما يمسك رمقهم لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ لأن من شرب من نهر الدنيا ماء شهواتها ولذاتها وتجاوز عن حد الضرورة فيها لا يطيق قتال جالوت النفس وجنود صفاتها وعسكر هواها، لأنه صار معلولا مريض القلب فبقي على شط نهر الدنيا رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها [يونس: 7] وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ فيه إشارة إلى أن المجاهد في الجهاد الأكبر لا يقوم بحوله وقوته لقتال النفس إلا إذا رجع إلى ربه مستعينا به مستغنيا عن غيره قائلا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً على الائتمار بطاعتك والانزجار عن معاصيك ومخالفة الهوى والإعراض عن زينة الدنيا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا على التسليم في الشدة والرخاء ونزول البلاء وهجوم أحكام القضاء في السراء والضراء وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ وهم أعداؤنا في الدين عموما، والنفس الأمارة وصفاتها التي هي أعدى عدونا بين جنبينا خصوصا فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ بنصرته وقوته وَقَتَلَ داوُدُ القلب جالُوتَ النفس إلخ. وأخذ حجر الحرص على الدنيا وحجر الركون إلى العقبى وحجر تعلقه إلى نفسه بالهوى حتى صار الثلاثة حجرا واحدا وهو الالتفات إلى غير المولى، فوضعه في مقلاع التسليم والرضا فرمى به جالوت النفس، فسخر الله له ريح العناية حتى أصاب أنف بيضة هواها، وخالط دماغها فأخرج منه الفضول وخرج من قفاها وقتل من ورائها ثلاثين من صفاتها وأخلاقها ودواعيها، وهزم الله باقي جيشها وهي الشياطين وأحزابها، وآتاه الله ملك الخلافة وحكمه الإلهامات الربانية، وعلمه مما يشاء من حقائق القرآن وإشاراته وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يعني أرباب الطلب بالمشايخ البالغين الواصلين الهادين المهتدين كما قال وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: 7] لفسدت أرض استعداداتهم المخلوقة في أحسن التقويم عن استيلاء جالوت النفس بتبديل أخلاقها وتكدير صفائها وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ فمن كمال فضله ورحمته حرك سلسلة طلب الطالبين وألهم أسرارهم إرادة المشايخ الكاملين، ووفقهم للتمسك بذيول تربيتهم ووقفهم على التشبث بأهداب سيرهم، وثبتهم على الرياضات في حال تزكيتهم كما قال: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ [النور: 21] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 تم الجزء الثاني، وبه يتم المجلد الأول من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري، ويليه الجزء الثالث، وهو بداية المجلد الثاني، وأوله: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 الفهرس مقدمة المصنف 3 تفسير سورة الفاتحة الآيات: 1- 7 60 تفسير سورة البقرة الآيات: 1- 5 128 الآيتان: 6 و 7 149 الآيات: 8- 16 159 الآيات: 17- 20 172 الآيتان: 21 و 22 178 الآيتان: 23 و 24 190 الآية: 25 197 الآيتان: 26 و 27 202 الآيتان: 28 و 29 208 الآية: 30 213 الآيات: 31- 33 221 الآيات: 34- 39 239 الآيات: 40- 46 269 الآيتان: 47 و 48 279 الآيات: 49- 53 281 الآيات: 54- 57 288 الآيتان: 58 و 59 293 الآيتان: 60 و 61 297 الآيات: 62- 66 302 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 الآيات: 67- 74 307 الآيات: 75- 82 316 الآيات: 83- 86 321 الآيات: 87- 91 329 الآيات: 92- 96 335 الآيات: 97- 101 341 الآيتان: 102 و 103 345 الآيات: 104- 108 353 الآيات: 109- 113 362 الآيات: 114- 118 370 الآيات: 119- 123 381 الآيات: 124- 126 383 الآيات: 127- 134 396 الآيات: 135- 141 412 الآيات: 142- 152 417 الآيات: 153- 157 438 الآيات: 158- 162 444 الآيتان: 163 و 164 450 الآيات: 165- 167 460 الآيات: 168- 171 464 الآيات: 172- 176 467 الآية: 177 475 الآيتان: 178 و 179 480 الآيات: 180- 182 487 الآيات: 183- 187 493 الآيتان: 188 و 189 523 الآيات: 190- 195 528 الآية: 196 535 الآيات: 197- 203 549 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 الآيات: 204- 210 574 الآيات: 211- 214 582 الآيات: 215- 218 591 الآيات: 219- 221 600 الآيات: 222- 227 612 الآيات: 228- 232 624 الآيات: 233- 237 639 الآيات: 238- 242 652 الآيات: 243- 245 660 الآيات: 246- 251 664 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 [ المجلد الثاني ] بسم الله الرّحمن الرّحيم الجزء الثالث من أجزاء القرآن الكريم بسم الله الرحمن الرحيم [ تتمة سورة البقرة ] [سورة البقرة (2) : الآيات 252 الى 254] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) القراءات: لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ بالفتح غير منون: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير الباقون: بالرفع والتنوين. وكذلك في سورة إبراهيم: لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ [الآية: 31] وكذلك في سورة الطور: لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الآية: 23] . الوقوف: بالحق ط للابتداء، بأن المرسلين هـ على بعض م لأنه لو وصل صار الجار والمجرور صفة لبعض فينصرف بيان تفضيل الرسل إلى بعض، فيكون موسى عليه السلام من هذا البعض المفضّل عليه غيره لا من البعض المفضّل على غيره بالتكليم. درجات ط للعدول، القدس ط، من كفر ط، ما يريد، ولا شفاعة ط، الظالمون هـ. التفسير: تِلْكَ القصص المذكورة من حديث الألوف وإماتتهم ثم إحيائهم، ومن تمليك طالوت وظهور الآية التي هى إتيان التابوت، وغلبة الجبابرة على يد داود وهو صبي فقير آياتُ اللَّهِ الباهرة الدالة على كمال قدرته وحكمته ورحمته نَتْلُوها عَلَيْكَ بتلاوة جبرائيل وفيه تشريف عظيم لجبرائيل كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] بِالْحَقِّ باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت، ولأن في تلاوتها حكمة شريفة وهي اعتبار المكلفين من أمتك ليحتملوا شدائد الجهاد كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 احتملها الأمم السالفة، ولأنها تدل على نبوّتك من قبل أنها أخبار بالغيب لما فيها من الفصاحة والبلاغة. ثم أكّد ذلك بقوله: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة ودراسة، وفيه أيضا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يراه من الكفار وأهل النفاق من الخلاف والشقاق كما رآه الرسل قبله، فالمصيبة إذا عمت طابت. ولمثل هذا كرر فقال: تِلْكَ الرُّسُلُ أي الذين تعرفهم وأنت من جملتهم فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ فضله الله بأن كمله الله من غير سفير وهو موسى عليه السلام وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ قيل إن دَرَجاتٍ نصب بنزع الخافض، وقيل رفع لبعضهم كقوله: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم: 57] أي له، وقيل حال من بعضهم أي ذا درجات، وقيل مصدر في موضع الحال، وقيل انتصابه على المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة فكأنه قال: ورفعنا بعضهم رفعات. وأيّد عيسى بروح القدس ومع ذلك قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك بعد مشاهدة المعجزات وأنت رسول مثلهم، فلا تحزن على ما ترى من قومك ولو شاء الله لم يختلف أمم أولئك، ولكن ما قضاه الله فهو كائن وما قدره فهو واقع. واعلم أن الأمة أجمعت على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، وعلى أن محمدا أفضل الكل لوجوه منها قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ومنها قوله: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 4] قرن ذكره بذكر محمد صلى الله عليه وسلم في كلمة الشهادة وفي الأذان وفي التشهد، ولم يكن ذلك لسائر الأنبياء ومنها أنه قرن طاعته بطاعته: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] وبيعته ببيعته إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] وعزته بعزته: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ [المنافقون: 8] ورضاه برضاه وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] وأجابته بإجابته يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال: 24] ومحبته بمحبته: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] . ومنها أن معجزاته أكثر وقد ترتقي إلى ألف من جملتها القرآن، بل القرآن يشتمل على ألفي معجزة وأزيد، لأن التحدي وقع بأقصر سورة هي الكوثر وإنها ثلاث آيات، وكل ثلاث آيات من القرآن تصلح للتحدي فيكون معجزا برأسه. ومنها أن معجزته، وهي القرآن، باقية على وجه الدهر ومعجزاتهم قد انقضت وانقرضت مع أن معجزته من جنس ما لا يبقى زمانين وهي الأصوات والحروف ومعجزاتهم من جنس ما يبقى مدة طويلة. ومنها أنه اجتمع فيه من الخصال الجميلة والخلال المرضية ما كان متفرقا فيهم وإليه الإشارة بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] أي أطلعناك على أحوالهم وسيرهم فاختر أنت منها أجودها وأحسنها، فإنه لا يجوز أن يكون مأمورا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 بالاقتداء بهم في أصول الدين لأنه تقليد، ولا في الفروع فإن شرعه ناسخ الشرائع، فإذن المراد محاسن الأخلاق. ومنها أنه بعث إلى الخلق كافة وكان يتحمّل أعباء الرسالة أكثر فيكون ثوابه أزيد. ومنها أن هذا الدين أفضل وإلا لم ينسخ به سائر الأديان فيكون شارعه أفضل، ومنها أن أمّته أفضل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] وإذا كان التابع أفضل فالمتبوع أفضل. ومنها أن أمته أكثر لكونه مبعوثا إلى الجن والإنس، ولا يخفى أن لكثرة التابعين أثرا قويا في علو شأن المتبوع. ومنها أن كل نبيّ نودي في القرآن فقد نودي باسمه. يا آدَمُ اسْكُنْ [البقرة: 35] ، يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ [القصص: 30] ، وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ [الصافات: 14] ، يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران: 55] . وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه نودي بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: 64 وغيرها كثير] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: 41، 67] ، بل أقسم بحياته: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر: 72] . وأما الأحاديث في هذا الباب فعن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذاكرون وهم ينتظرون خروجه. قال: فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم فقال بعضهم لبعض: عجبا إن الله تبارك وتعالى اتخذ من خلقه خليلا واتخذ إبراهيم خليلا. وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى كلّمه تكليما. وقال آخر: ماذا بأعجب من جعل عيسى كلمة الله وروحه. وقال آخر: ماذا بأعجب من آدم اصطفاه الله عليهم وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته. فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وقال: «قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وأن موسى نجيّ الله وهو كذلك، وأن عيسى روح الله وكلمته وهو كذلك، وأن آدم اصطفاه الله وهو كذلك. ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر، وأنا أول شافع وأول شفيع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرّك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر» . وفي الصحيحين عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة وطهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة» «1» وروى البيهقي   (1) رواه البخاري في كتاب التميم باب 1، كتاب الصلاة باب 56. الدارمي في كتاب السير باب 28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 في كتابه في فضائل الصحابة ظهر علي بن أبي طالب من البعيد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا سيد العرب» فقالت عائشة: ألست سيد العرب؟ فقال: «أنا سيد العالمين وهو سيد العرب» . ومما يؤكّد هذه المعاني ما ركز في العقول أن ذخائر كل ملك ينبغي أن تكون على مقدار من تحت تملكه فأمير المدينة يحتاج إلى عدة أكثر من عدة رئيس القرية. ولما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أعمّ من نبوة سائر الأنبياء فإنه مبعوث إلى الثقلين كافة، فلا جرم أعطي من كنوز العلم والحكمة وذخائر المعارف والحقائق، ومن جوامع الكلم وبدائع الحكم ومحاسن العادات ومكارم الأخلاق ما لم يؤت نبي قبله ولن يؤتى أحد بعده. هذا وقد طعن فيه بعض الملحدة بأن معجزات سائر الأنبياء كانت أعظم من معجزاته فآدم جعل مسجود الملائكة، وإبراهيم ألقي في النار فانقلبت روحا وريحانا، وأوتي موسى العصا واليد البيضاء، وداود لان الحديد في يده، وسليمان أعطي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده وكان الجن والإنس والطير مسخرين له، وقد اعترف محمد بفضلهم حتى قال: «لا تفضلوني على يونس بن متى» . وقال: «لا تخيروا بين الأنبياء» «1» . وقال «لا ينبغي لأحد أن يكون خيرا من يحيى بن زكريا» وذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها. والجواب أن كون آدم مسجودا للملائكة لا يوجب كونه أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة» «2» وقوله: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» . ونقل أن جبريل عليه السلام أخذ ركاب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج وهذا أعظم من السجود، وأنه تعالى يصلي بنفسه على محمد إلى يوم القيامة، وسجود الملائكة لآدم ما كان إلا مرّة واحدة على أن ذلك السجود أيضا إنما كان لأجل نور محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان في جبهته، وأن أول الفكر آخر العمل ولهذا قال: «لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك» ومن تأمّل كتب دلائل النبوة وجد في مقابلة كل معجزة كان لنبي قبله معجزة أفضل منها لمحمد صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: «لا تفضلوني .... ولا تخيروا» ، فنوع من التواضع وسلوك طريق الأدب. وأيضا التمييز بين الشخصين إنما يمكن بعد الإحاطة بفضائلهما جميعا وذلك مرتبة لا تليق بكل أحد، فورد النهي عنه حتى لا يؤدي إلى محذور. والحاصل أن التوفيق بين قوله «لا تفضلوني» وبين ما مرّ من الأحاديث أن كلا منهما ورد في مقام آخر ولغرض آخر، فحيث رآهم يزدرون بشأنه ويتعجبون من الأنبياء   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 35. مسلم في كتاب الفضائل حديث 159 بلفظ «لا تفضلوا بين الأنبياء» . (2) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب 1. أحمد في مسنده (1/ 281) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 السالفة منعهم عن ذلك، وقال: «أنا أكرم الأولين والآخرين وأنا سيد العالمين» «1» . وحيث رآهم يزدرون بشأن بعض الأنبياء زجرهم عن ذلك وقال: «لا تفضلوني» على أنه لا يلزم من النهي عن شيء عدم مطابقة ذلك الشيء، للواقع فقد يكون الشيء حقا في الواقع وينهى عن الاشتغال به لكونه غير مهم بالنسبة إلى المكلف، فالمراد بهذا الأمر: لا تشتغلوا بتفضيلي فإنه لا يهمّكم، وإنما المهم لكم أن تعرفوا حقية جميع الأنبياء وتؤمنوا بهم. ولنرجع إلى ما كنا فيه فقوله: مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ التقدير: من كلمه، فحذف العائد وقرىء كلم الله بالنصب وليس بقوي فإن كلّ مصلّ فإنه يكلم الله قال صلى الله عليه وسلم «المصلي يناجي ربه» . وإنما الشرف في أن يكلمه الله قال الأشعري: المسموع هو الكلام القديم الأزلي ولا يستبعد سماع ما ليس بحرف ولا صوت، كما لا يمتنع رؤية ما ليس بمكيف ولا في جهة. وقالت المعتزلة: سماع ما ليس بحرف ولا صوت محال. واتفقوا على أن موسى قد كلمه الله واختلف في أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج هل كلمه الله أم لا منهم من قال نعم بدليل قوله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10] وأورد هاهنا أن التكليم لا يدل على فضل ومنقبة، فقد كلم الله إبليس حيث قال: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [الأعراف: 14، 15] الآيات، وأجيب بأن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى كلّمة من غير واسطة، فلعلّ الواسطة كانت موجودة. قلت: هذا خلاف الظاهر والحق أن المكالمة قسمان: مكالمة الرضا وهي الموجبة للتشريف كمكالمة موسى، ومكالمة الغضب وهي الموجبة للعن كما في حق إبليس: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ [ص: 78] وكما في أهل النار: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] . أما قوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ فقيل: المراد بيان أن الرسل مراتبهم متفاوتة فاتخذ إبراهيم خليلا، وأعطى داود الملك والنبوة، وسخر لسليمان الجن والإنس والطير والريح. وخصّ يحيى بالعفة والطهارة وعدم الحاجة إلى النسوان، وخصّ محمدا صلى الله عليه وسلم بالبعث إلى الثقلين وكونه خاتم النبيين إلى سائر خصائصه. هذا إذا حملنا الدرجات على المناصب والمراتب. أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضا وجه وذلك أن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعا آخر من المعجزة لائقا بزمانه فمعجزات موسى من قلب العصا حية ومن اليد البيضاء وفلق البحر كانت شبيهة بما عليه أهل زمانه من السحر، ومعجزات عيسى   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 3. مسلم في كتاب الإيمان حديث 327. الترمذي في كتاب القيامة باب 10. بلفظ «أنا سيد الناس يوم القيامة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 من إبراء الأكمه والأبرص تناسب للطب لأن كل ذلك غالب على قومه، ومعجزة محمد صلى الله عليه وسلم وهي القرآن تضاهي ما عليه الناس وقتئذ من الفصاحة والبلاغة وإنشاء الخطب وقرض الشعر. وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة، وبالبقاء وعدم البقاء، وبالقوة وعدم القوة. وفيه وجه ثالث وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات يتعلق بالدنيا وهو كثرة الأمة والصحابة وقوة الدولة. وإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم كان مستجمعا للكل فمنصبه أعلى، ومعجزته أقوى وأبقى، وقومه أكثر، ودولته أعظم وأوفر، وقيل: المراد بهذه الآية محمد صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضّل على الكل. وإنما قال: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل عظيما فيقال له: من فعل؟؟؟ هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم، ويريد به نفسه، ويكون ذلك أفخم من التصريح به. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيرا والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه. ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي، لم يبق فيه فخامة. وليس قوله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ تكرارا لقوله فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ لأن المفهوم من قوله فَضَّلْنا هو وجود نفس الفضل. والمفهوم من قوله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ هو التفاوت بالدرجات الكثيرة. وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ قد سبق تفسيره. وإنما عدل عن الغيبة إلى الحكاية لأن الضمير في قوله وَآتَيْنا للتعظيم وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء. وأما قوله كَلَّمَ اللَّهُ فأهيب من قوله كلمنا فلهذا اختير الغيبة. وسبب تخصيص موسى وعيسى بالذكر هو أن أمتهما موجودون حاضرون، فنبّه على أن هذين الرسولين مع علو درجتهما وتبيّن معجزاتهما، لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما بل نازعوا وخالفوا، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا ثم إن الرسل بعد مجيء البينات ووضوح الدلائل اختلف أقوامهم فمنهم من آمن ومنهم من كفر، وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا، فلهذا قال تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ أي أن لا يقتتلوا ما اقتتل الذين من بعدهم لاختلافهم في الدين وتكفير بعضهم بعضا ولكن اختلفوا فمنهم من آمن لالتزامه دين الأنبياء، ومنهم من كفر بإعراضه عنه ولو شاء الله ما اقتتلوا. كرر الكلام تكذيبا لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم، ولكن الله يفعل ما يريد. وفي الآية دلالة على صحة مسألة خلق الأعمال، ومسألة إرادة الكائنات، وأن الكل بقضاء الله وقدره، لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله عز وجل في العبد. والمعتزلة يقيدون المطلق في الآيتين فيقولون المراد ولو شاء الله مشيئة الجاء وقسر كما يقال لو شاء الإمام لم يعبد المجوس النار في مملكته ولم يشرب النصارى الخمر ويقولون المراد يفعل ما يريد من أفعال نفسه. ثم إنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 تعالى لما أمر بالقتال فيما سبق بقوله وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ [البقرة: 190] وأعقبه بقوله مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [الحديد: 11] ، والغرض منه الإنفاق في الجهاد، ثم أكّد الأمر بالقتال وذكر فيه قصة طالوت، أعقبه تارة أخرى الأمر بالإنفاق في الجهاد بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ وعن الحسن أنه مختص بالزكاة لأن قوله مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ كالوعيد وأنه لا يتوجه إلا على الواجب، والأكثرون على أنه عام يتناول الواجب والمندوب. وليس في الآية وعيد وإنما الغرض أن يعلم أن منافع الآخرة لا تكتسب إلا في الدنيا، وأن الإنسان يجيء وحده وما معه إلا ما قدم من أعماله. ومعنى قوله لا بَيْعٌ أنه لا تجارة فيه فيكتسب ما يفتدى به من العذاب، أو يكتسب مالا حتى ينفق منه، وَلا خُلَّةٌ لا مودة، لأن كلّ أحد يكون مشغولا بنفسه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، أو لأن الخوف الشديد غالب على كل أحد يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت. ثم إنه لما نفى الخلة والشفاعة مطلقا ذكر عقيبه قوله الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ليدلّ على أن ذلك النفي مختص بالكافرين وعلى هذا فتصير الآية دالة على ثبوت الشفاعة في حق الفسّاق. نقل عن عطاء بن يسار أنه كان يقول: الحمد لله الذي قال والكافرون هم الظالمون، ولم يقل والظالمون هم الكافرون. وقيل أراد والتاركون الزكاة هم الظالمون، لأنهم تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم، فقال وَالْكافِرُونَ للتغليظ كقوله وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران: 97] أي ومن لم يحج. وقيل المراد. إن الكافرين إذا دخلوا النار فالله لم يظلمهم بذلك، بل هم الذين ظلموا أنفسهم باختيار الكفر والفسق. فهو كقوله وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف: 49] وقيل «الكافرون» هم الذين وضعوا الأمور في غير مواضعها لتوقعهم الشفاعة من الأصنام، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وقيل المعنى والكافرون هم التاركون الإنفاق في سبيل الله من قوله آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الكهف: 33] وأما المسلم فإنه ينفق في سبيل الله قل أم كثر. وفائدة الفصل أنهم الكاملون في الظلم البالغون فيه المبلغ العظيم. التأويل: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ أسراره وأنواره ورموزه وإشاراته نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ نجلوها عليك بالحقيقة كما هي وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الذين عبروا هذه المقامات وشاهدوا تلك الأحوال والكرامات، وصح لهم صفاء الأوقات ولذة المناجاة في الخلوات، ثم فطموا عن ألبان تلك اللذات في حجر القربات، وأرسلوا إلى أهل الغدر والغفلات وعبدة طواغيت الهوى وأصنام الشهوات، ليدعوهم من دار الغرور إلى دار السرور ويخرجونهم من الظلمات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 إلى النور، ولكنهم ما صاحبوك في الجلوات فإنهم بقوا في السموات وأنت عبرت المكونات فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 9، 10] فوصلت من العبدية إلى العندية، ثم فطمت عن رضاع لي مع الله وقت، وابتليت بسفارة جبريل، ثم لقيت من القوم ما لقيت، فحق لك أن تقول: «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت» لأن غيرك ما سقي من شرب ما سقيت فما أوذي بفطام مثل ما أوذيت. تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ إشارة إلى أن التفاضل في الدين والدنيا بين العباد ليس بسعيهم ومناهم وإنما هو بتفضيل الله إياهم، فلكلّ من أهل الفضل أنوار، ولأنوارهم آثار على قدر استعلاء أضواء أنوارهم لا على قدر سعيهم واختيارهم. وهذا التفاوت صادر من تلك الأقسام حين جرت به الأقلام، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رشّ عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل وغوى» . ثم إن الفضل فضلان: عام يمتاز به عن المردودين إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] وخاص يمتاز به عن المقبولين كما ثبت لسيد المرسلين. والتفاوت في الأنوار على قدر التفاوت في الظلمات المخلوقة المستعدة لقبول النور في بدر الخلقة لا في حقيقة النور، فإنه موصوف بالوحدة، ولهذا ورد بلفظ الوحدان في قوله وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [المائدة: 16] . والرفعة في الدرجات في قدر قوة الاستعلاء، كما قال: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة: 11] فالعلم هو الضوء من نور الوحدانية فكلما ازداد العلم ازدادت الدرجة، وعلى قدر غلبات أنوار التوحيد على ظلمات الوجود كانت مراتب الأنبياء بعضها فوق بعض. فقد يبقى بعضهم في مكان من أماكن السموات، كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى آدم ليلة المعراج في السماء الدنيا، ويحيى وعيسى في السماء الثانية، ويوسف في السماء الثالثة، وإدريس في السماء الرابعة، وهارون في السماء الخامسة، وموسى في السماء السادسة، وإبراهيم عليه السلام في السماء السابعة، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم ما بقي في مكان بل رفع به إلى سدرة المنتهى ثم إلى قاب قوسين أو أدنى، لأنه كان فانيا بالكلية عن ظلمة وجوده باقيا بنور شهود ربه، ولهذا سماه الله نورا قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15] : ثم لما أخبر عن فضيلة الخواص بأنها كانت بسبب تفضيله إياهم، أخبر عن اختلاف العوام وافتراقهم أنه كان بمشيئته لا بمشيئتهم فقال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ثم أخبر عن إحراز الفضل أنه في الإنفاق والبذل فخاطب أهل الإيمان أي: إن كان إيمانكم بالبعث والنشور والثواب والعقاب والجنة والنار حقّا فتصدقوا من كل ما رزقناكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 من المال والجاه والقوة والقدرة والعلم والمعرفة وغيرها في مصارفها العامة والخاصة، أنفقوا ملكنا ومالنا في صلاح أنفسكم واغتنموا مساعدة الإمكان في تقديم الإحسان مع الإخوان. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا يشترى فيه ما يباع من الأموال والأنفس في سوق إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التوبة: 111] ولا ينفعه خلة خليل دنيوي، لأن الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] وَلا شَفاعَةٌ لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسهم لأنا أرسلنا الرسل وأنزلنا الكتب وأمرناهم بالإنفاق ووعدناهم الثواب وحذرناهم العقاب وقد أعذر من أنذر. والله المستعان. [سورة البقرة (2) : الآيات 255 الى 257] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) القراآت: تعرف ممّا مرّ. الوقوف: إِلَّا هُوَ ج، لأن قوله: الْحَيُّ الْقَيُّومُ يصلح بدلا عن الضمير وخبر ضمير آخر محذوف الْقَيُّومُ ج لاختلاف الجملتين، وَلا نَوْمٌ ط، وَما فِي الْأَرْضِ ط لابتداء الاستفهام. بِإِذْنِهِ ط لانتهاء الاستفهام. وَما خَلْفَهُمْ ج للفرق بين الأخبار عن علمه الكامل مطلقا وإثبات علم الخلق المقدر لمشيئته مبتدأ بالنفي. بِما شاءَ ج لاختلاف الجملتين. حِفْظُهُما ج الْعَظِيمُ هـ. الْغَيِّ ج، لأن من للشرط مع فاء التعقيب. الْوُثْقى ط قد قيل للاستئناف بالنفي والوجه الوصل على جعل الجملة حالا للعروة أي: استمسك بها غير منفصمة لَها ط. عَلِيمٌ هـ. آمَنُوا لا، لأن يُخْرِجُهُمْ حال والعامل معنى الفعل في وَلِيُّ تقديره: الله يليهم مخرجا لهم أو مخرجين إِلَى النُّورِ ط للفصل بين الفريقين: الطَّاغُوتُ لا، لأن يُخْرِجُونَهُمْ حال. إلى الظلمات ط. النَّارِ ج. خالِدُونَ هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 التفسير: قد جرت عادته سبحانه في هذا الكتاب الكريم أنه يخلط الأنواع الثلاثة، أعني: علم التوحيد وعلم الأحكام وعلم القصص بعضها ببعض. والغرض من ذكر القصص إما تقرير دلائل التوحيد، وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف، وفي هذا النسق أيضا رحمة شاملة ولطف كامل فإن طبع الإنسان جبل على الملال، فكلما انتقل من أسلوب إلى أسلوب انشرح صدره وتجدد نشاطه وتكامل ذوقه ولذته ويصير أقرب إلى فهم معناه والعمل بمقتضاه. وإذ قد تقدّم من علم الأحكام والقصص ما اقتضى المقام إيراده ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد. فقال اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوما، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة» . وعن عليّ رضي الله عنه: «سمعت نبيكم وهو على أعواد المنبر يقول من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره، وجار جاره والأبيات حوله» وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم علي رضي الله عنه: أين أنتم من آية الكرسي؟. ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا علي سيد البشر آدم عليه السلام، وسيد العرب أنت، وسيد العالمين محمد صلى الله عليه وسلم ولا فخر، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي» . وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال: لما كان يوم بدر قاتلت ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ماذا يصنع، فجئت فإذا هو ساجد يقول: «يا حي يا قيوم» لا يزيد على ذلك. ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. فلا أزال أذهب وارجع وأنظر إليه وكان لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له. واعلم أن الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم، وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله تعالى بل هو متعال عن أن يقال هو أشرف من غيره لأن ذلك يقتضي نوع مشاكلة أو مجانسة وهو مقدس عن مجانسة ما سواه ولما كانت الآية مشتملة من نعوت جلاله وأوصاف كبريائه على الأصول والمهمات، فلا جرم وصلت في الشرف إلى أقصى الغايات ونهاية التصورات. ولنشتغل بالتفسير. أما لفظ «الله» فقد مرّ تفسيره في أول الكتاب. وأما قوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فقد سبق تفسيره في قوله وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وأما الْحَيُّ الْقَيُّومُ فقد سلف أيضا معناهما في شرح الأسماء، لا أنا نزيد هاهنا فنقول: عن ابن عباس: إن أعظم أسماء الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 «الحي القيوم» . ويؤكده ما روينا من قصة بدر ولو كان ذكر أشرف منه لذكره وقتئذ في السجود. وأما الدليل العقلي فإن «الحي» قيل هو الذي يصلح أن يعلم ويقدر، أو هو الدراك الفعال، فأورد عليه أن هذا لا يقتضي المدح لمشاركة أخس الحيوانات إياه في ذلك. ونحن نقول إن «الحي» في اللغة ليس عبارة عمن يوجد فيه هذه الصفة من هذه الحيثية فقط، بل كل شيء، يكون كاملا في جنسه فإنه يسمّى حيّا. ومن هاهنا يصحّ أن يقال: أحيا الموات، وأحيا الله الأرض. فإن كمال حال الأرض أن تكون معمورة، وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة نضيرة. ولما كان كمال حال الجسم أن يكون بحيث يصح أن يعلم ويقدر، فلا جرم سميت تلك الصفة حياة. فالمفهوم من «الحي» هو الكامل في جنسه، والكامل في الوجود هو الذي يجب وجوده بذاته، فلا حيّ بالحقيقة إلّا واجب الوجود لذاته. وأما «القيوم» فيطلق لمجموع اعتبارين: أحدهما، أنه لا يفتقر في قوامه إلى غيره. والثاني أنّ غيره يفتقر في قوامه إليه. وبهذا الثاني يزيد على مفهوم «الحي» . ومن هذين الأصلين يتشعّب جميع مسائل التوحيد والمعرفة فمنها أن واجب الوجود واحد في ذاته وبجميع جهات الوحدة، إذ لو فرض فيه تركّب بوجه من الوجوه افتقر في تحققه إلى وجود ذينك الجزأين فيقدح في كونه قيوما ومنها أنه لا شريك له وإلا اشتركا في الوجوب وتباينا بالتعيّن فيكون كلّ منهما مركّبا من جزأين فلا يكون قيوما ولا حيّا، فإن كلّ مركّب مفتقر وكل مفتقر ممكن ومنها أن لا يكون متّحيزا لأن كلّ متّحيز منقسم، وقد ثبت أنه واحد، ومنها أنه ليس في جهة يشار إليها، وإلا كان متحيزا ومنها أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا يصح عليه الحركة والسكون والانتقال والحالية والمحلية وغير ذلك ومنها أنه عالم بجميع المعلومات فإنه لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم، وإذا كان حيّا قيوما كانت حقيقته حاضرة عند ذاته وذاته مقوم لغيره، والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فيكون عالما بما سواه. ومنها أنه قادر على كل المقدورات، وإلا لم يكن قيوما بمعنى كونه مقوما لغيره ويعلم منه استناد كل الممكنات إليه بواسطة أو غير واسطة، ويلزم منه القول بالقضاء والقدر. «والحي» أصله حيي كحذر وطمع، فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما، وكلا الياءين أصل، وقال ابن الأنباري: أصله «حيو» بدليل الحيوان، فلما اجتمعت الواو والياء ثم كان السابق ساكنا، جعلتا ياء مشددة، وزيف بكونه عديم النظير فإنه لم يوجد ما عينه ياء ولامه واو. «والقيوم» مبالغة قائم، وأصله «قيووم» على «فيعول» ، فجعلت الياء الساكنة والواو الأولى ياء مشددة. ولو كان «قوّوما» على «فعول» لقيل «قووم» وعن عمر أنه قرأ «الحي القيام» . وقرىء «القيم» ثم لما بين أنه «حي قيوم» أكد ذلك بقوله لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ولهذا فقد العاطف بينهما وكذا فيما يعقبهما والسنة ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمّى النعاس، أي: لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 يأخذه نعاس، فضلا أن يأخذه نوم أو نقول: نفى الأخص أولا، ثم نفى الأعم ليفيد المبالغة من حيث لزوم نفي النوم أولا ضمنا ثم ثانيا صريحا. ولو اقتصر على نفي الأخص لم يلزم منه نفي الأعم. والمعنى أنه لا يفتر عن تدبير الخلق لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة اختل أمر الطفل، وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل: إنك لو سنان نائم. ومما يدل على أن السهو والغفلة والنوم على الله محال هو أن هذه الأشياء إما أن تكون عبارات عن عدم العلم، أو عن أضداد العلم. وعلى التقديرين فجواز طريانها يوجب جواز زوال علم الله تعالى، فلا يكون العلم مقتضى ذاته فيفتقر إلى فاعل: فواجب الوجود لذاته لا يكون واجبا بجميع صفاته، فلا يكون حيّا ولا قيوما وهذا خلف. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام سأل الملائكة: هل ينام ربنا؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثا ولا يتركوه ينام، ثم أعطاه قارورتين مملؤتين ماء في كل يد واحدة، وأمره بالاحتفاظ. فكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا. وكان ذلك مثلا في بيان أنه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السموات والأرضين. وهذه الرواية، إن صحت، وجب أن ينسب هذا السؤال إلى جهال قوم موسى كطلب الرؤية، وإلا فكيف يجوز على نبيّ الله تجويز النوم على «الحي القيوم» والتجويز شك، والشك في مثله كفر. ثم لما بيّن كونه «قيوما» وأكده بما أكد، رتّب عليه حكما وهو قوله لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لأن كل ما سواه فإنما تقوّمت ماهيته وتحصّل وجوده به، فيكون ملكا له، ويلزم منه أن يكون حكمه جاريا في الكل، ولا يكون لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره، وهو المراد بقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ومعنى الاستفهام هاهنا الإنكار، أي: لا يشفع، وفيه ردّ على المشركين القائلين للأصنام: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ويلزم من كون غيره غير متصرف في ملكه بوجه من الوجوه إلا بأمره كونه عالما بالكل وكون غيره غير عالم بالكل إلا بإعلامه. فأشار إلى الأول بقوله يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، وإلى الثاني بقوله وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ والمعنى: يعلم ما كان قبلهم وما يكون بعدهم والضمير لما في السموات والأرض، لأن فيهم العقلاء فغلبوا، أو لما دل عليه قول مَنْ ذَا من الملائكة والأنبياء والصالحين والشهداء. عن مجاهد وعطاء والسدي أي: يعلم ما كان قبلهم من أمور الدنيا وما كان بعدهم من أمور الآخرة وعن الضحاك والكلبي: «ما بين أيديهم» : الآخرة لأنهم يقدمون عليها، «وما خلفهم» الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم. وعن ابن عباس: «يعلم ما بين أيديهم» من السماء إلى الأرض، «وما خلفهم» يريد ما في السموات وقيل: ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 ذلك. والغرض أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق الثواب والعقاب، لأنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه خافية، والشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند الله ولا يعلمون أن الله تعالى أذن لهم في تلك الشفاعة أم لا، فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه، أي من معلوماته، إلا بما علم كقوله: لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: 32] ويحتمل أن يراد: ولا يعلمون الغيب إلا بإعلامه كقوله: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 26] وإذا كان الشفعاء وهم الملائكة والأنبياء لا يعلمون شيئا إلا بتعليم الله فغيرهم بعدم العلم أولى. ثم إنه لما بين كمال ملكه وحكمه في السموات وفي الأرضين ذكر أن ملكه فيما عدا السموات والأرضين أعظم وأجلّ، وأنّ ذلك مما ينقطع دون الإيماء إلى أدنى درجة من درجاتها أوهام المتوهمين، فقال وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يقال وسع فلان الشيء إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به. قال صلى الله عليه وسلم: «لو كان موسى حيّا ما وسعه إلا اتباعي» أي: لم يحتمل غير ذلك. وأما «الكرسي» فأصله من التركب والتلبد، ومنه الكرس بالكسر للأبوال والأبعار يتلبد بعضها على بعض، والكراسة لتراكب بعض أوراقها على بعض، والكرسي لما يجلس عليه لتركب خشباته. وللمفسرين في معناه هاهنا أقوال: فعن الحسن أنه جسم عظيم يسع السموات والأرض وهو نفس العرش لأن السرير قد يوصف بأنه عرش وبأنه كرسي لأن كل واحد منهما يصح التمكن عليه. وقيل إنه دون العرش وفوق السماء السابعة وقد وردت الأخبار الصحيحة بهذا. وعن السدي أنه تحت الأرض. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: الكرسي موضع القدمين وينبغي أن تحمل هذه الرواية إن صحت على ما لا يفضي إلى التشبيه ككونه موضع قدم الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى. وهاهنا أسرار لا أحبّ إظهارها لو شاء الله أن يطلع عليها عبدا من عبيده فهو أعلم بمحارم أسراره. وقيل: المراد من الكرسي أن السلطان والقدرة والملك له لأن الإلهية لا تحصل إلا بهذه الصفات، والعرب تسمّي أصل كل شيء الكرسي، أو لأنه تسمية للشيء باسم مكانه فإن الملك مكانه الكرسي. وقيل: المراد به العلم لأن موضع العالم هو الكرسي وأيضا العلم هو الأمر المعتمد عليه. ومنه يقال للعلماء: كراسي الأرض كما يقال لهم أوتاد الأرض. وقيل: المقصود من الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه ولا كرسي ثم ولا قعود ولا قاعد. واختاره جمع من المحققين كالقفال والزمخشري وتقريره: أنه يخاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوا في ملوكهم فمن ذلك أنه جعل الكعبة بيتا له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم، وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم. وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه، ثم جعله مقبل الناس كما تقبّل أيدي الملوك. وكذلك ما ذكر في القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء ووضع الموازين. وعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشا فقال: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] ووصف عرشه فقال: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود: 71] ثم قال وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر: 75] ثم قال وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقة: 17] ثم أثبت لنفسه كرسيا. ولما توافقنا أن المراد من الألفاظ الموهمة للتشبيه في الكعبة والطواف والحجر هو تعريف عظمة الله وكبريائه فكذا الألفاظ الواردة في العرش والكرسي وَلا يَؤُدُهُ لا يثقله ولا يشق عليه حِفْظُهُما حفظ السموات والأرض وفيه أن نفاذ حكمه وأمره في الكل على نعت واحد وصورة واحدة، علوية كانت الأجسام أو سفلية كبيرة أو صغيرة. ثم بيّن أنه مع كونه مقوّما للممكنات مقيما للأرضين والسموات متعال عن المتحيزات ومقدس عن الزمنيات فقال: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ والمراد منهما علو الرتبة وعظمة الشرف لا الحيز والجهة. وكيف لا وهو مقيم للمكان ومديم للزمان. وقوله سبحانه: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ الآية: لما بيّن دلائل التوحيد بيانا شافيا قاطعا للأعذار ذكر بعد ذلك. أنه لم يبق للكافر علة في إقامته على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه وذلك لا يجوز في دار الدنيا التي هي مقام الابتلاء والاختبار، وينافيه الإكراه والإجبار. ومما يؤكد ذلك قوله: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ يقال بان الشيء واستبان وتبيّن وبيّن أيضا إذا وضح وظهر ومنه المثل: قد تبين الصبح لذي عينين. والرشد إصابة الخير، والغي نقيضه. أي: تميز الحق من الباطل، والإيمان من الكفر، والهدى من الضلال، بكثرة الحجج والبينات ووفور الدلائل والآيات. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ قال النحويون: وزنه «فعلوت» نحو جبروت وأصله من «طغى» ، إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين ثم صيرت ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها. وذكر الفارسي أنه مصدر كالرغبوت والرهبوت، والدليل على ذلك أنه يفرد في موضع الجمع كما يقال: هم رضا وعدل. ولهذا قال تعالى: أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة: 257] والأصل فيه التذكير. قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [النساء: 60] فأما قوله تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الزمر: 17] فالتأنيث لإرادة الآلهة. وأما معنى «الطاغوت» فعن عمر ومجاهد وقتادة: هو الشيطان. وعن سعيد بن جبير: الكاهن. وقال أبو العالية: الساحر. وعن بعضهم: الأصنام. وقيل: مردة الجن والإنس وكل ما يطغى، وإنما جعلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 هذه الأشياء أسبابا للطغيان لحصول الطغيان عند الاتصال بها كقوله رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: 36] ويعلم من قوله فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ثم من قوله: وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ، أن الكافر لا بد أن يتوب أوّلا، ثم يؤمن بعد ذلك، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى استمسك وتمسك بمعنى، والعروة واحدة عرى: الدلو والكوز ونحوهما مما يتعلق به. والوثقى تأنيث الأوثق، وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول، لأن الإسلام أقوى ما يتشبث به للنجاة فمثل المعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس وهو الحبل الوثيق المحكم حتى يتصور السامع كأنه ينظر إليه بعينه فتزول شبهته بالكلية. والفصم كسر الشيء من غير أن يبيّن فصمته فانفصم. والمقصود من قوله لَا انْفِصامَ لَها هو المبالغة لأنه إذا لم يكن لها انفصام، فأن لا يكون لها انقطاع أولى قيل إن الموصول هاهنا محذوف أي التي لا انفصام لها كقوله وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] أي من له. وقيل: معنى قوله لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ لا تكرهوا في الدين على أنه إخبار في معنى النهي والإكراه إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه. ثم قال بعضهم: إنه منسوخ بقوله جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التحريم: 9] وقال بعضهم: هو في أهل الكتاب خاصة، لأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم وحكم المجوس حكمهم. وأما الكفار الذين تهوّدوا أو تنصروا فقيل إنهم لا يقرّون على ذلك ويكرهون على الإسلام. وقيل يقرّون على ما انتقلوا إليه ولا يكرهون. روي أنه كان لأنصاريّ من بني سالم بن عوق ابنان فتنصّرا قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما. فأبيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر فنزلت فخلاهما. وقيل معنى قوله لا إِكْراهَ أي: لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب أنه دخل مكرها لأنه إذا رضي بعد الحرب وصحّ إسلامه فليس بمكره، ومعناه لا تنسبوه إلى الإكراه فيكون كقوله وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النساء: 94] . وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يسمع قول من يتكلم بالشهادة وقول من يتكلم بالكفر، يعلم ما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطيب وما في قلب الكافر من العقد الخبيث. وعن عطاء عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة وكان يسأل الله ذلك سرا وعلانية فقيل له: والله سميع لدعائك يا محمد عليم بحرصك واجتهادك. قوله سبحانه: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أي متولي أمورهم وكافل مصالحهم. «فعيل» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 بمعنى «فاعل» والتركيب يدل على القرب، فالمحب ولي لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة، ومنه الوالي لأنه يلي القوم بالتدبير، وفيه دليل على أن ألطاف الله تعالى في حق المؤمنين وفيما يتعلق بالدين أكثر من ألطافه في حق الكافر، وذلك أنه يخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان ومن الضلال إلى الهدى ومن الشك إلى اليقين. والإخراج يشمل الكافر إذا آمن والمؤمن الأصلي، ولا يبعد أن يقال يخرجهم إلى النور من الظلمات، وإن لم يكونوا في الظلمة البتة فإن العبد لو خلا عن توفيق الله تعالى لحظة لوقع في ظلمات الجهالات والضلالات فصار توفيقه تعالى سببا لدفع تلك الظلمات عنه، وبين الدفع والرفع تشابه، ومثله قوله: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمران: 103] ومعلوم أنهم ما كانوا قط في النار. ويروى أنه صلى الله عليه وسلم سمع إنسانا قال: أشهد أن لا إله إلا الله فقال: «على الفطرة» فلما قال: أشهد أن محمدا رسول الله قال: «خرج من النار» ومن المعلوم أنه ما كان فيها. قال الواحدي: كل ما في القرآن من الظلمات والنور فإنه تعالى أراد بهما الكفر والإيمان إلا قوله في أول الأنعام وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] فإنه عنى به الليل والنهار. قال: وإنما جعل الكفر ظلمة لأنه كالظلمة في المنع من الإدراك، وجعل الإيمان نورا لأنه كالسبب في حصول الإدراك. قلت: قد مر أن الإيمان والعلم وجميع الكمالات النفسانية والمعارف اليقينية أنوار تزداد النفس بها نورية وإشراقا فلا حاجة إلى هذا التكلف. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ مصدر، ولهذا وحد في موضع الجمع يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ وإنما وحد النور وجمع الظلمة لأن الحق وما يرجع إليه طريقه واحد وهو أيضا في نفسه واحد، وأما الباطل فلا حصر له ولا لطرقه. كما أن الخط المستقيم الواصل بين النقطتين واحد، والمنحنية غير محدود. وإسناد الإضلال إلى الطاغوت، وهو كل من ينسب إلى الطغيان، كالمجاز فإن الحوادث بأسرها تستند إلى المبدأ الأول بالحقيقة وتنتهي إلى قضائه وقدره كما سبق تحقيقه مرارا. أُولئِكَ الكفار أو هم مع من يطيعهم من الوسائط والوسائل أَصْحابُ النَّارِ فيكون زجرا للكل ووعيدا لهم أعاذنا الله من ذلك. التأويل: الْحَيُّ الْقَيُّومُ: أشير بهما إلى الاسم الأعظم لأن اسمه «الحي» مشتمل على جميع أسمائه وصفاته. فإن من لوازم الحي أن يكون قادرا عالما سميعا بصيرا متكلما مريدا باقيا إلى غير ذلك من نعوت الكمال. واسمه «القيوم» دالّ على افتقار كل المخلوقات إليه فإذا تجلى الله للعبد بهاتين الصفتين، انكشف للعبد عند تجلي صفته «الحي» معاني جميع أسمائه وصفاته وعند تجلي صفته «القيوم» فناء جميع المخلوقات، إذ كان قيامها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 بقيومية الحق لا بأنفسهم، فلما جاء الحق وزهق الباطل فلا يرى في الوجود إلا «الحي القيوم» إذ سلب «الحي» جميع أسماء الله وسلب «القيوم» قيام الممكنات، ففني التعدد وبقيت الوحدة. فيذكره عند شهود عظمة الوحدانية بلسان عيان الفردانية لا بلسان بيان الإنسانية، فقد ذكره باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى لأنه حينئذ ينطق بالله فيكون الحال كما جرى على لسانه. فأما الذاكر عند غيبته عن عظمة الوحدانية فبكل اسم دعاه لا يكون الاسم الأعظم بالنسبة إلى حال غيبته، وعند شهود العظمة فبكل اسم دعاه يكون الاسم الأعظم. كما سئل أبو يزيد عن الاسم الأعظم فقال: الاسم الأعظم ليس له حد محدود ولكن فرغ قلبك لوحدانيته فإذا كنت كذلك فاذكره بأي اسم شئت. لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، لأن النوم أخو الموت والموت ضد الحياة، وهو الحي الحقيقي فلا يلحقه ضد الحياة. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ هذا الاستثناء راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قيل: من ذا الذي يشفع عنده يوم القيامة إلا عبده محمد صلى الله عليه وسلم فإنه مأذون في الشفاعة موعود بها وعَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] . ويَعْلَمُ محمد صلى الله عليه وسلم ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أوليات الأمور قبل خلق الخلائق، كقوله صلى الله عليه وسلم «أول ما خلق الله نوري، أول ما خلق الله العقل أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام» وَما خَلْفَهُمْ من أحوال القيامة وفزع الخلق وغضب الرب وطلب الشفاعة من الأنبياء وقولهم نفسي نفسي ورجوعهم إليه بالاضطرار، وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ وإنما هو شاهد على أحوالهم وسيرهم ومعاملاتهم وقصصهم وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ [هود: 120] ويعلم أمور آخرتهم وأحوال أهل الجنة والنار، وهم لا يعلمون شيئا من ذلك إِلَّا بِما شاءَ أن يخبرهم عنه وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: مثال العرش في عالم الإنسان قلبه ومثال الكرسي: سره. وسوف يجيء تمام التحقيق إن شاء الله تعالى في قوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 9] وإن العرش مع عظمته كحلقة ملقاة بين السماء والأرض بالنسبة إلى سعة قلب المؤمن. وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما لا يثقل الروح الإنساني حفظ أسرار السموات والأرض، وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31] ولما أظهر لمخلوقاته من العرش والكرسي ولقلب المؤمن وسره علوا في المرتبة وعظمة في الخلقة إظهارا لكمال القدرة والحكمة، تردّى برداء الكبرياء واتّزر بإزار العظمة والبهاء وهو أولى بالمدح والثناء فقال: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ فمن علا في الآخرة والأولى فبإعلائه، ومن عظم فبتعظيمه. ثم أخبر عن عزة الدين لأرباب اليقين بقوله لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ كما قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الدين بالتمني» مع أن التمني نوع من الاختيار فكيف يحصل بالإكراه هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 الإجبار، فإن الدين هو الاستسلام لأوامر الشرع ظاهرا والتسليم لأحكام الحقّ باطنا من غير حرج وضيق عطن. ثم شرع في مزيد شرح لحقيقة الدين بقوله فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ يتبرأ منه فطاغوت العوام الأصنام، وطاغوت الخواص هو النفس، وطاغوت خواص الخواص ما سوى الله. وإيمان العوام إقرار باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان، وإيمان الخواص عزوب النفس عن الدنيا وسلوك طريق العقبى. وشهود القلب مع المولى. وإيمان خواص الخواص ملازمة الظاهر والباطن في طاعة الله، وإنابة القلب إلى الفناء في الله، وإخلاء السر للبقاء بالله، وهذا هو السكر الموجب للشكر. ولهذا قال موسى بعد إفاقته عن سكر سطوات شراب التجلي تُبْتُ إِلَيْكَ [الأحقاف: 15] أي عن هذه الإفاقة، فكان مخصوصا عن عالمي زمانه بالإيمان العياني وشريكا مع القوم بالإيمان البياني كما البياني كما قيل: لي سكرتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي ثم العروة الوثقى التي استمسك بها المؤمن لا يمكن أن تكون من المحدثات المخلوقات لقوله كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] ولا تكون أيضا من بطشك وإلا كانت منفصمة، بل تكون من بطشه إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] ولكل مؤمن عروة مناسبة لمقامه في الإيمان فهي للعوام توفيق الطاعة، وللخواص مزيد العناية بالمحبة يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] ولخواص الخواص الجذبة الإلهية التي تفنيه عن ظلمات الغيرية وتبقيه بنور الربوبية ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين» وأعمالهما فانية من عالم الحدوث، وجذبة الحق باقية من عالم القدم لا يجوز عليها الانفصام، فالمجذوب لا يخلص منها أبد الآبدين. ثم أخبر عن تصرفات جذباته فقال: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يخرج العوام من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان والهداية، والخواص من ظلمات الصفات النفسانية والجسمانية إلى نور الروحانية والربانية، وخواص الخواص من ظلمات الحدوث والفناء إلى نور الشهود والبقاء. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ: ذكر الطاغوت بلفظ الوحدان، والأولياء بلفظ الجمع، ليعلم أن الولاء والمحبة من قبل الكفار أي هم أولياء الطاغوت كقوله أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة: 165] فإن الطاغوت لو فسر بالأصنام فهي بمعزل عن الولاية وإن فسر بالشيطان أو النفس فهم الأعداء لا الأولياء يخرجونهم من نور الروحانية وصفاء الفطرة إلى ظلمات الصفات البهيمية والسبعية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 والشيطانية، ظلمات بعضها فوق بعض، دركات بعضها تحت بعض أُولئِكَ أي أرواح الكفار مع النفس والشيطان والأصنام أصحاب النار، لأن الأرواح، وإن لم تكن من جنسهم ولكن من تشبه بقوم فهو منهم. والله المستعان. [سورة البقرة (2) : الآيات 258 الى 260] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) القراآت: رَبِّيَ الَّذِي مرسلة الياء: حمزة. الباقون بالفتح. أَنَا أُحْيِي بالمد: أبو جعفر ونافع، وكذلك ما أشبهها من المفتوحة والمضمومة، وزاد أبو نشيط بالمد في المكسورة في قوله تعالى إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ [الأعراف: 188] وأشباه ذلك مِائَةَ وبابه مثل «فئة» وقد مر. لَبِثَ وبابه بالأظهار: ابن كثير ونافع وخلف وسهل ويعقوب لَمْ يَتَسَنَّهْ في الوصل والوقف بالهاء: حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب، لأن الهاء للسكت وهاء السكت تزاد للوقف. الباقون: بالهاء الساكنة في الحالين، والهاء إما أصلية مجزومة بلم، أو هاء سكت. وأجروا الوصل مجرى الوقف. إِلى حِمارِكَ كمثل الحمار بالإمالة: عليّ غير ليث وأبي حمدون، وحمدويه والنجاري عن ورش، وابن ذكوان وأبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو بن شنبوذ عن أهل مكة. ننشرها بالراء: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وأبو جعفر ونافع. الباقون بالزاي. قالَ أَعْلَمُ موصولا والابتداء بكسر الهمزة على الأمر: حمزة وعلي. الباقون: مقطوعا والميم مضمومه على الإخبار. فَصُرْهُنَّ بكسر الصاد: يزيد وحمزة وخلف ورويس والمفضّل، جُزْءاً بتشديد الزاي: يزيد ووجهه أنه خفف بطرح همزته ثم شدد كما يشدد في الوقف إجراء للوصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 مجرى الوقف. وقرأ أبو بكر وحماد «جزءا» مثقلا مهموزا. الباقون: ساكنة الزاي مهموزة. الوقوف: الْمُلْكَ م لأن إذ ليس بظرف لإيتاء الملك. وَيُمِيتُ (لا) لأن قالَ عامل، إذ وَأُمِيتُ ط، كَفَرَ ط، الظَّالِمِينَ لا، للعطف بأو التعجب. عُرُوشِها ج لأن ما بعده من تتمة كلام قبله من غير عطف. مَوْتِها ج لتمام المقول مع العطف بفاء الجواب والجزاء بَعَثَهُ ط. كَمْ لَبِثْتَ ط. يَوْمٍ ط. لَمْ يَتَسَنَّهْ ج وإن اتفقت الجملتان لوقوع الحال المعترض بينهما، ومن وصل حسن له الوقف على حِمارِكَ بإضمار ما يعطف عليه قوله وَلِنَجْعَلَكَ أي لتستيقن ولنجعلك، ومن جعل الواو مقحمة لم يقف. لَحْماً ط لتمام البيان لَهُ (لا) لأن قالَ جواب لما. قَدِيرٌ هـ الْمَوْتى ط تُؤْمِنْ ط. قَلْبِي ط. سَعْياً ط، لاعتراض جواب الأمر حَكِيمٌ. التفسير: إنه سبحانه ذكر هاهنا قصصا ثلاثا أولاها في إثبات العلم بالصانع والباقيتان في إثبات البعث والنشور. فالقصة الأولى مناظرة إبراهيم ملك زمانه، عن مجاهد أنه نمرود بن كنعان وهو أول من تجبر وادّعى الربوبية والمحاجة المغالبة بالحجة. والضمير في «ربه» لإبراهيم، ويحتمل أن يكون ل «نمرود» ، والهاء في «أن آتاه» قيل لإبراهيم لأنه أقرب في الذكر، ولأنه لا يجوز أن يؤتى الكافر الملك والتسليط، ولأنه يناسب قوله فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء: 54] . وقال جمهور المفسرين: الضمير لذلك الشخص الذي حاج إبراهيم، ولا يبعد أن يعطي الله الكافر بسطة وسعة في الدنيا. ومعنى أن آتاه لله أي لأن أتاه الله الملك فأبطره وأورثه الكبر والعتو أو جعل محاجته في ربه شكرا له كقولك «عاداني فلان لأني أحسنت إليه» تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان، ويجوز أن يكون المعنى: حاج وقت أن آتاه. وعن مقاتل أن هذه المحاجة كانت حين ما كسر إبراهيم الأصنام وسجنه نمرود ثم أخرجه من السجن ليحرقه فقال: من ربك الذي تدعو إليه؟ فقال: ربي الذي يحيي ويميت. وهذا دليل في غاية الصحة لأن الخلق عاجزون عن الإحياء والإماتة فلا بد أن يستند إلى مؤثر قادر مختار خبير بأجزاء الحيوان وأشكاله، بصير بأعضائه وأحواله، ولأمر ما ذكره الله تعالى في مواضع من كتابه فقال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] وهُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ [غافر: 67] أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [المرسلات: 20] ويروى أن الكافر دعا حينئذ شخصين فاستبقى أحدهما وقتل الآخر وقال: أنا أيضا أحيي وأميت. ثم للناس في هذا المقام طريقان: الأول وعليه أكثر المفسرين أن إبراهيم عليه السلام لما رأى من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 نمرود أنه ألقى تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر ومثال آخر أوضح من الأول فقال فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ قالوا: وفي هذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة. وأورد عليه أن الشبهة إذا وقعت في الأسماع وجب على المحق القادر على ذكر الجواب أن يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك الجهل واللبس. ولما طعن الملك الكافر في الدليل الأول أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالة ذلك واجبا مضيقا فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب مع أن فيه إيهام أن كلامه الأول كان ضعيفا؟ ولئن سلمنا أن الانتقال من دليل إلى دليل حسن لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح. لكن الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس، فإن جنس الحياة لا قدرة للخلق عليه، وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه. وأيضا دلالة الإحياء والإماتة على الحاجة إلى المؤثر القادر لكونهما من المتبدلات أقوى من دلالة طلوع الشمس لكون حركة الأفلاك على نهج واحد. وأيضا إن نمرود لما لم يستحي من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله بالقتل والتخلية، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول بل طلوع الشمس من المشرق مني، فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب. وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك وقالوا: إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن يطلع الشمس من مغربها، ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام طلوع الشمس من المغرب، فما الذي حمل إبراهيم على ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك، والتزم الانقطاع، واعترف بالحاجة إلى الانتقال، وتمسك بدليل لا يمكن تمشيته إلا بالتزام اطلاع الشمس من المغرب؟ ولما كانت هذه الاعتراضات واردة على الطريق الأول عدل بعض المحققين إلى طريق آخر وقالوا: إن إبراهيم عليه السلام لما احتج بالإحياء والإماتة قال المنكر: أتدعي الإحياء والإماتة من الله ابتداء أم بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية؟ أما الأول فلا سبيل إليه، وأما الثاني فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر. فإن الجماع يفضي إلى الولد بتوسط الأسباب، وتناول السم يفضي إلى الموت، فأجاب إبراهيم عليه السلام بناء على معتقدهم، وكانوا أصحاب تنجيم- بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك، لكن الحركات والاتصالات لا بد لها من فاعل ومدبر، وليس ذلك هو البشر فإنه لا قدرة لهم على الفلكيات، فهي إذن بتحريك رب الأرض والسموات. قلت: وفيه أيضا طريق آخر نذكره في التأويلات إن شاء الله تعالى. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ يقال: بهت الرجل بالكسر إذا دهش وتحير، وبهت بالضم مثله. وقد قرىء بهما وأفصح منهما القراءة المشهورة فبهت على البناء للمفعول لأنه يقال: رجل مبهوت ولا يقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 باهت ولا بهيت قاله الكسائي. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فلهذا لم ينفعه الدليل وإن بلغ في الظهور إلى حيث صار المبطل مبهوتا محجوجا، فيعلم منه أن الكل بقضاء الله وقدره وبمشيئته وإرادته. القصة الثانية قوله سبحانه أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ ذهب الكسائي والفراء والفارسي وأكثر النحويين إلى أنه معطوف على المعنى، والتقدير: أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر، ونظيره من القرآن قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون: 84، 85] ثم قال قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون: 186، 187] فهذا عطف على المعنى كأنه قيل: لمن السموات؟ فقيل: لله. ومثله قول الشاعر: فلسنا بالجبال ولا الحديدا وعن الأخفش: أن الكاف زائدة والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم، أو إلى الذي مر. وعن المبرد: أنا نضمر الفعل في الثاني والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج إلى إبراهيم أو ألم تر إلى مثل الذي مر. واختلف في المار بالقرية فعن مجاهد وعليه أكثر المفسرين من المعتزلة أن المار كان رجلا كافرا. شاكا في البعث لأن قوله أَنَّى يُحْيِي استبعاد وإنه لا يليق بالمؤمن، ولأنه تعالى قال في حقه فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وفيه دليل على أن ذلك التبين لم يكن حاصلا قبل ذلك. وكذا قوله أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وذهب سائر المفسرين إلى أنه كان مسلما ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي: هو عزير، وقال عطاء عن ابن عباس هو أرميا. ثم من هؤلاء من قال: إن أرميا هو الخضر عليه السلام وهو رجل من سبط هارون بن عمران وهذا قول محمد بن إسحق. وقال وهب بن منبه: إن أرميا هو النبي الذي بعثه الله عند ما خرب بختنصر بيت المقدس وأحرق التوراة. وقيل: هو عزير على ما يجيء. حجة هؤلاء أن قوله أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها يدل على أنه كان عالما بالله، وبأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة، والاستبعاد إنما هو في القرية المخصوصة. وأيضا قد شرفه الله تعالى بالتكلم في قوله قالَ كَمْ لَبِثْتَ وفي قوله وَانْظُرْ وَلِنَجْعَلَكَ وفي نفس قصته من الإعادة وغيرها إكرام له أيضا. روي عن ابن عباس أن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير- ومنهم عزير وكان من علمائهم- فجاء بهم إلى بابل. فدخل عزير تلك القرية ونزل تحت ظل شجرة وربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحدا، فعجب من ذلك وقال أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها أي من أين يتوقع عمارتها؟ لا على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 سبيل الشك في القدرة، بل بسبب اطراد العادة في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معمورا. وكانت الأشجار مثمرة فتناول منها التين والعنب وشرب من عصير العنب، ونام فأماته الله في منامه مائة عام وهو شاب، ثم أعمى عنه في موته أبصار الإنس والطير والسباع، ثم أحياه بعد المائة ونودي من السماء يا عزير كَمْ لَبِثْتَ؟ قالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. قالَ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ من التين والعنب وَشَرابِكَ من العصير لم يتغير. فنظر فإذا التين والعنب كما شاهد. ثم قال وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ فنظر فإذا عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله. فسمع صوتا: أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحا فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض ثم التصق كل عضو بما يليق به، الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه، ثم جاء الرأس إلى مكانه، ثم العصب، ثم العروق، ثم انبسط اللحم عليه، ثم انبسط الجلد عليه، ثم خرجت الشعور من الجلد، ثم نفخ فيه الروح، فإذا هو قائم ينهق، فخر عزير ساجدا فقال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم: حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرحيا مات ببابل، وقد كان بختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفا من قراء التوراة وكان فيهم عزير. والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفا. وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورضت بما أملاه فما اختلفا في حرف، فعند ذلك قالوا: عزير ابن الله. وعن وهب وقتادة وعكرمة والربيع أن القرية إيليا وهو بيت المقدس. وقال ابن زيد: هي القرية التي خرجت منها الألوف حذر الموت. ومعنى قوله خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ساقطة على سقوفها من خوى النجم إذا سقط. والعروش الأبنية، والسقوف من الخشب، كان حيطانها قائمة وقد تهدمت سقوفها ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المتهدمة، وهذا من أحسن ما يوصف به خراب المنازل. ويحتمل أن يكون من خوى المنزل إذا خلا عن أهله، وخوى بطن الحامل. «وعلى» بمعنى «عن» أي خاوية عن عروشها، ويجوز أن يراد أن القرية خاوية مع بقاء عروشها وسلامتها. قال في الكشاف: ويجوز أن يكون عَلى عُرُوشِها خبرا بعد خبر كأنه قيل: هي خالية وهي على عروشها أي هي قائمة مظلة على عروشها على معنى أن السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان، وبقيت الحيطان بحالها فيه مشرفة على السقوف الساقطة، ويجوز أن يراد أن القرية خاوية مع كون أشجارها معروشة، وكان التعجب من ذلك أكثر لأن الغالب من القرية الخالية أن يبطل ما فيها من عروش الفواكه فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ لأن الإحياء بعد مدة طويلة أغرب فيكون أدخل في كونه آية ثُمَّ بَعَثَهُ أي أحياه كما كان أوّلا عاقلا فهما مستعدا للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية، ولو قال أحياه لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 تحصل هذه الفوائد. قالَ كَمْ لَبِثْتَ أي كم مدة؟ فحذف المميز. والحكمة في السؤال هو التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق وإلا فمن المعلوم أن الميت لا يمكنه بعد أن صار حيا أن يعلم أن مدة موته طويلة أو قصيرة قالَ بناء على الظن لا بطريق الكذب لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غروب الشمس. فقال قبل النظر إلى الشمس: يوما. ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال: أو بعض يوم. والظاهر أنه علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت بأمارات شاهدها في نفسه وفي حماره لَمْ يَتَسَنَّهْ لم يتغير. وأصله من السنة أي لم يأت عليه السنون لأن مرّ السنين إذا لم يغيره فكأنها لم تأت عليه. وعلى هذا فالهاء إما للسكت بناء على أن أصل سنة سنوة بدليل سنوات في الجمع وسنية في التحقير، وقولهم «سانيت الرجل مساناة» إذا عامله سنة. وإما أصلية على أن نقصان سنة هو الهاء بدليل سنيهة في التصغير، وقولهم «أجرت الدار مسانهة» . وقيل: أصله لم يتسنن إما من السن وهو التغير قال تعالى مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 26] أي متغير منتن. وإما من السنة أيضا بناء على ما نقل الواحدي من أن أصل سنة يجوز أن يكون سننة بدليل سنينة في تحقيرها وإن كان قليلا. وعلى التقديرين أبدلت النون الأخيرة ياء مثل تقضي الباري في تقضض. ثم حذفت الياء للجزم وزيدت هاء السكت في الوقف. وعن أبي علي الفارسي أن السن هو الصب فقوله «لم يتسن» أي الشراب بقي بحاله لم ينصب. فعلى هذا يكون قوله لَمْ يَتَسَنَّهْ عائدا إلى الشراب وحده، ويوافقه قراءة ابن مسعود فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنن وأما على سائر الأقوال فيكون عدم التغير صالحا لأن يعود إلى الطعام وإلى الشراب جميعا. فإن قيل: إنه تعالى لما قال بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك، ولكن قوله فَانْظُرْ يدل ظاهرا على ما قاله من أنه لبث يوما أو بعض يوم. فالجواب أن الشبهة كلما كانت أقوى كان الاشتياق إلى الدليل الكاشف عنها أشد ولهذا قيل: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ فرآه عظاما نخرة فعظم تعجبه حيث رأى ما يسرع إليه التغير وهو الطعام والشراب باقيا، وما يمكن أن يبقى زمانا طويلا وهو الحمار غير باق فعرف طول مدة لبثه بأن شاهد عظام حماره رميما. وهذا بالحقيقة لا يدل بذاته لأن القادر على إحياء الحيوان قادر على إماتته وجعل عظامه نخرة في الحال، ولكن انقلاب عظام الحمار إلى حالة الحياة كانت معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ. وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً قال الضحاك: معناه أنه جعله دليلا على صحة البعث. وقال غيره: كان آية لِلنَّاسِ لأن الله تعالى بعثه شابا أسود الرأس، وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والمفارق. وقيل: إنه كان يقرأ التوراة عن ظهر قلبه فذلك كونه آية. وقيل: إن حماره لم يمت. والمراد وانظر إلى حمارك سالما في مكانه كما ربطته وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه مائة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 عام من غير علف ولا ماء كما حفظ طعامه وشرابه من التغير، وأما فائدة الواو في قوله وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ فقد قال الفراء: فإنما دخلت لنية فعل بعدها مضمر، لأنه لو قال وانظر إلى حمارك لنجعلك آية، كان النظر إلى الحمار شرطا وجعله آية جزاء، وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام. بل المعنى: ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء. ومثله في القرآن كثير وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأنعام: 105] وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 75] وانظر إلى العظام كيف ننشرها بالراء المهملة أي كيف نحييها. وقرىء كيف ننشرها من نشر الله الموتى بمعنى أنشرهم. ويحتمل أن يكون من النشر ضد الطي فإن الحياة تكون بالانبساط. وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس: 79] ومن قرأ بالزاء فمعناه نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب. والنشز ما ارتفع من الأرض ومنه نشوز المرأة لأنها ترتفع عن حد رضا الزوج. «وكيف» في موضع الحال من العظام والعامل فيه «ننشرها» لا «انظر» لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. ثم أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره، وأن اللام فيه بدل من الكناية. وعن قتادة والربيع وابن زيد: أن العظام عظام هذا الرجل نفسه. قالوا: إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه وكانت بقية بدنه عظاما نخرة وكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعض إلى البعض وكان يرى حماره واقفا كما ربطه، وزيف بأن قوله لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ إنما يليق بمن لا يرى في نفسه أثر التغير لا بمن شاهد أجزاء بدنه متفرقة وعظامه رميمة. وأيضا قوله ثُمَّ بَعَثَهُ يدل على أن المبعوث هو تلك الجملة التي أماتها، وقيل: هي عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم، وفاعل تبين مضمر تقديره فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أن الله على كل شيء قدير قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فخذف الأول لدلالة الثاني عليه كما في قوله «ضربني وضربت زيدا» أو التقدير: فلما تبين له ما أشكل عليه من أمر الإماتة والإحياء قال أعلم. وتأويله إني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك استدلالا. ومن قرأ أَعْلَمُ على لفظ الأمر فمعناه أنه عند التبين أمر نفسه بذلك، والله تعالى أمره بذلك كما في آخر قصة إبراهيم وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال القاضي: القراءة الأولى أولى لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به، وهاهنا العلم حاصل بدليل قوله فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ فلا يحسن الأمر بتحصيل العلم بعد ذلك. أما الإخبار عن أنه حصل فجائز. قلت: ليس هذا من باب الأمر بتحصيل الحاصل، وإنما الأمر فيه عائد إلى شيء آخر غير حاصل وهو عدم التعجب من إيجاد سائر الممكنات البعيدة، فإن من قدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 على إيجاد أمر مستبعد الحصول كان قادرا على نظائره من الغرائب والعجائب لا محالة، ولهذا أوردت القضية كلية. نعم لو قيل: اعلم أن الله قادر على إحياء الموتى لأشبه أن يكون أمرا بتحصيل الحاصل، على أن ذلك أيضا ممنوع فإن الأمر حينئذ يعود إلى شيء آخر غير حاصل هو عدم الشك فيما يستأنف من الزمان أي لتكن هذه الآية على ذكر منك كيلا يعترض لك شك فيما بعد، وذلك كقولك للمتحرك «تحرك» أي واظب على الحركة ولا تفتر. وليت شعري كيف يطعن بعض العلماء في بعض القراآت السبع مع ثبوت التواتر وكونها كلها كلام الحكيم العليم تقدس وتعالى؟ القصة الثالثة قوله عم طوله وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ التقدير: واذكر وقت قول إبراهيم. وقيل: معطوف على قوله إِلَى الَّذِي أي ألم تر إلى وقت قول إبراهيم. وهاهنا دقيقة وهي أنه لم يسم عزيرا في قصته بل قال أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وهاهنا سمى إبراهيم لأن عزيرا لم يحفظ الأدب بل قال ابتداء أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها وإبراهيم أثنى على الله أولا بقوله رَبِّ أَرِنِي وأيضا إن عزيرا استبعد الإحياء فأرى ذلك في نفسه، وإبراهيم التمس ودعا بقول أَرِنِي فأرى ذلك في غيره. ومعنى أرني بصرني. وذكروا في سبب سؤال إبراهيم وجوها. الأول قال الحسن والضحاك وقتادة وعطاء وابن جريج: إنه رأى جيفة مطروحة على شط النهر، فإذا مد البحر أكل منها دواب البحر، وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت، فإذا أكل السباع جاءت الطيور فأكلت وطارت، فقال إبراهيم: رب أرني كيف تجمع أجزاء هذا الحيوان من بطون السباع والطيور ودواب البحر. فقيل: أو لم تؤمن؟ قال: بلى. ولكن المطلوب بالسؤال أن يصير العلم الاستدلالي ضروريا. الثاني: قال محمد بن إسحق والقاضي: إنه في مناظرته مع نمرود لما قال ربي الذي يحيي ويميت قال الكافر أنا أحيي وأميت فأطلق محبوسا وقتل آخر فقال إبراهيم: ليس هذا بإحياء وإماتة وعند ذلك قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى لتنكشف هذه المسألة عند نمرود وأتباعه، ويزول الإنكار عن قلوبهم. وروي أن نمرود قال له: قل لربك يحيي وإلا قتلتك، فسأل الله ذلك، وقوله لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي بنجاتي من القتل، أو ليطمئن قلبي بقوة حجتي وبرهاني، وأن عدو لي إلى غيرها كان بسبب جهل المستمع. الثالث: عن ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي أن الله تعالى أوحى إليه أني أتخذ بشرا خليلا، فاستعظم ذلك إبراهيم عليه السلام وقال: إلهي، ما علامة ذلك؟ فقال: علامته أنه يحيي الميت بدعائه فلما عظم مقام إبراهيم عليه السلام في درجات العبودية وأداء الرسالة خطر بباله أني لعلي أكون ذلك الخليل. فسأل الله إحياء الموتى فقال الله: أو لم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي على أني خليل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 لك. الرابع: لا يبعد أن يقال: إنه لما جاء الملك إلى ابراهيم وأخبره بأن الله بعثك رسولا إلى الخلق طلب المعجزة ليطمئن قلبه على أن الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم. الخامس: لعله طالع في الصحف المنزلة عليه أن الله تعالى يحيي الموتى بدعاء عيسى، فطلب ذلك ليطمئن قلبه أنه ليس أقل منزلة عند الله من عيسى وأنه من أولاده. السادس: أمر بذبح الولد فسارع إلى ذلك فقال: إلهي، أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح فامتثلت فشرفني بأن تجعل بدعائي فاقد الروح ذا روح. السابع: أراد أن يخصصه الله بهذا التشريف في الدنيا بأن جميع الخلائق يشاهدون الحشر في الآخرة. الثامن: لعل إبراهيم لم يقصد إحياء الموتى بل قصد سماع الكلام بلا واسطة. وأما أن إبراهيم عليه السلام كان شاكا في المعاد فلا ينبغي أن يعتقد فيه، ومن كفر النبي المعصوم فهو بالكفر أولى وكيف يظن ذلك بإبراهيم عليه السلام وقوله بَلى اعتراف بالإيمان، وقوله لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي كلام عارف طالب لمزيد اليقين. والشك في قدرة الله يوجب الشك في نبوّة نفسه، والذي جاء في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم «نحن أحق بالشك من إبراهيم» «1» فذلك أنه لما نزلت هذه الآية قال بعض من سمعها: شك إبراهيم ولم يشك نبينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تواضعا منه وتقديما لإبراهيم على نفسه «نحن أحق بالشك منه» «2» والمعنى أننا لم نشك ونحن دونه، فكيف يشك هو؟ والاستفهام في قوله أَوَلَمْ تُؤْمِنْ للتقرير كقوله: ألستم خير من ركب المطايا؟ وأيضا المقصود من هذا السؤال أن يجيب بما أجاب به ليعلم السامعون أنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا بذلك عارفا به، وأن المقصود من هذا السؤال شيء آخر. واللام في قوله لِيَطْمَئِنَّ تتعلق بمحذوف أي ولكن سألت ليزيد قلبي سكونا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال. وقد تعرض الخواطر للمستدل بخلاف المعاين، هذا إذا قلنا: المطلوب حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء، أما إذا قلنا: إن الغرض شيء آخر فلا إشكال فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ عن ابن عباس: هنّ طاوس ونسر وغراب وديك. وفي قول مجاهد وابن زيد: حمامة بدل النسر فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ بضم الصاد وكسرها من صاره يصوره ويصيره أي أملهن وضمهن إليك. وقال الأخفش: يعني وجههنّ إليك. وفائدة أمره بضمها إلى نفسه بعد أخذها أن يتأملها ويعرف أشكالها وهيئتها وحلاها كيلا تلتبس بعد الإحياء، ولا يتوهم أنها غير تلك. وفي الآية حذف كأنه قبل أملهن وقطعهن ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً وقيل: معنى صرهن قطعهن فلا إضمار. روي أنه أمر بذبحها ونتف ريشها وأن يقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط   (1، 2) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 11. مسلم في كتاب الإيمان حديث 238. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 23. أحمد في مسنده (2/ 326) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال التي بحضرته وفي أرضه على كل جبل ربعا من كل طائر، ثم يصيح بها تعالين بإذن الله. فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثا، ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن كل جثة إلى رأسها. وأنكر أبو مسلم هذه القصة وقال: إن إبراهيم عليه السلام لما طلب إحياء الموتى من الله أراه الله تعالى مثالا قرب به الأمر عليه. والمراد ب فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ الإمالة والتمرين على الإجابة أي قعود الطيور الأربعة بحيث إذا دعوتها أجابتك حال الحياة، والغرض منه ذكر مثال محسوس لعود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة، ويؤكده قوله ثُمَّ ادْعُهُنَّ أي الطيور لا الأجزاء يَأْتِينَكَ سَعْياً وزيف قول أبي مسلم بأنه خلاف إجماع المفسرين، وبأن ما ذكره غير مختص بإبراهيم فلا يلزم له مزية. وأيضا إن ظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ما سأل، وعلى قوله لا تكون الإجابة حاصلة. ولأن قوله عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً دليل ظاهر على تجزئة الطيور وحمل الجزء على أحد الطيور الأربعة بعيد، ثم ظاهر قوله عَلى كُلِّ جَبَلٍ جميع جبال الدنيا. فذهب مجاهد والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان كأنه قيل: فرقها على كل جبل يمكنك التفرقة عليه. وقال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع: أربعة جبال على حسب الطيور الأربعة والجهات الأربع. وقال السدي وابن جريج: المراد كل جبل كان يشاهده إبراهيم وكانت سبعة. أما قوله ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً فقيل: عدوا ومشيا على أرجلهنّ لأن ذلك أبلغ في الحجة، وقيل: طيرانا. ورد بأنه لا يقال للطير إذا طار سعى. وأجيب بأن السعي هو الاشتداد في الحركة مشيا كانت أو طيرانا، واحتج الأصحاب بالآية على أن البنية ليست شرطا في صحة الحياة لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حيا قادرا على السعي والعدو. قال القاضي: دلت الآية على أنه لا بد من البنية من حيث إنه أوجب التقطيع بطلان حياتها، والجواب أن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة، أما الانفكاك عنه في بعض الأحوال فيدل على أن المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة، ولما دلت الآية على حصول فهم النداء لتلك الأجزاء حال تفرقها كان دليلا قاطعا على أن البنية ليست شرطا للحياة. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على جميع الممكنات حَكِيمٌ عالم بعواقب الأمور وغايات الأشياء. التأويل: إن الله تعالى لما أعطى نمرود ملكا ما أعطى أحدا قبله ادّعى الربوبية وما ادّعاها أحد قبله. وسبب ذلك أن الإنسان لحسن استعداده للطلب وغاية لطافته في الجوهر دائم الحركة في طلب الكمال لا يتوقف لحظة إلا لمانع، ولكنه جبل ظلوما جهولا، فمتى وكل إلى نفسه مال إلى عالم الحس، موافقا لسيره الطبيعي لأنه خلق من تراب وطبعه الميل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 إلى السفل فيرى الكمال في جمع المال ثم في طلب الجاه فيصرف المال فيه ثم في الحكم والتسلط. فإذا ملك السفليات بأسرها وقهر ملوك الأرض أراد أن ينازع ملك الملوك وجبار الجبابرة فيقول: أنا أحيي وأميت، وليس للعالم رب إلا أنا جهلا بالكمال وذلك عند فساد جوهره وبطلان استعداده، كما أنه إذا صلح جوهره بحسن تربية النبي صلى الله عليه وسلم أو من ينوب منابه- وهو الشيخ- قال: ليس في الوجود سوى الله. وهذا هو حقيقة فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: 19] يعني كن فانيا عن وجودك بالكلية، واستغفر لذنب حسبان وجود غير وجوده فافهم جدا وإن لم تكن مجدا، فإن المجد من يدق بمطرقة «لا إله إلا الله» دماغ نمرود النفس إلى أن يؤمن بالله ويكفر بطاغوت وجوده كل ما سوى الله. قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ اعتراض على قول الكافر أنا أحيي وأميت، والمراد أن إرسال النفس الناطقة لتدبير البدن اطلاع شمس الحياة من أفق البدن، فإن كنت صادقا في دعواك أن هذا يتأتى منك فأمسكها عندك وهو الإتيان بالشمس من مغربها، وأنه آية القيامة من مات فقد قامت قيامته. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ لأنه إن أمكنه أن يدعي الإحياء بمعنى الإبقاء وهو اطلاع الشمس من المشرق، فلن يمكنه أن يدعي الإماتة بمعنى قبض الروح من غير آلة القتل وهو الإتيان بالشمس من المغرب، فهذه طريقة لا يرد عليها شيء من الاعتراضات المذكورة في التفسير. ثم أخبر عن إظهار قدرته في إحياء الموتى بعد انقطاع المدعي في حجته عقيب الدعوى بقوله تعالى أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وذلك أن قوما أنكروا حشر الأجساد بعد اعترافهم بحشر الأرواح، وزعموا أن الأرواح إذا خرجت من سجن الأشباح وتقوت بالعلوم الكلية التي استفادتها من عالم الحس فما حاجتها أن ترجع إلى السجن والقيد، كما أن الصبي إذا استفاد العلوم في المكتب وكبر قدره وعظم وقعه لم يحتج إلى أن يرجع إلى المكتب وحال صباه، فهو سبحانه لكمال فضله ورأفته دفع هذه التسويلات النفسية ورفع هذه الشبهات الفلسفية بأن أمات عزيرا مائة سنة وحماره معه ثم أحياهما جميعا ليعلم أن الله تعالى مهما أحيا عزير الروح أحيا معه حمار الجسد، وكما أن عزير الروح يكون عند الملك الجبار يكون حمار الجسد في جنات تجري من تحتها الأنهار. فلعزير الروح مشرب من كؤوس تجلي صفات الجلال والجمال وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الدهر: 21] «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «1» ولحمار الجسد مرتع من   (1) رواه البخاري في كتاب التمني باب 9. مسلم في كتاب الصيام حديث 57. الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده (3/ 8) ، (6/ 126) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 الرياض ومشرب من الحياض فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: 71] وقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة: 60] . شربنا وأهرقنا على الأرض قسطها ... وللأرض من كأس الكرام نصيب ثم أكد حديث الحشر بقصة عن خليله صلى الله عليه وسلم وذلك قوله رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى فيفوح منه رائحة قول موسى رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] إلا أن موسى لم يحفظ الأدب في الطلب فما رأى غير النصب والتعب، وأدب بتأديب الخاطئ الجاني، وعرك بتعريك لَنْ تَرانِي وذلك أنه كان صاحب شرب وكان الخليل صاحب ري، وصاحب الشرب سكران، وصاحب الري صاح. شربت الحب كأسا بعد كأس ... فما نفذ الشراب وما رويت فلسكر موسى كان يبسط تارة مع الحق بقوله رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] ويعربد أخرى بقوله إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ [الأعراف: 155] ومن كمال صحو الخليل ما زل قدمه في أدب من آداب العبودية في الحضور والغيبة فلا جرم أكرم اليوم بكرامة الشيبة «إن أول ما شاب شيبة إبراهيم» ويحترم غدا بالكسوة «إن أول من يكسى إبراهيم» «1» ولما ابتلي في ماله فبذل للضيفان وابتلي في ولده فأسلم وتله للجبين وابتلي في نفسه فاستسلم لمنجنيق ابن كنعان، وابتلي بجبرائيل فقال: أما إليك فلا. لا جرم أكرمه الله بالإمامة إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: 124] ومن إمامته أنه كان أول من دق باب طلب الحق وقال هذا رَبِّي [الأنعام: 76] وأول من سلك طريق الحق وقال إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: 69] وأول من نطق بالمحبة وقال لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام: 76] وأول من أظهر الشوق وقال لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام: 78] وأول من أظهر العداوة مع غير المحبوب فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 77] وأول من اشتاق فسأل الرؤية وقال رَبِّ أَرِنِي ولا تظن أن اشتياقه إلى الرب إنما كان وقت سؤاله. ولست حديث العهد شوقا ولوعة ... حديث هواكم في حشاي قديم ولكنه من حفظ آداب الإجلال كان لا يفتح على نفسه باب السؤال، ويقول حسبي من سؤالي علمه بحالي إلى أن ساقه التقدير إلى حسن التدبير. وسأله نمرود من ربك؟ فأجرى   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 8، 48، مسلم في كتاب الجنّة حديث 58. الترمذي في كتاب القيامة باب 3. النسائي في كتاب الجنائز باب 118. الدارمي في كتاب الرقاق باب 80. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 الحق على لسانه من فضله وإحسانه رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فقال نمرود: هل رأيت منه ما تقول؟ فوجد الخليل فرصة للمأمول فأدرج في السؤال السول فأخفى سره وهو أدنى في علنه وهو كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى وهو يعلم أنه يعلم السر وأخفى. فأول باب فتح عليه من مقصوده أن أسمعه من كلامه بفضله وجوده. وقالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ فكان في هذه الكلمة من إعجاز القرآن ثلاثة معان مضمرة: أو لم تؤمن وقت ما آمنت عند نمرود بأني أحيي وأميت فما كان إيمانك حقيقا؟ أو لم تؤمن لميعاد رؤيتي في الجنة فأريك ثمة؟ أو لم تؤمن بما طلبت من الإحياء؟ مضمرا في كل منها الإثبات في لفظة النفي. فأجاب الخليل عن الاستفهامات الثلاثة ببلى سرا بسر أي بلى آمنت. وكان إيمانا حقيقيا ولكن ما كان مقصودي الإيمان والإيقان فإنه حاصل، ولا إحياء الموتى فإني فارغ من الموتى وإحيائهم، ولكني سألت ليطمئن قلبي بما تريد، أو بلى آمنت بميعاد رؤيتك في الجنة ولكن ليطمئن قلبي برؤيتك، فإنه كلما ازداد اليقين ازداد الشوق فاضطراب قلبي من غاية يقيني، أو بلى آمنت بقدرتك على الإحياء ولكن ما سألتك عن الإحياء وإنما سألتك عن كيفية الإحياء، ففي ضمن ذلك يحصل مقصودي كما أن من له معشوق خياط وهو يريد مشاهدة معشوقه ويحتشم أن يقول: أرني وجهك لأنظر إليك. لأنه يعلم أن الدلال قرين الجمال، وأن العزة والحسن توأمان: وفي مذهب الملاح الطلب رد والسبيل سد فيقول: أرني كيف تخيط الثياب؟ فكل صانع فاخر في صنعته يريد أن يرى جودة عمله فيحضر المعشوق عنده بلا حجاب وهو يخيط الثوب فيقول: انظر إليّ كيف أخيطه؟ فالعاشق ينظر بعلة الصنع إلى الصانع ويحظى منه بلا مانع ودافع ويطمئن قلبه بذلك. فالخليل لما اعتذر عن الجليل من اضطراب قلبه واضطرار حاله وتضرع بين يدي مولاه، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه حقق رجاءه وقال فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ الآية. والمراد أنك محجوب بك عني فبحجاب صفاتك عن صفاتي محجوب، وبحجاب ذاتك عن ذاتي ممنوع، فمهما تموت عن صفاتك تحيا بصفاتي، فإذا فنيت عن ذاتك بقيت ببقاء ذاتي فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ وهي الصفات الأربع التي تولدت من العناصر الأربعة التي خمرت طينة الإنسان منها فتولدت من ازدواج كل عنصر مع قرينه صفتان: فمن التراب وقرينها وهو الماء تولد الحرص والبخل وهما قرينان يوجدان معا، ومن النار وقرينها وهو الهواء تولد الغضب والشهوة، ولكل واحدة من هذه الصفات زوج خلق منها ليسكن إليها. فالحرص زوجه الحسد، والبخل زوجه الحقد، والغضب زوجه الكبر، وليس للشهوة اختصاص بزوج معين بل هي كالمعشوقة بين الصفات فتعلق بها كل صفة، فهن الأبواب السبعة للدركات السبع من جهنم لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 44] يعني من الخلق. فمن كان الغالب عليه صفة منها دخل النار من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 ذلك الباب، فأمر الله تعالى خليله بذبح هذه الصفات وهي الطيور الأربعة، طاوس البخل فلو لم يزين المال في نظر البخيل ما بخل به، وغراب الحرص وبكوره من حرصه، وديك الشهوة، ونسر الغضب لترفعه في الطيران وهذه صفة المغضب. فلما ذبح الخليل بسكين الصدق هذه الطيور وانقطعت منه متولداتها ما بقي له باب يدخل به النار فصارت النار عليه لما ألقي فيها بردا وسلاما. والمبالغة في تقطيعها ونتف ريشها وخلط أجزائها إشارة إلى محو آثار الصفات المذكورة وهدم قواعدها علي يدي إبراهيم الروح بأمر الشرع ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ هي الجبال الأربعة التي جبل الإنسان عليها: النفس النامية وهي النباتية، والأرواح الثلاثة الحيواني والطبيعي والإنسان الملكي. فهذه الجبال كالأشجار والزروع، وأجزاء الطيور كالتراب المخلوط بالزبل يجعل على الزروع فيتقوى كل واحد من هؤلاء بقوّة واحد من أولئك، ويتربى بتربيتها ويتصرف فيها الروح الإنساني فيحييها بنور هو من خصائص أرواح الإنسان، فتكون تلك الصفات ميتة عن أوصافها حية بأخلاق الروحانيات. هذا لخواص الخلق الذي الغالب على أحوالهم الروح، وأما خواص الخواص ومن أدركته العناية كالخليل، فالله تعالى بعد خمود هذه الصفات يتجلى له بصفته المحيي فيحيي هذه الصفات الفانية عن أوصافها بنور صفته المحيية فيكون العبد في تلك الحالة حيا بحياته محييا بصفاته كما قال «لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يبطش» «1» كما أن أميا يقول لكاتب: أرني كيف تكتب. فيجعل الكاتب قلمه في يد الأمي ويأخذ يده بيده ويكتب فتظهر الكتابة من يدي الأمي على الصحيفة، ففي تلك الحالة يظن الأمي أنه صار كاتبا فيقول أنا الكاتب كقوله: عجبت منك ومني ... أفنيتني بك عني أدنيتني منك حتى ... ظننت أنك أني فإذا رفع الكاتب يده عن يد الأمي فيعلم الأمي أنه أمي والكاتب هو الكاتب فيستغفر عن ذنب حسبانه أنه هو الكاتب وإليه الإشارة بقوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: 19] أي ذنب حسبان أنك كاتب وأنت نبي أمي عربي ما وصلت إلى ما وصلت إلا بفضلنا وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء: 113] ثم إن الله تعالى إن تجلى لخليله بصفة واحدة وهي صفة المحيي ليريه آية من آياته وهي كيفية الإحياء، فقد تجلى لحبيبه بجميع صفاته ليلة   (1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 38. أحمد في مسنده (6/ 256) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 المعراج كما قال لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18] والخليل طلب الرؤية لنفسه رَبِّ أَرِنِي والحبيب طلبها له ولأمته «أرنا الأشياء كما هي» وذلك لعلو مرتبته وهمته ورفعته وكمال معرفته، فلعلو همته قال: أرنا. ولرفعة مرتبته قال: الأشياء كما هي، فإن فيه مع رعاية الأدب إخفاء المقصود. فكان قول الخليل بالنسبة إلى هذا تصريحا وإن كان بالنسبة إلى قول الكليم تعريضا. وفيه أيضا طلب كمال الرؤية يجميع الصفات فإن جميعها داخلة في الأشياء، ولكمال معرفته طلب رؤية الماهية فقال «كما هي» وهذا هو الملك الحقيقي الذي لا يكتنه كنهه. ثم قيل للخليل وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أعز من أن يعرف كنه صفاته حَكِيمٌ لا يطلع على أسراره إلا من يليق بذلك من مخلوقاته. [سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 266] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) القراآت: أَنْبَتَتْ سَبْعَ وبابه بالإدغام: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام وسهل. يُضاعِفُ وبابه: ابن كثير وابن عامر ويزيد ويعقوب. الباقون يُضاعِفُ رِئاءَ النَّاسِ غير مهموز حيث كان يزيد والشموني والخزاعي عن ابن فليح وحمزة في الوقف. الباقون بالهمزة. الْكافِرِينَ بالإمالة: أبو عمرو وعلي غير ليث وأبي حمدون وحمدويه ورويس عن يعقوب، وكذلك ما كان محله النصب من الإعراب كل القرآن بِرَبْوَةٍ بفتح الراء حيث كان ابن عامر وعاصم. الباقون بضمها أُكُلَها وبابه ساكنة الكاف: ابن كثير ونافع وافق أبو عمرو فيما اتصلت بالهاء والألف بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ بالياء التحتانية: أبو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 عون عن قنبل. الباقون بالتاء للخطاب. الوقوف: مِائَةُ حَبَّةٍ ط، لِمَنْ يَشاءُ ط، عَلِيمٌ هـ، عِنْدَ رَبِّهِمْ ج لعطف المختلفتين، يَحْزَنُونَ هـ، أَذىً ط حَلِيمٌ هـ، وَالْأَذى (لا) لتعلق كاف التشبيه أي إبطالا مثل إبطال الذي، الْآخِرِ ط، صَلْداً ط، كَسَبُوا ط، الْكافِرِينَ هـ، ضِعْفَيْنِ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب واتحاد الكلام، فَطَلٌّ ط، بَصِيرٌ هـ، الْأَنْهارُ (لا) لأن ما بعده صفة لجنة أيضا، الثَّمَراتِ (لا) لأن الواو وللحال، ضُعَفاءُ ص والوصل أولى والوقف على فَاحْتَرَقَتْ ط لتناهي مقصود الاستفهام والمعنى: أيحب أحدكم احتراق جنة صفتها كذا في حال كذا؟ تَتَفَكَّرُونَ هـ. التفسير: إنه سبحانه لما ذكر من أصول المبدأ والمعاد ما اقتضاه المقام أتبعه ببيان التكاليف والأحكام. قال القاضي في كيفية النظم: إنه تعالى لما أجمل فى قوله مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة: 245] ، فصلّ بعد ذلك بهذه الآية تلك الأضعاف. وإنما ذكر بين الآيتين الأدلة على قدرته على الإحياء والإماتة لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب بعد الحشر لكان التكليف بالإنفاق وسائر الطاعات عبثا كأنه قال: قد عرفت أني خلقتك وأكملت نعمي عليك بالإحياء والإقدار، وقد علمت قدرتي على المجازاة، فليكن علمك بهذه الأصول داعيا إلى إنفاق الأموال فإنه يجازي القليل بالكثير، ثم ضرب لذلك الكثير مثلا وهو من الواحد إلى سبعمائة. وعن الأصم أنه تعالى ضرب هذا المثل بعد ما احتج على الكل بما يوجب تصديق النبي صلى الله عليه وسلّم ليرغبوا في المجاهدة بالنفس والمال في نصرته وإعلاء شريعته. وقيل: إنه تعالى لما بين أنه وليّ المؤمنين، وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت، بيّن مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت. قلت: لما بين صحة المعاد ولا بد له من زاد ولا يمكن التزود من الأموال التي يمتلكها العباد إلا بالإنفاق، أتبعه أحكامه فقال مَثَلُ الَّذِينَ ولا بد من إضمار ليصح التشبيه أي مثل صدقاتهم كمثل حبة أو مثلهم باذر حبة. وسبيل الله دينه. فقيل الجهاد، وقيل جميع أبواب الخير. والمنبت هو الله، ولكن الحبة لما كنت سببا أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء. ومعنى إنباتها سبع سنابل أن تخرج ساقا يتشعب منها سبع شعب لكل واحد سنبلة. وهذا التمثيل تصوير للأضعاف سواء وجد في الدنيا سنبلة بهذه الصفة أو لم توجد، على أنه قد يوجد في الجاورس والذرة غيرهما مثل ذلك. وسبع سنابل مثل ثلاثة قروء في إقامة جمع الكثرة مقام القلة. وَاللَّهُ يُضاعِفُ أي تلك المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق لتفاوت أحوال المنفقين في الإخلاص، أو يضاعف سبع المائة ويزيد عليها أضعافها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 لمن يستحق ذلك في مشيئته. وَاللَّهُ واسِعٌ كامل القدرة على المجازاة لأن فيضه غير متناه عَلِيمٌ بمقادير الإنفاقات وبمواقعها ومصارفها بإخلاص صاحبها، وإذا كان الأمر كذلك فلن يضيع عمل عامل له عنده. ثم لما عظم أمر الإنفاق أردف ببيان الأمور التي يجب رعايتها حتى يبقى ذلك الثواب منها: ترك المن والأذى، والمنّ قد يراد به الإنعام قال تعالى وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: 6] وقد يراد به إظهار الاصطناع وهو مذموم ولهذا قيل: صنوان من منح سائله ومنّ ومنع نائله وضنّ. وذلك لما فيه من انكسار قلب الفقير، ومن تنفير ذوي الحاجة عن صدقته، ومن عدم الاعتراف بأن النعمة نعمة الله والعباد عباده، وأن المعطي هو الله. وإذا كان العبد في هذه الدرجة كان محروما عن مطالعة الأسباب الربانية الحقيقية، وكان في درجة البهائم التي لا يترقى نظرهن من المحسوس إلى المعقول، ومن الآثار إلى المؤثرات. وأما الأذى فمنهم من حمله على أذى المؤمنين على الإطلاق، والمحققون خصصوه بما تقدم ذكره وهو أن يتطاول على الفقير بما أدلى إليه ويقول له: الست إلا مبرما وما أنت إلا ثقيل، وباعد الله ما بيني وبينك. ومعنى «ثم» تراخي الرتبة وإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى، وإن تركهما خير من نفس الإنفاق بل ترك كل منهما لأنهما نكرتان في سياق النفي لَهُمْ أَجْرُهُمْ وقال فيما يجيء فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ [البقرة: 274] لأن الموصول هاهنا لم يضمن معنى الشرط وضمنه ثمة، وفرق معنوي وهو إن الفاء دلالة على أن الإنفاق سبب استحقاق الأجر وطرحها عار عن تلك الدلالة. ثم إنه ذكر هنالك الإنفاق منهم على سبيل المواظبة والاستمرار فكان التأكيد بما يوجب الربط بينهما ما هنالك أنسب. وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي لا يخافون فوات ثواب الإنفاق. ولا يحزنون بالفوات كقوله وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه: 112] والمراد أنهم يوم القيامة لا يخافون العذاب ولا يحزنهم الفزع الأكبر. ويعلم من قوله فِي سَبِيلِ اللَّهِ أن قوله لَهُمْ أَجْرُهُمْ مشروط بأن لا يوجد منهم الكفر، ويعلم من قوله ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ أن المن والأذى من قبيل الكبائر حيث يخرجان هذه الطاعة العظيمة عن الاعتداد بها. احتجت المعتزلة بالآية من وجهين: الأول أن العمل يوجب الأجر لقوله لَهُمْ أَجْرُهُمْ وأجيب بأن ذلك بسبب الوعد لا بسبب نفس العمل. الثاني أن الكبائر تحبط ثواب فاعلها وإلا لم يكن المن والأذى مبطلين ثواب الإنفاق، وأجيب بأن الإنفاق على تقدير المن والأذى لا ثواب له أصلا، فكيف يتصور رفع ما لم يوجد؟ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ تقبله القلوب ولا تنكره وذلك أن يرد السائل بطريق أحسن وعدة حسنة وَمَغْفِرَةٌ عفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسئول لأنه إذا رد بغير مقصوده فربما حمله ذلك على بذاءة اللسان أو نيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل أو عفو من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 جهة السائل بأن يعذر المسئول إذا رده ردا جميلا خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً لأنه إذا أتبع الإيذاء الإعطاء فقد جمع بين الإنفاع والإضرار، وربما لم يف ثواب النفع بعقاب الضر. وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إيصال السرور إلى قلب المؤمن ولا إضرار، فكان الأولى وَمِنَ النَّاسِ الناس من خصص الآية بالتطوع لأن الواجب لا يحل منعه ولا رد السائل فيه. ورد بأن الواجب قد يعدل به عن سائل إلى سائل وعن فقير إلى فقير وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن صدقة كل منفق، فما وجه المن؟ حَلِيمٌ عن معاجلته بالعقوبة إذا منّ، ولا يخفى ما فيه من الوعيد. ثم إنه تعالى ضرب لكل واحد من المؤذي وغير المؤذي مثلا فقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى وعن ابن عباس: بالمن على الله والأذى للفقير، كَالَّذِي أي كإبطال المنافق الذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وهو أن يرائي بعمله غيره ولا يريد رضا الله وثواب الآخرة، ويجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين للذي ينفق، فمثله الضمير إما أن يكون عائدا إلى المنافق على أنه تعالى شبه المانّ بالمرائي المنافق، ثم شبه المنافق بالحجر. وإما أن يعود إلى المانّ المؤذى على أنه شبهه بالمنافق ثم شبهه بالحجر. والصفوان الحجر الأملس، والوابل المطر العظيم القطر، والصلد الأجرد النقي ومنه صلد جبين الأصلع إذا برق. وهذا المثل ضربه الله لعمل المانّ المؤذي ولعمل المنافق، فإن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالا كما يرى التراب على هذا الصفوان، فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل لأنه تبين أن تلك الأعمال ما كانت لله تعالى ولم يؤت بها على وجه يستحق الثواب كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب. وأما المعتزلة فقالوا: إن تلك الصدقة أوجبت الأجر والثواب، ثم إن المنّ والأذى أزالا ذلك الأجر بناء على مذهبهم من الإحباط والتكفير. فعلى مذهبنا: العمل الظاهر كالتراب، والمان المؤذي أو المنافق كالصفوان ويوم القيامة كالوابل. وعلى قولهم: المن والأذى كالوابل. وعن القفال: ان عمل المانّ مشبه بما إذا طرح بذرا في صفوان صلد عليه غبار قليل، فإذا أصابه مطر جود بقي مستودع بذره خاليا لا شيء فيه. ألا ترى أنه ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة؟ وعلى هذا فقوله لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ الضمير فيه عائد إلى معلوم غير مذكور، أي لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي فرض على الصفوان لأنه خرج عن الانتفاع به، فكذا المانّ والمؤذي والمنافق لا ينتفع واحد منهم بعمله يوم القيامة، وناهيك بكون المانّ والمنافق ملزوزين في قرن شناعة شأن المن والأذى، وقيل: الضمير عائد إلى الذي إما لأن «من» و «الذي» متعاقبان فكأنه قيل: كمّن ينفق، وإما لأن المراد المراد الفريق الذي، وإما لأنه أشير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 بالذي إلى الجنس والجنس في حكم العام. وقيل: المعنى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فإنكم إن فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم، فالتفت من الخطاب إلى الغيبة كقوله حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] . وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ معناه- على قولنا- سلب الإيمان عنهم، وعلى قول المعتزلة أنه يضلهم عن الثواب وطريق الجنة لسوء اختيارهم وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ طلبا لمرضاته وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ قيل: أي يوطنون أنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها من المن والأذى. وقيل: تثبيتا من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة في الإيمان مخلصة فيه، ويعضده قراءة مجاهد وتبيينا من البيان. وقيل: إن النفس لا ثبات لها في موقف العبودية إلا إذا صارت مقهورة بالرياضة ومعشوقها أمران الحياة العاجلة والمال. فإذا بذل ماله وروحه معا فقد ثبت نفسه كلها وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصف: 11] وإذا بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه، فعلى هذا «من» للتبعيض ذكره في الكشاف. قال الزجاج: تصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم جازمين بأن الله تعالى لا يضيع ثوابهم ف «من» على هذا للابتداء، وجزمهم بالثواب هو المراد بالتثبيت. وعن الحسن ومجاهد وعطاء: المراد أنهم يثبتون أنفسهم تثبيتا في طلب المستحق وصرف المال في وجهه. قال الحسن: كان الرجل إذا همّ بصدقة يتثبت فإن كان لله أمضى وإن خالطه شك أمسك. وقيل: إنه إذا أنفق لأجل عبودية الحق لا لأجل غرض النفس وحظ من حظوظها فهناك اطمأن قلبه واستقرت نفسه ولم يحصل لنفسه منازعة مع قلبه فذلك الاستقرار هو التثبيت. ويحتمل أن يكون المراد به حصول ملكة الإنفاق بحيث يحصل عنه بطريق الاطراد والاعتياد لا بطريق البخت والاتفاق، فإن الأخلاق ما لم تصر ملكات لصاحبها لم تكد يظهر على جوهر النفس صفاؤها ونوريتها. والمعنى أن مثل نفقة هؤلاء في زكائها عند الله كمثل جنة وهي البستان. وقرىء كمثل حبة بربوة بمكان مرتفع من ربا الشيء يربو إذا زاد وارتفع، ومنه الربو لزيادة التنفس، والربا في المال. قيل: وإنما خص المكان المرتفع لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمرا. واعترض عليه بأن المكان المرتفع لا يحسن ريعه لبعده عن الماء وربما تضربه الرياح كما أن الوهاد لكونها مصب المياه قلما يحسن ريعها، فإذن البستان لا يصلح له إلا الأرض المستوية، فالمراد بالربوة أرض طيبة حرة تنتفخ وتربو إذا نزل عليها المطر، فإنها إذا كانت على هذه الصفة كثر دخلها وكمل شجرها كقوله تعالى وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج: 5] ومما يؤكد ما ذكرنا أن هذا المثل، في مقابلة المثل الأول، فكما أن الصفوان لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 يربو ولا ينمو بسبب نزول المطر عليه فينبغي أن تكون هذه الأرض بحيث تربو وتنمو فَآتَتْ أُكُلَها أي ثمرتها وما يؤكل منها ضِعْفَيْنِ مثلي ما كان يعهد منها. وقيل: مثلي ما يكون في غيرها فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ مطر صغير القطر يصيبها ولا ينتقص شيء من ثمرها لكرم منبتها، أو المراد أنها على جميع الأحوال لا تخلو من أن تثمر قل أم كثر، وكذلك من أخرج صدقة لوجه الله لا يضيع كسبه وفّر أم نزر. ويحتمل أن يمثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة، ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل والطل، وكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم تزيد في زلفاهم وحسن حالهم وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من وجوه الإنفاق وكيفيتها والأمور الباعثة عليها بَصِيرٌ فيجازي بحسب النيات وخلوص الطويات. ثم إنه سبحانه رغب في الإنفاق المعتبر الجامع لشرائطه وحذر عن ضده بأن ضرب مثالا آخر فقال أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ والهمزة للإنكار البالغ أي لن يود. قرىء له جنات وقد وصف الله تعالى الجنة بثلاثة أوصاف الأول: كونها من نخيل وأعناب كأن الجنة إنما تكوّنت منهما لكثرتهما فيها. الثاني: تجري من تحتها الأنهار، ولا شك أن ذلك يزيد في رونقها وبهائها. والثالث: فيها من كل الثمرات. وإنما خص النخيل والأعناب أولا بالذكر لأنهما أكرم الشجر أو أكثرها منافع. قال في الكشاف: ويجوز أن يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيهما كقوله وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ [الكهف: 34] بعد قوله جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ [الكهف: 32] . ثم شرع في بيان شدة حاجة المالك إلى هذه الجنة فقال وَأَصابَهُ الْكِبَرُ أي والحال أنه قد أصابه الكبر. وقال الفراء: إنه معطوف على يَوَدُّ واستقام نظر المعنى لأنه يقال: وددت أن يكون كذا، ووددت لو كان كذا، فكأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء. وقرىء ضعاف أي صبيان وأطفال فَأَصابَها إِعْصارٌ ريح تستدير في الأرض ثم تسطع نحو السماء كالعمود فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ أي الجنة ولا يخفى أن هذه المثل في المقصود أبلغ الأمثال، فإن الإنسان إذا كان له جنة في غاية الكمال، وكان هو في نهاية الاحتياج إلى المال- وذلك أوان الكبر مع وجود الأولاد الأطفال- فإذا أصبح وشاهد تلك الجنة محترقة بالصاعقة، فكم يكون في قلبه من الحسرة وفي عينه من الحيرة؟ فكذا الإنفاق نظير الجنة المذكورة وزمان الاحتياج يوم القيامة، فإذا أتبع الإنفاق النفاق أو المن والأذى كان ذلك كالإعصار الذي يحرق تلك الجنة ويورثه الخيبة والندامة. التأويل: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فلهم الجنة، والذين ينفقون أرواحهم وقلوبهم في سبيل الله فلهم الله، ومن أعطى تمرة إلى فقير يأخذها الله بيمينه ويربيها كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 يربي أحدكم فلوة أو فصيلة حتى تكون أعظم من الجبل. فمن أعطى قلبه إلى الله فهو يربيه بين أصبعي جلاله حتى يصير أعظم من العرش بما فيه، وإن قوما بذلوا المال لله، وقوما بذلوا الحال بإيثار صفاء الأوقات وفتوحات الخلوات على طلاب الحق وأرباب الصدق للقيام بأمورهم في تشفي ما في صدورهم وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] فبذلوا ليحصلوا، وحصلوا لينفصلوا، وانفصلوا ليتصلوا، واتصلوا ليصلوا الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله في طلبه لا في طلب غيره من الثناء والجزاء إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً [الدهر: 9] ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا على الله بأن يقول: عملت هذا العمل لأجلك ووجب لي عليك الأجر وَلا أَذىً بأن يطلب من الله غير الله. رأى أحمد بن خضرويه ربه في المنام فقال له: كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ينزلهم في مرتبة العندية عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 55] لا عند الجنة ولا عند النار. قَوْلٌ مَعْرُوفٌ يصدر عن العارف بالله في طلب المعروف وَمَغْفِرَةٌ له وأن لم يكن عنده ما يتصدق خَيْرٌ له عند ربه مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها من الجهل أَذىً طلب غير الحق من الحق وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن غيره حَلِيمٌ لا يعجل بالعقوبة على من يختار في الطلب غيره، ولولا حلمه فما للتراب ورب الأرباب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى فالمعاملات إذا كانت مشوبة بالأغراض ففيها نوع من الإعراض، ومن أعرض عن الحق فقد أقبل على الباطل ومن أقبل على الباطل فقد أبطل حقوقه في الأعمال فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس: 32] . ولو كان قصدك في الصدقة طلب الحق لما مننت على الفقير بل كنت رهين منته حيث صار سبب وصولك إلى الحق، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «لولا الفقراء لهلك الأغنياء» أي لم يجدوا سبيلا إلى الحق. وفسر بعضهم اليد العليا بيد الفقير، واليد السفلى بيد الغني. لأن الفقير يأخذ منه الدنيا ويعطيه الآخرة كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لأنه لو كان مؤمنا بالله لكان ينفق لله، ولو كان يؤمن بالآخرة لأنفق للآخرة لا للناس فمثل المرائي كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ هو عمله فَأَصابَهُ وابِلٌ وهو وابل الرد. «أنا أغنى الأغنياء عن الشرك» «1» فَتَرَكَهُ صَلْداً مفلسا خائبا. لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ليتوسلوا به إلى الله. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ بنعمة طلب شهود جماله فحرموا عن دولة وصاله. وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ وتخليصا لنياتهم في طلب الحق ومرضاته من خطوط أنفسهم كَمَثَلِ جَنَّةٍ   (1) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة 18 باب 6. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 21. أحمد في مسنده (4/ 215) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 هي قلب المخلص بِرَبْوَةٍ في رتبة عالية عند الحق أَصابَها وابِلٌ الواردات الربانية فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ الإلهامات فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ ضعف من نعيم الجنة وضعف من دولة الوصال وشهود ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فإن الله تعالى كما يعطي أهل الآخرة نصيبا من الدنيا بالتبعية ولا يعطي أهل الدنيا نصيبا من الآخرة، فكذلك يعطي أهل الله نصيبا من الآخرة بالتبعية ولا يعطي أهل الآخرة ما لأهل الله من القربة وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ كيف تعملون ولماذا تعملون لابتغاء المرضاة أو لاستيفاء اللذات واستبقاء الحياة. ثم ضرب مثلا لروح الإنسان وقلبه بجنة له فيها من كل الثمرات إذ خلق في أحسن تقويم، مستعدا لجميع الكرامات، مشرفا بعلم السمات، منورا بأنوار العقل والحواس السليمات، متوحدا بحمل الأمانة، متفردا برتبة الخلافة. جنة هي منظور نظر العناية تجري من تحتها أنهار الهداية، وأصاب صاحبها ضعف الإنسانية، وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ من متولدات القوى البشرية في غاية الافتقار إلى التربية بأغذية ثمراتها فَأَصابَها إِعْصارٌ من أعمال البر فِيهِ نارٌ من الرياء والنفاق فَاحْتَرَقَتْ جنة الروحانية بنار صفات البشرية وتبدلت الأخلاق الروحية بالنفسية، والملكية بالشيطانية كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في إحسانه معكم بإيتاء الاستعداد الفطري، فلا تبطلوه بقبيح فعالكم، ولا تضيعوا أعماركم في طلب آمالكم، وتستعدوا للموت قبل حلول آجالكم والله المستعان وهو حسبي. [سورة البقرة (2) : الآيات 267 الى 274] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 القراآت: وَلا تَيَمَّمُوا بتشديد التاء ومد الألف: البزي وابن فليح الباقون على الأصل وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ بكسر التاء: يعقوب أي من يؤتيه الله. الباقون بالفتح فَنِعِمَّا هِيَ ساكنة العين: أبو عمرو والمفضل ويحيى وأبو جعفر ونافع غير ورش فَنِعِمَّا هِيَ بفتح النون وكسر العين: ابن عامر وعلي وحمزة وخلف والخراز، الباقون فَنِعِمَّا هِيَ بكسر النون والعين والميم مشددة في القراآت. وَنَكْفُرُ بالنون والراء ساكنة: أبو جعفر ونافع وحمزة وخلف وعلي وَيُكَفِّرُ بالياء والراء مرفوعة: ابن عامر وحفص والمفضل. الباقون وَنَكْفُرُ بالنون ورفع الراء يَحْسَبُهُمُ وبابه بفتح السين: ابن عامر ويزيد وحمزة وعاصم غير الأعشى وهبيرة. بِسِيماهُمْ بالإمالة: حمزة وعلي وابن شاذان عن خلاد مخيرا. وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة، وكذلك كل كلمة على ميزان «فعلى» . الوقوف: مِنَ الْأَرْضِ «ز» لعطف المتفقتين تُغْمِضُوا فِيهِ (ط) ، حَمِيدٌ هـ، بِالْفَحْشاءِ ج، وإن اتفقت الجملتان ولكن للفصل بين تخويف الشيطان الكذاب ووعد الله الحق الصادق، فَضْلًا ط، عَلِيمٌ هـ، وقد يوصل على جعل ما بعده صفة، مَنْ يَشاءُ ج لابتداء الشرط مع العطف. ومن قرأ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ بالكسر فالوصل أجوز. كَثِيراً ط، الْأَلْبابِ هـ، يَعْلَمُهُ ط، أَنْصارٍ هـ، فَنِعِمَّا هِيَ ج، خَيْرٌ لَكُمْ ط، لمن قرأ ونكفر مرفوعا بالنون أو الياء على الاستئناف. ومن جزم بالعطف على موضع فهو خير لكم لم يقف سَيِّئاتِكُمْ ط، خَبِيرٌ هـ، مَنْ يَشاءُ ط لابتداء الشرط فَلِأَنْفُسِكُمْ ط لابتداء النفي، وَجْهِ اللَّهِ ط، لا تُظْلَمُونَ هـ، فِي الْأَرْضِ ز لأن يَحْسَبُهُمُ وإن صلحت حالا بعد حال نظما، ولكن لا يليق بحال من أحصر. التَّعَفُّفِ ز لأن تَعْرِفُهُمْ تصلح استئنافا والحال أوجه أي يحسبهم الجاهل أغنياء وأنت تعرفهم بحقيقة ما في بطونهم من الضر وهم لا يسألون الناس على إلحاف. وقد يجعل لا يَسْئَلُونَ استئنافا فيجوز الوقف على بِسِيماهُمْ إِلْحافاً ط، عَلِيمٌ هـ، عِنْدَ رَبِّهِمْ ج يَحْزَنُونَ هـ. التفسير: لما رغب في الإنفاق وذكر أن منه ما يتبعه المن والأذى، ومنه ما لا يتبعه ذلك، وشرح ما يتعلق بكل من القسمين وضرب لكل واحد مثلا، ذكر بعد ذلك أن المال الذي أمر بإنفاقه في سبيل الله كيف يجب أن يكون فقال أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 أَخْرَجْنا أي من طيبات ما أخرجنا، فحذف لدلالة الأول عليه. عن الحسن: أن المراد من هذا الإنفاق الفرض بناء على أن ظاهر الأمر للوجوب، والإنفاق الواجب ليس إلا الزكاة وسائر النفقات الواجبة، وقيل: التطوع لما روي عن علي والحسن ومجاهد أن بعض الناس كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم فأنزل الله هذه الآية. عن ابن عباس: جاء رجل ذات يوم بعذق حشف فوضعه في الصدقة لأهل الصفة على حبل بين أسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: بئسما صنع صاحب هذا فنزلت. وقيل: يشمل الفرض والنفل، لأن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على الترك فقط. ويتفرع على قول الوجوب وجوب الزكاة في كل مال يكسبه الإنسان، فيشمل زكاة التجاوز وزكاة الذهب والفضة وزكاة النعم وزكاة كل ما ينبت من الأرض، إلا أن العلماء خصصوها بالأقوات لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الصدقة في أربعة: في التمر والزبيب والحنطة والشعير وليس فيما سواها صدقة» فهذا الخبر ينفي الزكاة في غير الأربعة، لكن ثبت أخذ الزكاة من الذرة وغيرها بأمر صلى الله عليه وسلم فعلم وجوب الزكاة في الأقوات دون غيرها. ولا يكفي في وجوب الزكاة كون الشيء مقتاتا على الإطلاق، بل المعتبر حالة الاختيار لا وقت الضرورة ومثله الشافعي بالقت وحب الحنظل وسائر البذور البرية، وشبهها ببقرة الوحش لا زكاة فيها لأن الناس لا يتعهدونها. وأيضا لا تجب الزكاة في القوت ما لم يبلغ خمسة أوسق وبه قال مالك وأحمد لرواية أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة «1» وقال أبو حنيفة: يجب العشر في القليل والكثير استدلالا بعموم الآية. وتفصيل الكلام في الأموال الزكوية وكيفية إخراجها ونصاب كل منها مشهور مذكور في الفروع، فلذلك ولطولها لم نشرع فيها. وما المراد بالطيب في الآية؟ قيل: الجيد فيكون المراد بالخبيث الرديء لما مر في سبب النزول أنهم كانوا يتصدقون برذالة أموالهم فنهوا عن ذلك، ولأن المحرم لا يجوز أخذه بالإغماض وبغيره، والآية دلت على جواز أخذ الخبيث بالإغماض. وعن ابن مسعود ومجاهد: أن الطيب هو الحلال والخبيث هو الحرام، والمراد من الإغماض هو المسامحة وترك الاستقصاء. والمعنى ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال من حلاله أو من حرامه. ويحتمل أن يراد ما   (1) رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث 1، 3، 4. البخاري في كتاب الزكاة باب 56. أبو داود في كتاب البيوع باب 20. النسائي في كتاب البيوع باب 45. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 6. الموطأ في كتاب الزكاة حديث 1، 3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 يكون طيبا من جميع الوجوه فيكون طيبا بمعنى الحلال وبمعنى الجودة أيضا، لأن الاستطابة قد تكون شرعا وقد تكون عقلا. واعلم أن المال الزكوي إن كان كله شريفا وجب أن يكون المأخوذ منه كذلك، وإن كان الكل خسيسا فلا يكلف صاحبه فوق طاقته ولا يكون خلافا للآية لأن المأخوذ في هذه الحال لا يكون خبيثا من ذلك المال وإنما الكلام فيما لو كان في المال جيد ورديء فحينئذ يقال للإنسان لا تجعل الزكاة من رديء مالك، ولا تكلف أيضا جيده لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم» «1» بل الواجب حينئذ هو الوسط. ثم إن قلنا: المراد من الإنفاق في الآية التطوع أو هو والفرض جميعا، فالمعنى أن الله تعالى ندبهم إلى أن يتقربوا إليه بأفضل ما يملكونه قضاء لحقوق التعظيم والإخلاص، ومعنى لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ لا تقصدوه. يقال: تيممته وتأممته كله بمعنى قصدته. ومحل تُنْفِقُونَ نصب على الحال، وقدم مِنْهُ عليه ليعلم أن المنهي عنه هو تخصيص الخبيث بالإنفاق منه أي إذا كان في المال طيب وخبيث. ويحتمل أن يتم الكلام عند قوله: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ ثم ابتدأ مستفهما بطريق الإنكار فقال: مِنْهُ تُنْفِقُونَ وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم إلا بالإغماض وهو غض البصر وإطباق جفن على جفن وأصله من الغموض وهو الخفاء. يقال للبائع: أغمض أي لا تستقص كأنك لا تبصر. وأصله أن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه كيلا يرى ذلك، فكثر حتى جعل كل مساهلة إغماضا أي لو أهدي لكم مثل هذه الأشياء أخذتموها إلا على استحياء وإغماض، فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم؟ ويحتمل أن يراد إلا إذا أغمضتم بصر البائع أي كلفتموه الحط من الثمن. عن الحسن: لو وجدتموه في السوق يباع ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن صدقاتكم حَمِيدٌ محمود على ما أنعم من البيان والتكليف بما تحوزون به النعيم الأبدي، أو حامد شاكر على إنفاقكم كقوله: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء: 19] ثم إن الله تعالى لما رغب في أجود ما يملكه الإنسان أن ينفق، حذر عن وسوسة الشيطان فقال: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أما الشيطان فيشمل إبليس وجنوده وشياطين الإنس والنفس الأمارة بالسوء. والوعد يستعمل في الخير والشر. قال تعالى: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحج: 72] ويمكن أن يكون استعماله في الشر محمولا   (1) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 1. مسلم في كتاب الإيمان حديث 29. أبو داود في كتاب الزكاة باب 5. الترمذي في كتاب الزكاة باب 6. النسائي في كتاب الزكاة باب 1، 46. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 على التهكم مثل فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] وأصل الفقر في اللغة كسر الفقار وقرىء الفقر بضمتين، والفقر بفتحتين. وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ يغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور. والفاحش عند العرب البخيل. والتحقيق أن لكل خلق طرفين ووسطا، فالطرف الكامل للإنفاق هو أن يبذل كل ماله في سبيل الله، والطرف الأفحش أن لا ينفق شيئا لا الجيد ولا الرديء، والوسط أن يبخل بالجيد وينفق الرديء. فالشيطان إذا أراد نقله من الأفضل إلى الأفحش، فمن خفي حيلته أن يجره إلى الوسط وهو وعده بالفقر، ثم إلى الطرف وهو أمره بالفحشاء. وذلك أن البخل صفة مذمومة عند كل أحد فلا يمكنه أن يجره ابتداء إليها إلا بتقديم مقدمة هي التخويف بالفقر إذا أنفق الجيد من ماله، فإذا أطاعه زاد فيمنعه من الإنفاق بالكلية. وربما تدرج إلى أن يمنع الحقوق الواجبة فلا يؤدي الزكاة ولا يصل الرحم ولا يرد الوديعة، فإذا صار هكذا ذهب وقع الذنوب عن قلبه ويتسع الخرق فيقدم على المعاصي كلها. ثم لما ذكر درجات وسوسة الشيطان أردفها بذكر إلهامات الرحمن فقال: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة والفضل إشارة إلى ما يحصل في الدنيا من الخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الملك ينادي كل ليلة: اللهم أعط منفقا خلفا وممسكا تلفا» «1» فالشيطان يعدكم الفقر في غد الدنيا، والرحمن يعدكم المغفرة في غد العقبى، ووعد الرحمن بالقبول أولى لأن الوصول إلى غد الدنيا مشكوك فيه، وغد العقبى مقطوع به. وعلى تقدير وجدان غد الدنيا فقد لا يبقى المال بآفة أخرى، وعند وجدان العقبى لا بد من حصول المغفرة فإن الله تعالى لا يخلف الميعاد. ولو فرض بقاء المال فقد لا يتمكن صاحبه من الانتفاع به لخوف أو مرض أو مهم بخلاف الانتفاع بما في الآخرة فإنه لا مانع منه. وبتقدير التمكن من الانتفاع بالمال فإن ذلك ينقطع ويزول بخلاف الموعود في الآخرة فإنه باق لا يزول. وأيضا لذات الدنيا مشوبة بالآلام والمضار البتة، فلا لذة إلا وفيها ألم من وجوه كثيرة بخلاف لذات الآخرة فإنه لا نغص فيها ولا نقص. والمراد بالمغفرة تكفير الذنوب، والتنكير فيه للدلالة على الكمال والتعظيم لا سيما وقد قرن به لفظة «منه» فإن غاية كرمه ونهاية جوده مما يعجز عن إدراكها عقول الخلائق. ويحتمل أن يكون نوعا من المغفرة وهو المشار إليه في آية أخرى فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان: 70] أو أن يجعل شفيعا في غفران ذنوب إخوانه المؤمنين. وأما الفضل فيحتمل أن يراد به الفضيلة الحاصلة للنفس وهي ملكة الجود والسخاء، وذلك أن المال فضيلة خارجية وعدمه نقصان خارجي، وملكة الجود فضيلة نفسانية وملكة البخل رذيلة   (1) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 27. أحمد في مسنده (2/ 306، 347) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 نفسانية، فمتى لم يحصل الإنفاق حصل الكمال الخارجي والنقصان الداخلي، وإذا حصل الإنفاق وجد الكمال الداخلي والنقصان الخارجي، فيكون الإنفاق أولى وأفضل. وأيضا متى حصلت ملكة الإنفاق زالت عن النفس هيئة الاشتغال بنعيم الدنيا والتهالك في طلبها فاستنارت بالأنوار القدسية وهذا هو الفضل. وأيضا مهما عرف من الإنسان أنه منفق كانت الهمم معقودة على أن يفتح الله عليه أبواب الرزق ولمثل ذلك من التأثير ما لا يخفى وَاللَّهُ واسِعٌ كامل العطاء كافل للخلف قادر على إنجاز ما وعد عَلِيمٌ بحال من نفق ثقة بوعده وبحال من لم ينفق طاعة للشيطان. ثم نبه على الأمر الذي لأجله يحصل ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان وهو الحكمة والعقل، فإن وعد الشيطان إنما ترجحه الشهوة والنفس. عن مقاتل: إن تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه: أحدها: مواعظ القرآن وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة: 231] وثانيها الحكمة بمعنى الفهم وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم: 12] وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لقمان: 12] وثالثها الحكمة بمعنى النبوة وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة: 251] ورابعها القرآن بما فيه من الأسرار يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم. فتأمل يا مسكين شرف العلم فإن الله تعالى سماه الخير الكثير وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً والتنكير للتعظيم. وسمى الدنيا بأسرها قليلا «قل متاع الدنيا قليل» وذلك أن الدنيا متناهية العدد، متناهية المقدار، متناهية المدة والعلوم، لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها والسعادات الحاصلة منها. واعلم أن كمال الإنسان في شيئين: أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به. فمرجع الأول إلى العلم والإدراك المطلق، ومرجع الثاني إلى فعل العدل والصواب، ولذلك سأل إبراهيم صلى الله عليه وسلم رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً [الشعراء: 83] وهو الحكمة النظرية، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء: 83] وهو الحكمة العملية. ونودي موسى عليه السلام إنى أنا الله لا إله إلا أنا وهو الحكمة النظرية ثم قال: فَاعْبُدْنِي [طه: 14] وهو العملية. وحكي عن عيسى عليه السلام أنه قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ [مريم: 30، 31] وكلها النظرية وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا [مريم: 31، 32] وجميعها العملية. وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19] وهو النظرية ثم قال وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: 19] وهو العملية. وقال في حق جميع الأنبياء يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا [النحل: 2] وأنه الحكمة العلمية ثم قال فَاتَّقُونِ [النحل: 2] وهو الحكمة العملية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 فعلم من هذه الآيات وأمثالها أن كمال حال الإنسان في هاتين القوتين. والحكمة فعلة من الحكم كالنحلة من النحل. ورجل حكيم إذا كان ذا حجا ولب وإصابة رأي، فعيل بمعنى فاعل ويجيء بمعنى مفعول فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: 4] أي محكم. وفي الآية دليل على أن جميع العلوم النظرية والأخلاق المرضية إنما هي بإيتاء الله تعالى. والذين حملوا الإيتاء على التوفيق والإعانة كالمعتزلة ما زادوا إلا أن وسعوا الدائرة إذ لا بد من الانتهاء إليه أية سلكوا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ الذين إذا حصل لهم الحكم والمعارف لم يقفوا عند المسببات، فلم ينسبوا هذه الأحوال إلى أنفسهم بل يرقون إلى أسبابها حتى يصلوا إلى السبب الأول. وأما المعتزلة فإنهم لما فسروا الحكمة بقوة الفهم ووضع الدلائل قالوا: هذه الحكمة لا تفيد بنفسها وإنما ينتفع بها المرء إذا تدبر وتذكر فعرف ماله وما عليه، وعند ذلك يقدم أو يحجم. ثم إنه تعالى نبه على أنه عالم بما في قلب العبد من نية الإخلاص أو الرياء، وأنه يعلم القدر المستحق من الثواب والعقاب على تلك الدواعي والنيات فلا يهمل شيئا منها فقال وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ لله أو للشيطان أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ في طاعة الله أو معصيته فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وتذكير الضمير إما لأنه عائد إلى «ما» وإما لأنه عائد إلى الأخير كقوله: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً [النساء: 112] وهذا قول الأخفش. والنذر ما يلتزمه الإنسان بإيجابه على نفسه وأصله من الخوف كأنه يعقد على نفسه خوف التقصير في الأمر المهم عنده ومنه الإنذار إبلاغ مع تخويف. واعلم أن النذر قسمان: نذر اللجاج والغضب ونذر التبرر. أما الأول فهو أن يمنع نفسه من الفعل أو يحثها عليه بتعليق التزام قربة بالفعل أو الترك كقوله «إن كلمت فلانا أو أكلت كذا أو دخلت الدار أو لم أخرج من البلد فلله علي صوم شهر أو صلاة أو حج أو إعتاق رقبة» ثم إنه إذا كلمه أو أكل أو دخل أو لم يخرج فللعلماء ثلاثة أقوال: أحدها يلزمه الوفاء بما التزم، والثاني: وهو الأصح أن عليه كفارة يمين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم: «كفارة النذر كفارة يمين» «1» ، والثالث: التخيير بين الوفاء وبين الكفارة. وأما نذر التبرر فنوعان: نذر المجازاة وهو أن يلتزم قربة في مقابلة حدوث نعمة أو اندفاع نقمة مثل «إن شفى الله مريضي أو رزقني ولدا فلله علي أن أعتق رقبة أو أصوم أو أصلي كذا» فإذا حصل المعلق عليه لزمه الوفاء بما التزم لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» «2» . ونذر التنجيز وهو أن يلتزم ابتداء غير معلق على شيء كقوله «لله علي   (1) رواه مسلم في كتاب النذر حديث 12. أبو داود في كتاب الأيمان باب 25. الترمذي في كتاب النذور باب 4. النسائي في كتاب الأيمان باب 41. أحمد في مسنده (4/ 144) . [ ..... ] (2) رواه الترمذي في كتاب النذور باب 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 أن أصوم أو أصلي أو أعتق» فالأصح أنه يصح ويلزم الوفاء به لمطلق الخبر. وما يفرض التزامه بالنذر إما المعاصي وإما الطاعات وإما المباحات. فالمعاصي كشرب الخمر والزنا ونذر المرأة صوم أيام الحيض ونذر قراءة القرآن في حال الجنابة لا يصح التزامها بالنذر لأنه لا نذر في معصية الله تعالى، ومن هذا القبيل نذر ذبح الولد أو ذبح نفسه. وإذا لم ينعقد نذر فعل المعصية فعليه أن يمتنع منه ولا يلزمه كفارة يمين، وما روي من أنه صلى صلى الله عليه وسلم قال: «لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين» «1» محمول على نذر اللجاج، وأما الطاعات فالواجبات ابتداء بالشرع كالصلوات الخمس وصوم رمضان لا معنى لالتزامها بالنذر معلقا أو غير معلق، وكذا لو نذر أن لا يشرب الخمر ولا يزني، وإذا خالف ما ذكره فلا يلزمه الكفارة على الأصح. وأما غير الواجبات فالعبادات المقصودة وهي التي وضعت للتقرب بها وعرف من الشارع الاهتمام بتكليف الخلق بإيقاعها عبادة فتلزم بالنذر وذلك كالصوم والصلاة والزكاة والصدقة والحج والاعتكاف والإعتاق وكذا فروض الكفايات التي يحتاج فيها إلى معاناة تعب وبذل مال كالجهاد وتجهيز الموتى، ذكره إمام الحرمين- وفي الصلاة على الجنازة والأمر بالمعروف، وما ليس فيه بذل مال وكثير مشقة الأظهر اللزوم أيضا، وكما يلزم أصل العبادات بالنذر يلزم رعاية الصفة المشروطة فيها إذا كانت من المحبوبات كالصلاة بشرط طول القراءة أو الركوع أو السجود أو الحج بشرط المشي إذا جعلناه أفضل من الركوب وهو الأصح ولو أفرد الصفة بالالتزام. والأصل واجب كتطويل الركوع والسجود أو القراءة في الفرائض، فالأشبة اللزوم لأنها عبادات مندوب إليها. وأما الأعمال والأخلاق المستحسنة كعيادة المريض وزيارة القادم وإفشاء السلام على المسلمين فالأظهر لزومها أيضا بالنذر، وكذا تجديد الوضوء لأن كلها مما يتقرب بها إلى الله سبحانه، وقد رغب الشارع فيها. وأما المباحات التي لم يرد فيها ترغيب كالأكل والنوم والقيام والقعود فلو نذر فعلها أو تركها لم ينعقد نذره، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فسأل عنه فقالوا: نذر أن لا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال صلى الله عليه وسلم: مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه. ولو قال: «لله عليّ نذر» من غير تسمية لزمه كفارة يمين لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر نذرا وسمى فعليه ما سمى، ومن نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين» «2» وَما لِلظَّالِمِينَ الذين يمنعون الصدقات، أو ينفقون أموالهم في المعاصي، أو للرياء، أو لا يوفون بالنذور، أو ينذرون في   (1) رواه أبو داود في كتاب الأيمان باب 19. الترمذي في كتاب النذور باب 1. النسائي في كتاب الأيمان باب 41. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب 16. (2) رواه أبو داود في كتاب الأيمان باب 25. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب 17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 المعاصي مِنْ أَنْصارٍ ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه. والأنصار جمع ناصر كأصحاب في صاحب، أو جمع نصير كأشراف في شريف. وقد يتمسك المعتزلة بهذا في نفي الشفاعة لأهل الكبائر، فإن الشفيع ناصر. ورد بأن الشفيع في العرف لا يسمى ناصرا وإلا كان قوله وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة: 48] بعد قوله: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ [البقرة: 48] تكرارا. وأيضا إن هذا الدليل النافي عام في حق كل الظالمين وفي كل الأوقات، والدليل المثبت للشفاعة خاص في حق البعض وفي بعض الأوقات والخاص مقدم على العام. وأيضا اللفظ لا يكون قاطعا في الاستغراق بل ظاهرا على سبيل الظن القوي فصار الدليل ظنيا والمسألة ليست ظنية فكان التمسك بها ساقطا. سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية فنزلت: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ والتركيب موضوع للصحة والكمال ومنه «فلان صادق المودة» و «هذا خل صادق الحموضة» و «صدق فلان في خبر» إذا أخبر على وجه الصحة والكمال، ومنه «الصداق» لأن عقد الصداق به يتم ويكمل، والزكاة صدقة لأن المال بها يصح ويبقى وبها يستدل على صدق العبد وكماله في إيمانه، فَنِعِمَّا هِيَ من قرأ بسكون العين فمحمول على أنه أوقع على العين حركة خفيفة على سبيل الاختلاس وإلا لزم التقاء الساكنين على غير حدة، ومثله ما يروى في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» «1» بسكون العين. ومن قرأ بكسر النون والعين فلتحصيل المشاكلة، ومن قرأ بفتح النون وكسر العين فعلى الأصل. قال طرفة: نعم الساعون في الأمر المبر قال سيبويه: «ما» في تأويل الشيء أي نعم الشيء هي. وقال أبو علي: الجيد في مثله أن يقال: «ما» في تأويل شيء لأن «ما» هاهنا نكرة إذ لو كانت معرفة بقيت بلا صلة. فإن «هي» مخصوصة بالمدح. فالتقدير: نعم شيئا إبداء الصدقات. فحذف المضاف للدلالة، أو نعم شيئا تلك الصدقات، أو تلك الخصلة وهي الإبداء. قال الأكثرون: المراد بها صدقة التطوع لقوله تعالى: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ والإخفاء في صدقة التطوع أفضل كما أن الإظهار في الزكاة أفضل أما الأول فلأن ذلك أشق على النفس فيكون أكثر ثوابا، ولأنه أبعد عن الرياء والسمعة قال صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله من مسمع ولا مراء ولا منان» والمتحدث بصدقته لا شك أنه يطلب السمعة، والمعطي في ملأ من الناس يطلب الرياء، وقد بالغ قوم في الإخفاء واجتهدوا أن لا يعرفهم الآخذ، فبعضهم كان يلقي الصدقة في يد   (1) أحمد في مسنده (4/ 197) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 الأعمى، وبعضهم يلقيها في طريق الفقير أو في موضع جلوسه بحيث يراها ولا يرى المعطي، وبعض يشدها في ثوب الفقير وهو نائم، وبعض يوصل إلى الفقير على يد غيره، وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة جهد المقل إلى فقير في سر» وقال أيضا «إن العبد ليعمل عملا في السر فيكتبه الله سرا، فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية، فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب في الرياء» وقال صلى الله عليه وسلم: «صدقة السر تطفئ غضب الرب» «1» وأيضا في الإظهار هتك ستر الفقير وإخراجه من حيز التعفف، وربما أنكر الناس على الفقير أخذ تلك الصدقة لظن الاستغناء به فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة، ولأن في الإظهار إذلالا للآخذ وإهانة له، وإذلال مؤمن غير جائزة ولأن الصدقة كالهدية، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أهدي إليه هدية وعنده قوم فهم شركاء فيها» وربما لا يدفع الفقير إليهم شيئا فيقع في حيز اللوم والتعنيف. نعم لو علم أنه إذا أظهرها اقتدى غيره به لم يبعد والحالة هذه أن يكون الإظهار أفضل. وروى ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «السر أفضل من العلانية والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء» واعلم أن الإنسان إذا أتى بعمل وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة، فههنا الشيطان يردد عليه ذكر رؤية الخلق والقلب ينكره. فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فيكون إخفاؤه يفضل علانيته سبعين ضعفا كما روي عن ابن عباس: صدقات السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا. ثم إن لله تعالى عبادا راضوا أنفسهم حتى من الله عليهم بأنوار هدايته، وذهبت عنهم وساوس النفس لأن الشهوات قد ماتت منهم ووقعت قلوبهم في بحار عظمة الله فلم يحتاجوا إلى المجاهدة. فإذا أعلنوا بالعمل أرادوا أن يقتدي بهم غيرهم، فهم كاملون في أنفسهم ويسعون في تكميل غيرهم كما قال تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ [الأعراف: 181] وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الفرقان: 74] فهؤلاء أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يقتدى في الذهاب إلى الله. وأما أن الإظهار في إعطاء الزكاة أفضل فلأن الله أمر الأئمة بتوجيه السعادة لطلب الزكوات، وفي دفعها إلى السعاة إظهارها، ولأنه ينفي التهمة ولهذا روي أنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر صلاته في البيت إلا المكتوبة. وعن ابن عباس: صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا. هذا إذا كان المزكي ممن لا يخفى يساره، فإن لم يعرف باليسار كان الإخفاء له أفضل ولا سيما إذا خاف الظلمة أن يطمعوا في ماله. وعن بعضهم أن معنى قوله خَيْرٌ لَكُمْ أنه في نفسه خير من الخيرات كما يقال الثريد خير من الأطعمة.   (1) رواه الترمذي في كتاب الزكاة باب 28. بلفظ «ان الصدقة لتطفئ غضب الرب» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وإنما قيل وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ لأن المقصود من بعث المتصدق أن يتحرى موضع الصدقة فيصير عالما بالفقراء مميزا لهم عن غيرهم، فإذا تقدم منه هذا الاستظهار ثم أخفاها حصلت الفضيلة فلهذا شرط في الإخفاء أن يحصل معه إيتاء الفقراء. وأما في الإبداء فقلما يخفى حال الفقير فلهذا لم يصرح بالشرط. ونكفر عنكم من قرأ بالنون مرفوعا فهو عطف على محل ما بعد الفاء، لأن الأصل في الشرط والجزاء أن يكونا فعلين. فإذا وقع الجزاء فعلا مضارعا مع الفاء كان خبر مبتدأ محذوف. فقوله: فَهُوَ في تأويل. فيكون خيرا لكم ونكفر بالرفع عطف عليه، ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ونحن نكفر، وأن يكون جملة من فعل وفاعل مستأنفة. ومن قرأ مجزوما فهو عطف على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط كأنه قيل: وإن تخفوها تكن أعظم أجرا. وأما من قرأ وَيُكَفِّرُ بياء الغيبة مرفوعا فالإعراب كما مر في النون والضمير لله أو للإخفاء. وقرىء وتكفر بالتاء مرفوعا ومجزوما والضمير للصدقات، وقرأ الحسن بالياء والنصب بإضمار «إن» ومعناه: وإن تخفوها تكن خيرا لكم وأن يكفر عنكم خير لكم. والتكفير في اللغة الستر والتغطية ومنه «كفر عن يمينه» أي ستر ذنب الحنث. وقوله: مِنْ سَيِّئاتِكُمْ يحتمل أن يكون «من» للتبعيض لأن السيئات كلها لا تكفر وإنما يكفر بعضها، ثم أبهم الكلام في ذلك البعض لأن بيانه كالإغراء على ارتكابها، وأحسن أحوال العبد أن يكون بين الخوف والرجاء. ويحتمل أن يكون للتعليل أي من أجل سيئاتكم كما لو قلت: ضربتك من سوء خلقك أي من أجل ذلك. وقيل: إنها زائدة. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ كأنه ندب بهذا الكلام إلى الإخفاء الذي هو أبعد من الرياء. عن الكلبي أنه قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة القضاء وكانت معه أسماء بنت أبي بكر، فجاءتها أمها قتيلة وجدتها فسألتاها وهما مشركتان فقالت: لا أعطيكما شيئا حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكما لستما على ديني. فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها أن تتصدق عليهما فأعطتهما ووصلتهما. قال الكلبي: ولها وجه آخر، وذلك أن ناسا من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار ورضاع في اليهود، وكانوا ينفعونهم قبل أن يسلموا. فلما أسلموا كرهوا أن ينفعوهم وراودوهم أن يسلموا واستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فأعطوهم بعد نزولها. وعن سعيد بن جبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا إلا على أهل دينكم» فأنزل الله لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تصدقوا على أهل الأديان» وعن بعض العلماء: لو كان شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك. والعلماء أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير المسلم فتكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 الآية مخصوصة بالتطوع. وجوز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة وأباه غيره،. ومعنى الآية ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام فتصدق عليهم لوجه الله ولا توقف ذلك على إسلامهم، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على إيمانهم فأعلمهم الله تعالى أنه بعث بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله ومبينا للدلائل فأما كونهم مهتدين فليس ذلك منك ولا بك. فالهدى هاهنا بمعنى الاهتداء، فسواء اهتدوا أو لم يهتدوا فلا تقطع معونتك وبرك وصدقتك عنهم. وفيه وجه آخر ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء بواسطة توقيف الصدقة على إيمانهم، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به، بل الإيمان المطلوب منهم هو الإيمان طوعا واختيارا وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إثبات للهداية التي نفاها أولا. لكن المنفي أولا هو الهداية أي الاهتداء على سبيل الاختيار فكذا الثاني. ومنه يعلم أن الاهتداء الاختياري واقع بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وهذا التفسير هو المناسب لسبب النزول. وفي الكشاف: أن المعنى لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه فينتهي عما نهى عنه. ثم ظاهر قوله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ إنه خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد به هو وأمته، لأن ما قبله عام إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ وما بعده عام وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ من مال فَلِأَنْفُسِكُمْ ثوابه فليس يضركم كفرهم أو فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أي لستم في صدقتكم على أقاربكم المشركين تقصدون إلا وجه الله من صلة رحم أو سد خلة مضطر، قد علم الله هذا من قلوبكم. وقيل: خبر في معنى نهي أي لا تنفقوا إلا لله. وقيل: معناه لا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم المفيد للمدح حتى تبتغوا وجه الله، وقيل: ليست نفقتكم إلا لطلب ما عند الله فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله؟ وفائدة إقحام الوجه أنك إذا قلت فعلته لوجه زيد كان أشرف من قولك فعلته له، لأن وجه الشيء أشرف ما فيه، ثم كثر حتى عبر به عن الشرف مطلقا. وأيضا قول القائل: «فعلت هذا الفعل له» احتمل الشركة وأن يكون قد فعله لأجله ولغيره، أما إذا قال «فعلت لوجهه» فلا يحتمل الشركة عرفا وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه في الآخرة أضعافا مضاعفة، وإنما حسن قوله إِلَيْكُمْ مع التوفية لأنها تضمنت معنى التأدية وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا. ثم لما بيّن أنه يجوز صرف الصدقة إلى أي فقير كان، أراد أن يبين أن أشد الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 استحقاقا من هو فقال لِلْفُقَراءِ أي ذلك الإنفاق لهؤلاء الفقراء كما لو تقدم ذكر رجل فتقول: عاقل لبيب أي ذلك الذي مر وصفه عاقل لبيب، وقيل: اعمدوا للفقراء أو أجلوا ما تنفقون للفقراء، أو المراد صدقاتكم للفقراء. قيل: نزلت في فقراء المهاجرين وكانوا نحو أربعمائة رجل وهم أصحاب الصفة، لم يكن لهم سكن ولا عشائر بالمدينة، كانوا ملازمين للمسجد يتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى. وعن ابن عباس: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال: أبشروا يا أصحاب الصفة فمن بقي من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنه من رفقائي. ثم إنه تعالى وصف هؤلاء الفقراء بخمس صفات: الأولى قوله الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي حصروا أنفسهم ووقفوا على الجهاد في سبيل الله لأن سبيل الله مختص بالجهاد في عرف القرآن، ولأن وجوب الجهاد في ذلك الزمان كان آكد فكانت الحاجة إلى من يحبس نفسه للمجاهدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد، فموضع الصدق فيهم يكون أوقع سدا لخلتهم وتقوية لقلوبهم وإعلاء لمعالم الدين. وعن سعيد بن المسيب واختاره الكسائي، أن هؤلاء قوم أصابتهم جراحات في الغزوات فأحصرهم المرض والزمانة، وعن ابن عباس: هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد فعذرهم الله. الثانية لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي سيرا فيها وذلك إما لاشتغالهم بالعبادة أو بالجهاد فلا يفرغون للكسب والتجارة، وإما لأن خوفهم من الأعداء يمنعهم من السفر، وإما لأن مرضهم وعجزهم يمنعهم منه. الثالثة يَحْسَبُهُمُ يظنهم الْجاهِلُ بحالهم ومن لم يخبر أمرهم أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ من أجل تركهم المسألة وإظهارهم التجمل تكلفا منهم. والتعفف إظهار العفة وهي ترك الشيء والكف عنه. الرابعة تَعْرِفُهُمْ أي أنت يا محمد أو كل راء بِسِيماهُمْ والسيما والسيمياء العلامة التي يعرف بها الشيء من السمة العلامة فوزنه «عفلى» قال مجاهد: سيماهم التخشع والتواضع. الربيع والسدي: أثر الجهد من الجوع والفقر. الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع. أبو زيد: رثاثة ثيابهم. وقيل: المهابة في العيون. وقيل: آثار الفكر. روي أنه صلى الله عليه وسلم كان كثير الفكر. الخامسة لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي إلحاحا وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطى له. والتركيب يدل على الستر كأنه لزم المسئول لزوم الساتر للمستور. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب الحي الحليم المتعفف ويبغض البذيء السآل الملحف» قيل: معنى الآية أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحفوا، وأورد عليه أنه ينافي التعفف الذي وصفوا به قبل. فالوجه أن يراد نفي السؤال والإلحاف جميعا كقوله: «ولا ترى الضب بها يتجحر» أي لا ضب ولا انجحار ليكون موافقا لوصفهم بالتعفف. وفائدة الكلام التنبيه على سوء طريقة الملحف كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 إذا حضر عندك رجلان أحدهما عاقل وقور والآخر طياش خفيف وأردت أن تمدح أحدهما وتذم الآخر قلت: فلان رجل عاقل وقور قليل الكلام ليس بخواض ولا مهذار. لم يكن غرضك من قولك «ليس بخواض ولا مهذار» وصفه بذلك لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عنه، بل غرضك التنبيه على سوء طريقة الثاني. وقيل: معناه لا يتركون السؤال إلا بإلحاح شديد منهم على أنفسهم لشدة حاجتهم كقوله: ولي نفس أقول لها إذا ما ... تنازعني لعلي أو عساني وقيل: إن عدم السؤال بطريق الإلحاف يتضمن نفي السؤال عنهم رأسا لأن كل سائل فلا بد أن يلح في بعض الأوقات كأنه يقول: إذا أرقت ماء وجهي فلا أرجع بغير مقصود. وقيل: لعل الساكت عن السؤال يطهر من نفسه أمارات الحاجة فيكون في حال سكوته أنطق ما يكون فترق القلوب له، فالمراد أنهم وإن سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السؤال من رثاثة الحال وآثار الانكسار ما يقوم مقام السؤال فإن ذلك نوع إلحاف، بل يتجملون للخلق بحيث لا يطلع على سرهم غير الخالق. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يفتح أحد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ومن يستغن يغنه الله ومن استعف يعفه الله» «1» «لأن يأخذ أحدكم حبلا يحتطب به فيبيعه بمد من تمر خير له من أن يسأل الناس» «2» وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيه أن ثواب هذا الإنفاق الذي هو أعظم المصارف لا يكتنه كنهه فلذلك وكل إلى علم الله تعالى بخلاف الآية المتقدمة فإنه لما رغب في التصدق على أهل الأديان قال في آخره وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ كما لو قال السلطان لعبده الذي حسن عنده موقع خدمته: إني بحسن خدمتك عالم ولحقك عارف. كان أبلغ مما لو قال: إن أجرك واصل إليك. ثم أرشد في خاتمة الآيات إلى أكمل وجوه الإنفاقات بقوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ الآية. وذلك أن الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة يكون ذلك منهم دليلا على الحرص البالغ والاهتمام التام كلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه متعللين بوقت وحال. والباء بمعنى «في» أي في الليل والنهار وسِرًّا وَعَلانِيَةً منصوبان على الظرفية أيضا أي في أوقات السر والعلن، أو على وصف المصدر أي إنفاقا سرا وعلانية، أو على الحال لكونه بيانا عن كيفية الإنفاق. وقيل: لما نزل   (1) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب 17. أحمد في مسنده (1/ 193) . (2) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 50، 53. الترمذي في كتاب الزكاة باب 38. النسائي في كتاب الزكاة باب 85. أحمد في مسنده (1/ 124) ، (2/ 243) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير إلى أصحاب الصفة وبعث عليّ بوسق من تمر ليلا فنزلت الآية. وفي تقديم ذكر الليل وتقديم السر على العلانية دليل على أن صدقة علي رضي الله عنه كانت أكمل. وعن ابن عباس: ما كان علي رضي الله عنه يملك إلا أربعة دراهم فتصدق بدرهم نهارا وبدرهم ليلا وبدرهم سرا وبدرهم علانية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ فقال: أن استوجب ما وعد لي ربي. فقال: ذلك لك ونزلت الآية. وقيل: نزلت في أبي بكر حين تصدق بأربعين ألف دينار، عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة في السر، وعشرة في العلانية. وقيل: في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله. وكان أبو هريرة إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. التأويل: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ فيه صلاح المتصدق من وجوه: أحدها لو فسر الطيب بالحلال فليقبل الله منه، ولو فسر بالجودة فليجز به بقدر جودته. وثانيها ليثاب على التعظيم لأمر الله. وثالثها ليثاب على الشفقة على خلق الله. ورابعها ليثاب على الإيثار وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] وخامسها ليستحق البر لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] . وسادسها ليثاب على زيادة الإيمان وأن المتصدق في صدقته كالزارع في زراعته. فكما أن الزارع كلما ازداد إيقانه بحصول الثمرة اجتهد في جودة البذر فكذا المتصدق كلما ازداد إيمانه بالبعث والجزاء زاد في جودة صدقته لتحققه إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها [النساء: 40] وقدم ذكر الكسب على ذكر المخرج من الأرض لقوله صلى الله عليه وسلم «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسب يده» «1» وفي الآية معنى آخر لطيف أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ من تزكية النفوس وتصفية القلوب وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ من أرض طينتكم من تحلية سرائركم بمكارم الأخلاق، ولتكن النفقة طيبة من خباثة الشبهات طيبا إنفاقها من خباثة الأغراض الدنيوية والأخروية، طيبا منفقها من خباثة الالتفات والنظر في الإنفاق إلى غير الله، فإذا كانت النفقة طيبة في نفسها فلله قبول طيب من الوسائط فيأخذها بيده ويربيها قبل أن تقع في يد الفقير، وإذا كانت اليد طيبة في إنفاقها فلله قبول طيب فإنها أبلغ عند الله من عملها، وإذا كان القلب المنفق طيبا عن الالتفات إلى غير الله فلله قبول طيب عن الأغيار بين أصبعين من أصابع الرحمن، وهذا   (1) رواه النسائي في كتاب البيوع باب 1. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 1. أحمد في مسنده (6/ 31) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 تحقيق قوله صلى الله عليه وسلم «إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب» «1» ولستم بآخذي هذا الخبيث لا في أصل الفطرة ولا في عهد الخلقة لأنكم خلقتم من أصل طيب وطينة طيبة. فالروح من أطيب الأطايب لأنه أقرب الأقربين إلى حضرة رب العالمين، والجسد من التراب الطيب فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [النساء: 43] ثم أحياكم بالإيمان فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النحل: 97] ثم يرزقكم من الطيبات كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: 57] فليس منكم شيء خبيث في الظاهر والباطن إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ فتقبلوه تكلفا وقسرا «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويمجسانه» «2» فلما لم تكن الخباثة ذاتية للإنسان بل كانت طارئة عليه عارية لديه أنزل الله تعالى كلمة طيبة هي «لا إله إلا الله» ليطيب بالمواظبة عليها أخلاقهم ويستحقوا يوم القيامة أن يقال لهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: 73] وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ فمن كمال غناه أراد أن يغنيكم بثواب الإنفاق حَمِيدٌ على ما أنعم بهذا التكليف ليتوسل به إلى الكمال الأبدي. الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ظاهرا فهو يأمركم بالفحشاء باطنا لأنها اسم جامع لكل سوء فيتضمن البخل والحرص واليأس من الحق والشك في مواعيد الحق بالخلف والتضعيف وسوء الظن بالله وترك التوكل عليه ونسيان فضله وتعلق القلب بغيره ومتابعة الشهوات وترك العفة والقناعة والتمسك بحب الدنيا وهو رأس كل خطيئة وبذر كل بلية. فمن فتح على نفسه باب وسوسة فسوف يبتلى بهذه الآفات وأضعافها، ومن فتح على نفسه باب عدة الحق أفاض عليه سجال غفرانه وبحار فضله وإحسانه. فالمغفرة تكفير الذنوب والآثام، والفضل ما لا تدركه الأوهام لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] فمن ذلك أن يفتح على قلبه باب حكمته عاجلا كما قال يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وليست الحكمة مما يحصل بمجرد التكرار كما ظنه أهل الإنكار والذين لم يفرقوا بين المعقولات وبين الأسرار والحكم الإلهيات. فالمعقولات ما تكتسب بالبرهان وهي مشتركة بين أهل الأديان، والأسرار الإلهية مواهب الحق لا ترد إلا على قلوب الأنبياء والأولياء نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ [النور: 35] وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ الذين لم يقفوا عند القشور وارتقوا إلى لب عالم النور. ثم أخبر عن توفية الأجور للمنفق في المفروض والمنذور وَما لِلظَّالِمِينَ الذين وضعوا الشيء في غير موضعه فبدلوا بالإنفاق النفاق وبالإخلاص الرياء مِنْ أَنْصارٍ ولا ناصر بالحقيقة إلا الله، ومن أذن له الله   (1) رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث 64. الترمذي في كتاب تفسير سورة البقرة باب 36. (2) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 92. أبو داود في كتاب السنة باب 17. الترمذي في كتاب القدر باب 5. الموطأ في كتاب الجنائز حديث 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 إبداء الصدقات ضد إخفائها، وإخفاؤها تخليتها عن شوب الحظوظ وإليه الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله» ثم قال: «ورجل تصدق بيمينه فأخفاها عن شماله» «1» أي عن حظوظ نفسه لتكون خالصة لوجه الله. فصاحبها يكون في ظل الله قال صلى الله عليه وسلم: «إن المرء يكون في ظل صدقته يوم القيامة» «2» أي إن كانت صدقته لله كان في ظل الله، وإن كانت للجنة كان في ظل الجنة، وإن كانت للهوى كان في ظل الهاوية. فمعنى قوله: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ أي تظهروها لطمع ثواب الجنة فإن طمع الصواب شوب حظ فَنِعِمَّا هِيَ فإنها مرتبة الأبرار إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار: 13] وَإِنْ تُخْفُوها عن كل حظ ونصيب وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ الذين تعطونها إياهم لوجه الله لا لحظ النفس فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأن جزاءها لقاء الله. ثم أخبر عن الهداية وأن ليس لأحد عليها الولاية وأن الله فيها ولي الكفاية، يا محمد لك المقام المحمود واللواء المعقود ولك الوسيلة وعلى الأنبياء الفضيلة، وأنت سيد الأولين والآخرين وأنت أكرم الخلائق على رب العالمين ولكن لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ولكن الهداية من خصائص شأننا ولوائح برهاننا، أنت تدعوهم ونحن نهديهم. ثم نبه على أن أفضل وجوه الإنفاق هو الفقير الذي أحصرته المحبة في الله عن طلب المعاش لا الذي أحصره الفقر والعجز عن طلب الكفاف، أخذ عليه سلطان الحقيقة كل طريق فلا له في المشرق مذهب ولا له في المغرب مضرب، ولا منه إلى غيره مهرب. كأن فجاج الأرض ضاقت برحبها ... عليه فما تزداد طولا ولا عرضا يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ لأنهم مستورون تحت قباب الغيرة محجوبون عن معرفة أهل الغيرية «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري يا محمد» تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لأنك لست بك فلست غيري، ما رأيت إذ رأيت ولكن الله رأى وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] وإن سيماهم لا يرى بالبصر الإنساني بل يرى من نور رباني، فمن سيماهم في الظاهر من ظهور آثار أحوال الباطن أنهم لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً لا بقليل ولا بكثير. لأن اثار أنوار غنى قلوبهم انعكست على ظواهرهم فتنورت بالتعفف نفوسهم، واضمحلت ظلمة فقرهم وفاقتهم وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ من المال أو الجاه أو خدمة بالنفس أو إكرام أو إرادة حتى السلام على هؤلاء السادة استحقاقا وإجلالا لا استخفافا وإذلالا   (1) رواه البخاري في كتاب الأذان باب 36. الترمذي في كتاب الزهد باب 53. الموطأ في كتاب الشعر حديث 14. (2) رواه أحمد في مسنده (4/ 233) ، (5/ 411) بلفظ «إن ظل المؤمن يوم القيامة صدقته» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ومن سيماهم في الظاهر أنهم إذا وجدوا مالا لم يبيعوا عزة الفقر به بل ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ عند مليك مقتدر وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ في الدنيا على ما يفوتهم لأنهم تركوها لله وهو لهم خلف عن كل تلف، ولا في الآخرة لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 34] . [سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 281] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) القراآت: الرِّبا حيث كان بالإمالة: حمزة وعلي وخلف. وهذا إذا كان معرّفا ولا يميلون المنكر في الوصل لأجل التنوين كقوله: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً [الروم: 39] ويميلون في الوقف لزوال التنوين فَأْذَنُوا ممدودة مكسورة الذال: حمزة وحماد وأبو بكر غير ابن غالب والبرجمي حمزة يقف بغير همزة أي بالتليين. الباقون فأذنوا بسكون الهمزة وفتح الذال لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ الأول مبني للمفعول والثاني للفاعل المفضل. الباقون بالعكس مَيْسَرَةٍ بضم السين: نافع مَيْسَرَةٍ بضم السين وإثبات التاء: زيد عن يعقوب، الباقون بفتح السين وعدم التاء. وَأَنْ تَصَدَّقُوا خفيفا بحذف إحدى التاءين: عاصم. الباقون بتشديد الصاد لإدغام تاء التفعل في الصاد. تُرْجَعُونَ بفتح التاء وكسر الجيم: أبو عمرو ويعقوب عباس مخير. الباقون مبنيا للمفعول. الوقوف: مِنَ الْمَسِّ ط، مِثْلُ الرِّبا م كيلا يظن أن ما بعده من قولهم وإن أمكن جعل وَأَحَلَّ حالا بإضمار «قد» وَحَرَّمَ الرِّبا ط لابتداء الشرط واستئناف المعنى، ما سَلَفَ ط لتناهي الجزاء، إِلَى اللَّهِ ج، النَّارِ ج، خالِدُونَ هـ، الصَّدَقاتِ ط، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 أَثِيمٍ هـ عِنْدَ رَبِّهِمْ ج، يَحْزَنُونَ هـ، مُؤْمِنِينَ هـ، وَرَسُولِهِ ج، أَمْوالِكُمْ ج لأن ما بعده مستأنف أو حال عامله معنى الفعل في لام التمليك، وَلا تُظْلَمُونَ هـ، مَيْسَرَةٍ ط، تَعْلَمُونَ هـ، لا يُظْلَمُونَ هـ. التفسير: الحكم الثاني من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع حكم الربا. وذلك أنّ بين الصدقة وبين الربا مناسبة التضاد، فإن الصدقة تنقيص مأمور بها، والربا زيادة منهي عنها. وأيضا لما أمر بالإنفاق من طيبات المكاسب وجب أن يردف بالكسب الحرام وهو الربا، والحلال وهو البيع ما يناسب من الدين والرهن وغيرهما فقال الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أما الأكل فيعم جميع التصرفات إلا أنه عبر عن الشيء بمعظم مقاصده وكيف لا وقد «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه والمحلل له» «1» وأيضا نفس الربا لا يمكن أن يؤكل ولكن يصرف إلى المأكول فيؤكل، فالمراد التصرف فيه. والربا في اللغة الزيادة من ربا يربو، ومن أمالها فلمكان كسرة الراء. وهو في المصاحف مكتوب بالواو وأنت مخير في كتابتها بالألف والواو. وفي الكشاف: كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة. وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع. ثم الربا قسمان: ربا النسيئة وربا الفضل. أما الأول فهو الذي كانوا يتعارفونه في الجاهلية، كانوا يدفعون المال مدة على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا، ثم إذا حل الدين طالب المديون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل. وأما ربا الفضل فأن يباع منّ من الحنطة بمنوين مثلا. والمروي عن ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم الأول وكان يقول: لا ربا إلا في النسيئة. ويجوّز ربا النقد فقال له أبو سعيد الخدري: أشهدت ما لم نشهد أسمعت ما لم نسمع؟ فروى له الحديث المشهور في هذا الباب. وله روايات منها. «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطى فيه سواء» «2» ثم قال أبو سعيد: لا أرني وإياك في ظل بيت ما دمت على هذا. فيروى أنه رجع عنه. قال محمد بن سيرين: كنا في بيت معنا عكرمة فقال رجل: يا عكرمة، أما تذكر ونحن في بيت فلان ومعنا ابن عباس؟ فقال: إنما كنت   (1) رواه البخاري في كتاب البيوع باب 24. مسلم في كتاب المساقاة حديث 106، 107. أبو داود في كتاب البيوع باب 4. الترمذي في كتاب البيوع باب 2. النسائي في كتاب الطلاق باب 13. أحمد في مسنده (1/ 83، 87) . (2) رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث: 80، 82. أبو داود في كتاب البيوع باب 12. الترمذي في كتاب البيوع باب 23. النسائي في كتاب البيوع باب 42، 43. الدارمي في كتاب البيوع باب 41. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 استحللت الصرف برأيي ثم بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمه فاشهدوا أني قد حرمته وبرئت إلى الله منه. حجة ابن عباس أن قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يتناول بيع الدرهم بالدرهمين نقدا. وقوله: وَحَرَّمَ الرِّبا لا يتناوله لأن كل زيادة ليست محرمة فوجب أن تبقى على الحل ولا يخرج إلا العقد المخصوص الذي كان يسمى فيما بينهم ربا وهو ربا النسيئة. وقد تأكد هذا الرأي بما روى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا في النسيئة» «1» وفي رواية «لا ربا فيما كان يدا بيد» «2» وذكر أبو المنهال أنه سأل البراء بن عازب وزيد بن أرقم فقالا: كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف فقال: إن كان يدا بيد فلا بأس، وإن كان نسيئة فلا يصح. وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على حرمة الربا في القسمين. أما النسيئة فبالقرآن، وأما النقد فبالخبر، ثم إن الخبر دل على حرمة ربا النقد في الأشياء الستة: النقدان والمطعومات الأربعة. ولا شك أن الربا إنما ثبت فيها لمعنى، فإذا عرف ذلك المعنى ألحق بها ما يشاركها فيه. أما الأشياء الأربعة فللشافعي في علة الربا فيها قولان: الجديد أن العلة الطعم لما روي عن معمر بن عبد الله قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «الطعام بالطعام مثل بمثل» «3» علق الحكم باسمي الطعام، والحكم المعلق بالاسم المشتق معلل بما منه الاشتقاق كالقطع المعلق باسم السارق، والجلد المعلق باسم الزاني. والقديم أن العلة فيها الطعم مع الكيل أو الوزن لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب وزنا بوزن والبر بالبر كيلا بكيل» فعلى هذا يثبت الربا في كل مطعوم مكيل أو موزون دون ما ليس بمكيل ولا موزون كالسفرجل والرمان والبيض والجوز. وقال مالك: العلة الاقتيات، فكل ما هو قوت أو يستصلح به القوت كالملح يجري فيه الربا. وعند أبي حنيفة العلة الكيل حتى ثبت الربا في الجص والنورة. وعن أحمد رواية كأبي حنيفة والأخرى كالجديد. وأما النقدان فعن بعض الأصحاب أن العلة فيهما لعينهما لا لعلة. والمشهور أن العلة فيهما صلاحية الثمنية الغالبة فيشمل التبر والمضروب والحلي والأواني المتخذة منها، ولا يتعدى الحكم إلى الفلوس على الأصح وإن راجت رواج الذهب والفضة لانتفاء العلة. وقال أحمد وأبو حنيفة: العلة فيهما الوزن فيتعدى الحكم إلى كل موزون كالحديد والرصاص. فهذا ضبط المذاهب وتفاريعها إلى الفقه. وأما السبب في تحريم الربا   (1) رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث 102. البخاري في كتاب البيوع باب 79. النسائي في كتاب البيوع باب 49. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 49. (2) رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث 103. (3) رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث 93. أحمد في مسنده (6/ 400) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 فهو أن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقدا أو نسيئة يحصل له زيادة درهم من غير عوض، وأخذ مال المسلم من غير عوض محرم لقوله صلى الله عليه وسلم: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» «1» وإبقاء رأس المال في يده مدة مديدة وتمكينه من أن يتجر فيه وينتفع به أمر موهوم فقد يحصل وقد لا يحصل، وأخذ الدرهم الزائد متيقن وتفويت المتيقن لأجل الموهوم لا يخلو من ضرر. وقيل: سبب تحريمه أنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب، لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقدا أو نسيئة أعرض عن وجوه المكاسب فيختل نظام العالم. وقيل: لما يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض، ولأنه تمكين للغني من أن يأخذ مالا زائدا من الفقير. وقيل: إن حرمة الربا قد ثبتت بالنص ولا يجب أن تكون حكمة كل تكليف معلومة لنا. لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ التخبط الضرب على غير استواء ومنه خبط العشواء وتخبط الشيطان. قيل: من زعمات العرب يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع فورد على ما كانوا يعتقدون. والمس الجنون رجل ممسوس أي مسه الجني فاختلط عقله، وكذلك جن الرجل ضربته الجن وهذا أيضا من زعماتهم. وقيل: من عادة الناس إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان كما في قوله تعالى: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [الصافات: 65] فورد القرآن على ذلك. وقيل: إن الشيطان يمسه بالوسوسة المؤذية التي يحدث عندها الفزع فيصرع كما يصرع الجبان في الموضع الخالي، ولهذا لا يوجد هذا الخبط في العقلاء وأرباب الحزم واللب. وأكثر المسلمين على أن الشيطان لا يبعد أن يكون قويا على الصرع والقتل والإيذاء بتقدير الله تعالى. وللمفسرين في الآية أقوال: أحدها أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف. وقوله: مِنَ الْمَسِّ يتعلق ب لا يَقُومُونَ أي لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع. أو يتعلق ب يَقُومُ أي كما يقوم المصروع من جنونه، وقال ابن قتيبة: يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم فأثقلهم. وقيل: إنه مأخوذ من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا [الأعراف: 201] وذلك أن الشيطان يدعوه إلى الهوى، والملك يجره إلى التقوى، فيقع هناك حركات مضطربة وأفعال مختلفة وهو الخبط. فإذا مات آكل الربا على ذلك أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذل الحجاب بينه وبين الله   (1) رواه أحمد في مسنده (1/ 446) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 تعالى. ذلِكَ العقاب بسبب قولهم إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وذلك أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانونا في الحل حتى شبهوا به البيع وإلا كان حق النظم في الظاهر أن يعكس فيقال: إنما الربا مثل البيع. لأن الكلام في الربا لا في البيع، ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق، ثم إنهم كانوا يعولون في تحليل الربا على هذه الشبهة وهي أن من اشترى ثوبا بعشرة ثم باعه بأحد عشر نقدا أو نسيئة فهذا حلال، فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر لا فرق بين الصورتين إذا حصل التراضي من الجانبين، والبياعات إنما شرعت لدفع الحاجات. ولعل الإنسان يكون صفر اليد في الحال وسيحصل له أموال كثيرة في المآل فإعطاؤه الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال. فأجاب الله تعالى عنها بحرف واحد وهو قوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا وحاصله إنكار التسوية وأن النص لا يعارض بالقياس فإن ذلك من عمل إبليس، أمره الله تعالى بالسجود فعارض النص بالقياس وقال أنا خير منه. ثم ظاهر الآية يدل على أن الوعيد إنما لحقهم باستحلالهم الربا دون الإقدام على أكله مع اعتقاد التحريم، وعلى هذا التقدير لا يثبت بهذه الآية كون أكل الربا من الكبائر، ويجب تأويل مقدمة الآية بأن المراد من أكلهم الربا استطابته واستحلاله كما يقال: فلان يأكل مال الله قضما وهضما. أي يستحل التصرف فيه إلا أن جمهور المفسرين حملوا الآية على وعيد من يتصرف في مال الربا لا على وعيد من يستحل هذا العقد. قيل: ويحتمل أن يكون قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا من تمام كلام الكفار على سبيل الاستبعاد. وأكثر المفسرين على خلافه لأن جعله من كلام الكفار لا يتم إلا بإضمار هو أن يحمل ذلك على الاستفهام بطريق الإنكار، أو على الرواية عن قول المسلمين والإضمار خلاف الأصل. وأيضا لو كان من تمام كلامهم فلم يكشف الله تعالى عن فساد شبهتهم، فلم يكن قوله بعد ذلك فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ لائقا بالمقام. وأيضا المسلمون لم يزالوا متمسكين في البيع بهذه الآية، ولولا أنهم علموا أن ذلك كلام الله لا كلام الكفار لم يصح منهم الاستدلال بها. وهاهنا بحث للشافعي وهو أن الآية من المجملات التي لا يجوز التمسك بها بناء على أن الاسم المفرد باللام لا يفيد العموم وليس فيه إلا تعريف الماهية فيكفي في العمل به ثبوت صورة واحدة. ولو سلم إفادة العموم فلا شك أن إفادته مما لو قيل: وأحل الله البياعات: بلفظ الجمع. ومع ذلك فقد تطرق إليه تخصيصات خارجة عن الحصر والضبط، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله لأنه قريب من الكذب. نعم إطلاق اللفظ المستغرق على الأغلب عرف مشهور، وأيضا روي أن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا وما سألناه عن الربا. ولو كان هذا اللفظ مفيدا للعموم لم يقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 ذلك. وأيضا قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يقتضي أن يكون كل بيع حلالا، وقوله: وَحَرَّمَ الرِّبا يقتضي أن يكون كل ربا حراما. لأن الربا هو الزيادة ولا بيع إلا ويقصد به الزيادة، وإذا تعارضا وتساقطا ووجب الرجوع إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم. فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ فمن بلغه وعظ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى امتنع من استحلال الربا وتبع النهي فَلَهُ ما سَلَفَ فلا يؤاخذ بما مضى منه لأنه أخذ قبل نزول التحريم كقوله إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] عن الزجاج: والتنوين في مَوْعِظَةٌ للتعظيم أو للتقليل أي موعظة بليغة أو شيء من المواعظ. وقيل: النهي المتأخر كيف يؤثر في الفعل المتقدم حتى يكون ما سلف ذنبا؟ فالمراد له ما أكل من الربا وليس عليه رد ما سلف. عن السدي: والسلوف التقدم ومنه الأمم السالفة، وسلافة الخمر صفوتها لأنه أول ما يخرج من عصيرها. وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ لأنه إن انتهى عن أكل الربا كما انتهى عن استحلاله فهو المقر بدين الله العامل بتكليفه فيستحق المدح والثواب، وإن انتهى عن الاستحلال دون الأكل فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له لقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] وَمَنْ عادَ إلى استحلال الربا وأنه مثل البيع فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لأنه كفر باستحلال ما هو محرم إجماعا. وأما القائلون بتخليد الفساق فيقولون: ومن عاد إلى أكل الربا. ثم إنه تعالى لما بالغ في الزجر عن الربا وكان قد بالغ في الآي السالفة في الحث على الصدقات، ذكر ما يجري مجرى الداعي إلى ترك الربا وفعل الصدقة فقال يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ والمحق نقص الشيء حالا بعد حال ومنه «محاق القمر» وكل من محق الربا وإرباء الصدقات إما في الدنيا وإما في الآخرة. وذلك أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أن تؤل عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن ماله. عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا وإن كثر إلى قل» وذلك لدعاء الناس عليه وبغضهم إياه لسقوط عدالته وشهرته بالفسق والعدوان، وربما يطمع الظلمة في ماله ظنا منهم أن المال في الحقيقة ليس له. وعن ابن عباس في تفسير هذا المحق أن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهادا ولا حجا ولا صلة. ثم إن مال الربا لا يبقى عند الموت وتبقى التبعة عليه. وقد ثبت في الحديث «أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام» «1» هذا حال الغني من الحلال فكيف حال الغني من الحرام المقطوع بحرمته؟ قال القفال: نظير قوله يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا المثل الذي ضربه فيما تقدم كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ [البقرة: 264] ونظير قوله: وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ المثل الآخر كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ [البقرة: 261] عن أبي هريرة   (1) رواه أبو داود في كتاب العلم باب 13. أحمد في مسنده (3/ 63) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد» «1» وأيضا المتصدق يزداد كل يوم جاهه وذكره الجميل وتميل القلوب إليه وتنقطع الأطماع عنه متى اشتهر منه أنه متشمر لإصلاح مهمات الضعفاء وسد خلة الفقراء، فتبين أن الربا وإن كان زيادة في المال إلا أنه نقصان في المآل، والصدقة وإن كانت نقصانا في الحال إلا أنها زيادة في الاستقبال. فعلى العاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الحس والطبع ويعوّل على ما ندب إليه العقل والشرع وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ الكفار فعال من الكفر ومعناه المقيم على ذلك، والصيغة للمزاولة ك «تمار وقوال» والأثيم «فعيل» بمعنى «فاعل» وهو أيضا للمبالغة في الاستمرار على اكتساب الآثام، وذلك لا يليق إلا بمن ينكر تحريم الربا فيكون جاحدا. ووجه آخر وهو أن يكون الكفار عائدا إلى المستحل، والأثيم إلى الآكل مع اعتقاد التحريم. ويحتمل أن يعود كلاهما إلى أكل الربا ويكون تغليظا في أمر الربا وإيذانا بأنه من فعل الكفرة لا من فعل المسلمين. وفي الآية دلالة على أنه تعالى سبقت رحمته عضبه. بيانه أنه لم ينف المحبة إلا عن الجامع بين الإصرار على الكفر وبين المواظبة على سائر الآثام كالربا. فإن استحلاله كفر وهو في نفسه إثم مذموم في جميع الأديان، لأنه سلب مال المحتاج بنوع من الإكراه والإلجاء، فتبقى الآية ساكنة عمن جمع بين الأمرين لا على سبيل الإصرار والمواظبة وعن الذي لم يجمع بينهما. نعم قد عرف بدليل آخر أن الكفار الذي لم يواظب على سائر الآثام لا يستأهل محبة الله تعالى وذلك لا ينافي السكوت عن حكمه هاهنا والله أعلم. ثم ذكر الترغيب عقيب الترهيب على عادته من ذكر الوعد مع الوعيد فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية. فاحتج به من قال العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان كما مر. وأجيب بأنه قال في الآية: وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ مع أن الصلاة والزكاة من الأعمال الصالحة. ورد بأن الأصل حمل كل لفظ على فائدة جديدة ترك العمل به عند التعذر فيبقى في غيره على الأصل لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ لم يقل «على ربهم» لأن الأول يجري مجرى ما إذا باع بالنقد وذلك النقد حاضر متى شاء البائع أخذه، والثاني جار مجرى البيع في الذمة نسيئة، ولا شك أن الأول أفضل وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ عن ابن عباس: أي فيما يستقبلهم من أحوال القيامة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بسبب ما تركوه في الدنيا، فإن المنتقل من حال إلى حال أخرى فوقها ربما يتحسر على بعض ما فاته من الأحوال السالفة وإن كان مغتبطا بالثانية   (1) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 8. مسلم في كتاب الزكاة حديث 63. الترمذي في كتاب الزكاة باب 28. النسائي في كتاب الزكاة باب 48. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 لأجل إلف وعادة، فبيّن تعالى أن هذا القدر من الندامة لا يلحق أهل الثواب والكرامة. وقال الأصم: لا خوف عليهم من عذاب يومئذ ولا هم يحزنون بسبب أنهم فاتهم النعيم الزائد الذي حصل لغيرهم من السعداء لأنه لا منافسة في الآخرة. وأيضا إنهم لا يحزنون بسبب إنه لم يصدر منا طاعة أزيد مما صدر حتى صرنا بها مستحقين بثواب أزيد مما وجدناه لأن هذه الخواطر لا توجد في الجنة. وهاهنا سؤال وهو أن المرأة إذا بلغت عارفة بالله، ولما بلغت حاضت. وعند انقطاع حيضها ماتت. أو الرجل بلغ عارفا بالله، وقبل أن تجب عليه الصلاة والزكاة مات. فهما بالاتفاق من أهل الثواب مع خلوهما عن الأعمال، فكيف وقف الله هاهنا حصول الأجر على حصول الأعمال؟ والجواب أن الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها، وقد دلت الآية على أن كل مؤمن عمل صالحا فله الأجر فلا يلزم العكس الكلي ثم إنه تعالى لما بيّن أن من انتهى عن الربا فله ما سلف كان يجوز أن يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه وبين الباقي في ذمة القوم فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا فبين أنه يحرم أخذ ما بقي من الربا في ذمتهم. فإن قيل: كيف قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ثم قال في آخره إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؟ فالجواب أن هذا كما يقال: إن كنت أخي فأكرمني. معناه أن من كان أخا أكرم أخاه. ومعناه إذ كنتم مؤمنين أو إن كنتم تريدون استدامة الحكم لكم بالإيمان، أو يا أيها الذين آمنوا بلسانكم ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم. قال القاضي: وفيه دلالة على أن الإيمان لا يتكامل إذا أصر الإنسان على كبيرة، وإنما يصير مؤمنا بالإطلاق متى تجنب كل الكبائر. وأجيب بأن المراد إن كنتم عاملين بمقتضى الإيمان. وهذا بناء على أن العمل الصالح غير داخل في مسمى الإيمان، وإنما شدد الله في ذلك لأن المنتظر لحلول الأجل إذا حضر الوقت وطن نفسه على أن تلك الزيادة قد حصلت له ففطامه عنها يكون شديدا عليه فقال اتَّقُوا اللَّهَ واتقاؤه إنما يكون باتقاء ما نهى عنه. وهذه الآية أصل كبير في أحكام الكفار. إذا أسلموا، فإن ما مضى في الكفر يبقى ولا ينقض ولا ينسخ، وما لم يوجد منه في حال الكفر فحكمه محمول على الإسلام، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم ولا يجوز في الإسلام فهو عفو لا يتعقب وإن كان النكاح وقع على مهر حرام فقبضته المرأة فقد مضى، وإن كانت لم تقبضه فلها مهر مثلها دون ما سمى وهذا مذهب الشافعي. وأما سبب نزول الآية فعن ابن عباس: بلغنا- والله أعلم- أنها نزلت في بني عمرو بن عمير من ثقيف وفي بني المغيرة بني مخزوم. كانت بنو المغيرة يربون لثقيف، فلما أظهر الله رسوله على مكة وضع يومئذ الربا كله فأتى بنو عمرو بن عمير وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة فقال بنو المغيرة: ما جعلنا أشقى الناس بالربا أوضع عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 الناس غيرنا. فقال بنو عمر: وصولحنا على أن لنا ربنا. فكتب عتاب في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية والتي بعدها فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فعرف بنو عمرو أن لا يدان لهم بحرب من الله ورسوله. وقال عطاء وعكرمة: نزلت في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وكانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجداد قال لهما صاحب التمر: لا يبقى لي ما يكفي عيالي إن أنتما أخذتما حقكما كله. فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف وأضعف لكما؟ ففعلا. فلما جاء الأجل طلبا الزيادة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهما ونزلت الآية فسمعا وأطاعا وأخذ رؤوس أموالهما. وقال السدي: نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب» «1» فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا قيل: خطاب مع الكفار المستحلين للربا. ومعنى قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ معترفين بتحريم الربا فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه فَأْذَنُوا ومن ذهب إلى هذا القول قال: فيه دليل على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام فهو خارج عن الملة كما لو كفر بجميع شرائعه، وعلى هذا يكون مالهم فيئا للمسلمين. وقيل: خطاب مع المؤمنين المصرين على معاملة الربا لأنه خطاب مع قوم تقدم ذكرهم وما هم إلا المخاطبون بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ومعنى قوله: فَأْذَنُوا عند من جعله من الإيذان أعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله، فالمفعول محذوف. وإذا أمروا بإعلام غيرهم فهم أيضا قد علموا ذلك، لكن ليس في علمهم دلالة علي إعلام غيرهم. فهذه القراءة في الإبلاغ آكد ممن قرأ فَأْذَنُوا من أذن بالشيء إذا أعلم به أي كونوا على إذن وعلم. فإن قيل: كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين؟ قلنا: هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل كما جاء في الخبر «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» «2» وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم «من لم يدع المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله» «3» وقد جعل كثير من المفسرين والفقهاء قوله إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة: 33] أصلا في قطاع الطريق من المسلمين.   (1) رواه مسلم في كتاب الحج حديث 147. الترمذي في كتاب تفسير سورة 9 باب 2. أبو داود في كتاب البيوع باب 5. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 76، 84. الدارمي في كتاب البيوع باب 3. الموطأ في كتاب البيوع حديث 83. (2) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب 16. بلفظ «من عادى ... » . (3) رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 33. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب الله وسنة رسوله. ثم التفضيل فيه أن المصر على عمل الربا إن كان شخصا قدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى عليه حكم الله من التعزير والحبس إلى أن تظهر منه التوبة، وإن كان له عسكر وشوكة حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية، وكما حارب أبو بكر مانعي الزكاة. وكذا القول لو أجمعوا على ترك الأذان وترك دفن الموتى فإنه يفعل بهم ما ذكرناه وَإِنْ تُبْتُمْ من استحلال الربا أو عن معاملة الربا فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ الغريم يطلب زيادة على رأس المال وَلا تُظْلَمُونَ أنتم بنقصان رأس المال. وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ إن وقع غريم من غرمائكم ذو إعسار على أن «كان» هي التي تسمى تامة بمعنى وجد الشيء وحدث في نفسه لا بمعنى وجد موصوفا بشيء فإنها حينئذ تكون ناقصة تحتاج إلى الخبر. وقرأ عثمان ذا عسرة بمعنى وإن كان الغريم أو المستربي ذا عسرة. والقراءة المشهورة أولى كيلا تكون النظرة مقصورة على الغريم المستربي بل تعمه وغيره من أرباب العسرة وهي اسم من الإعسار وهو تعذر الموجود من المال. والنظرة التأخير والإمهال وفي الآية حذف والتقدير: فالحكم أو فالأمر نظرة. وقرىء فَنَظِرَةٌ بسكون الظاء، وقرأ عطاء فناظره على الأمر أي سامحه بالإنظار وناظره أي صاحب الحق ناظره أي منتظره، أو ذو نظرته مثل مكان عاشب أي ذو عشب. والميسرة اليسار ضد الإعسار. وقرىء بضم السين كمقبرة ومقبرة. ومن قرأ بالإضافة إلى الضمير فقد حذف التاء كقوله: وَأَقامَ الصَّلاةَ واختلفوا في أن حكم الإنظار مختص بالربا أو عام في الكل؟ فعن ابن عباس وشريح والضحاك والسدي وإبراهيم: الآية في الربا. قال الكلبي: قال بنو عمرو لبني المغيرة: هاتوا رؤوس أموالنا ولكم الربا ندعه لكم. فقال بنو المغيرة: نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا أن يؤخروهم فنزلت وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ وعن مجاهد وسائر المفسرين أنها عامة في كل دين، ولهذا ورد «كان» تامة. ولو فرض أن سبب النزول خاص فلا بد من إلحاق سائر الصور به لأن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به وهو قول أكثر الفقهاء كمالك وأبي حنيفة والشافعي. والإعسار في الشرع هو أن لا يجد في ملكه ما يؤديه بعينه ولا يكون له ما لو باعه لأمكن أداء الدين من ثمنه. فمن وجد دارا أو ثوبا لا يعد من ذوي العسرة إذا أمكنه بيعها وأداء ثمنها، ولا يجوز له أن يحبس إلا قوت يومه لنفسه وعياله وما لا بد لهم من كسوة لصلاتهم ودفع الحر والبرد عنهم. وهل يلزمه أن يؤخر نفسه من صاحب الدين أو غيره؟ الأصح أنه لا يلزمه، وكذا لو بذل له غيره ما يؤديه لا يلزمه القبول. فأما من له بضاعة كسدت عليه فواجب عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يمكن إلا ذلك. وإذا علم الإنسان أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 غريمه معسر حرام عليه حبسه وأن يطالبه بما له عليه ووجب الإنظار إلى وقت اليسار فأما إن كان غريمه في إعساره جاز أن يحبسه إلى ظهور الإعسار. وإذا ادعى الإعسار وكذبه الغريم فإن كان الدين الذي حصل لزمه حصل له عن عوض كالبيع أو القرض فلا بد له من إقامة شاهدين عدلين على أن ذلك العوض قد هلك، فإن لم يكن عن عوض كإتلاف وضمان وصداق فالقول قوله وعلى الغريم البينة، لأن الأصل هو الفقر، وَأَنْ تَصَدَّقُوا على المعسر بما عليه من الدين يدل على ذلك ذكر المعسر وذكر رأس المال خَيْرٌ لَكُمْ لحصول الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن هذا التصدق خير لكم فتعملوا به جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه، أو تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض بعده، أو تعلمون أن ما يأمركم به ربكم أصلح لكم. وقيل: المراد بالتصدق الإنظار لقوله عليه السلام: «لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة» وزيف بأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية الأولى فلا بد من فائدة جديدة ولأن قوله خَيْرٌ لَكُمْ إنما يليق بالمندوب لا بالواجب. ثم إن المعاملين بالربا كانوا أصحاب شرف وجلالة وأعوان وتغلب على الناس، فاحتاجوا إلى مزيد زجر ووعيد فلا جرم وقع ختم أحكام الربا بقوله وَاتَّقُوا يَوْماً والمراد اتقاء ما يحدث فيه من الشدائد والأهوال. واتقاء ذلك لا يمكن إلا باجتناب المعاصي وفعل الأوامر في الدنيا فهذا القول يتضمن الإتيان بجميع التكاليف. وانتصب يَوْماً على أنه مفعول به. والمعنى: تأهبوا بما تسلفون من العمل الصالح للقاء يوم تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ أي إلى ما أعد لكم من ثواب أو عقاب، وإلى علمه وحفظه وذلك أن الإنسان له أحوال ثلاث على الترتيب: الأولى كونه جنينا لا يملك تصرفا فلا تصرف فيه إلا الله، والثانية خروجه إلى فضاء وهناك يرى للأبوين لغيرهما تصرف فيه ظاهر. الثالثة ما بعد الموت وهنالك لا يكون التصرف فيه ظاهرا وفي الحقيقة إلا لله تعالى فكأنه عاد إلى الحالة الأولى. وهذا معنى الرجوع إلى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي جزاء ذلك أو المكتسب هو الجزاء كما يقال: كسب الرجل لما يحصله بتجارته. والمراد أن كل مكلف فإنه يصل إليه جزاء عمله بالتمام عند الرجوع إلى الله تعالى كقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8] ثم كان لقائل أن يقول: كيف يليق بأكرم الأكرمين إيصال العذاب إلى عبيده الكفار والفساق فقال وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بل العبد هو الذي أوقع نفسه في تلك الورطة لأن الله تعالى مكنه وأزاح عذره وسهل طريق الاستدلال عليه وأمهل. هذا على أصول المعتزلة. وأما على أصول الأصحاب فهو إشارة إلى أنه تعالى ملك الملوك وخالق الخلائق، والملك إذا تصرف في ملكه كيف شاء وأراد لم يكن ظلما. عن ابن عباس أنها آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. نزل بها جبريل وقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 ضعها على رأس المائتين والثمانين من البقرة، وعاش صلى الله عليه وسلم بعدها أحدا وثمانين يوما، وقيل أحدا وعشرين، وقيل سبعة أيام، وقيل ثلاث ساعات، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. التأويل: أخبر عن حرص أهل الدنيا وهم أكلة الربا بعد ذكر قناعة أهل العقبى. فمثل آكل الربا كمثل من به جوع الكلب يأكل ولا يشبع حتى ينتفخ بطنه ويثقل عليه فلا يقوم إلا كما يقوم المصروع لأنه كلما أقام صرعه ثقل بطنه، ومثله قوله عليه السلام «إن هذا المال خضر حلو وإن مما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت فمن أخذه بحقه ووضعه بحقه فنعم المعونة هو ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع» «1» وفي الحديث مثلان: أحدهما للمفرط في جمع الدنيا بحيث يفضي به إلى الهلاك في الدنيا والعقبى وأشار إليه بقوله: «وإن مما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم» «2» وذلك أن الربيع ينبت أحرار البقول فتستكثر منها الماشية لاستطابتها إياها حتى تنتفخ بطونها عند مجاوزتها حد الاعتدال فتنشق أمعاؤها فتهلك أو تقارب الهلاك. والمثل الآخر للمقتصد وذلك قوله «إلا آكلة الخضر» وذلك أن الخضر ليست من أحرار البقول وجيدها التي ينبتها الربيع بتوالي أمطاره ولكنها من كلإ الصيف التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول ويبسها حيث لا تجد سواها، فلا ترى الماشية تكثر منها وهو مثل التاجر الذي يكتسب المال بطريق البيع والشراء ويؤدي حقه وإن كان له حرص في الطلب والجمع. ولكن لما كان بأمر الشرع وطريق الحل ما أضربه وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا يعني كيف يكون ما أزال نور الأمر ظلمته مثل ما زاد ظلمته ارتكاب المنهي؟ فمرتكب الربا في ظلمات ثلاث: ظلمة الحرص وظلمة الدنيا وظلمة المعصية. وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ يرزقه من حيث لا يحتسب وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ بنعمة الشرع وأنواره أَثِيمٍ عامل بالطبع مقيم في ظلمة إصراره. ثم أخبر عن العاملين بالشرع الخارجين عن الطبع الذين آمنوا إيمان التصديق بالتحقيق مقرونا بالتوفيق، ثم خرجوا عن ظلمة اتباع الهوى بإقامة الصلاة وعالجوا ظلمة الركون إلى الدنيا بأنوار إيتاء الزكاة، فجذبتهم العناية من حضيض العبدية إلى ذروة العندية لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من الرجوع إلى ظلمات الطبيعة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لفوات أنوار الشريعة. ثم أخبر عن أهل الإيمان المجازي فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللسان اتَّقُوا اللَّهَ أي بالله كما جاء. «كنا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم» . أي جعلناه قدامنا. ومن شرط المؤمن الحقيقي اتقاؤه بالله في   (1، 2) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 37. مسلم في كتاب الزكاة حديث 121. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 18. أحمد في مسنده (3/ 7، 21) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 ترك الزيادات كما قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» «1» وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا تركوا ما سوى الله في طلبه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إيمانا حقيقيا. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا لم تتركوا كل زيادة تمنعكم فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ببعد منهما وبغض. وَإِنْ تُبْتُمْ تركتم غيره فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ وهي الكرامة التي فضلكم بها على كثير من خلقه وهي المحبة يحبهم ويحبونه لا تَظْلِمُونَ بوضع محبتي في غير موضعها من المخلوقات وَلا تُظْلَمُونَ بوضع محبتكم في غير موضعها. وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ لم يصل إليه ما أعد لأجله عاجلا فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وهو وقت وصوله إليه آجلا وَأَنْ تَصَدَّقُوا تبذلوا فينا ما تتمنون من صنوف برنا في الدنيا والعقبى على قدر همتكم فهو خَيْرٌ لَكُمْ لأنا نجازيكم على قدر مواهبنا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قدرها وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» «2» ثم إنه سبحانه كما جمع في القرآن خلاصة الكتب السماوية جمع في خاتمة الوحي خلاصة أي القرآن فقال: وَاتَّقُوا يَوْماً الآية. وذلك أن فائدة جميع الكتب راجعة إلى معنيين: النجاة من الدركات السفلى وهي سبعة: الكفر والشرك والجهل والمعاصي والأخلاق المذمومة وحجب الأوصاف وحجاب النفس. والفوز بالدرجات العلى وهي ثمانية: المعرفة والتوحيد والعلم والطاعات والأخلاق المحمودة وجذبات الحق والفناء عن أنانيته والبقاء بهويته. فقوله وَاتَّقُوا شامل لما يتعلق بالسعي الإنساني من هذه المعاني، لأن حقيقة التقوى مجانبة ما يبعدك عن الله ومباشرة ما يقربك إليه، فتقوى العام الخروج بسبب الإقامة بشرائط جاهَدُوا فِينا [العنكبوت: 69] عن الكفر بالمعرفة، وعن الشرك بالتوحيد، وعن الجهل بالعلم، وعن المعاصي بالطاعات، وعن الأخلاق المذمومة بالأخلاق المحمودة. ثم من هاهنا تقوى الخاص تخرجهم جذبات لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69] من حجب أوصافهم إلى درجة تجلي صفات الحق فيستظلون بظل سدرة المنتهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى [النجم: 15] فينتفعون بمواهب إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى [النجم: 16] ثم من هاهنا تقوى خاص الخاص فتخرجه العناية بجذبات ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] من سدرة المنتهى الأوصاف إلى قاب قوسين نهاية حجاب النفس وبدية أنوار القدس. وهناك من عرف نفسه فقد عرف ربه وهو مقام أو أدنى ترجعون فيه إلى الله. لأن مبدأ وجودك النفخة، وآخر حالك الجذبة، وبها   (1) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب 11. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 12. الموطأ في كتاب حسن الخلق حديث 3. (2) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 25. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 اصطفى آدم وكرم نبيه ولهذا لم يقل: ولقد كرمنا أولاد آدم، لأن أهل الكرامة منهم من هو بوصف الرجال دون النساء. ثم وصف الرجال بقوله: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور: 37] فمن كان من النساء بهذا الوصف فهو من الرجال في المعنى، ومن لم يكن من الرجال بهذا الوصف فهو من النساء في الحقيقة، وفي هذا الرجوع وعد وبشارة للأولياء، ووعيد وإنذار للأعداء ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ فبقدر مراتبه في العبودية والتقوى يهتدي إلى مقامات القرب من المولى، وبحسب فنائه عن حجاب نفسه يبقى ببقاء ذاته وهويته، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ فإن دخول النور في البيت وخروج الظلمة منه إنما يكون على مقدار سعة فتح الروزنة وضيقة ولا تظلم الشمس عليه مثقال ذرة فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 37، 41] . [سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 283] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) القراآت: أَنْ يُمِلَّ هو بسكون الهاء: قتيبة والحلواني عن قالون. الباقون بالضم على الأصل أَنْ تَضِلَّ بكسر الهمزة على الشرط: حمزة والمفضل. الباقون بالفتح على أنها ناصبة فَتُذَكِّرَ بالتشديد والرفع: حمزة وجبلة فَتُذَكِّرَ بالرفع، ومن الإذكار: أبو زيد عن المفضل فَتُذَكِّرَ من الإذكار وبالنصب: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وقتيبة. الباقون فَتُذَكِّرَ بالتشديد والنصب. تِجارَةً حاضِرَةً بالنصب فيهما: عاصم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 الباقون بالرفع فيهما. فَرِهانٌ بضم الراء والهاء: ابن كثير وأبو عمرو. الباقون فَرِهانٌ. الوقوف: فَاكْتُبُوهُ ط، للعدول. بِالْعَدْلِ ص، لعطف المتفقين فَلْيَكْتُبْ ج شَيْئاً ط. بِالْعَدْلِ ط، مِنْ رِجالِكُمْ ج للشرط مع فاء التعقيب الْأُخْرى ط دُعُوا ط للعدول أَجَلِهِ ط أَلَّا تَكْتُبُوها ط لابتداء الأمر. تَبايَعْتُمْ ص لعطف المتفقين وَلا شَهِيدٌ ط بِكُمْ ط وَاتَّقُوا اللَّهَ ط هـ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ط عَلِيمٌ هـ، مَقْبُوضَةٌ ط لابتداء شرط واستئناف معنى آخر رَبَّهُ ط للعدول الشَّهادَةَ ط قَلْبُهُ ط عَلِيمٌ هـ. التفسير: الحكم الثالث المداينة. وسبب النظم أن الحكمي المتقدمين وهما الإنفاق وترك الربا كانا سببين لنقصان المال، فأرشد الله تعالى في هذه الآية بكمال رأفته إلى كيفية حفظ المال الحلال وصونه عن التلف والبوار ورعاية وجوه الاحتياط، فإن مصالح المعاش والمعاد متوقفة على ذلك، ولهذه الدقيقة بالغ في الوصاية وأطنب. عن ابن عباس أن المراد به السلم وقال: لما حرم الربا أباح السلم وأنزل فيه أطول آية. ولهذا قال بعض العلماء: لا لذة ولا منفعة يتوصل إليها بالطريق الحرام إلا وجعل الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثلها طريقا حلالا وسبيلا مشروعا. والتداين تفاعل من الدين. يقال: داينت الرجل إذا عاملته بدين معطيا أو آخذا. والمراد إذا تعاملتم بما فيه دين. وذلك أن البياعات على أربعة أوجه: أحدها بيع العين بالعين وذلك ليس بمداينة البتة. والثاني بيع الدين بالدين وهو باطل فيبقى هاهنا بيعان: بيع العين بالدين وهو ما إذا باع شيئا بثمن مؤجل، وبيع الدين بالعين وهو المسمى بالسلم وكلاهما داخلان تحت الآية. وأما القرض فلا يدخل فيه وإنه غير الدين لغة فإن الدين يجوز فيه الأجل، والقرض لا يجوز فيه الأجل. والفائدة في قوله: بِدَيْنٍ تخليصه من التداين بمعنى المجازاة، أو التأكيد مثل وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] أو ليشمل أي دين كان صغيرا أو كبيرا سلما أو غيره. وفي الكشاف: فائدته رجوع الضمير إليه في قوله: فَاكْتُبُوهُ إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن. ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال فإنه كالمطابقة، ودلالة تداينتم على ذلك كالتضمن. وقيل: ليكون المعنى تداينا يحصل فيه دين واحد فيخرج بيع الدين بالدين. وإنما لم يقل كلما تداينتم ليكون نصا في العموم لأن الكلية تفهم من بيان العلة في قوله: ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فإن العلة قائمة في الكل فيكون الحكم حاصلا في الكل، أو نقول: العلة هي التداين والعلة لا ينفك عنها معلولها فتكون القضية كلية كما في قوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة: 6] والأجل مدة الشيء ومنه أجل الإنسان لمدة عمره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 وفائدة قوله مُسَمًّى أن يعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام. وإنه لو قال إلى الحصاد أو إلى قدوم الحاج لم يجز لعدم التسمية. ثم إنه تعالى أمر في المداينة بشيئين: الكتبة والاستشهاد ليكون كلا المتداينين أوثق وآمن من النسيان والتفاوت والتخالف في مقدار الدين وفي انقضاء الأجل وفي سائر ما تشارطا عليه. وهذا الأمر قيل للوجوب وهو مذهب عطاء وابن جريج والنخعي، وجمهور المجتهدين على أنه للندب لإجماع المسلمين قديما وحديثا على البيع بالأثمان المؤجلة من غير كتبة ولا إشهاد، ولأن في إيجابهما حرجا وتضييقا. وقيل: كانا واجبين فنسخا بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وهذا مذهب الحسن والشعبي والحكم بن عتيبة. أما المخاطب بقوله: فَاكْتُبُوهُ فليس كل أحد لوجود أميين كثيرين في الدنيا، بل من له استئهال لكتبه ولهذا قال: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ وليس ذلك أيضا على الإطلاق ولكنه يجب أن يكون الكاتب متصفا بالعدل فيكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص عنه ولا يخص أحدهما بالاحتياط دون الآخر، ويحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد منها. وهذا بالحقيقة أمر للمتداينين بتخير الكاتب وأن لا يستكتبوا إلا فقيها أديبا دينا. قال بعض الفقهاء: العدل أن يكون ما يكتبه متفقا عليه بين المجتهدين ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلا إلى إبطاله وَلا يَأْبَ كاتِبٌ ولا يمتنع أحد من الكتاب وهو معنى التنكير في كاتب أَنْ يَكْتُبَ وقوله كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ إما أن يكون متعلقا بما قبله فالتقدير: ولا يأب كاتب أن يكتب مثل ما علمه الله تعالى فيقع قوله بعد ذلك فَلْيَكْتُبْ تأكيدا للأول أي فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله تعالى إياها أو بما بعده فيكون الأول نهيا عن الامتناع مطلقا، والثاني أمرا بالكتابة المقيدة والمطلق لا دلالة له على المقيد، فلا يكون الثاني تأكيدا للأول وإنما يكون بيانا له. ثم النهي عن الامتناع عن الكتابة لكل كاتب إنما هو على سبيل الإرشاد والأولى تحصيلا لحاجة المسلم وشكرا لما علمه الله من كتابة الوثائق فهو كقوله: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: 77] وقيل: إنه على سبيل الإيجاب ولكنه نسخ بقوله وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ. وعن الشعبي أنه فرض كفاية فإن لم يجد إلا كاتبا واحدا وجبت الكتابة عليه، وإن وجد أشخاصا فالواجب كتابة أحدهم. وقيل: متعلق الإيجاب هو أن يكتب كما علمه الله يعني أنه بتقدير أن يكتب، فالواجب أن يكتب كما علمه الله وأن لا يخل بشرط من الشروط كيلا يضيع مال المسلم بإهماله. واعلم أن الكتابة بعد حصول الكاتب العارف بشروط الصكوك والسجلات لا تتم إلا بإملاء من عليه الحق ليدخل في جملة إملائه اعترافه بمقدار الحق وصفته وأجله إلى غير ذلك، فلهذا قال سبحانه وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ والإملال والإملاء لغتان: قال الفراء: أمللت عليه الكتاب لغة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 الحجاز وبني أسد، وأمليت لغة بني تميم وقيس، وقد نطق القرآن بهما. قال: فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] . وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً أمر أن لهذا المملي الذي عليه الحق بأن يقر بتمام المال الذي عليه ولا ينقص منه شيئا. والبخس النقص فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً محجورا عليه لتبذيره وجهله بالتصرف وضعف عقله أَوْ ضَعِيفاً صبيا أو شيخا مختلا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لعيّ به أو خرس فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ والمراد بولي الذي عليه الحق الذي يلي أمره ويقوم بمصالحه من وصي إن كان سفيها أو صبيا، أو وكيل إن كان غير مستطيع، أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه. وفائدة توكيد المتصل بالمنفصل في قوله: أَنْ يُمِلَّ هُوَ أنه غير مستطيع بنفسه ولكن بغيره وهو الذي يترجم عنه. وعن ابن عباس ومقاتل والربيع أن الضمير في وَلِيُّهُ عائد إلى الدين أي الذي له الدين ليمل. قيل: وفيه بعد لأن قول المدعي كيف يقبل؟ ولو كان قوله معتبرا فأي حاجة إلى الكتابة والإشهاد؟ ثم المقصود من الكتابة هو الاستشهاد ليتمكن بالشهود من التوصل إلى تحصيل الحق إن جحد فلهذا قال تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا أي أشهدوا. والإشهاد والاستشهاد بمعنى، لأن معنى استشهدته سألته أن يشهد شهيدين أي شاهدين «فعيل» بمعنى «فاعل» . وإطلاق الشهيد على من سيكون شهيدا تنزيل لما يشارف منزلة الكائن. ومعنى قوله مِنْ رِجالِكُمْ أي من رجال أهل ملتكم وهم المسلمون. وقيل يعني الأحرار، وقيل من رجالكم الذين تعدّونهم للشهادة من أهل العدالة فَإِنْ لَمْ يَكُونا أي الشهيدان رجلين فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ أي فليكن أو فليشهد أو فالشاهد رجل وامرأتان أو فرجل وامرأتان يشهدون جميع هذه التقديرات جائز حسن ذكره علي بن عيسى مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ وفيه دليل على أنه ليس كل أحد صالحا للشهادة. والفقهاء قالوا شرائط قبول الشهادة أن يكون حرا بالغا عاقلا مسلما عدلا عالما بما يشهد به لا يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع مضرة عنها، ولا يكون معروفا بكثرة الغلط ولا بترك المروءة ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة. وعن علي عليه السلام: ولا يجوز شهادة العبد في شيء وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، وذلك لأنه تعالى قال وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا والإجماع منعقد على أن العبد لا يجب عليه الذهاب بل يحرم عليه ذلك إذا لم يأذن له السيد، فيعلم منه أن العبد لا يجوز أن يكون شاهدا. وعند شريح وابن سيرين وأحمد: تجوز شهادة العبد قالوا: لأن العقل والعدالة والدين لا يختلف بالحرية والرق. وعند أبي حنيفة يجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض على اختلاف الملل أَنْ تَضِلَّ أن لا تهتدي إحداهما للشهادة بأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 تنساها لغلبة البرد والرطوبة على أمزجتهن أو إحدى النفسين، فإن الإنسان لا يخلو من النسيان فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وانتصابه على أنه مفعول له أي إرادة أن تضل. قال في الكشاف: فإن قلت: كيف يكون ضلالها مرادا لله؟ قلت: لما كان الضلال سببا للإذكار والإذكار مسببا عنه وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب منزلة الآخر لالتباسهما واتصالهما، كانت إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار إرادة للإذكار، فكأنه قيل: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت ونظيره قولهم «أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه» . وفي التفسير الكبير أن هاهنا غرضين: أحدهما حصول الإشهاد وذلك لا يتأتى إلا بتذكير إحدى المرأتين. والثاني بيان تفضيل الرجل على المرأة حتى يبين أن إقامة المرأتين مقام الرجل الواحد هو العدل في القضية وذلك لا يتأتّى إلا بضلال إحدى المرأتين، فلهذا صار كل من الغرضين صحيحا ولا محذور. ومن قرأ بكسر «إن» على الشرط والجزاء فلا إشكال. وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا معناه فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر ولا يخفى ما فيه من التعسف. واعلم أن الشهادة خبر قاطع ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «على مثل الشمس فاشهد أو فدع» وقد يقام الظن المؤكد فيه مقام اليقين ضرورة. وقول الشاهد الواحد لا يكفي للحكم به إلا في هلال رمضان كما مر، ولا يحتاج إلى أزيد من اثنين إلا في الزنا لقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النور: 4] وقال: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء: 15] ولا يعتبر فيه شهادة النساء. عن الزهري أنه قال مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود وغير هلال رمضان والزنا إما عقوبة أو غيرها. فإن كان عقوبة فلا يثبت إلا برجلين لما مر من حديث الزهري يستوي فيه حق الله تعالى كحد الشرب وقطع الطريق، وحق العباد كالقصاص والقذف، وأما غير العقوبات فما ليس بمالي. ولا يقصد به المال إن كان مما يطلع عليه الرجال غالبا كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والإسلام والردة والبلوغ والولاء وانقضاء العدة وجرح الشهود وتعديلهم والعفو عن القصاص، فكل ذلك لا يثبت إلا برجلين أيضا. وإن كان مما يختص بمعرفته النساء غالبا فتقبل فيه شهادتهن على انفرادهن لما روي عن الزهري أنه قال: مضت السنة أن تجوز شهادة النساء في كل شيء لا يليه غيرهن وذلك كالولادة والبكارة والثيابة والرتق والقرن والحيض والرضاع وعيب المرأة من برص وغيره تحت الإزار، ولا يثبت شيء من ذلك بأقل من أربع نسوة تنزيلا لاثنتين منهن منزلة رجل. وما يثبت بهن يثبت برجل وامرأتين وبرجلين بالطريق الأولى. وأما ما هو مال أو يقصد به المال كالأعيان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 والديون والعقود المالية من البيع والإقالة والرد بالعيب والإجارة والوصية بالمال والحوالة والضمان والصلح والقرض، فيثبت بشهادة رجل وامرأتين ثبوتها بشهادة رجلين ونص القرآن منزل على هذا القسم والذي قبله. وجوز الشافعي القضاء بالشاهد واليمين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين وأنكره أبو حنيفة وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا «ما» زائدة مبهمة أي إذا دعوا فقيل: أي إلى أداء الشهادة عند احتياج صاحب الحق إليها. وقيل: إلى تحمل الشهادة وهو قول قتادة واختاره القفال قال: كما أمر الكاتب أن لا يأبى الكتابة، أمر الشاهد أن لا يأبى تحمل الشهادة وقيل: أمر بالتحمل إذا لم يوجد غيره. وحمله الزجاج على مجموع الأمرين: التحمل أولا والأداء ثانيا. والقول الأول أصح لأنه أطلق عليهم لفظ الشهداء. والأصل في الإطلاق الحقيقة وتسميتهم قبل التحمل شهداء مجاز لا يعدل إليه إلا لضرورة. وأيضا التحمل غير واجب على الكل بخلاف الأداء بعد التحمل. وأيضا الأمر بالإشهاد يتضمن الأمر بتحمل الشهادة، فكان صرف قوله وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إلى الأمر بالأداء أولى ليفيد فائدة جديدة وهي أن الشاهد إن كان متعينا وجب عليه أداء الشهادة، وإن كان فيهم كثرة كان الأداء فرضا على الكفاية. وَلا تَسْئَمُوا لا تضجروا ولا تملوا أن تكتبوه أي الدين أو الحق لتقدم ذكرهما على أي حال كان الحق صغيرا أو كبيرا مما جرت العادة بكتبته لا كالحبة والقيراط، فإن القليل من المال ربما أفضى إلى نزاع كثير. وإنما نهى عن السآمة لأنها من الكسل والكسل صفة المنافق. وأيضا من كثرت مدايناته فاحتاج أن يكتب لكل دين صغير أو كبير كتابا فربما مل كثرة الكتب فاقتضى المقام ترغيبه وإلهابه. ويجوز أن يكون الضمير للكتاب، وأن تكتبوه مختصرا أو مشبعا، ولا يخلوا بكتابته إلى أجله إلى وقته الذي اتفقا على تسميته ذلِكُمْ الكتب أو ذلكم الذي أمرتكم به من الكتب والإشهاد أَقْسَطُ أعدل عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ أعون على إقامة الشهادة وهما إما من أقسط وأقام فيكون محمولا على قولهم «أفلس من ابن المذلق» وإما من قويم وقاسط بمعنى ذو قسط على طريقة النسب وإلا فالقاسط الجائر. ولا يصح ذلك المعنى هاهنا يقال: قسط إذا جار، وأقسط أي عدل وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أقرب من انتفاء الريب. رتب الله تعالى على الكتبة والإشهاد ثلاث فوائد: الأولى: تتعلق بالدين لأنه إذا كان مكتوبا كان إلى اليقين أقرب وعن الجهل أبعد فيكون أعدل عند الله. والثانية تتعلق بالدنيا وهو كونه أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج وأعون للحفظ والذكر. والثالثة أنه يدفع الضرر عن نفسه بأن لا يضل في أمره ولا يتردد، وعن غيره بأن لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 ينسبه إلى الكذب والخيانة فلا يقع في الغيبة والجهالة. فما أحسن هذه الفوائد وما أدخلها في الضبط والترتيب إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً قيل: هو راجع إلى قوله: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ إن البيع بالدين قد يكون إلى أجل قريب وقد يكون إلى أجل بعيد، فاستثنى عن المداينة ما يكون أجله قريبا. ويحتمل أن يكون استثناء من قوله: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ وقد يقال: إنه استثناء منقطع والتقدير: لكنه إذا كانت التجارة حاضرة فليس عليكم جناح. فيكون كلاما مستأنفا على سبيل الإضراب عن الأول. والتجارة تصرف في المال لطلب الربح. فسواء كانت المبايعة بدين أو بعين فالتجارة حاضرة. فإذا المراد بالتجارة هاهنا ما يتجر فيه من الأبدال. ومعنى إدارتها بينهم تعاطيهم إياها يدا بيد. والمعنى إلا أن تتبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد. ومن قرأ تِجارَةً بالرفع فعلى «كان» التامة أو الناقصة والخبر تُدِيرُونَها ومن قرأ بالنصب فالتقدير إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كبيت الكتاب. بني أسد هل تعلمون بلاءنا ... إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا أي إذا كان اليوم يوما. واليوم الأشنع هو الذي ارتفع شره وعلا. وذو كواكب أي شديد. ويقال في التهديد: لأرينك الكواكب ظهرا. وقال الزجاج: تقديره إلا أن تكون المداينة تجارة أي يكون دينا قريب الأجل. فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها ومعنى رفع الجناح عدم الضرر لا عدم الإثم إلا لزم أن تكون الكتابة المذكورة أولا واجبة، وقد أثبتنا خلاف ذلك. وإنما رخص تعالى في هذا النوع من التجارة لكثرة جريانها فيما بين الناس. فتكليفهم الكتابة والإشهاد في كل لحظة حرج عليهم مع أن خوف التجاحد في مثله قليل. وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ هذا التبايع كأنه لما رفع عنهم الكتابة في التجارة الحاضرة، كرر الأمر بالإشهاد ليعلم أن حكمه باق فيها لأن الإشهاد بلا كتابة تخف مؤنته. ويحتمل أن يكون أمرا بالإشهاد مطلقا ناجزا كان التبايع أو كالئا لأنه أحوط. عن الحسن: إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد. وعن الضحاك: هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل. وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل فيكون أصله لا يضارر بكسر الراء وبه قرأ عمر وعليه أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة ومعناه: نهى الكاتب أن يزيد أو ينقص والشاهدين أن يحرفا أو يتركا الإجابة إلى ما يطلب منهما ولهذا قال وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ فإن التحريف في الكتابة والشهادة فسق وإثم. وعن ابن مسعود وعطاء ومجاهد أن التقدير لا يضارر بفتح الراء وبه قرأ ابن عباس، وأنه نهي للمتداينين عن الضرار بالكاتب والشهيد كأن يعجلا عن مهم ويلزا، أو لا يعطى الكاتب حقه من الجعل، أو يحمل الشهيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 مؤنة مجيئه من بلد. وَإِنْ تَفْعَلُوا ما نهيتكم عنه من الضرار أو كل ما نهيتكم عنه من فعل معصية أو ترك طاعة ليكون عاما فَإِنَّهُ فإن الضرار أو ارتكاب المنهي فُسُوقٌ بِكُمْ خروج عن أمر الله وطاعته. ومعنى بِكُمْ أي ملتصق بكم. وَاتَّقُوا اللَّهَ في أوامره ونواهيه وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ما فيه صلاح الدارين وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من مصالح عباد عَلِيمٌ. واعلم أنه سبحانه جعل البياعات في هذا المقام على ثلاثة أقسام: بيع بكتاب وشهود، وبيع برهان مقبوضة، وبيع بالأمانة. ولما بين القسم الأول شرع في الثاني وقال وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ واتفق الفقهاء على أن الارتهان لا يختص بالسفر ولا بحالة عدم وجدان الكاتب، كيف وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رهن درعه في غير سفر، ولكنه وردت الآية على الغالب، فإن الغالب أن لا يوجد الكاتب في السفر ولا يوجد أدوات الكتابة ولهذا قال ابن عباس: أرأيت إن وجدت الكاتب ولم تجد الصحيفة والدواة وقرأ ولم تجدوا كتابا ونظيره قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النساء: 101] وليس الخوف من شرط جواز القصر. وكان مجاهد والضحاك يذهبان إلى أن الرهن لا يجوز في غير السفر أخذا بظاهر الآية، ولا يعمل بقولهما اليوم. وأصل الرهن من الدوام. رهن الشيء إذا دام وثبت. ونعمة راهنة أي دائمة ثابتة والرهن مصدر جعل اسما وزال عنه عمل الفعل. فإذا قلت رهنت عنده رهنا لم يكن انتصابه انتصاب المصدر ولكن انتصاب المفعول به كما تقول: رهنت ثوبا. ولهذا جمع جمع الأسماء. وله جمعان: رهن بضمتين كسقف في سقف، ورهان مثل كباش في كبش. وقيل: إن أحدهما جمع الآخر. وفي الكلام حذف تقديره فرهن مقبوضة بدل من الشاهدين، أو فعليه رهن، أو فالوثيقة، أو الذي يستوثق به رهن. ويعلم من قوله: مَقْبُوضَةٌ أن الرهن لا بد في لزومه من القبض، والمراد باللزوم أن لا يكون للراهن الرجوع عن الرهن ولا للمرتهن عن الارتهان. وقبض المرهون المشاع إنما يحصل بقبض الكل وقبل القبض يصح الرهن ولكن لا يلزم. وأما صورة القبض فقبض العقار إنما يحصل بتخلية الراهن أو وكيله بينه وبين المرتهن أو وكيله وتمكينه منه بتسليم المفتاح فيما له مفتاح. وقبض المنقول يحصل بالنقل من موضعه إلى موضع لا يختص بالراهن كالشارع والمسجد وملك المرتهن، وإن كان المنقول مقدرا فلا بد من التقدير أيضا بوزن أو كيل أو ذرع. ولو نقل من بيت من دار الراهن إلى بيت آخر بإذنه، أو وضعه الراهن بين يدي المرتهن إذا امتنع من قبضه، حصل القبض. ثم إنه تعالى ذكر بيع الأمانة فقال فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به وثقته بأنه لا يجحد الحق ولا ينكره فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ فليكن المديون عند ظن الدائن به. وسمى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 الدين أمانة وإن كان مضمونا لائتمانه عليه بترك الارتهان منه والحاصل أنه مجاز مستعار. وذلك أنه لما اشترك هذا الدين مع الأمانة الشرعية في وصف وجود الأمانة اللغوية أطلق أحدهما على الآخر. والائتمان افتعال من الأمن وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ حتى لا يدور في خلده جحود واختيان. وفي الآية قول آخر وهو أنها خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال فإنها أمانة في يده. والصحيح هو الأول. ومن الناس من قال: هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتبة والإشهاد وأخذ الرهن. والحق أن تلك الأوامر محمولة على الإرشاد رعاية وجوه الاحتياط، وهذه الآية محمولة على الرخصة. وعن ابن عباس أنه قال: في آية المداينة نسخ. ثم قال: لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وفيه وجوه: الأول عن القفال: أنه تعالى لما أباح ترك الكتبة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون أمينا، ثم كان من الجائز أن يكون هذا الظن خطأ وأن يخرج المديون جاحدا للحق، وكان من الممكن أن يكون بعض الناس مطلعا على أحوالهم، ندب الله ذلك الإنسان أن يشهد لصاحب الحق بحقه، سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة أم لا، وشدد فيه بأن جعله إثم القلب لو تركه. وعلى هذا يمكن أن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: «خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد» «1» وقيل: المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة. وقيل: المراد بالكتمان الامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها، فإن في ذلك إبطال حق المسلم، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه، فلهذا بالغ في الوعيد وقال وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ والآثم الفاجر، والآثم مرتفع بأن وقَلْبُهُ فاعله. ويجوز أن يكون قَلْبُهُ مبتدأ وآثِمٌ خبره مقدما عليه، والجملة خبر «إن» . وفائدة ذكر القلب والشخص بجملته آثم لا قلبه وحده، هو أن أفعال الجوارح تابعة لأفعال القلوب ومتولدة مما يحدث في القلب من الدواعي والصوارف، وإسناد الفعل إلى القلب الذي هو محل الاقتراف ومعدن الاكتساب أبلغ كما يقال عند التوكيد: هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني وعرفه قلبي، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب» «2» . وزعم كثير من المتكلمين أن الفاعل والعارف والمأمور والمنهي   (1) رواه أحمد في مسنده (4/ 117) ، (5/ 192) بلفظ «خير الشهادة ما شهد بها صاحبها قبل أن يسألها» . (2) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 39. مسلم في كتاب المساقاة حديث 107. ابن ماجه في الفتن باب 14. الدارمي في كتاب البيوع باب 1. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 هو القلب، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فيه تحذير للكاتم وتهديد له. عن ابن عباس: أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى: فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وشهادة الزور وكتمان الشهادة. التأويل: إنه تعالى كما أمر العباد أن يكتبوا كتاب المبايعة فيما بينهم ويستشهدوا عليه العدول، فقد كتب كتاب مبايعة جرت بينه وبين عباده في الميثاق إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ إلى قوله: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ [التوبة: 111] وأشهد الملائكة الكرام وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار: 10، 11] وإنه تعالى كما أمركم أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا أمر الملائكة أن يكتبوا معاملاتكم الصغيرة والكبيرة، ثم عند خروجكم من الدنيا يجعلون ذلك في أعناقكم وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء: 13] ثم نودي من سرادقات الجلال: يا قوي الظلم ضعيف الحال اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: 14] ثم إن الكتاب يكتبون عليه في صباحه ومسائه، وما يكتبون إلا من إملائه وإنه بالقليل والكثير مما يملي يخاطب، وبالنقير وبالقطمير على ما يميل عن الحق يعاتب، فليحاسب نفسه قبل أن يحاسب، فعليه أن يملي الحق للحق. فإن كان الذي عليه حق للحق سفيها جاهلا بإملاء الحق للحق لاشتغاله بالباطل، أو ضعيفا عاجرا مغلوبا بغلبات نفسه، أو لا يستطيع أن يمل هو لكونه ممنوعا بالعواتق والعلائق لا قدرة له على إملاء ما ينفعه ولا يضره، ولا قوة له في إنهاء ما لا يحزنه ويسره، فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ فإن لكل قوم وليا يخرجهم من الأحزان إلى السرور، ومن الأسجان إلى القصور، ومن الأشجان إلى الحبور، ومن العجز والفتور إلى القوة والحضور. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ استصحبوا من أرباب القلوب اثنين من رجالكم الذين هم بالنسبة إليكم رجال وأنتم نساء فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ أرباب القلوب فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ أي رجلان من أهل الصلاح ليكونا بمثابة رجل من أهل الولاية في فائدة الصحبة مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ممن يصلح أن يكون من شهداء الله كما قال: «أنتم شهداء الله في أرضه» «1» أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما عن جادة الاستقامة في بادية النفس المملوءة من شياطين الهوى فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى فالرفيق ثم الطريق. واعلم أن أهل الدين طائفتان:   (1) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 85. مسلم في كتاب الجنائز حديث 60. الترمذي في كتاب الجنائز باب 63. النسائي في كتاب الجنائز باب 50. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 20. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 الواقفون والسائرون. والمراد بالواقف من وقف في عالم الصورة ولم يفتح له باب إلى عالم المعنى كالفرخ المحبوس في قشر البيضة فيكون شربه من عالم المعاملات البدنية ولا سبيل له إلى عالم القلب ومعاملاته فهو محبوس في سجن الجسد وعليه موكلان من الكرام يكتبان عليه من أعماله الظاهرة بالنقير والقطمير ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] وأما السائر فلا يقف في محل ولا ينزل في منزل يسافر من عالم الصورة إلى عالم المعنى، ومن مضيق الأجساد إلى متسع الأرواح وهم صنفان: سيار وطيار. فالسيار من يسير بقدمي الشرع والعقل على جادة الطريقة، والطيار من يطير بجناحي العشق والهمة في فضاء الحقيقة وفي رجله جلجلة الشريعة. فالإشارة في قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً إلى السيار الذي تخلص من سجن الجسد وقيد الحواس وزحمة التوكيل، فلم يوجد له كاتب يكتب عليه كما قال بعضهم: ما كتب عليّ صاحب الشمال منذ عشرين سنة. وقال بعضهم: كاشف لي صاحب اليمين وقال لي: أمل علي شيئا من معاملات قلبك لأكتبه فإني أريد أن أتقرب به إلى الله. قال: فقلت له: حسبك الفرائض. فالحبس والقيد والتوكيل لمن لم يؤد حق صاحب الحق أو يكون هاربا منه. فأما الذي آناء الليل وأطراف النهار يغدو ويروح في طلب غريمه وما يبرح في حريمه فلا يحتاج إلى التوكيل والتقييد، فالذي هو موكل على الهارب يكون وكيلا وحفيظ للطالب لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11] وللسائرين رهان مقبوضة عند الله، رهان وأية رهان، قلوب ليس فيها غير الله قبض، وأي قبض؟ مقبوضة بين أصبعين من أصابع الرحمن. أما الطيار الذي هو عاشق مفقود القلب، مغلوب العقل، مجذوب السر، فلا يطالب بالرهن فإنه مبطوش ببطشه الشديد. مستهام ضاق مذهبه ... في هوى من عز مطلبه كل أمر في الهوى عجب ... وخلاصي منه أعجبه وإنما يحتاج إلى الرهن المتهم بالخيانة لا المتعين للأمانة، فلم يوجد في السموات والأرض ولا في الدنيا والآخرة أمين يؤتمن لتحمل أعباء أمانته إلا العاشق المسكين. لما نظر إليها كان فراش تلك الشمعة عشقها فطار فيها وأتى بحملها، فلما حملها واستحسن منه ما تفرد به من أصحابه جاءت له من الحضرة ألقاب فنسب في البداية إلى الإفساد وسفك الدماء أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30] ولقب في النهاية بالظلم والجهل إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الأحزاب: 72] هذا أمر عجيب ونقش غريب، من لم يطع في حمل الأمانة وأتى نسب إلى المكانة والطاعة والأمانة مكين مطاع ثم أمين. ومن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 أطاع في حمل الأمانة وأتى نسب إلى الظلم والجهل والفساد والخيانة، نعم إنما يكون ذلك لوجهين: أحدهما أن الذلة والمسكنة وقعت في قسم العاشق كما أن العزة والعظمة وقعت في طرف المعشوق بل جمال عزة المعشوق، لا يظهر إلا في مرآة ذلة العاشق. وثانيهما أن من له كمال عزة الأمانة يلزم كمال ذلة المؤتمن في الظاهر بصلاح كتمان أمر الأمانة. وقد يختص غير المؤتمن بحسن الثناء عليه ليكون عزته في الظاهر وذلته في الحقيقة يدلك على حقيقة حفظ السر خطاب، اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة: 34] وعتاب إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30] فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً كما اخترتك من بين الخليقة واصطفيتك على البرية بحمل الأمانة فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ ولا تكتموا الشهادة، أشهدتكم على أنفسكم يوم الميثاق بإقرار قبول الأمانة فقلتم: بلى شهدنا. فاليوم أطالبكم بأداء حقها فأدوها لي ملفوفة بلفاف التقوى «الإيمان عريان ولباسه التقوى» وكتمان الشهادة أن يكون شهودك مع غير شواهد ربك، وهذا من نتائج خيانة قلبك في أمانة ربك، فلا يشاهد قلبك إلا شواهد ربك، ولا يؤدي سرك حقيقة أمانة ربك إلا إلى ربك بربك لربك. [سورة البقرة (2) : الآيات 284 الى 286] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) القراآت: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ بإدغام الراء في اللام: أبو عمرو. وجملة أهل العلم على الإخفاء لا على الإدغام التام فَيَغْفِرُ ويُعَذِّبُ برفع الراء والباء: يزيد وابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب. وقرأ حمزة غير أبي عمرو والحلواني عن قالون وابن مجاهد وأبو عون وأبو ربيعة عن البزي وخلف لنفسه يعذب من بالإظهار، أبو عمرو يدغم وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ كل القرآن. وكتابه حمزة وعلي وخلف الباقون وَكُتُبِهِ جمعا لا يفرق بياء الغيبة يعقوب. الباقون بالنون أَخْطَأْنا مثل فَادَّارَأْتُمْ [البقرة: 72] . الوقوف: وَما فِي الْأَرْضِ ط بِهِ اللَّهُ ط لمن قرأ فَيَغْفِرُ بالرفع على الاستئناف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 أي فهو يغفر، ومن جزم بالعطف لم يقف. مَنْ يَشاءُ ط. قَدِيرٌ هـ وَالْمُؤْمِنُونَ هـ، لمن لم يقف على من ربه. الْمَصِيرُ هـ، وُسْعَها ط مَا اكْتَسَبَتْ ط أَوْ أَخْطَأْنا ج مِنْ قَبْلِنا ج لأن النداء للابتداء ولكن الواو لعطف السؤال على السؤال لَنا بِهِ ج وَاعْفُ عَنَّا وقفة وَاغْفِرْ لَنا كذلك وَارْحَمْنا كذلك للتفصيل بين أنواع المقاصد والاعتراف بأن أطماعنا غير واحد الْكافِرِينَ هـ. التفسير: إنه تعالى لما جمع في هذه السورة أشياء كثيرة من علم الأصول وهي دلائل التوحيد والنبوة والمعاد وأشياء كثيرة من بيان الشرائع والتكاليف كالصلاة والزكاة والقصاص والصوم والحج والجهاد والحيض والطلاق والعدة والصداق والخلع والإيلاء والإرضاع والبيع والربا والمداينة، ختم السورة بكلام دل على كمال ملكه وهو قوله: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وعلى كمال علمه وهو قوله وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ وعلى كمال قدرته وهو قوله فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وفي ذلك غاية الوعد للمطيعين ونهاية الوعيد للمذنبين. وعن أبي مسلم أنه لما قال: والله بما تعملون عليم. ذكر عليه دليلا عقليا فإن من كان فاعلا لهذه الأفعال المحكمة المتقنة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع الفاخرة لا بد أن يكون محيطا بأجزائها وجزئياتها. وقيل: لما أمر بالوثائق من الكتبة والأشهاد والرهن، ذكر ما علم منه أن المقصود يرجع إلى الخلق وأنه منزه عن الانتفاع به. وقال الشعبي وعكرمه ومجاهد: إنه لما أوعد على كتمان الشهادة ذكر أن له ما في السموات وما في الأرض فيجازي على الكتمان والإظهار. عن ابن عباس وأبي هريرة واللفظ له: لما نزل وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والصدقة. وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما قرأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله عزّ وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا قال: نعم رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا قال: نعم، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ قال نعم وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ قال نعم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 واعلم أن العلماء اتفقوا على أن الأمور التي تخطر بالبال مما يكرهها الإنسان ولا يمكنه إزالتها عن النفس، لا يؤاخذ بها لأنها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق. وأما الخواطر التي يوطن الإنسان نفسه عليها ويعزم على إدخالها في الوجود فقد قيل: إنه يؤاخذ بها لقوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225] وكما يؤاخذ باعتقاد الكفر والبدع وأنه من أفعال القلوب، ثم قال بعضهم: إنما يؤاخذ بها في الدنيا لما روى الضحاك عن عائشة أنها قالت: ما حدث العبد به نفسه من شر كانت محاسبة الله عليه. نعم يبتليه في الدنيا أو حزن أو أذى، فإذا جاءت الآخرة لم يسأل عنه ولم يعاقب. وروت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فأجابها بما هذا معناه. وقيل: إن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل فإنه في محل العفو لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال بعد نزول قوله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلموا» «1» وقيل: معنى قوله وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ أن يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهرا وإما على سبيل الخفية، وعلى هذا فلا حاجة الى التزام النسخ. وكذا لو قيل: إن معنى كونه حسيبا ومحاسبا كونه عالما بما في الضمائر والسرائر فيغفر لمن يشاء وإن كان من أصحاب الكبائر لعموم اللفظ. وعند المعتزلة لمن استوجب المغفرة بالتوبة وهو تخصيص من غير دليل وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مستول على كل الممكنات بالقهر والغلبة والإيجاد والإعدام. فعلى كل عاقل أن يكون له عبدا منقادا خاضعا لأوامره ومراضيه، محترزا عن مساخطه ومناهيه ليستحق المدح والثناء بقوله آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ فإن كمال الربوبية في الواجب يستلزم كمال العبودية في الممكن، وكمال العبودية في الممكن يستتبع كمال الرحمة عليه وذلك قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها إلى آخر السورة. أو نقول: إنه بدأ السورة بذكر المتقين الذين يؤمنون بالغيب، فبيّن في آخرها أن الذين مدحتهم في أول السورة هم أمة محمد وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ثم قال هاهنا وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا كما قال هناك وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] وقال هاهنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ كما قال هنالك وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: 4] ثم حكى عنهم كيفية تضرعهم إلى ربهم بقوله: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إلى آخر السورة كما قال هناك أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:   (1) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 15. مسلم في كتاب الإيمان حديث 201، 202. أبو داود في كتاب الطلاق باب 15. الترمذي في كتاب الطلاق باب 8. ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 14. أحمد في مسنده (2/ 255) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 5] أو نقول: إنه سبحانه لما ذكر في هذه السورة أنواع الشرائع والأحكام، بيّن أن الرسول اعترف لمعجزة دلت له على صدق الملك أن ذلك وحي من الله وصل إليه، وأن الذي أخبره بذلك ملك مبعوث من قبل الله معصوم من التحريف وليس بشيطان مضل. ثم ذكر عقيبه إيمان المؤمنين بذلك لمعجزات أظهرها الله تعالى على يد الرسول حتى استدلت الأمة بها على أنه صادق في دعواه وهو المرتبة المتأخرة. ومن تأمل في نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بسبب فصاحة ألفاظه وبلاغة معانيه، فهو أيضا معجز بحسب ترتيبه ونظم مبانيه. ولعل الذين قالوا إنه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك. ثم هاهنا احتمالان: أحدهما أن يكون تمام الكلام عند قوله: الْمُؤْمِنُونَ فيكون المعنى آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه من ربه ثم ابتدأ بقوله كُلٌّ آمَنَ فيكون الضمير الذي التنوين نائب عنه في كل عائدا إلى الرسول والمؤمنين أي كلهم آمن بل كل واحد ممن تقدم ذكره من الرسول والمؤمنين آمن، ولهذا وحد. ومثل هذا الضمير يجوز أن يفرد بمعنى كل واحد، ويجوز أن يجمع كقوله وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل: 87] وهذا الاحتمال يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم ما كان مؤمنا بربه ثم آمن، فيحمل عدم الإيمان على وقت الاستدلال وذلك أنه عرف بما ظهر من المعجزات على يد جبريل عليه السلام أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام منزل من عند الله تعالى وليس من باب إلقاء الشياطين ولا من نوع السحر والكهانة والشعبذة. والاحتمال الثاني أن يتم الكلام عند قوله مِنْ رَبِّهِ ثم ابتدأ من قوله وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وفي هذا الاحتمال إشعار بأن الذي حدث هو إيمانه بالشرائع التي نزلت عليه كما قال ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52] أما الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على الإجمال فقد كان حاصلا منذ خلق من أول الأمر بل كان نبيا وآدم بين الماء والطين، كما أن عيسى خلق كامل العقل حتى قال في المهد إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم: 30] وعلى هذا فإنما خص الرسول بذلك لأن الذي أنزل إليه من ربه قد يكون متلوا يسمعه الغير ويعرفه فيمكنه أن يؤمن به، وقد يكون وحيا لا يعلمه سواه. فيكون هو صلى الله عليه وسلم مختصا بالإيمان به ولا يتمكن الغير من الإيمان به. واعلم أن الآية دلت على أن معرفة هذه المراتب الأربع من ضروريات الإيمان: المرتبة الأولى هي الإيمان بالله سبحانه فإن صدق المبلغ والرسول يتوقف على وجود المبلغ والمرسل. والثانية الإيمان بالملائكة فإنهم وسائط بين الله وبين البشر. يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [النحل: 2] عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم: 5] . والثالثة الكتب فإنه الوحي الذي يتلقفه الملك ويوصله إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فمثال الملك في عالم الصورة جرم القمر، ومثال الوحي نور القمر. فكما أن القمر يستفيد من نور الشمس ويوصله إلينا فكذا الملك يأخذ الوحي من الله تعالى ويلقيه على الأنبياء فلا جرم وقع الرسل في المرتبة الرابعة. وهذا الترتيب مما تقتضيه حكمة عالم التكليف والوسائط وإلا فمقام لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل معلوم لنبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا سر تطلع منه على أسرار أخرى إن كنت من أهلها، ثم الإيمان بالله عبارة عن الإيمان بوجوده وبصفاته وبأفعاله بأحكامه وبأسمائه. أما الإيمان بوجوده فهو أن تعلم أن وراء المتحيزات موجودا خالقا لها، وعلى هذا التقدير فالمجسم لا يكون مقرا بوجود الإله تعالى فيكون الخلاف معهم في ذات الله تعالى. وأما الفلاسفة والمعتزلة فالخلاف معهم في الصفات لا في الذات، لأنهم مقرون بوجود موجود غير متحيز ولا حال في المتحيز، وأما الإيمان بصفاته فالصفات إما ثبوتية أو سلبية أو إضافية. وقد عرفت في تفسير البسملة ما يصح وصفه تعالى بها وما لا يصح، وكذا في تفسير آية الكرسي. وأما الإيمان بأفعاله فأن تعلم أن كل ما سواه فإنما حصل بتخليقه وتكوينه حتى الأفعال التي تسمى اختيارية للحيوانات، وذلك أن مشيئة الإنسان محدثة منتهية إلى الله سبحانه فهو مضطر في صورة مختار. وقد حققنا هذه المسألة في تفسير قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7] وأما الإيمان بأحكامه فإن تعلم أنها غير معللة بغرض وإن كان يترتب عليها الفوائد، وأن تعلم أن المقصود من شرعها منافع عائدة إلى العباد لا إلى الله فإنه منزه عن جلب المنافع ودفع المضار، وأن تعلم أن له الإلزام والحكم في الدنيا كيف شاء وأراد، وأن تعلم أنه لا يجب على الحق بسبب الأعمال شيء، وأنه في الآخرة يغفر لمن يشاء بفضله ويعذب من يشاء بعدله ولا يقبح منه شيء، لأن الكل ملكه وملكه. وأما الإيمان بأسمائه فهي الأسماء الواردة في كتب الله المنزلة وفي كلمات أنبيائه المرسلة، وقد مر في تفسير البسملة فهذا هو الإشارة إلى معاقد الإيمان بالله. وأما الايمان بالملائكة فهو الإيمان بوجودها. فأما البحث عن أنها روحانية محضة، أو جسمانية محضة، أو مركبة من القسمين، وبتقدير كونها جسمانية فلطيفة أو كثيفة، وإن كانت لطيفة فنورانية أو هوائية فذاك مقام العلماء الراسخين في العلوم القرآنية والبرهانية. ويدخل في الإيمان بالملائكة اعتقاد أنهم معصومون، وأن لذتهم بذكر الله، وحياتهم بمعرفته وطاعته، وأنهم وسائط بين الله وبين البشر، وبهم وصلت الكتب إلى الأنبياء، ولكل طائفة منهم مقام معلوم وجزء مقسوم من أقسام هذا العالم. وأما الإيمان بالكتب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 فإن تعلم أن كلها وحي من عند الله وليس لأحد من المخلوقات أن يلقي فيها شيئا من ضلالاتهم ولا سيما في القرآن العظيم. وإن من قال: إن ترتيب القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان، فقد أخرج القرآن عن كونه حجة وطرق إليه التغيير والتحريف. وأن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه، ومحكمه يكشف عن متشابهه. وأما الإيمان بالرسل فإن تعلم كونهم معصومين عن الذنوب في باب الاعتقاد في أمر التبليغ وفي الفتيا وفي الأخلاق وفي الأفعال كما مر في قصة آدم، وأن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن ليس بني خلافا لبعض الصوفية، وأن بعض الأنبياء أفضل من بعض كما قال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة: 253] وأما فضلهم على الملائكة فقد قال بعضهم: إن الأنبياء أفضل من الملائكة. وقال كثير من العلماء: إن الملائكة السماوية أفضل منهم وإنهم أفضل من الملائكة الأرضية. وقد مر تحقيق ذلك في قصة آدم أيضا. وأن تعلم أن شرعهم وإن صار منسوخا إلا أن نبوتهم لم تصر منسوخة. وإنهم الآن أنبياء ورسل كما كانوا، وناقش بعض المتكلمين في ذلك. فهذه إشارة إلى أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله. وأما من قرأ وكتابه على الوحدة فإما أن يراد به القرآن، ثم الإيمان به يتضمن الإيمان بمجموع الكتب والرسل. وإما أن يراد به جنس الكتب السماوية فإن اسم الجنس المضاف قد يفيد العموم كقوله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34] وقال أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ [البقرة: 187] وهذا الإحلال شائع في جميع الصيام. قال العلماء: قراءة الجمع أولى لمشاكلة ما قبله وما بعده. وقيل: قراءة الإفراد أولى لأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع. ومن هنا قال ابن عباس: الكتاب أكثر من الكتب. ومن قرأ لا نُفَرِّقُ بالنون فلا بد من إضمار أي يقولون لا نفرق. ومن قرأ بالياء على أن الفعل لكل فلا حاجة إلى الإضمار، ثم إن الجملة خبر أو حال واحد في معنى الجمع. أي بين كل منهم وبين آخر منهم، فإن النكرة في سياق النفي تعم ولذلك صلحت لدخول «بين» عليها. وليس المراد بعدم التفريق عدم التفضيل لقوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة: 253] بل المراد عدم التفريق في الإيمان بهم وفي اعتقاد نبوتهم لظهور المعجزات على أيديهم حسب دعاويهم. والغرض منه تزييف معتقد اليهود والنصارى الذين يقرون بنبوة موسى وعيسى دون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وعن أبي مسلم: لا نفرق ما جمعوا كقوله وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] واعلم أن قوله آمَنَ الرَّسُولُ إلى قوله بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ إشارة إلى استكمال القوة النظرية بهذه المعارف الشريفة وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا إشارة إلى استكمال القوة العملية بالأعمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 الفاضلة الكاملة. أو نقول: إن للإنسان أياما ثلاثة الأمس والبحث عنه يسمى معرفة المبدأ، واليوم والبحث عنه يسمى بالوسط، والغد والفحص عنه يسمى بعلم المعاد. فقوله: آمَنَ الرَّسُولُ إلى قوله مِنْ رُسُلِهِ إشارة إلى معرفة المبدأ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا إشارة إلى الوسط وغُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ علم المعاد ومثله في آخر سورة هود وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [هود: 123] وهو معرفة المبدأ لأن الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة. وقوله: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [هود: 123] فيه بيان كمال العلم، وقوله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ فيه كمال القدرة. وأما علم الوسط وهو علم ما يجب أن يشتغل به اليوم فبدايته الاشتغال بالعبودية وهو قوله: فَاعْبُدْهُ [هود: 123] ونهايته قطع النظر عن الأسباب، وتفويض الأمور كلها إلى مسبب الأسباب وهو قوله وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123] وأما علم المعاد فقوله: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود: 123] أي ليومك غد سيصل إليك فيه نتائج أعمالك ومثله سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 180] وهو معرفة المبدأ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 181] وفيه إشارة إلى عالم الوسط وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الصافات: 182] إشارة إلى علم المعاد كقوله وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] والوقوف على هذه الأسرار إنما يكون بجذبة من ضيق عالم الأسرار إلى فسحة عالم الأنوار. أو نقول وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ إشارة إلى الأحكام العقليات وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا إشارة إلى الأحكام السمعيات. قال الواحدي: أي سمعنا قوله وأطعنا أمره. وقيل: حذف المفعول صورة. ومعنى هاهنا أولى ليفيد أنه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلا قوله، ولا أمر تجب إطاعته إلا أمره. والسماع هاهنا بمعنى القبول أي سمعناه بآذان عقولنا وعرفنا صحته وتيقنا أن كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء عليهم السلام، فهو حق صحيح واجب قبوله، ثم قال وَأَطَعْنا فدل هذا على أنه كما صح اعتقادهم في هذه التكاليف فهم ما أخلوا بشيء منها، فجمع الله تعالى بهذين اللفظين كل ما يتعلق بأبواب التكاليف علما وعملا. غُفْرانَكَ مصدر منصوب بإضمار فعله أي اغفر. ويقال: غفرانك اللهم لا كفرانك. من قوله وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ [آل عمران: 115] أي لن تعدموا جزاءه. وفي الكشاف: أي نستغفرك ولا نكفرك. وقيل: معناه نسألك غفرانك فيكون مفعولا به. والأشهر أنه مصدر حذف فعله وجوبا لكثرة الاستعمال وللاستغناء به عن فعله نحو: سقيا ورعيا. وهاهنا سؤال وهو أن القوم لما قبلوا التكليف وعملوا به فأي حاجة بهم إلى طلب المغفرة؟ والجواب لعلهم خافوا أن يكون قد فرط منهم تقصير فيما يأتون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 ويذرون، أو لعلهم كانوا يرتقون في درجات العبودية فيستغفرون مما قد خلفوها، ومن هاهنا قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد حمل قوله صلى الله عليه وسلم «وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» «1» على مثل هذا. ولأن جميع الطاعات في جنب مواجب حقوق الإلهية جنايات وتقصير وقصور، ولهذا حكى عن أهل الجنة دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ [يونس: 10] أي أنت منزه عن تسبيحنا وتقديسنا وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] أي كل الحمد له، وإن كنا لا نقدر على فهم ذلك الحمد بعقولنا ولا على ذكره بألسنتنا. ثم إن طلب هذا الغفران مقرون بأمرين: أحدهما بالإضافة إليه، والثاني بقوله: رَبَّنا أما القيد الأول فمعناه أطلب المغفرة منك وأنت الكامل في هذه الصفة والمطموع من الكامل في صفة أن يعطي عطية كاملة، وما ذاك إلا بأن يغفر جميع الذنوب ويبدّلها حسنات. أو تكون الإضافة إشارة إلى ما ورد في الحديث «إن لله تعالى مائة جزء من الرحمة قسم جزءا منها على الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوانات فبها يتراحمون ويتعاطفون. وأخر تسعة وتسعين جزءا ليوم القيامة» «2» أو لعل العبد يقول: كل صفة من صفاتك فإنما يظهر أثرها في محل معين. فلولا الوجود بعد العدم لما ظهرت آثار قدرتك، ولولا الترتيب العجيب والتأليف الأنيق لما ظهرت آثار علمك، ولولا جرم العبد وجنايته وعجزه وحاجته لم يظهر آثار مغفرتك ورأفتك. فأنا أطلب الغفران الذي لا يمكن ظهوره إلا في حقي وفي حق أمثالي من المذنبين. وأما القيد الثاني فمعناه ربيتني إذ أوجدتني مع أنك لو لم تربني في ذلك الوقت لم أتضرر به لأني كنت أبقى في العدم، والآن لو لم تربني أتضرر به فأسألك أن لا تهملني. أو ربيتني حين لم أذكرك بالتوحيد فكيف يليق بكرمك أن لا تربيني وقد أفنيت عمري في توحيدك؟ أو ربيتني في الماضي فاجعل تربيتك لي في الماضي شفيعا إليك في أن تربيني في المستقبل، أو ربيتني فيما مضى فأتمم هذه التربية فيما يستقبل فإن إتمام المعروف خير من ابتدائه، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ حيث لا حكم إلا حكمك ولا يشفع أحد إلا بإذنك. وفيه اعتراف بأنه تعالى عالم بالجزئيات قادر على كل الممكنات، له المحيا وله الممات. قوله سبحانه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها إن قلنا إنه   (1) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث 41. أبو داود في كتاب الوتر باب 26. الترمذي في كتاب تفسير سورة 47 باب 1. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 57. الدارمي في كتاب الرقاق باب 15. أحمد في مسنده (2/ 45) . (2) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 19. مسلم في كتاب التوبة حديث 17. الترمذي في كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 35. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 من تمام كلام المؤمنين فوجه النظم أنهم قالوا: كيف لا نسمع ولا نطيع وإنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا. وإن قلنا إنه من كلام الله تعالى مستأنفا فالوجه أنهم لما قالوا سمعنا وأطعنا ثم طلبوا المغفرة، دل ذلك على أنه لا يصدر عنهم زلة إلا على سبيل السهو والنسيان، فلا جرم خفف الله تعالى عنهم إجابة لدعائهم. والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه كالصلوات الخمس وصوم رمضان والحج، فإنه كان من إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويحج أكثر من حجة. ولكنه تعالى ما جعل في الدين من حرج لكمال رحمته وشمول رأفته. واعلم أن المعتزلة عولوا في نفي تكليف ما لا يطاق على هذه الآية، ثم استنبطوا منها أصلين: الأول أن العبد موجد لأفعال نفسه إذ لو كان بتخليق الله تعالى لم يكن للعبد قدرة على دفعها لضعف قدرته، ولا على فعلها إذ الموجود لا يوجد. ثانيا، فتكليف العبد بالفعل يكون تكليف ما لا يطاق. الثاني أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لكان المأمور بالإيمان غير قادر عليه، فيلزم تكليف ما لا يطاق. أما الأشاعرة فقالوا: تكليف من مات على الكفر كأبي لهب مع العلم بعدم إيمانه تكليف بالجمع بين النقيضين. والجواب أن العلم بعدم الإيمان ليس تكليفا بعدم الإيمان حتى يلزم التكليف بالنقيضين، والتكليف بأمر ممكن لذاته ممتنع لغيره غير التكليف بأمر مستحيل لذاته الذي هو محل النزاع. لكن الأشعري لما كانت حجته قوية عنده خصص الآية بأنها إنما وردت في التكاليف الممكنة، إذ التكليف بالممتنع ليس تكليفا بالحقيقة وإنما هو إعلام وإشعار بأنه خلق من أهل النار. على أنه لو جعلت من قول المؤمنين لم يبق فيها حجة، ويحتمل أن يقال: لما حكاه عنهم في معرض المدح وجب أن يكونوا صادقين فيه لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ قال الواحدي: إن الكسب والاكتساب واحد. قال تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الأنعام: 164] وقيل: الاكتساب أخص لأن الكسب لنفسه ولغيره، والاكتساب ما يكتسب لنفسه خاصة. وقيل: في الاكتساب مزيد اعتمال وتصرف لهذا خص بجانب الشر دلالة على أن العبد لا يؤاخذ من السيئات إلا بما عقد الهمة عليه وربط القلب به بخلاف الخير فإنه يثاب عليه كيفما صدر عنه. قالت المعتزلة: في الآية دليل على أن الخير والشر كلاهما مضاف إلى العبد، ولو كانا بتخليق الله تعالى لبطلت هذه الإضافة وجرى صدور أفعاله منه مجرى لونه وطوله وشكله مما لا قدرة له عليه البتة، ولانتفت فائدة التكليف وقد سبق تحقيق المسألة مرارا، وكذا تفسير الكسب وبيان المذاهب فيه في تفسير وبيان المذاهب فيه في تفسير قوله تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ [البقرة: 134] . واحتج الأصحاب بالآية على فساد القول بالمخاطبة لأنه تعالى بيّن أن لها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 ثواب ما كسبت وعليها عقاب ما اكتسبت، وهذا صريح في أن الاستحقاقين يجتمعان، وأنه لا يلزم من طرّو أحدهما زوال الآخر. وقال الجبائي: تقدير الآية لها ما كسبت من ثواب العمل الصالح إذا لم يبطله، وعليها ما اكتسبت إذا لم يكفر بالتوبة وإنما أضمرنا هذا الشرط لأن الثواب منفعة دائمة والعقاب مضرة دائمة، والجمع بينهما محال. واحتج كثير من المتكلمين بالآية في أن الله تعالى لا يعذب الأطفال بذنوب آبائهم، والفقهاء تمسكوا بها في إثبات أن الأصل في الأملاك البقاء والاستمرار. وفرعوا عليه مسائل منها: أن المضمونات لا تملك بأداء الضمان، لأن المقتضى لبقاء الملك قائم وهو قوله لَها ما كَسَبَتْ والعارض الموجود إما الغصب وإما الضمان وهما لا يوجبان زوال الملك بدليل أم الولد والمدبر. ومنها أنه لا شفعة للجار لأن المقتضي لبقاء الملك قائم وهو قوله لَها ما كَسَبَتْ عدلنا عن الدليل في الشريك لكثرة تضرره بالشركة فيبقى في الجار على الأصل. ومنها أن القطع لا يسقط الضمان لوجود المقتضي، والقطع لا يوجب زوال الملك بدليل أن المسروق متى كان باقيا وجب رده على المالك. ومنها أن منكري وجوب الزكاة احتجوا به، والجواب أن دلائل وجوب الزكاة أخص والخاص مقدم على العام. ثم إنه تعالى حكى عن المؤمنين أربعة أنواع من الدعاء: الأول رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ومعنى لا تؤاخذنا لا تعاقبنا. وقد يكون فاعل بمعنى فعل نحو: سافرت وعاقبت اللص. وقيل: معنى المشاركة هاهنا أن الناسي قد أمكن من نفسه وطرّق السبيل إليها بفعله فصار من يعاقبه بذنبه كالمعين لنفسه في إيذاء نفسه. وفي التفسير الكبير: إن الله يأخذ المذنب بالذنب والمذنب يأخذ ربه بالعفو والكرم أي يتمسك عند الخوف من عذابه برحمته، وهذا معنى المؤاخذة بين العبد والرب. والمراد بالنسيان إما الترك وهو أن يترك الفعل لتأويل فاسد كما أن الخطأ هو أنه يفعل الفعل لتأويل فاسد ومنه قوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] أي تركوا العمل لله فترك أن يثيبهم، وإما ضد الذكر. وأورد عليه أن النسيان والخطأ متجاوز عنهما في قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «1» فما معنى الدعاء؟ والجواب من وجوه: الأول أن النسيان منه ما يعذر صاحبه فيه ومنه ما لا يعذر. فمن رأى دما في ثوبه وأخر إزالته إلى أن نسي فصلى وهو على ثوبه عد مقصرا إذا كان يلزمه المبادرة إلى إزالته. وكذا إذا تغافل عن تعاهد القرآن حتى نسي فإنه يكون ملوما بخلاف ما لو واظب على القراءة ومع   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 16. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 ذلك نسي فإنه يكون معذورا. وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يذكر حاجته شد خيطا في أصبعه فثبت أن الناسي قد لا يكون معذورا وذلك إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر، وإذا كان كذلك صح طلب غفرانه بالدعاء. والحاصل أنه ذكر النسيان والخطأ والمراد بهما ما هما مسببان عنهما من التفريط والإغفال. الثاني أن هذا على سبيل الفرض والتقدير وذلك أنهم كانوا متقين لله حق تقاته، فما كان يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه الخطأ والنسيان، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذانا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به فكأنه قيل: إن كان النسيان مما يجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذنا به. الثالث أن العلم بأن النسيان مغفور لا يمنع من حسن طلبه بالدعاء، فربما يدعو الإنسان بما يعلم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله إما لاستدامته وإما لاعتداد تلك النعمة أو لغير ذلك كقوله قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الأنبياء: 112] رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمران: 194] وقالت الملائكة: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غافر: 7] . الرابع أن مؤاخذة الناسي غير ممتنعة عقلا وإنما عرف عدم المؤاخذة بالآية والحديث، فلما كان ذلك جائزا في العقل حسن طلب المغفرة منه بالدعاء. وقد يتمسك به من يجوّز تكليف ما لا يطاق فيقول الناسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل، فلولا أنه جائز من الله تعالى عقلا لما أرشد الله تعالى إلى طلب ترك المؤاخذة عليه. وقد يستدل به على حصول العفو لأهل الكبائر قالوا: إن النسيان والخطأ لا بد أن يفسرا بما فيه العمد والقصد إلى فعل ما لا ينبغي. إذ لو فسرا بما لا عمد فيه فالمؤاخذة على ذلك قبيحة عند الخصم، وما يقبح من الله فعله يمتنع طلب تركه بالدعاء. وإذا فسرا بما ذكرنا وقد أمر الله المسلمين أن يدعوه بترك المؤاخذة على تعمد المعصية دل ذلك على أنه يعطيهم هذا المطلوب فيكون العفو لصاحب الكبيرة مرجوا. النوع الثاني: من الدعاء رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا الإصر الثقل والشدة ثم يسمى العهد إصرا لأنه ثقيل. والإصر العطف لأن من عطفت عليه ثقل على قلبك ما يصل إليه من المكاره. يقال: ما تأصرني على فلان آصرة أي ما تعطفني عليه قرابة ولا منة، والمعنى لا تشدد علينا في التكاليف كما شدّدت على من قبلنا من اليهود، قال المفسرون: إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة، ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها، وكان عذابهم معجلا في الدنيا. فأجاب الله تعالى دعاءهم كما قال: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 157] وقال صلى الله عليه وسلم «رفع عن أمتي المسخ والخسف والغرق» وإنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير والتقصير موجب العقوبة. وقيل: معناه لا تحمل علينا عهدا أو ميثاقا يشبه ميثاق من قبلنا في الغلظ والشدة وهو قريب من الأول. قال بعض العلماء: اليهود لما كانت الفظاظة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وغلظ القلب غالبة عليهم كانت مصالحهم في التكاليف الشديدة الشاقة، وهذه الأمة الرقة وكرم الخلق غالبة عليهم فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ. وأما أن اليهود لم خصت بغلظ الطبع وهذه الأمة باللطافة والكرم فليس إلينا أن نعلم تفاصيل جميع الكائنات وما لا يدرك كله لا يترك كله. النوع الثالث: الدعاء رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ومن الأصحاب من تمسك به في جواز تكليف ما لا يطاق إذ لو لم يكن جائزا لما حسن طلب تركه بالدعاء. وأجاب المعتزلة عنه بأن معنى قوله: لا طاقَةَ لَنا أي ما يشق فعله لا الذي لا قدرة لنا عليه. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المملوك: «له طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق» أي لا يشق عليه. وزيف بأن معناه ومعنى الآية المتقدمة يكون حينئذ واحدا فعدلوا عن ذلك وقالوا: المراد منه العذاب أي لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله. سلمنا أنهم سألوا الله تعالى أن لا يكلفهم ما لا قدرة لهم عليه، لكن ذلك لا يدل على جواز أن يفعل خلاف ذلك كما أن قوله رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ لا يدل على جواز أن يحكم بباطل. وكذا قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشعراء: 87] لا يدل على أن خزي الأنبياء جائز. قيل: لم خص التكليف الشاق بالحمل والتكليف الذي لا قدرة عليه بالتحميل؟ وأجيب بأن الحاصل فيما لا يطاق هو التحميل دون الحمل. قيل: لما طلب أن لا يكلفه بالفعل الشاق كان من لوازمه أن لا يكلفه بما لا يطاق فكان المناسب طرح هذا الدعاء لا أقل من عكس الترتيب. والجواب على تفسير المعتزلة ظاهر أي لا تحملنا عذابك فإنهم طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم، ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها. وأما على تفسير الأشاعرة فهو أنهم سألوا أن لا يكلفهم تكليفا شاقا مقيدا وهو التكليف بما كلف من قبلهم، ثم سألوا أن لا يكلفهم التكليف الشاق الذي لا قدرة لهم عليه مطلقا سواء كلف بذلك من قبلهم أم لا. وقيل: الأول طلب ترك التشديد في مقام القيام بظاهر الشريعة، والثاني طلب ذلك في مقام الحقيقة وهو مقام الاشتغال بمعرفة الله وخدمته وطاعته وشكر نعمه أي لا تطلب مني حمدا يليق بجلالك ولا شكرا يليق بآلائك ونعمائك، ولا معرفة تليق بقدس عظمتك وكمالك. وأما الفائدة في حكاية هذه الأدعية بصيغة الجمع في لا تُؤاخِذْنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا فذلك أنه إذا اجتمعت النفوس والهمم على كل شيء كان حصوله أرجى. النوع الرابع من الدعاء وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وإنما حذف النداء وهو قوله «ربنا» هاهنا لأن النداء يشعر بالبعد. فترك النداء يؤذن بأن العبد إذا واظب على التضرع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 والدعاء نال مقام القربة والزلفى من الله. والفرق بين العفو والمغفرة والرحمة أن العفو إسقاط العذاب، والمغفرة أن يستر عليه بعد ذلك جرمه صونا له عن عذاب التخجيل والفضيحة فإن الخلاص من عذاب النار إنما يطيب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة. فالأول هو العذاب الجسماني والثاني هو العذاب الروحاني. وبعد التخلص منهما أقبل على طلب الثواب وهو أيضا قسمان: جسماني هو نعيم الجنة وطيباتها وهو قوله وَارْحَمْنا وروحاني هو إقبال العبد بكليته على مولاه وهو قوله أَنْتَ مَوْلانا ففيه الاعتراف بأنه سبحانه هو المتولي لكل نعمة ينالونها، وهو المعطي لكل مكرمة يفوزون بها، وأنهم بمنزلة الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمه، والعبد الذي لا ينتظم شمل مهماته إلا بإصلاح مولاه. وبهذا الاعتراف يحق الوصول إلى الحق «من عرف نفسه» أي بالإمكان والنقصان «عرف ربه» أي بالوجوب والتمام. ثم إذا وصل إلى الحق أعرض بالكلية عما سواه وهو قوله فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أعنا على قهر كل من خالفك وناواك وعلى غلبة القوى الجسمانية الداعية إلى ما سواك. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة قيل: وما البطلة؟ قال: السحرة» «1» وعنه صلى الله عليه وسلم «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» «2» وعنه صلى الله عليه وسلم «أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبي قبلي» «3» وعنه صلى الله صلى الله عليه وسلم «أنزل الله آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل» وروى الواحدي عن مقاتل بن سليمان أنه لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء أعطي خواتيم سورة البقرة فقالت الملائكة له: إن الله عز وجل أكرمك بحسن الثناء بقوله آمَنَ الرَّسُولُ فاسأله وارغب إليه. فعلّمه جبريل عليه السلام كيف يدعو فقال النبي صلى الله عليه وسلم غُفْرانَكَ رَبَّنا فقال الله: قد غفرت لكم. فقال: لا تُؤاخِذْنا فقال الله: لا أؤاخذكم. فقال: لا تحمل علينا إصرا. فقال: لا أشدد عليكم. فقال: لا تحملنا ما لا طاقة لنا به. فقال: لا أحملكم ذلك. فقال: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا فقال الله: قد عفوت عنكم   (1) رواه الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 13. (2) رواه البخاري في كتاب المغازي باب 12. مسلم في كتاب المسافرين حديث 255. أبو داود في كتاب رمضان باب 9. الترمذي في كتاب ثواب القران باب 4. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 183. الدارمي في كتاب الصلاة باب 170. (3) رواه أحمد في مسنده (4/ 147، 158) ، (5/ 151) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 وغفرت لكم وأنصركم على القوم الكافرين. وفي بعض الروايات أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يذكر هذه الدعوات والملائكة كانوا يقولون آمين. التأويل: الإنسان مركب من عالمي الأمر والخلق. له روح نوراني من عالم الأمر والملكوت، وله نفس ظلمانية من عالم الخلق والملك، ولكل منهما نزاع وشوق إلى عالمه. فغاية بعثة الأنبياء تزكية النفوس عن ظلمة أوصافها وتحليتها بأنوار الأرواح، وحاصل تسويل الشيطان عكس هذه القضية وإليه الإشارة في قوله إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ مودع من أنوار الأخلاق الروحانية في الظاهر بأعمال الشريعة في الباطن بأحوال الحقيقة أَوْ تُخْفُوهُ بإبراز ظلمات الأوصاف النفسية في الظاهر بمخالفات الشريعة، وفي الباطن بموافقات الطبيعة يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ بطهارة النفس لقبول أنوار الروح أو بتلوث الروح لقبول ظلمات النفس فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ فينور نفسه بأنوار الروح وروحه بأنوار الحق وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ فيعاقب نفسه بنار دركات السعير وروحه بنار فرقة العلي الكبير وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من إظهار اللطف والقهر على تركيب عالمي الأمر والخلق قَدِيرٌ لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى وبلغ المقصد الأعلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [النجم: 9] أكرم بالسلام قبل الكلام فقيل: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. فأجاب صلى الله عليه وسلم بقوله: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. فقيل له آمَنَ الرَّسُولُ عبانا بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ فقال من كمال رأفته بأمته وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ إلى قوله سَمِعْنا وَأَطَعْنا فقال الله تعالى: ما يطلبون مني في جزاء السمع والطاعة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ما يطلبون إلا أن تسترهم بسربال فضلك ويكون مصيرهم إليك لا إلى غيرك كما كان مصيري إليك لا إلى من سواك. قال الله في جوابه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها إنك في مقام لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولهذا قال لك جبريل: لو دنوت أنملة لاحترقت. وإن الأنبياء والمرسلين الذين اصطفيناهم على العالمين وكل طائفة منهم في سماء واقفون حبستهم رحمتي كيلا تحرقهم سبحات وجهي وسطوات قهري، فكيف أكلف أمتك المذنبة المرحومة بهذا المصير وأنا بضعف حالهم بصير؟ وإنما بلغك هذا المقام حتى جاوزت الرسل الكرام أن اتخذتك حبيبا قبل أن أخلقك وخلقت الكائنات لمحبتك ولأن أمتك أكرم الأمم، ولهم بسبب شفاعتك اختصاص بمحبتي إياهم ما داموا في متابعتك فقل لهم إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] فبقدر ما كسبت أمتك من أنوار متابعتك تستحق المصير إلى حضرة جلالنا وشواهد جمالنا، وعلى قدر ما اكتسبت بالتواني عن ظل متابعتك تستأهل المصير إلى دركات السعير. فتارة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 أسكره لذة هذا الخطاب وأخرى أقحمته سطوة هذا العتاب. فقال رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا أي لا تعاقب أمتي إن نسيت عهدك الذي عاهدتهم أن يحبوك ولا يحبوا غيرك، أو أخطأت طريق طلبك ولكن ما أخطأت طريق عبوديتك فلم يعبدوا غيرك وأنت قلت: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً بأن تجعلنا أسرى النفس الأمارة فنعبد عجل الهوى ونار الشهوات كما عبد الذين من قبلنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بالصبر عن شهود جمالك وَاعْفُ عَنَّا حجب أنانيتنا وَاغْفِرْ لَنا بشواهد هويتك وَارْحَمْنا برفع البينونة من بيننا أَنْتَ مَوْلانا وولينا في رفع وجودنا وناصرنا في نيل مقصودنا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ بجذبات عنايتك وأعنا في المصير إليك على قمع كفار الاثنينية التي تمنعنا من وحدتك. بيني وبينك إنّي يزاحمني ... فارفع بجودك إنّي من البين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 (سورة آل عمران وهي مدنية) (حروفها 4424 كلماتها 485 آياتها مائتان) [سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) القراآت: الم اللَّهُ مقطوعة الألف والميم ساكنة: يزيد والمفضل والأعشى والبرجمي الباقون موصولا بفتح الميم. التَّوْراةَ ممالة حيث كان: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف والنجاري عن ورش، والخزاز عن هبيرة، وابن ذكوان غير ابن مجاهد كَدَأْبِ حيث كان بغير همزة: أبو عمرو وغيره شجاع ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش والخزاز عن هبيرة وحمزة عن الوقف. الوقوف: الم ج كوفي مختلف فإن غير الأعشى والبرجمي ويزيد والمفضل يصلون. إِلَّا هُوَ ج الْقَيُّومُ ط وَالْإِنْجِيلَ ط الْفُرْقانَ ط شَدِيدٌ ط انْتِقامٍ هـ، فِي السَّماءِ ط كَيْفَ يَشاءُ ط الْحَكِيمُ هـ، مُتَشابِهاتٌ ط لاستئناف تفصيل وَابْتِغاءَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 تَأْوِيلِهِ ج لأن الواو تصلح استئنافا والحال أليق إِلَّا اللَّهُ م عند أهل السنة لأنه لو وصل فهم أن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه كما يعلم الله، ومن لم يحترز عن هذا وجعل المتشابه غير صفة الله ذاتا وفعلا من الأحكام التي يدخلها القياس و التأويل وجعل المحكمات الأصول النصوص الجمع عليها فعطف قوله وَالرَّاسِخُونَ على اسم الله وجعل يَقُولُونَ حالا لهم ساغ له أن لا يقف على إِلَّا اللَّهُ. آمَنَّا بِهِ (لا) لأن قوله كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا من مقولهم فإن التسليم من تمام الإيمان. مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ج لاحتمال أن ما بعده مقولهم الْأَلْبابِ هـ، رَحْمَةً ج للابتداء بأن ولاحتمال لام التعليل أو فاء التعقيب للتسبيب الْوَهَّابُ هـ، فِيهِ ط الْمِيعادَ هـ، شَيْئاً ط النَّارِ (لا) لتعلق كاف التشبيه فِرْعَوْنَ (لا) للعطف، مِنْ قَبْلِهِمْ ط، بِآياتِنا ج للعدول مع فاء التعقيب بِذُنُوبِهِمْ ط الْعِقابِ هـ. التفسير: أما قراءة عاصم فلها وجهان: الأول نية الوقف ثم إظهار الهمزة لأجل الابتداء. الثاني أن يكون ذلك على لغة من يقطع ألف الوصل. وأما من فتح الميم ففيه قولان: أحدهما قول الفراء واختيار كثير من البصريين وصاحب الكشاف أن أسماء الحروف موقوفة الأواخر تقول: ألف، لام، ميم كما تقول: واحد، اثنان، ثلاثة، وعلى هذا وجب الابتداء بقوله اللَّهُ فإذا ابتدأنا به تثبت الهمزة متحركة إلا أنهم أسقطوا الهمزة للتخفيف وألقيت حركتها على الميم لتدل حركتها على أنها في حكم المبقاة بسبب كون هذه اللفظة مبتدأ بها، فكأن الهمزة ساقطة بصورتها باقية بمعناها. وثانيهما قول سيبويه وهو أنه لما وصل اللَّهُ ب الم التقى ساكنان بل سواكن ضرورة سقوط الهمزة في الدرج، فوجب تحريك الأول أعني الوسطاني منها وهو الميم وكان الأصل هو الكسر إلا أنهم فتحوا الميم محافظة على التفخيم. فافتحة على هذا القول ليست هي المنقولة من همزة الوصل فلا يرد عليه ما يرد على القول الأول من أن الهمزة حيث لا وجود لها في الوصل أصلا فكيف تنقل حركتها. قال الواحدي: نقل المفسرون أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران ستون راكبا فبهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم، أحدهم أميرهم واسمه عبد المسيح والثاني مشيرهم ووزيرهم، وكانوا يقولون له السيد واسمه الأيهم، والثالث حبرهم وأسقفهم وصاحب مدارسهم يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل. وكان ملوك الروم شرفوه وموّلوه فأكرموه لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما قدموا من نجران ركب أبو حارثة بغلته وكان إلى جنبه أخوه كرز بن علقمة فبينما بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت فقال كرز أخوه: تعس الأبعد يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو حارثة: بل تعست الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 أمك. فقال: ولم يا أخي؟ فقال: إنه والله النبي صلى الله عليه وسلم الذي ننتظره. فقال له أخوه كرز: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال: لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالا كثيرة وأكرمونا. فلو آمنا بمحمد لأخذوا منا كل هذه الأشياء. فوقع ذلك في قلب أخيه كرز وكان يضمره إلى أن أسلم، وكان يحدث بذلك، ثم تكلم أولئك الثلاثة- الأمير والسيد والحبر- مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على اختلاف من أديانهم. فتارة يقولون عيسى هو الله، وتارة ابن الله، وتارة ثالث ثلاثة، ويحتجون لقولهم هو «الله» بأنه كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير، ويحتجون في قولهم «إنه ولد الله» بأنه لم يكن له أب يعلم، ويحتجون على «ثالث ثلاثة» بقول الله تعالى: «فعلنا وفعلنا» ولو كان واحدا لقال «فعلت» . وقد حان وقت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم. فصلوا إلى المشرق، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلموا. فقالوا: قد أسلمنا قبلك. فقال صلى الله عليه وسلم: كذبتم. كيف يصح إسلامكم وأنتم تثبتون لله ولدا، وتعبدون الصليب وتأكلون الخنزير؟ قالوا: فمن أبوه؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى في ذلك أول سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها آية المباهلة. ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يناظر معهم فقال: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أنه حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ فهل يملك عيسى شيئا من ذلك؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهل يعلم عيسى شيئا من ذلك إلا ما علم؟ قالوا: لا. قال: فإن ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، فهل تعلمون ذلك؟ قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث، وتعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة وغذي كما يغذى الصبي، ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا: بلى. فقال صلى الله عليه وسلم: فكيف يكون هو كما زعمتم؟ فعرفوا ثم أبوا إلا حجودا ثم قالوا: يا محمد، ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال: بلى، قالوا: فحسبنا. ففي ذلك نزل فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ الآية. وتمام القصة سيجيء في آية المباهلة إن شاء الله تعالى. واعلم أن مطلع هذه السورة له نظم عجيب ونسق أنيق. وذلك أن أولئك النصارى كأنه قيل لهم: إما أن تنازعوه في شأن الإله أو في أمر النبوة. أما الأول فالحق فيه معه لأنه تعالى حيّ قيوم كما مر في تفسير آية الكرسي، وأن عيسى ليس كذلك لأنه ولد وكان يأكل ويشرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 ويحدث. والنصارى زعموا أنه قتل وما قدر على دفع القتل عن نفسه. وهذه الكلمة أعني قوله اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ جامعة لجميع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى بالتثليث. وأما الثاني فقوله نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ كالدعوى. وقوله وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ كالدليل عليها. وتقريره أنكم وافقتمونا على أن التوراة والإنجيل كتابان إلهيان لأنه تعالى قرن بإنزالهما المعجزة الدالة على الفرق بين قولهما وبين أقوال الكاذبين. ثم إن المعجز قائم في كون القرآن نازلا من عند الله كما قام في الكتابين. وإذا كان الطريق مشتركا فالواجب تصديق الكل كالمسلمين. أما قبول البعض ورد البعض فجهل وتقليد، وإذا لم يبق بعد ذلك عذر لمن ينازعه في دينه فلا جرم ختم بالتهديد والوعيد فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وإنما خص القرآن بالتنزيل والكتابين بالإنزال لأنه نزل منجما، فكان معنى التكثير حاصلا فيه، وأنهما نزلا جملة. وأما قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الكهف: 1] فالمراد هناك نزوله مطلقا من غير اعتبار التنجيم. قال أبو مسلم: قوله بِالْحَقِّ أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم، أو أن ما فيه من الوعد والوعيد يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال ويمنعه عن سلوك الطريق الباطل، وأنه قول فصل وليس بالهزل. وقال الأصم: أي بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية، ولبعضهم على بعض من سلوك سبيل العدالة والإنصاف في المعاملات. وقيل: مصونا من المعاني الفاسدة المتناقضة كقوله وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الكهف: 1، 2] لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] وفي قوله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إنه لو كان من عند غير الله لم يكن موافقا لسائر الكتب المتقدمة، لأن من هو على مثل حاله من كونه أميا لم يخالط أهل الدرس والقراءة إن كان مفتريا استحال أن يسلم من التحريف والجزاف. وفيه أنه تعالى لم يبعث نبيا قط إلا بالدعاء إلى توحيده وتنزيهه عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان. فإن قيل: كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه؟ فالجواب أن هذا اللفظ صار مطلقا في معنى التقدم، أو لغاية ظهور تلك الأخبار جعلها كالحاضر عنده. فإن قلت: كيف يكون مصدقا لما تقدمه من الكتب مع أنه ناسخ لأحكامها أكثرها؟ قلنا: إذا كانت الكتب مبشرة بالقرآن وبالرسول ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثته ثم تصير منسوخة عند نزول القرآن، كانت موافقة للقرآن، وكان القرآن مصدقا لها. فأما فيما عدا الأحكام فلا شبهة في أن القرآن مصدق لها لأن المباحث الإلهية والقصص والمواعظ لا تختلف. والتوراة والإنجيل اسمان أعجميان أحدهما بالعبرية والآخر بالسريانية. فالاشتغال باشتقاقهما لا يفيد إلا أن بعض الأدباء قد تكلف ذلك فقال الفراء: التوراة معناها الضياء والنور من ورى الزند يرى إذا قدح وظهرت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 النار. قال: وأصلها تورية بفتح التاء والراء ولهذا قلبت الياء ألفا. أو تورية بكسر الراء «تفعلة» مثل «توفية» إلا أن الراء فتحت على لغة طي فإنهم يقولون في بادية «بأداة» . وزعم الخليل والبصريون أن أصلها «وورية» «فوعلة» كصومعة فقلبت الواو الأولى تاء كتجاه وتراث. وأما الإنجيل فالزجاج: إفعيل من النجل الأصل أي هو الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين. وقيل: من نجلت الشيء استخرجته أي إنه تعالى أظهر الحق بسببه. أبو عمرو الشيباني: التناجل التنازع سمي بذلك لأن القوم تنازعوا فيه. ومعنى قوله مِنْ قَبْلُ أي من قبل أن ينزل القرآن. وهُدىً لِلنَّاسِ إما أن يكون عائدا إلى الكتابين فقط فيكون قد وصف القرآن بأنه حق، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هدى. وإنما لم يوصف القرآن بأنه هدى مع أنه قال في أول البقرة هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] لأن المناظرة هاهنا مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن، فذكر أنه حق في نفسه سواء قبلوه أو لم يقبلوه، وأما الكتابان فهم قائلون بصحتهما فخصهما بالهداية لذلك، وإما أن يكون راجعا إلى الكتب الثلاثة وهو قول الأكثرين. وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ قيل: أي جنس الكتب السماوية لأنها كلها تفرق بين الحق والباطل. وقيل: أي الكتب التي ذكرها كأنه وصفها بوصف آخر فيكون كما قال: الى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم وقيل: أي الكتاب الرابع وهو الزبور، وزيف بأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام وإنما هو مواعظ، ويحتمل أن يجاب بأن غاية المواعظ هي التزام الأحكام المعلومة فيؤل إلى ذلك. وقيل: كرر ذكر القرآن بما هو مدح له ونعت بعد ذكره باسم الجنس تفخيما لشأنه وإظهارا لفضله. وفي التفسير الكبير: إنه تعالى لما ذكر الكتب الثلاثة بيّن أنه أنزل معها ما هو الفرقان الحق وهو المعجز الباهر الذي يدل على صحتها، ويفيد الفرق بينها وبين كلام المخلوقين. ثم إنه تعالى بعد ذكر الإلهيات والنبوات زجرا لمعرضين عن هذه الدلائل وهم أولئك النصارى أو كل من أعرض عن دلائله فإن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ من كتبه المنزلة وغيرها من دلائله لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ لا يغالب إذ لا حد لقدرته ذُو انْتِقامٍ عقاب شديد لا يقدر على مثله منتقم. فالتنكير للتعظيم. وانتقمت منه إذا كافأته عقوبة بما صنع. فالعزيز إشارة إلى القدرة التامة على العقاب، وذو انتقام إشارة إلى كونه فاعلا للعقاب. فالأول صفة الذات، والثاني صفة الفعل. قوله سبحانه إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ لما ذكر أنه حيّ قيوم والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق، وكونه كذلك يتوقف على مجموع أمرين: أن يكون عالما بكميات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 حاجاتهم وكيفياتها وكلياتها وجزئياتها، ثم أن يكون قادرا على ترتيبها. والأول لا يتم إلا إذا كان عالما بجميع المعلومات أشار إلى ذلك بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ والثاني لا يتأتى إلا إذا كان قادرا على جميع الممكنات فأشار إليه بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ ثم فيه لطيفة أخرى وهي أنه لما ادعى كمال عمله بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالما لا يجوز أن يكون هو السمع، لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالما بجميع المعلومات، بل الطريق إلى ذلك ليس إلا الدليل العقلي فلا جرم قال هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ظلمات الْأَرْحامِ بهذه البنية العجيبة والتركيب الغريب من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة، بعضها عظام، وبعضها أوردة، وبعضها شرايين، وبعضها عضلات. ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن والتأليف الأكمل، وذلك يدل على كمال علمه لأن التركيب المحكم المتقن لا يصدر إلا عن العالم بتفاصيله. ثم إنه تعالى لما كان قيوما بمصالح الخلق ومصالحهم قسمان: جسمانية وأشرفها تعديل المزاج وأشار إليها بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ وروحانية وأشرفها العلم فلا جرم أشار إلى ذلك بقوله هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ. ويحتمل أن تنزل هذه الآيات على سبب نزولها. وذلك أن النصارى ادعوا إلهية عيسى وعولوا في ذلك على نوعين من الشبهة: أحدهما يتعلق بالعلم وهو أن عيسى عليه السلام كان يخبر عن الغيوب وذلك قوله تعالى: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران: 49] والثاني يتعلق بالقدرة كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وليس للنصارى شبهة غير هاتين. فأزال شبهتهم الأولى بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فمن المعلوم بالضرورة من أحوال عيسى أنه ما كان عالما بجميع المعلومات. فعدم إحاطته بجميع الأشياء فيه دلالة قاطعة على أنه ليس بإله، ولكن إحاطته ببعض المغيبات لا تدل على كونه إلها لاحتمال أنه علم ذلك بالوحي أو الإلهام. وأزال شبهتهم الثانية بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ وذلك أن الإله هو الذي يقدر على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب والتأليف الغريب، ومعلوم أن عيسى لم يكن قادرا على الإحياء والإماتة بهذا الوجه. كيف ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين أخذوه على زعم النصارى وقتلوه. فإماتة بعض الأشخاص أو إحياؤه لا يدل على الإلهية لجواز كونه بإظهار الله تعالى المعجزة على يده، والعجز عن إماتة البعض أو إحيائه يدل على عدم الإلهية قطعا، وأما الإحياء والإماتة لجميع الحيوانات فيدل على الإلهية قطعا. ثم إنّهم عدلوا عن المقدمات المشاهدية إلى مقدمات إلزامية وهو أنكم أيها المسلمون توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر فيكون ابنا لله. والجواب عنه بقوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 أيضا هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ لأن هذا التصوير لما كان منه صفة فإن شاء صوره من نطفة الأب، وإن شاء صوره ابتداء من غير أب. وأيضا قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: ألست تقول إن عيسى كلمة الله وروحه؟ وهذا يدل على أنه ابن لله. فأجاب الله تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي، محتمل للحقيقة والمجاز. وإذا ورد اللفظ بحيث يخالف الدليل العقلي كان من باب المتشابهات فوجب رده إلى التأويل، أو تفويضه إلى علم الله وذلك قوله هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ الآية. فظهر أنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة إلا وقد اشتملت هذه الآيات على دفعها والجواب عنها، فإن قيل: ما الفائدة في قوله فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ مع أنه لو أطلق كان أبلغ؟ قلت: الغرض تفهيم العباد كمال علمه وذلك عند ذكر السموات والأرض أقوى لعظمتهما في الحس، والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم والإدراك أكمل، وهذه فائدة ضرب الأمثلة في العلوم. قال الواحدي: التصوير جعل الشيء على صورة، والصورة هيئة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه، وأصله من صاره إذا أماله. وذلك أن الصورة مائلة إلى شكل أبويه. والأرحام جمع الرحم، والتركيب يدل على الرقة والعطف كما سلف. وقيل: سمي رحما لاشتراك الرحم فيما يوجب الرحمة والعطف. وقرىء تصوركم أي صوركم لنفسه ولتعبده. و «كيف» في موضع الحال أي على أي حال أراد طويلا أو قصيرا، أسود أو أبيض، حسنا أو قبيحا إلى غير ذلك من الأحوال المختلفة. ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبههم أعاد كلمة التوحيد ردا على النصارى القائلين بالتثليث فقال لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والحكيم إلى كمال العلم. وفيه رد على من زعم إلهية عيسى فإن العلم ببعض الغيوب وإحياء بعض الأشخاص لا يكفي في كونه إلها. ولنذكر هاهنا مسائل: الأولى: القرآن دل على أنه بكليته محكم وذلك قوله: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود: 1] الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يوسف: 1] والمراد كون كله كلاما ملحقا فصيح الألفاظ صحيح المعاني، وأنه بحيث لا يتمكن أحد من الإتيان بمثله لوثاقة مبانيه وبلاغة معانيه. ودل على أنه بتمامه متشابه كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: 23] والمراد أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن والإعجاز والبراءة من التناقص والتناقض. ثم إن هذه الآية هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ دلت على أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه. فيعني هاهنا بالمحكم ما هو المشترك بين النص والظاهر، وبالمتشابه القدر المشترك بين المجمل والمؤول كما تقرر في المقدمة التاسعة من مقدّمات هذا الكتاب. والإحكام في اللغة المنع وكذا سائر تراكيبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 فالحاكم يمنع الظالم من الظلم، وحكمة اللجام تمنع الفرس من الاضطراب، وفي حديث النخعي «حكم اليتيم كما تحكم ولدك» أي امنعه من الفساد. وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي وأما التشابه فهو كون الشيئين بحيث يعجز الذهن عن التمييز بينهما. ثم يقال لكل ما لا يهتدي الإنسان إليه متشابه إطلاقا لاسم السبب على المسبب، ونظيره المشكل لأنه أشكل أي دخل في شكل غيره، ثم إن كل أحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، ولقول خصمه متشابهة. فالمعتزلي يقول: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] محكم وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [التكوير: 29] متشابه. والسني يقلب الأمر في ذلك. وكذا المعتزلي يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] محكم وقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] متشابه. والسني بالعكس. فلا بد من قانون يرجع إليه فنقول: صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل. وهو إما لفظي أو عقلي. والدليل اللفظي لا يكون قاطعا البتة لتوقفه على نقل اللغات، وعلى وجوه التصريف والإعراب، وعلى عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار وعدم المعارض النقلي والعقلي، وكل ذلك مظنون، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنونا فلا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية، فإذن لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بالدلالة القطعية العقلية، على أن معناه الراجح محال عقلا فإذا قامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذه اللفظ ما أشعر به الظاهر، فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا، لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز، وترجيح تأويل على تأويل، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية وهي ظنية كما بينا ولا سيما المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر، فإذن الخوض في تعيين التأويل غير جائز والله أعلم. المسألة الثانية في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه. عن ابن عباس أن المحكمات هي الآيات الثلاث في سورة الأنعام قُلْ تَعالَوْا [آية: 151] إلى آخرها، وعلى هذا فالمحكم عنده ما لا يتغير باختلاف الشرائع، لأن هذه الآيه كذلك. والمتشابهات هي التي اشتبهت على اليهود كأوائل السور، أوّلوها على حساب الجمل ليستخرجوا بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه. وعنه أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ. وقال الأصم: المحكم هو الذي يكون دلائله واضحة لائحة كإنشاء الخلق في قوله: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون: 14] والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل كآيات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 البعث، فإن التأمل يجعلها محكمة، فإن من قدر على الإنشاء قدر على الإعادة. فإن عنى الأصم بوضوح الدلائل رجحانها، وبالخفاء خلاف ذلك، فهذا هو الذي ذكرنا من أن المحكم عبارة عن النص والظاهر، والمتشابه المجمل والمؤول. وإن عنى بالواضح ما تعلم صحته بضرورة العقل، وبالخفي ما تعرف صحته بدليل العقل، فكل القرآن متشابه. فإن إنشاء الخلق أيضا يفتقر إلى دليل عقلي، فإن الدهري ينسب ذلك إلى الطبيعة، والمنجم إلى تأثير الكواكب. ولعل الأصم يسمي ما هو الأبعد عن الغلط لقلة مقدماته وضبطها محكما، والذي هو غير ذلك متشابها. وقيل: كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي أو دليل خفي فهو المحكم، وكل ما لا سبيل إلى معرفته كالعلم بوقت القيامة وبمقادير الثواب والعقاب في حق كل مكلف فذاك متشابه. المسألة الثالثة في أنه لم جعل بعض القرآن محكما وبعضه متشابها. من الملحدة من طعن فيه وقال: كيف يليق بالحكيم أن يجعل كتابه المرجوع إليه في دينه، الموضوع إلى يوم القيامة بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب، فمثبت الرؤية يتمسك بقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] ونافيها يتشبث بقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] ومثبت الجهة يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50] الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] والنافي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] فكل منهم يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والمخالفة متشابهة، وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى وجوه ضعيفة وتراجيح خفية، وهذا لا يليق بالحكمة مع أنه لو جعل كله ظاهرا جليا خالصا عن المتشابه نفيا كان أقرب إلى حصول الغرض. والجواب أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب. وأيضا لو كان كله محكما كان مطابقا لمذهب واحد فقط فكان ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه والانتفاع به، وإذا كان مشتملا على القسمين فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مقالته فيجتهد في فهم معانيه، وبعد الفحص والاستكشاف، صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، ويتخلص المبطل عن باطلة ويصل إلى الحق. وأيضا إذا كان فيه محكم ومتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بالدلائل العقلية، فيتخلص من ظلمة التقليد إلى ضياء البينة والاستدلال والطمأنينة، وافتقر أيضا إلى تحصيل علوم أخر كالصرف والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه وأصول الكلام إلى غير ذلك، ولما في المشابهة من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه. وهاهنا سبب أقوى وهو أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام، وطباع العامة تنبو في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 الأغلب عن إدراك الحقائق، فمن سمع منهم في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما توهموه وتخيلوه مخلوطا بما يدل على الحق الصريح. فالأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر من باب المتشابهات، والثاني وهو الذي يكشف لهم آخر الحال من قبيل المحكمات. قوله هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ الأم في اللغة الأصل الذي يتكون منه الشيء. فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها، والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات، فلا جرم صارت المحكمات أصولا للمتشابهات. وإنما لم يقل أمهات الكتاب ليطابق المبتدأ لأن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد هو الأصل لمجموع المتشابهات، وهذا كقوله وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون: 50] على معنى أن مجموعهما آية واحدة. وَأُخَرُ أي ومنه آيات أخر مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي ميل عن الحق فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ لا يتمسكون إلا بالمتشابه. قال الربيع: هم وفد نجران حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا: أليس هو كلمة الله وروحا منه؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى. قالوا: حسبنا. وقال الكلبي: هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة من الحروف المقطعة في أوائل السور. وقال قتادة والزجاج: هم منكرو البعث لأنه قال في آخره وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وما ذاك إلا وقت القيامة فإنه تعالى أخفاها عن الخلائق حتى الملائكة والأنبياء. والتحقيق أنه عام لكل مبطل متشبث بأهداب المتشابهات، لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عن عموم اللفظ. ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه. ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة والكفار من النقمة فكانوا يقولون ائتنا بعذاب الله، ومتى الساعة، ولو ما تأتينا بالملائكة، فموهوا الأمر على الضعفة. قال أهل السنة: ويدخل في هذا الباب استدلال المشبهة بقوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] فإنه لما ثبت بصريح العقل امتناع كون الإله في مكان وإلا لزم انقسامه، وكل منقسم مركب، وكل مركب ممكن. فمن تمسك به كان متمسكا بالمتشابهات. ومن جملة ذلك استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل بالكلية إلى العبد فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي وأنه من الله تعالى وإلا تسلسل، فيكون حصول الفعل مع تلك الداعية وعدمه عند عدمها واجبا فيبطل التفويض ويثبت أن الكل بقضاء الله وقدره. وإذا لاحت الدلائل العقلية فكيف يجوز للعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه؟ بناء على ما اشتهر بين الجمهور من أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة، وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 والإنصاف أن الآيات ثلاثة أقسام: أحدها ما يتأكد ظواهرها بالدلائل العقلية فذاك هو المحكم حقا. وثانيها التي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله غير ظاهره. وثالثها الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه فهو المتشابه بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر. لكن هاهنا عقدة أخرى وهي أن الدليل العقلي مختلف فيه أيضا بحسب ما رتبه كل فريق وتخيله صادقا في ظنه مادة وصورة. فكل فريق يدعي بمقتضى فكره أن الدليل العقلي قد قام على ما يوافق مذهبه وتأكد به الظاهر الذي تعلق به، فلا خلاص من البين إلا بتأييد سماوي ونور إلهي وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] ثم إنه تعالى بين أن للزائغين غرضين: أحدهما ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وهي في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه. يقال: فلان مفتون بطلب الدنيا، والرجل مفتون بابنه وبشعره. فكان التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتونا به عاشقا لا ينقطع عنه تخيله البتة. وقيل: الفتنة في الدين هو الضلال عنه أي طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم. وعن الأصم: إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في البين صار بعضهم مخالفا للبعض في الدين، وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة. الغرض الثاني ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أي طلب المعنى الذي يرجع إليه اللفظ بحسب ما يشتهونه من غير أن يكون قد وجد له في كتاب الله بيان. قال القاضي أبو بكر: هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما أن يحملوه على غير الحق وهو المراد من قوله ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ والثاني أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه وهو قوله وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ثم قال عزمن قائل وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ والعلماء اختلفوا في هذا الموضع. منهم من يقف هاهنا، فعلى هذا لا يعلم المتشابه إلا الله وهو قول ابن عباس وعائشة والحسن ومالك بن أنس والكسائي والفراء، ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي. ومنهم من لم يجعل الواو في وَالرَّاسِخُونَ للابتداء وإنما يجعله للعطف حتى يكون العلم بالمتشابه حاصلا عند الله وعند الراسخين، لأن وصفهم بالرسوخ في العلم- وهو الثبوت والتعمق وبعد الغور فيه- يناسب ذلك. وهذا قول مجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين، وقد يروى عن ابن عباس أيضا. والمختار هو الأول لوجوه منها: ما ذهب إليه كثير من العلماء أن «أما» فيه معنى التفصيل البتة، وهذا إنما يستقيم لو قدر و «أما الراسخون في العلم فيقولون» . ومنها أن اللفظ إذا كان له معنى راجح ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد، علم أن مراد الله بعض مجازات تلك الحقيقة وفي المجازات كثرة. وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالتراجيح اللغوية الظنية، ومثل ذلك لا يصح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 الاستدلال به في المسائل القطعية مثاله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] فإنه دل الدليل على أن الإله يمتنع أن يكون في المكان، فعرفنا أنه ليس مرادا لله من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها إلا أن في مجازات هذا اللفظ كثرة لا يتعين أحدها إلا بدليل لغوي ظني، والقول بالظن في ذات الله وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين، ولهذا قال مالك بن أنس: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. ومنها ما قيل إن هذه الآية ذم لطالب تأويل المتشابه حيث قال فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ وتخصيص بعض المتشابهات بذلك كطلب وقت الساعة ونحوه ترجيح من غير مرجح، فالذم يتوجه على الكل وهو المطلوب. ومنها أنه تعالى مدح الراسخين في العلم بأنهم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وقال تعالى في أول البقرة: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 26] فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح، ولا في قولهم كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا لأن كل من عرف شيئا على التفصيل فإنه لا بد أن يؤمن به إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها، وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى، وأنه لا يتكلم بالباطل والعبث، فإذا سمعوا آية ودلت الدلائل القاطعة على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مرادا لله تعالى عرفوا أن مراد الله تعالى منه شيء غير ذلك الظاهر، ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب. فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله بحيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر ولا عدم علمهم بالمراد عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن، ولم يصر كون ظاهره مردودا شبهة لهم في الطعن في كلام الله تعالى. ثم إن جعل قوله وَالرَّاسِخُونَ عطفا على اسم اللَّهُ فقوله يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هم يقولون آمنا بالمتشابه كل من عند ربنا أي كل واحد من المحكم والمتشابه من عنده. وفي زيادة عِنْدِ مزيد توضيح وتأكيد وتفخيم لشأن القرآن، ويحتمل أن يعود الضمير في آمَنَّا بِهِ إلى الكتاب أي يقولون، آمنا بالكتاب كل من محكمه ومتشابهه من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ولا يختلف كتابه، ويحتمل أن يكون قوله يَقُولُونَ حالا إلا أن فيه إشكالا وهو أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره وهاهنا قد تقدم ذكر الله وذكر الراسخين، والحال لا يمكن إلا من الراسخين فيلزم ترك الظاهر. وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ما يتعظ إلا ذوو العقول الكاملة الذين يستعملون أذهانهم في فهم القرآن فيعلمون ما الذي يطابق ظاهره دلائل العقل فيكون محكما، وما الذي هو بالعكس فيكون متشابها، ثم يعتقدون أن الكل كلام من لا يجوز في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 كلامه التناقض، فيحكمون بأن ذلك المتشابه لا بد أن يكون له معنى صحيح عند الله وإن دق عن فهومنا. وقيل: هو مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل حتى علموا من التأويل ما علموا. ثم إنه تعالى حكى عن الراسخين نوعين من الدعاء: الأول قولهم رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا أي بعد وقت هدايتنا، والثاني قولهم وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً سألوا ربهم أوّلا أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الأباطيل والعقائد الفاسدة، ثم أن ينور قلوبهم بأنوار المعرفة ويزين جوارحهم وأعضاءهم بزينة الطاعة والعبودية والخدمة. ونكر رحمة ليشمل جميع أنواعها. فأوّلها أن يحصل في القلب نور الإيمان والتوحيد والمعرفة، وثانيها أن يحصل في الجوارح والأعضاء نور الطاعة والعبودية والخدمة، وثالثها أن يحصل له في الدنيا سهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية، ورابعها أن يحصل عند الموت سهولة سكرات الموت، وخامسها سهولة السؤال والظلمة والوحشة في القبر، وسادسها في القيامة سهولة العقاب والخطاب وغفران السيئات وتبديلها بالحسنات، وسابعها في الجنة ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وثامنها في الحضرة رفع الأستار ورؤية الملك الجبار. وفي قولهم مِنْ لَدُنْكَ تنبيه على أن هذا المقصود لا يحصل إلا من عنده ويؤكده قوله إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ فالمطالب وإن كانت عظيمة فإنها تكون حقيرة بالنسبة إلى غاية كرمك ونهاية وجودك وموهبتك. ولنعد إلى ما يتعلق بالدعاء الأول قال أهل السنة: القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان، وصالح لأن يميل إلى الكفر، وكل منهما يتوقف على داعية ينشئها الله تعالى فيه، إذ لو حدثت بنفسها لزم سد باب إثبات الصانع. فإن كانت داعية الكفر فهو الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والرين وغيرها مما ورد في القرآن، وإن كانت داعية الإيمان فهو التوفيق والرشاد والهداية والتثبيت والعصمة ونحوها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن» «1» يعني الداعيتين. ومما يؤكد ذلك أن الله تعالى مدح هؤلاء الراسخين بأنهم لا يتبعون المتشابهات بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال ويتركون الخوض فيها فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه، فتكون هذه الآية من أقوى المحكمات وهو ظاهر في أن الإزاغة والهداية كلتيهما من الله تعالى. أما المعتزلة فقد قالوا: لما دلت الدلائل على أن الإزاغة لا يجوز أن تصدر من الله تعالى لأن ذلك ظلم وقبيح، وجب صرف الآية إلى التأويل فقال الجبائي واختاره القاضي: المراد أن لا يمنع قلوبهم الألطاف التي معها يستمر قلبهم على صفة الإيمان، وزيف بأن اللطف إن   (1) رواه الترمذي في كتاب القدر باب 7. مسلم في كتاب القدر حديث 17. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 168، 173) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 صح في حقهم وجب عندكم على الله أن يفعل ذلك وجوبا لو تركه لبطلت إلهيته ولصار جاهلا أو محتاجا. وقال الأصم: لا تبلنا ببلوى يزيغ عندها قلوبنا. والمعنى لا تكلفنا من العبادات ما لا نأمن معه الزيغ. وقد يقول القائل: لا تحملني على إيذائك أي لا تفعل ما أصير عنده مؤذيا لك. وزيف بأن التشديد في التكليف قبيح إن علم الله تعالى أن له أثرا في حمل المكلف على القبيح وإلا فوجوده كعدمه فلا فائدة في صرف الدعاء إليه. وقال الكعبي: لا تسمنا باسم الزائغ كما يقال: فلان يكفر فلانا أي يقول إنه كافر. وزيف بأن التسمية دائرة مع الفعل، وفعل الزيغ باختيار العبد عندكم فالتسمية أيضا بسببه، وقال الجبائي أيضا: لا تزغ قلوبنا عن جنتك وثوابك وهو كالأول إلا أن يحمل على شيء اخر وهو أنه تعالى إذا علم أنه مؤمن في الحال، وعلم أنه لو بقي إلى السنة الثانية لكفر أماته في هذه السنة. ويرد عليه أنه لو كان علمه بأنه يكفر في السنة الثانية يوجب عليه أن يميته لكان علمه بأنه لا يؤمن قط ويبقى على الكفر طول عمره يوجب أن لا يخلقه. وعن الأصم أيضا: لا تزغ قلوبنا عن كمال العقل بالجنون بعد إذ هديتنا بنور العقل. ولا يخفى تعسفه وعدم مناسبته لقوله فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ. وقال أبو مسلم: احرسنا من الشيطان ومن شرور أنفسنا حتى لا نزيغ. ثم إنهم لما طلبوا أن يصونهم عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية والرحمة فكأنهم قالوا ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية، ولكن الغرض ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه أي في وقوعه. فاللام للوقت، أو جامع الناس لجزاء يوم فحذف المضاف إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ قيل: هو كلام الله تعالى كأنه يصدقهم فيما قالوه، ولو كان من تمام قول المؤمنين لقيل: إنك لا تخلف. إلا أن يحمل على الالتفات ومعناه أن الإلهية تنافي خلف الميعاد كقولك: إن الجواد لا يخيب سائله. ولا سيما وعد الحشر والجزاء لينتصف للمظلومين من الظالمين. والميعاد المواعدة والوقت والموضع قاله في الصحاح. واعلم أنه لا يلزم من أنه تعالى لا يخلف الوعد القطع بوعيد الفساق كما زعم المعتزلة، لأن كل ما ورد في وعيد الفساق فهو عندنا مشروط بشرط عدم العفو، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة بدليل منفصل. قال الواحدي: ولم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب. قال بعضهم: إذا وعد السراء أنجز وعده ... وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه وناظر أبو عمرو بن العلاء عمرو بن عبيد فقال: ما تقول في أصحاب الكبائر؟ فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 إن الله وعد وعدا وأوعد إيعادا. فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده. فقال أبو عمرو إنك أعجم لا أقول أعجم اللسان ولكن أعجم القلب، لأن العرب تعدّ الرجوع عن الوعد لؤما وعن الإيعاد كرما وأنشد: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمكذب إيعادي ومنجز موعدي وذلك أن الوعد حق عليه، والوعيد حق له، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم، ومن أسقط حق غيره فذلك هو اللؤم فهذا هو الفرق بين الوعد والوعيد. على أنا لا نسلم أن الوعيد ثابت جزما من غير شرط بل هو مشروط بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى. ثم إنه سبحانه لما حكى عن المؤمنين دعاءهم وتضرعهم حكى كيفية حال الكافرين وشدة عذابهم فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وقيل: المراد وفد نجران وذلك أنا روينا في قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه: إني أعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا، ولكي إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال. فالله تعالى بيّن أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عنهم عذاب الله في الدنيا والآخرة، لكن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ. واعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنه كل ما كان منتفعا به ويجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة. أما الأول فإليه أشار بقوله: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ لأنهما أقرب الأمور التي يفزع إليها المرء عند الخطوب، وإذا لم يفد أقرب الطرق إلى دفع المضار في ذلك اليوم فما عداه بالتعذر أولى ومثله يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات: 149] الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ [الكهف: 46] . وأما الثاني فإليه أشار بقوله: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس و «من» في قوله مِنَ اللَّهِ للبدل مثله في قوله إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النجم: 28] أي بدله والمضاف محذوف تقديره لن تغني عنهم بدل رحمة الله أو طاعته شيئا. أو في الحديث «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» «1» أي لا ينفعه جده وحظه في الدنيا بدل طاعتك وعبادتك وما عندك وأنشد أبو علي: فليت لنا من ماء زمزم شربة ... مبردة باتت على طهيان   (1) رواه البخاري في كتاب الأذان باب 155. مسلم في كتاب الصلاة حديث 194. أبو داود في كتاب الصلاة باب 140. الترمذي في كتاب الصلاة باب 108. النسائي في كتاب التطبيق باب 25. الدارمي في كتاب الصلاة باب 71. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 وطهيان من بلاد الأزد. قلت: يجوز أن يقال «من» للابتداء تقديره من عذاب الله، والجار والمجرور مقدم حالا من شيء أو «من» زائدة لتأكيد النفي التقدير: لن تغني عنهم عذاب الله شيئا من الغناء أي لن تدفع. وقال أبو عبيدة «من» بمعنى «عند» والمعنى: لن تغني عند الله شيئا. قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ يقال: دأب فلان في عمله أي جدّ وتعب دأبا دؤبا فهو دئيب. وأدأبته أنا، والدائبان الليل والنهار، والدأب العادة والشان، وكل ما عليه الإنسان من صنيع وحالة، وقد يحرّك وأصله من دأبت إطلاقا لاسم الخاص على العام أي جد هؤلاء الكفار واجتهادهم أو شأنهم أو صنيعهم في تكذيب محمد وكفرهم بدينه كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام. ثم إنا أهلكنا أولئك بذنوبهم فكذلك نهلك هؤلاء. فقوله: كَذَّبُوا بِآياتِنا تفسير لدأبهم على أنه جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما فعلوا وما فعل بهم؟ فقيل: كذبوا بآياتنا بالمعجزات الدالة على صدق رسلنا. فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي صاروا عند نزول العذاب كالمأخوذ المأسور الذي لا يقدر على وجه الخلاص البتة. وقيل: المعنى كدأب الله في آل فرعون أي يجعلهم الله وقود النار كعادته وصنيعه في آل فرعون والمصدر يضاف تارة إلى الفاعل وتارة إلى المفعول. وقال القفال: يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى وللعادة المضافة إلى الكفار كأنه قيل: إن عادة هؤلاء الكفار ومذهبهم في إيذاء محمد كعادة من قبلهم في إيذاء الرسل، وعادتنا أيضا في إهلاك هؤلاء كعادتنا في إهلاك أولئك الكفرة. وقيل: الدؤب والدأب اللبث والدوام والتقدير: دؤبهم في النار كدؤب آل فرعون. وقيل: مشقتهم وتعبهم في النار كمشقة آل فرعون بالعذاب النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر: 46] . وقيل: المشبه هو أن أموالهم وأولادهم لا تنفعهم في إزالة العذاب والمعنى: إنكم قد عرفتم ما حل بآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين بالرسل من العذاب المعجل الذي عنده لم ينفعهم مال ولا ولد، فكذلك حالكم أيها الكفار المكذبون بمحمد فينزل بكم مثل ما نزل بهم ولا تغني عنكم الأموال والأولاد. ويحتمل أن يكون وجه التشبيه أنه كما نزل بمن تقدم العذاب المعجل بالاستئصال وهو قوله فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ثم صاروا إلى دوام العذاب وهو قوله وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ فسينزل بمن كذب بمحمد أمران: أحدهما المحن المعجلة من القتل والسبي والإذلال وسلب الأموال وإليه الإشارة بقوله فيما بعد قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ والثاني المصير إلى العذاب الدائم وذلك قوله وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 التأويل: الم الألف إظهار الوحدة مطلقا ذاتا وصفة. فإن الألف واحد في ذاته وصفاته في وضع الحساب، ومتفرد بالأولية والانقطاع عن غيره في وضع الحروف، ويشير باستقامته وعدم تغيره في جميع الأحوال إلى عدم تغيره عن الوجود الوحداني أزلا وأبدا. فإن الألف مصدر جميع الحروف، فإن من استقامته يخرج كل حرف معوج. ثم في اللام والميم المتصل كل حرف منهما بالآخر إثبات أن كل موجود سوى الوحدة موصوف بالإثنينية وذلك قسمان: قسم لم يكن فكان ثم يزول، وقسم ما كان فكان ولا يزول. وهذان قسمان محدثان وموجدهما الواحد القديم الذي لا زال كان ولا يزال يكون وإليه الإشارة بالألف. وأما اللام فإشارة إلى القسم الذي لم يكن فكان ولا يكون باقيا وهو عالم الصورة والملك والأجساد. فوقوعه في المرتبة الثانية، من الألف إشارة إلى أنه مسبوق بالوجود والألف سابق عليه، والانكسار فيه يشير إلى تغيره وزواله. والميم إشارة إلى القسم الذي لم يكن فكان ولا يزال يبقى وهو عالم المعنى والملكوت والأرواح. وذلك أن الميم أول حرف من اسمه المبدئ وآخر حرف من اسمه القيوم، فيشير إلى أنه كما أبدأه المبدئ حين لم يكن يقيمه القيوم حين كان لا يزال. وبوجه آخر الألف إشارة إلى وجود حقيقي قائم بذاته، واللام يشير إلى إثبات ونفي. فالإثبات في لام التمليك لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والنفي في «لا» النافية أي لا وجود لشيء بالحقيقة سواه، والميم يشير أيضا إلى إثبات ونفي. فالإثبات ميم اسمه القيوم والنفي «ما» النافية أي ما في الوجود حقيقة إلا هو. ودليل الوجهين في الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ف اللَّهُ إثبات ذات القديم، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ نفى الشرك عن وجوده وإثبات وحدته في وجوده والْحَيُّ الْقَيُّومُ إثبات جميع صفات كماله ونفي جميع سمات النقص عن ذاته. وقد أودع مجموع معاني هذه الآية في قوله الم فمعنى قوله اللَّهُ أودع في أول حرف من حروفه وهو الألف، ومعنى قوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أودع في أول حرف من حروفه وهو اللام. ومعنى قوله الْحَيُّ الْقَيُّومُ أودع في آخر حرف من حروفه وهو الميم. وإنما أودع في آخر حروفه هاهنا ليكون السر مودعا في الآية من أول حرفها إلى آخر حرفها مكتوما فيما بينهما. والحروف الثلاثة من قوله الم يكون الألف من أولها دالا على المعنى الذي هو في الكلمة الأولى وهي اللَّهُ واللام من أوسطها دالا على المعنى الذي في الثانية وهي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ والميم من آخرها دالا على المعنى الذي هو مودع في الثالثة وهو الْحَيُّ الْقَيُّومُ فيكون الاسم الأعظم مودعا في الم كما روي عن سعيد بن جبير وغيره، وهو سر القرآن وصفوته كما روي عن أبي بكر وعلي عليه السلام. ثم إنه تعالى بعد أن أظهر أسرار ألوهيته المودعة في الم بقوله اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ أظهر ألطاف ربوبيته المكنونة في أستار العزة مع حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 فقال نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي نزل حقائق القرآن وأنواره على قلبك بالحقيقة متجلية لسرك، مخيفة عن زورك، فصرت مشاهدا لسر الله المودع في الم وهو الذي بين يدي اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فصرت مصدقا له تصديق تحقيق لا تصديق تقليد فأفهم إذ لم تتعلم، ولا تعلم أنك لا تفهم لأنه منطق الطير وأنت بعد بيضة لا من الطيارين ولا من السيارين. وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ فلا تظنن يا محمد أن إنزال الكتب على الأنبياء كان كتنزيل القرآن بالحقيقة على قلبك كما قال: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً [الشورى: 52] حتى صرت مكاشفا عند تجلي أنواره بأسراره، وحقائق بيني وبينك لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وإنما إنزال الكتب على الأنبياء كان بالصورة مكتوبة في صحائف وألواح يقرؤها كل قارئ، ويستوي في هداها الأنبياء والأمم قاطبة هُدىً لِلنَّاسِ وكنت مخصوصا بالهداية عند تجلي أنوار القرآن بالتنزيل على قلبك كما قال: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى: 52] وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ الذي يفرق بين تنزيله على قلبك وبين إنزال الكتب على صورة الأنبياء، ويفرق بين تعليمك القرآن وبين تعليمهم الكتب. فإن كانوا يتدارسون الكتب فأنت تتخلق بالقرآن، فشتان بين نبي يجيء وهو بذاته نور ومعه كتاب قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15] وبين نبى يجىء ومعه نور من الكتاب قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ [الأنعام: 91] وشتان بين نبي تشرف بكتابة الموعظة له في الألواح وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً [الأعراف: 145] وبين نبي تشرف أمته بكتابة الإيمان لهم في قلوبهم أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: 22] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ يسترون بحجب الغفلات وتتبع الشهوات قلوبهم فتعمى عن مشاهدة هذه الآيات البينات لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ من هذا العمى والحرمان وهم في خسران من الركون إلى هذا النقصان وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ يعز أهل الغرام بنيل المرام وينتقم من أهل السلوة بحجاب العزة. ثم أخبر تعالى عن كمال علمه بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وكيف يخفى وإنه هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ عن نقص الأحكام الْحَكِيمُ فيما يجري من الأزل إلى الأبد وجفت به الأقلام. وفي الآية إشارة إلى أنه إذا سقطت من صلب ولاية رجل من رجال الحق نطفة إرادة في رحم قلب مريد صادق يستسلم لتصرفات ولاية الشيخ وهو بمثابة ملك الأرحام، ويضبط المريد أحواله الظاهرة والباطنة على وفق أمر الشيخ ويختار الخلوة والعزلة لئلا يصدر منه حركة عنيفة أو يجد رائحة غريبة يلزم منه سقوط النطفة وفسادها، ويقعد بأمر الشيخ وتدبيره فالله تعالى بتصرف ولاية الشيخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 المؤيد بتأييد الحق بمرور كل أربعين عليه بشرائطها يحوّلها من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام إلى أن يرجع إلى حظائر القدس ورياض الأنس التي منها صدر إلى عالم الإنس، فيتكون الجنين في رحم القلب وهو طفل خليفة الله في أرضه فيستحق الآن أن ينفخ فيه الروح المخصوص بأنبيائه وأوليائه يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [النحل: 2] كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22] فإذا نفخ فيه الروح يكون آدم وقته فيسجد له بالخلافة الملائكة كلهم أجمعون. الآيات المحكمات تنزيلها شرب الخواص والعوام لبسط الشرع والاهتداء، والمتشابهات تأويلها شرب الخواص وخواص الخواص لإخفاء الأسرار عن الأغيار والابتلاء فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ألبست قلوبهم غطاء الريب وحرموا أنوار الغيب وهم أهل الأهواء والبدع فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ ليضلوا بأهوائهم وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ليضلوا الناس بآرائهم وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ بما شاهدوا من أنوار الحق في تحقيق التأويل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا بتوفيقه وإعلامه وتعريفه وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ الذين خرجوا في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم من ظلمات قشور وجودهم النفساني إلى نور لباب وجودهم الروحاني، وهم الراسخون في قشور العلوم الكسبية الواصلون إلى حقائق لباب العلوم اللدنية من لدن حكيم خبير. وفي الآية إشارة إلى أن علوم الراسخين كلها بتعليم الله تعالى إياهم في الميثاق إذ تجلى بصفة الربوبية للذرّات، وأشهدهم على أنفسهم بشواهد الربوبية ألست بربكم؟ فبشهود تلك الشواهد ركز في جبلة الذرّات علم التوحيد فقالوا: بلى. ويندرج في علم التوحيد كل العلوم كما قال: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31] فلما ردّت الذرّات الى الأصلاب واحتجبت بصفات البشرية، ثم نقلت إلى الأرحام وتنقلت بقدم الأربعينات من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام من مقامات البعد عن الحضرة إلى أن وضع الحمل، وردت النفس العالمة بعلم التوحيد الناطقة به إلى أسفل سافلين القالب محتجبة بحجب البشرية ناسية تلك العلوم والتنطق بها. ثم أبواه يذكرانه تلك العلوم بالرموز والقرائن حتى يتذكر بعض تلك العلوم من وراء حجب البشرية وأستار الأطوار، وينطق بلسان الأبوين لا بلسانه الذي أجاب به الرب وقال بلى، فإن ذلك اللسان كان لب هذا اللسان وهذا قشر ذلك. وكذلك جميع وجود ظاهر الإنسان وباطنه قشور لباب ذلك الوجود المستمع المجيب في الميثاق. فسمعه قشر ذلك السمع الذي استمع خطاب الحق، وبصره قشر ذلك البصر الذي أبصر جمال الحق، وقلبه قشر ذلك القلب الذي فقه خطاب الحق، وعلومه قشر تلك العلوم التي تعلمت من الحق. فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليذكره حقيقة تلك العلوم التي كان أبواه يذكرانه قشرها كما قال فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية: 21] فالتذكير عام ولكن التذكر خاص فلهذا قال وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 الْأَلْبابِ إنما يتذكر أولوا الألباب رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا عن صراطك بغلبات ظلمات طبائعنا وطباعنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا إلى حضرة جلالك ونور جمالك حتى سمعنا بلب سمعنا لب التنزيل، وشاهدنا بلب أبصارنا لب التأويل، وتذكرنا بلب عقولنا علومنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً تجذبنا من لدنا إلى لدنك وتغنينا عنا بك إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. وفيه إشارة إلى أن وظيفة الطالب أن لا يسكن في مقام ولا يقف مع حال بل يكون إلى الأبد طلابا كما كان الله من الأزل إلى الأبد وهابا. وكما أنه لا نهاية لمواهبه فلا غاية لمطالب طالبه، وأن بعد هذه الدار دارا هي دار القرار يوفى فيها جزاء الأبرار والفجار. فحصول الأرب بقدر رعاية الأدب في الطلب. ومقاساة التعب والنصب، وإن التقوى خير زاد للمعاد إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا استروا أنوار روحانيتهم بظلمات صفات نفسانيتهم لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ طاغوت أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ أنوار الله التي حجبوا عنها وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ نار الفرقة والقطيعة نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة: 6، 7] لا نار الجحيم التي لا تحرق إلا قشور الجلود ولا تخلص إلى لب القلوب. وإن عذاب حرقة لجلود بالنسبة إلى عذاب فرقة القلوب وحرقة القطيعة عن الله كنسيم الحياة إلى سموم لممات. في فؤاد المحب نار هوى ... أحر نار الجحيم أبردها وكذلك دأب جميع الكفار الذين ستروا أنوار روحانيتهم بظلمات صفات النفس فعموا وصموا عن مشاهدة أنوارنا ومحافظة أسرارنا، فأخذهم الله فعاقبهم بحجاب ذنبوبهم وحرقة قلوبهم وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ أليم نار فراقه عظيم عذاب بعده وإشراقه. بالنار خوّفني قومي فقلت لهم ... النار ترحم من في قلبه نار [سورة آل عمران (3) : الآيات 12 الى 25] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 القراآت: سيغلبون ويحشرون بياء الغيبة: حمزة وعليّ وخلف وعباس مخير. الباقون بتاء الخطاب تَرَوْنَهُمْ بتاء الخطاب: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب. الباقون بالياء مِثْلَيْهِمْ بضم الهاء: سهل ويعقوب وكذلك ما انفتح قبل الياء مثل بِجَنَّتَيْهِمْ [سبأ: 16] رَأْيَ الْعَيْنِ بغير همز: أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف. الباقون بهمزة ساكنة أَأُنَبِّئُكُمْ بهمزة غير ممدودة بعدها واو مضمومة: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب غير عباس وأوقية وأبي شعيب ونافع غير قالون. آونبئكم بالمد والواو المضمومة: يزيد وقالون وعباس وأوقية وأبو شعيب. الباقون بهمزتين هشام يدخل بينهما مدة. وَرِضْوانٌ بضم الراء حيث كان: الأعشى والبرجمي وافقا يحيى وحمادا إلا في مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ [المائدة: 16] في المائدة إِنَّ الدِّينَ بفتح «إن» علي. الباقون بالكسر. وَجْهِيَ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن عامر غير النجاري عن هشام وحفص والمفضل والأعشى والبرجمي. وَمَنِ اتَّبَعَنِي بإثبات الياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل وافق أبو عمر وأبا جعفر ونافع غير قالون في الوصل. ويقاتلون الذين: حمزة ونصير في رواية علي بن نصير. الباقون وَيَقْتُلُونَ. لِيَحْكُمَ بضم الياء وفتح الكاف: أبو جعفر. الباقون بالعكس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 الوقوف: جَهَنَّمَ ط، الْمِهادُ هـ، الْتَقَتا ط لأن التقدير منهما فئة أو إحداهما. الْعَيْنِ ط مَنْ يَشاءُ ط الْأَبْصارِ هـ، وَالْحَرْثِ ط الدُّنْيا ج للفصل بين النقيضين مع اتفاق الجملتين. الْمَآبِ ج مِنْ ذلِكُمْ ط لتناهي الاستفهام. مِنَ اللَّهِ ط بِالْعِبادِ ج للاية على جعل «الذين» خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين، أو مدحا على «أعني الذين» ولجواز أنه نعت للعباد أو للمتقين. النَّارِ ج لأن «الصابرين» يصلح بدلا من «الذين» والوقف أجود نصبا على المدح. بِالْأَسْحارِ ط إِلَّا هُوَ ط للعطف، ولو وقف احترازا عن وهم دخول الملائكة وأولو العلم في الاستثناء والمشاركة في الألوهية كان جيدا. بِالْقِسْطِ ط، الْحَكِيمُ ط إلا لمن قرأ «إن» بالفتح على البدل من «أنه» الْإِسْلامُ هـ، بَيْنَهُمْ ط لإطلاق حكم غير مخصوص بما قبله. الْحِسابِ هـ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ط لابتداء أمر يشمل أهل الكتاب والعرب، والأول مختص بأهل الكتاب فلم يكن الثاني من جملة جزاء الشرط، أَأَسْلَمْتُمْ ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط اهْتَدَوْا ج لابتداء شرط آخر مع العطف. الْبَلاغُ ط، بِالْعِبادِ هـ، بِغَيْرِ حَقٍّ ز لمن قرأ ويقاتلون لعدول المعنى من قوله يَقْتُلُونَ أَلِيمٍ هـ، وَالْآخِرَةِ ز للابتداء بالنفي مع اتحاد المقصود. مِنْ ناصِرِينَ هـ، مُعْرِضُونَ هـ، مَعْدُوداتٍ ص لأن الواو للعطف أو الحال. يَفْتَرُونَ هـ، يُظْلَمُونَ هـ. التفسير: عن ابن عباس في رواية أبي صالح عنه قال: لما هزم الله المشركين يوم بدر قالت يهود المدينة: هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى ونجده في كتابنا بنعته وصفته وأنه لا ترد له راية وأرادوا تصديقه واتباعه. ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى. فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا فقالوا: لا والله ما هو به. وغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا. وكان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد. وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة أبي سفيان وأصحابه فوافقوهم وأجمعوا أمرهم وقالوا: لتكونن كلمتنا واحدة. ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله فيهم هذه الآية. وقال محمد بن إسحق بن يسار في رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع فقال: يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم. فقالوا: يا محمد، لا يغرّنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة. أما والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس فأنزل الله قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني اليهود سَتُغْلَبُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 تهزمون وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ في الآخرة. ومعنى جهنم قد مر في البقرة في قوله: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ [البقرة: 206] وقيل: هم مشركو مكة سَتُغْلَبُونَ يعني يوم بدر من قرأ بتاء الخطاب فمعناه الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر بأي لفظ أراد صلى الله عليه وسلم، ومن قرأ بالياء فالأمر متوجه إلى حكاية هذا اللفظ أي قل لهم قولي لك: سَيَغْلِبُونَ. وفي الآية حجاج للقائل بتكليف ما لا يطاق، فإنه تعالى أخبر عنهم بأنهم يحشرون إلى جهنم، فلو آمنوا وأطاعوا لانقلب الخبر كذبا. وفيها دليل على صحة البعث والحشر بإخبار الصادق وفي قوله سَتُغْلَبُونَ وقد وقع كما أخبر إخبار عن الغيب فيكون معجزا دالا على صدق النبي صلى الله عليه وسلم. نظيره في حق عيسى عليه السلام وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران: 49] ثم إنه تعالى ذكر ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك الحكم فقال قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا يوم بدر فِئَةٌ إحداهما جماعة تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهم المسلمون لأنهم يقاتلون لنصرة دين الله وإعلاء كلمته وَفِيهِ أخرى كافِرَةٌ هم كفار قريش. وبيان كون تلك الواقعة آية من وجوه: أحدها أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف أمور منها: قلة العدد والعدد، كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا مع كل أربعة منهم بعير، ومعهم من الدروع ستة ومن الخيل فرسان. ومنها أنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا. ومنها أن ذلك ابتداء غارة في الحرب لأنها من أول غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد حصل في المشركين أضداد هذه المعاني. كانوا تسعمائة وخمسين رجلا وفيهم أبو سفيان وأبو جهل، ومعهم مائة فرس وسبعمائة بعير، وأهل الخيل كلهم دارعون، وكان معهم دروع سوى ذلك، وكانوا قد مرنوا على الحرب والغارات. وإذا كان كذلك كانت غلبة المسلمين خارقة للعادة فكانت معجزة. وثانيها أنه صلى الله عليه وسلم كان قد أخبر عن ذلك بإخبار الله في قوله تعالى وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ [الأنفال: 7] يعني جمع قريش أو عير أبي سفيان. وكان أخبر قبل الحرب بأن هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان والإخبار عن الغيب معجز. وثالثها إمداد الملائكة كما سيجيء في هذه السورة. ورابعها قوله يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ وفيه أربعة احتمالات لأن الضمير في «يرون» إما أن يعود إلى الفئة الكافرة أو إلى الفئة المسلمة، وعلى كلا التقديرين يجوز عود الضمير في مِثْلَيْهِمْ إلى كل منهما فهذه أربعة: الأول أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريبا من ألفين. الثاني أنها رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفا وعشرين، ودليل هذا الاحتمال قراءة من قرأ تَرَوْنَهُمْ بتاء الخطاب أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي أنفسهم. ودليل الاحتمالين جميعا أن عود الضمير في «يرون» إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 الأقرب وهو الفئة الكافرة أولى، ولأنه سبحانه جعل هذه الحالة آية للكفار حيث خاطبهم بقوله قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فوجب أن يكون الراؤون هم الكفار حتى تكون حجة عليهم، ولو كانت الآية مما شاهدها المؤمنون لم يصلح جعلها حجة على الكفرة. والحكمة في ذلك أن يهابهم المشركون ويجبنوا عن قتالهم وهذا لا يناقض قوله في سورة الأنفال وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الآية: 44] لاختلاف الوقتين فكأنهم قللوا أوّلا في أعينهم حتى اجترءوا عليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا. على أن تقليلهم تارة في أعينهم وتكثيرهم أخرى أبلغ في القدرة وإظهار الآية. الاحتمال الثالث أن الرائين هم المسلمون والمرئيين هم المشركون. فالمسلمون رأوا المشركين مثلي المسلمين والسبب فيه ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثنين في قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: 65] والكافرون كانوا قريبا من ثلاثة أمثالهم، فلو رأوهم كما هم لجبنوا وضعفوا. الاحتمال الرابع أن يكون الراؤون هم المسلمين، ثم إنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين وهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد لأن هذا يوجب نصرة الكفار وإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين، والآية تنافي ذلك. وفي الآية احتمال خامس وهو أن أول الآية قد بينا أنه خطاب مع اليهود فيكون المراد: ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة. وهاهنا بحث وهو أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئيا، والاحتمال الثالث يوجب أن يكون الموجود والحاضر غير مرئي. أما الأول فهو محال عقلا والقول به سفسطة فلهذا قيل: لعل الله تعالى أنزل الملائكة حتى صار عسكر المسلمين كثيرا. وعلى هذا تكون الرؤية رؤية البصر، ويكون مِثْلَيْهِمْ نصبا على الحال، أو تحمل الرؤية على الظن والحسبان فإن من اشتد خوفه قد يظن في الجمع القليل أنه في غاية الكثرة، لكن قوله: رَأْيَ الْعَيْنِ لا يجاوب ذلك إذ معناه رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات. وأما الثاني فهو جائز عند الأشاعرة إذ عند حصول الشرائط وصحة الحاسة لا يكون الإدراك واجب الحصول بل يكون عندهم جائزا لا واجبا والزمان زمان خوارق العادات. وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند استجماع الشروط وسلامة الحس، فاعتذروا عن ذلك بأن الإنسان عند الخوف لا يتفرغ للتأمل البالغ، فقد يرى البعض دون البعض. أو لعل الغبار صار مانعا عن إدراك البعض، أو خلق الله تعالى في الهواء ما صار مانعا عن رؤية ثلث العسكر، أو يحدث في عيونهم ما يستقل به الكثير كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين وكل ذلك محتمل. وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إما بالغلبة كيوم بدر، وإما بالحجة والعاقبة كيوم أحد. إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكره من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 الآية لَعِبْرَةً نوع عبور وهو المجاوزة من منزل الجهل إلى مقام العلم لِأُولِي الْأَبْصارِ ذوي العقول التي تصير القضايا معها كالمشاهد المعاين. ثم ذكر ما هو كالشرح والبيان لمعتبر الإنسان وهو أنه زُيِّنَ لِلنَّاسِ اللذات الجسمانية والآخرة. وهي عالم الروحانيات- خير وأبقى، وأنها معدة لمن واظب على العبودية واتصف بالخصال الحميدة. وأما ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنه يمنعه من اتباعه حب المال والجاه. وروينا أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالعدة والعدد، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن تلك الأشياء متاع الدنيا وزينتها، والآخرة خير. والمزين هو الله تعالى. أما عند الأشاعرة فلأنه خالق أفعال العباد كلها، ولو كان المزين هو الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان؟ وأما عند جمهور المعتزلة فلحكمة الابتلاء إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] ولأنها وسائل إلى منافع الآخرة وهو أن يتصدق بها أو يتقوى بها على طاعة الله أو يشتغل بشكرها. كان الصاحب بن عباد يقول: شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد لله من أقصى القلب. ولأن القادر على وجوه اللذات إذا تركها وأقبل على أداء وظائف الخدمة كان أشق له وأكثر ثوابا. وعن الجبائي واختاره القاضي، أن كل ما كان واجبا أو مندوبا أو مباحا فالتزيين فيه من الله تعالى، وكل ما كان حراما قالتزيين فيه من الشيطان. وحكي عن الحسن أنه قال: الشيطان زينها لهم وكان يحلف بالله على ذلك. واحتجاجه في الآية بأنه أطلق الشهوات فيدخل فيها المحرمات، وإن تزيينها وظيفة الشيطان. وذكر القناطير المقنطرة وحب المال الكثير إلى هذه الغاية لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ومنتهى مقصوده. وقال في معرض الذم ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا والذام للشيء لا يكون مزينا له. وقال قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ والغرض تقبيح الدنيا فكيف يكون مزينا لها؟. ثم إنه تعالى جعل الأعيان المشتهاة شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصا على الاستمتاع بها وذلك للتعلق والاتصال كما يقال للمقدور «قدرة» وللمرجو «رجاء» . وفيه فائدة أخرى هي أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء، مذموم من اتبعها، شاهد على نفسه بالبهيمية. فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ تخسيسها والتنفير عنها. قال المتكلمون: في الآية دليل على أن الحب غير الشهوة لأن المضاف يجب أن يكون مغايرا للمضاف إليه. فالشهوة من فعل الله تعالى، والمحبة من أفعال العباد، وهي أن يجعل الإنسان كل همته مصروفة إلى اللذات والطيبات. واعلم أن الإنسان قد يحب شيئا ولكنه يحب أن لا يحبه، وقد يحبه ويحب أن يحبه ويعتقد مع ذلك أن تلك المحبة حسنة وفضيلة وهذا هو كمال المحبة، ومنه قوله تعالى حكاية عن سليمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 عليه السلام إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ [ص: 32] ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محبا للخير. فقوله: حُبُّ الشَّهَواتِ قريب من ذلك لأن الشهوة نوع محبة. ولفظ لِلنَّاسِ عام فظاهره يقتضي أن هذا المعنى عام لجميع الناس ولا شك أنه موجود في الأغلب وفي أكثر الأوقات فلا يبعد التعميم، فطالما أعطى للأغلب حكم الكل. على أن من همته بجوامعها مقصورة على طلب اللذات الروحانية في غاية الندرة، وبقاء ذلك النادر في جميع الأحيان على ذلك الخاطر أعز وأمنع. ثم شرع في بيان تلك الأعيان المشتهيات فذكر منها ما هي الأمهات ورتبها في سبع مراتب: الأولى النساء لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21] وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف على متي النساء» الثانية الأولاد ولا سيما البنين ولهذا خصوا بالذكر، ومحبة النساء والأولاد كأنها حالة غريزية ولولاها لم يتصور بقاء النسل للحيوانات. الثالثة والرابعة القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. قال الزجاج: القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه ومنه القنطرة. والمال الكثير قنطار لأن الإنسان يتوثق بها في دفع النوائب. أبو عبيد: إنه وزن لا يحد. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «القنطار اثنا عشر ألف أوقية» «1» وروى أنس عنه هو ألف دينار. وروى أبي بن كعب عنه هو ألف ومائتا أوقية. وقال ابن عباس: ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية. وبه قال الحسن. وزعم الكلبي أن القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة. وعن سعيد بن جبير أنه مائة ألف دينار. والمقنطرة مبنية من لفظ القنطار للتوكيد كقولهم «ألف مؤلفة وبدرة مبدّرة وإبل مؤبلة» . قال الكلبي: القناطير ثلاثة والمقنطرة المضاعفة فكان المجموع ستة. وإنما كان الذهب والفضة محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء. وكل الصيد يوجد في الفرا ... ولولا التقى لقلت جلت قدرته وصفة المالكية هي القدرة، وأنها صفة كمال والكمال محبوب لذاته. والخامسة الخيل المسوّمة قال الواحدي: الخيل جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والنساء والرهط، وسميت الأفراس خيلا لاختيالها وهو جولانها في مشيتها. ويسمى الخيال خيالا لجولان هذه القوة في استحضار الصور. والمسومة قيل المرعية. أسمت الدابة وسوّمتها إذا أرسلتها في مرجها للرعي. ولا شك أنها إذا رعت ازدادت حسنا وبهاء. وقيل: هي المعلمة من السومة   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الأدب باب 1. الدارمي في كتاب فضائل القران باب 32. أحمد في مسنده (2/ 363) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 العلامة. ثم اختلفوا في تلك العلامة فعن أبي مسلم: الغرة والتحجيل، وقال الأصم: هي البلق. وقال قتادة: الشية- وقيل: الكي. وقال مجاهد وعكرمة: المسومة المطهمة أي الحسان. قال الأصمعي: رجل مطهم وفرس مطهم أي تام، كل شيء على حدته فهو بارع الجمال. السادسة الأنعام وهو جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم. ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها. السابعة الحرث وهو الزراعة ذلك الذي ذكر متاع الحياة الدنيا لأن وجوه الانتفاعات الدنيوية للإنسان إما أن تكون من بني نوعه أو من غيره. والأول أصل وهو المرأة وفرع وهو الولد، وإنما فرض الكلام في الذكور لشرفهم. والثاني إما أن تكون من المعدنيات وأكثرها فائدة وأعمها عائدة الجوهران الثمينان فخصا بالذكر، وإما أن تكون من الحيوانات للركوب والكر والفر وهو الخيل، أو للحمل واللحم وهو الأنعام، وإما أن تكون من النباتات وهو الحاصل من الزراعة وإنما لم يتعرض للدور والقصور لأنها لم تكن معتادة عند العرب، والقرآن يخاطب أولا معهم. وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أي المرجع. وإنما لم يذكر المآب القبيح وهو النار لأنها غير مقصودة بالذات لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ولهذا قال: «سبقت رحمتي غضبي» «1» ثم بيّن أن ذلك المرجع كما أنه حسن في نفسه فهو أحسن وأفضل من هذه الدنيا. والمقصود أن يعلم العبد أنه كما أن الدنيا أطيب وأفسح من بطن الأم فكذلك الآخرة أفسح وأوسع من الدنيا، أو لأنه لما عدد نعم الدنيا بين أن منافع الآخرة خير منها فقال مستفهما على سبيل التقرير قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ أي بشيء هو خير مِنْ ذلِكُمْ الذي عددنا. ثم استأنف بيانه وتقريره فقال: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ كما تقول: هل أدلكم على حبر خير من فلان؟ عندي رجل من صفته كيت وكيت. وبيان الخيرية ظاهر من وصف الجنات والأزواج مع قيد الخلود، فإن النعمة وإن عظمت، فتوهم الانقطاع والزوال ينغص صفوها وينقص لذتها، وبعد زوال هذا الوهم لن يتكامل طيبها إلا بالنساء فبهن يحصل الأنس. ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة فقال: مُطَهَّرَةٌ أي من الأقذار والمنفرات. وبعد ذكر تمام النعمة ذكر ما هو فوق التمام فقال: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ ويندرج فيه جميع المطالب والمقاصد لأن العبد إذا رضي عنه المولى لم يتصور منصب أجل منه وأعلى، وكأن المولى وما يملكه للعبد، كما أن العبد وما يملكه للمولى وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 72] ويحتمل أن يكون اللام في قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا متعلقا بخير. واختص المتقين لأنهم   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15. مسلم في كتاب التوبة حديث 14- 16. الترمذي في كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 242) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 هم المنتفعون به ويرتفع جَنَّاتٌ على الخبر أي هو جنات ويعضده قراءة بعضهم جَنَّاتٌ بالجر على البدل من بِخَيْرٍ وذلك أن اللام في هذه القراءة يتعين أن يكون متعلقا بخير. وقوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ يحتمل أن يتعلق بما يتعلق بما تعلق به قوله: لِلَّذِينَ أي ثبت لهم عند ربهم. ويحتمل أن يكون صفة لخير، ويحتمل أن يكون من تمام قوله: اتَّقَوْا فيكون إشارة إلى أن هذا الثواب لا يحصل إلا لمن كان متقيا عند الله تعالى فلا يدخل فيه إلا من كان مؤمنا في علم الله وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ عالم بمصالحهم فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختار لهم من نعيم الآخرة، وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا، أو بصير بهم يثيب ويعاقب بحسب الاستحقاق، أو بصير بالذين اتقوا ربهم وبأحوالهم فلذلك أعدّ لهم الجنات الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة. وقد حكى الله تعالى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم فقيل: دل ذلك على أن الإيمان هو التصديق فقط، فإن العمل الصالح لو كان داخلا فيه كما زعموا كان إدخاله في النار قبيحا عندهم فيكون ممتنع الوقوع من الله تعالى، وضده واجب الوقوع، وسؤال الواجب وقوعه عبث فلا يصلح للمدح. ويمكن أن يجاب عنه بأن العبد قد يدعو بما يعلم أنه حاصل له إظهار الذل العبودية وإبداء للاستكانة والخشوع. وأيضا صورة العمل الصالح لا تفيد ما لم تقع في حيز القبول. فعلى المتقي أن لا يتكل عليها ويبتهل إلى الله في مواجب الغفران. ثم عدد من أوصاف عباده خمسة ووسط العاطف بينها دلالة على كمالهم في كل واحد منها، أو إشارة إلى أن كل واحد منها يكفي في استحقاق المدح والثواب فقال: الصَّابِرِينَ أي في أداء الطاعات وعلى ترك المحظورات وعند المحن والشدائد. وقف رجل على الشبلي فقال: أيّ صبر أشد على الصابرين؟ فقال: الصبر في الله تعالى. فقال: لا. فقال: الصبر لله. فقال: لا. فقال: الصبر مع الله. قال: لا. قال: فأي شيء؟ قال: الصبر عن الله. فصرخ الشبلي صرخة كاد يتلف روحه. وَالصَّادِقِينَ أي في الأقوال وفي الأفعال بأن لا ينصرف عنها قبل تمامها، وفي النيات بأن يمضي العزم على الخيرات. وَالْقانِتِينَ والمقيمين على الطاعات والمواظبين عليها وَالْمُنْفِقِينَ ما تيسر على من تيسر بشروطه ومصارفه وجوبا وندبا وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ أي فيها. والسحر قبل طلوع الفجر. وخص هذا الوقت لأنهم كانوا يقدمون قيام الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار هذا ليلهم وذلك نهارهم. وللاستغفار بالأسحار مزيد آثار وأنوار لأن السحر وقت النوم والغفلة، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة عرض الذلة على حضرة العزة لا يبعد أن يفيض عليه سجال المغفرة وأن يطلع صبح العالم الصغير عند طلوع صبح العالم الكبير فيستنير قلب المؤمن بأنوار المعارف وآثار اللطائف. أما بيان ترتيب الأوصاف، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 فالصبر يشمل أداء جميل التكاليف. ثم الإنسان قد يلتزم من نفسه ما هو غير واجب عليه، فالصادق من يخرج عن عهدة ذلك رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] ثم المواظبة على سلوك سبيل الخيرات أمر محمود فأشير إلى ذلك بقوله: وَالْقانِتِينَ ثم إن هاهنا أمرين يعينان على الطاعة: الخدمة بالمال والابتهال والتضرع إلى حضرة القدس والجلال وذلك قوله: وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ فقوله: وَالْمُنْفِقِينَ معناه الشفقة على خلق الله وباقي الأوصاف حاصله التعظيم لأمر الله. قال الكلبي: لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان! فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا: أنت محمد؟ قال: نعم. قالا: وأنت أحمد؟ قال: نعم. قالا: إنا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلاني. قالا: أخبرنا من أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله على نبيه شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فأسلم الرجلان وصدقا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووجه النظم أنه مدح المؤمنين وأثنى عليهم بقوله: رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا ثم بين أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية. واعلم أن الشهادة من الله تعالى ومن الملائكة ومن أولي العلم يحتمل أن تكون بمعنى واحد، ويحتمل أن لا تكون كذلك. أما الأول فتقريره من وجهين: أحدهما أن الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم، فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى وفي حق الملائكة وفي حق أولي العلم. أما من الله فذلك أنه أخبر في القرآن أنه إله واحد لا إله إلا هو وذلك في مواضع كثيرة كالإخلاص وآية الكرسي وغيرهما، والتمسك بالدلائل السمعية في هذه المسألة جائز لأن العلم بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لا يتوقف على العلم بها. وأما من الملائكة وأولي العلم وهم الذين عرفوا وحدانية الله تعالى بالدلائل القاطعة، فكلهم أخبروا أيضا أن الله واحد لا شريك له. وثاني الوجهين أن تجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان. فالله تعالى أظهر ذلك وبيّن بأن خلق ما يدل على ذلك، والملائكة وأولو العلم أظهروا ذلك وبينوه. أيضا الملائكة للرسل والرسل للعلماء والعلماء لعامة الخلق. فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان. فأما مفهوم الإظهار والبيان فشيء واحد في حق الكل، فكأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله وشهادة جميع المعتبرين من خلقه، ومثل هذا الدين المبين والمنهج القويم لا يضعف بمخالفة بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان، فأثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك، فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام. وأما الثاني فهو قول من يقول شهادة الله تعالى على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 توحيده عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده، وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك ونظيره قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] فالصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة. فإن قيل: المدعي للوحدانية هو الله. فكيف يكون المدعي شاهدا؟ فالجواب أنه ليس الشاهد بالحقيقة إلا الله لأنه خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده، ثم وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل والتوصل بها إلى معرفة الوحدانية، ثم وفقهم حتى أرشدوا غيرهم إلى ذلك ولهذا قال: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام: 19] وفي انتصاب قائِماً بِالْقِسْطِ وجوه: الأول أنه حال مؤكدة والتقدير: شهد الله قائما بالقسط، أو لا إله إلا هو قائما بالقسط. وهذا أوجه لكون الإلهية والتفرد بها مقتضيا للعدالة مثل: هذا أبوك عطوفا. أو لا رجل إلا عبد الله شجاعا. ويحتمل أن يكون حالا من «أولي العلم» أي حال كون كل واحد منهم قائما بالقسط في أداء هذه الشهادة. الثاني أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل: لا إله قائما بالقسط إلا هو. وقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف. الثالث أن يكون نصبا على المدح وإن كان نكرة كقوله: ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعثا مراضيع مثل السعالى ومعنى كونه قائما بالقسط قائما بالعدل كما يقال: فلان قائم بالتدبير أي يجريه على سنن الاستقامة، أو مقيما للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال، ويثيب ويعاقب وفيما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم. واعلم أن وجوب الوجود يلزمه الغنى المطلق والعلم التام والفيض العام والحكمة الكاملة والرحمة الشاملة وعدم الانقسام بجهة من الجهات وعدم الافتقار بوجه من الوجوه الى شيء من الأشياء وعدم النقص والنقض في شيء من الأفعال والأحكام إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العليا. ومركوز في العقل السليم أن من هذا شأنه لا يصدر منه شيء إلا على وفق العدالة وقضية التسوية ورعاية الأصلح عموما أو خصوصا. فكل ما يخيل إلى المكلف أنه خارج عن قانون العدالة أو يشبه الجور أو القبح، وجب أن ينسب ذلك إلى قصور فهمه وعدم إحاطته التامة بسلسلة الأسباب والمسببات والمبادئ والغايات، فانظر في كيفية خلقه أعضاء الإنسان حتى تعرف عدل الله وحكمته فيها، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح والغنى والفقر والصحة والسقم وطول العمر وقصره واللذة والألم، واقطع بأن كل ذلك عدل وصواب. ثم انظر في كيفية خلقه العناصر وأجرام الأفلاك والكواكب وتقدير كل منها بقدر معين وخاصية معينة، فكلها حكمة وعدالة. وانظر إلى تفاوت الخلائق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 في العلم والجهل والفطانة والبلادة والهداية والغواية واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط، فإن الإنسان بل كل ما سوى الله تعالى لم يخلق مستعدا لإدراك تفاصيل كلمات الله. فالخوض في ذلك خوض فيما لا يعنيه بل لا يسعه ولا ينفعه إلا العلم الإجمالي بأنه تعالى واحد في ملكه، وملكه لا منازع له فيه ولا مضاد ولا مانع لقضائه ولا راد، وأن الكل بقضائه وقدره، وفي كل واحد من مصنوعاته ولكل شيء من أفعاله حكم ومصالح لا يحيط بذلك علما إلا موجده وخالقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. هذا هو الدين القويم والاعتقاد المستقيم، والعدول عنه مراء، والجدال فيه هراء. فمن نسبه إلى الجور في فعل من الأفعال فهو الجائر لا على غيره بل على نفسه إذ لا يعترف بجهله وقصوره، ولكن ينسب ذلك إلى علام الخفيات والمطلع على الكليات والجزئيات من أزل الآزال إلى أبد الآباد. ومن زعم أن شيئا من الأشياء خيرا أو شرا في اعتقاده حسنا أو قبيحا بحسب نظره خارج عن مشيئته وإرادته فقد كذب ابن أخت خالته، لأنه يدعي التوحيد ثم يثبت قادرا آخر أو خالقا غير الله تعالى، ولا خالق إلا هو، فلهذا كرر مضمون الشهادة وقال: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ والتقدير: شهد الله أنه لا إله إلا هو. وإذا شهد بذلك فقد صح أنه لا إله إلا هو كقولك: الدليل دل على وحدانية الله، ومتى كان كذلك فقد صح القول بوحدانية الله. وفيه إيقاظ لأمة محمد أن يقولوا على وفق شهادة الله والملائكة وأولي العلم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وإعلام بأن هذه الكلمة يجب أن يكررها المسلم ما أمكنه. هو المسك ما كررته يتضوّع ثم أكد كونه منفردا بالألوهية وقائما بالعدل بقوله: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والحكيم إشارة إلى كمال العلم. ولا تتم القدرة إلا بالتفرد والاستقلال، ولا العدالة إلا بالاطلاع على المصالح والأحوال إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ جملة مستأنفة مؤكدة للأولى. والدين في اللغة الجزاء ثم الطاعة. سميت دينا لأنها سبب الجزاء. والإسلام في اللغة الانقياد والدخول في السلم أو في السلامة أو في إخلاص العبادة من قولهم: «سلم له الشيء» أي خلص له. والإسلام في عرف الشرع يطلق تارة على الإقرار باللسان في الظاهر ومنه قوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: 17] ويطلق أخرى على الانقياد الكلي وهو المراد هاهنا. وفيه إيذان بأن الدين هو العدل والتوحيد. أما التوحيد فأن يعلم أن الله تعالى لا شريك له ولا نظير في الذات ولا في صفة من الصفات كما شهد هو به، وأما العدل فهو أن يعلم أن كل ما خلق وأمر المكلف به ونهاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 عنه فإنه عدل وصواب وفيه حكم ومصالح، فيأتمر بذلك وينتهي عنه ليكون عبدا منقادا معترفا بأنه تعالى قائم بالقسط. ومن قرأ بفتح «أن» فتقديره عند البصريين ذلك بدل من الأول، بدل الكل فكأنه قيل: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام فيكون من باب وضع الظاهر موضع المضمر كقوله: لا أرى الموت يسبق الموت شيء وقيل: تقديره شهد الله أنه لا إله إلا هو وأن الدين عند الله الإسلام. وقيل: شهد الله أنه لا إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام. لأن كونه تعالى واحدا يوجب أن يكون الدين الحق هو الإسلام، لأن دين الإسلام مشتمل على هذه الوحدانية. وقرىء الأول بالكسر والثاني بالفتح على أن الفعل واقع على الثاني وما بينهما اعتراض. ثم ذكر أنه أوضح الدلائل وأزال الشبهات، والقوم ما كفروا إلا لقصورهم وتقصيرهم فقال: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قيل: هم اليهود واختلافهم أن موسى عليه السلام لما قرب وفاته سلم التوراة إلى سبعين رجلا من الأحبار وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع، فلما مضى قرن بعد قرن اختلف أبناء السبعين بعد ما جاءهم التوراة بغيا بينهم وتحاسدا على طلب الدنيا. وقيل: المراد النصارى واختلافهم في أمر عيسى عليه السلام بعد ما جاءهم العلم أنه عبد الله ورسوله. وقيل: المراد اليهود والنصارى واختلافهم هو أنه قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله. وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: نحن أحق بالنبوة من قريش لأنهم أميون ونحن أهل كتاب. إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم. لأنا لو حملناه على العلم لزم نسبة العناد إلى جمع عظيم وهو بعيد قاله في التفسير الكبير. وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يصعب عليه عد أفعاله ومعاصيه وإن كانت كثيرة، أو المراد أنه سيصل إلى الله سريعا فيحاسبه أي يجازيه على كفره. ثم بين للرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في محاجتهم فقال: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ قال الفراء: أي أخلصت عملي لله. فعلى هذا «الوجه» في معنى العمل. وقيل: أي أسلمت وجه عملي لله. فحذف المضاف والمعنى كل ما يصدر مني من الأعمال. فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله والانقياد لإلهيته وحكمه. وقيل: الوجه مقحم، والتقدير: أسلمت نفسي لله، وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس كأنه موقوف على عبادته معرض عن كل ما سواه، وقوله: وَمَنِ اتَّبَعَنِ معطوف على الضمير المرفوع في أَسْلَمْتُ وحسن للفصل. أو مفعول معه والواو بمعنى «مع» . ثم في كيفية إيراد هذا الكلام طريقان: أحدهما أن هذا إعراض عن المحاجة لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد أظهر المعجزات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 كالقرآن ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها، وقد مر في هذه السورة إبطال إلهية عيسى وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم بيّن نفي الضد والند والصاحبة والولد بقوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وذكر أن اختلاف هؤلاء اليهود والنصارى إنما هو لأجل البغي والحسد فلم يبق إلا أن يقول: أما أنا ومن اتبعن فمنقادون للحق مستسلمون له مقبلون على عبودية الله تعالى. وهذا طريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه. وثانيهما أن قوله: أَسْلَمْتُ محاجة وبيانه أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقا للعبادة، فكأنه صلى الله عليه وسلم قال هذا القول متفق عليه بين الكل فأنا متمسك بهذا القدر المتفق عليه وداعي الخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك. فاليهود يدعون التشبيه والجسمية، والنصارى يدعون إلهية عيسى، والمشركون يدعون وجوب عبادة الأوثان. فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها ونظير هذه الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً [آل عمران: 64] وعن أبي مسلم أن الآية في هذا الموضع كقول إبراهيم عليه السلام إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: 79] كأنه قيل: فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل: أنا متمسك بطريقة إبراهيم وأنتم معترفون بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه، فيكون من باب التمسك بالإلزامات وداخلا تحت قوله: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ وهم مشركو العرب الذين لا كتاب لهم أَسْلَمْتُمْ ومعناه الأمر وفائدته التعيير بالعناد وقلة الإنصاف كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تأل جهدا في سلوك طريقة الكشف والبيان له: هل فهمتها؟ فإنه يكون توبيخا له بالبلادة وكلال الذهن ومثله في آية تحريم الخمر فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 91] إشارة إلى التقاعد عن الانتهاء. فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا إلى ما يهدي الله إليه أو إلى الفوز والنجاة في الآخرة وَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الإسلام لي والاتباع لك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الرشاد وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ يوفق للصلاح من شاء ويترك على الضلالة من أراد. ثم وصف المتولي بصفات ثلاث وأردفه بوعيده فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي ببعضها المعهود لأن اليهود كانوا مقرين ببعض الآيات الدالة على وجود الصانع وقدرته وعلمه وشيء من المعاد أو بكلها كما هو ظاهر الجمع المضاف، وتوجيهه أن المكذب ببعض آيات الله كالكافر بجميعها وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ أي المعهودين لأنهم ما قتلوا كلهم ولا أكثرهم بِغَيْرِ حَقٍّ من غير ما شبهة عندهم وَيَقْتُلُونَ أو يقاتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس. عن الحسن أن في الآية دلالة على أن الآمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 بالمعروف والناهي عن المنكر تلي منزلته عند الله منزل الأنبياء فلهذا ذكرهم عقيبهم. وروي أن رجلا قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيّ الجهاد أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. فإن قيل: إذا كان قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ في حكم المستقبل لا أقل من الحال لأنه وعيد لمن هو في زمن رسول الله، ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط، فكيف يصح الكلام؟ قلنا: إن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين جميعا، إلا أنه تعالى عصمهم منهم فصح إطلاق القاتل عليهم كما يقال: اسم قاتل أي ذلك من شأنه إن وجد القابل. أو نقول: وصفوا بسيرة أسلافهم لأنهم راضون بذلك. عن أبي عبيدة بن الجراح قلت: يا رسول الله أيّ الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم قرأ هذه الآية. ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة. فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إنما دخلت الفاء لتضمن اسم «إن» معنى الشرط، فإن لا يغير معنى الابتداء بخلاف «ليت» و «لعل» . واعلم أنه تعالى قسم وعيدهم إلى ثلاثة أقسام: الأول اجتماع أسباب الآلام والمكاره عليهم وهو العذاب الأليم، واستعارة البشارة هاهنا للتهكم. الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية وهو قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أما في الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن وأسباب الاحترام والاحتشام بأصناف الذل والهوان من السبي والقتل والجزية، وأما في الآخرة فكما قال عز من قائل وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 23] الثالث لزوم ذلك في حقهم وهو قوله: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ثم ذكر غاية عناد أهل الكتاب فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم. فقالا: إن إبراهيم كان يهوديا. فقال رسول الله: فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا فنزلت. وقال الكلبي: نزلت في اللذين زنيا من خيبر وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما بالرجم وأنكر اليهود عليه صلى الله عليه وسلم وسوف تجىء القصة في سورة المائدة مفصلة. وقيل: دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم أو إياهم والنصارى إلى الآيات الدالة على صحة نبوته من التوراة أو منها ومن الإنجيل فأبوا فنزلت. ومعنى قوله: أُوتُوا نَصِيباً أي حظا وافرا من علم الكتاب يريد أحبار اليهود. و «من» إما للتبعيض وإما للبيان. والكتاب يراد به غير القرآن من الكتب التي كانوا مقرين بحقيتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 وقيل: أي حصلوا من جنس الكتب المنزلة أو من اللوح التوراة وهي نصيب عظيم. ثم بين سبب التعجيب بقوله: يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ وهو التوراة كما مر في أسباب النزول، ولأنه تعالى عجب رسوله من تمردهم وإعراضهم، وإنما يتوجه التعجيب إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون صحته. وعن ابن عباس أنه القرآن وليس ببعيد لأنهم دعوا إليه بعد قيام الحجج على أنه كتاب من عند الله ليحكم أي الكتاب بينهم أي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحذف الثاني للعلم به. أو يراد الحكم في الاختلاف الواقع بينهم كما في قصة الزانيين، ولهذا راجعوا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم، قال في الكشاف: والوجه أن يراد ما وقع من الاختلاف والتعادي بين من أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم وأنهم دعوا إلى كتاب الله الذي لا اختلاف بينهم في صحته وهو التوراة ليحكم بين المحق والمبطل منهم ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وهم الرؤساء والأحبار أو الذين لم يسلموا من أحبارهم ومعنى «ثم» استبعاد ما بين رتبتي الدعاء والتولي وَهُمْ مُعْرِضُونَ قوم لا يزال الإعراض ديدنهم وهجيراهم. والضمير في «هم» إما أن يرجع إلى الفريق أي هم جامعون بين التولي والإعراض لا عن استماعهم الحجة في ذلك المقام فقط، بل عنه وعن سائر المقامات. وإما أن يرجع إلى الباقين منهم فيكون قد وصف العلماء والرؤساء بالتولي والباقين بالإعراض لأجل إعراض علمائهم ومتقدميهم. وإما أن يرجع إلى كل أهل الكتاب أي هم قوم عادتهم الإعراض عن قبول الحق ذلك التولي والإعراض، أو ذلك العقاب أو الوعيد بسبب أنهم كانوا يتساهلون في أمر العقاب ولا يفرقون بين ما يتعلق بأصول الدين وبين ما يتعلق بفروعها فقالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [البقرة: 8] هي أيام عبادة العجل فاستوجبوا الذم من وجوه: أحدها استقصار مدة العذاب ومن أين لهم العلم بذلك؟ وثانيها أن عبادة العجل كفر والكفر يستحق به الكافر عذابا دائما. وثالثها أن استثناء الأيام المعدودات فقط فيه دليل على أنهم استحقروا تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وذلك كفر صريح. وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] أو من قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً [البقرة: 8] أو من قولهم «نحن أولى بالنبوة من قريش» أو من زعمهم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم. فَكَيْفَ يصنعون؟ أو فكيف حالهم؟ وفي هذا الحذف فخامة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من العذاب إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ قال الفراء: إذا قلت جمعوا اليوم الخميس معناه جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس. أما إذا قلت: جمعوا في يوم الخميس فلا تضمر فعلا. وأيضا من المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة والفرق بين المثاب والمعاقب. وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ من ثواب أو عقاب أو جزاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 ما عملت وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ يرجع إلى كل نفس على المعنى لأنه في معنى كل الناس كما تقول: ثلاثة أنفس تريد ثلاثة أناسي. روي أن أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله على رؤوس الإشهاد ثم يأمر بهم إلى النار. التأويل: سَتُغْلَبُونَ إشارة إلى أن المبتلى بالكفر مغلوب الحكم الأزلي بالشقاوة رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا [المؤمنون: 106] ثم مغلوب الهوى والنفس والشيطان ولذات الدنيا. فبغلبات النفس والهوى يرد إلى أسفل سافلي الطبيعة فيعيش فيها ثم يموت على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه في قعر جهنم وبئس المهاد، مهاد مهده في معاشه. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا إن لله تعالى فئتين في الظاهر من المؤمن والكافر، وفئتين في الباطن من القلب وصفاته والنفس وصفاتها الذميمة، ولهما الحرب والالتقاء على الدوام وهو الجهاد الأكبر وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ من القلب وجنوده وهم الروح والسر والأوصاف الحميدة والملائكة، ومن النفس وأعوانها وهم الهوى والدنيا والأوصاف الذميمة والشياطين ثم أخبر عن جنود الفئتين وأعوان الفرقتين بقوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ. واعلم أن الله خلق الخلق على طبقات ثلاث: العوام ويعبر عنهم بلفظ الناس والغالب عليهم الهوى وهم أصحاب النفوس، والخواص ويعبر عنهم بلفظ المؤمن وهم أرباب الأرواح والغالب عليهم التقوى، وخواص الخواص ويذكرهم بلفظ الولي أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] والغالب فيهم المحبة والشوق. ثم إن لجهنم سبع دركات محفوفة بالشهوات. فأشار بالنساء إلى شهوة الفرج، وبالبنين إلى شهوة الطبيعة الحيوانية المائلة إلى الولد، وبالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة إلى شهوة الحرص على المال، وبالخيل المسوّمة إلى شهوة الجاه والخيلاء بالركوب عليها، وبالأنعام إلى شهوة الجمال والاقتناء وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل: 6] وبالحرث إلى شهوة الحكم والرياسة على الرعايا وأهل القرى. ثم ذكر درجات الجنات الثمانية للخواص منها التقوى للذين اتقوا والرضا بالقضاء وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ والإيمان رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار بالأسحار هذه جنات عاجلة تجري من تحتها الأنهار الألطاف والواردات. والأزواج المطهرة الأخلاق الفاضلة التي تتولد منها، فإذا عاش في الجنات مات وحشر كذلك. ثم أشار إلى أحوال خواص الخواص مستورة من نظر الخواص محفوظة عن فهم العوام بقوله: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ما احلولى لهم الدنيا يا دنيا مري على أوليائي ولا وقفوا عند جنة المأوى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] وإنما طلبوا قرب المولى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يونس: 26] شَهِدَ اللَّهُ بكلامه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 الأزلي عن عمله السرمدي على ذاته الأحدي وكونه الصمدي أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وهي شهادة الحق للحق بالحق أنه الحق، وهو متفرد بهذه الشهادة الأزلية الأبدية لا يشاركه فيها أحد، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات وصفاته لا تشبه الصفات، فشهادته لا تشبه الشهادات. شهد بجلال قدره على كمال عزه حين لا حين ولا أين ولا عقل ولا جهل ولا غير ولا شرك ولا عرش ولا فرش ولا الجنة ولا النار ولا الليل ولا النهار ولا الجن ولا الإنس ولا الملائكة ولا أولو العلم ولا الإنكار ولا الإقرار، فأخبر الذي كان عما كان كما كان وهو أنه لا إله إلا هو، ثم أبدع الموجودات كما شاء على ما شاء لما شاء. فكل جزء من أجزائها، وكل ذرة من ذراتها، بوجوده مفصح، ولربوبيته موضح، وعلى قدمه شاهد، ولكن ينبوع ماء التوحيد هو القدم فجرى في مجاري أنهار المحدثات إلى أن ظهر من عيون الملائكة وأولي العلم. ثم الملائكة وإن كانوا مظهر ماء التوحيد كما كان أولو العلم، ولكن اختص أولو العلم منهم بمشربية وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها [الفتح: 26] . لي سكرتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي فحقيقة معنى الآية: شهد الله أنه لا إله إلا هو وهو قائم بالقسط على أمور عباده حتى يشهد على شهادته الملائكة وأولو العلم. ثم فائدة التكرار بقوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عائدة إلى أولي العلم الذين لهم شركة مع الملائكة في مظهرية ماء التوحيد بالشهادة، ولهم اختصاص بالمشربية لماء التوحيد فشاهدوا حقيقة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يشاهد عزته إلا أعزته من بين البرية الْحَكِيمُ الذي بحكمته اختارهم لهذه العزة من جملة الخليقة. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الاختلاف في الصورة من نتائج تناكر الأرواح في عالم المعنى والأرواح فما تعارف منها في الميثاق لتقاربهم في الصف أو لتقابلهم في المنزل ائتلف، وما تناكر منها لتباعدهم في الصف أو لتدابرهم في المنزل اختلف. إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ فيه أن العلم مظنة الحسد، ولكن المحمود منه ما يخص باسم الغبطة. وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ الإنسان خلق مستعدا لقبول فيض صفات لطف الحق وقهره، فكما أن كمال الإنسان في قبول فيض اللطف أن يفدي نفسه في متابعة الأنبياء حتى يكون خير البرية، فنقصانه في قبول فيض القهر أن يقتل الأنبياء حتى يكون شر البرية، فلهذا تحبط أعماله ولا ترجى توبته وترجى توبة إبليس أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ فيه إشارة إلى أن من أوتي حظا من العلم فعليه إذا دعي إلى حكم من أحكام الله أو إلى ترك الدنيا ومخالفة الهوى أن يمتثل وينقاد وإلا كان مغرورا بالدنيا مفتريا في الدعوى، وهذه حال أكثر من أوتي نصيبا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 علم الظاهر ولم يؤت حظا من علم الباطن، فهم أهل العزة بالله فكيف حال المغرورين إذا جمعهم الله؟ [سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 34] قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) القراآت: الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ بالتشديد على «فيعل» حيث كان: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون بالتخفيف على «فيل» . مِنْهُمْ تُقاةً بكسر القاف وفتح الياء وتشديدها: أبو زيد عن المفضل وسهل ويعقوب. الباقون تُقاةً بضم التاء. وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة. الوقوف: مِمَّنْ تَشاءُ ط لتناهي الجملتين المتضايفتين معنى إلى جملتين مثلهما وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ط الْخَيْرُ ط قَدِيرٌ هـ، فِي اللَّيْلِ ز للفصل بين الجملتين المتضادتين مِنَ الْحَيِّ ز لعطف المتفقتين حِسابٍ هـ، الْمُؤْمِنِينَ ج تُقاةً ط نَفْسَهُ ط الْمَصِيرُ هـ، يَعْلَمْهُ اللَّهُ ط وَما فِي الْأَرْضِ ط قَدِيرٌ هـ، مُحْضَراً ج والأجوز أن يوقف على سُوءٍ تقديره وما عملت من سوء كذلك. بَعِيداً ط نَفْسَهُ ط بِالْعِبادِ هـ ذُنُوبَكُمْ ط رَحِيمٌ هـ وَالرَّسُولَ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب. الْكافِرِينَ هـ، الْعالَمِينَ (لا) لأن ذُرِّيَّةً بدل. مِنْ بَعْضٍ ج عَلِيمٌ (لا) لاحتمال أن «إذ» متعلق بالوصفين أي سمع دعاءها وعلم رجاءها حين قالت، أو اصطفى آل عمران وقت قولها ولاحتمال نصب «إذ» بإضمار «اذكر» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 التفسير: إنه سبحانه لما ذكر من طريقة المعاندين ما ذكر، علم نبيه صلى الله عليه وسلم طريقة مباينة لطريقتهم من كيفية التمجيد والتعظيم فقال: قُلِ اللَّهُمَّ ومعناه عند سيبويه يا الله والميم المشددة عوض عن الياء. وإنما أخرت تبركا باسم الله تعالى وهذا من خصائص اسم الله. كما اختص بدخول تاء القسم، وبدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف، وبقطع همزته في يا الله. وعند الكوفيين أصله يا الله أمنا بخير أي اقصدنا، فلما كثر في الكلام حذفوا حرف النداء. وخففت الهمزة من أمّ. وزيف بأن التقدير لو كان كذلك لزم أن يذكر الدعاء بعده بالعطف مثل: اللهم واغفر لنا. ولجاز أن يتكلم به على أصله من غير تخفيف الهمزة وبإثبات حرف النداء وأجيب بأنه إنما لم يوسط العاطف لئلا يصير السؤال سؤالين ضرورة مغايرة المعطوف للمعطوف عليه بخلاف ما لو جعل الثاني تفسيرا للأول فيكون آكد. وبأن الأصل كثيرا ما يصير متروكا مثل: ما أكرمه فإنه لا يقال: شيء ما أكرمه في التعجب. ومالِكَ الْمُلْكِ نداء مستأنف عند سيبويه. فإن النداء بأللهم لا يوصف كما لا توصف أخواته من الأسماء المختصة بالنداء نحو: يا هناه ويا نومان ويا ملكعان وفل. وأجاز المبرد نصبه على النعت كما جاز في «يا الله» . عن ابن عباس وأنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ هم أعز وأمنع من ذلك فنزلت الآية. وعن عمرو بن عون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخبره صلى الله عليه وسلم، فأخذ المعول من سلمان فضربها صلى الله عليه وسلم ضربة صدعتها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كالمصباح في جوف بيت مظلم، وكبر صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون وقال صلى الله عليه وسلم: أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب، ثم ضرب الثانية فقال صلى الله عليه وسلم: أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم، ثم ضرب صلى الله عليه وسلم الثالثة فقال: أضاءت لي قصور صنعاء، وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا. فقال المنافقون: ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا فنزلت. وقال الحسن: إن الله تعالى أمر نبيه أن يسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما. وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء وهكذا منازل الأنبياء إذا أمروا بدعاء استجيب دعاؤهم. مالِكَ الْمُلْكِ أي تملك جنس الملاك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون، وفيه أن قدرة الخلق في كل ما يقدرون عليه ليست إلا بأقدار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 الله تعالى. ثم لما بين كونه مالك الملك وأنه هو الذي يقدر كل قادر على مقدوره ويملك كل مالك على مملوكه فصل ذلك بقوله: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ أي النصيب الذي قسمت له واقتضته حكمتك. فالأول عام شامل والآخر بعض من الكل. وهذا الملك قيل: ملك النبوة لأنها أعظم مراتب الملك لأن العلماء لهم أمر على بواطن الخلق، والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق. والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر، فعلى كل أحد أن يقبل شريعتهم ولهم أن يقتلوا من أرادوا من المتمردين. ولهذا استبعد بعض الجهلة أن يكون النبي بشرا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 94] ومن المجوّزين من كان يقول إن محمدا صلى الله عليه وسلم فقير يتيم فكيف يليق به هذا المنصب العظيم؟ لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] وكانت اليهود تقول: النبوة في أسلافنا فنحن أحق بها. وقد روينا في تفسير قوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمران: 12] أن اليهود تكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة عددهم وعددهم فرد الله تعالى على جميع هؤلاء الطوائف بأنه سبحانه مالك الملك يؤتي الملك- وهو النبوة- من يشاء، وينزع الملك- النبوة- ممن يشاء لا بمعنى أنه يعزله عن النبوة فإن ذلك غير جائز بالإجماع بل بمعنى أنه ينقلها من نسل إلى نسل كما نزع عن بني إسرائيل ووضع في العرب، أو بمعنى أنه لا يعطيه النبوة ابتداء كقوله: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] فإنه يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط. ومثله أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف: 88] مع أن الأنبياء لم يكونوا في ملتهم قط حتى يتصور العود إليها. وقيل: المراد من الملك التسلط الظاهر وهو الاقتدار على المال بأنواعه وعلى الجاه، وهو أن يكون مهيبا عند الناس وجيها غالبا مظفرا مطاعا. ومن المعلوم أن كل ذلك بإيتاء الله تعالى. فكم من عاقل قليل المال، ورب جاهل غافل رخي البال، وقد رأينا كثيرا من الملوك بذلوا الأموال لتحصيل الحشمة والجاه وما ازدادوا إلا حقارة وخمولا، فعلمنا أن الكل بإيتاء الله تعالى سواء في ذلك ملوك العدل وملوك الجور، لأن حصول الملك للجائر إن لم يقع بفاعل ففيه سد باب إثبات الصانع، وإن حصل بفعل المتغلب فكل أحد يتمنى حصول الملك والدولة لنفسه ولا يتيسر له. فلم يبق إلا أن يكون من مسبب الأسباب وفاعل الكل ومدبر الأمور وناظم مصالح الجمهور. لو كان بالحيل الغنى لوجدتني ... بتخوم أقطار السماء تعلقي لكن من رزق الحجى حرم الغنى ... ضدان مفترقان أيّ تفرق ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 وكذا الكلام في نزع الملك فإنه كما ينزع الملك من الظالم فقد ينزعه من العادل لمصلحة تقتضي ذلك. والنزع يكون بالموت وبإزالة العقل والقوى والقدرة والحواس وبتلف الأموال وغير ذلك. في بعض الكتب «أنا الله ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة. وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم» وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم «كما تكونوا يولى عليكم» والصحيح أن الملك عام يدخل فيه النبوة والولاية والعلم والعقل والصحة والأخلاق الحسنة وملك النفاذ والقدرة وملك محبة القلوب وملك الأموال والأولاد إلى غير ذلك، فإن اللفظ عام ولا دليل على التخصيص وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ كل من الإعزاز والإذلال في الدين أو في الدنيا، ولا عزة في الدين كعزة الإيمان وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] وفي ضده لا ذلة كذلة الكفر وعزة الدنيا كإعطاء الأموال الكثيرة من الناطق والصامت، وتكثير الحرث وتكثير النتاج في الدواب وإلقاء الهيبة في قلوب الخلق، وكل ذلك بتيسير الله تعالى وتقديره بِيَدِكَ الْخَيْرُ أي بقدرتك يحصل كل الخيرات وليس في يد غيرك منها شيء. وإنما خص الخير بالذكر وإن كان بيده الخير والشر والنفع والضرّ، لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة، أي بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك، أو لأن جميع أفعاله من نافع وضار لا يخلو عن حكمة ومصلحة وإن كنا لا نعلم تفصيلها فكلها خير، أو لأن القادر على إيصال الخير أقدر على إيصال الشر فاكتفى بالأول عن الثاني. وللاحتراز عن لفظ الشر مع أن ذلك صار مذكورا بالتضمن في قوله: إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ولأن الخير يصدر عن الحكيم بالذات والشر بالعرض فاقتصر على الخير. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وذلك بأن يجعل الليل قصيرا ويدخل ذلك القدر في النهار وبالعكس. ففي كل منهما قوام العالم ونظامه، أو يأتي بالليل عقيب النهار فيلبس الدنيا ظلمته بعد أن كان فيها ضوء النهار، ثم يأتي بالنهار عقيب الليل فيلبس الدنيا ضوأه. فالمراد بالإيلاج إيجاد كل منهما عقيب الآخر والأول أقرب إلى اللفظ، فإن الإيلاج الإدخال فإذا زاد من هذا في ذلك فقد أدخله فيه. وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ المؤمن من الكافر أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: 22] أي كافرا فهديناه. أو الطيب من الخبيث، أو الحيوان من النطفة، أو الطير من البيضة وبالعكس. والنطفة تسمى ميتا كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: 28] أو يخرج السنبلة من الحبة، والنخلة من النواة وبالعكس. فإخراج النبات من الأرض يسمى إحياء يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الحديد: 17] وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ تقدم مثله في البقرة. وإذا كان كذلك فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم. ثم لما علم كيفية التعظيم لأمر الله أردفه بشريطة الشفقة على خلق الله، أو نقول: لما ذكر أنه مالك الملك وبيده العزة والذلة والخير كله، بيّن أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه فقال: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ بالجزم، ولكن كسر الذال للساكنين. قال الزجاج: ولو رفع على الخبر جاز، ولكنه لم يقرأ. والخبر والطلب يقام كل منهما مقام الآخر. وقوله: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يعني أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم على المؤمنين. عن ابن عباس قال: كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد وهؤلاء كانوا من اليهود يباطنون نفرا من الأنصار يفتنونهم عن دينهم. فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود. فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فنزلت هذه الآية. وعن ابن عباس أيضا في رواية الضحاك: نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا نقيبا، وكان له حلفاء من اليهود. فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة: يا نبي الله، إن معي خمسمائة رجل من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو فنزلت. وقال الكلبي: نزلت في المنافقين- عبد الله بن أبيّ وأصحابه- كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم. وقد كرر ذلك في آيات أخر كثيرة لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران: 118] لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: 51] لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] وكون المؤمن مواليا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون راضيا بكفره والرضا بالكفر كفر فيستحيل أن يصدر عن المؤمن فلا يدخل تحت الآية لقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وثانيها المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر وذلك غير ممنوع منه. والثالث كالمتوسط بين القسمين وهو الركون إليهم والمعونة والمظاهرة لقرابة أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك، ولهذا قال مقاتل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، وكانوا يظهرون المودّة لكفار مكة مع اعتقاد أن دينهم باطل، فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه حذرا من أن يجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه حتى يخصه بالموالاة دون المؤمنين، فلا جرم هدد فقال: مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ أي من ولايته أو من دينه فِي شَيْءٍ يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ عن ولاية الله رأسا، وهذا كالبيان لقوله: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ليعلم أن الاشتراك بينهم وبين المؤمنين في الموالاة غير متصوّر وهذا أمر معقول، فإن موالاة الولي وموالاة عدوه ضدان قال: تود عدوّي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النوك عنك بعازب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 قال بعض الحكماء: هذا ليس بكلي فإنه قد يكون المشفق على العدوّ مشفقا على العدو الآخر كالملك العادل فإنه محب لهما، فإن أراد أحد أن يعم الحكم لا بد له أن يزيد عليه إذا كانوا في مرتبة واحدة إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً قال الجوهري: يقال اتقى تقية وتقاة مثل اتخم تخمة، وفاؤها واو كتراث. فالتقاة اسم وضع موضع المصدر. قال الواحدي: ويجوز أن يجعل «تقاة» هاهنا مثل «دعاة» و «رماة» فيكون حالا مؤكدة، وعلى هذين الوجهين يكون تتقوا مضمنا معنى تحذروا أو تخافوا ولذا عدي ب «من» . ويحتمل أن يكون التقاة أو التقية بمعنى المتقي مثل: ضرب الأمير لمضروبه، فالمعنى إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه. رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة محالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع من قشر العصا وإظهار الطوية كقول عيسى عليه السلام: كن وسطا وامش جانبا أي ليكن جسدك بين الناس وقلبك مع الله. وللتقية عند العلماء أحكام منها: إذا كان الرجل في قوم كفار يخاف منهم على نفسه جاز له أن يظهر المحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه ويعرّض في كل ما يقول ما أمكن، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلب. ومنها أنها رخصة فلو تركها كان أفضل لما روى الحسن أنه أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم. - وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش- فتركه ودعا الآخر وقال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فقال: نعم نعم نعم. فقال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: إني أصم ثلاثا، فقدمه وقتله. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيأ له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه. ونظير هذه الآية إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: 106] ومنها أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة. وقد يجوز أن تكون أيضا فيما يتعلق بإظهار الدين، فأما الذي يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال وشهادة الزور وقذف المحصنات وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز البتة. ومنها أن الشافعي جوز التقية بين المسلمين كما جوّزها بين الكافرين محاماة على النفس. ومنها أنها جائزة لصون المال على الأصح كما أنها جائزة لصون النفس لقوله صلى الله عليه وسلم: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» «1» و «من قتل دون ماله فهو شهيد» «2» ولأن الحاجة إلى المال شديدة ولهذا يسقط فرض الوضوء ويجوز الاقتصار على   (1) رواه أحمد في مسنده (1/ 446) . (2) رواه الترمذي في كتاب الديات باب 21. أبو داود في كتاب السنّة باب 29. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 التيمم إذا بيع الماء بالغبن. قال مجاهد: كان هذا في أول الإسلام فقط لضعف المؤمنين. وروى عوف عن الحسن أنه قال: التقية جائزة إلى يوم القيامة. وهذا أرجح عند الأئمة. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ قيل: أي عقاب نفسه. وفيه تهديد عظيم لمن تعرّض لسخطه بموالاة أعدائه لأن شدة العقاب على حسب قدرة المعاقب. وفائدة ذكر النفس تصريح بأن الذي حذر منه هو عقاب يصدر من الله لا من غيره. وقيل: الضمير يعود إلى اتخاذ الأولياء أي ينهاكم الله عن نفس هذا الفعل. ثم حذر عن جعل الباطن موافقا للظاهر في وقت التقية فقال: قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أي قلوبكم وضمائركم لأن القلب في الصدر فجاز إقامة الظرف مقام المظروف أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ يتعلق به علمه الأزلي. ثم استأنف بيانا أشفى وتحذيرا أوفى فقال: وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ثم قال إتماما للتحذير وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ثم خلط الوعيد بالوعد والترهيب بالترغيب فقال: يَوْمَ تَجِدُ وفي عامله وجوه قال ابن الأنباري: وإلى الله المصير يوم تجد. وقيل: والله على كل شيء قدير يوم تجد، وخص ذلك اليوم بالذكر وإن كان غيره من الأيام بمنزلته في قدرة الله تعالى تعظيما لشأنه مثل مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 3] وقيل: انتصابه بمضمر أي اذكر. والأظهر أن العامل فيه تَوَدُّ والضمير في بَيْنَهُ لليوم أي تود كل نفس يوم تجد ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء محضرا أيضا لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمدا بعيدا. والأمد الغاية التي ينتهي ليها مكانا كانت أو زمانا. والمقصود تمني بعده كقوله: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف: 38] ومعنى كون العمل محضرا هو أن يكون ما كتب فيه العمل من الصحائف حاضرا، أو يكون جزاؤه حاضرا إذ العمل عرض لا يبقى. ثم إن لم يكن يوم متعلقا ب تَوَدُّ احتمل أن يكون تَوَدُّ صفة سُوءٍ والضمير في بَيْنَهُ يعود إليه، واحتمل أن يكون حالا، واحتمل أن يكون ما عَمِلَتْ مبتدأ من الصلة والموصول وتَوَدُّ خبره وهو الأكثر، واحتمل أن يكون «ما» شرطية وتَوَدُّ جزاء له وهو قليل كقوله: وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب ما لي ولا حرم وقراءة عبد الله ودت يحتملهما على السواء إلا أن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ تأكيد للوعيد وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ قال الحسن: ومن رأفته أن حذرهم نفسه وعرّفهم كمال علمه وقدرته، وأنه يمهل ولا يهمل، ورغبهم في استيجاب رحمته، وحذرهم من استحقاق غضبه. ويجوز أن يراد أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 رؤوف بهم حيث أمهلهم للتوبة والتلافي، أو هو وعد كما أن التحذير وعيد، أو المراد بالعباد عباده المخلصون كقوله: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الدهر: 6] كما هو منتقم من الفساق ومحذرهم نفسه فهو رؤوف بالعباد المطيعين والمحسنين: ثم إنه تعالى دعا القوم إلى الإيمان به ورسوله من طريق آخر سوى طريق التهديد والتحذير فقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ قال الحسن وابن جريج: زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله فقالوا: يا محمد إنا نحب ربنا فأنزل الله هذه الآية. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال: يا معشر قريش، لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل ولقد كانا على الإسلام. فقالت قريش: يا محمد إنا نعبد هذه حبا لله ليقربونا إلى الله زلفى. فأنزل الله قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ وتعبدون الأصنام لتقربكم إليه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم وأنا أولى بالتعظيم من أصنامكم. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت حين زعمت اليهود أنهم أبناء الله وأحباؤه. وقيل: نزلت في نصارى نجران زعموا أنهم يعظمون المسيح ويعبدونه حبا لله وتعظيما له. والحاصل أن كل من يدعي محبة الله تعالى من فرق العقلاء فلا بد أن يكون في غاية الحذر مما يوجب سخطه، فإذا قامت الدلائل العقلية والمعجزات الحسية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وجبت متابعته. فليس في متابعته إلا أنه يدعوهم إلى طاعة الله وتعظيمه وترك تعظيم غيره. فمن أحب الله كان راغبا فيه لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب والإعراض بالكلية عن غيره، وقد مر في تفسير قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165] تحقيق المحبة وأنها من الله تعالى عبارة عن إعطاء الثواب. وقال: وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ليدل مع إيفاء الثواب على إزالة العقاب وهذه غاية ما يطلبه كل عاقل. وَاللَّهُ غَفُورٌ في الدنيا يستر على عبده أنواع المعاصي رَحِيمٌ في الآخرة يثيبه على مثقال الذرة من الطاعة والحسنة. يروى أنه لما نزل قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي قال عبد الله بن أبيّ إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزلت قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وذلك أن الآية الأولى لما اقتضت وجوب متابعته ثم إن المنافق ألقى شبهة في البين أمره الله تعالى أن يقول: إنما أوجب الله عليكم متابعتي لا لما يقوله النصارى في عيسى بل لكوني رسولا من عند الله ومبلغ تكاليفه فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا أو تعرضوا على أن يكون التاء الأولى محذوفة ويدخل في جملة ما يقوله الرسول لهم، فإنه لا يحصل للكافرين محبة الله لأنها عبارة عن الثناء لهم وإيصال الثواب إليهم، والكافر يستحق الذم واللعن وهذا ضد المحبة. ثم إنه تعالى لما بين أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بيّن علو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 درجات الرسل وسموّ طبقاتهم فقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً الآية أي جعلهم صفوة خلقه والمختارين من بينهم تمثيلا بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة، وذلك باستخلاصهم من الصفات الذميمة وتحليتهم بالخصال الحميدة كقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] وقيل: المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح ولكن الأصل عدم الإضمار. وذكر الحليمي في كتاب المنهاج أن الأنبياء عليهم السلام مخالفون لغيرهم في القوى الجسمانية والقوى الروحانية. أما القوى الجسمانية فهي إما مدركة أو محركة. أما المدركة فهي الحواس الظاهرة أو الباطنة أما الظاهرة فقوله صلى الله عليه وسلم «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها» «1» وقوله: «أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري» «2» وهذا يدل على كمال القوة الباصرة ونظيرها ما حصل لإبراهيم عليه السلام وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: 75] ذكروا في تفسيره أن الله تعالى قوّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت وليس بمستبعد، فإنه يروى أن زرقاء اليمامة كانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيام. ويقال: إن النسر وغيره من عظام الجوارح يرتفع فيرى صيده من مائة فرسخ. وقال صلى الله عليه وسلم: «أطت السماء وحق لها أن تئط» «3» فسمع أطيط السماء. ومثله ما زعمت الفلاسفة أن فيثاغورس راض نفسه حتى سمع حفيف الفلك. وقد سمع سليمان كلام النمل وفهمه. ومثله ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم مع الذئب ومع البعير، وقد وجد يعقوب صلى الله عليه وسلم ريح يوسف من مسيرة أيام. وقال صلى الله عليه وسلم «إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم» «4» وهو دليل كمال قوة الذوق. وجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم، قيل: وهو دليل قوة اللمس كما في النعامة والسمندل وفيه نظر، إذ لا إدراك هاهنا فكيف يستدل به على قوة الإدراك؟ بل يجب أن يحمل هذا على معنى آخر وهو أنه تعالى لا يبعد أن يجعل المنافي ملائما للإعجاز أو لخاصية أودعها في المنافي حتى يصير ملائما. وأما الحواس الباطنة فمنها قوة الحفظ قال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: 6] ومنها قوة الذكاء قال علي رضي   (1) رواه أحمد في مسنده (5/ 278، 284) . (2) رواه البخاري في كتاب الأذان باب 76. النسائي في كتاب الإمامة باب 28، 47. أحمد في مسنده (2/ 98) . (3) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب 9. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 19. أحمد في مسنده (5/ 173) . (4) رواه البخاري في كتاب الهبة باب 28. الدارمي في كتاب المقدمة باب 11. أحمد في مسنده (2/ 451) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 الله عنه: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف باب من العلم فاستنبطت من كل باب ألف باب. وإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي؟ وأما القوة المحركة فكعروج النبي صلى الله عليه وسلم وعروج عيسى عليه السلام إلى السماء، وكرفع إدريس وإلياس على ما ورد في الأخبار. وأما القوة الروحانية العقلية فنقول: إن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس، أو كالمخالفة صفاء ونورية وانجذابا إلى عالم الأرواح، فلا جرم تجري عليها الأنوار الفائضة من المبادئ العالية أتم من سائر النفوس وأكمل، ولهذا بعثت مكملة للناقصين ومعلمة للجاهلين ومرشدة للطالبين مصطفاة على العالمين من جميع سكان الأرضين عند من يقول الملك أفضل من البشر، أو من سكان السموات أيضا عند من يرى البشر أفضل المخلوقات. ثم إن القرآن دل على أن أول الأنبياء اصطفاء آدم صفي الله وخليفته. ثم إنه وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة من أولاد آدم وهم: شيث وأولاده إلى إدريس، ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم ثم انشعب من إبراهيم صلى الله عليه وسلم شعبتان: إسماعيل وإسحق. فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لمحمد صلى الله عليه وسلم، وجعل إسحق مبدأ لشعبتين يعقوب وعيص. فوضع النبوة في نسل يعقوب، ووضع الملك في نسل عيص، واستمر ذلك إلى زمان محمد صلى الله عليه وسلم. فلما ظهر محمد صلى الله عليه وسلم نقل نور النبوة ونور الملك إليه صلى الله عليه وسلم وبقي الدين والملك في أمته صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، فالمراد بآل إبراهيم أولاده عليهم الصلاة والسلام وهو المطلوب بقوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة: 124] بعد قوله: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: 124] وأما آل عمران فقيل: أولاد عمران بن يصهر والدموسي وهارون. وقيل: المراد بعمران والد مريم وهو عمران بن ماثان بدليل قوله عقيبه إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ [آل عمران: 35] ولا شك أنه عمران بن ماثان جد عيسى من قبل الأم، ولأن الكلام سيق للنصارى الذين يحتجون على إلهية عيسى عليه السلام بالخوارق التي ظهرت على يده. فالله تعالى يقول: إن ذلك باصطفاء الله إياه لا لكونه شريكا للإله ولأن هذا اللفظ شديد المطابقة لقوله تعالى: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 91] . ذُرِّيَّةً بدل ممن سوى آدم بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ قيل: أي في التوحيد والإخلاص والطاعة كقوله: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التوبة: 67] وذلك لاشتراكهم في النفاق. وقيل: معناه أن غير آدم كانوا متوالدين من آدم. وقيل: يعني أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض، موسى وهارون من عمران، وعمران من يصهر، ويصهر من قاهث، وقاهث من لاوي، ولاوي من يعقوب، ويعقوب من إسحق. وكذلك عيسى من مريم، ومريم بنت عمران بن ماثان. ثم قال في الكشاف: ماثان بن سليمان بن داود بن ايشا بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق وفيه نظر، لأن بين ماثان وسليمان قوما آخرين، وكذلك بين ايشا ويهوذا. وَاللَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 سَمِيعٌ لأقوال العباد عَلِيمٌ بضمائرهم وأفعالهم فيصطفي من خلقه من يعلم استقامته قولا وفعلا. ويحتمل أن يكون الكلام مع اليهود والنصارى الذين كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه تغريرا للعوام مع علمهم ببطلان هذا الكلام، فيكون أول الكلام تشريفا للمرسلين وآخره تهديدا للمبطلين كأنه قيل: والله سميع لأقوالهم الباطلة، عليم بأغراضهم الفاسدة فيجازيهم بحسب ذلك. ويحتمل أن يتعلق بما بعده كما في الوقوف. التأويل: مالك الملك هو ملك الوجود فلا وجود بالحقيقة إلا له، تؤتي الوجود من تشاء وتنزع الوجود ممن تشاء، فتخلق بعض الموجودات مستعدا للبقاء كالملائكة والإنسان، توجد بعضها قابلا للفناء كالنبات والحيوان غير الإنسان. وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ بعزة الوجود النوري، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بذل القبض القهري، بيدك الخير. إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تضمين للدعاء بذكر السبب كما يقال للجواد إنك الذي يقدر على إعطاء كل خير فأتنا وأعزنا يا مفيض كل خير، ويا كاشف كل ضير. تولج ليل ظلمات الصفات البشرية النفسانية في نهار أنوار الصفات الروحانية وبالعكس، تخرج القلب الحي بالحياة الحقيقية من النفس الميتة، وتخرج القلب الميت عن الحياة الحقيقية من النفس الحية بالحياة المجازية الحيوانية. لا يتخذ القلب المؤمن والروح والسر وصفاتها الكافرين من النفس الأمّارة والشيطان والهوى والدنيا أولياء من دون المؤمنين من القلب والروح والسر، ومن يفعل ذلك من القلوب فليس من أنوار الله وألطافه في شيء إلا أن تخافوا من هلاك النفوس. فالنفس مركب الروح فتواسوها كيلا تعجز عن السير في الرجوع وتهلك في الطريق من شدة الرياضات وكثرة المجاهدات. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي من صفات قهره قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ من معاداة الحق في ضمن موالاة النفس وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ قلوبكم وَما فِي الْأَرْضِ نفوسكم يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أثر الخير والشر ظاهر في ذات المرء وصفاته، وبحسب ذلك يبيض وجه قلبه أو يسود ولكنه في غفلة من هذا محجوب عنه بحجاب النفس والجسم كمثل نائم لدغته حية كحية الكفر والخصال الذميمة فلا يحس بها ما دام نائما نوم الغفلة، فإذا مات انتبه وأحس، ثم أخبر عن طريق الوصول أنه في متابعة الرسول. واعلم أن للاتباع ثلاث درجات، ولمحبة المحب ثلاث درجات، ولمحبة الله للمحب التابع على حسب الاتباع ثلاث درجات. أما درجات الاتباع فالأولى درجة عوام المؤمنين وهي متابعة أعماله صلى الله عليه وسلم، والثانية درجة الخواص وهي متابعة أخلاقه، والثالثة درجة أخص الخواص وهي متابعة أحواله. وأما درجات محبة المحب فالأولى محبة العوام وهي مطالعة المنة من رؤية إحسان المحسن «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها» وهذا حب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 يتغير بتغير الإحسان وهو لمتابعي الأعمال الذين يطمعون في الأجر على ما يعملون وفيه قال أبو الطيب: وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوى يرجى عليه ثواب والثانية محبة الخواص المتبعين للأخلاق الذين يحبونه إعظاما وإجلالا له، ولأنه أهل لذلك كما قالت رابعة: أحبك حبين حب الهوى ... وحب لأنك أهل لذاكا ويضطر هذا المحب في هذه الدرجة إلى إيثار الحق على غيره، وهذا الحب يبقى على الأبد بقاء الكمال والجلال على السرمد وفيه قال: سأعبد الله لا أرجو مثوبته ... لكن تعبد إعظام وإجلال والثالثة محبة أخص الخواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من الجذبة الإلهية في مكان من «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة بسبق العناية، غذينا بالمحبة يوم قالت ... له الدنيا أتينا طائعينا وحقيقة هذه المحبة أن يفنى المحب بسطوتها وتبقى المحبة فيه بلا هو كما أن النار تفني الحطب بسطوتها وتبقى النار منه بلا هو. وحقيقة هذه المحبة نار لا تبقي ولا تذر. وأما درجات محبة الله للعبد فاعلم أن كل صفة من صفات الله تعالى من العلم والقدرة والإرادة وغيرها فإنها لا تشبه في الحقيقة صفات المخلوقين، حتى الوجود فإنه وإن عم الخالق والمخلوق إلا أن وجوده واجب بنفسه ووجود غيره ممكن في ذاته واجب به، فليس في الكون إلا الله وأفعاله. قرأ القارئ بين يدي الشيخ أبي سعيد بن أبي الخير رحمه الله قوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] فقال: بحق يحبهم لأنه لا يحب إلا نفسه فليس في الوجود إلا هو، وما سواه فهو من صنعه. والصانع إذا مدح صنعه فقد مدح نفسه. والغرض أن محبة الله للخلق عائدة إليه حقيقة إلا أنه لما كان مرورها على الخلق فبحسب ذلك اختلفت مراتبها، مع أنها صدرت عن محل واحد هو محل «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف» فما تعلقت إلا بأهل المعرفة وذلك قوله: «فخلقت الخلق لأعرف» لكنها تعلقت بالعوام من أهل المعرفة بالرحمة ومشربهم الأعمال فقيل لهم فَاتَّبِعُونِي بالأعمال الصالحة يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ يخصكم بالرحمة وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم التي صدرت منكم على خلاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 المتابعة. وتعلقت بالخاص من أهل المعرفة بالفضل ومشربهم الأخلاق فقيل لهم: فَاتَّبِعُونِي بمكارم الأخلاق يحببكم بالفضل يخصكم بتجلي صفات الجمال وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ يستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته. وتعلقت بالأخص من أهل المعرفة بالجذبات ومشربهم الأحوال فقيل لهم فَاتَّبِعُونِي ببذل الوجود يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ يخصكم بجذبكم إلى نفسه وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوب وجودكم فيمحوكم عنكم ويثبتكم به كما قال: «فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا» «1» فهم بين روضة المحو وغدير الإثبات أحياء غير أموات، ويكون في هذا المقام المحب والمحبوب والمحبة واحدا كما أن الرائي في المرآة يشاهد ذاته بذاته وصفاته بصفاته فيكون الرائي والمرئي والرؤية واحدا. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإن متابعته صورة جذبة الحق وصدف درّة محبته لكم. إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وذلك أن الله تعالى خلق العالمين سبعة أنواع: الجماد والمعدن والنبات والحيوان والنفوس والعقول والأرواح، وجمع في آدم جميع الأنواع وخصه بتشريف ثامن هو تشريف وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: 72] فهو المظهر لجميع آياته وصفاته وذاته وهو معنى جعله خليفة ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم «وإن الله خلق آدم على صورته» «2» ثم ذكر خواص أولاد آدم نوحا وآل إبراهيم وآل عمران والمراد بالآل كل مؤمن تقي بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ بالوراثة الدينية «العلماء ورثة الأنبياء» «3» فالعالم كشجرة وثمرتها أهل المعرفة وَاللَّهُ سَمِيعٌ لدعائهم عَلِيمٌ بأحوالهم وخصالهم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 35 الى 41] إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41)   (1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 38. (2) رواه أحمد في مسنده (2/ 244، 251) . البخاري في كتاب الاستئذان باب 1. مسلم في كتاب البر حديث 115. (3) رواه البخاري في كتاب العلم باب 10. أبو داود في كتاب العلم باب 1. ابن ماجه في المقدمة باب 17. الدارمي في كتاب المقدمة باب 32. أحمد في مسنده (5/ 196) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 القراآت: مِنِّي إِنَّكَ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. بِما وَضَعَتْ على الحكاية: ابن عامر ويعقوب وأبو بكر وحماد. الباقون وَضَعَتْ على الغيبة. وَإِنِّي أُعِيذُها بفتح الياء: أبو جعفر ونافع. وَكَفَّلَها مشددة: عاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون خفيفا زَكَرِيَّا مقصورا كل القرآن: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. وقرأ أبو بكر وحماد بالمد والنصب هاهنا. الباقون بالمد والرفع. فناديه بالياء والإمالة: علي وحمزة وخلف. الباقون فَنادَتْهُ بتاء التأنيث فِي الْمِحْرابِ بالإمالة حيث كان مخفوضا. قتيبة وابن ذكوان أَنَّ اللَّهَ بكسر «إن» : ابن عامر وحمزة. الباقون بالفتح. يُبَشِّرُكَ وما بعده من البشارة خفيفا: حمزة وعلي. الباقون بالتشديد لِي آيَةً بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن شنبوذ عن ابن كثير. الوقوف: مِنِّي ج للابتداء ولاحتمال لأنك الْعَلِيمُ هـ أُنْثى ط لمن قرأ بِما وَضَعَتْ بتاء التأنيث الساكنة، ومن قرأ على الحكاية لم يقف لأنه يجعلها من كلامها. بِما وَضَعَتْ ط كَالْأُنْثى ج للابتداء بأن، ولاحتمال أن المجموع كلام واحد من قولها على قراءة من قرأ وَضَعَتْ بالضم الرَّجِيمِ هـ حَسَناً ص لمن قرأ وَكَفَّلَها مخففا لتبدل فاعله، فإن فاعل المخفف زَكَرِيَّا وفاعل المشدد الرب. وقد يعدى إلى مفعولين كقوله: أَكْفِلْنِيها [ص: 23] الْمِحْرابَ (لا) لأن وَجَدَ جواب كُلَّما رِزْقاً ج لاتحاد فاعل الفعلين مع عدم العاطف هذا ط مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ط حِسابٍ هـ رَبَّهُ ج لما قلنا في رِزْقاً طَيِّبَةً ج للابتداء ولجواز لأنك الدُّعاءِ هـ فِي الْمِحْرابِ (لا) وان كسر «إن» لأن من كسر جعل النداء في معنى القول الصَّالِحِينَ هـ عاقِرٌ ط ما يَشاءُ هـ آيَةً ط وَالْإِبْكارِ هـ. التفسير: إنه سبحانه ذكر في هذا المقام قصصا. القصة الأولى قصة حنة أم مريم البتول زوجة ابن عمران بن ماثان بنت فاقوذ أخت إيشاع التي كانت تحت زكريا بن أذن. روي أن حنة كانت عاقرا لم تلد إلى أن كبرت وعجزت. فبينما هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا له، فتحركت نفسها للولد وتمنته فقالت: اللهم إن لك عليّ نذرا شكرا إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمته. فحملت بمريم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 وهلك عمران وهي حامل. قال الحسن: إنما فعلت ذلك بإلهام الله تعالى كما ألهم أم موسى فقذفته في أليم. عن الشعبي: محررا مخلصا للعبادة. وتحرير العبد تخليصه من الرق، وحررت الكتاب إذا أصلحته وخلص من الغلط، ورجل حر إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه يد وتصرف. قال الأصم: لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا سبي، وكان في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين. فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع عن الانتفاع ويجعلون الأولاد محررين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى، حتى إذا بلغ الحلم كان مخيرا. فإن أبى المقام وأراد أن يذهب ذهب، وإن اختار المقام فلا خيار له بعد ذلك. ولم يكن نبي إلا ومن نسله محرر في بيت المقدس، وما كان هذا التحرير إلا في الغلمان. لأن الجارية يصيبها الحيض والقذر، ثم إنها نذرت مطلقا إما لبناء الأمر على الفرض والتقدير، وإما لأنها جعلت النذر وسيلة إلى طلب الولد الذكر. مُحَرَّراً حال من «ما» . وعن ابن قتيبة: المعنى نذرت لك أن أجعل ما في بطني محررا. فلما وضعتها يعني ما في بطنها لأنها كانت أنثى في علم الله، أو على تأويل النفس أو النسمة أو الحبلة. والحبل بفتح الباء مصدر بمعنى المحبول، كما سمي بالحمل، ثم أدخلت عليه التاء للإشعار بمعنى الأنوثة فيه، ومنه الحديث «نهى عن حبل الحبلة» ومعناه أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أنه يكون أنثى. قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها حال كونها أُنْثى ثم من قرأ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ على الحكاية فمجموع الكلام إلى آخر الآية من قولها، ويكون فائدة قولها إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى الاعتذار عن إطلاق النذر الذي تقدم منها، والخوف من أنها لا تقع الموقع الذي يعتد به والتحزن إلى ربها والتحسر على ما رأت من خيبة رجائها وعكس تقديرها. ثم خافت أن يظن بها أنها قالت ذلك لإعلام الله تعالى فقالت: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ليس جنس الذكور كجنس الإناث لا سيما في باب السدانة، فإن تحرير غير الذكور لم يكن جائزا في شرعهم، والذكر يمكن له الاستمرار على الخدمة دون الأنثى لعوارض النسوان، ولأن الأنثى لا تقوى على الخدمة لأنها محل التهمة عند الاختلاط. ويحتمل أن تكون عارفة بالله واثقة بأن كل ما صدر عنه فإنه يكون خيرا وصوابا فقالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ولكنك أعرف وأعلم بحال ما وضعت فلعل لك فيه سرا وَلَيْسَ الذَّكَرُ الذي طلبت كَالْأُنْثى التي وهبت لي لأنك لا تفعل إلا ما فيه حكمة ومصلحة، فعلى هذا اللام في الذكر وفي الأنثى لمعهود حاضر ذهني لكنها في الذكر لحاضر ذهني تقديرا لدلالة ما في بطني عليه ضمنا، وفي الأنثى لحاضر ذهني حقيقة لتقدم لفظة أنثى. ومن قرأ بِما وَضَعَتْ بسكون التاء للتأنيث فالجملتان أعني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى معترضتان. ومعناه والله أعلم بالشيء الذي وضعت لما علق به من عظائم الأمور وجعلها وولدها آية للعالمين وهي جاهلة بذلك. ثم زاده بيانا وإيضاحا فقال: وَلَيْسَ الذَّكَرُ الذي طلبت كَالْأُنْثى التي وهبت لها. وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وذلك أن أباها قد مات عند وضعها فلهذا تولت الأم تسميتها. ومريم في لغتهم العابدة. فأرادت بقولها ذلك التقرب والطلب إلى الله أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها، ولهذا أردف ذلك بطلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان فَتَقَبَّلَها رَبُّها الضمير يعود إلى امرأة عمران ظاهرا بدليل أنها التي خاطبت ونادت بقولها رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها ويحتمل أن يعود إلى مريم فيكون فيه إشارة إلى أنه كما رباها في بطن أمها فسيربيها بعد ذلك بِقَبُولٍ حَسَنٍ تقبلت الشيء وقبلته إذا رضيته لنفسك. قبولا بفتح القاف وهو مصدر شاذ حتى حكي أنه لم يسمع غيره. وأجاز الفراء والزجاج قبولا بالضم. والباء في قوله بِقَبُولٍ بمنزلة الباء في قولك «كتب بالقلم وضربته بالسوط» . وفي التقبل نوع تكلف فكأنه إنما حكم بالتقبل بواسطة القبول الحسن. قال في الكشاف: معناه فتقبلها بذي قبول حسن أي بأمر ذي قبول وهو اختصاصها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم يقبل قبلها أنثى في النذر، أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة. قال: ويجوز أن يكون القبول اسم ما يقبل به الشيء كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلدّ وهو الاختصاص، ويجوز أن يكون معناه فاستقبلها مثل تعجل بمعنى استعجل وذلك من قولهم «استقبل الأمر» إذا أخذه بأوله أي فأخذها من أول أمرها حين ولدت بقبول حسن. وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً قيل: كانت تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام. وقيل: المراد نماؤها في الطاعة والعفة والصلاح والسداد وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة. فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم. فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها. فقالوا: لا حتى نقترع عليها. فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة والوحي، على أن كل من ارتفع قلمه فهو الراجح. فألقوا ثلاث مرات وفي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا وترسب أقلامهم، فأخذها زكريا. فعلى هذه الرواية تكون كفالة زكريا إياها من أول أمرها وهو قول الأكثرين. وزعم بعضهم أنه كفلها بعد أن فطمت ونبتت النبات الحسن على ترتيب الذكور. والأرجح أنها لم ترضع ثديا قط، وكانت تتكلم في الصغر، وكان رزقها من الجنة، وأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 زكريا بنى لها محرابا وهي غرفة يصعد إليها بسلم. وقيل: هو أشرف المجالس ومقدّمها كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس. وقيل: كانت مساجدهم تسمى المحاريب. والتركيب يدل على الطلب فكان صدر المجلس يسمى محرابا لطلب الناس إياه. وكان إذا خرج غلق عليها سبعة أبواب فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، وذلك قوله عز من قائل كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آت في غير حينه والأبواب مغلقة؟ قالت هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فلا تستبعد إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ يحتمل أن يكون من تمام كلام مريم، وأن يكون معترضا من كلام الله تعالى. واعلم أن الأمور الخارقة للعادة في حق مريم كثيرة فمنها: أنه روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها» » قلت: وذلك لدعاء حنة وَإِنِّي أُعِيذُها ومنها تكلمها في الصغر. ومنها حصول الرزق لها من عند الله كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم جاع في زمن قحط فأهدّت له صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها رغيفين وبضعة لحم آثرته بها فرجع صلى الله عليه وسلم بها إليها وقال: هلمي يا بنية. فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما فبهتت وعلمت أنها نزلت من عند الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله. إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل. ثم جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والحسن والحسين وجميع أهل بيته صلى الله عليه وسلم حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو، فأوسعت فاطمة رضي الله عنها على جيرانها. وفي أمثال هذه الخوارق من غير الأنبياء دليل على صحة الكرامات من الأولياء. والفرق بين المعجزة والكرامة أن صاحب الفعل الخارق في الأول يدعي النبوة، وفي الثاني يدعي الولاية، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعي المعجز ويقطع به، والولي لا يمكنه أن يقطع به، والمعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة، والكرامة بخلافها. وقال بعضهم: الأنبياء مأمورون بإظهار المعجزة، والأولياء مأمورون بإخفاء الكرامات أما المعتزلة فقد احتجوا على امتناع الكرامات. بأنها دلالات صدق الأنبياء، ودليل النبوة لا يوجد مع غير النبي كما أن الفعل المحكم لما كان دليلا على أن فاعله عالم فلا جرم لا يوجد في غير العالم. وأجابوا عن حديث أبي هريرة بعد تسليم صحته أن استهلال المولود صارخا من مس الشيطان تخييل وتصوير لطمعه فيه، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول:   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 44. مسلم في كتاب الفضائل حديث 146. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 هذا ممن أغويه. فمعنى الحديث أن كل مولود فإنه يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها. وهذا المعنى يعم جميع من كان في صفتهما من عباد الله المخلصين. قال في الكشاف: وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلون به من نخسه. قلت: وعجيب من مثله مثل هذا الكلام فإنه لا يلزم من الإحساس بمس الشيطان والصراخ منه في وقت الولادة وإنه قريب العهد بعالم الأرواح وبزمان المكاشفة بعيد العهد من عالم الغفلة والإلف بالمحسوسات أن يحس به في وقت آخر ويصرخ على أن أثر مس الشيطان ونخسه يظهر في هيئات النفس وأحوالها، وأنها أمور لا يحس بها إلا بعد المفارقة أو قطع العلائق البدنية، والكلام فيه يستدعي فهمه استعدادا آخر غير العلوم الظاهرية. قال الجبائي: لم لا يجوز أن تكون تلك الخوارق من معجزات زكريا؟ وبيانه أن زكريا دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقها، وربما كان غافلا عن تفاصيل ما يأتيها من الأرزاق من عند الله. فإذا رأى شيئا بعينه في وقت معين قال لها: أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله لا من عند غيره. فعند ذلك يعلم أن الله تعالى أظهر بدعائه تلك المعجزة. ويحتمل أن يكون زكريا يشاهد عند مريم رزقا معتادا لأنه كان يأتيها من السماء وكان زكريا يسألها عن ذلك حذرا من أن يكون من عند إنسان يبعثه إليها فقالت: هو من عند الله، لا من عند غيره. على أنا لا نسلم أنه قد ظهر لها شيء من الخوارق، بل كانوا يرغبون في الإنفاق على الزاهدات العابدات. فكان زكريا إذ رأى شيئا من ذلك خاف أن ذلك الرزق أتاها من حيث لا ينبغي، وكان يسألها عن كيفية الحال. قلت: أمثال هذه الشبهات يوجبها الشك في القرآن وفي الحديث أو العصبية المحضة. على أنا نقول: لو كان معجزا لزكريا لكان مأذونا من عند الله في طلبه فكان عالما بحصوله، وإذا علم امتنع أن يطلب كيفية الحال. وأيضا كيف قنع بمجرد إخبارها في زوال الشبهة؟ وكيف مدح الله تعالى مريم بحصول هذا الرزق عندها؟ وكيف يستبعد هذا القدر ممن أخبر الله تعالى بأنه اصطفاها على نساء العالمين وقال: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ؟ [الأنبياء: 91] . القصة الثانية: واقعة زكريا عليه السلام وذلك قوله سبحانه هُنالِكَ أي في ذلك المكان الذي كانا فيه في المحراب، أو في ذلك الوقت الذي شاهد تلك الكرامات فقد يستعار «هنا» و «ثمة» و «حيث» للزمان دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ وهذا يقتضي أن يكون قد عرف في ذلك الزمان أو المكان أمرا له تعلق بهذا الدعاء، فالجمهور من العلماء المحققين على أن زكريا رأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء وبالعكس وأن ذلك خارق للعادة، فطمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 هو أيضا في أمر خارق هو حصول الولد من شيخ كبير ومن امرأة عاقر. وهذا لا يقتضي أن يكون زكريا قبل ذلك شاكا في قدرة الله تعالى غير مجوّز وقوع الخوارق، فإن من حسن الأدب رعاية الوقت الأنسب في الطلب. وأما المعتزلة فحين أنكروا كرامات الأولياء وإرهاص الأنبياء قالوا: إن زكريا لما رأى آثار الصلاح والعفاف والتقوى مجتمعة في حق مريم تمنى أن يكون له ولد مثلها. قال المتكلمون: إن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بعد الإذن لاحتمال أن لا تكون الإجابة مصلحة فحينئذ تصير دعوته مردودة وذلك نقص في منصبه. وقول إن دعا النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون بمجرد التشهي فلا حاجة له في كل دعاء إلى إذن مخصوص، بل يكفي له الإذن في الدعاء على الإطلاق والغالب في دعوته الإجابة. ثم إن وقع الأمر بالندرة على خلاف دعوته فذلك بالحقيقة مطلوبه لأنه يريد الأصلح، ويضمر في دعائه أنه لو لم يكن أصلح لم يبعثه الله عليه ويصرفه عنه. ومعنى قوله: مِنْ لَدُنْكَ أن حصول الولد في العرف والعادة له أسباب مخصوصة وكانت مفقودة في حقه. فكأنه قال: أريد منك يا رب أن تعزل الأسباب في هذه الواقعة وتخلق هذا الولد بمحض قدرتك من غير توسيط الأسباب. والذرية النسل يقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد هاهنا ولد واحد كما قال: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم: 5] قال الفراء: وأنث الطيبة لتأنيث لفظ الذرية في الظاهر. فالتذكير والتأنيث تارة يجيء على اللفظ وأخرى على المعنى، وهذا في أسماء الأجناس بخلاف الأسماء الأعلام فإنه لا يجوز أن يقال: جاءت طلحة، لأن اسم العلم لا يفيد إلا ذلك الشخص، فإذا كان مذكرا لم يجز فيه إلا التذكير. إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ يعني سماع إجابة. وذلك لما عهد من الإجابة في غير هذه الواقعة كما قال في سورة مريم وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم: 4] . فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ ظاهر اللفظ للجمع وهذا في باب التشريف أعظم. ثم ما روي أن المنادي كان جبريل فالوجه فيه أنه كقولهم «فلان يركب الخيل ويأكل الأطعمة النفيسة» أي يركب من هذا الجنس ويأكل منه. أو لأن جبريل كان رئيس الملائكة وقلما يبعث إلا ومعه آخرون. يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى يحتمل أن يكون زكريا قد عرف أنه سيكون في الأنبياء رجل اسمه يحيى وله درجة عالية. فإذا قيل له: إن ذلك النبي المسمى بيحيى هو ولدك كان بشارة له، ويحتمل أن يكون المعنى يبشرك بولد اسمه يحيى كما يجيء في سورة مريم إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى [مريم: 7] وإنه اسم أعجمي كموسى وعيسى، ومن جوز أن يكون عربيا فمنع صرفه للعلمية ووزن الفعل كيعمر. ثم إنه تعالى وصف يحيى بصفات منها: قوله مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهو نصب على الحال لأنه نكرة و «يحيى» معرفة. قال أبو عبيدة: أي مؤمنا بكتاب الله. وسمي الكتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 كلمة كما قيل: «كلمة الحويدرة» لقصيدته. والجمهور على أن المراد بكلمة من الله هو عيسى. قال السدي: لقيت أم يحيى أم عيسى وهما حاملان بهما. فقالت: يا مريم أشعرت أني حبلى؟ فقالت مريم: وأنا أيضا حبلى. قالت امرأة زكريا: فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذاك قوله: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وقال ابن عباس: إن يحيى أكبر سنا من عيسى بستة أشهر، وكان يحيى أول من آمن به وصدّق بأنه كلمة الله وروحه، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى. وسمي عيسى كلمة الله لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله وهي «كن» من غير واسطة أب وزرع كما يسمى المخلوق خلقا والمرجو رجاء، أو لكونه متكلما في أوان الطفولية، أو لأنه منشأ الحقائق والأسرار كالكلمة، ولهذا سمي روحا أيضا لأنه سبب حياة الأرواح. وقد يقال للسلطان العادل ظل الله ونور الله لأنه سبب ظهور ظل العدل ونور الإحسان، أو لأنه وردت البشارة به في كلمات الأنبياء وكتبهم كما لو أخبرت عن حدوث أمر، ثم إذا حدث قلت قد جاء قولي أو كلامي أي ما كنت أقول أو أتكلم به. ومنها قوله: وَسَيِّداً والسيد الذي يفوق قومه في الشرف. وكان يحيى فائقا لقومه بل للناس كلهم في الخصال الحميدة. وقال ابن عباس: السيد الحليم. وقال ابن المسيب: الفقيه العالم. وقال عكرمة: الذي لا يغلبه الغضب. ومنها قوله: وَحَصُوراً قيل: أي محصورا عن النساء لضعف في الآلة، وزيف بأنه من صفات النقص فلا يليق في معرض المدح. والمحققون على أنه فعول بمعنى فاعل وهو الذي لا يأتي النسوان لا للعجز بل للعفة والزهد وحبس النفس عنهن، وفيه دليل على أن ترك النكاح كان أفضل من تلك الشريعة، فلولا أن الأمر بالنكاح والحث عليه وارد في شرعنا كان الأصل بقاء الأمر على ما كان. ومنها قوله: وَنَبِيًّا واعلم أن السيادة لا تتم إلا بالقدرة على ضبط مصالح الخلق فيما يرجع إلى الدين والدنيا. والحصور إشارة إلى الزهد التام وهو منع النفس عما لا يعنيه. روي أنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال: ما للعب خلقت. فقوله: وَنَبِيًّا أشار به إلى ما عدا مجموع الأمرين فإنه ليس بعدهما إلا النبوة. ثم قال: وَمِنَ الصَّالِحِينَ أي من أولادهم لأنه كان من أصلاب الأنبياء أو كائنا من جملة الصالحين كقوله: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة: 130] أو لأن صلاحه كان أتم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا وقد عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا فإنه لم يعص ولم يهم» وفيه أن الختم على الصلاح هو الغرض الأعظم والغاية القصوى وإن كان نبيا، ولهذا قال سليمان بعد حصول النبوة وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 19] وقال يوسف: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101] . ثم إن الملائكة لما نادوه بما نادوه قال زكريا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 مخاطبا لله تعالى ومناجيا إياه رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أدركتني السنون العالية وأثر فيّ طول العمر وأضعفني. قال أهل اللغة: كل شيء صادفته وبلغته فقد صادفك وبلغك وذلك إذا أمكن تصور الطلب من الجانبين. فيجوز بلغت الكبر وبلغني الكبر لأن الكبر كالشيء الطالب للإنسان فهو يأتيه بحدوثه فيه. والإنسان أيضا يأتيه بمرور العمر عليه. ولا يجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد لأن البلد ليس كالطالب للإنسان الذاهب. وَامْرَأَتِي عاقِرٌ هي من الصفات الخاصة بالنساء. ويقال: رمل عاقر لا ينبت شيئا. فإن قيل: لما كان زكريا هو الذي سأل الولد ثم أجابه الله تعالى إلى ذلك فما وجه تعجبه واستبعاده بقوله: أَنَّى يَكُونُ من أين يحصل لي غلام؟ فالجواب على ما في الكشاف أن الاستبعاد إنما جاء من حيث العادة. وقيل: إنه دهش من شدة الفرح فسبق لسانه. ونقل عن سفيان بن عيينة أن دعاءه كان قبل البشارة بستين سنة، فكان قد نسي ذلك السؤال وقت البشارة، فلما سمع البشارة في زمان الشيخوخة استغرب وكان له يؤمئذ مائة وعشرون سنة أو تسع وتسعون ولامرأته ثمان وتسعون، وعن السدي أن الشيطان جاءه عند سماع البشارة قال: إن هذا النداء من الشيطان وقد سخر منك فاشتبه عليه الأمر ولا سيما أنه كان من مصالح الدنيا ولم يتأكد بالمعجزة فرجع إلى إزالة ذلك الخاطر فسأل ما سأل. والجواب المعتمد أن زكريا لم يسأل عما سأل استبعادا وتشككا في قدرة الله تعالى، وإنما أراد تعيين الجهة التي بها يحصل الولد، فإن الجهة المعتادة كانت متعذرة عادة لكبره وعقارتها فأجيب بقوله: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ وهو إما جملة واحدة أي الله يفعل ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل وهو خلق الولد بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر، أو جملتان فيكون كَذلِكَ اللَّهُ مبتدأ وخبرا أي على نحو هذه الصفة الله ويَفْعَلُ ما يَشاءُ بيانا له أي يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادات. ثم إنه صلى الله عليه وسلم لفرط سروره وثقته بكرم ربه وإنعامه سأل عن تعيين الوقت فقال: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً علامة أعرف بها العلوق فإن ذلك لا يظهر من أوّل الأمر فقال تعالى: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أي بلياليها ولهذا ذكر في سورة مريم ثَلاثَ لَيالٍ [مريم: 10] ومعنى قوله: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ قال المفسرون: أي لا تقدر على التكلم. حبس لسانه عن أمور الدنيا وأقدره على الذكر والتسبيح ليكون في تلك المدة مشتغلا بذكر الله وبالطاعة وبالشكر على تلك النعمة الجسمية، فيصير الشيء الواحد علامة على المقصود وأداء لشكر النعمة فيكون جامعا للمقاصد. وفي هذه الآية إعجاز من وجوه منها: القدرة على التكلم بالتسبيح والذكر مع العجز عن التكلم بكلام البشر. ومنها العجز مع سلامة البنية واعتدال المزاج. ومنها الإخبار بأنه متى حصلت هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 الحالة فقد حصل الولد. ثم إن الأمر وقع على وفق هذا الخبر. وعن قتادة أنه صلى الله عليه وسلم عوتب بذلك حيث سأل بعد بشارة الملائكة فأخذ لسانه وصبر بحيث لا يقدر على الكلام. قلت: وأحسن العتاب ما كان منتزعا من نفس الواقعة ومناسبا لها. وفيه لطيفة أخرى وهي أنه طلب الآية على الإطلاق فاحتمل أن يكون قد طلب علامة للعلوق، واحتمل أن يكون قد طلب دلالة على إحداث الخوارق ليصير علم اليقين عين اليقين، فصار حبس لسانه آية العلوق ودلالة على الفعل الخارق جميعا مع مناسبته للواقعة حيث سأل ما كان من حقه أن لا يسأل. وزعم أبو مسلم أن المعنى: آيتك أن تصير مأمورا بعدم التكلم ولكن بالاشتغال بالذكر والتسبيح إِلَّا رَمْزاً إشارة بيد أو رأس أو بالشفتين ونحوها. وأصل التركيب للتحرك يقال: ارتمز إذا تحرك ومنه الراموز للبحر، وهو استثناء من قوله: أَلَّا تُكَلِّمَ وجاز وإن لم يكن الرمز من جنس الكلام لأن مؤدّاه مؤدى الكلام، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا. وقيل: الرمز الكلام الخفي. وعلى هذا فالاستثناء متصل من غير تكلف. وقرأ يحيى بن وثاب إِلَّا رَمْزاً بضمتين جميع رموز كرسول ورسل وقرىء رَمْزاً بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم وهو حال منه ومن الناس دفعة بمعنى إلا مترامزين كما يكلم الناس الأخرس بالإشارة ويكلمهم وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً قيل: إنه لم يكن عاجزا إلا عن تكليم البشر. وقيل: المراد الذكر بالقلب وإنه كان عاجزا عن التكلم مطلقا وَسَبِّحْ حمله بعضهم على صلّ كيلا يكون تكرارا للذكر. وقد تسمى الصلاة تسبيحا فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ [الروم: 17] لاشتمالها عليه. والعشيّ مصدر على «فعيل» وهو من وقت زوال الشمس إلى غروبها. والإبكار من طلوع الفجر إلى الضحى وهو مصدر أبكر يبكر إذا خرج للأمر من أول النهار، ومنه الباكورة لأول الثمار. وقرىء بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار. التأويل: إن لله تعالى في كل ذرة من ذرات الموجودات وحركة من حركاتها أسرارا لا يعلمها إلا الله. فانظر ماذا أخرج الله من الأسرار عن إطعام طائر فرخه، وماذا أظهر من الآيات والمعجزات من تلك الساعة إلى يوم القيامة بواسطة مريم وعيسى فَتَقَبَّلْ مِنِّي راجع إلى المحرر لا إلى التحرير أي تقبلها مني أن تتكفلها وتربيها تربية المحررين فَتَقَبَّلَها رَبُّها أي تقبلها ربها أن يربيها بِقَبُولٍ حَسَنٍ كقبول ذكر أو قبولا أخرج منها مثل عيسى وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا من كمال رأفته أنه جعل كفالتها إلى زكريا حيث أراد أن يخرج عيسى منها بلا أب لئلا يدخل عليها غيره فتكون أبعد من التهمة. وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً أي من فتوحات الغيب الذي يطعم الله به خواص عباده الذين يبيتون عنده لا عند أنفسهم ولا عند الخلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 كقوله صلى الله عليه وسلم «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «1» إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ما لم يكن في حسابها من الولد بلا أب، ومن الفاكهة بلا شجرة، ومن المعجزات بلا نبوة، ومن العلوم اللدنية بلا واسطة هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ كما أنه تعالى جعل إطعام الطائر فرخه سبب تحريك قلب حنة لطلب الولد، فكذلك جعل حالة مريم وما كان يأتيها من الرزق خارقا للعادة سبب تحريك قلب زكريا قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أي ولدا يكون روحه من الصف الأول من صفوف الأرواح المجندة، وهو المطهر من لوث الحجاب والوسط الصالح للنبوة والولاية بخلاف الصف الثاني الذي هو لأرواح الأولياء وبينه وبين الله تعالى حجاب الصف الأول، وبخلاف الصف الثالث الذي هو لأرواح المؤمنين، وبخلاف الصف الرابع الذي هو لأرواح المنافقين والمشركين فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ بالله يُصَلِّي بسائر سره في الملكوت يحارب نفسه وهواه في المحراب إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى لأنه منذ خلق ما ابتلى بالموت لا بموت القلب بالمعاصي ولا بموت الصورة لأنه استشهد والشهداء لا يموتون بل أحياء عند ربهم يرزقون. مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهي قوله: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مريم: 12] وَسَيِّداً أي حرا من رق الكونين بل سيدا لرقيقي الكونين وَحَصُوراً نفسه عن التعلق بالكونين وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ من أهل الصف الأول رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ لم يكن استبعاده من قبل القدرة الإلهية ولكن من جهة استحقاقه لهذه الكرامة آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ لغلبات الصفات الروحانية عليك واستيلاء سلطان الحقيقة على قلبك، فإن النفس الناطقة تكون مغلوبة في تلك الحالة بشواهد الحق في الغيب، فلا تفرغ لإجراء عادتها في الشهادة بالكلام إِلَّا رَمْزاً ولهذا يقوى الروح الحيواني وتستمد منه القوة البشرية فيحيي الله تعالى به الشهوة الميتة فسمى ما تولد من الشهوة الميتة التي أحياها الله يحيى. ولاستمرار هذه الحالة في الأيام الثلاثة أمر بالمراقبة ليلا ونهارا وعشيا وإبكارا حسبي الله. [سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 60] وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)   (1) رواه البخاري في كتاب التمني باب 9. مسلم في كتاب الصيام حديث 57. الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده (3/ 8) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 القراآت: وَيُعَلِّمُهُ بياء الغيبة: أبو جعفر ونافع وعاصم وسهل ويعقوب. الباقون بالنون. أَنِّي أَخْلُقُ بكسر الهمزة بفتح الياء: نافع أَنِّي أَخْلُقُ بالفتح فيهما: ابن كثير وأبو عمرو ويزيد كَهَيْئَةِ بتشديد الياء: يزيد وحمزة في الوقف. وكان ابن مقسم يقول: بلغني أن خلفا يقول: إن حمزة كان يترك الهمزة ويحرك الياء بحركتها. الباقون بالياء والهمزة. الطائر يزيد. الباقون الطَّيْرِ فتكون بتاء التأنيث. المفضل. الباقون: بياء الغيبة طائر أبو جعفر ونافع ويعقوب وكذلك في المائدة. الباقون طَيْراً أَنْصارِي إِلَى بفتح الياء: أبو جعفر ونافع. وقرأ قتيبة وأبو عمرو وطريق أبي الزعراء بالإمالة فَيُوَفِّيهِمْ بياء الغيبة: حفص ورويس، وزاد رويس ضم الهاء. الباقون بالنون. الوقوف: الْعالَمِينَ هـ الرَّاكِعِينَ هـ إِلَيْكَ ط يَكْفُلُ مَرْيَمَ ص لعطف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 المتفقتين. يَخْتَصِمُونَ هـ مِنْهُ ج قد قيل لتذكير الضمير وتأنيث الكلمة في اسمه، ولكن المراد من الكلمة الولد فلم يكن تأنيثا حقيقيا. فالوجه أن لا يوقف إلى الصَّالِحِينَ لأن وَجِيهاً حال وما بعده معطوف عليه على تقدير وكائنا من المقربين ومكلما وكائنا من الصالحين المقربين. الصَّالِحِينَ هـ بَشَرٌ (ط) يَشاءُ ط فَيَكُونُ هـ وَالْإِنْجِيلَ ج لأن وَرَسُولًا يجوز أن يكون معطوفا على وَمِنَ الصَّالِحِينَ أو منصوبا بمحذوف أي ويجعله رسولا، والوقف أجوز لتباعد العطف. مِنْ رَبِّكُمْ ج لمن قرأ أَنِّي أَخْلُقُ بالكسر بِإِذْنِ اللَّهِ ج والثاني كذلك للتفصيل بين المعجزات. فِي بُيُوتِكُمْ ط مُؤْمِنِينَ ج للعطف وَأَطِيعُونِ هـ فَاعْبُدُوهُ ط مُسْتَقِيمٌ هـ إِلَى اللَّهِ ط أَنْصارُ اللَّهِ ج لأن آمَنَّا في نظم الاستئناف مع إمكان الحال أي وقد آمنا بالله، كذلك لانقطاع النظم مع اتحاد مقصود الكلام مُسْلِمُونَ هـ الشَّاهِدِينَ هـ وَمَكَرَ اللَّهُ ط الْماكِرِينَ هـ الْقِيامَةِ ج لأن «ثم» لترتيب الإخبار. وَالْآخِرَةِ ز للابتداء بالنفي مع أن النفي تمام المقصود. ناصِرِينَ هـ أُجُورَهُمْ ط الظَّالِمِينَ هـ الْحَكِيمِ هـ آدَمَ ط لأن الجملة لا يتصف بها المعرّف. فَيَكُونُ ط الْمُمْتَرِينَ هـ. التفسير: القصة الثالثة قصة مريم. والعامل في «إذ» هاهنا هو ما ذكر في قوله: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ [آل عمران: 35] لمكان العطف. والمراد بالملائكة هاهنا جبريل كما يجيء، في سورة مريم فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا [مريم: 17] . واعلم أن مريم ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء: 7] فإرسال جبريل إليها إما أن يكون كرامة لها عند من يجوّز كرامات الأولياء، وإما أن يكون إرهاصا لعيسى وهو جائز عندنا وعند الكعبي من المعتزلة، أو معجزة لزكريا وهو قول جمهور المعتزلة. ومن الناس من قال: إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام كما في حق أم موسى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [القصص: 7] . ثم إنه تعالى مدحها بالاصطفاء ثم بالتطهير ثم بالاصطفاء ولا يجوز أن يكون الاصطفاآن بمعنى واحد للتكرار والصرف، فحمل المفسرون الاصطفاء الأول على ما اتفق لها من الأمور في أول عمرها منها قبول تحريرها مع كونها أنثى، ومنها قال الحسن: ما غذتها أمها طرفة عين بل ألقتها إلى زكريا وكان رزقها من عند الله، ومنها تفريغها للعبادة، ومنها إسماعها كلام الملائكة شفاها ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها إلى غير ذلك من أنواع اللطف والهداية والعصمة في حقها. وأما التطهير فتطهيرها عن الكفر والمعصية كما قال في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33] . وعن مسيس الرجال وعن الحيض والنفاس قالوا: كانت لا تحيض وعن الأفعال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 الذميمة والأقوال القبيحة. وأما الاصطفاء الثاني فهو ما اتفق لها في آخر عمرها من ولادة عيسى بغير أب وشهادته ببراءتها عما قذفها اليهود. قيل: المراد اصطفاؤها على نساء عالمي زمانها لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كمل من نساء العالمين أربع: مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة» «1» ثم لما بيّن اختصاصها بمزيد المواهب والعطايا أوجب عليها مزيد الطاعة شكرا لتلك النعم. فقوله: اقْنُتِي أمر بالعبادة على العموم وَاسْجُدِي أمر بالصلاة تسمية للشيء بمعظم أركانه كما في قوله وَأَدْبارَ السُّجُودِ [ق: 4] وفي الخبر «إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين» ولا ريب أن السجود أشرف الأركان لقوله صلى الله عليه وسلم «أقرب ما يكون العبد من الله تعالى وهو ساجد» «2» ثم قال: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ فالأول أمر بالصلاة مطلقا، والثاني أمر بالصلاة في الجماعة. وإنما عبر عن الصلاة هاهنا بالركوع إما لتغيير العبارة وقد يسمى الشيء بأحد أركانه، وإما تسمية للشيء بمعظم أركانه بناء على ما قيل إن الركوع أفضل من السجود، لأن الراكع حامل نفسه في الركوع فالمشقة فيه أكثر، وللتمييز عن صلاة اليهود. وقيل: اركعي مع الراكعين أمر بالخضوع والخشوع بالقلب، ويحتمل أن يراد بقوله: اقْنُتِي الأمر بالصلاة لأن القنوت أحد أجزائها، وأن يراد بقوله: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي استعمال كل منهما في وقته اللائق به، والواو تفيد التشريك لا الترتيب، أو المراد انظمي نفسك في جملة المصلين وكوني في عدادهم لا في عداد غيرهم. وإنما لم يقل مع الراكعات إما للتغليب وإما لأن الاقتداء بالرجل حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء. روي أن مريم بعد ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسال الدم والقيح منهما. اللهم لا تؤاخذنا باسم الرجولية ونحن أقل في خدمتك من إحدى النساء ذلِكَ الذي سبق من أنباء حنة وزكريا ويحيى ومريم من أخبار الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ قد ورد الكتاب بالإيحاء على معان مختلفة يجمعها تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرها. وبهذا التفسير يعد الإلهام وحيا كقوله: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] وقال: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [الأنعام: 121] وقال: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 11] فلما كان الله سبحانه ألقى هذه   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 32، 46. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث 70. الترمذي في كتاب الأطعمة باب 31. ابن ماجه في كتاب الأطعمة باب 14. أحمد في مسنده (4/ 394) . (2) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 215. النسائي في كتاب المواقيت باب 35. الترمذي في كتاب الدعوات باب 118. أحمد في مسنده (2/ 421) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 الأنباء إلى النبي بواسطة جبريل بحيث تخفى على غيره سماه وحيا وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم، وترك نفي استماع الأنباء حفظتها وهو موهوم لأنه كان معلوما عندهم علما يقينا أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحي فلم يبق إلا المشاهدة الممتنعة في حقه صلى الله عليه وسلم فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي، ومثله في القرآن غير عزيز وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [القصص: 44] وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ [القصص: 46] إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ ينظرون أو ليعلموا أو يقولون أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ حذف متعلق الاستفهام لدلالة الإلقاء عليه. وظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يلقون الأقلام في شيء على وجه يظهر به امتياز بعضهم عن البعض في استحقاق ذلك المطلوب، وليس فيها دلالة على كيفية ذلك الإلقاء إلا أنه روي في الخبر أنهم كانوا يلقونها في الماء بشرط أن من جرى قلمه على خلاف جري الماء فاليد له. ثم إنه حصل هذا المعنى لزكريا فصار أولى بكفالتها. وقيل: عرف برسوب الأقلام وارتفاعها كما مر. وعن الربيع أنهم ألقوا عصيهم في الماء الجاري فجرت عصا زكريا على ضد جرية الماء فغلبهم. وقال أبو مسلم: المراد بإلقاء الأقلام ما كانت تفعله الأمم من المساهمة عند التنازع، فيطرحون سهاما يكتبون عليها أسماءهم. فمن خرج له السهم سلم له الأمر. قال تعالى: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات: 141] وهو شبيه بالقداح التي يتقاسم بها العرب لحم الجزور. وإنما سميت تلك السهام أقلاما لأنها تقلم وتبرى. قال القاضي: وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحا نظرا إلى أصل الاشتقاق إلا أن العرف الظاهر يوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به فوجب حمل اللفظ عليه. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ يتنازعون على التكفل. قيل: هم خزنة البيت. وقيل: بل العلماء والأحبار وكتاب الوحي. ولا شبهة في أنهم كانوا من الخواص وأهل الفضل في الدين والرغبة في طريق الخير. ثم المراد بهذا الاختصام يحتمل أن يكون ما كان قبل الاقتراع وأن يكون اختصاما آخر حصل بعد الاقتراع. وبالجملة فالمقصود شدة رغبتهم في التكفل بشأنها والقيام بإصلاح مهامها، إما لأن عمران كان رئيسا لهم فأرادوا قضاء حقوقه، وإما لأجل الدين حيث كانت محررة لخدمة بيت العبادة وإما لأنهم وجدوا في الكتب الإلهية أن لها ولابنها شأنا. القصة الرابعة حكاية ولادة عيسى وذكر طرف من معجزاته إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يعني جبريل كما مر. ومتعلق «إذ» هو متعلق وإِذْ قالَتِ لأن هذا بدل من ذاك، ويجوز أن يكون بدلا من قوله: إِذْ يَخْتَصِمُونَ. قال في الكشاف: هذا على أن الاختصام والبشارة وقعا في زمان واسع كما تقول: لقيته سنة كذا يعني وإنما لقيته في ساعة منها. فيكون الزمان الواسع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 زمانا لكل منهما، فيكون الثاني بدل الكل من الأول. ويجوز أن يتعلق ب يَخْتَصِمُونَ ولا يحتاج إلى زمان واسع بناء على ما روي عن الحسن أنها كانت عاقلة في حال الصغر، وأن ذلك كان من كراماتها، فجاز أن ترد عليها البشرى في حالة الصغر ولا يفتقر إلى أن يؤخر إلى حين العقل. واعلم أن حدوث الشخص من غير نطفة الأب أمر ممكن في نفسه، وكيف لا وقد يشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد كتولد الفأر عن المدر، والحيات عن الشعر العفن، والعقارب عن الباذروج غايته الاستبعاد عرفا وعادة وهذا لا يوجب عند الحكماء ظنا قويا فضلا عن العلم. ثم إن الصادق أخبر عن وجود ذلك الممكن فيجب القطع بصحته. ومما يزيده في العقل بيانا أن التخيلات الذهنية كثيرا ما تكون أسبابا لحدوث الحوادث. كتصور حضور المنافي للغضب، وكتصور السقوط لحصول السقوط للماشي على جذع ممدود فوق فضاء بخلاف ما لو كان على قرار من الأرض. وقد جعلت الفلاسفة هذا كأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات. فما المانع أن يقال إنها لما تخيلت صورة جبريل كفى ذلك في علوق الولد في رحمها، فإن مني الرجل ليس إلا لأجل العقد، فإذا حصل الانعقاد لمني المرأة بوجه آخر أمكن علوق الولد. قوله: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ لفظة «من» هاهنا ليست للتبعيض كما توهمت النصارى والحلولية لأنه تعالى غير متبعض بوجه من الوجوه، ولكنها لابتداء الغاية أي بكلمة حاصلة من الله. وذلك أن عيسى لما خلق من غير واسطة أب صار تأثير كلمة «كن» في حقه أظهر وأكمل فكان كأنه نفس الكلمة، كما أن من غلب عليه الجود والكرم والإقبال يقال إنه محض الجود ونفس الكرم وصريح الإقبال. والمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق. وأصله «مشيحا» بالعبرانية ومعناه المبارك وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ [مريم: 31] وكذلك عيسى معرب «إيشوع» . أما احتمال اشتقاق عيسى من العيس البياض الذي تعلوه حمرة فبعيد، وأما احتمال المسيح من المسح فقريب وعليه الأكثرون. عن ابن عباس: سمي بذلك لأنه ما كان يمسح ذا عاهة إلا يبرأ. وقال أحمد بن يحيى: لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها. وعلى هذا فيجوز أن يقال له مسيح بالتشديد كشريب. وقيل: لأنه مسح من الأوزار والآثام. وقيل: لأنه لم يكن في قدمه خمص وكان ممسوح القدمين. وقيل: لأنه ممسوح بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء ولا يمسح به غيرهم. قالوا: ويجوز أن يكون هذا الدهن جعله الله علامة للملائكة يعرفون بها الأنبياء حين يولدون. وقيل: لأن جبريل مسحه بجناحيه وقت ولادته صيانة له عن مس الشيطان. وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن. وأما المسيح الدجال فسمي بذلك لأنه مسح إحدى عينيه، أو لأنه يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة. قالوا: ومثله الدجال دجل في الأرض أي قطعها. وقيل: الدجال من دجل الرجل إذا موّه ولبس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وتقديم المسيح- وهو اللقب- على الاسم- وهو عيسى- للتشريف والتنبيه على علو درجته. وإنما نسب إلى مريم والخطاب لمريم تنبيها على أنه لا أب له حتى ينسب إليه كما في سائر الأبناء فلا ينسب إلا إلى أمه. وذلك من جملة ما اصطفيت به. وإنما ذكر ضمير الكلمة في اسمه لأنه المسمى بها مذكر. وإنما قيل: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ والاسم من المجموع عيسى والمسيح لقب والابن صفة، لأن المراد التعريف والتمييز والذي يتميز به عن غيره هو مجموع الثلاثة. وَجِيهاً ذا الجاه والشرف والقدر. وقيل: الكريم لأن أشرف أعضاء الإنسان هو الوجه فِي الدُّنْيا بالنبوة والمعجزات الباهرة وبالبراءة عن العيوب وَالْآخِرَةِ بشفاعة الأمة المحقين وعلو الدرجة في الجنة. ونصبه على الحال من النكرة الموصوفة وهي كلمة. وكذا انتصاب ما بعده كما مر في الوقوف أي يبشرك به موصوفا بهذه الصفات. وكونه من المقربين هو رفعه إلى السماء وصحبته للملائكة. والْمَهْدِ قيل: حجر أمه. وقيل: الآلة المعروفة لإضجاع الصبي. وكيف كان فالمراد أنه يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد وَكَهْلًا عطف على الظرف أي يكلم الناس في الصغر وفي الكهولة. والكهل في اللغة الذي اجتمع قوته وكمل شبابه من قولهم: «اكتهل النبات» أي قوي. روي أن عمره بلغ ثلاثا وثلاثين ثم رفع إلى السماء. ولا ريب أن أكمل أحوال الإنسان ما بين الثلاثين والأربعين، فيكون عيسى قد بلغ سن الكهولة. وعن الحسين بن الفضل: المراد أن يكون كهلا بعد نزوله من السماء وأنه حينئذ يكلم الناس ويقتل الدجال. فإن قيل: إن تكلمه في المهد من المعجزات، ولكن تكلمه في حالة الكهولة ليس من المعجزات، فما الفائدة في ذكره؟ فالجواب من وجوه. قال أبو مسلم: معناه أنه يتكلم حال كونه في المهد وحال كونه كهلا على حد واحد وصفة واحدة، ولا شك أنه غاية في الإعجاز. وقيل: المراد الرد على نصارى نجران وبيان كونه متقلبا في الأحوال من الصبا إلى الكهولة فإن التغير على الإله محال. وقيل: المراد أنه يكلم الناس مرة واحدة في المهد لإظهار طهارة أمه، ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة. وقال الأصم: المراد أنه يبلغ حال الكهولة. ويخرج من قول الحسين بن الفضل جواب آخر. وهاهنا بحث للنصارى قالوا: إن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها ولا شك أن مثل هذه الواقعة يكون بمحضر جمع عظيم وتتوفر الدواعي على نقلها فيبلغ حد التواتر. فلو كانت هذه الواقعة موجودة لكان أولى الناس بمعرفتها النصارى لأنهم أفرطوا في محبته حتى ادّعوا إلهيته، لكنهم أطبقوا على إنكاره فعلمنا أنها لم توجد أصلا. والجواب أن إطباق النصارى على إنكاره ممنوع. ولو سلم فإن كلام عيسى في المهد إنما كان للدلالة على براءة مريم مما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 نسب إليها من السوء وكان الحاضرون حينئذ جمعا قليلا ولا يبعد في مثلهم التواطؤ على الإخفاء. وبتقدير أن يذكروا ذلك فإن غيرهم كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت. فهم أيضا قد سكتوا لهذه العلة. فلهذه الأسباب بقي الأمر مكتوما إلى أن نطق القرآن بذلك. ثم ختم أوصاف عيسى بقوله: وَمِنَ الصَّالِحِينَ كما ختم بذلك أوصاف يحيى. وفيه أن الدخول في زمرة الصالحين والانتظام في سلكهم هو المقصد الأسنى والأمر الأقصى. قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ لم تقل ذلك استبعادا وتشككا وإنما أرادت تعيين الجهة كما مر في قصة زكريا فأجيبت بقوله: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وقد سبق نظيره إلا أنه عبر عن الفعل هاهنا بالخلق لأن القدرة هاهنا أتم وهو تخليق المولود بغير أب ولهذا أكده بقوله: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وقد تقدم تفسيره في السورة التي تذكر فيها البقرة وَيُعَلِّمُهُ بالياء عطف على يُبَشِّرُكِ أو على وَجِيهاً أو على يَخْلُقُ لأن قوله: يَخْلُقُ ما يَشاءُ وهو عام يتضمن قوله: «يخلقه» ، ويحتمل أن يكون كلاما مبتدأ. وكذا من قرأ بالنون لأن المذكورات في قوة إِنَّا نُبَشِّرُكَ ونحن نخلقه. ثم الذي علمه أمور أربعة: أولها الكتاب وكان المراد به الخط. وثانيها الحكمة وهو أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به. وثالثها التوراة لأن البحث عن أسرار الكتب الإلهية لا يمكن إلا بعد الاطلاع على العلوم الخمسة. ورابعها الإنجيل وفيه العلوم التي خصه الله تعالى بها وشرفه بإنزالها عليه. وهذه هي الغاية القصوى والرتبة العليا في العلم والفهم والإحاطة بالحقائق والاطلاع على الدقائق. ثم قال: وَرَسُولًا عطفا على وَجِيهاً وما بعده. إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي إلى كلهم لأنه جمع مضاف. وفيه رد على اليهود القائلين بأنه مبعوث إلى قوم مخصوصين منهم أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ يتعلق بمحذوف يدل عليه لفظ الرسول أي ناطقا بأني قد جئتكم. وإنما وجب هذا الإضمار للعدول عن الغيبة إلى التكلم. وأما قوله: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ فمعطوف على قوله: بِآيَةٍ أي مع آية والتقدير: جئتكم مصاحبا لآية من ربكم ومصدقا لما بين يديّ، وجئتكم لِأُحِلَّ لَكُمْ وفي الكشاف تقديره: ويعلمه الكتاب والحكمة ويقول أرسلت رسولا بأني قد جئتكم ومصدقا لما بين يدي. أو الرسول والمصدق فيهما معنى النطق فكأنه قيل: وناطقا بأني قد جئتكم، وناطقا بأني أصدق ما بين يديّ. وعن الزجاج: إن التقدير ويكلم الناس رسولا بأني قد جئتكم بآية من ربكم. والمراد بالآية الجنس لا الفرد لأنه عدد أنواعا من الآيات، ثم أبدل على الآية قوله: أَنِّي أَخْلُقُ فيمن قرأ بفتح أَنِّي ويحتمل أن يكون «أن» مع ما بعده مرفوعا أي هي أني أخلق. ومن قرأ أَنِّي أَخْلُقُ فللاستئناف أو للبيان كقوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 عمران: 59] ثم فسر المثل بقوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران: 59] وهذا أحسن ليوافق قراءة الفتح. والمعنى أقدّر لكم شيئا مثل صورة الطير من هيئات الشيء أصلحته. فَأَنْفُخُ فِيهِ أي في ذلك الطير المصور أو الشيء المماثل لهيئة الطير فَيَكُونُ طَيْراً وهو اسم الجنس يقع على الواحد وعلى الجمع. يروى أنه خلق أنواعا من الطير. وقيل: لم يخلق غير الخفاش وعليه قراءة من قرأ طائرا وذلك أنه لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات أخذوا يتفننون عليه وطالبوه بخلق خفاش، فأخذ طينا وصوّره ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض. قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن عيونهم سقط ميتا بإذن الله. وبتكوينه وتخليقه قال بعض المتكلمين: دلت الآية على أن الروح جسم رقيق كالريح ولذلك وصفها بالنفح. وهاهنا بحث وهو أنه هل يجوز أن يقال إنه تعالى أودع في نفس عيسى خاصية بحيث إنه متى نفخ في شيء كان نفخه موجبا لصيرورة ذلك الشيء حيا، وذلك أنه تولد من نفخ جبريل في مريم روح محض، فكانت نفخة عيسى سببا لحصول الأرواح في الأجساد؟ أو يقال: ليس الأمر كذلك بل الله تعالى كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخ عيسى عليه السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات؟ وهذا هو الحق لقوله تعالى الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الملك: 2] ولقوله حكاية عن إبراهيم في المناظرة رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: 258] فلو حصل لغيره هذه الصفة بطل ذلك الاستدلال وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ذهب أكثر أهل اللغة إلى أن الأكمه هو الذي يولد أعمى. وقيل: هو الممسوح العين. ويقال: لم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير. وقيل: الأكمه من عمي بعد أن كان بصيرا، رواه الخليل. وعن مجاهد أنه الذي لا يبصر بالليل. وأما البرص فإنه بياض يظهر في ظاهر البدن، وقد لا يعم البدن. وسببه سوء مزاج العضو إلى البرودة وغلبة البلغم على الدم الذي يغذوه، فتضعف القوة المغيرة عن تمام التشبيه. وقد يغلب البرد والرطوبة حتى يصير لحمه كلحم الأصداف فيحيل الدم الصائر إليه إلى مزاجه ولونه. وإن كان ذلك الدم جيدا في جوهره نقيا من البلغم حارا هو داء عياء عسر البرء لا يكاد يبرأ- وخاصة المزمن- منه. والآخذ في الازدياد والذي يرجى برؤه من البرص ما إذا دلك احمرّ بالدلك ويكون معه خشونة ما. والشعر الذي ينبت عليه لا يكون شديد البياض، وإذا أخذ جلده بالإبهام والسبابة وأشيل عن اللحم وغرزت فيه الإبرة خرج منه دم أو رطوبة مورّدة، ولا شك إن إبراءه مثل هذه المرض من قبيل الإعجاز. يروى: ربما اجتمع عليه خمسون ألفا من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتا عيسى وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده وَأُحْيِ الْمَوْتى أحيا عاذرا وكان صديقا له، ودعا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 سام بن نوح من قبره وهم ينظرون فخرج حيا، ومر على ابن ميت لعجوز فدعا الله عيسى فنزل عن سريره حيا ورجع إلى أهله وبقي وولد له. قال الكلبي: كان عيسى عليه السلام يحيي الموتى ب «يا حي يا قيوم» وكرر قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ رفعا لوهم من توهم فيه الألوهية وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ قيل: إنه كان من أول أمره يخبر بالغيوب. روى السدي أنه كان يلعب مع الصبيان ثم كان عليه السلام يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم. كان عليه السلام يخبرهم بأن أمك خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله ويبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء. فقالوا لصبيانهم: لا تلعبوا مع الساحر وجمعوهم في بيت. فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا: ليسوا في البيت. فقال عليه السلام: فمن في هذا البيت؟ فقالوا: خنازير. فقال عيسى عليه السلام: كذلك يكونون فإذا هم خنازير. وقيل: إن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر من وقت نزول المائدة. وذلك أن القوم نهوا عن الادّخار فكانوا يخونون ويدخرون وكان عيسى يخبرهم بذلك. والادخار افتعال من اذتخر قلت كل من التاء والذال «دالا» ثم أدغم. واعلم أن الإخبار عما غاب معجز دال على أن ذلك الخبر صار معلوما بالوحي ما لم يستعن فيه بآلة ولا تقديم مسألة بخلاف ما يقوله المنجمون والكهان فإن ذلك استعانة من أحوال الكواكب أو الجن، ولهذا يتفق لهم الغلط كثيرا. ثم إنه لما قرر المعجزات الباهرة وبين بها كونه رسولا من عند الله ذكر أنه لماذا أرسل فقال: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وذلك أنه يجب على كل نبي أن يكون مصدقا لمن تقدمه من الأنبياء لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجز، فكل من حصل على يده المعجز وجب الاعتراف بنبوته. ولعل من جملة الأغراض في بعثة عيسى عليه السلام تقرير أحكام التوراة وإزالة شبهات المنكرين وتحريفات المعاندين الجاهلين. ثم ذكر غرضا آخر في بعثته فقال: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وهذا لا يناقض تصديقه لما في التوراة إذ المعنى بالتصديق هو اعتقاد أن كل ما فيه حكمة وصواب، وإذا لم يكن التأبيد مذكورا فالناسخ والمنسوخ كلاهما حق في وقته، وإذا كانت البشارة بعيسى موجودة في التوراة فمجيء عيسى يكون تصديقا لما في التوراة. وعن وهب بن منبه أن عيسى ما غير شيئا من أحكام التوراة وأنه ما وضع الأحد بل كان يقرر السبت ويستقبل بيت المقدس. ثم فسر الإحلال بأمرين: أحدهما أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة ونسبوها إلى موسى فجاء عيسى ورفعها وأعاد الأمر إلى ما كان. والثاني أن الله تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم كما قال: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] واستمر ذلك التحريم فجاء عيسى ورفع تلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 التشديدات عنهم. كانوا قد حرم عليهم الشحوم والثروب ولحوم الإبل والسمك وكل ذي ظفر، فأحل لهم عيسى من السمك والطير ما لا صيصية له. وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ شاهدة على صحة رسالتي وهي قوله: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ لأن جميع الرسل كانوا على هذا القول لم يختلفوا فيه. وقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ اعتراض وإنما جعل القول آية من ربه لأن الله تعالى جعله له علامة يعرف بها أنه رسول كسائر الرسل. ويجوز أن يكون تكريرا لقوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من المعجزات ومن ولادتي بغير أب. فَاتَّقُوا اللَّهَ لما جئتكم به من الآيات وَأَطِيعُونِ فإن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله. ثم ختم كلامه بقوله: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ إظهارا للخضوع واعترافا بالعبودية وردا لما يدعيه عليه الجهلة من النصارى الضالين المنحرفين عن الصراط المستقيم. القصة الخامسة ذكر عاقبة أمر عيسى ثم شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات فهم بماذا عاملوه فقال: فَلَمَّا أَحَسَّ أي علم عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس، أو أنهم تكلموا بكلمة الكفر فأحس ذلك بأذنه. قال السدي: لما بعثه الله تعالى رسولا إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم، وكان أمر عيسى في قومه كأمر محمد صلى الله عليه وسلم بمكة، وكان مستضعفا فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض، فاتفق أنه نزل على رجل في قرية فأحسن ذلك الرجل ضيافته. وكان في تلك المدينة رجل جبار فجاء ذلك الرجل يوما نطعمه ونسقيه مع جنوده وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر عليّ. فلما سمعت مريم ذلك قالت: يا ولدي ادع الله ليكفي ذلك. فقال عليه السلام: يا أمي إني إن فعلت ذلك كان فيه شر. فقالت: قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه. فقال عيسى عليه السلام: إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ثم أعلمني. فلما فعل دعا الله تعالى فتحول ما في القدور طبيخا، وما في الخوابي خمرا. فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذه الخمر؟ فتوقف الرجل في الجواب وتعلل، فلم يزل يطالبه حتى أخبره بالواقعة فقال: إن من دعا الله حتى جعل الماء خمرا إذا دعاه حتى يحيي ولدي أجابه- وكان ابنه قد مات في تلك الأيام- فدعا عيسى عليه السلام وطلب منه ذلك فقال له عيسى: لا تفعل فإنه إن عاش كان شرا عليه- فقال: ما أبالي ما كان فدعا الله فعاش الغلام لكلام عيسى عليه السلام، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح واقتتلوا وصار أمر عيسى عليه السلام مشهورا وقصد اليهود قتله صلى الله عليه وسلم وأظهروا الطعن فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وقيل: إن اليهود كانوا عارفين أنه هو المسيح المبشر به في التوراة أنه ينسخ دينهم فكانوا طاعنين فيه من أول الأمر طالبين قتله قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قيل: إنه لما دعا عليه السلام بني إسرائيل إلى الدين وتمردوا عليه عليه السلام فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بطائفة صيادي السمك- منهم شمعون ويعقوب من جملة الحواريين الاثني عشر- فقال عيسى عليه السلام: إنكم تصيدون السمك فهل لكم أن تسيروا بحيث تصيدون الناس لحياة الأبد؟ فطلبوا منه المعجزة وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئا فأمره عيسى عليه السلام بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى، فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق، واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملؤا السفينتين فعند ذلك آمنوا بعيسى. وقيل: إن اليهود لما طلبوه في آخر أمره للقتل وكان هو في الهرب منهم قال لأولئك الاثني عشر من الحواريين: أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم. ومما يذكره النصارى في إنجيلهم أن اليهود لما أخذوا عيسى، سل شمعون سيفه فضرب به عبدا كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى بأذنه فقال له عيسى: حسبك ثم أدنى عليه السلام أذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت. والحاصل أن المراد بطلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه عليه السلام. وقيل: إنه دعاهم إلى القتال مع القوم كما قال في موضع آخر فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصف: 14] ومعنى إِلَى اللَّهِ قيل: من يضيف نصرته إياي إلى نصر الله عز وجل إياي؟ وقيل: من أنصاري إلى أن أظهر دين الله. فالجار على القولين من صلة أَنْصارِي مضمنا معنى الإضافة. وقيل: من أنصاري حال ذهابي إلى الله؟ أو حال التجائي إليه؟ وقيل: من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إلى رحمته؟ وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا ضحى: اللهم منك وإليك أي تقربا إليك. فالجار على هذين القولين يتعلق بالمحذوف. وقيل: «إلى» بمعنى اللام. وقيل: بمعنى «في» أي في سبيل الله. وهذا قول الحسن. قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أعوان دينه ورسوله. وحواري الرجل صفيه وخالصته ومنه يقال للحضريات الحواريات لخلوص ألوانهن ونقاء بشرتهن. والحور نقاء بياض العين، وحوّرت الثياب بيضتها، والحواريّ واحد ونظيره الحوالي وهو الكثير الحيلة. عن سعيد بن جبير: سموا بذلك لبياض ثيابهم. وعن مقاتل بن سليمان لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب. وقيل: لنقاء قلوبهم وطهارة أخلاقهم ومنه قولهم «فلان نقيّ الجيب طاهر الذيل» للكريم و «دنس الثياب» للئيم. وعن الضحاك: الذي يغسل الثياب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 يسمى بلغة النبط هواري فعرّب. وأما أن الحواريين من هم فقيل: هم الذين يصطادون السمك فاتبعوا عيسى وآمنوا كما حكينا. وقيل: إن أمه دفعته إلى صبّاغ فكان إذا أراد أن يعلمه شيئا كان هو أعلم به منه فغاب الصبّاغ يوما لبعض مهماته فقال: هاهنا ثياب مختلفة وقد علمت على كل واحد علامة معينة فاصبغها بتلك الألوان. فطبخ عيسى عليه السلام حبا واحدا وجعل الجميع فيه. وقال: كوني بإذن الله كما أريد. فرجع الصباغ وسأله فأخبره بما فعل فقال: قد أفسدت عليّ الثياب قال: قم فانظر. فكان يخرج ثوبا أحمر وثوبا أخضر وثوبا أصفر كما يريد. فتعجب الحاضرون منه وآمنوا فهم الحواريون. وقيل: كانوا اثني عشر اتبعوا عيسى وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج لكل واحد رغيفان، وإذا عطشوا قالوا: عطشنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج الماء فيشربون فقالوا: من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئنا سقيتنا وقد آمنا بك؟ فقال: أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه. قال: فصاروا يغسلون الثياب فسموا حواريين. وقيل: إن واحدا من الملوك صنع طعاما وجمع الناس عليه، وكان عيسى عليه السلام على قصعة. فكانت القصعة لا تنقص. فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك فقال: تعرفونه؟ قالوا: نعم. فذهبوا إليه بعيسى فقال: من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم. قال: فإني أترك ملكي فأتبعك. فتبعه ذلك الملك مع أقاربه فأولئك هو الحواريون. قال القفال: يجوز أن يكون بعضهم من الملوك وبعضهم من الصيادين وبعضهم من القصارين، وسموا جميعا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى والمخلصين في محبته وطاعته. آمَنَّا بِاللَّهِ يجري مجرى السبب لقولهم: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله والذب عن أوليائه والمحاربة مع أعدائه وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ منقادون لما تريده منا في نصرتك والذب عنك، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه. أو هو إقرار منهم بأن دينهم الإسلام وأنه دين كل الأنبياء عليهم السلام، وإنما طلبوا شهادته لأن الرسل يشهدون للأمم يوم القيامة. ثم تضرعوا إلى الله تعالى بقولهم: رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحواريين. فقال ابن عباس: أي مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته لأنهم مخصوصون بأداء الشهادة وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] وعنه أيضا اكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] وقيل: اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق فقرنت ذكرهم بذكرك في قولك: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران: 18] وقيل: اجعلنا ممن هو مستغرق في شهود جلالك بحيث لا نبالي بما يصل إلينا من المشاق والآلام فيسهل علينا الوفاء بما التزمنا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 نصرة رسولك، أو اكتب ذكرنا في زمرة من شهد حضرتك من الملائكة المقربين كقوله: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18] وَمَكَرُوا يعني كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر وَمَكَرَ اللَّهُ المكر في اللغة السعي في خفية ومداجاة. قال الزجاج: يقال مكر الليل وأمكر إذا أظلم. وقيل: أصله من إجماع الأمر وإحكامه، ومنه امرأة ممكورة مجتمعة الخلق. فلما كان المكرر رأيا محكما قويا مصونا عن جهات النقض والفتور لا جرم سمي مكرا. أما مكرهم بعيسى عليه السلام فهو أنهم هموا بقتله، وأما مكر الله بهم فهو أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال السوء إليه. روي أن ملك اليهود أراد قتل عيسى عليه السلام وكان جبريل لا يفارقه ساعة، فأمره جبريل أن يدخل بيتا فيه روزنة. فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل من تلك الروزنة وكان قد ألقى شبهه على غيره ممن وكل به ليقتله غيلة فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق: فرقة قالت: كان الله فينا فذهب. وأخرى قالت: كان ابن الله. وأخرى قالت: كان عبد الله ورسوله. وقيل: إن الحواريين كانوا اثني عشر، وكانوا مجتمعين في بيت، فنافق واحد منهم ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى عليه السلام. وذكر محمد بن إسحق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى فشمسوهم ولقوا منهم الجهد. فسمع بذلك ملك الروم. وكان ملك اليهود من رعيته فقيل: إنه قتل رجلا من بني إسرائيل ممن يحب أمرك، وكان يخبرهم أنه رسول الله وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وفعل ما فعل فقال: لو علمت ذلك ما خليت بينه وبينهم. ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه، فتابعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقا عظيما ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم. وكان اسم هذا الملك «طباريس» ، وهو صار نصرانيا إلا أنه ما أظهر ذلك. ثم إنه جاء بعده ملك آخر يقال له «ملطيس» وغزا بيت المقدس حجرا على حجر، فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز، فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح والهم بقتله. وقيل: إنهم مكروا في إخفاء أمره وإبطال دينه، ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل أعداءه وهم اليهود وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أقواهم مكرا وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب. واعلم أن المكر إن كان عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر فهو في حق الله تعالى محال، فاللفظ إذن من المتشابهات فيجب أن يؤول بأن جزاء المكر يسمى مكرا كقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] أو بأنه تعالى عاملهم معاملة من يمكر وهو عذابهم على سبيل الاستدراج. وإن كان المكر عبارة عن التدبير المحكم الكامل لم يكن اللفظ متشابها لأنه غير ممتنع في حق الله إلا أنه قد اختص في العرف بالتدبير في إيصال الشر إلى الغير. إِذْ قالَ اللَّهُ ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله أو مفعول اذكر يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي متمم عمرك وعاصمك من أن يقتلك الكفار الآن بل أرفعك إلى سمائي وأصونك من أن يتمكنوا من قتلك. وقيل: متوفيك أي مميتك كيلا يصل أعداؤك من اليهود إلى قتلك ثم رافعك إليّ. وهذا القول مروي عن ابن عباس ومحمد بن إسحق. ثم قال وهب: توفي ثلاث ساعات ثم رفع وأحيي. وقال محمد بن إسحق. توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه. وقال الربيع بن أنس: إنه نومه ورفعه إلى السماء نائما حتى لا يلحقه خوف ورعب. أخذه من قوله اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر: 42] . وقيل: التوفي أخذ الشيء وافيا أي آخذك بروحك وبجسدك جميعا فرافعك إلي دفعا لوهم من يتوهم أنه أخذ بروحه دون جسده. وقيل: متوفيك قابضك من الأرض من توفيت مالي على فلان أي استوفيته. وقيل: أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء انقطع خبره وأثره عن الأرض فيكون من باب إطلاق الشيء على ما يشابه في أكثر خواصه وصفاته. وقيل: المضاف محذوف أي متوفى عملك ورافع طاعتك فكأنه بشره بقبول طاعته وأن ما وصل إليه من المتاعب في تمشية دينه وإظهار شريعته فهو لا يضيع أجره، فهذا كقوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] وقيل: في نسق الكلام تقديم وتأخير. فإن الواو لا تقتضي الترتيب. والمعنى إني رافعك إلي ومتوفيك بعد إنزالك إلى الدنيا. ويؤيده ما ورد في الخبر أنه سينزل ويقتل الدجال، ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك. أما قوله وَرافِعُكَ إِلَيَّ فالمشبهة تمسكوا بمثله في إثبات المكان لله تعالى وأنه في السماء، لكن الدلائل القاطعة دلت على أنه متعال عن الحيز والجهة فوجب حمل هذا الظاهر على التأويل بأن المراد إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي ومثله قول إبراهيم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: 99] وإنما ذهب من العراق إلى الشام، وقد سمي الحجاج زوّار الله، والمجاورون جيران الله. والمراد التفخيم والتعظيم، أو المراد إلى مكان لا يملك الحكم عليه هناك غير الله فإن في الأرض ملوكا مجازية. ولئن سلم أنه تعالى يمكن أن يكون في مكان فليس رفع عيسى عليه السلام إلى ذلك المكان سببا لبشارته ما لم يتيقن الثواب والكرامة والروح والراحة، فلا بد من صرف اللفظ عن ظاهره وهو أن يقال: المراد رفعه إلى محل كرامته، وإذا لم يكن بد من الإضمار فلم يبق في الآية دلالة على إثبات المكان له تعالى. ثم إنه كما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه، عبر لذلك عن معنى التخليص بلفظ التطهير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 فقال: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي من خبث جوارهم وسوء عشرتهم وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وليس هذا فوقية المكان بالاتفاق. فالمراد إما الفوقية بالحجة والدليل، وإما الفوقية بالقهر والاستيلاء. وفيه إخبار عن ذل اليهود ومسكنتهم إلى يوم القيامة. ولعمري إنه كذلك فلا يرى ملك يهودي في الدنيا ولا بلد لهم مستقل بخلاف النصارى. على أنا نقول: المراد بمتبعي المسيح هم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعده فصدقوه في قوله: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] أو المتبعون هم المسلمون الذين اتبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى. واعلم أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره قال: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء: 157] فأورد بعض الملحدة عليه إشكالات: الأول أنه يوجب ارتفاع الأمان عن المحسوسات فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانيا فحينئذ أجوز أن هذا الذي رأيته ثانيا ليس ولدي بل هو إنسان آخر ألقى شبهه عليه، وكذا الصحابة الذين رأوا محمدا يأمرهم وينهاهم احتمل أن يكون محمد إنسانا آخر ألقى شبهه عليه وأنه يفضي إلى سقوط الشرائع وكذا إلى إبطال التواتر، لأن مدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس وأنتم جوزتم وقوع الغلط في المبصرات، ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات. الثاني أن جبريل كان معه حيث سار. ثم إن طرف جناح واحد منه يكفي لأهل الأرض. فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود؟ وأنه صلى الله عليه وسلم كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص، فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وإلقاء الفلج والزمانة عليهم حتى لا يتعرضوا له؟ الثالث أنه تعالى كان قادرا على تخليصه من الأعداء بأن يرفعه إلى السماء، فما الفائدة في إلقاء شبهه على الغير؟ وهل فيه إلا إيقاع مسكين في القتل من غير فائدة مع أن ذلك يوجب تلبيس الأمر عليهم حتى اعتقدوا أن المصلوب هو عيسى وأنه لم يكن عيسى، والتمويه والتخليط لا يليق بحكمة الله تعالى؟ الرابع أن النصارى على كثرتهم في المشارق والمغارب وإفراطهم في محبة عيسى أخبروا أنهم شاهدوه مصلوبا، فإنكار ذلك إنكار المتواتر، والطعن في المتواتر يوجب الطعن في نبوة جميع الأنبياء. الخامس ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حيا زمانا طويلا. فلو كان هو غير عيسى لأظهر الجزع وعرف نفسه، ولو فعل ذلك اشتهر وتواتر. والجواب عن الأول أن كل من أثبت القادر المختار سلم أنه تعالى قادر على خلق مثل زيد. وهذا التجويز لا يوجب الشك في وجود زيد فكذا فيما ذكرتم. وعن الثاني والثالث أن ذلك يفضي إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 بلوغ الإعجاز حد الإلجاء، وأنه ينافي التكليف. والتلبيس المذكور قد أزاله تلامذة عيسى الحاضرون منه العالمون بالواقعة. وعن الرابع أنه تواتر منقطع الأول لأنهم كانوا قليلين في ذلك الوقت فلا يفيد العلم. إذ شرط التواتر استواء الطرفين والوسط. وعن الخامس ما روي أن الذي ألقي عليه الشبه كان من خواص أصحابه، فلهذا صبر. على أنا نقول: قد ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عنه، فهذه الاحتمالات تمتنع أن تصير معارضة للنص القاطع والله ولي الهداية. قال: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وفيه بشارة لعيسى بأنه سيحكم بين المؤمنين وبين الجاحدين. وتفسيره قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي والذلة وأنواع المصائب والرزايا التي لا ثواب عليها وَالْآخِرَةِ بدخول النار خالدين فيها وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الواضعين الشيء في غير موضعه، التكذيب في مقام التصديق، والعمل السيء مكان العمل الصالح، وذلك أن المحبة عبارة عن إيصال الخير إليه. وهو وإن أراد كفر الكافر إلا أنه لم يوصل الثواب إليه. وقالت المعتزلة: المحبة والإرادة واحدة. فالمعنى أنه لا يريد ظلم الظالمين. ذلِكَ الذي سبق من نبأ عيسى عليه السلام وغيره وهو مبتدأ خبره نَتْلُوهُ عَلَيْكَ والتلاوة والقصص كلاهما يؤل إلى معنى واحد وهو ذكر الشيء بعضه على إثر بعض. جعل تلاوة الملك لما كانت بأمره كتلاوته. مِنَ الْآياتِ خبر بعد خبر أو خبر بعد مبتدأ محذوف والمراد بها آيات القرآن، ويحتمل أن يراد أنه من العلامات الدالة على ثبوث رسالتك لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارئ من كتاب أو من يوحى إليه، وظاهر أنك لا تكتب ولا تقرأ فبقي أن يكون من الوحي. ويجوز أن يكون ذلك بمعنى «الذي» ونَتْلُوهُ صلته ومِنَ الْآياتِ الخبر. ويجوز أن ينتصب ذلك بمضمر يفسره نَتْلُوهُ. والذكر الحكيم القرآن. وصف بصفة من هو سببه، أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه، أو هو بمعنى الحاكم كالعليم بمعنى أن الأحكام تستفاد منه، أو بمعنى المحكم أحكمت آياته أي عن تطرق وجوه الخلل إليه. وقيل: الذكر الحكيم اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع كتب الله المنزلة على الأنبياء، أخبر أنه تعالى أنزل هذه القصص مما كتب هناك. قال المفسرون: إن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك تشتم صاحبنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: وما أقول؟ قالوا: تقول إنه عبد. قال: أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله عز وجل إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ أي حاله الغريبة كحاله. ووجه الشبه أن كلا منهما وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة، بل الوجود من غير أب وأم أغرب، فشبه الغريب بالأغرب. لأن المشبه به ينبغي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 أن يكون أقوى حالا من المشبه في وجه الشبه. ثم فسر كيفية خلق آدم بقوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ أي قدّره جسدا من طين. قيل: اشتقاق آدم من الأدمة. وقال ابن عباس: سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض كلها أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها، فلذلك كان في ولده الأسود والأحمر والطيب والخبيث. وقيل: إنه اسم أعجمي كآزر ووزنه «فاعل» لا «أفعل» . والضمير عائد إلى آدم الموجود كقولك: «هذا الكون أصله من الطين» ثُمَّ قالَ لَهُ أي لذلك المقدّر كُنْ فَيَكُونُ وهذا كقوله: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14] وإنما لم يقل «فكان» إما لأنه حكاية حال ماضية، وإما تصوير لتلك الحالة العجيبة كقوله: فأصر بها بلا دهش فخرت أو المراد اعلم يا محمد أن ما قال له ربك «كن» فإنه يكون لا محالة. وقيل: معنى «ثم» تراخي الخبر عن الخبر لا تراخي المخبر عن المخبر كقول القائل «أعطيت زيدا ألفا اليوم ثم أنا أعطيته أمس ألفين» أي ثم أنا أخبركم أني أعطيته أمس ألفين فكذا قوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ أي صيره بشرا سويا. ثم إنه يخبركم أنه إنما خلقه بأن قال له «كن» . وقيل: إن معنى الخلق يرجع إلى علمه تعالى بكيفية وقوعه وإرادته لإيقاعه على الوجه المخصوص. والمراد ب «كن» إدخاله في الوجود. قالت الحكماء: إنما خلق آدم من التراب لوجوه: ليكون متواضعا وليكون ستارا وليكون أشد التصاقا بالأرض فيصلح للخلافة فيها، ولما فيه من إظهار القدرة فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام السفلية وابتلاهم بظلمات الضلالة، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو أرق الأجرام وأعطاهم كمال القوة والقدرة، وخلق السموات من أمواج مياه البحار وأبقاها معلقة في الفضاء، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام فآتاه النور والهداية، وكل ذلك برهان باهر ودليل ظاهر على أنه تعالى هو المدبر بغير احتياج والخالق بلا مزاج. وعلاج خلق البشر من التراب لإطفاء نيران الشهوة والحرص والغضب، وخلقه من الماء خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً [الفرقان: 54] ليكون صافيا تتجلى فيه صور الأشياء. ثم مزج بين التراب والماء لامتزاج اللطيف بالكثيف فصار طينا إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص: 71] ثم إنه سل من ألطف أجزاء الطين وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 13] ثم جعله طينا لازبا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات: 11] ثم سنه وغير رائحته وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 26] . عن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم: لم تعبدون عيسى عليه السلام؟ قالوا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 لأنه لا أب له. قال: فآدم أولى لأنه لا أبوين له. قالوا: كان يحيي الموتى. قال: فحزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر وأحيا حزقيل ثمانية آلاف. فقالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص. قال: فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالما. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق يعني الذي أنبأتك من شأن عيسى لا الذي اعتقد النصارى فيه أنه إله، ولا الذي يزعم اليهود من رميها بيوسف النجار، أو الْحَقُّ مبتدأ ومِنْ رَبِّكَ خبره كما يقال: الحق من الله والباطل من الشيطان. فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين. قال ابن الأنباري: أصله من مريت الناقة والشاة حلبتها فكأن الشاك يجتذب بشكه شرا. وفي هذا النهي ترغيب له في زيادة الثبات والطمأنينة ولطف للأمة وقد مر نظائره في سورة البقرة. التأويل: الاصطفاء ثلاثة أنواع: اصطفاء على غير الجنس إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ [آل عمران: 33] ولم يكن له جنس حين خلقه وأسجد له ملائكته، واصطفاء على الجنس وعلى غير الجنس كاصطفاء محمد صلى الله عليه وسلم على الكائنات كقوله: لولاك لما خلقت الأفلاك. وقال صلى الله عليه وسلم: «آدم فمن دونه تحت لوائي» ، واصطفاء على الجنس كقوله: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الأعراف: 144] ولمريم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ لاصطفائك إياه وَطَهَّرَكِ عن الالتفات لغيره وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ لنيل درجة الكمال وإن لم يكن ذلك من شأن النساء. إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ كل صنف من أصناف الخلق حرف من حروف كلمة معرفة الله تعالى. والعالم بما فيه كلمة المعرفة كقوله: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» والإنسان وإن كان صنفا من أصناف العالم وهو حرف من حروف كلمة المعرفة لكنه خلق نسخة العالم بما فيه فهو أيضا كلمة المعرفة كالعالم، لكنه خص من العالم بما فيه بكرامة معرفة نفسه ومعرفة ربه ومعرفة العالم بما فيه، وهذا مقام مخصوص بالإنسان الكامل المزكى بتزكية الشريعة المربى بتربية أرباب الطريقة. وإنما خص عيسى علية السلام بهذا الاسم- أعني الكلمة- من بين سائر الأنبياء والأولياء لأنه خلق مستعدا لهذا الكمال في بدء أمره. قد فهم من كلمة نفسه معرفة ربه كما قال صلى الله عليه وسلم «من عرف نفسه فقد عرف ربه» وكان من اختصاصه بالكلمة أنه قال في المهد: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ [مريم: 30] روى مجاهد قال: قالت مريم بنت عمران: كنت إذا خلوت أنا وجنيني حدثته وحدثني، فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع. وسمي المسيح لأنه حين مسح الله تعالى ظهر آدم فاستخرج منه ذرّات ذرّياته لم يردّه إلى مقامه كما جاء في الخبر «إن الله تعالى أذن للذرّات بالرجوع إلى ظهر آدم وحفظ ذرة عيسى وروحه عنده حتى ألقاها إلى مريم» فكان قد بقي عليه اسم المسيح أي الممسوح. وَكَهْلًا أي حالة النبوة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 لأن بلوغ الأنبياء عند كهولتهم وَمِنَ الصَّالِحِينَ يعني صلاحية قبول الفيض بلا واسطة كما هو حال جميع الأنبياء عليهم السلام. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ الروح الإنساني الذي هو خليفة الله في أرضه قابل لجميع أنوار الصفات خلافة عنه حتى القدرة على الخلق والإحياء والإبراء والإنباء وغير ذلك من الآيات التي هي من نتائج القدرة، لكنه لتعلقه بالجسد الكائن من العناصر ولاحتجابه بظلمات شهوات الأبوين امتنع عن قبول أنوار الصفات إلى أن يخرجه مدد العناية بطريق الهداية، وقوة استعداد الروحية والجسمية من تلك الظلمات فيظهر على النبي صلى الله عليه وسلم آيات المعجزات وعلى الولي أمارات الكرامات. ولما كان روح عيسى عليه السلام وذرّة طينته المستخرجة من ظهر آدم محتبسة عند الله حتى ألقاها إلى مريم من غير شائبة ظلمات شهوة الأبوين ولهذا سمي روح الله، كان قابل أنوار الصفات في بدوّ أمره يكلم الناس في المهد ويكتب ويقرأ التوراة والإنجيل غير من تعلم، ويحيي ويبرىء إلى غير ذلك من الآيات. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ فيه إشارة إلى أن عيسى الروح، لما أحس من النفس وصفاتها الكفر قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ وهم القلب وصفاته نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ أي بوحدانيته والتبري عن غيره وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ منقادون لأحكامه، راضون بقضائه، صابرون على بلائه رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ من الحكم والأسرار واللطائف والحقائق وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ الوارد من نفحات ألطافك فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ المشاهدين لأنوار جلالك وَمَكَرُوا أي النفس وصفاتها والشياطين وأتباعها في هلاك عيسى الروح وَمَكَرَ اللَّهُ بتجلي صفات قهره في فناء النفس وصفاتها وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ في قهر النفس الأمارة بالسوء وقمع صفاتها وقلع شهواتها إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ عن الصفات النفسانية والسمات الحيوانية وَرافِعُكَ إِلَيَّ بجذبات العناية كما أسرى بعبده إلى قاب قوسين أو أدنى. ومن خواص الجذبة الربوبية خمود الصفات البشرية ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ باللطف أو القهر بالاختيار على قدم السلوك، أو بالاضطرار عند نزع الروح. فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بحجاب الغفلة والاشتغال بغير الله، وَالْآخِرَةِ بالقطيعة والبعد عن الله وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم بانقضاء العمر في طلب غير الله تعالى. ثم قال له كن فيكون. هذه السنة في تكوين الأرواح والملكوت لا الأجساد والملك، ولكنه أجراها في تكوين آدم من تراب بلا أب وأم، وخلق حوّاء منه بلا أم، وخلق عيسى ابن مريم بلا أب خرقا للعادة ودلالة على اختياره ورغما بأنف من قال بالإيجاب في الإيجاد فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ نهي الكينونة قاله في الأزل فما كان من الممترين ولا يكون إلى الأبد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 [سورة آل عمران (3) : الآيات 61 الى 71] فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) القراآت: ها أَنْتُمْ بالمد وغير الهمزة حيث كان: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. وروى ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل ها أَنْتُمْ على وزن «هعنتم» الباقون بالمد والهمز. الوقوف: الْكاذِبِينَ هـ الْقَصَصُ الْحَقُّ ج ط إِلَّا اللَّهُ ط الْحَكِيمُ هـ بِالْمُفْسِدِينَ هـ مِنْ دُونِ اللَّهِ ط لتناهي جملة وافية إلى ابتداء شرط مُسْلِمُونَ هـ مِنْ بَعْدِهِ ط تَعْقِلُونَ هـ لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ط لا تَعْلَمُونَ هـ مُسْلِماً ط الْمُشْرِكِينَ هـ وَالَّذِينَ آمَنُوا ط الْمُؤْمِنِينَ هـ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ط يَشْعُرُونَ هـ تَشْهَدُونَ هـ تَعْلَمُونَ هـ. التفسير: روي أنه صلى الله عليه وسلم لما أورد الدلائل على نصارى نجران، ثم إنهم أصروا على جهلهم قال صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم. فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك. فلما رجعوا قالوا للعاقب- وكان ذا رأيهم- يا عبد المسيح ما ترى؟ قال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الفصل من أمر صاحبكم. والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لكان الاستئصال، فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرج وعليه صلى الله عليه وسلم مرط من شعر أسود. وكان صلى الله عليه وسلم قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه صلى الله عليه وسلم وعلي عليه السلام خلفها وهو يقول: إذا دعوت فأمنوا. فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إنى لأرى وجوها لودعت الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. ثم قالوا: يا أبا القاسم، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك. فقال صلى الله عليه وسلم: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين فأبوا. فقال صلى الله عليه وسلم: فإني أناجزكم أي أحاربكم. فقالوا: ما لنا بحرب العرب المسلمين طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة، ألفا في صفر وألفا في رجب وثلاثين درعا عادية من حديد فصالحهم على ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حاول الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا. وروي عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج في المرط الأسود جاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم فاطمة ثم علي عليه السلام ثم قال صلى الله عليه وسلم إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33] وهذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث. فَمَنْ حَاجَّكَ من النصارى فِيهِ في عيسى وقيل في الحق مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ من البينات الموجبة للعلم بأن عيسى عبد الله ورسوله وذلك بطريق الوحي والتنزيل فَقُلْ تَعالَوْا هلموا والمراد المجيء بالرأي والعزم كما تقول: تعال نفكر في هذه المسألة. وهو في الأصل «تفاعلوا» من العلو. وذلك أن بيوتهم كانت على أعالي الجبل، فكانوا ينادون تعال يا فلان أي ارتفع، إلا أنه كثر حتى استعمل في كل مجيء فصار بمنزلة «هلم» . نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ويأت هو بنفسه وبمن هو كنفسه إلى المباهلة. وإنما يعلم إتيانه بنفسه من قرينة ذكر النفس ومن إحضار من هم أعز من النفس، ويعلم إتيان من هو بمنزلة النفس من قرينة أن الإنسان لا يدعو نفسه. ثُمَّ نَبْتَهِلْ ثم نتباهل وقد يجيء «افتعل» بمعنى «تفاعل» نحو: اختصم بمعنى تخاصم. والتباهل أن يقول كل واحد منهما: بهلة الله على الكاذب منا أي لعنته. ويقال: بهله الله أي لعنه وأبعده من رحمته ومنه قولهم: «أبهله» إذا أهمله. وناقة بأهل لاصرار عليها بل هي مرسلة مخلاة. فكل من شاء حلبها وأخذ لبنها لا قوة بها على الدفع عن نفسها. فكأن المباهل يقول: إن كان كذا فوكلني الله إلى نفسي وفوّضني إلى حولي وقوتي وخلاني من كلائه وحفظه. هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 أصل الابتهال، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا وهو المراد في الآية لئلا يلزم التكرار أي ثم نجتهد في الدعاء فنجعل اللعنة على الكاذب بأن نسأل الله أن يلعنه. وفي الآية دلالة على أن الحسن والحسين وهما ابنا البنت يصح أن يقال إنهما ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم وعد أن يدعو أبناءه ثم جاء بهما. وقد تمسك الشيعة قديما وحديثا بها في أن عليا أفضل من سائر الصحابة لأنها دلت على أن نفس علي مثل نفس محمد إلا فيما خصه الدليل. وكان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي، وكان متكلم الاثني عشرية يزعم أن عليا أفضل من سائر الأنبياء سوى محمد. قال: وذلك أنه ليس المراد بقوله: وَأَنْفُسَنا نفس محمد لأن الإنسان لا يدعو نفسه فالمراد غيره. وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب فإذا نفس علي هي نفس محمد. لكن الإجماع دل على أن محمدا أفضل من سائر الأنبياء، فكذا علي عليه السلام قال: ويؤكده ما يرويه المخالف والموافق أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد أن يرى آدم في علمه. ونوحا في طاعته، وإبراهيم في خلته، وموسى في قربته، وعيسى في صفوته فلينظر إلى علي بن أبي طالب عليه السلام» فدل الحديث على أنه اجتمع فيه عليه السلام ما كان متفرقا فيهم، وأجيب بأنه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن محمدا أفضل من سائر الأنبياء فكذا انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي، وأجمعوا على أن عليا عليه السلام ما كان نبيا، فعلم أن ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد صلى الله عليه وسلم فكذا في حق سائر الأنبياء، وأما فضل أصحاب الكساء فلا شك في دلالة الآية على ذلك، ولهذا ضمهم إلى نفسه بل قدمهم في الذكر. وفيها أيضا دلالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لو لم يكن واثقا بصدقه لم يتجرأ على تعريض أعزته وخويصته وأفلاذ كبده في معرض الابتهال ومظنة الاستئصال، ولولا أن القوم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم لما أحجموا عن مباهلته، وأما قول المشركين اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: 32] فليس من قبيل المباهلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرض نفسه لذلك ولم يكن ذلك القول في معرض الاحتجاج والادعاء ولا بإذن من الله تعالى لرسوله. إِنَّ هذا الذي تلي عليك من نبأ عيسى لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وهو في إفادة معنى الاستغراق لزيادة «من» بمنزلة لا إله إلا الله مبنيا على الفتح، وفيه رد على النصارى في تثليثهم وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيه جواب عن شبهة النصارى أن عيسى يقدر على الإحياء ويخبر عن الغيوب، فإن هذا القدر من القدرة والعلم لا يكفي في الإلهية، بل يجب أن يكون الإله غالبا لا يدفع ولا يمنع وهم يقولون إنه قد قتل ولم يقدر على الدفع. ويلزم أن يكون عالما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 بكل المعلومات وبعواقب الأمور وعيسى لم يكن كذلك فَإِنْ تَوَلَّوْا عما وصفت من التوحيد وأن إله الخلق يجب أن يكون قادرا على المقدورات عالما بجميع المعلومات، فاعلم أن إعراضهم ليس إلا على سبيل العناد، فاقطع كلامك معهم وفوّض أمرهم إلى الله فإنه عليم بحال المفسدين في الدين، وبنياتهم وأغراضهم الفاسدة فيجازيهم بأعمالهم الخبيثة. ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما أورد على نصارى نجران من الدلائل ما انقطعوا معه، ثم دعاهم إلى المباهلة فانخزلوا ورضوا بالصغار وقبلوا الجزية، أمره الله تعالى بنمط آخر من الكلام مبني على الإنصاف يشهد به كل طبع مستقيم وعقل سليم فقال: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ يعني نصارى نجران، لأن الآية من تمام قصتهم، ولأنه كلام منصف فخوطب بما يطيب به قلوبهم كما لو قيل لحامل القرآن: يا حافظ كتاب الله. وقيل: المراد يهود المدينة، وقيل اليهود والنصارى جميعا لأن ظاهر اللفظ يتناولهما، ولما روي أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى، وقالت النصارى: يا محمد ما نريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير. فأنزل الله تعالى هذه الآية. والمراد من قوله: تَعالَوْا تعيين ما دعوا إليه والتوجه إلى النظر فيه وإن لم يكن انتقالا من مكان إلى مكان. والمعنى هلموا إلى كلمة سواء فيها إنصاف من بعضنا لبعض، لا ميل فيه لأحد على صاحبه. والسواء هو العدل والإنصاف لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف وفيه التسوية بين نفسه وبين صاحبه. أو المراد إلى كلمة سواء مستوية بيننا وبينكم لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل. وتفسير الكلمة بقوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فمحل أَلَّا نَعْبُدَ خفض على البدل من كَلِمَةٍ أو رفع على الخبر أي هي أن لا نعبد. وهو خبر في معنى الأمر أي اعبدوا. وإنما ذكر أمورا ثلاثة لأن النصارى جمعوا بين الثلاثة. فعبدوا غير الله وهو المسيح، وأشركوا به غيره لأنهم أثبتوا أقانيم ثلاثة أبا وابنا وروح القدس. ثم قالوا: إن أقنوم الكلمة تدرعت بناسوت المسيح وأقنوم روح القدس تدرعت بناسوت مريم، ولولا كون هذين الأقنومين ذاتين مستقلتين لما جاز عليهما مفارقة ذات الأب والتدرع بناسوت عيسى ومريم. وحيث أثبتوا ثلاثة ذوات مستقلة فقد أشركوا. ثم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا لأنهم أطاعوهم في التحليل والتحريم من تلقاء أنفسهم من غير شريعة وبيان، ولأنهم يسجدون لهم ويطيعونهم في المعاصي وهوى النفس ورؤية الأمور من الوسائط أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: 23] ولأن من مذهبهم أن الكامل في الرياضة يظهر فيه أثر اللاهوت ويحل فيه فيقدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. فهم وإن لم يطلقوا عليهم اسم الرب إلا أنهم أثبتوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 في حقهم معنى الربوبية، فثبت أن النصارى جمعوا بين الأمور الثلاثة، وبطلانها كالأمر المتفق عليه بين العقلاء. فإن قيل: المسيح ما كان المعبود إلا الله فوجب أن يبقى الأمر بعد ظهور المسيح عليه، والقول بالاشتراك أيضا ضائع. وإذا لم يكن الحكم إلا الله وجب أن لا يرجع في التحليل والتحريم والانقياد والائتمار إلا إليه. عن عدي بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم. قال صلى الله عليه وسلم: هو ذاك. وعن الفضيل: لا أبالي أطعت مخلوقا في معصية الخالق أو صليت لغير القبلة. فَإِنْ تَوَلَّوْا عن التوحيد فَقُولُوا أيها المسلمون لأهل الكتاب اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ دونكم كما يقول الغالب لمغلوبه في جدال أو صراع: لزمتك الحجة فاعترف بأني أنا الغالب. أو يكون من باب التعريض ومعناه فاعترفوا بأنكم كافرون حيث أعرضتم عن الحق بعد ما تبين. ثم إن اليهود كانوا يقولون: إن إبراهيم على ديننا وكذا النصارى، فأبطل الله تعالى ذلك بأن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده. فبين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبينه وبين عيسى ألفان، فكيف يعقل أن يكون يهوديا أو نصرانيا؟ لا يقال هذا أيضا لازم عليكم لأنكم تدعون أن إبراهيم كان على دين الإسلام، والإسلام إنما أنزل بعده بزمان أطول مما بينه وبين إنزال التوراة والإنجيل. لأنا نقول: القرآن أخبر بأن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وإنما كان حنيفا مسلما، وليس في الكتابين أنه كان يهوديا أو نصرانيا فظهر الفرق. وأيضا المسيح ما كان موجودا في زمان إبراهيم حتى يعبد، وعبادة المسيح هي النصرانية عندكم. وأيضا لا نسخ في دين اليهود والنسخ جائز في ملة إبراهيم ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ «ها» حرف التنبيه وأَنْتُمْ مبتدأ وهؤُلاءِ خبره وحاجَجْتُمْ جملة مستأنفة مبينة للأولى يعني أنتم هؤلاء الحمقى، وبيان حماقتكم أنكم حاججتم فيما لكم به علم مما نطق به التوراة والإنجيل من نعت محمد صلى الله عليه وسلم. أو ليس المراد وصفهم بالعلم حقيقة وإنما أراد: هب أنكم تحاجون فيما تدعون علمه، فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به البتة ولا ذكر له في كتابكم؟ وعن الأخفش: ها أَنْتُمْ أصله أأنتم على الاستفهام. فقلبت الهمزة هاء، ومعنى الاستفهام التعجب من جهالتهم. ثم حقق ذلك بقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ كيف كان حال هذه الشرائع في الموافقة والمخالفة وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ثم بين ذلك مفصلا فقال: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، أو عرض بالمشركين عن اليهود والنصارى لإشراكهم بالله عزيرا والمسيح. فإن قيل: قولكم «إبراهيم على دين الإسلام» إن أردتم به الموافقة في الأصول فليس هذا مختصا بدين الإسلام، وإن أردتم به الموافقة في الفروع لزم أن لا يكون محمد صاحب شريعة بل كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 مقررا لشرع من قبله. قلنا: نختار الأول والاختصاص ثابت. فإن اليهود والنصارى مخالفون للأصول في زماننا لقولهم بالتثليث وإشراك عزير والمسيح بالله إلى غير ذلك من قبائح أفعالهم، أو الثاني ولا يلزم ما ذكرتم لجواز أنه تعالى نسخ تلك الفروع بشرع موسى، ثم في زمان محمد نسخ شرع موسى بتلك الشريعة التي كانت ثابتة في زمان إبراهيم، فيكون محمد صاحب الشريعة مع موافقة شرعه شرع إبراهيم في معظم الفروع. روى الواحدي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لما هاجر جعفر بن أبي طالب وأصحابه إلى الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان من أمر بدر ما كان، اجتمعت قريش في دار الندوة وقالوا: إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثأرا بمن قتل منكم ببدر. فأجمعوا مالا وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم، ولينتدب لذلك رجلان من ذوي آرائكم. فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط مع هدايا الأدم وغيره، فركبا البحر وأتيا الحبشة. فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه وقالا له: إن قومنا لك ناصحون شاكرون وإصلاحك محبون، وإنهم بعثونا إليك لنحذرك هؤلاء القوم الذين قدروا عليك لأنهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء. وإنا كنا ضيقنا عليهم الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل أحد منا عليهم ولا يخرج منهم أحد، قد قتلهم الجوع والعطش. فلما اشتد عليهم الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك، وقد جئتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم. قالوا: وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك. قال: فدعاهم النجاشي. فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب الله. فقال النجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر. فقال النجاشي: نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته. فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه فقال: ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به النجاشي فساءهما ذلك. ثم دخلوا عليه ولم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص: ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشي: ما يمنعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحيي بها من أتاني من الآفاق؟ قالوا: نسجد لله الذي خلقك وملكك، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان، فبعث الله فينا نبيا صادقا وأمرنا بالتحية التي رضيها الله لنا وهي «السلام» تحية أهل الجنة. فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل. قال: أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب الله؟ قال جعفر: أنا. قال: فتكلم. قال: إنك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب، ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا. فقال عمرو لجعفر: تكلم. فقال جعفر للنجاشي: سل هذا الرجل أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا أبقنا من أربابنا فأرددنا إليهم. فقال النجاشي: أعبيد هم أم أحرار؟ فقال: بل أحرار كرام. فقال النجاشي: نجوا من العبودية. قال جعفر للنجاشي: سلهما هل أهرقنا دما بغير حق فيقتص منا؟ فقال عمرو: لا ولا قطرة. قال جعفر: سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟ قال النجاشي: يا عمرو إن كان قنطارا فعليّ قضاؤه. فقال عمرو: لا ولا قيراط. قال النجاشي: فما تطلبون منهم؟ قال عمرو: كنا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا، فتركوا ذلك الدين واتبعوا غيره ولزمناه نحن، فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا. فقال النجاشي: ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعوه أصدقني. قال جعفر: أما الدين الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان وأمره. كنا نكفر بالله عزّ وجلّ ونعبد الحجارة. وأما الدين الذي تحولنا إليه فدين الإسلام، جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له. فقال النجاشي: يا جعفر تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك. ثم أمر النجاشي فضرب بالناقوش فاجتمع إليه كل قسيس وراهب. فلما اجمعوا عنده قال النجاشي: أنشدكم بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا؟ فقالوا: اللهم نعم، قد بشرنا به عيسى وقال: من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي. فقال النجاشي لجعفر: ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه؟ قال: يقرأ علينا كتاب الله ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويأمر بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم، ويأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له. فقال: اقرأ علي شيئا مما يقرأ عليكم. فقرأ عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت أعين النجاشي وأصحابه من الدموع وقالوا: يا جعفر زدنا من هذا الحديث الطيب. فقرأ عليهم سورة الكهف. فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال: إنهم يشتمون عيسى وأمه. فقال النجاشي: ما تقولون في عيسى وأمه؟ فقرأ عليهم جعفر سورة مريم. فلما أتى ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذى العين وقال: والله ما زاد المسيح على ما يقولون هذا. ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي يقول آمنون من سبكم أو أذاكم. قال: أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة أي لا خوف اليوم على حزب إبراهيم. قال عمرو: يا نجاشي ومن حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاؤا من عنده ومن اتبعهم. فأنكر ذلك المشركون وادعوا أنهم في دين إبراهيم. ثم رد النجاشي على عمرو وأصحابه المال الذي حملوه وقال: إنما هديتكم إليّ رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 قال جعفر: وانصرفنا فكنا في خير دار وأكرم جوار، وأنزل الله عزّ وجلّ ذلك اليوم في خصومتهم في إبراهيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة قوله: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ على ملته وسنته في زمانه وَهذَا النَّبِيُّ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ آمَنُوا في آخر الزمان وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ بالنصرة والتأييد والتوفيق والتسديد. ومعنى أَوْلَى النَّاسِ أخصهم به وأقربهم منه من الولي القرب. وقرىء وَهذَا النَّبِيُّ بالنصب عطفا على الهاء في اتَّبَعُوهُ وبالجر عطفا على بِإِبْراهِيمَ. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي إبراهيم ثم قرأ إن أولى الناس الآية» ثم بين أنهم لا يقتصرون على هذا القدر بل يجتهدون في إضلال المؤمنين بإلقاء الشبهات وإبداء المكايد كما أرادوا بحذيفة وعمار ومعاذ بن جبل وقد ذكرناه في سورة البقرة. وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن وبال الإضلال يعود عليهم فيضاعف لهم العذاب بالضلال والإضلال، أو وما يقدرون على إضلال المؤمنين وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم وَما يَشْعُرُونَ أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين. ثم وبخهم على قبائح أفعالهم بطريق الاستفهام فقال: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ قيل: أي بالتوراة والإنجيل لما فيهما من البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أن إبراهيم كان حنيفا مسلما، أو أن الدين عند الله الإسلام، ومعنى الكفر بالتوراة والإنجيل إما الكفر بما يدلان عليه فيكون قد أطلق اسم الدليل على المدلول، أو الكفر بنفس التوراة والإنجيل لأنهم كانوا يحرّفونهما وينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أنهم عند حضور المسلمين وعند حضور عوامهم كانوا ينكرون اشتمال التوراة والإنجيل على نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا خلا بعضهم إلى بعض شهدوا بصحتها، وعلى هذا فيكون في الآية إخبار عن الغيب فيكون معجزا. وقيل: آيات الله في القرآن وشهادتهم أنهم يعرفون في قلوبهم أنه حق. وقيل: آيات الله جملة المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم. فمعنى تشهدون أنكم تعترفون بدلالة المعجزة على صدق المدعي. ثم لما وبخهم على الغواية أردفه التوبيخ بالإغواء. وهو إما بإلقاء الشبهات في الدين وهو معنى لبسهم الحق بالباطل، وإما بإخفاء الدلائل وهو كتمانهم الحق. عن الحسن وابن زيد: حرفوا التوراة فخلطوا المنزل بالمحرف. وعن ابن عباس: أظهروا الإسلام في أول النهار ثم رجعوا عنه في آخره تشكيكا للناس. قيل: إن في الكتابين ما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والبشارة به وفيهما ما يوهم خلاف ذلك فيكون كالمحكم والمتشابه في القرآن. فلبسوا على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر كما يفعل كثير من المشبهة. وهذا قول القاضي. وقيل: كانوا يقولون: إن محمدا صلى الله عليه وسلم معترف بأن شرع موسى حق، ثم إن التوراة دلت على أنه لا ينسخ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 وكل ذلك إلقاء الشبهات. وأما كتمان الحق فهو أن الآيات الدالة في التوراة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كان الاستدلال بها مفتقرا إلى التدبر والتأمل، والقوم كانوا يجتهدون في إخفاء تلك الألفاظ التي بمجموعها يتم الاستدلال كما يفعل المبتدعة في زماننا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنكم إنما تفعلون ذلك عنادا وحسدا، أو تعلمون أنكم من أهل المعرفة، أو تعلمون حقيتها، أو أن عقاب من يفعل هذه الأفعال عظيم والله حسبي. [سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 80] وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) القراآت: آن يؤتى بهمزتين وتليين الثانية: ابن كثير. الباقون بهمزة واحدة يؤدهى ولا يؤدهى ابن كثير ونافع غير قالون وابن عامر وعلي وخلف وحفص والمفضل وعباس وسهل وزيد عن يعقوب، وقرأه أبو جعفر وقالون ويعقوب غير زيد وأبو عمرو في رواية الزيدي طريق أبي أيوب الهاشمي بالاختلاس. الباقون ساكنة الهاء. تعلمون بالتشديد: عاصم وعلي وحمزة وخلف وابن عامر. فحذف المفعول الأول للعلم به وهو الناس. الباقون تعلمون بالتخفيف من العلم. وَلا يَأْمُرَكُمْ بالرفع: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو وعلي والأعشى والبرجمي وأبو زيد غير المفضل، وقرأ أبو عمرو بالاختلاس. الباقون بالنصب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 الوقوف: يَرْجِعُونَ ج للعطف دِينَكُمْ ط هُدَى اللَّهِ (لا) لأن التقدير ولا تصدقوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم. وقوله: «قل» مع مقوله معترض. ومن قرأ آن يؤتى مستفهما وقف عليها. عِنْدَ رَبِّكُمْ ط بِيَدِ اللَّهِ ج ط لأن يُؤْتِيهِ لا يتعلق بما قبله مع أن ضمير فاعله عائد إلى الله. مَنْ يَشاءُ ط عَلِيمٌ هـ ط ج لاحتمال الاستئناف والصفة. مَنْ يَشاءُ ط الْعَظِيمِ هـ إِلَيْكَ الأولى ج لتضاد الجملتين معنى مع اتفاقهما لفظا. قائِماً ط سَبِيلٌ ج لأن الواو للاستئناف مع اتساق معنى الكلام يَعْلَمُونَ هـ الْمُتَّقِينَ هـ يُزَكِّيهِمْ ص أَلِيمٌ هـ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ ج لعطف المتفقتين مع وقوع العارض وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ج يَعْلَمُونَ هـ تَدْرُسُونَ هـ لا لمن قرأ وَلا يَأْمُرَكُمْ بالنصب عطفا على أَنْ يُؤْتِيَهُ أَرْباباً ط مُسْلِمُونَ هـ. التفسير: هذا نوع آخر من تلبيساتهم. وقوله بِالَّذِي أُنْزِلَ يحتمل أن يراد كل ما أنزل الله عليهم، ويحتمل أن يراد بعض ما أنزل. أما الاحتمال الأول فقول الحسن والسدي تواطأ اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عرينة وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد باللسان دون الاعتقاد وَجْهَ النَّهارِ أي أوله. والوجه في اللغة مستقبل كل شيء ومنه وجه الثوب لأول ما يبدو منه. روى ثعلب عن ابن الأعرابي: أتيته بوجه نهار وصدر نهار وشباب نهار. وأنشد الربيع بن زياد: من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسرا يندبنه ... قد قمن قبل تبلج الأسحار وذلك أنه كان من عادتهم أن لا يظهروا الجزع على المقتول إلى أن يدركوا الثأر. فمعنى البيت من كان مسرورا فلير أثر تشفي الغيظ ودرك الثأر قبل أن يمضي على المقتول تمام يوم وليلة. واكفروا به آخر النهار وقولوا: إنا نظرنا في كتابنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك، فإن أصحابه متى شاهدوا هذا غلب على ظنونهم أن هذا التكذيب ليس لأجل الحسد والعناد وإلا لما آمنوا به في أول الأمر، وإنما ذلك لأمر لأجل أنهم أهل كتاب وقد تفكروا في أمره وفي دلائل نبوته، فلاح لهم بعد التأمل التام والبحث الشافي أنه كذاب فيكون في هذا الطريق تشكيك لضعفة المسلمين فربما يرجعون عن دينهم. وقال أبو مسلم: معنى وجه النهار وآخره أن رؤساء اليهود والنصارى قال بعضهم لبعض: نافقوا وأظهروا الوفاق للمؤمنين ولكن بشرط أن تثبتوا على دينكم إذا خلوتم بإخوانكم من أهل الكتاب، فإن أمر هؤلاء في اضطراب فزجوا الأيام معهم بالنفاق فربما ضعف أمرهم واضمحل دينهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 فيرجعوا إلى دينكم، فتكون هذه الآية كقوله: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة: 14] . وقال الأصم: معناه تفريق أحكام الإسلام إلى قسمين، وذلك أنه قال بعضهم لبعض: إن كذبتموه في جميع ما جاء به علم عوامكم كذبكم لأن كثيرا مما جاء به حق، ولكن صدقوه في بعض وكذبوه في بعض ليحملوا كلامكم على الإنصاف فيقبلوا قولكم ويرجعوا عن دين الإسلام والرغبة فيه. وأما الاحتمال الثاني فقول من قال إنها نزلت في شأن القبلة ثم اختلفوا. فعن ابن عباس: وجه النهار أوله وهو صلاة الصبح، وآخره صلاة الظهر. وتقريره أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس ففرح اليهود بذلك، فلما حوّله الله إلى الكعبة عند صلاة الظهر قال كعب بن الأشرف وغيره: آمنوا بالقبلة التي صلى إليها صلاة الصبح فهي الحق. وقال مجاهد ومقاتل والكلبي: لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود لمخالفتهم فقالوا: آمنوا بالذين أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها من أول النهار، ثم اكفروا بالكعبة آخر النهار وارجعوا إلى قبلتكم الصخرة لعلهم يقولون: هؤلاء أهل كتاب وهم أعلم منا فربما يرجعون إلى قبلتنا، فحذر الله نبيه مكر هؤلاء وأطلعه على سرهم كيلا تؤثر الحيلة في قلوب ضعفاء المؤمنين. ولأن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة لم يقدموا على أمثالها من الحيل ويصير ذلك وازعا لهم. وفيه أيضا أنه إخبار عن الغيب فيكون معجزا. ثم قال تعالى: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ اتفق المفسرون على أنه من بقية حكاية كلام أهل الكتاب. واتفقوا على أن قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وكذا قوله: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ إلى آخرها كلام الله إلا أنهم اختلفوا في أن قوله: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ من جملة كلام الله، أو من جملة كلام اليهود، ومن تتمة قولهم: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ فهذان احتمالان ذهب إلى كل منهما طائفة من المحققين، وكل منهما يحتاج في تصحيح المعنى إلى تقدير وإضمار، فلهذا عدت الآية من المواضع المشكلة. أما الاحتمال الأول فوجهه على قراءة ابن كثير ظاهر، وكذا في قراءة من قرأ بهمزة واحدة ويقدر همزة الاستفهام للتقرير والتوبيخ وكذا لام الجر. وهذا الوجه يروى عن مجاهد وعيسى بن عمر. والمعنى ألأن أي من أجل أن يؤتى أحد شرائع مثل ما أوتيتم تنكرون اتباعه؟ فحذف الجواب للاختصار، وهذا الحذف كثير. ويقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه وعد ذنوبه عليه وقد أحسن إليه: أمن قلة إحساني إليك أمن إهانتي لك؟ والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت أم من ذاك؟ ونظيره قوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر: 9] ومعنى قوله حكاية عنهم وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ على هذا الوجه لا تصدقوا إلا نبيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 يقرر شرائع التوراة، فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه وهذا هو مذهب اليهود إلى اليوم. واللام زائدة مثل رَدِفَ لَكُمْ [النمل: 72] فإنه يقال: صدقت فلانا ولا يقال صدقت لفلان. فأمر الله نبيه أن يقول لهم في الجواب إن الدين دين الله، فكل ما رضيه دينا فهو الدين الذي يجب متابعته كقوله في جواب قولهم: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة : 142] ثم وبخهم بالاستفهام المذكور. ويحتمل أن يكون المعنى: ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم، لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم، ولأن إسلامهم كان أغيظ لهم. فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وقد جئتكم به فلن ينفعكم هذا الكيد الضعيف. ثم استفهم فقال: ألأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتم لا لشيء آخر؟ يعني أن ما بكم من الحسد والبغي أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم؟ ثم قال: أَوْ يُحاجُّوكُمْ يعني دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو لما يتصل بالإيتاء عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم لأن ما أوتوا مثل ما أوتيتم، فحين لم تؤمنوا به ثبت لهم حجة عليكم. وأما إن لم تقدر همزة الاستفهام فالتقدير إما كما سبق. أو يقال: الْهُدى اسم «إن» وهُدَى اللَّهِ بدل منه. والتقدير: قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. ويكون «أو» بمعنى «حتى» ويتم الكلام بمحذوف أي حتى يحاجوكم عند ربكم فيقضي لهم عليكم ويدحض حجتكم، أو يقال: أَنْ يُؤْتى مفعول فعل محذوف هو لا تنكروا لأنه لما كان الهدى هدى الله كان له أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار فصح أن يقال: لا تنكروا أن يؤتى أحد سواكم من الهدى ما أوتيتموه أو يحاجوكم- يعني هؤلاء المسلمين- بذلك عند ربكم إن لم تقبلوا ذلك منهم. أو يقال الْهُدى اسم للبيان وهُدَى اللَّهِ بدل ويضمر لا بعد «إن» مثل أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] أي لا تضلوا. والتقدير: قل يا محمد لأمتك إن بيان الله هو أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهو دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان، وأن لا يحاجوكم- يعني هؤلاء اليهود- عند ربكم في الآخرة لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم مهتدون وأنهم ضالون. وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون قوله: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من تتمة كلام اليهود، وقوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ جملة معترضة. فمعناه لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، أو لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم. فحذف حرف الجر من «أن» على القياس. قال في الكشاف: أراد أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام. وقوله: أَوْ يُحاجُّوكُمْ عطف على أَنْ يُؤْتى والضمير في يُحاجُّوكُمْ ل أَحَدٌ لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة. قال: ومعنى الاعتراض، أن الهدى هدى الله، من شاء أن يلطف به حتى يسلم أو يزيد ثباته على الإسلام كان ذلك، ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم أي ستركم تصديقكم عن المسلمين والمشركين. وكذلك قوله: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ مؤكد للاعتراض الأول، أو هو اعتراض آخر يجيء بعد تمام الكلام كقوله: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل: 34] بعد قوله: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها [النمل: 34] فإن قيل: إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم عنه، فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضا بالإقرار؟ ربما يدل على صحة دين محمد صلى الله عليه وسلم عند أتباعهم وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب. فالجواب: ليس المراد من هذا النهي الأمر بإفشاء هذا التصديق فيما بين أتباعهم، بل المراد أنه ان اتفق منكم تكلم بهذا فلا يكن إلا عند خويصتكم وأصحاب أسراركم. على أنه يحتمل أن يكون شائعا ولكن البغي والحسد كان يحملهم على الكتمان من غيرهم. فإن قيل: كيف وقع قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ فيما بين جزأي كلام واحد؟ وهذا لا يليق بكلام الفصحاء؟ قلت: قال القفال: يحتمل أن يكون هذا كلاما أمر الله نبيه أن يقوله عند ما وصل الكلام إلى هذا الحد. كأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولا باطلا لا جرم أدب رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقابله بقول حق، ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولا فيه كفر فيقول عند بلوغه إلى تلك الكلمة: آمنت بالله أو لا إله إلا الله، أو تعالى الله، ثم يعود إلى تلك الحكاية. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الهدى هدى الله وأن الفضل بيد. واعلم أنه تعالى حكى عن اليهود أمرين: أحدهما أن يؤمنوا وجه النهار ويكفروا آخره ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام فأجاب بقوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ. وذلك أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة عين ولا أثر. وثانيها أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكمة والنبوة فأجاب عنه بقوله: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ والمراد بالفضل الرسالة وهو في اللغة الزيادة، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان. والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير. ومعنى قوله بِيَدِ اللَّهِ أنه مالك له غالب عليه يوضحه قوله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ. وفيه دليل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 على أن النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق لأنه جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله ولا يصح ذلك في المستحق إلا على وجه المجاز وَاللَّهُ واسِعٌ كامل القدرة عَلِيمٌ بالحكم والمصالح وبمواقع فضله فلهذا يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ والحاصل أنه بين بقوله: إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أنه قادر على أن يؤتى بعض عباده مثل ما آتاكم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها، فإن الزيادة من جنس المزيد عليه. ثم قال: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ والرحمة المضافة إليه تعالى أمر أجل من ذلك الفضل لأنه لا يكون من جنس ما آتاهم بل يكون أشرف وأعظم. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فمن قصر إنعامه وإكرامه على مراتب معينة وعلى أشخاص معينين كان جاهلا بكمال الله تعالى في قدرته وحكمته. ثم إنه تعالى كذبهم في دعواهم الاختصاص بالمناصب العالية فإن فيهم الخيانة المستقبحة في جميع الأديان ونقص العهد والكذب على الله إلى غير ذلك من القبائح فقال: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية. فيها دلالة على انقسامهم إلى قسمين: أهل للأمانة وأهل للخيانة. فقيل: إن أهل الأمانة هم الذي أسلموا، أما الذين بقوا على اليهودية فهم مصرون على الخيانة لأن مذهبهم أنه يحل لهم قتل كل من يخالفهم في الدين وأخذ أموالهم. وقيل: إن أصحاب الأمانة هم النصارى لغلبة الأمانة عليهم، وأهل الخيانة اليهود لكثرة ذلك فيهم. وقال ابن عباس: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ هو عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه ومَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ هو فنحاص بن عازورا استودعه رجل من قريش دينارا فجحده وخانه. وقال أهل الحقيقة: هي فيمن يؤتى كثيرا من الدنيا فيخرج عن عهدته بعدم الالتفات إليه وقطع النظر عنه ثقة بالله وتوكلا عليه واكتفاء به، وفيمن يمتحن بالدنيا فيكون همه مقصورا عليها معرضا عما سواها غير مؤد حقوقها. ويقال: أمنته بكذا وعلى كذا، فمعنى الباء إلصاق الأمانة بحفظها وحياطتها، ومعنى «على» استعلاؤها والاستيلاء عليها. والمراد بالقنطار والدينار هاهنا العدد الكثير والعدد القليل فلا حاجة إلى تعيينه. وأما الأقوال فيه فقد مرت في أوائل السورة. وقد يستدل بما روينا عن ابن عباس أن القنطار ألف ومائتا أوقية. ويدخل تحت القنطار والدينار العين والدين، لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة وعلى المبايعة وعلى المقارضة، وليس في الآية ما يدل على التعيين لكنه نقل عن ابن عباس أنه محمول على المبايعة فقال: منهم من تبايعه بثمن القنطار فيؤده إليك، ومنهم من تبايعه بثمن الدينار فلا يؤده إليك. ونقلنا عنه أيضا أنها نزلت في الوديعة. وأما قوله إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً فمنهم من حمله على حقيقته. قال السدي: يعني إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائما على رأسه مجتمعا معه ملازما إياه، فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 أنظرت وأخرت أنكر. ومنهم من يحمله على الإلحاح والخصومة والتقاضي والمطالبة. قال ابن قتيبة: أصله أن الطالب للشيء يقوم به والتارك له يقعد عنه ومنه قوله تعالى: أُمَّةٌ قائِمَةٌ [آل عمران: 113] أي عاملة بأمر الله غير تاركة له. وقال أبو علي الفارسي: إنه في اللغة الدوام والثبات ومنه قوله: دِيناً قِيَماً [الأنعام: 161] أي ثابتا لا ينسخ. فمعنى الآية إلا دائما ثابتا في مطالبتك إياه بذلك المال. ذلِكَ الاستحلال وترك الأداء الذي دل عليه لا يؤده بسبب أنهم يقولون ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل بالخطاب والعتاب. إما لأنهم يبالغون في التعصب لدينهم حتى استحلوا قتل المخالف وأخذ ماله بأي طريق كان، وإنا لأنهم قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه والخلق لنا عبيد فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا، ويحتمل أن يكونوا اعتقدوا في الإسلام أنه كفر فيحكمون على المسلمين بالردة فيستحلون دماءهم وأموالهم. روي أن اليهود عاملوا رجالا في الجاهلية من قريش. فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا: ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم فلا جرم قال تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بادعائهم أن ذلك في كتابهم وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون، وهذه غاية الجرأة والجهالة. أو يعلمون حرمة الخيانة، أو يعلمون ما على الخائن من الإثم. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزولها: كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر. وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة. قال: فتقولون ماذا؟ قال: نقول ليس علينا في ذلك بأس. قال: هذا كما قال أهل الكتاب ليس علينا في الأميين سبيل. إنهم إذا أدوا الجزية لم يحل أكل أموالهم إلا بطيب أنفسهم، بَلى قال الزجاج: عندي وقف التمام هاهنا لأنه لمجرد نفي ما قبله أي بلى عليهم سبيل في ذلك وما بعده استئناف، وقال غيره: إنه يذكر في ابتداء كلام يقع جوابا عن المنفي قبله. فقولهم: ليس علينا جناح قائم مقام قوله: نحن أحباء الله تعالى فقيل لهم: إن أهل الوفاء بالعهد وأهل التقى هم الذين يحبهم الله. وعلى هذا فلا وقف على «بلى» . وفيه أن اليهود ليسوا من الوفاء والتقى في شيء، ولو أنهم أوفوا بالعهود أوفوا أول كل شيء بالعهد الذي أخذه الله تعالى في كتابهم من الإيمان بنبي آخر الزمان وهو محمد صلى الله عليه وسلم. ولو أنهم اتقوا الله لم يكذبوا عليه ولم يحرفوا كتابه. وعموم لفظ المتقين قائم مقام الضمير العائد إلى المبتدأ والضمير في بِعَهْدِهِ يجوز أن يرجع إلى مَنْ ويجوز أن يرجع إلى اسم الله كقوله في الآية التالية بِعَهْدِ اللَّهِ. واعلم أن الوفاء والتقى أصلان لجميع مكارم الأخلاق. فالوفاء بالعهد يشمل عهد الميثاق وعهد الله تعالى بالتزام التكاليف الخاصة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 والعامة، والتقوى تتممها وتزينها حتى يأتي بها على وجه الكمال من غير شائبة الاختلال. فكل متق موف بالعهد ولا يلزم العكس، فلهذا اقتصر على قوله: يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ دون أن يقول يحب الموفين أو الموفين والمتقين فافهم. ثم إنه سبحانه لما وصف اليهود بالخيانة في أموال الناس- والخيانة فيها لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة غالبا- لا جرم أردفها بالوعيد عليها. وأيضا الخيانة في العهود وفي تعظيم أسماء الله تناسب الخيانة في الأموال، فلا جرم قال: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الآية. واختلفت الروايات في سبب النزول فمنهم من خصها باليهود لأن الآيات السابقة فيهم وكذا اللاحقة، ومنهم من خصها بغيرهم والروايات هذه. قال عكرمة: نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وغيرهم من رؤوس اليهود. كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمد صلى الله عليه وسلم وبدلوه وكتبوا بأيديهم غيره، وحلفوا أنه من عند الله كيلا يفوتهم الرشا والمآكل التي كانت لهم على أتباعهم. وقال الكلبي: إن ناسا من علماء اليهود أولي فاقة أصابتهم سنة فاقتحموا إلى كعب بن الأشرف بالمدينة. فسألهم كعب: هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله في كتابكم؟ قالوا: نعم، وما تعلمه أنت؟ قال: لا. قالوا: فإنا نشهد أنه عبد الله ورسوله. قال كعب: لقد حرمكم الله خيرا كثيرا. لقد قدمتم عليّ وأنا أريد أن أميركم وأكسو عيالكم فحرمكم الله وحرم عيالكم. فقالوا: فإنه شبه لنا فرويدا حتى نلقاه. فانطلقوا وكتبوا صفة سوى صفته ثم انتهوا إلى رسول الله فكلموه وسألوه ثم رجعوا فقالوا: لقد كنا نرى أنه رسول الله فلما أتيناه إذا هو ليس بالنعت الذي نعت لنا، ووجدنا نعته مخالفا للذي عندنا. وأخرجوا الذي كتبوا فنظر إليه كعب ففرح وأمارهم وأنفق عليهم فنزلت. وعن الأشعث بن قيس: خاصمت رجلا في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: شاهداك أو يمينه. فقلت: إذا يحلف ولا يبالي. فقال صلى الله عليه وسلم: «من حلف عليّ يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان» ونزلت الآية على وفقه. وقيل: نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطى بها ما لم يعطه. ومعنى يشترون يستبدلون، وعهود الله مواثيقه، واليمين هي التي يؤكد الإنسان بها خبره من وعد أو وعيد أو إنكار أو إقرار بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته أو ما يجري مجراه. والثمن القليل متاع الدنيا من المال والجاه ونحوهما. ثم إنه تعالى رتب على الشراء بعهد الله وبأيمانهم ثمنا قليلا خمسة أنواع من الجزاء فقوله: أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إشارة إلى أنه لا نصيب لهم في منافعها ونعيمها. وقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ إشارة إلى حرمانهم عما عند الله من الكرامات والقرب. وقوله: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إشارة إلى ما يحصل لهم هنالك من صنوف الآلام وضروب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 الأهوال. قال المحققون ومنهم القفال: المقصود من هذه الكلمات بيان شدة سخط الله عليهم لأن من منع كلامه في الدنيا غيره فإنما ذلك لسخطه عليه، وقد يأمره بحجبه عنه ويقول: لا أكلمك ولا أرى وجهك. وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل. قال في الكشاف: لا ينظر إليهم مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم. تقول: فلان لا ينظر إلى فلان تريد نفي اعتداده به. وأصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثمة نظر. ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر. قلت: لعله أراد بهذا المجاز الاستعارة كأنه شبه هذا النظر بذاك النظر، ثم حذف المشبه وأداة التشبيه فبقي استعارة. وفي التفسير الكبير: لا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم، ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماسا لرؤيته لأن هذا من صفات الأجسام وهو تعالى منزه عن ذلك، وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف «إلى» ليس بمعنى الرؤية وإلا لزم من هذه الآية أن لا يكون الله رائيا وذلك باطل. قلت: يجوز أن يراد بهذا النظر النظر المعهود وهو الذي سيخص الله تعالى به أولياءه من أنه ينظر إليهم وينظرون إليه وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] وعلى هذا جاز أن يكون النظر بمعنى الرؤية لأنه لا يلزم من نفي رؤية يراه العباد أيضا وقتئذ نفي رؤية لا يرونه حينئذ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً عن ابن عباس هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ قال القفال: معناه أن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفا يتغير به المعنى. فإن الليّ عبارة عن عطف الشيء ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية. وإنما كانوا يفعلون مثل ذلك في الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي غيرها بحسب أغراضهم الفاسدة. وفي الكشاف: أي يقتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف. أقول: وذلك أن لي اللسان أشبه بالتشدق والتنطع والتكلف مذموم، فعبر الله عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بليّ اللسان ذما لهم وتقريعا، ولم يعبر عنها بالقراءة، والعرب تفرق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد لِتَحْسَبُوهُ أي المحرف الذي دل عليه يَلْوُونَ ويجوز أن يقدر مضاف محذوف أي يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ نفى أوّلا كونه من الكتاب، ثم عطف عليه النفي العام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 ليعلم أنه كما أنه ليس من الكتاب ليس بسنة ولا إجماع ولا قياس. فإن كل هذا يصدق عليه أنه من عند الله بمعنى كونه حكما من أحكامه المستنبطة من الأصول. ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة فقط وبقولهم: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أنه موجود في كتاب سائر الأنبياء. وذلك أن القوم في نسبة ذلك المحرف إلى الله كانوا متحيرين خابطين. فإن وجدوا قوما من الأغمار الجاهلين بالتوراة قالوا: إنه من التوراة. وإن وجدوا قوما عقلاء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء. واعلم أنه إن كان المراد من التحريف تغيير ألفاظ التوراة أو إعراب ألفاظها فالذين أقدموا على ذلك يجب أن يكونوا طائفة يسيرة يجوز التواطؤ منهم على الكذب، وإن كان المعنى تشويش دلالة تلك الآيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بسبب إلقاء الشكوك والشبهات في وجوه الاستدلالات كما يفعله المبطلون في ملتنا إذا استدل المحقون بآية من كتاب الله تعالى لم يبعد إطباق الخلق الكثير والجم الغفير عليه. احتج الجبائي والكعبي بالآية على أن فعل العبد ليس بخلق الله تعالى وإلا صدق اليهود في قولهم هو من عند الله، لكن الله كذبهم. والغلط فيه أن القوم ما ادعوا أن التحريف من عند الله وبخلقه، وإنما ادعوا أن المحرف منزل من عند الله، أو هو حكم من أحكامه فتوجه التكذيب تكذيب الله إياهم إلى هذا الذي زعموا لا إلى ما لم يزعموا، فلم يبق لهما في الآية استدلال. ثم من جملة ما حرفه أهل الكتاب أن زعموا أن عيسى كان يدعي الإلهية ويأمر قومه بعبادته فلهذا قال عز من قائل: ما كانَ لِبَشَرٍ الآية. وقيل: إن أبا رافع القرظي من اليهود والسيد من نصارى نجران قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال: معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني فنزلت. وقيل: إن رجلا قال: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله. وقيل: زعمت اليهود أن أحدا لا ينال من درجات الفضل ما نالوه فقال لهم الله: إن كان الأمر كما قلتم وجب أن لا تشتغلوا باستعباد الناس واستخدامهم وهذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قوله: ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ كقوله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] ومعنى قوله: ما كانَ لِبَشَرٍ قال الأصم: لو أرادوا أن يقولوا ذلك لمنعهم الله منه نظيره وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 44، 45] لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ [الإسراء: 74، 75] وقيل: معناه أنه تعالى لا يشرف عبدا بالنبوة إلا إذا علم منه أنه لا يقول مثل ذلك الكلام. وقيل: إن الرسول يدعي تبليغ الأحكام عن الله تعالى ويحتج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 على صدقه بالمعجزة. فلو أمرهم بعبادة نفسه بطل دلالة المعجزة على كونه صادقا. والتحقيق أن الأنبياء موصوفون بصفات لا يحصل معها هذا الادعاء، لأن النفس ما لم تكن كاملة بحسب قوتها النظرية والعملية لم تكن مستعدة لقبول نزول الكتاب السماوي عليه وللحكم وهو فهم ذلك الكتاب وبيانه. وقد يعبر عنه بالسنة والنبوة وهو كونه مأمورا بتبليغ ما فهم الى الخلق، وما أحسن هذا الترتيب، وإذا كانت كاملة بحسب القوتين وما يتبعهما امتنع من مثله مثل هذا القول والاعتقاد، لأن غاية جهد النبي وقصارى أمره صرف القلوب والأرواح من الخلق إلى الحق، فكيف يعقل منه ضده؟ فتبين أنه ليس المراد من قوله: ما كانَ لِبَشَرٍ إلى قوله: كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق. ولو كان المراد منه التحريم لم يكن فيه تكذيب للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح، لأن من ادعى على رجل فعلا فقيل له إن فلانا لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن مكذبا له فيما ادعاه عليه. ومثله ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مريم: 35] على سبيل النفي لذلك عن نفسه لا على وجه التحريم والحظر. وكذا قوله: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران: 161] ومعناه النفي لا النهي. ومعنى «ثم» في قوله: ثُمَّ يَقُولَ تبعيد هذا القول عن مثل ذلك البشر وَلكِنْ كُونُوا ولكن يقول كونوا رَبَّانِيِّينَ قال سيبويه: الرباني منسوب الى الرب بمعنى كونه عالما به ومواظبا على طاعته كما يقال: رجل إلهي إذا كان مقبلا على معرفة الإله وطاعته. وزيادة الألف والنون في النسبة فقط للدلالة على كمال هذه الصفة كما قالوا: شعراني ولحياني ورقباني للموصوف بكثرة الشعر وطول اللحية وغلظ الرقبة. وقال المبرد: والربانيون أرباب العلم واحدها ربان وهو الذي يرب العلم ويرب الناس بتعليمهم وإصلاحهم والقيام بأمرهم. والألف والنون كما في ريان وعطشان لا يختص بحال النسبة. والربانيون بهذا التفسير يشمل الولاة أيضا. قال القفال: يحتمل أن يكون الوالي يسمى ربانيا لأن يطاع كالرب تعالى فينسب إليه. فمعنى الآية: ولكن يدعوكم إلى أن تكونوا ملوكا وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ومواظبتكم على طاعته. وقال أبو عبيدة: أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية إنما هي عبرانية أو سريانية. وسواء كانت عربية أو عبرية تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم ثم اشتغل بتعليم طرق الخير. عن محمد ابن الحنفية أنه قال حين مات ابن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة. والباء في قوله: بِما كُنْتُمْ للسببية و «ما» مصدرية وتُعَلِّمُونَ من التعليم أو العلم على القراءتين فيعلم منه أن التعليم أو العلم أو الدراسة وهي القراءة توجب على صاحبها كونه ربانيا، والسبب لا محالة مغاير للمسبب فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانيا أمرا مغايرا لكونه عالما ومعلما ومواظبا على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 قراءة العلم، وما ذاك إلا بأن يكون تعلمه لله وتعليمه لله ودراسته لله. فمن اشتغل بالعلم والتعليم والدراسة لا لهذا الغرض خاب وخسر وكان السبب بينه وبين ربه منقطعا وكان مثله كمن غرس شجرة تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «نعوذ بالله من قلب لا يخشع ومن علم لا ينفع» «1» وفي الآية دليل على صحة قوله صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء» «2» تأمل تفهم بإذن الله. وَلا يَأْمُرَكُمْ من قرأ بالنصب فوجهان: أحدهما أن تجعل «لا» مزيدة لتأكيد النفي أي ما ينبغي لبشر أن ينصبه الله منصب الدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة ثم يخالفه إلى أن يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمركم أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً كما نقول: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ويستخف بي. والثاني أن يكون حرف النفي غير زائد فيرجع المعنى إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهي قريشا عن عبادة الملائكة، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح بحيث قالوا له: أنتخذك ربا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء، فيكون عدم الأمر في معنى النهي. ويراد بالنبيين غيره صلى الله عليه وسلم كأنه أخرج نفسه بتلك الدعوى عن زمرة الأنبياء. ومن قرأ بالرفع على الاستئناف فظاهر وتنصره قراءة عبد الله بن مسعود ولن يأمركم والضمير فيه على قراءة الرفع- قال الزجاج- لله. وقال ابن جريج لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: لعيسى. وإنما خص الملائكة والنبيين بالذكر لأن الذين وصفوا بعبادة غير الله لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة وعبادة المسيح. أَيَأْمُرُكُمْ أي البشر وقيل: الله بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ومعنى الاستفهام الإنكار أي إنه لا يفعل ذلك. قيل: وفيه دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسجدوا له. قلت: وضع الشيء ابتداء أسهل من رفع نقيضه ثم وضعه، فيحتمل أن يكون المراد ما صح ولا يعقل أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بعبادة نفسه أول ما استنبىء، فكيف يعقل أن يأمرهم بذلك بعد الفهم بالإسلام واستنارة باطنهم بنور الهدى والإيمان بالله؟ [سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 91] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)   (1) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث 73. أبو داود في كتاب الوتر باب 32. الترمذي في كتاب الدعوات باب 68. النسائي في كتاب الاستعاذة باب 2، 13. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 23. أحمد في مسنده (2/ 167) . (2) رواه البخاري في كتاب العلم باب 10. أبو داود في كتاب العلم باب 1. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 17. الدارمي في كتاب المقدمة باب 32. أحمد في مسنده (5/ 196) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 القراآت: لَما بكسر اللام حمزة والخزاعي. الباقون بفتحها. آتيناكم على صيغة جمع المتكلم: أبو جعفر ونافع. الباقون آتَيْتُكُمْ على الوحدة يَبْغُونَ بياء الغيبة وترجعون بتاء الخطاب مبنيا للمفعول: أبو عمرو غير عباس. وقرأ عباس وسهل وحفص بالياء التحتانية فيهما. وقرأ يعقوب يَبْغُونَ بالياء التحتانية يُرْجَعُونَ بالتحتانية مبنيا للفاعل. الباقون بتاء الخطاب فيهما. مِلْءُ بالهمزة الْأَرْضِ بغير الهمز. روى النجاري عن ورش وروى الأصفهاني عنه بغير همز فيهما. الباقون بالهمز فيهما. الوقوف: وَلَتَنْصُرُنَّهُ ط إِصْرِي ط أَقْرَرْنا ط الشَّاهِدِينَ هـ الْفاسِقُونَ هـ يُرْجَعُونَ هـ مِنْ رَبِّهِمْ ص مِنْهُمْ ج مُسْلِمُونَ هـ مِنْهُ ج لعطف المختلفتين الْخاسِرِينَ هـ الْبَيِّناتُ ط الظَّالِمِينَ هـ أَجْمَعِينَ هـ فِيها ج (لا) يُنْظَرُونَ هـ (لا) للاستثناء رَحِيمٌ هـ تَوْبَتُهُمْ ج الضَّالُّونَ هـ، افْتَدى بِهِ ط ناصِرِينَ هـ. التفسير: الغرض من هذه الآيات تعديد الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قطعا لأعذارهم وإظهارا لعنادهم من جملتها أخذ ميثاق النبيين. قال الزجاج: تقديره واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله. وقيل: واذكروا يا أهل الكتاب. وإضافة الميثاق إلى النبيين إما أن تكون من إضافة العهد الى المعاهد منه، أو من إضافة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 العهد إلى المعاهد كما تقول: ميثاق الله وعهد الله. أما الاحتمال الأول فيؤيده ما يشعر به ظاهر اللفظ من أن آخذ الميثاق هو الله والمأخوذ منهم النبيون وهو قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس. ثم على هذا القول ما نقل عن علي أنه ما بعث آدم ومن بعده من الأنبياء إلا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه. والذي يدل على صحته ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لقد جئتكم بها بيضاء نقية أما والله لو كان موسى بن عمران حيا لما وسعه إلا اتباعي» «1» فهذا على سبيل الفرض والتقدير، وهو أنهم لو كانوا أحياء لوجب عليهم الإيمان بمحمد وإلا فالميت لا يكون مكلفا. وقيل: المراد أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف، أو أمة النبيين فقد ورد كثيرا في القرآن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ويراد به الأمة كقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1] وقيل: النبيون أهل الكتاب وقد ورد على زعمهم تهكما بهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد صلى الله عليه وسلم لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون. ويؤكده قراءة أبي وابن مسعود وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب وأما الاحتمال الثاني فالمعنى أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به، ويؤكده أنه تعالى حكم بأنهم إن تولوا كانوا فاسقين وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء وإنما يليق بالأمم. وروي عن ابن عباس أنه قيل له: إن أصحاب عبد الله يقرأون وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ونحن نقرأ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ فقال: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم لَما آتَيْتُكُمْ من قرأ بفتح اللام ففيه وجهان: أحدهما: أن «ما» تكون موصولة واللام للابتداء وخبره لَتُؤْمِنُنَّ واللام فيه جواب القسم المقدور. والعائد الى الموصول في آتَيْتُكُمْ محذوف وفي جاءَكُمْ ما يدل عليه لِما مَعَكُمْ لأنه في معنى «ما آتيتكم» والتقدير للذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق له والله لتؤمنن به- وثانيهما- واختاره سيبويه وغيره- كيلا يفتقر إلى تكلف الرابط أن يقال: أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف. و «ما» هي المتضمنة لمعنى الشرط وحينئذ يحتاج القسم إلى الجواب والشرط إلى الجزاء، وليس هاهنا ما يصلح لكل منهما إلا الإيمان والنصرة. فالأصح في هذا المقام أن يجعل المذكور جوابا للقسم ظاهرا، ولهذا أدخل اللام والنون المؤكدة في «لتؤمنن» و «لتنصرن» وأدخل اللام في الشرط وتسمى موطئة لأنها تعين من أول الأمر وتمهد أن المذكور هو جواب القسم لا الشرط. ثم إن جواب الشرط يكون مستغنى عنه لأن جواب القسم يسد مسدّه. ومن قرأ بكسر اللام للتعليل ففيه أيضا وجهان: أحدهما أن تكون «ما»   (1) رواه ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 1، 6. أحمد في مسنده (4/ 126) . [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 مصدرية أي أخذ الله ميثاقهم لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم موافقا لكم في الأصول لتؤمنن به، لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء. والثاني أن تكون «ما» موصولة وبيان الرابط كما مر. وعن سعيد بن جبير لَما بالتشديد بمعنى «حين» . وقيل: أصله «لمن ما» أي لمن أجل ما آتيتكم. أدغمت النون في الميم فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفوا إحداها للتخفيف فيؤل المعنى إلى قراءة حمزة. وفي جميع القراآت قيل: لا بد من إضمار بأن يقال: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين فقال مخاطبا لهم لما آتيتكم. قلت: هذا من باب الالتفات فلا حاجة إلى الإضمار فكأنه قيل: وإذ أخذت أو أخذنا. ولما في أخذ الميثاق من معنى القول. ومن العلماء من قدر الإضمار بنوع آخر واستحسنه في التفسير الكبير مع أنه متكلف فقال: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتبلغن الناس ما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم إن جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه. والنبيون عام وليس كلهم أصحاب كتاب ولكنه وصف الكل بوصف أشرفهم، أو الكتاب لذوي الكتب والحكمة لغيرهم، أو جعل الداعي إلى الكتاب وإلى العمل به كالذي أنزل عليه الكتاب. و «من» للبيان أو للتبعيض. وقوله: ثُمَّ جاءَكُمْ والرسول لا يجيء إلى النبيين وإنما يجيء إلى الأمم معناه أي في زمانكم وإن كان المراد من النبيين أولادهم أو أممهم فلا إشكال. والمراد بتصديقه لما معهم موافقته في التوحيد والنبوات وأصول الشرائع. فأما تفاصيلها وإن وقع الخلاف فيها فذاك في الحقيقة ليس بخلاف لأن جميع الأنبياء متفقون على أن الحق في زمان موسى ليس إلا شرعه عليه السلام وأن الحق في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ليس إلا شرعه عليه السلام. ولو قلنا: إن المراد بالرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم فالمراد إما ما ذكرنا أو أن نعته وصفته وأحواله مذكورة في الكتب المتقدمة، فكان نفس مجيئه تصديقا لما كان معهم. والظاهر أن المراد بهذا الميثاق هو التوصية بأن يؤمنوا بكل رسول يجيء مصدقا لما معهم. وقيل: يحتمل أن يكون الميثاق إشارة إلى ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لأمر الله واجب، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولا عند ظهور المعجزات الدالة على صدقه، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه. وقيل: المراد بأخذ الميثاق أنه تعالى شرح صفاته صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء المتقدمين، فإذا صارت أحواله صلى الله عليه وسلم مطابقة لما جاء في الكتب الإلهية وجب الانقياد له صلى الله عليه وسلم، وهذا إنما يصح لو كان المراد بالنبيين أولادهم أو أممهم أو ميثاق النبيين من الأمم أو ميثاق الله من النبيين على تقدير كونهم أحياء. أقول والله أعلم: يحتمل أن يراد بقوله ثُمَّ جاءَكُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 المجيء في الزمان الماضي، فيكون معنى الآية أن الله تعالى أخذ ميثاقه من كل نبي أوتي كتابا وحكمة أن يؤمن بكل رسول كان قد جاء قبله موافقا لما معه وينصر دينه بأن يظهر حقيته في وقته وأنه من عند الله سبحانه وأنه موافق له في أصول العقائد وفي قواعد مكارم الأخلاق، فتكون هذه الآية تمهيدا لما يجيء بعد من قوله: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ الآية. قالَ الله أو كل نبي لأمته مستفهما بمعنى الأمر أَأَقْرَرْتُمْ بالإيمان به والنصرة؟ والإقرار في الشرع إخبار عن ثبوت حق سابق. وفي اللغة منقول بهمزة التعدية من قر الشيء يقر إذا ثبت ولزم مكانه. وَأَخَذْتُمْ أي قبلتم عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي عهدي. والأخذ بمعنى القبول كثير قال تعالى: لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ [البقرة: 48] أي لا يقبل. ويأخذ الصدقات أي يقبلها. سمي العهد إصرا لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد. ثم بعد المطالبة بالإقرار أكد ذلك بالإشهاد وقال: فَاشْهَدُوا أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار. وفي قوله: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وأنه لا يخفى عليه خافية، تذكير لهم وتوكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض. وقيل: فاشهدوا خطاب للملائكة. وقيل: معناه ليجعل كل أحد نفسه شاهدا على نفسه كقوله: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ [الأعراف: 172] وقيل: بينوا هذا الميثاق للخاص والعام حتى لا يبقى لأحد عذر في الجهل به. وأصله أن الشاهد هو الذي يبين تصديق الدعوى. وقيل: استيقنوا وكونوا كالمشاهد للشيء المعاين له، أو يكون خطابا للأنبياء بأن يكونوا شاهدين على الأمم. ثم ضم الى التوكيد الوعيد بقوله: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ الميثاق وصنوف التوكيد فلم يؤمن ولم ينصر فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن دين الله وطاعته، ووعيد الفساق المردة معلوم. ثم وبخ من خرج من دين الله إلى غيره بإدخال همزة الاستفهام على الفاء العاطفة فقال: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ويحتمل أن يراد أيتولون فغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون من قرأ بتاء الخطاب فيهما فلأن ما قبله خطاب في «أقررتم» و «أخذتم» أو للالتفات بعد قوله فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ومن قرأ بياء الغيبة فلرجوع الضمير في الأول إلى الفاسقين، وفي الثاني إلى جميع المكلفين. والأصل أفتبتغون غير دين الله؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الحوادث إلا أنه قدم المفعول لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو فائدة الهمزة هاهنا متوجه إلى الدين الباطل. وعن ابن عباس أن أهل الكتابين اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم، فكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به فقال صلى الله عليه وسلم: كل الفريقين بريء من دين إبراهيم. فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت. وعلى هذا تكون الآية كالمنقطعة عما قبلها، ولكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 الاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها. فالوجه أن هذا الميثاق لما كان مذكورا في كتبهم ولم يكن لكفرهم سبب إلا مجرد البغي والعناد، كانوا طالبين دينا غير دين الله، فاستنكر أن يفعلوا ذلك أو قرر أنهم يفعلون. ثم بيّن أن الإعراض عن دين الله خارج عن قضية العقل، وكيف لا وقد أخلص له تعالى الانقياد وخصص له الخضوع كل من سواه، لأن ما عداه كل ممكن وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه، فهو ذليل بين يدي قدرته، خاضع لجلال قدره في طرفي وجوده وعدمه عقلا كان أو نفسا أو روحا أو جسما أو جواهرا أو عرضا أو فاعلا أو فعلا. ونظير الآية وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: 15] فلا سبيل لأحد إلى الامتناع عن مراده طَوْعاً وَكَرْهاً وهما مصدران وقعا موقع الحال لأنهما من جنس الفعل أي طائعين وكارهين كقولك: أتاني ركضا أي راكضا. ولو قلت أتاني كلاما أي متكلما لم يجز لأن الكلام ليس من جنس الإتيان. فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدين وكرها في غيره من الآلام والمكاره التي تحالف طباعهم، لأنهم لا يمكنهم دفع قضائه وقدره. وأما الكافرون فينقادون في الدين كرها أي خوفا من السيف أو عند الموت أو نزول العذاب. وعن الحسن: الطوع لأهل السموات، والكره لأهل الأرض. أقول: وذلك لأن السفلي ينجذب بالطبع إلى السفل فحمله نفسه على ما يخالف طبعه هو الكره. وبلسان الصوفية من شاهد الجمال أسلم طوعا، ومن شاهد الجلال أسلم كرها. فليس الاعتبار بذلك الإسلام الفطري بل الاعتبار بهذا الإسلام الكسبي وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ أي إلى حيث لا مالك سواه ظاهرا وباطنا، وفيه وعيد شديد لمن خالف الدين الحق إلى غيره. ثم إنه سبحانه لما بين أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق كل رسول كان قبله، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليعرف منه غاية إذعانه ونهاية استسلامه. أما وجه التوحيد في قُلْ فظاهر، بناء على ما قلنا. وأما وجه الجمع في آمَنَّا فلتشريف أمته بانضمامهم معه في سلك الإخبار عن الإيمان، أو ليعلم أن هذا التكليف ليس من خواصه وإنما هو لازم لجميع المؤمنين كقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ [البقرة: 285] أو لإجلال قدر نبيه حيث أمر أن يتكلم عن نفسه كما يتكلم العظماء والملوك. وقدم الإيمان بالله لأنه أصل جميع العقائد، ثم ذكر الإيمان بما أنزل الله إليه لأن كتب سائر الأنبياء محرفة لا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بالفرقان المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الإيمان بما أنزل على مشاهير الأنبياء إذ لا سبيل إلى حصر الكل، وفي ذلك تنبيه على سوء عقيدة أهل الكتاب حيث فرقوا بين الأنبياء فصدقوا بعضا وكذبوا بعضا، ورمز إلى أنهم ليسوا من الدين في شيء حيث خالفوا مقتضى الميثاق. ثم إن قلنا إنه تعالى أخذ الميثاق على كل نبي أن يؤمن بكل رسول جاء بعده كما ذهب إليه الجمهور في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 تفسير قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمران: 81] فههنا قد أخذ الميثاق على محمد صلى الله عليه وسلم بأن يؤمن بكل رسول كان قبله ولم يؤخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده فيكون في الآية دليل على أنه لا نبي بعده. واعلم أن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فيجوز أن يعدّى أنزل ب «على» تارة كما في هذه الآية، وبحرف الانتهاء أخرى كما في البقرة. فنطق القرآن بالاعتبارين جميعا. وقيل: عدي هناك ب «إلى» لمكان قولوا فإن الوحي يأتي الأمة بطريق الانتهاء، وعدي هاهنا ب «على» لمكان قُلْ. فإن الرسول يأتيه الوحي بطريق الاستقلال وزيفه في الكشاف بقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [المائدة: 48] وبقوله: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران: 72] . والإنصاف أن هذا القائل لم يدع أن هذه المناسبة يجب اعتبارها في كل موضع وإنما ادعى اعتبارها في الموضعين فيصلح حجة للتخصيص والله أعلم. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فائدة تقديم الجار أن يعلم أن هذا الإذعان والإيمان والاستسلام لا غرض فيه إلا وجه الله دون شيء آخر من طلب المال والجاه، بخلاف أحبار اليهود الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا فليسوا من الإسلام في شيء وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ حيث فاته الثواب وحصل مكانه العقاب. والخاسرون هاهنا هم الكافرون فقط عند أهل السنة، ومع أصحاب الكبائر عند المعتزلة. وقد يستدل بالآية على أن الإيمان والإسلام واحد إذ لو كان الإيمان غير الإسلام كان غير مقبول، لأن كل ما هو غير الإسلام ليس بمقبول عند الله للآية. وقد ذكرنا مرارا أن النزاع لفظي لأن الإسلام إن أريد به الانقياد الكلي فلا فرق بينه وبين الإيمان كما في هذه الآية، وإن أريد به الإقرار باللسان فالفرق بناء على أن الاعتقاد القلبي داخل في مفهوم الإيمان، وعلى الفرق ورد قوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: 17] ثم بيّن وعيد من ترك الإسلام فقال: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ واختلف في سبب النزول، ففي رواية عن ابن عباس نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم، كفروا بالنبي بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه وكانوا يشهدون له بالنبوة فلما بعث وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا به بغيا وحسدا وعنادا ولددا. وفي رواية أخرى عنه: نزلت في رهط كانوا أسلموا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة، ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب بقوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا. وعن مجاهد قال: كان الحرث بن سويد قد أسلم وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لحق بقومه وكفر فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فحملهن إليه رجل من قومه فقرأهن عليه فقال الحرث: والله إنك لصدوق وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 لأصدق منك وإن الله أصدق الثلاثة، ثم رجع فأسلم إسلاما حسنا. قالت المعتزلة في الآية: إن أصولنا تشهد بأنه تعالى هدى جميع الخلق إلى الدين بمعنى التعريف ووضع الدلائل وإلا كان الكافر معذورا ولا يحسن ذمه على الكفر. ثم إنه حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار فلا بد من تفسير الآية بشيء أخر سوى نصب الدلائل. قالوا: فالمراد بهذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم على إيمانهم كما قال: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69] وقال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: 17] أو المعنى لا يهديهم إلى الجنة كقوله: وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ [النساء: 168] وقوله: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ [يونس: 9] وقال أهل السنة: المراد بالهداية خلق المعرفة. وقد جرت سنة الله في باب التكليف وفي دار العمل أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإنه الله يخلقه عقيب قصد العبد فكأنه تعالى قال: كيف يخلق الله فيهم المعرفة والهداية وهم قصدوا تحصيل الكفر وأرادوه؟ وقال أهل التحقيق: كيف يهدي الله إليه قوما احتجبوا بالصفات الإنسانية والطبائع الحيوانية عن الأخلاق الربانية. وقوله: وَشَهِدُوا عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل إذ هو في تقدير أن آمنوا كقوله تعالى: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقون: 10] ويجوز أن يكون الواو للحال بإضمار «قد» أي كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق. وكيفما كان فمعنى الآية يؤل إلى أنه تعالى لا يهدي قوما كفروا بعد الإيمان وبعد الشهادة بأن الرسول حق في نفسه غير باطل ولا مما يسوغ إنكاره بعد أن جاءتهم الشواهد الدالة على صدقه من القرآن وغيره، لكن الشهادة هي الإقرار باللسان، فيكون المراد من الإيمان هو التصديق بالقلب ليكون المعطوف مغايرا للمعطوف عليه. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الواضعين للشيء في غير موضعه وذلك أن الخصال الثلاث- أعني الإيمان والشهادة ومشاهدة المعجزات- توجب مزيد الإيمان بالنبي المبعوث في آخر الزمان لا الكفر والعناد. وفيه دليل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل ولهذا صرح في آخر الآية بأنه تعالى لا يهديهم بعد أن عرض بذلك في أول الآية، ثم أردفه بغاية الوعيد قائلا أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ إلى قوله: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وقد مر مثله في البقرة. وهذا تحقيق قول المتكلمين بأن العذاب الملحق بالكافر مضرة خالصة عن شوائب المنافع دائمة غير منقطعة. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الكفر العظيم. ولا يكفي التوبة وحدها حتى يضاف إليها العمل الصالح فلهذا قال: وَأَصْلَحُوا أي باطنهم مع الحق بالمراجعات، وظاهرهم مع الخلق بالعبادات، وأظهروا إنا كنا على الباطل حتى لو اغتر بطريقتهم المنحرفة مغتر رجع عنها. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ في الدنيا بالستر رَحِيمٌ في الآخرة بالعفو. أو غفور بإزالة العقاب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 رحيم بإعطاء الثواب. قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً ازدياد الكفر قد يراد به الإصرار على الكفر، وقد يراد به ضم كفر إلى كفره وهو المراد في الآية باتفاق عامة المفسرين. ثم اختلفوا فقيل: إنهم أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ثم كفروا به عند المبعث ثم ازدادوا كفرا بسبب طعنهم فيه كل وقت، وإنكارهم لكل معجز يظهر عليه إلى غير ذلك من تخليطاتهم وتغليطاتهم. وقيل: إن اليهود كانوا مؤمنين بموسى ثم كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. وهذا قول الحسن وقتادة وعطاء. وقيل: نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى مكة، وازديادهم الكفر أنهم قالوا: نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون. وقيل: عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق فسمى الله تعالى ذلك النفاق زيادة في الكفر. ثم إنه تعالى حكم في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين، وحكم تعالى في هذه الآية بعدم قبولها، وهذا يوهم التناقض. وأيضا ثبت بالدليل أن التوبة بشروطها مقبولة فما معنى قوله لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ قال الحسن وقتادة وعطاء: المراد بازدياد الكفر إصرارهم عليه فلا يتوبون إلا عند حضور الموت، والتوبة حينئذ لا تقبل لقوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء: 18] وقيل: هي محمولة على ما إذا تابوا باللسان لا عن الإخلاص. وقال القاضي والقفال وابن الأنباري: هي من تتمة قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا يريد أنه لو كفر بعد التوبة الأولى فإن التوبة الأولى لا تكون مقبولة. وقيل: لعل المراد أن التوبة من تلك الزيادة لا تكون مقبولة ما لم يتب عن الأصل المزيد عليه. أقول: ويحتمل أن يكون لن تقبل توبتهم جعل كناية عن الموت على الكفر كأنه قيل: إن اليهود والمرتدين المصرين على الكفر ما يتوبون عن الكفر لما في فعلهم من قساوة القلوب والإفضاء إلى الرين وانجراره إلى الموت على حالة الكفر. وفائدة هذه الكناية تصوير كونهم آيسين من الرحمة. هذا إذا خصصنا اليهود والمرتدين بالمصرين، أما على تقدير التعميم فنقول: إنما يجعل الموت على الكفر لازما لازدياد كفرهم لأن القضية حينئذ لا تكون كلية. فكم من مرتد أو يهودي مزداد الكفر لا بمعنى الإصرار يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر. فاكتفى بذكر لازم الموت على الكفر وهو عدم قبول التوبة حتى برز الكلام في معرض الكناية. ومن المعلوم أنها ذكر اللازم وإرادة الملزوم، وأنه لا بد للعدول من فائدة، فصح أن نبين فائدة العدول على وجه يصير القضية كلية وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار وإبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدها، ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف لأجل اليأس من الرحمة، وهذا هو الذي عول عليه في الكشاف. والحاصل أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 كأنه قيل: إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا من حقهم أن لا تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون الكاملون في الضلال، ضلوا في تيه الأوصاف البهيمية والأخلاق السبعية فلم يكادوا يخرجون منهما بقدم الإنابة. واعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام: أحدها الذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذي سيق لأجله الآية التي ردفها الاستثناء، وثانيها الذي يتوب توبة فاسدة وهو المذكور في قوله: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ على وجه. وثالثها الذي يموت على الكفر من غير توبة فذكره في الآية الأخيرة. وملء الشيء قدر ما يملؤه وذَهَباً نصب على التمييز. وربما يقال على التفسير. ومعناه أن يكون الكلام تاما إلا أنه يكون مبهما كقولك «عندي عشرون» فالعدد معلوم والمعدود مبهم. فإذا قلت «درهما» فسرت العدد. ومعنى الفاء في فَلَنْ يُقْبَلَ أن يعلم أن الكلام مبني على الشرط والجزاء، وإذا ترك كما في الآية الأولى فلعدم قصد التسبيب والاكتفاء بمجرد الحمل والوضع. هذا ما قاله النحويون ومنهم صاحب الكشاف. وليت شعري أنهم لو سئلوا عن تخصيص كل موضع بما خصص به فبماذا يجيبون؟ ولعل عقيدتهم في أمثال هذه المواضع أنها من الأسئلة المتقلبة وهو وهم. والسر في التخصيص هو أنه لما قيد في الجملة الثانية أنهم قد ماتوا على الكفر زيدت فاء السببية الجزائية تأكيدا للزوم وتغليظا في الوعيد والله أعلم. أما الواو في قوله وَلَوِ افْتَدى بِهِ فإنها تشبه عطف الشيء على نفسه لأنه كالمكرر، فلهذا كثر أقاويل العلماء فيه فقال الزجاج وابن الأنباري: إنها للعطف والتقدير: لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهبا لم ينفعه ذلك مع كفره ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه. وقيل: إنها لبيان التفصيل بعد الإجمال فإن إعطاء ملء الأرض ذهبا يحتمل الوجوه الكثيرة، فنص على نفي القبول بجهة الفدية. وقيل: إن الملوك قد لا يقبلون الهدية ويقبلون الفدية، فإذا لم يقبلوا الفدية كان ذلك غاية الغضب ونهاية السخط، فعبر بنفي قبول الفداء عن شدة الغضب. وقيل: إنه محمول على المعنى كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا. وقيل: يجوز أن يراد ولو افتدى بمثله كقوله: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ [الزمر: 47] والمثل يحذف كثيرا في كلامهم مثل: ضربت ضرب زيد. أي مثل ضربه. و «أبو يوسف أبو حنيفة» تريد مثله. كما أنه يراد به في نحو قولهم «مثلك لا يفعل» كذا أي أنت. وذلك أن المثلين يقوم أحدهما مقام الآخر في أغلب الأمور فكانا في حكم شيء واحد. فإن قيل: من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة شيئا، وبتقدير أن يملك فلا نفع في الذهب هناك، فما فائدة هذا الكلام؟ فالجواب أنه على سبيل الفرض والتقدير، والذهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 كناية عن أعز الأشياء. والمراد أنه لو قدر على أعز الأشياء وفرض أن في بذله نفعا للآخذ وأن المبذول في غاية الكثرة لعجز أن يتوصل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب ربه. ثم صرح بعقابهم ونفى من يشفع لهم فقال: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ قال أهل التحقيق: وماتوا أي ماتت قلوبهم أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بموت القلب وفقد المعرفة وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ على إحياء القلب بنور المعرفة حسبي الله ونعم الوكيل. تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع أوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 (بسم الله الرحمن الرحيم) الجزء الرابع من أجزاء القرآن الكريم [سورة آل عمران (3) : الآيات 92 الى 101] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) القراآت: أَنْ تُنَزَّلَ خفيفا: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون بالتشديد. حِجُّ الْبَيْتِ بكسر الحاء: يزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون بفتحها. الوقوف: تُحِبُّونَ ط عَلِيمٌ هـ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ ط صادِقِينَ هـ الظَّالِمُونَ هـ حَنِيفاً ط الْمُشْرِكِينَ هـ لِلْعالَمِينَ هـ ج لأن ما بعده يصلح حالا واستئنافا مَقامُ إِبْراهِيمَ ج للابتداء بالشرط مع الواو لأن الأمن من الآيات آمِناً ط سَبِيلًا ط لِلْعالَمِينَ هـ بِآياتِ اللَّهِ ط قد قيل: والوجه الوصل لأن الواو للحال تَعْمَلُونَ هـ شُهَداءُ ط تَعْمَلُونَ هـ كافِرِينَ هـ رَسُولُهُ ط لتناهي الاستفهام الى الشرط مُسْتَقِيمٍ هـ. التفسير: إنه سبحانه لما ذكر أن الإنفاق لا ينفع الكافر البتة، علّم المؤمنين كيفية الإنفاق الذي ينتفعون به في الآخرة وهو الإنفاق من أحب الأشياء إليهم. وهاهنا لطيفة وهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 أنه سبحانه وتعالى سمى جوامع خصال الخير برا في قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة: 177] الآية. وذكر في هذه الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فالمعنى أنكم وإن أتيتم بكل الخيرات لم تفوزوا بإحراز خصلة البر ولم تبلغوا حقيقتها حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثرونها. وكان السلف رحمهم الله إذا أحبوا شيئا جعلوه لله. يروى أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله، حائط لي بالمدينة- يعني بيرحاء- وهو أحب أموالي إليّ صدقة. فقال صلى الله عليه وسلم: بخ بخ. ذاك مال رابح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. فقال أبو طلحة: افعل يا رسول الله. فقسمها صلى الله عليه وسلم في أقاربه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم جعلها بين حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب. وروي أن زيد بن حارثة جاء عند نزول الآية بفرس له كان يحبه وجعله في سبيل الله، فجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد. فوجد زيد في نفسه وقال: إنما أردت أن أتصدق به. فقال صلى الله عليه وسلم: أما إن الله قد قبلها منك. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى، فلما رآها أعجبته فقال: إن الله تعالى يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فأعتقها ولم يصب منها. ونزل بأبي ذرّ ضيف فقال للراعي: ائتني بخير إبلي. فجاء بناقة مهزولة فقال: خنتني. فقال: وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوم حاجتك إليه. فقال: إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي. وفي تفسير البر قولان: أحدهما ما به يصيرون أبرارا ليدخلوا في قوله: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار: 13] فيكون المراد بالبر ما يصدر منهم من الأعمال المقبولة المذكورة في قوله: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ [البقرة: 177] وجملتها التقوى لقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177] والثاني الجنة أي لن تنالوا ثواب البر. وقيل: المراد بر الله أولياءه وإكرامه إياهم من قول الناس «برني فلان بكذا وبر فلان لا ينقطع عني» . وقال تعالى: أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا [البقرة: 224] و «من» في قوله: مِمَّا تُحِبُّونَ للتبعيض نحو: أخذت من المال. ويؤيده قراءة عبد الله بن مسعود بعض ما تحبون وفيه أن إنفاق كل المال غير مندوب بل غير جائز لمن يحتاج إليه. والمراد بما تحبون قال بعضهم: هو نفس المال لقوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8] وقيل: هو ما يكون محتاجا إليه كقوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الدهر: 8] وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] وقيل: هو أطيب المال وأرفعه كما مر. وعن ابن عباس: أراد به الزكاة أي حتى تخرجوا زكاة أموالكم. ويرد عليه أنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها. وقال الحسن: هو كل ما أنفقه المسلم من ماله يطلب به وجه الله. ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي انها منسوخة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 بآية الزكاة. وضعف بأن إيجاب الزكاة لا ينافي الترغيب في بذل المحبوب لوجه الله. و «من» في مِنْ شَيْءٍ للتبيين يعني من أي شيء كان، طيب أو خبيث فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم بحسبه أو يعلم الوجه الذي لأجله تنفقون من الإخلاص أو الرياء. ثم إنه سبحانه بعد تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب، أجاب عن شبهة للقوم وتقرير ذلك من وجوه: أحدها أنهم كانوا يعوّلون في إنكار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على إنكار النسخ، فأورد عليهم أن الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان حلالا ثم صار حراما عليه وعلى أولاده وهو النسخ. ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال زعموا أن ذلك كان حراما من لدن آدم ولم يحدث نسخ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يطالبهم بإحضار التوراة إلزاما لهم وتفضيحا ودلالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أميا فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخبر من السماء. وثانيها أن اليهود قالوا له: إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها وتفتي بحلها مع أن ذلك كان حراما في دين إبراهيم؟ فأجيبوا بأن ذلك كان حلالا لإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب. إلا أن يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب، وبقيت تلك الحرمة في أولاده، فأنكروا ذلك فأمروا بالرجوع الى التوراة. وثالثها لما نزل قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] وقوله: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [الأنعام: 146] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه إنما حرم عليهم كثير من الأشياء جزاء لهم على بغيهم وظلمهم. غاظهم ذلك واشمأزوا وامتعضوا من قبل أن ذلك يقتضي وقوع النسخ. ومن قبل أنه تسجيل عليهم بالبغي والظلم وغير ذلك من مساويهم. فقالوا: لسنا بأول من حرمت هي عليه وما هو إلا تحريم قديم فنزلت كُلُّ الطَّعامِ أي المطعومات كلها لدلالة كل على العموم وإن كان لفظه مفردا سواء قلنا الاسم المفرد المحلى بالألف واللام يفيد العموم أولا. والطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل. وعن بعض أصحاب أبي حنيفة: إنه اسم البر خاصة. ويرد عليه أن المستثنى في الآية من الطعام كان شيئا سوى الحنطة وما يتخذ منها. قال القفال: لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحة لهم مع أنها طعام، وكذا القول في الخنزير، فيحتمل أن يكون المراد الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت نبينا صلى الله عليه وسلم أنها كانت محرمة على إبراهيم صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا يكون اللام في الطعام للعهد لا للاستغراق. والحل مصدر كالعز والذل ولذا استوى فيه الواحد والجمع. قال تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ [الممتحنة: 10] والوصف بالمصدر يفيد المبالغة. وأما الذي حرم إسرائيل على نفسه فروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعقوب مرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 مرضا شديدا فنذر لئن عافاه الله ليحرّمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحمان الإبل وألبانها. وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل. وقيل: كان به عرق النسا فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل شيئا من العروق. وجاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر. وهاهنا سؤال وهو أن التحريم والتحليل خطاب الله تعالى، فكيف صار تحريم يعقوب سببا للحرمة؟ فأجاب المفسرون بأن الأطباء أشاروا إليه باجتنابه ففعل وذلك بإذن من الله فهو كتحريم الله ابتداء. وأيضا لا يبعد أن يكون تحريم الإنسان سببا لتحريم الله كالطلاق والعتاق في تحريم المرأة والجارية. وأيضا الاجتهاد جائز على الأنبياء لعموم فَاعْتَبِرُوا [الحشر: 2] ولقوله في معرض المدح لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83] ولأن الاجتهاد طاعة شاقة فيلزم أن يكون للأنبياء منها نصيب أوفر لا سيما ومعارفهم أكثر، وعقولهم أنور، وأذهانهم أصفى، وتوفيق الله وتسديده معهم أوفى. ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد عن الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته. والأظهر أن ذلك التحريم ما كان بالنص وإلا لقيل: إلا ما حرمه الله على إسرائيل. فلما نسب إلى إسرائيل دل على أنه باجتهاده كما يقال: الشافعي يحلل لحم الخيل، وأبو حنيفة يحرّمه. وقال الأصم: لعلّ نفسه كانت تتوق إلى هذه الأنواع فامتنع من أكلها قهرا للنفس كما يفعله الزهاد، فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم. وزعم قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده: احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب، فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب. ومعنى قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ إن هذا الاستثناء إنما كان قبل نزول التوراة، أما بعده فلم يبق كذلك بل حرم الله عليهم أنواعا كثيرة بدليل قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا [النساء: 160] إلى آخر الآية. ثم إن القوم نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الله تعالى فأمروا بالرجوع إلى كتابهم كما سبق تقريره، فروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة فبهتوا فلزمت الحجة عليهم وظهر إعجاز النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه، فلهذا قال: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الذي ظهر من الحجة الباهرة فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الواضعون الباطل في موضع الحق، والكذب في مقام الصدق والعناد في محل الإنصاف. وأيضا إن تكذيبهم وافتراءهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن يقتدي بهم من أشياعهم قُلْ صَدَقَ اللَّهُ في جواب الشبه الثلاث وفيه تعريض بكذبهم فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وهي التي عليها محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبعه حتى تتخلصوا من اليهودية التي فيها فساد دينكم ودنياكم حيث ألجأتكم الى تحريف كتاب الله لأغراضكم الفاسدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلت لإبراهيم ولمن يقتدي به وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وفيه تنبيه على أن محمدا صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيم في الفروع لما ثبت أن الذي حكم صلى الله عليه وسلم بحله حكم إبراهيم بحله. وفي الأصول لأن محمدا وإبراهيم كليهما صلى الله عليهما وسلم لا يدعون إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى، خلاف اليهود والنصارى، وخلاف عبدة الأوثان والكواكب. قوله سبحانه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ قال مجاهد: هو جواب عن شبهة أخرى لليهود وذلك أنهم قالوا: بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وأرض المحشر وقبلة الأنبياء. فكان تحويل القبلة منه إلى الكعبة كالطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن الآية المتقدمة سيقت لجواز النسخ، وإن أعظم الأمور التي أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخها هو القبلة، فذكر عقيب ذلك ما لأجله حولت القبلة إلى الكعبة. وقيل: لما انجر الكلام في الآية المتقدمة إلى قوله: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ وكان الحج من أعظم شعائر ملته، أردفها بفضيلة البيت ليفرع عليها إيجاب الحج. وقيل: زعم كل من اليهود والنصارى أنه على ملة إبراهيم، فبين الله تعالى ما يدل على كذبهم من حيث إن حج البيت كان من ملة إبراهيم وأهل الكتاب لا يحجون. قالت العلماء: الأول هو الفرد السابق، فلو قال: أول عبد أشتريه فهو حر. فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق واحد منهما لفقد قيد الفرد. ولو اشترى في المرة الثانية عبدا واحدا لم يعتق أيضا لفقدان قيد السابق. ومعنى كونه موضوعا للناس أنه جعل متعبدهم وموضع طاعتهم يتوجهون نحوه من جميع الأقطار، وليس كل أول يقتضي أن يكون له ثان فضلا أن يشاركه في جميع خواصه، فلا يلزم من كونه أول أن يكون بيت المقدس مثلا ثانيا له ولا مشاركا في وجوب الحج والاستقبال وغيرهما من الخواص. ثم إن كونه أول بيت وضع للناس يحتمل أن يكون المراد أنه أول في البناء والوضع، ويحتمل أن يراد أنه أول في الوضع وإن كان متأخرا في البناء، فلا جرم حصل فيه للمفسرين قولان: الأول أنه أول في بنائه ووضعه جميعا. روى الواحدي رحمه الله في البسيط بإسناده عن مجاهد أنه قال: خلق الله هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين. وفي رواية أخرى: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى. وروى أيضا عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن آبائه قال: إن الله تعالى بعث ملائكة فقال: ابنوا لي في الأرض بيتا على مثال البيت المعمور. وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور. وهذا كان قبل خلق آدم وقد ورد في سائر كتب التفسير عن عبد الله بن عمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 ومجاهد والسدي أنه أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء، وقد خلقه الله قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض من تحته. وعن الزهري قال: بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم ثلاثة صفوح في كل صفح منها كتاب. في الصفح الأول: «أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء وباركت لأهلها في اللحم واللبن» . وفي الثاني: «أنا الله ذو بكة، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي. من وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته» . وفي الثالث: «أنا الله ذو بكة خلقت الجن والإنس فطوبى لمن كان الخير على يديه وويل لمن كان الشر على يديه» . وقد يستدل على صحة هذا القول بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض. وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجودها ولأنه تعالى سماها أم القرى، وهذا يقتضي سبقها على سائر البقاع، ولأن تكليف الصلاة كان ثابتا في أديان جميع الأنبياء. وأيضا قال تعالى في سورة مريم أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ إلى قوله: خَرُّوا سُجَّداً [مريم: 58] والسجدة لا بد لها من قبلة. فلو كانت قبلتهم غير الكعبة لم تكن هي أول بيت وضع للناس هذا محال خلف. القول الثاني: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أول مسجد وضع للناس؟ فقال: «المسجد الحرام ثم بيت المقدس فسئل كم بينهما؟ قال: أربعون سنة» «1» وعن علي أن رجلا قال له: هو أول بيت؟ قال: لا. قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا، فيه الهدى والرحمة والبركة. واعلم أن الغرض الأصلي من ذكر هذه الأوّلية بيان الفضيلة وترجيحه على بيت المقدس. ولا تأثير لأولية البناء في هذا المقصود، وإن كان الأرجح ثبوت تلك الأولية أيضا كما روينا آنفا، وفي سورة البقرة أيضا من الأخبار والآثار. فمن فضائل البيت أن الآمر ببنائه الرب الجليل، والمهندس جبرائيل، وبانيه إبراهيم الخليل وتلميذه ابنه إسماعيل. ومنها أنه محل إجابة الدعوات ومهبط الخيرات والبركات، ومصعد الصلوات والطاعات، ومنها مقام إبراهيم كما يجيء، ومنها قلة ما يجتمع من حصى الجمار فيه فإنه منذ ألف سنة يرمي في كل سنة خمسمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير. وليس الموضع الذي يرمى إليه الجمرات مسيل ماء أو مهب رياح شديدة. وقد جاء في الآثار أن كل من كانت حجته مقبولة رفعت جمراته إلى السماء. ومنها أن الطيور تترك المرور فوق الكعبة وتنحرف عنها البتة إذا   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 10، 40. مسلم في كتاب المساجد حديث 1، 2. النسائي في كتاب المساجد باب 3. ابن ماجه في كتاب المساجد باب 7. أحمد في مسنده (5/ 150) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 وصلت إلى محاذاتها. ومنها أن الحيوانات المتضادة في الطبائع لا يؤذي بعضها بعضا عنده كالكلاب والظباء. ومنها أمن سكانها فلم ينقل البتة أن ظالما هدم الكعبة أو خرب مكة بالكلية، وأما بيت المقدس فقد هدمه بختنصر بالكلية، وقصة أصحاب الفيل سوف تجيء في موضعها إن شاء العزيز. ومنها أنه تعالى وضعها بواد غير ذي زرع لفوائد منها: أنه قطع بذلك رجاء أهل حرمه وسدنة بيته عمن سواه حتى لا يتوكلوا إلا على الله. ومنها أنه مع كونه كذلك يجبى إليه ثمرات كل شيء وذلك بدعوة خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم وإنه من أعظم الآيات. ومنها أن لا يسكنها أحد من الجبابرة لأنهم يميلون إلى طيبات الدنيا، فيبقى ذلك الموضع المنيف والمقام الشريف مطهرا عن لوث وجود أرباب الهمم الدنية. ومنها أن لا يقصدها الناس للتجارة بل يأتون لمحض العبادة والزيارة. ومنها أنه تعالى أظهر بذلك شرف الفقر حيث وضع أشرف البيت في أقل المواضع نصيبا من الدنيا فكأنه تعالى يقول: جعلت الفقراء في الدنيا أهل البلد الأمين لأجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين. ومنها كأنه قيل: كما لم أجعل الكعبة إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في قلب خال عن محبة الدنيا لَلَّذِي بِبَكَّةَ. للبيت الذي ببكة. قال في الكشاف: وهي علم للبلد الحرام. ومكة وبكة لغتان كراتب وراتم. وضربة لازم ولازب مما يعتقب فيه الميم والباء لتقارب مخرجهما. وقيل: مكة البلد وبكة موضع المسجد. وفي الصحاح بكة اسم لبطن مكة. وأما اشتقاق بكة فمن قولهم بكه إذا زحمه ودفعه، وعن سعيد بن جبير: سميت بكة لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة. قال بعضهم: رأيت محمد بن علي الباقر يصلي. فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال: دعها فإنها سميت بكة لأنه يبك بعضهم بعضا، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي ولا بأس بذلك في هذا المكان. ويؤكد هذا قول من قال: إن بكة موضع المسجد لأن المطاف هناك وفيه الازدحام. ولا شك أن بكة غير البيت لأن الآية تدل على أن البيت حاصل في بكة، والشيء لا يكون ظرفا لنفسه. وقيل: سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها، لم يقصدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه. وأما مكة فاشتقاقها من قولك أمتك الفصيل ضرع أمه إذا امتص ما فيه واستقصى، فسميت بذلك لأنها تجذب الناس من كل جانب وقطر أو لقلة مائها كأن أرضها امتصت ماءها. وقيل: إن مكة وسط الأرض، والعيون والمياه تنبع من تحتها، فكأن الأرض كلها تمك من ماء مكة. ثم إنه تعالى وصف البيت بكونه مباركا وهدى للعالمين. أما انتصابه فعلى الحال من الضمير المستكن في الظرف، لأن التقدير للذي ببكة هو والعامل فيه معنى الاستقرار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 وأما معناه فالبركة إما النمو والتزايد وكثرة الخير، وإما البقاء والدوام. وكل شيء ثبت ودام فقد برك، ومنه برك البعير إذا وضع صدره على الأرض والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها، وتبارك الله لثبوته لم يزل ولا يزال، والبيت مبارك لما يحصل لمن حجه واعتمره وعكف عنده وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب. قال صلى الله عليه وسلم «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» وقال صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» «1» ولو استحضر العاقل في نفسه أن الكعبة كالنقطة وصفوف المتوجهين إليها في الصلوات في أقطار الأرض وأكنافها ولعمري إنها غير محصورة كالدوائر المحيطة بالمركز، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية، وقلوبهم قدسية، وأسرارهم نورانية، وضمائرهم ربانية، علم أنه إذا توجهت تلك الأرواح الصافية إلى كعبة المعرفة واستقبلت أجسادهم هذه الكعبة الحسية، اتصلت أنوار أولئك الأرواح بنوره وعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره. قال القفال: يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص: 57] فيكون كقوله: إِلَى الْأَرْضِ [الأنبياء: 71] المقدسة الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأنبياء: 71] وإن فسرنا البركة بالدوام فلا شك أنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود. وإذا كانت الأرض كرة وكل آن يفرض فإنه صبح لقوم ظهر لآخرين وعصر لغيرهم أو مغرب أو عشاء، فلا تخلو الكعبة عن توجه قوم إليها البتة. وأيضا بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفا من السنين دوام. وأما كونه هدى للعالمين فلأنه قبلتهم ومتعبدهم أو لأنه يدل على وجود الصانع وصدق محمد صلى الله عليه وسلم بما فيه من الآيات والأعاجيب، أو لأنه يهدي إلى الجنة. ومعنى هدى هاديا أو ذا هدى قاله الزجاج، وجوز أن يكون محله رفعا أي وهو هدى فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ يحتمل أن يراد بها ما عددنا من بعض فضائله، ويكون قوله: مَقامُ إِبْراهِيمَ غير متعلق بما قبله، فكأنه قيل فيه آيات بينات ومع ذلك فهو مقام إبراهيم وموضعه الذي اختاره وعبد الله فيه. وقال الأكثرون إن الآيات بيانه وتفسيره قوله: مَقامُ إِبْراهِيمَ إما بأن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لأنه معجز رسول وكل معجز ففيه دليل أيضا على علم الصانع وقدرته وإرادته وحياته وتعاليه عن مشابهة المحدثات، فلقوة هذا الدليل عبر عنه بلفظ الجمع كقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] وإما بأن يجعل المقام مشتملا على آيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء   (1) رواه البخاري في كتاب العمرة باب 1. مسلم في كتاب الحج حديث 437. الترمذي في كتاب الحج باب 2، 88. النسائي في كتاب الحج باب 3، 5. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 3. الدارمي في كتاب مناسك الحج باب 7. الموطأ في كتاب الحج حديث 65. أحمد في مسنده (1/ 387) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية وإبقاء هذا الأثر دون آثار سائر الأنبياء آية لإبراهيم خاصة، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوفا من السنين آية. قال الزجاج: قوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً من تتمة تفسير الآيات. وهذه الجملة وإن كانت من مبتدأ وخبر أو من شرط وجزاء إلا أنها في تقدير مفرد من حيث المعنى. فكأنه قيل: فيه آيات بينات وأمن من دخله كما لو قلت: فيه آية بينة من دخله كان آمنا كان معناه فيه آية بينة أمن من دخله. وهذا التفسير بعد تصحيحه مبني على أن الاثنين جمع كما قال صلى الله عليه وسلم: «الاثنان فما فوقهما جماعة» وفي القرآن هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا [الحج: 19] وقيل: ذكر آيتان وطوى ذكر غيرهما. دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة» «1» ومنهم من تمم الثلاثة فقال: مقام إبراهيم وأمن من دخله وإن لله على الناس حجه. وقال المبرد: مقام مصدر فلم يجمع والمراد مقامات إبراهيم هي ما أقامه من المناسك، فالمراد بالآيات شعائر الحج. وقرأ ابن عباس وأبي ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة آية بينة على التوحيد قاله في الكشاف. وفيه توكيد لكون مقام إبراهيم وحده بيانا. وأما حديث «أمن من دخله» فقد مر اختلاف العلماء فيه في سورة البقرة في قوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة: 125] وقيل: كان آمنا من النار لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا» وعنه صلى الله عليه وسلم: «الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة» وهما مقبرتا مكة والمدينة. وعن ابن مسعود: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة فقال: «يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر» وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام» . وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ لما ذكر فضائل البيت أردفه بإيجاب الحج وفيه لغتان: الفتح لغة الحجاز، والكسر لغة نجد، وكلاهما مصدر كالمدح والذم والذكر والعلم. وقيل: المكسور اسم للعمل، والمفتوح مصدر. ومحل مَنِ اسْتَطاعَ خفض على البدل عَلَى النَّاسِ والمعنى: ولله على من استطاع من الناس حج البيت. وقال الفراء: يجوز أن ينوي الاستئناف بمن والخبر، أو الجزاء محذوف لدلالة ما قبله عليه والتقدير: من استطاع إليه سبيلا فلله عليه حج البيت. وقال ابن الأنباري: يحتمل أن يكون محله رفعا على البيان   (1) رواه النسائي في كتاب عشرة النساء باب 1. أحمد في مسنده (3/ 128، 199) بدون لفظ «ثلاث» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 كأنه قيل: من الناس الذين عليهم لله حج البيت؟ فقيل: هم من استطاع. والضمير في إِلَيْهِ للبيت أو الحج. واستطاعة السبيل إلى الشيء هي إمكان الوصول إليه. واحتج أصحاب الشافعي بالآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لأن الناس يعم المؤمن والكفار وعدم الإيمان لا يصلح أن يكون معارضا ومخصصا لهذا العموم لأن الدهري مكلف بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. مع أن شرط صحة الإيمان بمحمد غير حاصل، والمحدث مكلف بالصلاة مع أن الوضوء الذي هو شرط صحة الصلاة ليس بحاصل. واحتج جمهور المعتزلة بالآية على أن الاستطاعة قبل الفعل لأنها لو كانت مع الفعل لكان من لم يحج لم يكن مستطيعا للحج فلا يتناوله التكليف المذكور وذلك باطل بالاتفاق. أجاب الأشاعرة بأن هذا أيضا لازم عليكم لأن القادر إما أن يكون مأمورا بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل وهو محال لأنه تكليف بما لا يطاق، أو بعد حصوله وحينئذ يكون الفعل واجب الحصول فلا يكون في التكليف به فائدة. وإذا كانت الاستطاعة منتفية في الحالين وجب أن لا يتوجه التكليف. والحق أن وجوب الفعل بالقدرة والإرادة لا ينافي توجيه التكليف إليه. واعلم أن الحج لا يجب بأصل الشرع في العمر إلا مرة واحدة لما روي عن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج. فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: لو قلتها لو جبت ولو وجبت لم تعملوا بها. الحج مرة فمن زاد فتطوع» «1» وقد يجب أكثر من مرة واحدة لعارض كالنذور والقضاء. ولصحة الحج على الإطلاق شرط واحد وهو الإسلام، فلا يصح حج الكافر كصومه وصلاته. ولا يشترط فيها التكليف بل يجوز للولي أن يحرم عن المجنون وعن الصبي الذي لا يميز وحينئذ يصح حجهما لما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة وهي في محفتها، فأخذت بعضد صبي كان معها فقالت: ألهذا حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم ولك أجر. وعن جابر قال: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم. ولصحة المباشرة شرط زائد على الإسلام وهو التمييز. فلا تصح مباشرة الحج من المجنون والصبي الذي لا يميز كسائر العبادات، ويصح من الصبي المميز أن يحرم ويحج بإذن الولي، ولا يشترط فيها الحرية كسائر العبادات. ولوقوعه عن حجة الإسلام شرطان زائدان: البلوغ والحرية لقوله صلى الله عليه وسلم: «أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام، وأيما عبد   (1) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة 5 باب 15. النسائي في كتاب المناسك باب 1. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 2. الدارمي في كتاب المناسك باب 4. أحمد في مسنده (1/ 255، 291) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام» والمعنى فيه أن الحج عبادة عمر لا تتكرر فاعتبر وقوعها في حالة الكمال، ولأن التكليف تابع للتمييز فشرط هذا الحكم إذن يعود إلى ثلاثة: الإسلام والتكليف والحرية. ولو تكلف الفقير الحج وقع حجه عن الفرض كما لو تحمل الغني خطر الطريق وحج، وكما لو تحمل المريض المشقة وحضر الجمعة. ولوجوب حجة الإسلام شرط زائد على الثلاثة المذكورة آنفا وهو الاستطاعة بالآية. والاستطاعة نوعان: استطاعة مباشرته بنفسه واستطاعة تحصيله بغيره. النوع الأول يتعلق به أمور أربعة: أحدها الراحلة، والناس قسمان: أحدهما من بينه وبين مكة مسافة القصر فلا يلزمه الحج إلا إذا وجد راحلة سواء كان قادرا على المشي أو لم يكن لما روي أنه صلى الله عليه وسلم فسر استطاعة السبيل إلى الحج بوجود الزاد والراحلة. نعم لو كان قادرا على المشي يستحب له أن لا يترك الحج. وعند مالك القوي على المشي يلزمه الحج. ويعتبر مع وجدان الراحلة وجدان المحمل أيضا إن كان لا يستمسك على الراحلة ويلحقه مشقة شديدة. ثم العادة جارية بركوب اثنين في المحمل. فإن وجد مؤنة محمل أو شق محمل ووجد شريكا يجلس في الجانب الآخر لزمه الحج، وإن لم يجد الشريك فلا. القسم الثاني من ليس بينه وبين مكة مسافة القصر. فإن كان قويا على المشي لزمه الحج وإلا فلا يجب إلا مع الراحلة أو معها ومع المحمل كما في حق البعيد. والمراد بوجود الراحلة أن يقدر على تحصيلها ملكا أو استئجارا بثمن المثل أو بأجرة المثل وكذا في المحمل. المتعلق الثاني: الزاد وأوعيته وما يحتاج إليه في السفر مدة ذهابه وإيابه سواء كان له أهل أو عشيرة يرجع إليهم أو لا فحب الوطن من الإيمان. وكذا الراحلة للإياب وأجرة البذرقة. كل ذلك بعد قضاء جميع الديون ورد الودائع ونفقة من يلزمه نفقتهم حينئذ إلى العود، وبعد مؤن النكاح إن خاف العنت، وبعد مسكنه ودست ثوب يليق به وخادم يحتاج إليه لزمانته أو لمنصبه. ولو كان له رأس مال يتجر فيه وينفق من ربحه ولو نقص لبطلت تجارته، أو كان له مستغلات يرتفق منها نفقته، فالأصح عند الأئمة أنه يكلف بيعها لأن واجد للزاد والراحلة في الحال ولا عبرة لخوف الفقر في الاستقبال. المتعلق الثالث: الطريق ويشترط فيه غلبة ظن الأمن على النفس من نحو سبع وعدو، والأمن على المال من عدو أو رصديّ وإن رضي بشيء يسير، والأمن على البضع للمرأة بخروج زوج أو محرم أو نسوة ثقات. وفي البحر يعتبر غلبة السلامة وفي البر وجود علف الدابة. المتعلق الرابع: البدن ويشترط فيه أن يقوى على الاستمساك على الراحلة، فإن ضعف عن ذلك لمرض أو غيره فهو غير مستطيع للمباشرة. ولا بد للأعمى من قائد، وعند أبي حنيفة لا حج عليه. ويروى أنه يستنيب قال الأئمة: لا بد مع الشرائط من إمكان المسير وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 أن يبقى من الزمان بعد الاستطاعة ما يمكنه المسير فيه إلى الحج به السير المعهود، فإن احتاج إلى أن يقطع في يوم مرحلتين أو أكثر لم يلزمه الحج. ولو خرجت الرفقة قبل الوقت الذي جرت عادة أهل بلده بالخروج فيه لم يلزمه الخروج معهم. ووجوب الحج في العمر كالصلاة في وقتها، فيجوز التراخي لكنه إن دامت الاستطاعة وتحقق الإمكان ولم يحج حتى مات عصى على الأظهر وإن كان شابا. وقال أحمد ومالك وأبو حنيفة في رواية: إنه على الفور. حجة الشافعي أن فريضة الحج نزلت سنة خمس من الهجرة وأخره النبي صلى الله عليه وسلم من غير مانع فإنه خرج إلى مكة سنة سبع لقضاء العمرة ولم يحج وفتح مكة سنة ثمان، وبعث أبا بكر أميرا على الحاج سنة تسع وحج هو سنة عشر وعاش بعدها ثمانين يوما. وأما النوع الثاني فهو استطاعة الاستنابة فإنها جائزة في الحج وإن كانت العبادات بعيدة عن الاستنابة، لأن المحجوج عنه قد يكون عاجزا عن المباشرة بسبب الموت أو الكبر أو زمانة أو مرض لا يرجى زواله. وعن ابن عباس أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، إن أختي نذرت أن تحج وماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ فقال: لو كان على أختك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فاقضوا حق الله تعالى فهو أحق بالقضاء» «1» وعنه أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن فريضة الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم. وقد تكون الاستنابة بطريق الاستئجار لأنه عمل يدخله النيابة فيجري فيه الاستئجار كتفريق الزكاة. وعند أبي حنيفة وأحمد لا يجوز ولكن يرزق عليه. ولو استأجر كان ثواب النفقة للآمر وسقط عنه الخطاب بالحج ويقع الحج عن الحاج. والحج بالرزق أن يقول: حج عني وأعطيك نفقتك. وهذا أيضا جائز عند الشافعي كالإجارة، ولكن لا يجوز أن يقول استأجرتك بالنفقة لأنها مجهولة. والأجرة لا بد أن تكون معلومة. فهذا جملة الكلام في الاستطاعة عند الجمهور. وعن الضحاك: إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع، وقيل له في ذلك فقال: إن كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه بل كان ينطلق إليه ولو حبوا، فكذلك يجب عليه الحج. وفي الآية أنواع من التوكيد والتغليظ منها قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ أي حق واجب له عليهم لكونه إلها فيجب عليهم الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أم لم يعرفوا فإن كثيرا من أعمال الحج تعبد محض. ومنها بناء الكلام على الأبدال ليكون تثنية للمراد   (1) رواه البخاري في كتاب الأيمان باب 30. أبو داود في كتاب الأيمان باب 19. أحمد في مسنده (1/ 252) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 وتفصيلا بعد الإجمال وإيراد للغرض في صورتين تقريرا له في الأذهان. ومنها ذكر من كفر مكان من لم يحج وفيه من التغليظ ما فيه ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا» ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» «1» ومنها إظهار الغنى وتهويل الخطب بذكر اسم الله دون أن يقول: «فإنه» أو «فإني» فإنه يدل على غاية السخط والخذلان. ومنها وضع المظهر مقام المضمر حيث قال: عَنِ الْعالَمِينَ. ولم يقل «عنه» لأنه تعالى إذا كان غنيا عن كل العالمين فلأن يكون غنيا عن طاعة ذلك الواحد أولى. ومن العلماء من زعم أن هذا الوعيد عام في حق كل من كفر ولا تعلق له بما قبله، ومنهم من حمله على اعتقاد عدم وجوب الحج ويؤكده ما روي عن سعيد بن المسيب إنها نزلت في اليهود قالوا: إن الحج إلى مكة غير واجب. وعن الضحاك: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان الستة. المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين- فخطبهم وقال: إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا. فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس وقالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه. فنزلت وَمَنْ كَفَرَ. ومن الأحاديث الواردة في تأكيد أمر الحج قوله صلى الله عليه وسلم: «حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة» وروي «حجوا قبل أن لا تحجوا حجوا قبل أن يمنع البر جانبه» أي يتعذر عليكم الذهاب إلى مكة من جانب البر لعدم الأمن أو غيره. وعن ابن مسعود: حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت أي هلكت. وعن عمر: لو ترك الناس الحج عاما واحدا ما نوظروا أي عجل عقوبتهم ويستأصلون. ثم إنه سبحانه لاين أهل الكتاب في الخطاب فقال: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ التي دلتكم على صدق محمد صلى الله عليه وسلم بعد ظهور البينات ودحوض الشبهات، أو بعد معرفة فضيلة الكعبة ووجوب الحج؟ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه. وهذه الحال توجب أن لا تجسروا على الكفر بآياته ودلالتها على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم وبخهم على إضلالهم فقال: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ قال المفسرون: وكان صدّهم عن سبيل الله إلقاء الشكوك والشبهات في قلوب ضعفة المسلمين، وإنكار أن نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم، ومنع من أراد الدخول في الإسلام بجهدهم وكدهم، أو بتذكير ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا لمثله. ومحل تَبْغُونَها عِوَجاً أي اعوجاجا نصب على الحال أو بدل وهو بكسر العين   (1) رواه النسائي في كتاب الصلاة باب 8. الترمذي في كتاب الإيمان باب 9. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 77. أحمد في مسنده (5/ 346) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 الميل عن الاستواء في كل ما لا يرى كالدين والقول. وأما الشيء الذي يرى فيقال فيه «عوج» بالفتح كالحائط والقناة، ولهذا قال الزجاج: العوج بالكسر في المعاني وبالفتح في الأعيان. وتبغون بمعنى تطلبون ويقتصر على مفعول واحد إذا لم يكن معها اللام مثل «بغيت المال والأجر» فإن أريد تعديته إلى مفعولين زيدت اللام. فالتقدير تبغون لها عوجا كما تقول: صدتك ظبيا أي صدت لك ظبيا. والضمير عائد إلى السبيل فإنها تذكر وتؤنث. والمعنى انكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أن فيها زيفا كقولكم: إن النسخ يدل على البداء وإن شريعة موسى باقية إلى الأبد وإن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بذلك المنعوت في كتابنا أو المراد أنكم تتبعون أنفسكم في إخفاء الحق وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم. ويحتمل أن يكون عِوَجاً حالا بمعنى ذا عوج. وذلك أنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله فقيل لهم: إنكم تبغون سبيل الله ضالين وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أنها سبيل الله التي لا يصد عنها إلا ضال مضل قاله ابن عباس. أو أنتم تشهدون ظهور المعجزات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يصغون لأقوالكم ويستشهدونكم في عظائم الأمور يعني الأحبار. وفيه أن من كان كذلك لا يليق بحاله الإصرار على الباطل والكذب والضلال والإضلال. ثم أوعدهم بقوله: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ كقول السيد لعبده وقد أنكر طريقته. لا يخفى عليّ سيرتك ولست بغافل عنك. وإنما ختم الآية الأولى بقوله: وَاللَّهُ شَهِيدٌ وهذه بقوله: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ لأن ذلك فيما أظهروه من الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا فيما أضمروه وهو الصد بالاحتيال وإلقاء الشبهة. وفي تكرير الخطاب في الآيتين بقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ توبيخ لهم على توبيخ بألطف الوجوه وألين المقال لعلهم يتفكرون فينصرفون عن سلوك سبيل الضلال والإضلال. عن عكرمة ويروى عن زيد بن أسلم وجابر أيضا أن شاس بن قيس اليهودي- وكان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين- مر على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون فغاظه ذلك حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة وقال: ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار. فأمر شابا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث، وهو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج. ففعل وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين، أوس بن قيظى أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج- فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئت والله رددتها الآن جذعة. وغضب الفريقان جميعا وقالا: قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة وهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 الحرة. فخرجوا إليها وانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية واصطفوا للقتال فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ الآيات فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام بين الصفين فقرأها ورفع صوته، فلما سمعوا صوته صلى الله عليه وسلم أنصتوا له صلى الله عليه وسلم وجعلوا يستمعون، فما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجثوا يبكون. وفي رواية زيد بن أسلم: خرج إليهم رسول الله فيمن معه من المهاجرين فقال: يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا؟ الله الله. فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين فأنزل الله عز وجل الآيات. قال جابر بن عبد الله: ما كان من طالع أكره إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأومى إلينا بيده وكففنا وأصلح الله ما بيننا، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما رأيت يوما قط أقبح ولا أوحش أوّلا وأحسن آخرا من ذلك اليوم. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ استفهام بطريق الإنكار والعجب. والمعنى من أين يتطرق إليكم الكفر والحال أن آيات الله تتلى عليكم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم في كل واقعة وبين أظهركم رسول الله يبين لكم كل شبهة ويزيح عنكم كل علة؟ ومع هذين النورين لا يبقى لظلمة الضلال عين ولا أثر، فعليكم أن لا تلتفتوا إلى قول المخالف وترجعوا فيما يعنّ لكم إلى الكتاب والنبي صلى الله عليه وسلم. قلت: أما الكتاب فإنه باق على وجه الدهر، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان قد مضى إلى رحمة الله في الظاهر، ولكن نور سره باق بين المؤمنين، فكأنه باق على أن عترته صلى الله عليه وسلم وورثته يقومون مقامه بحسب الظاهر أيضا. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي» «1» وقال: «إن العلماء ورثة الأنبياء» «2» اللهم اجعلنا من زمرتهم بعصمتك وهدايتك. وفي هذا بشارة لهذه الأمة أنهم لا يضلون أبدا إلى يوم القيامة. ثم بين أن الكل بعصمة الله وتوفيقه فقال: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ يتمسك بدينه أو يلتجىء إليه في دفع شرور الكفار فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ والاعتصام الاستمساك بالشيء في منع نفسه من الوقوع في آفة. أما المعتزلة فحيث لم يجعلوا الاعتصام بخلق الله وهدايته بل قالوا: إنه بفعل   (1) رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث 36، 37. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 1. أحمد في مسنده (3/ 14، 17، 367) . (2) رواه البخاري في كتاب العلم باب 10. أبو داود في كتاب العلم باب 1. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 17. الدارمي في كتاب المقدمة باب 32. أحمد في مسنده (5/ 196) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 العبد، تأوّلوا الآية بأن المراد بالهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات، أو المراد الهداية إلى الجنة. قال في الكشاف: فَقَدْ هُدِيَ أي فقد حصل له الهداية لا محالة كما تقول: إذا جئت فلانا فقد أفلحت كأن الهدى قد حصل له، فهو يخبر عنه حاصلا. ومعنى التوقع في «قد» ظاهر لأن المعتصم بالله. متوقع للهدى، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده. التأويل: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ وهو صفة الله حَتَّى تُنْفِقُوا أحب الأشياء إليكم وهو أنفسكم. إن الفراش لم ينل من بر الشمع وهو شعلته حتى أنفق مما أحبه وهو نفسه كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا الخلق ثلاثة أصناف: الملك النوراني العلوي وغذاؤه الذكر وخلق للعبادة، والحيوان الظلماني السفلي وغذاؤه الطعام وخلق للخدمة، والإنسان المركب من القبيلين وغذاؤه لروحانيته الذكر ولجسمانيته الطعام وخلق للمعرفة والخلافة. وهذا الصنف على ثلاثة أقسام: منهم ظالم لنفسه وهو الذي بالغ في غذاء جسمانيته وقصر في غذاء روحانيته حتى مات روحه واستولت نفسه أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: 179] ومنهم مقتصد وهو الذي تساوى طرفاه خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً [التوبة: 102] وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: 32] وهو الذي بالغ في غذاء روحانيته وهو المذكور، وفرط في غذاء جسمانيته حتى ماتت نفسه وقوي روحه أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة: 7] فكان كل الطعام حلالا للإنسان كما للحيوان إلا ما حرم الإنسان السابق بالخيرات على نفسه بموت النفس وحياة القلب واستيلاء الروح من قبل أن ينزل الوحي والإلهام كما قيل: المجاهدات تورث المشاهدات وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69] فمن افترى على الله الكذب بأن يريد أن يهتدي إلى الحق من غير جهاد النفس قُلْ صَدَقَ اللَّهُ في قوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ وكان من ملته إنفاق المال على الضيفان، وبذل الروح عند الامتحان، وتسليم الولد للقربان وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يتخذون مع الله إلها آخر. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لا لله لأنه غني عن العالمين. وإن أنموذج بيت الله في الإنسان وهو العالم الصغير القلب الذي وضع ببكة صدر الإنسان مباركا عليه وهدى يهتدي به جميع أجزاء وجوده إلى الله بجوده. فإن النور الإلهي إذا وقع في القلب انفسح له واتسع، فبه يسمع وبه يبصر وبه يعقل وبه ينطق وبه يبطش وبه يمشي وبه يتحرك وبه يسكن فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ يصل بها الطالب إلى مطلوبه والقاصد إلى مقصوده، ومنها مقام إبراهيم وهو الخلة التي توصل الخليل إلى خليله وَمَنْ دَخَلَهُ يعني مقام إبراهيم ببذل المال والنفس والولد وإرضاء خليله كانَ آمِناً من نار القطيعة ومن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 عذاب الحجاب. ثم أخبر عن وجوب زيارة بيت الخليل على الخليل إن استطاع إليه السبيل وذلك بأن وجد شرائط السلوك وإمكانه وآداب السير وأركانه. ومنها الإحرام بالخروج عن الرسوم والعادات، والتجرد عن الطيبات والمألوفات، والتطهر عن الأخلاق المذمومات، والتوجه إلى حضرة فاطر الأرض والسموات بخلوص النيات وصفاء الطويات. ومنها الوقوف بعرفات المعرفة، والعكوف على عتبة جبل الرحمة بصدق الالتجاء، وحسن العهد والوفاء. ومنها الطواف بالخروج عن الأطوار البشرية السبعية بالأطواف السبعة حول الكعبة الربوبية. ومنها السعي بين صفا الصفات ومروة الذات. ومنها الحلق بمحو آثار العبودية بموسى الأنوار الإلهية. وقس سائر المناسك على هذا. وَمَنْ كَفَرَ بوجدان الحق ولا يتعرض لنفحات الألطاف، ولا يترقب لجذبات الأعطاف التي توازي عمل الثقلين وهي الاستطاعة في الحقيقة فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. لا يستكمل هو منهم وإنما يستكملون هم منه. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ ظاهر الخطاب معهم وباطنه مع علماء السوء الذين يبيعون دينهم بدنياهم ولا يعملون بما يعلمون فيضلون ويضلون، وما العصمة عن اتباع الهوى إلا منه تعالى. [سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 111] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) القراآت: حَقَّ تُقاتِهِ بالإمالة: علي. وَلا تَفَرَّقُوا بتشديد الراء: البزي وابن فليح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 الوقوف: مُسْلِمُونَ هـ وَلا تَفَرَّقُوا ص لعطف المتفقتين إِخْواناً ج لاحتمال الواو وللحال والاستئناف مِنْها ط تَهْتَدُونَ هـ الْمُنْكَرِ ط للعدول الْمُفْلِحُونَ هـ الْبَيِّناتُ ط عَظِيمٌ هـ (لا) لتعلق الظرف بلهم على الأصح. وقيل: منصوب بإضمار «اذكر» . وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ج اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ (لا) لأن التقدير: فيقال لهم: أكفرتم؟ تَكْفُرُونَ هـ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ ط خالِدُونَ هـ بِالْحَقِّ ط لِلْعالَمِينَ هـ ما فِي الْأَرْضِ ط الْأُمُورُ هـ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ط خَيْراً لَهُمْ ط الْفاسِقُونَ هـ قيل: لا وقف عليه وعليه وقف لأن المعرف لا يتصف بالجملة إِلَّا أَذىً ط والْأَدْبارَ وقفة لأن «ثم» لترتيب الإخبار أي ثم هم لا ينصرون، ولو كان عطفا لكان ثم لا ينصروا. لا يُنْصَرُونَ هـ. التفسير: إنه سبحانه لما حذر المؤمنين إضلال الكفار أمرهم في هذه الآيات بمجامع الطاعات ومعاقد الخيرات، فأولها لزوم سيرة التقوى. عن ابن عباس: لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وهو أن يطاع فلا يعصى طرفة عين، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى. أو هو القيام بالمواجب كلها والاجتناب عن المحارم بأسرها، وأن لا يأخذه في الله لومة لائم، ويقول بالقسط ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين، شق ذلك على المسلمين فنزلت فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] والجمهور على أنها منسوخة لأن معنى حَقَّ تُقاتِهِ واجب تقواه وكما يحق أن يتقي وهو أن يجتنب جميع معاصيه، ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ وإلا كان إباحة لبعض المعاصي. ولا يجوز أن يراد بقوله: حَقَّ تُقاتِهِ ما لا يستطاع من التكاليف كالصادر على سبيل الخطأ والسهو والنسيان لقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] فعلى هذا لم يبق فرق بين الآيتين. ولناصر القول الأول أن يقول: إن كنه الإلهية غير معلوم للخلق، فلا يكون كمال قهره وقدرته وعزته معلوما فلا يحصل الخوف اللائق بذلك فلا يحصل حق الاتقاء، وإذا كان كذلك فيجوز أن يؤمر بالاتقاء الأغلظ والأخف، ثم ينسخ الأغلظ ويبقى الأخف، ونزول هذه الآية بعد قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] ممنوع وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ليس نهيا عن الموت وإنما هو نهي عن أن يدركهم الموت على خلاف حال الإسلام وقد مر في البقرة مثله. ثم إنه تعالى أمرهم بما هو كالأصل لجميع الخيرات وإصلاح المعاش والمعاد وهو الاجتماع على التمسك بدين الله واتفاق الآراء على إعلاء كلمته فقال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً حال كونهم مجموعين. وقولهم: اعتصمت بحبله يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهاره به ووثوقه بعنايته باستمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 لأن وجه الشبه وصف غير حقيقي ومنتزع من عدة أمور. ويجوز أن يكون الحبل استعارة للعهد والاعتصام لوثوقه بالعهد بناء على أن في الكلام تشبيهين، ويجوز أن تفرض الاستعارة في الحبل فقط ويكون الاعتصام ترشيحا لها. والحاصل أن طريق الحق دقيق والسائر عليه غير مأمون أن تزل قدمه عن الجادة، فيراد بالحبل هاهنا ما يتوصل به إلى الثبات على الحق وإن كانت عبارات المفسرين متخالفة. فعن ابن عباس: هو العهد كما يجيء إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران: 112] وقيل: إنه القرآن كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أما إنها ستكون فتنة. قيل: فما المخرج منها؟ قال صلى الله عليه وسلم: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين» «1» وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم «هذا القرآن حبل الله» وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله حبل متين ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي» «2» وقيل: إنه دين الله. وقيل: إنه طاعة الله. وقيل: إخلاص التوبة. وقيل: الجماعة لقوله تعالى عقيب ذلك: وَلا تَفَرَّقُوا لأن الحق لا يكون إلا واحدا، وما بعد الحق إلا الضلال. ويد الله مع الجماعة. قال صلى الله عليه وسلم: «ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة الناجي منهم واحد فقيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الجماعة» وروي «السواد الأعظم» وروي «ما أنا عليه وأصحابي» «3» قال صلى الله عليه وسلم: «لا تجتمع أمتي على الضلالة» «4» وقد يتمسك بالآية نفاة القياس قالوا: الأحكام الشرعية إن احتيج فيها إلى الدلائل اليقينية امتنع الاكتفاء فيها بالقياس، وإن اقتصر فيها على الدلائل الظنية فالقول بجواز القياس لكل أحد يوجب التفرق والاختلاف وهو منهي عنه. وأجيب بأن الدلائل الدالة على وجوب العمل بالقياس مخصصة لعموم قوله: وَلا تَفَرَّقُوا. ثم إنه تعالى ذكرهم نعمته عليهم وذلك أنهم كانوا في الجاهلية بينهم إلا حن والبغضاء والحروب المتطاولة، فألف الله بين قلوبهم ببركة الإسلام فصاروا إخوانا في الله متراحمين متناصحين، وذلك أن من كان وجهه إلى الدنيا فقلما يخلو من معاداة ومناقشة بسبب الأغراض الدنيوية، أما العارف الناظر من الحق إلى الخلق فإنه يرى الكل أسيرا في قبضة القضاء فلا يعادي أحدا البتة لأنه مستبصر بسر الله في القدر. فإذا أمر أمر برفق ناصح لا بعنف معير وكان حبه لحزب الله ونظرائه في الدين ورفقائه في طلب   (1) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 14. (2) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب 31. أحمد في مسنده (3/ 14، 17) . (3) رواه الدارمي في كتاب السير باب 75. (4) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب 8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 اليقين أشد من حب الوالد لولده، فكانوا كالأقربين والإخوان بل كجسد واحد وكنفس واحدة. وقيل: يريد الإخوان في النسب. وذلك أن الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم، وكان بينهما العداوة والحروب، وبقيا على ذلك مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام، وألف بينهم برسول الله، فذكر الله تعالى تلك النعمة. وفيه دليل على أن المعاملات الحسنة الجارية فيما بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله تعالى حيث خلق فيهم تلك الداعية المستلزمة لحصول الفعل. قال الكعبي: إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعونة والألطاف لا بخلق الفعل. وأجيب بأن كل هذا كان حاصلا قبل ذلك. فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم. هذا شرح النعم الدنيوية عليهم، ثم ذكرهم النعم الأخروية بقوله: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها وشفا الحفرة وشفتها حرفها بالتذكير والتأنيث، ومنه يقال: أشفى على الشيء إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه أي حده وطرفه. وأنقذه واستنقذه خلصه ونجاه. والضمير في مِنْها للحفرة أو النار أو للشفاء إما لأنه في معنى الشفة وإما لإضافته إلى الحفرة وهو بعضها وهو كقوله: كما شرقت صدر القناة من الدم قال بعضهم: الشفة أصغر من الشفا وكذلك الضلالة والضلال ولذلك قال نوح عليه السلام: لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ [الأعراف: 61] حين قال له قومه إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأعراف: 60] أي ليس بي صغير من الضلال فكيف الكبير منه؟ ومعنى الآية إنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم تشبيها لها بالحفر التي فيها النار وتمثيلا لحياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها. وفيه تنبيه على تحقير مدة الحياة وإن طالت كأنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء. قالت المعتزلة: معنى الإنقاذ أنه تعالى لطف بهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبسائر ألطافه حتى آمنوا. وقال أهل السنة: جميع الألطاف مشتركة بين المؤمن والكافر، فلو كان فاعل الإيمان هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار، لكن الآية دلت على أن الله تعالى هو المنقذ فعلم أن خالق أفعال العباد هو الله تعالى. كَذلِكَ مثل ذلك البيان البليغ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إرادة أن تزدادوا هدى أو لتكونوا على رجاء هداية. فالأول قول المعتزلة والثاني لأهل السنة، وقد مر في أوائل سورة البقرة. ثم رغب المؤمنين الكاملين في تكميل غيرهم فقال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وهو جنس تحته نوعان: الترغيب في فعل ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 ينبغي من واجبات الشرع ومندوباته والكف عما لا ينبغي من محرماته ومكروهاته، فلا جرم أتبعه النوعين زيادة في البيان فقال: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ واختلفوا في أن كلمة «من» في قوله: مِنْكُمْ للتبيين أو للتبعيض. فذهب طائفة إلى أنها للتبيين لأنه ما من مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه، وكيف لا وقد وصفهم الله تعالى بذلك في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فهذا كقولك: لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر. وتريد جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم. ثم قالوا: إن ذلك وإن كان واجبا على الكل إلا أنه متى قام به بعض سقط عن الباقين كسائر فروض الكفايات. وقال آخرون: إنها للتبعيض إما لأن في القوم من لا يقدر على الدعوة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنساء والمرضى والعاجزين، وإما لأن هذا التكليف مختص بالعلماء الذين يعرفون الخير ما هو والمعروف والمنكر ما هما، ويعلمون كيف يرتب الأمر في إقامتهما، وكيف يباشر. فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا. وأيضا قد أجمعنا على أن ذلك واجب على الكفاية، فكان هذا بالحقيقة إيجابا على البعض الذي يقوم به. ثم إن نصب لذلك رجل تعين عليه بحكم الولاية وهو المحتسب. واعلم أن الأمر بالمعروف على ثلاثة أضرب: أحدها ما يتعلق بحقوق الله تعالى وهو نوعان: أحدهما ما يؤمر به الجمع دون الأفراد كإقامة الجمعة حيث تجتمع شرائطها، فإن كانوا عددا يرون انعقاد الجمعة بهم والمحتسب لا يراه فلا يأمرهم بما لا يجوّزه ولا ينهاهم عما يرونه فرضا عليهم ويأمرهم بصلاة العيد. والثاني ما يؤمر به الأفراد كما إذا أخر بعض الناس الصلاة عن الوقت. فإن قال: نسيتها. حثه على المراقبة. ولا يعترض على من أخرها والوقت باق. وثانيها ما يتعلق بحقوق الآدميين وينقسم إلى عام كالبلد إذا تعطل شربه أو انهدم سوره أو طرقه أبناء السبيل المحتاجون وتركوا معونتهم. فإن كان في بيت المال مال لم يؤمر الناس بذلك، وإن لم يكن أمر ذوو المكنة برعايتها والي خاص كمطل المديون الموسر بالدين. فالمحتسب يأمره بالخروج عنه إذا استعداه رب الدين وليس له الحبس. وثالثها الحقوق المشتركة كأمر الأولياء بإنكاح الأكفاء، وإلزام النساء أحكام العدد، وأخذ السادة بحقوق الأرقاء، وأرباب البهائم بتعهدها وأن لا يستعملوها فيما لا تطيق، ومن يغير هيئات العبادات كالجهر في الصلاة السرية وبالعكس، أو يزيد في الأذان يمنعه وينكر عليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 ومن تصدى للتدريس والوعظ وهو ليس من أهله ولم يؤمن اغترار الناس به في تأويل أو تحريف، فينكر المحتسب عليه ويظهر أمره لئلا يغتر به. وإذا رأى رجلا واقفا مع امرأة في شارع يطرقه الناس لم ينكر عليه، وإن كان في طريق خال فهو موضع ريبة فينكر ويقول: إن كانت ذات محرم فصنها عن مواضع الريب، وإن كانت أجنبية فخف الله معها في الخلوة. ولا ينكر في حقوق الآدميين كتعدي الجار في جدار الجار إلا باستعداء صاحب الحق، وينكر على من يطيل الصلاة من أئمة المساجد المطروقة، وعلى القضاة إذا حجبوا الخصوم وقصروا في النظر في الخصومات. والسوقي المختص بمعاملة النساء يختبر أمانته فإن ظهرت منه خيانة منع من معاملتهن. وبالجملة «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» «1» فلينظر الداعي الى الخير في حال كل مكلف وغير مكلف حتى الصبيان، ليتمرنوا والمجانين كيلا يضروا ويدعوه إلى ما يليق به متدرجا من الأسهل إلى الأصعب في الأمر والإنكار كل ذلك إيمانا واحتسابا لا سمعة ورياء، ولا لغرض من الأغراض النفسانية والجسمانية. وذلك أنّ هذه الدعوة منصب النبي وخلفائه الراشدين بعده، ومن هاهنا ذهب الضحاك إلى أن المراد من المذكورين في هذه الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يتعلمون من الرسول ويعلمون الناس. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسول الله وخليفة كتابه» وعن علي: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن شنأ الفاسقين وغضب لله غضب الله له وكفى بقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الأخصاء بالفلاح مدحا لهم. وقد يتمسك بهذا في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر لأنه ليس من أهل الفلاح. وأجيب بأن هذا ورد على سبيل الغالب، فإن الظاهر أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا يشرع فيه إلا بعد إصلاح أحوال نفسه، لأن العاقل يقدم مهم نفسه على مهم الغير وقلما يتفق ممن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت عن وجهها. قال بعض العلماء: إن ترك ارتكاب المنهي عنه والنهي عن ارتكاب المنهي واجبان على الفاسق، فبتركه أحد الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر. وعن بعض السلف: مروا بالخير وإن لم تفعلوا. وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول: لا أقول ما لا أفعل فقال: وأينا يفعل ما يقول؟ ود الشيطان لو ظفر بهذه منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهي عن منكر. والحق في هذه القضية ما قيل:   (1) رواه أبو داود في كتاب السنّة باب 14. النسائي في كتاب الإيمان باب 16. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وغير تقيّ يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس وهو مريض والقرآن ينعي عليه بقوله: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ [الصف: 2، 3] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 44] وقد سلف تقريره في البقرة. وعن داود الطائي أنه سمع صوتا من قبر: ألم أزك ألم أصل ألم أصم ألم أفعل كذا وكذا؟ أجيب بلى يا عدو الله ولكن إنك إذا خلوت بارزته بالمعاصي ولم تراقبه. قوله سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا في النظم وجهان: أحدهما أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بين في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام، ثم إن أهل الكتاب حسدوا محمدا فاحتالوا لإلقاء الشكوك في تلك النصوص، ثم انجر الكلام إلى أنه أمر المؤمنين بالدعاء إلى الخير، فختم الكلام بتحذير المؤمنين من مثل فعل أهل الكتاب من إلقاء الشبهات في النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة، فعلى هذا تكون الآية من تتمة الآيات المتقدمة. وثانيهما أنه لما أمر الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن ضده وكان ذلك مما لا يتم إلا بالقدرة على تنفيذه، كيف وفي الناس ظلمة ومتغلبون، فلا جرم حذر أهل الحق أن يتفرقوا ويختلفوا كيلا يصير ذلك سببا لعجزهم عن القيام بهذا التكليف، وعلى هذا تكون الآية من تتمة الآية السابقة فقط. قال بعضهم: تفرقوا واختلفوا مؤداهما واحد والتكرير للتأكيد. وقيل: معناهما مختلف. تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين. أو تفرقوا بسبب التأويلات الفاسدة للنصوص، واختلفوا بأن حاول كل منهم نصرة قوله. أو تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل من الأحبار رئيسا في بلد، واختلفوا بأن صار كل منهم يدعي أنه على الحق وصاحبه على الباطل. ولعل الإنصاف أن أكثر علماء الزمان بهذه الصفة فنسأل الله العصمة والسداد. وَأُولئِكَ اليهود والنصارى الذين اختلفوا من بعد ما جاءهم الدلالات الواضحة والنصوص الظاهرة، أو أولئك الذين اقتفوا آثارهم من مبتدعة هذه الأمة لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ وفي تعليق الظرف بقوله لَهُمْ فائدتان: إحداهما أن ذلك العذاب في هذا اليوم، والأخرى أن من حكم هذا اليوم أن يبيض بعض الوجوه ويسود بعضها ونظير ذلك في القرآن وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس: 38- 41] وفي أمثال هذه الألوان للمفسرين قولان: أحدهما- وإليه ميل أبي مسلم-: أن البياض مجاز عن الفرح والسواد عن الغم وهذا مجاز مستعمل قال تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا [النحل: 58] ولما سلم الحسن بن علي الأمر إلى معاوية قال له رجل: يا مسوّد وجوه المؤمنين. وتمام الخبر سوف يجيء إن شاء الله في تفسير سورة القدر. ولبعض الشعراء في الشيب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 يا بياض القرون سودت وجهي ... عند بيض الوجوه سود القرون وثانيهما: أن السواد والبياض محمولان على ظاهرهما وهما النور والظلمة، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة. فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته وسعى النور بين يديه وبيمينه، ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكمده واسودت صحيفته وأحاطت به الظلمة من كل جانب. قالوا: والحكمة في ذلك أن يعرف أهل الموقف كل صنف فيعظمونهم أو يصغرون بحسب ذلك ويحصل لهم بسببه مزيد بهجة وسرور أو ويل وثبور. وأيضا إذا عرف المكلف في الدنيا أنه يحصل له في الآخرة إحدى الحالتين ازدادت رغبته في الطاعات وترك المحرمات. قلت: والتحقيق فيه أن والهيئات والأخلاق الحميدة أنوار، والملكات والعادات الذميمة ظلمات، وكل منهما لا يظهر آثارهما كما هي إلا بعد المفارقة إلى الآخرة انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً [الحديد: 13] واحتج أهل السنة بالآية على أن المكلف إما مؤمن وإما كافر وإنه ليس هاهنا منزلة بين المنزلتين، لأنه قسم أهل القيامة إلى قسمين: مبيض الوجوه وهم المؤمنون، ومسودها وهم الكافرون لقوله تعالى في آخر الآية فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ واعترض القاضي عليه بأن عدم ذكر القسم الثالث لا يدل على عدمه، وأيضا لفظ وجوه نكرة فلا يفيد العموم. وأيضا المذكور في الآية هم المؤمنون والذين كفروا بعد الإيمان، ولا شبهة أن الكافر الأصلي من أهل النار مع أنه غير داخل تحت هذين القسمين فكذا القول في الفساق. والجواب لم لا يجوز أن يكون المراد أن كل أحد أسلم وقت استخراج الذرية من صلب آدم، فيكون الخطاب لجميع الكفار؟ وأنه أيضا جعل موجب العذاب في آخر الآية هو الكفر من حيث إنه كفر لا الكفر من حيث إنه بعد الإيمان. فإن قيل: لم قدم البياض على السواد أوّلا وعكس آخرا؟ فالجواب بعد تسليم إفادة الواو الترتيب، أنه بدأ بذكر أهل الثواب وختم بهم أيضا تنبيها على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال: «سبقت رحمتي غضبي» ولما في ذلك من رعاية حسن المطلع والمقطع وأنه فن بديع في الفصاحة. ومن المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم؟ قال أبي بن كعب: هم جميع الكفار لأنهم آمنوا وقت الميثاق، ورواه الواحدي في البسيط بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو ما نصبه الله من دلائل التوحيد والنبوة؟ وقال عكرمة والأصم والزجاج: إنهم أهل الكتاب آمنوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وكفروا به بعد بعثه. وقال قتادة: إنهم المرتدون. وقال الحسن: هم المنافقون. وقيل: هم الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 الرمية» . ولما رأى أبو أمامة رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق دمعت عيناه ثم قال: كلاب النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء. فقال له أبو غالب: أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم أسمعه، إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبعا ما حدثتكموه. قال: فما شأنك دمعت عيناك؟ قال: رحمة لهم. كانوا من أهل الإسلام فكفروا ثم قرأ هذه الآية. ثم أخذ بيده فقال: إن بأرضك منهم كثيرا فأعاذك الله منهم. هذا مما أخرجه الإمام أبو عيسى الترمذي في جامعه. ولكن المشهور من مذهب أهل السنة أنّ الخروج على الإمام لا يوجب الكفر البتة، والاستفهام في قوله تعالى: أَكَفَرْتُمْ بمعنى الإنكار. قال القاضي: وفيه وكذا في قوله: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ دليل على أن الكفر منهم لا من الله. وقالت المرجئة: فيه دلالة على أن العذاب لا يكون إلا للكافر. أما قوله: فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ فالمراد بها الجنة التي هي محل الرحمة. وموقع قوله: هُمْ فِيها خالِدُونَ موقع الاستئناف كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فأجيب بذلك أي لا يظعنون عنها ولا يموتون. وفي إقامة الرحمة مقام الجنة دليل على أن العبد وإن كثرت طاعته فإنه لا يدخل الجنة إلا بفضل الله وبرحمته. وفي إضافة الرحمة إلى نفسه وتعليل العذاب بكفرهم والنص على خلود أهل الثواب دون أهل النار وإن كانوا مخلدين أيضا دلائل وإشارات إلى أن جانب العفو والمغفرة والرحمة مغلب. وكيف لا وقد أردفه بقوله: تِلْكَ الأحكام التي وردت في حيز الوعيد والوعد وانقضى ذكرها آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ متلبسة بِالْحَقِّ العدل من جزاء المحسن بإحسانه وجزاء المسيء بإساءته، أو متلبسة بالمعنى الحق لأن معنى المتلو حق وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ ولكن مصالح الخلق لا تنتظم إلا بتهديد المذنبين، وإذا حصل التهديد فلا بد من التحقيق دفعا للكذب عمن هو أصدق القائلين. قال الجبائي: قوله: ظُلْماً نكرة في سياق النفي فوجب أن لا يريد شيئا مما يكون ظلما سواء فرض منه أو من العبد على نفسه أو على غيره، وإذا لم يرد لم يفعل إذ لو كان فاعلا لشيء من الأقسام الثلاثة كان مريدا له هذا خلف، فثبت بهذه الآية أنه تعالى غير فاعل للظلم وغير فاعل لأعمال العباد، إذ من جملتها القبائح، وقد بينا أنه لا يريدها. ثم إنه تعالى تمدح بأنه لا يريد ذلك، والتمدح إنما يصح لو صح منه فعل ذلك الشيء وصح منه كونه مريدا له، فدلت الآية على أنه قادر على الظلم وعلى أن يمنع الظلمة من الظلم على سبيل الإلجاء والقهر فلهذا قال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وأيضا لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح استدل عليه بأن فاعل القبيح إنما يفعل القبيح للجهل أو العجز أو الحاجة، وكل ذلك على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 الله تعالى محال لأنه مالك لكل ما في السموات وما في الأرض بل لكل ما في الوجود. وربما يقال: معنى الآية إما أن يكون أنه لا يريد أن يظلمهم، أو أنه لا يريد أن يظلم بعضهم بعضا. والأول لا يستقيم على مذهبكم لأن من مذهبكم أنه تعالى لو عذب البريء من الذنب أشد العذاب لم يكن ظالما بل كان عادلا لأن الظلم تصرف في ملك الغير وهو تعالى إنما يتصرف في ملك نفسه، فتصور الظلم منه محال عندكم، فلا يلزم منه مدح. والثاني أيضا محال على قولكم لأن كلا بإرادة الله وبتكوينه عندكم، فثبت أنه لا يمكن حمل الآية على وجه صحيح في مذهبكم. أجاب أهل السنة من وجهين: الأول أنه يتوقف التمدح بنفي صفة على إمكان تصور ذلك الشيء منه بدليل قوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255] وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام: 14] ولا يتوقف التمدح بذلك على صحة النوم والأكل عليه. الثاني أنه تعالى إن عذب من ليس بمستحق للظلم لم يكن ظالما لكنه في صورة الظلم. وقد يطلق اسم أحد المتشابهين على الآخر كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] والحق في هذا المقام أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه. وإذا كان اللطف والقهر من ضرورات صفات الكمال، فوضع كل منهما في مظهره يكون وضع الشيء في موضعه فلا يكون ظلما. واحتجت الأشاعرة بقوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأنها من جملة ما في السموات وما في الأرض. أجابت المعتزلة بأن قوله: لِلَّهِ إضافة ملك لا إضافة فعل كما يقال: هذا البناء لفلان. يراد أنه مملوكه لا أنه مفعوله. وأيضا الآية مسوقة في معرض المدح ولا مدح في نسبة الفواحش والقبائح إلى نفسه. وأيضا قوله: ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يتناول ما كان مظروفا لهما وذلك من صفات الأجسام لا من صفات الأفعال التي هي أعراض، وعورض بأن الإضافة إضافة فعل، لأن المؤثر في حصول فعل العبد هو مجموع القدرة والداعية المنتهية إلى تخليق الله دفعا للتسلسل أو الترجيح من غير مرجح. قالت الحكماء: تقديم السموات في الذكر على الأرض دليل على أن جميع الأحوال الأرضية مستندة إلى الأسباب السماوية، ولا شك أن الأحوال السماوية مستندة إلى خلقه وتكوينه تعالى فيكون الجبر أيضا لازما من هذا الوجه. وَإِلَى اللَّهِ أي إلى حيث لا مالك سواه تُرْجَعُ الْأُمُورُ فالأول إشارة إلى أنه تعالى مبدأ المخلوقات كلها، وهذا إشارة إلى أن معاد الكل إليه. قوله عز من قائل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ في النظم وجهان: أحدهما أنه لما أمر المؤمنين بما أمر ونهاهم عما نهى، عدل الى طريق آخر يقتضي حملهم على الانقياد والطاعة لأن كونهم خير الأمم مما يقوّي داعيتهم في أن لا يبطلوا على أنفسهم هذه المزية، وذلك إنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 يكون بالتزام التكاليف الشرعية. وثانيهما أنه لما ذكر حال الأشقياء وحال السعداء نبه أوّلا على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ بمعنى أنهم استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة. ثم نبه على سبب وعد السعداء بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أي تلك الكرامات والسعادات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا خير أمة، وأقول: لما انجر الكلام في مخاطبة المؤمنين الى بيان أن كل ما في الوجود ملكه وملكه إبداعا واختراعا وأن منتهى الكل إليه، أتبع ذلك مزية هذه الأمة ليعلم أنها بسابقة العناية الأزلية إذ جعلهم مظهر الألطاف، وذكر بعدها رذيلة أهل الكتاب ليعرف أنها لوقوعهم في طريق القهر ولا اعتراض لأحد على ما يفعله المالك في ملكه. عن عكرمة ومقاتل أن مالك بن الصيف ووهب بن يهوديا اليهوديين قالا لابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة: إن ديننا خير مما تدعوننا إليه، ونحن خير وأفضل منكم. فأنزل الله هذه الآية. قال بعض المفسرين: «كان» هاهنا تامة، وانتصاب خَيْرَ أُمَّةٍ على الحال أي حدثتم ووجدتم خير أمة. والأكثرون على أنها ناقصة، فجاء إيهام أنهم كانوا موصوفين بالخيرية في الزمان الماضي دون ما يستقبل. فأجيب بأن «كان» لا تدل على عدم سابق ولا انقطاع طارئ بدليل قوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 69] وقيل: المراد كنتم في علم الله أو في اللوح المحفوظ خير أمة، أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة كقوله: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ [الفتح: 29] وقال أبو مسلم: هذا تابع لقوله: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ وما بينهما اعتراض والتقدير: أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة: كنتم في دنياكم خير أمة فلهذا نلتم من الرحمة وبياض الوجه ما نلتم. وقال بعضهم: لو شاء الله لقال: أنتم. فكان هذا التشريف حاصلا لكلنا، ولكنه مخصوص بقوم معينين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم السابقون الأولون ومن صنع مثل صنيعهم. وقيل: إنها زائدة والمعنى: أنتم خير أمة. وزيفه ابن الأنباري بأن الزائدة لا تقع في أول الكلام ولا تعمل كقول العرب «عبد الله كان قائم وعبد الله قائم كان» ولا يقولون: «كان عبد الله قائم» على أن «كان» زائدة. لأن البداءة بها دليل شدة العناية، والملغى لا يكون في محل العناية. وقيل: إنها بمعنى صار أي صرتم خير أمة. وأصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هي الطائفة الموصوفة بالإيمان به والإقرار بنبوته. وإذا أطلقت الأمة في نحو قول العلماء «اجتمعت الأمة» وقعت عليهم. وقد يقال لكل من جمعتهم دعوته إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم لفظ الأمة إلا بهذا القيد. قال الزجاج: ظاهر الخطاب في كُنْتُمْ مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه عام في حق كل الأمة. ونظيره كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [البقرة: 178] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: 183] وقوله: لِلنَّاسِ إما أن يتعلق ب أُخْرِجَتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 والمعنى: كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار. ومعنى إخراجها أنها أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها. وإما أن يتعلق ب كُنْتُمْ أي كنتم للناس خير أمة. ثم بين سبب الخيرية على سبيل الاستئناف بقوله: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم. وقد يستدل بالآية على أن إجماع هذه الأمة حجة لأنها لو لم تحكم بالحق لم تكن خيرا من المبطل، ولأن اللام في بِالْمَعْرُوفِ وفي الْمُنْكَرِ للاستغراق فيقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر فيكون إجماعهم حقا. وأما أنه من أي وجه يقتضي ذلك كون هذه الأمة خير الأمم مع أن الصفات الثلاثة كانت حاصلة لسائر الأمم فذلك أن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد، وأقواها ما يكون بالقتال لأنه إلقاء النفس في خطر القتل. وأعرف والمعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات الكفر بالله، فكان الجهاد في الدين تحملا لأعظم المضارّ لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع وتخليصه من أعظم المضار، فكان من أعظم العبادات. ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا نبي السيف أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» «1» فلا جرم صار ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس في تفسير قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقروا بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، ولا إله إلا الله أعظم المعروف والتكذيب أنكر المنكر. وفائدة القتل على الدين لا ينكره منصف فإن أكثر الناس يحبون ما ألفوه من الأديان الباطلة ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم، فإذا خوف بالقتل دخل في دين الحق مكرها إلى أن يألفه متدرجا. وأما الإيمان بالله فلا شك أنه في هذه الأمة أكمل لأنهم آمنوا بكل ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو ثواب أو عقاب إلى غير ذلك، ولا يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وإنما اقتصر في وصف الأمة على الإيمان بالله لأنه يستلزم الإيمان بالنبوة وبسائر ما عددنا وإلا لم يكن في الحقيقة إيمانا، ولهذا نفى عن أهل الكتاب في قوله: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ وإنما قدم الأمر بالمعروف على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات، لأن الآية سيقت لبيان فضل الأمر بالمعروف وتأكد القيام به ولهذا كرر بعد قوله:   (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 32- 36. البخاري في كتاب الإيمان باب 17، 28. أبو داود في كتاب الجهاد باب 95. الترمذي في كتاب تفسير سورة 88. النسائي في كتاب الزكاة باب 3. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 1- 3. بدون لفظ «أنا نبي السيف» . [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ فكانت العناية به أشد فكان تقديمه أهم. وليعلم أن التكميل أفضل من الكمال نفسه ولهذا استلزم الأول الثاني دون العكس، ولأن التكميل يتضمن الكمال فكان في تأخير الإيمان بالله تكريرا له مرة بالتضمن وأخرى بالمطابقة على أن الواو لا تفيد الترتيب، وأيضا أراد أن يبني عليه قوله: وَلَوْ آمَنَ. وفي التفسير الكبير: إن أصل الإيمان مشترك فيه بين الأديان فلا تتبين فيه الخيرية، لكن الآية سيقت لبيان الخيرية وليس ذلك إلا لأن هذه الأمة أقوى في باب الأمر بالمعروف فلهذا قدم، ثم أتبع ذكر الإيمان بالله ليعلم أن شرط تأثير الأمر بالمعروف في الخيرية حاصل. ولا يخفى أن هذا الجواب مبني على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وعلى أن إيمان أهل الكتاب معتد به وليس كذلك، ولهذا قال تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ يعنى إيمانا معتبرا وهو الإيمان بالله وبسائر ما لا بد منه من الأمور المعدودة لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لحصلت لهم صفة الخيرية أيضا لانضمامهم في زمرة هذه الأمة، أو لحصل لهم من الرياسة وحظوظ الدنيا ما هو خير مما تركوا هذا الدين لأجله، لأن الحاصل على هذا التقدير عزة الإسلام مع الفوز بما وعدوا من إيتاء الأجر في الآخرة مرتين، وعلى ما هم فيه ليس إلا استتباع بعض الجهلة من العوام وشيء نزر من الرشا، وبعد ذلك خلود في النار. ثم فصل أهل الكتاب على سبيل الاستئناف فقال: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كعبد الله بن سلام ورهطه وكالنجاشي وأصحابه، فاللام للمعهود السابق وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة الله تعالى وعن دينه فيقارب الكفر أو يرادفه، أو المراد أنهم ليسوا بعدول في دينهم أيضا فهم مردودون باتفاق الطوائف كلهم، فلا ينبغي أن يقتدى بهم البتة. ثم أخبر عن حالهم وكان كما قال وهو آية الإعجاز بجملة مستأنفة هي لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً الإضرار ألا يجاوز أذى بقول كطعن في الدين أو تهديد أو تحريف نص أو إلقاء شبهة أو إظهار كلمة الكفر بإشراكهم عزيرا والمسيح. والأذى مصدر كالأسى يقال: يفعلون أذاه يؤذيه أذى وأذاة وأذية. والأذى نوع من الضر فصح انتصابه به والتقدير: لن يضروكم شيئا من أنواع الضرر إلا ضررا يسيرا. ومن هذا تبين أن الاستثناء ليس بمنقطع على ما ظن وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ منهزمين ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ وإنما لم يجزم بالعطف على يُوَلُّوكُمُ لئلا يصير نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم بل يرفع ليكون نفي النصر وعدا مطلقا، وتكون هذه الجملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم وينهزموا، ثم أخبركم وأبشركم أن النصر والقوة منتف عنهم رأسا فلن يستقيم لهم أمر البتة. ومعنى «ثم» إفادة التراخي في الرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أينما كانوا أعظم من الإخبار بانهزامهم عند القتال. فإن قيل: هب أن اليهود كذلك، لكن النصارى قد يوجحد لهم قوة وشوكة في ديارهم. قلنا: هذه الآيات مخصوصة باليهود وأسباب النزول تدل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 ذلك، فكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع وأهل خيبر. أو لعل نفي النصرة عنهم بعد القتال ولم يوجد نصراني بهذه الحالة. وفي الآية تشجيع للمؤمنين وتثبيت لمن آمن من أهل الكتاب كيلا يلتفتوا إلى تضليلاتهم وتحريفاتهم. التأويل: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ لأهل العزائم وقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] لأهل الرخص. والمعنى: اتقوا عن وجودكم بالله وبوجوده وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لا ينتف وجودكم المجازي إلا وقد سلمتم لتصرفات الأحكام الإلهية والجذبات الربانية، واستفدتم الوجود الحقيقي وهو البقاء بالله. وَاعْتَصِمُوا أهل الاعتصام طائفتان: أهل الصورة وهم المتعلقون بالأسباب لأن مشربهم الأعمال فقيل لهم اعتصموا بحبل الله وهو كل سبب يتوصل به إلى الله من أعمال البر، وأهل المعنى وهم المنقطعون عن الأسباب إذ مشربهم الأحوال فقيل لهم: واعتصموا بالله هو مولاكم مقصودكم أو ناصركم، ولا تفرقوا في الظاهر وهو مفارقة الجماعة، وفي الباطن وهو الميل الى البدع والأهواء. وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ وهي عداوة بعضكم لبعض وعداوتكم لله ولأنفسكم فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بالهداية والإيمان وتأليف القلوب كَذلِكَ مثل ما بين آياته للأوس والخزرج حتى صاروا إخوانا يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أيها الطلاب آياتِهِ وهي الجذبة الإلهية وتجلي صفات الربوبية وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ بالأفعال دون الأقوال وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ من وعيد من يأمر بالمعروف ولا يأتيه يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ لأن الوجوه تحشر بلون القلوب كقوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق: 9] أي يجعل ما في الضمائر على الظواهر أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ هم أرباب الطلب السائرون إلى الله انقطعوا في بادية النفس واتبعوا غول الهوى وارتدوا على أعقابهم القهقرى. فَذُوقُوا الْعَذابَ لأن الناس نيام لا يذوقون ألم جراحات الانقطاع والإعراض عن الله، فإذا ماتوا انتبهوا وذاقوا. فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ في الدنيا بالجمعية والوفاق مع أهل الله هُمْ فِيها خالِدُونَ في الآخرة، ولأنه يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه تِلْكَ الأحوال آياتُ اللَّهِ مع خواصه نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ نظهرها على قلبك بالتحقيق وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ بأن يضع السواد والبياض في غير موضعهما. كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ من العدم إلى الوجود مستعدة لقبول كمالية الإنسان. من جملة الخيرية تخفيف التكليف وضمان التضعيف، ومنها عاقب مطيعهم بشؤم عصيانهم، وغفر لعصاة هذه الأمة ببركة مطيعهم، ومنها زلاتهم لعنة وزلاتنا رحمة، ومنها شكا منهم إلينا وشكر منا إليهم قبل وجودنا وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ يعني علماء السوء لَنْ يَضُرُّوكُمْ أيها المحققون إِلَّا أَذىً من طريق الإنكار والحسد وَإِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 يُقاتِلُوكُمْ ينازعوكم ويخاصموكم يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ من صدق نياتكم. لا يُنْصَرُونَ لأنكم أهل الحق وحزب الله وإن حزب الله هم الغالبون. [سورة آل عمران (3) : الآيات 112 الى 120] ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) القراآت: وَيُسارِعُونَ وبابه ك سارِعُوا [آل عمران: 133] ونُسارِعُ [المؤمنون: 56] ممالة: قتيبة وأبو عمرو طريق بن عبدوس. ما يَفْعَلُوا فَلَنْ يُكْفَرُوهُ بياء الغيبة: حمزة وعلي وخلف وحفص أبو عمرو مخير. الباقون: بتاء الخطاب. تَسُؤْهُمْ وبابه من كل همزة مجزومة بغير همزة: الأعشى وأوقية. والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف لا يَضُرُّكُمْ من الضير: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ونافع. وقرأ المفضل لا يَضُرُّكُمْ بالفتح الباقون: لا يَضُرُّكُمْ بالضم كلاهما من الضر مجزوما ثم محركا للساكنين فالفتح للخفة والضم للإتباع. تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ بتاء الخطاب: سهل. الباقون: بياء الغيبة. الوقوف: الْمَسْكَنَةُ ط بِغَيْرِ حَقٍّ ط يَعْتَدُونَ هـ قيل: لا وقف عليه لأن ضمير لَيْسُوا يعود إلى ما يعود إليه ضمير مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ لبيان الفضل بين الفريقين، والذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 عصوا واعتدوا أحد الفريقين. سَواءً ط يَسْجُدُونَ هـ قيل: لا وقف على جعل يُؤْمِنُونَ حالا لضمير يَسْجُدُونَ ولا يصح بل الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أوصاف لهم مطلقة غير مختصة بحال السجود الْخَيْراتِ ط الصَّالِحِينَ هـ يُكْفَرُوهُ ط بِالْمُتَّقِينَ هـ شَيْئاً ط النَّارِ ج خالِدُونَ هـ أَهْلَكَتْهُ طظْلِمُونَ ج خَبالًا ط ما عَنِتُّمْ ج لاحتمال كون قد بدت حالا أَكْبَرُ ط تَعْقِلُونَ هـ كُلِّهِ ج للعطف مع الحذف أي وهم لا يؤمنون بكتابكم آمَنَّا ق قد قيل: والوصل أولى لأن المقصود بيان تناقض حاليهم في النفاق مِنَ الْغَيْظِ ط يغيظكم ط الصُّدُورِ هـ تَسُؤْهُمْ ز للابتداء بشرط آخر والوصل أجوز إذ الغرض تقرير تضاد الحالين منهم. يَفْرَحُوا بِها ط لتناهي وصف الذم لهم وابتداء شرط على المؤمنين شَيْئاً ط مُحِيطٌ هـ. التفسير: هذا خبر آخر من مستقبلات أحوال اليهود المعلومة بالوحي. والمعنى ضربت عليهم الذلة والهوان في عامة الأحوال بالقتل والسبي والنهب أينما وجدوا إلا معتصمين أو متلبسين أي إلا في حال اعتصامهم بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ يعني ذمة الله وذمة المسلمين، فهما في حكم واحد أي لا عزلهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم الى الذمة بقبول الجزية، فحينئذ يكون دمهم محقونا ومالهم مصونا وهو نوع من العزة وقيل: حبل الله الإسلام، وحبل الناس الذمة. فعلى هذا يكون الواو بمعنى «أو» . وقيل: ذمة الله الجزية المنصوص عليها، وذمة الناس ما يزيد الإمام عليها أو ينقص بالاجتهاد. وإنما صح الاستثناء المفرغ من الموجب نظرا إلى المعنى لأن ضرب الذلة عليهم معناه لا تنفك عنهم وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ قيل: إنه من قولك «تبوأ فلان منزل كذا» والمعنى مكثوا في غضب الله. وسواء قولك حل بهم الغضب وحلوا بالغضب. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ عن الحسن أن المراد بها الجزية، وإنما أفردت بالذكر بعد الاستثناء ليعلم أنها باقية غير زائلة بعد اعتصامهم بالذمة. وقال آخرون: المراد أنك لا ترى منهم ملكا قاهرا ولا رئيسا مطاعا لكنهم مستخفون في جميع النواحي والأكناف، يظهرون من أنفسهم الفقر والمدقعة البتة. وباقي الآية قد مر تفسيره في البقرة إلا أنه سبحانه قال في هذا الموضع من هذه السورة وفي النساء الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ لأن جمع التكسير يفيد التكثير فذكر في الموضعين أعني في البقرة وفي أول السورة ما ينبىء عن القلة مع أن ذلك موافق لما بعده من جموع السلامة كالذين والصابئين وغيرهما. ثم تدرج إلى ما هو نص في الكثرة في الموضعين الآخرين نعيا عليهم وتفظيعا لشأنهم، ولمثل هذا عرّف الحق في البقرة إشارة إلى الحق الذي أذن الله أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 تقتل النفس به وهو قوله: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام: 151] ثم نكر في المواضع الباقية أي يغير ما حق أضلالا في نفس الأمر ولا بحسب معتقدهم وتدينهم. لَيْسُوا سَواءً كلام تام وما بعده كلام مستأنف للبيان. قال الفراء وابن الأنباري: تقديره من أهل الكتاب أمة قائمة ومنهم أمة مذمومة، إلا أنه أضمر ذكر هذا القسم على مذهب العرب من الاكتفاء بأحد الضدين لخطورهما بالبال معا غالبا. قال أبو ذؤيب: دعاني إليها القلب إني لآمرها ... مطيع فما أدري أرشد طلابها؟ أراد أم غيّ فاكتفى بذكر الرشد عن ضده. وتقول: زيد وعبد الله لا يستويان، زيد عاقل دين ذكي. فيغني هذا عن أن يقال: وعبد الله ليس كذلك. وقيل: وهو اختيار أبي عبيدة أن أُمَّةٌ مرفوعة ب لَيْسُوا على لغة من قال: أكلوني البراغيث. أو هو بدل من الضمير على نحو أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء: 3] والتقدير: ليسوا سواء أمة قائمة وأمة مذمومة. وفي تفسير أهل الكتاب قولان: الأول وعليه الجمهور أنهم اليهود والنصارى. قال ابن عباس ومقاتل: لما أسلم عبد الله بن سلام وأضرابه قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا لما تركوا دين آبائهم وقالوا لهم: لقد خسرتم حين استبدلتم بدينكم دنيا غيره فنزلت. وعن عطاء أنها نزلت في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. الثاني أنهم كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان فعلى هذا يكون المسلمون منهم. عن ابن مسعود قال: أخر رسول صلى الله عليه وسلم ليلة صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله في هذه الساعة غيركم. وفي رواية: فبشر صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب فأنزل الله هذه الآيات لَيْسُوا سَواءً إلى قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ قال القفال رحمه الله: لا يبعد أن يقال: أولئك الحاضرون كانوا نفرا من مؤمني أهل الكتاب. فقيل: ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فأقاموا صلاة العشاء في الساعة التي ينام فيها غيرهم مع أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا. ولا يبعد أيضا أن يقال: المراد كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فسماهم الله أهل الكتاب كأنه قيل: أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة، والمسلمون الذين سماهم الله تعالى أهل الكتاب حالهم وصفتهم كذا فكيف يستويان؟ فيكون الغرض من هذه الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام تأكيدا لما تقدم من قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: 110] كقوله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [السجدة: 18] ثم إنه تعالى مدح الأمة المذكورة بصفات ثمان: الأولى: أنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 قائمة. قيل: أي في الصلاة. وقيل: ثابتة على التمسك بدين الحق ملازمة له غير مضطربة. وقيل: أي مستقيمة عادلة من قولك: «أقمت العود فقام» بمعنى استقام. وهاهنا نكتة وهي أن الآية دلت على أن المسلم قائم بحق العبودية. وقوله: قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18] دل على أن المولى قام بحق الربوبية وهذه حقيقة قوله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40] . الصفة الثانية: يَتْلُونَ أي أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل. فالتلاوة القراءة. وأصل الكلمة الإتباع. فكأن التلاوة هي إتباع اللفظ، وآيات الله القرآن. وقد يراد بها أصناف مخلوقاته الدالة على صانعها. وآناء الليل ساعاته واحدها أنى مثل «معا» و «أني» و «أنو» مثل «نحى» و «تلو» . الصفة الثالثة: وَهُمْ يَسْجُدُونَ يحتمل أن يكون حالا من يَتْلُونَ كأنهم يقرأون في القرآن السجدة تخشعا إلا أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إني نهيت أن أقرأ راكعا وساجدا» يأباه وأن يكون كلاما مستقلا أي يقومون تارة ويسجدون أخرى ويتغون الفضل والرحمة بكل ما يمكن كقوله: يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً [الفرقان: 64] قال الحسن: يريح رأسه بقدميه وقدميه برأسه وذلك لإحداث النشاط والراحة، وأن يكون المراد: وهم يصلون ويتهجدون. والصلاة تسمى سجدة وركعة وسبحة، وأن يراد وهم يخضعون لله كقوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: 15] وعلى هذين الاحتمالين لا منع من كونه حالا. الصفة الرابعة: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فالصفات المتقدمة إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية. وهذه إشارة إلى كمالهم بحسب القوة النظرية، فإن حاصل المعارف معرفة المبدأ والمعاد. ولا يخفى أن غير مؤمني أهل الكتاب ليسوا من القبيلين في شيء بسبب تحريفاتهم واعتقاداتهم الفاسدة. الخامسة والسادسة: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهاتان الصفتان إشارة إلى أنهم فوق التمام وذلك لسعيهم في تكميل الناقصين بإرشادهم إلى ما ينبغي ومنعهم عما لا ينبغي. وفيه تعريض بالأمة المذمومة أنهم كانوا مداهنين. وعن سفيان الثوري: إذا كان الرجل محببا في جيرانه محمودا عند إخوانه فاعلم أنه مداهن. الصفة السابعة وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي المذكورات كلها وهي من صفات المدح لأن المسارعة في الخير دليل فرط الرغبة فيه حتى لا يفوت ففي التأخير آفات. وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «العجلة من الشيطان» «1» مخصوص بهذه الآية. على أنها لا تفيد كلية الحكم لأن القضية أهملت إهمالا، كيف لا والأمور متفاوتة. منها ما يحمد فيه التأخير لكونه مما يحصل على مهل وتدريج فلو طلب منه خلاف وضعه   (1) رواه الترمذي في كتاب البر باب 66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 فات الغرض وضاع السعي، أو لكونه غير معلوم العاقبة فيفتقر إلى مزيد تدبر وتأمل. ومنها ما يحمد فيه التعجيل لضد ما قلنا فتنتهز فيه الفرصة وتغتنم، فإن الفرص تمر مر السحاب. قال صلى الله عليه وسلم: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك» . الصفة الثامنة: أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وذلك أن الأمور بخواتيمها والعاقبة غير معلومة إلا في علم الله تعالى فإذا أخبر عنهم بانخراطهم في سلك الصالحين فذلك المقصود وقصارى المجهود. ثم شرط للأمة الموصوفة بل لجميع المكلفين إيصال الجزاء إليهم البتة تأكيدا للإخبار عنهم بقوله: وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ فقال: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي لن يحرموا ثوابه ولن يمنعوه. فضمن الكفران معنى الحرمان ولهذا يعدى إلى مفعولين، مع أن الأصل فيه التعدية إلى واحد نحو: شكر النعمة وكفرها. وسمى منع الجزاء كفرا كما سمى إيصال الثواب شكرا في قوله: فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة: 158] ثم ختم الكلام بقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ مع أنه عالم بكل الأشياء بشارة لهم بجزيل الثواب، ودلالة على أنه لا يفوز عنده بالكرامة إلا أهل التقوى، وتنبيها على أن الملتزم لوعدهم هو معبودهم الحق القادر الغني الحميد الخبير الذي لا غاية لكرمه ولا نهاية لعلمه، فما ظنك بمثيب هذا شأنه؟! ثم بين أحوال أهل الشقاء بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية. وقد سبق تفسير مثله في أول السورة. ثم إنه لما بين أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئا أمكن أن يخطر ببال أحد أن الذي ينفقون منه في وجوه الخيرات لعلهم ينتفعون بذلك فأزال ذلك الوهم بقوله: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ الآية. قال أكثر المفسرين وأهل اللغة: الصر البرد الشديد. وهو منقول عن ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد. وفي الصحاح: الصر بالكسر برد يضر بالنبات والحرث. وعلى هذا فمعنى الآية: كمثل ريح فيها برد وذلك ظاهر. وجوز في الكشاف أن يكون الصر صفة معناه البارد فيكون موصوفه محذوفا بمعنى فيها قرّة صر كما تقول: برد بارد على المبالغة، أو تكون «في» تجريدية كما يقال: رأيت فيك أسدا أي أنت أسد، وإن ضيعني فلان ففي الله كاف وكافل. وقيل: الصر السموم الحارة. وروى ابن الأنباري بإسناده عن ابن عباس يها صِرٌّ قال: فيها نار. وعلى القولين، الغرض من التشبيه حاصل سواء كان بردا مهلكا أو حرّا محرقا فإنه يصير مبطلا للحرث فيصح التشبيه. وهذا في التشبيه المركب الذي مر ذكره في أول سورة البقرة. ويجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث. والمراد ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون بها وجه الله، ولهذا قيده بقوله: ي هذِهِ الْحَياةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 الدُّنْيا فشبه ذلك بالزرع الذي حسه البرد فصار حطاما. وقيل: مثل ما ينفقون يعني أبا سفيان وأصحابه من سفلة اليهود المنفقين على أحبارهم في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي جمع العساكر عليه صلى الله عليه وسلم في كونه مبطلا لما أتوا به قبل ذلك من أعمال البر، كمثل ريح فيها صر في كونه مبطلا للحرث. والظاهر أن الضمير في نْفِقُونَ عائد إلى جميع الكفار. وذلك أن إنفاقهم إما أن يكون لمنافع الدنيا فلا يبقى له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلا عن الكافر، وإما أن يكون لمنافع الآخرة فالكفر مانع عن الانتفاع، ولعلهم كانوا ينفقون في الخيرات نحو بناء الرباطات والقناطر والإحسان إلى الضعفاء والأرامل راجين خيرا كثيرا في المعاد، لكنهم إذا قدموا الآخرة رأوا كفرهم مبطلا لآثار تلك الخيرات، فكان كمن زرع زرعا وتوقع منه نفعا كبيرا فأصابه جائحة فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف. ولعلهم كانوا ينفقون فيما ظنوه خيرا وهو معصية كإنفاق الأموال في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وفي تخريب ديار المسلمين. ولا يبعد أيضا تفسير الآية بخيبتهم في الدنيا فإنهم أنفقوا أموالا كثيرة في تجهيز الجيوش والإغراء على المسلمين وتحملوا المتاعب ثم انقلب الأمر عليهم وأظهر الله الإسلام وأعز أهله، فلم يبق مع الكفار من ذلك الإنفاق إلا الحيرة والحسرة. وقيل: المراد بالإنفاق هاهنا هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة كقوله: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 118] والمراد جميع الانتفاعات. أما فائدة قوله: لَمُوا أَنْفُسَهُمْ وعدم الاقتصار على قوله: صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ فهي أن الغرض تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية حتى لا يبقى منه أثر ولا عثر، وحرث المسلم المطيع ليس كذلك لأنه إذا أصابته جائحة في الدنيا أبدله الله خيرا منه في الدنيا أو في الآخرة. فإن المسلم مثاب على كل ألم يصيبه حتى الشوكة يشاكها، أما الذين عصوا الله فاستحقوا إهلاك حرثهم عقوبة لهم فحرثهم هو الذي لا يتصور منه بعد الإهلاك فائدة أصلا. ويحتمل أن يراد بالظالم هاهنا وضع الزرع في غير موضعه. فإن من زرع لا في موضعه وفي غير أوانه ثم أصابته الآفة كان أولى بأن يصير ضائعا. والضمير في ما ظَلَمَهُمُ للمنفقين أي ما ظلمهم بأن لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول، أو لأصحاب الحرث أي ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة. ثم إنه تعالى لما بالغ في شرح أحوال المؤمنين والكافرين شرع في تحذير المؤمنين من مخالطة الكافرين. قال ابن عباس ومجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ويواطؤن رجالا من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع، فنهاهم الله عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم وبطانة الرجل خصيصه وصفيه الذي يفضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 إليه بشقوره أي أموره اللاصقة بالقلب المهمة له. الواحد شقر وأصله من البطن خلاف الظهر، ومنه بطانة الثوب للذي يلي منه الجسد خلاف الظهارة. نهاهم عن مودة كل كافر لان قوله: بِطانَةً نكرة في سياق النفي. وقوله: مِنْ دُونِكُمْ يؤكد ذلك. وهو إما أن يتعلق ب لا تَتَّخِذُوا ويكون صفة لبطانة أي بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم والأول أولى، لأن الغرض ليس هو النهي عن اتخاذ البطانة وإنما المقصود النهي عن الاتخاذ من غير أبناء جنسهم وأهل ملتهم بطانة، وأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى. و «من» للتبيين وقيل: زائدة. ثم ذكر علة النهي فقال: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا يقال: ألا في الأمر يألو إذا قصر فيه، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم: «لا آلوك نصحا أو جهدا» على التضمين أي لا أمنعك نصحا. والخبال الفساد والنقصان ومنه رجل مخبول ومخبل ناقص العقل فاسده. وقيل: خبالا نصب على التمييز، وقيل: مصدر في موضع الحال. والمعنى لا يتركون جهدهم في مضرتكم وفساد حالكم. وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي عنتكم على أن «ما» مصدرية. والعنت الوقوع في أمر شاق ومنه يقال للعظم المجبور إذا أصابه شيء فهاضه قد أعنته. والمراد أحبوا وتمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر. والحاصل من الجملتين أنهم لا يقصرون في إفساد أموركم فإن لم يمكنهم ذلك لمانع من خارج فحب ذلك غير زائل عن قلوبهم قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ هي شدة البغض كالضراء شدة الضر. والأفواه جمع الفم وأصله فوه بدليل تكسيره كسوط وأسواط. فحذفت الهاء تخفيفا وأقيمت الميم مقام الواو لأنهما حرفان شفويان. وظهور البغضاء من اليهود واضح لقشرهم العصا وكشرهم عن الأنياب وعدم التقية في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب. وأما من المنافقين فذلك أن المداجي لا بد أن ينفلت من لسانه ما يكشف عن نفاقه وخبث طويته. وعن قتادة قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضا على ذلك. وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ لأن فلتات اللسان متناهية وكوامن الصدور تكاد تكون غير متناهية. ثم بيّن أن إظهار هذه الأسرار للمؤمنين من غاية العناية وحثهم على إعمال العقل في مدلولات هذه النصائح فقال: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ من أهل العقول. وقيل: إن كنتم تعقلون الفصل بين ما يستحقه العدوّ والولي. ثم إن سياق هذه الجمل يحتمل أن يكون على سبيل تنسيق الصفات للبطانة كأنه قيل: لا تتخذوا بطانة غير آليكم خبالا وادّين عنتكم بادية بغضاؤهم. وأما قَدْ بَيَّنَّا فكلام مبتدأ، أو أحسن من ذلك وأبلغ أن تكون الجمل مستأنفات كلها على جهة التعليل للنهي كما قلنا، فكأنه قيل: لم لا نتخذهم بطانة. فقيل: لأنهم لا يقصرون فقيل: لم يفعلون ذلك؟ فقيل: لأنهم يودون عنتكم. ثم قيل: وما آية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 ودادة العنت؟ فقيل: قد بدت والله أعلم. أما كون هذا التقدير أحسن فلأن الجمل المتعاقبة على سبيل التنسيق يتوسط بينها العاطف ولا عاطف هاهنا، وأما كونه أبلغ فلبناء الكلام على السؤال والجواب ولتقليل اللفظ وتكثير المعنى ولإثبات الدعاوى بالبراهين، ولا يخفى جلالة قدر هذه الفوائد. ثم استأنف للتحذير نمطا آخر من البيان مشتملا على التوبيخ فقال: ها أَنْتُمْ أُولاءِ الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب، ثم ذيله ببيان الخطأ وهو قوله: تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ لأنكم تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء ويريدون لكم الكفر وهو أقبح الأشياء، أو تحبونهم لما بينكم وبينهم من الرضاعة والقرابة ولا يحبونكم لاختلاف الدين، أو تحبونهم لأنهم أظهروا لكم الإيمان ولا يحبونكم لتمكن الكفر في باطنهم، أو تحبونهم لأنهم يظهرون لكم محبة الرسول ومحب المحبوب محبوب ولا يحبونكم لأنكم تحبون الرسول وهم يبغضونه ومحب المبغوض مبغوض، أو تحبونهم فتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم ولا يحبونكم لأنهم لا يفعلون مثل ذلك بكم، أو تحبونهم لأنكم لا تريدون وقوعهم في المحن ولا يحبونكم لأنهم يتربصون بكم الدوائر. والحق أن هذه الاعتبارات وأمثالها مما لا تكاد تنحصر داخلة في الآية. ثم ذكر سببا آخر مما يأبى أن يكون بينهما جامع فقال: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وأضمر قرينه وهو «وهم لا يؤمنون به» لأن ذكر أحد الضدين يغني عن الآخر غالبا. والمراد بالكتاب الجنس كقولهم «كثر الدرهم في أيدي الناس» . وفي الكشاف: إن الواو في وَتُؤْمِنُونَ للحال، واللام في بِالْكِتابِ للعهد أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله. وفيه توبيخ شديد لأنهم في باطنهم أصلب منكم في حقكم. ثم ذكر مضادة أخرى فقال: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا أحدثنا الدخول في الإيمان وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا ويوصف المغتاظ أو النادم بعض الأنامل والبنان والإبهام لأن هذا الفعل كثيرا ما يصدر منهما فجعل كناية عن الغضب والندم، وإن لم يكن هناك عض وإنما حصل لهم هذا الغيظ وهو شدة الغضب لما رأوا من ائتلاف المؤمنين وعلو دينهم وارتفاع شأنهم قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ دعاء عليهم بأن يزداد ما يوجب غيظهم من قوة الإسلام وعز أهله، فإن ذلك يتضمن ذلهم وخزيهم. والحاصل أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأن الله تعالى أتاح أن يظهر دين الإسلام على الأديان كلها والمقدر كائن، فإن كان هذا سببا لغيظكم فلا محالة يكون موتكم على هذا الغيظ. ثم إن قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بصواحباتها وهي الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه. إن كان داخلا في جملة المقول، فمعناه أخبرهم بما يسرونه من الغيظ وقل لهم: إن غيظكم سيزداد إلى أن يذيبكم أو تموتوا عليه، وقل لهم: إن الله يعلم ما هو أخفى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 مما تسرونه وهو مضمرات القلوب وخفياتها. وإن كان خارجا فالمعنى قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من اطلاعي إياك على أسرارهم فإني أعلم ما أضمره الخلائق ولم يظهروه على ألسنتهم أصلا. ويجوز أن لا يكون أمرا بالقول لفظا بل يراد حدّث نفسك بأنهم سيهلكون غيظا وحسدا، فيكون أمرا للرسول بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله ونصره. ثم ذكر نوعا آخر من مضادتهم ومعاداتهم فقال: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ أي حسنة كانت من منافع الدنيا كالصحة والخصب والغنيمة والظفر على الأعداء والائتلاف بين الأحباء تَسُؤْهُمْ ساءه يسوءه نقيض سره يسره وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ ضد من أضداد ما عددنا. يَفْرَحُوا بِها ولم يفرق صاحب الكشاف هاهنا بين المس والإصابة وجعل المعنى واحدا. وأقول: يشبه أن يكون المس أقل من الإصابة وأنه أدخل في بيان شدة العداوة، وذلك أن الحسد لا ينهض لقليل من الخير إلا أن يكون هناك كمال البغض، والشماتة قلما توجد إذا أصاب العدوّ بلية عظمى كما قيل: عند الشدائد تذهب الأحقاد إلا أن يكون ثمة غاية الحقد. وإذا كان حال القوم مع المسلمين في القضيتين بالخلاف دل ذلك على شدة بغضهم ونهاية حقدهم، وعلى هذا فلا يبعد أن يقال التنوين في حَسَنَةٌ للتقليل وفي سَيِّئَةٌ للتعظيم. وَإِنْ تَصْبِرُوا على عداوتهم وَتَتَّقُوا ما نهيتم عنه من موالاتهم، أو إن تصبروا على أوامر الله تعالى وتتقوا محارمه لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ وهو احتيال الإنسان لإيقاع غيره في مكروه. وقال ابن عباس: هو العداوة. شَيْئاً من الضرر بل كنتم في كنف الله وحفظه. وفيه إرشاد من الله تعالى إلى أن يستعان على دفع مكايد الأعداء بالصبر والتقوى، فمن كان لله كان الله له. وفي كلام الحكماء إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا في نفسك. وقال بعضهم: إذا ما شئت إرغام الأعادي ... بلا سيف يسل ولا سنان فزد في مكرماتك فهي أعدى ... على الأعداء من نوب الزمان إن الله بما تعملون في عداوتكم أو بما تعملون أنتم من الصبر والتقوى. مُحِيطٌ فيجازي كل أحد بما هو أهله. التأويل: ضربت عليهم ذلة الطمع ومسكنة الحرص إلا أن يعتصموا بمحبة الله وطلبه وحبل من الناس يعني متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته. ويقتلون الأنبياء يميتون سنتهم وسيرهم. ليسوا أي العلماء الربانيون والمداهنون. فلن تكفروه لأنه من تقرب إليه شبرا تقرب إليه ذراعا. ثم أخبر عن نفقات أهل الشهوات في استيفاء اللذات الجسمانية بقوله: ثَلُ ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ هي هواء الهوى يها صِرٌّ الشهوةصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ هو الحرث الروحاني لَمُوا أَنْفُسَهُمْ بإبطال الاستعداد الإنساني. ثم نهى أهل المحبة عن مباطنة أهل السلو من هذا الحديث فقال: لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا لا يقصرون في إنكاركم والاعتراض عليكم والطعن فيكم وَدُّوا من نعيم الدنيا ومشتهياتها ما عَنِتُّمْ ما مقتموه وتركتموه لدناءة همتهم وعلو همتكم، أو فرحوا بما قاسيتم من المجاهدات والتزام الفقر والصبر على المكاره. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ اعتراضاتهم الفاسدة وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ الحاسدة من الغل والحقد أَكْبَرُ تُحِبُّونَهُمْ محبة الرحمة والشفقة وَلا يُحِبُّونَكُمْ لتناكر الأرواح واختلاف حال الأشباح وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ بجميع ما في القرآن من ترك الدنيا وجهاد النفس. عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بالقلوب التي في الصدور أن موتها في الغيظ والحسد. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ كرامة من الله وقبول من الخلق. سيئة إنكار من الجهال وطعن. [سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 129] وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) القراآت: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ بغير همز: أبو عمرو غير شجاع وورش والأعشى وحمزة في الوقف. مُنْزَلِينَ بالتشديد وفتح الزاي: ابن عامر. الباقون: بالتخفيف والفتح أيضا. مُسَوِّمِينَ بكسر الواو: أبو عمرو وابن كثير وعاصم وسهل ورويس. الباقون. بالفتح. الوقوف: لِلْقِتالِ ط عَلِيمٌ هـ لأن «إذ» بدل من إِذْ غَدَوْتَ أو يتعلق بالوصفين أو بقوله تُبَوِّئُ أَنْ تَفْشَلا (لا) لأن الواو للحال وَلِيُّهُما ط الْمُؤْمِنُونَ هـ أَذِلَّةٌ ج للفاء تَشْكُرُونَ هـ مُنْزَلِينَ ط لتمام القول بَلى (لا) لاتحاد مع ما بعده مُسَوِّمِينَ هـ قُلُوبُكُمْ بِهِ ط الْحَكِيمِ (لا) لتعلق اللام بمعنى الفعل في النصر خائِبِينَ هـ ظالِمُونَ هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط مَنْ يَشاءُ ط رَحِيمٌ هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 التفسير: إنه سبحانه لما وعدهم النصر على الأعداء إن هم صبروا واتقوا وخلاف ذلك إن لم يصبروا، أتبعه قوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ يعني أنهم يوم أحد كانوا كثيرين مستعدين للقتال، فلما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم انهزموا، ويوم بدر كانوا قليلين غير مستعدين لكنهم أطاعوا أمر الرسول فغلبوا واستولوا على خصومهم. ووجه آخر في النظم وهو أن الانكسار يوم أحد إنما حصل بسبب تخلف عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق، وذلك يدل على أنه لا يجوز اتخاذ المنافقين بطانة. قال أبو مسلم: هذا كلام معطوف بالواو على قوله: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا [آل عمران: 13] أي قد كان لكم مثل تلك الآية إذ غدا الرسول يبوىء المؤمنين. والجمهور على أنه منصوب بإضمار «اذكر» . وعن الحسن أن هذا الغدو كان يوم بدر. وعن مجاهد أنه يوم الأحزاب. وأكثر العلماء بالمغازي على أن هذه الآية نزلت في واقعة أحد. وهو قول ابن عباس والسدي وابن إسحق والربيع والأصم وأبي مسلم. روي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبيّ ولم يدعه قط قبلها فاستشاره. فقال عبد الله وأكثر الأنصار: يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين. وقال بعضهم: يا رسول الله اخرج بنا إلى هؤلاء إلا كلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم. وقال صلى الله عليه وسلم: إني رأيت في منامي بقرا مذبحة حولي فأوّلتها خيرا، أو رأيت في ذباب سيفي ثلما فأولته هزيمة، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأوّلتها المدينة. فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم. فقال رجال من المسلمين- قد فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد-: أخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته. فلما رأوه قد لبس لأمته ندموا وقالوا: بئسما صنعنا، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه. فقالوا: اصنع يا رسول الله ما رأيت. فقال: لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل. فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة من المدينة. قالوا من منزل عائشة وهو المراد بقوله: مِنْ أَهْلِكَ عن مجاهد والواحدي أنه مشى على رجليه إلى أحد وأصبح بالشعب منها يوم السبت للنصف من شوّال. وجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوّم بهم القداح إن رأى صدرا خارجا قال: تأخر. وكان نزوله في جانب الوادي، وجعل صلى الله عليه وسلم ظهره وعسكره إلى أحد. وأمر صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جبير على الرماة وقال لهم: انضحوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا. وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: اثبتوا في هذا المقام فإذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 عاينوكم ولو كم الأدبار، فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خالف، رأى عبد الله بن أبيّ شق عليه ذلك وقال: أطاع الصبيان وعصاني ثم قال لأصحابه: إن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما يظفر بعدوّكم وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا، فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا فيتبعونكم فيصير الأمر على خلاف ما ذكر محمد صلى الله عليه وسلم. فلما التقى الفريقان انخزل عبد الله بن أبي بثلث الناس وقال: يا قوم علام نقتل أولادنا وأنفسنا. وكان جملة عسكر الإسلام ألفا- وقيل: تسعمائة وخمسين- فبقي نحو من سبعمائة. وكان المشركون ثلاثة آلاف فقوّاهم الله مع ذلك حتى هزموا المشركين. لكنهم لما رأوا انهزام القوم وكان الله تعالى بشرهم بذلك طمعوا أن تكون هذه الواقعة كواقعة بدر، فطلبوا المدبرين وتركوا ذلك الموضع وخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يعلموا أن ظفرهم يوم بدر ببركة طاعتهم لله ولرسوله، ومتى تركهم الله مع عدوّهم لم يقوموا لهم. فنزع الله الرعب من قلوب المشركين، فكرّوا على المسلمين وتفرق العسكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ وشج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وشلت يد طلحة دونه صلى الله عليه وسلم ولم يبق معه إلا أبو بكر وعلي والعباس وطلحة وسعد. ووقعت الصيحة في العسكر أن محمدا قتل. فأشرف أبو سفيان وقال: أفي القوم محمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه. فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: لا تجيبوه. قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدوّ الله. أبقى الله لك ما يخزيك. فقال أبو سفيان مرتجزا: أعل هبل أعل هبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. ولنرجع إلى التفسير بوّأته منزلا وبوّأت له منزلا أنزلته فيه. ومقاعد أي مواطن ومواقف، وقد اتسع في «قعد» و «قام» حتى استعمل المقعد والمقام في المكان ومنه قوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ [القمر: 55] وقوله: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ [النمل: 39] أي من موضع حكمك. ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم لما أمرهم أن يثبتوا في تلك الأمكنة ولا ينتقلوا عنها شبهت بالمقاعد لذلك، ويحتمل أن المقاتلين قد يقعدون في الأمكنة المعينة إلى أن يلاقيهم العدوّ فيقوموا فلهذا سميت تلك المواضع مقاعد وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بضمائركم ونياتكم فإنا بينا أنه كان في القوم موافق ومنافق إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ هما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 حيان من الأنصار: بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس، وهما الجناحان. أَنْ تَفْشَلا والفشل الجبن والخور. والظاهر أنها ما كانت عزيمة ممضاة ولكنها كانت حديث نفس وقلما تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع. فإن ساعدها صاحبها ذم وإن ردها إلى الثبات والصبر فلا بأس بما فعل. وعن معاوية أنه قال: عليكم بحفظ الشعر فقد كدت أضع رجلي في الركاب يوم صفين فما ثبتني إلّا قول عمرو بن الأطنابة: أقول لها إذا جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي ومما يدل على أن ذلك الهمّ لم يفض إلى حد العصيان قوله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما ولو كانت عزيمة لما ثبت معها الولاية. ويجوز أن يراد والله ناصرهما ومتولي أمرهما فما لهما يفشلان ولا يتوكلان على الله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ والتوكل «تفعل» من وكل أمره إلى فلان إذا اعتمد في كفايته عليه ولم يتوله بنفسه. وفيه إشارة إلى أن الإنسان يجب أن يدفع ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله، وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك. عن جابر: فينا نزلت إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة. وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أخرجاه في الصحيحين. ومع ذلك قال بعض العلماء: إن الله أبهم ذكرهما وستر عليهما ولا يجوز لنا أن نهتك ذلك الستر. وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وإنه ماء بين مكة والمدينة. عن الواقدي أنه اسم لماء بعينه. وعن الشعبي أنه سمي باسم رجل كان ذلك الماء له وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ إنما جاء بجمع القلة دون الأذلاء الذي هو للكثرة ليدل على أنهم مع قلة العدد- وهو المراد بذلتهم- كانوا قليلي العدد أيضا كما مر في تفسير قوله: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ [آل عمران: 13] ولم يعن بالذلة هاهنا نقيض العزة لقوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] أو لعل المراد أنهم كانوا أذلة في زعم المشركين وفي اعتقادهم لقلة عددهم وسلاحهم كما حكى عنهم «ليخرجن الأعز منها الأذل» أو لعل الصحابة كانوا قد شاهدوا الكفار في مكة في غاية القوة والشوكة، وإلى هذا الوقت ما اتفق لهم استيلاء على أولئك الكفار فكانت هيبتهم باقية في نفوسهم فَاتَّقُوا اللَّهَ في الثبات مع رسوله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بسبب تقواكم ما أنعم به عليكم من نصره. أو لعل الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها، فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ اختلف المفسرون في أن هذا الوعد حصل يوم بدر فيكون العامل في «إذ» قوله: نَصَرَكُمُ أو حصل يوم أحد فيكون بدلا ثانيا من إِذْ غَدَوْتَ والأول قول أكثر المفسرين لأن الكلام متصل بقصة بدر، ولأن العدد والعدد يوم بدر أقل وكان الاحتياج إلى المدد أكثر. والثاني مروي عن ابن عباس والكلبي والواقدي ومقاتل ومحمد بن إسحق، لأن المدد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 يوم بدر كان بألف من الملائكة لقوله تعالى في سورة الأنفال فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [الأنفال: 9] دون ثلاثة آلاف وخمسة آلاف فأنى صاروا خمسة آلاف وأجيب بأنهم أمدوا بألف ثم زيد ألفان فصاروا ثلاثة آلاف، ثم زيدت ألفان آخران فصاروا خمسة آلاف. فكأنه قيل لهم: أن يكفيكم أن يمدكم ربكم بألف من الملائكة؟ فقالوا: بلى. ثم قيل: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف؟ فقالوا: بلى. ثم قيل لهم: إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربكم بخمسة آلاف. وهو كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «أيسركم أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: نعم. قال: أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قالوا: نعم. قال: فإني أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» «1» . وأيضا لعل أهل بدر أمدوا بألف، ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير فخافوا وشق ذلك عليهم لقلة عددهم فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءهم مدد فأنا أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة. ثم إنه لم يأت قريشا ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش فاستغنى عن إمداد المسلمين بالزيادة على الألف. قالوا: إن الكفار كانوا يوم بدر ألفا والمسلمون على الثلث منهم فأنزل الله ألفا من الملائكة بعدد الكفار، وأما يوم أحد فكان عدد المسلمين ألفا وعدد الكفار ثلاثة آلاف، فلا جرم أنزل الله ثلاثة آلاف من الملائكة بعدد الكفار أيضا، ثم وعدهم أن يجعل الثلاثة الآلاف خمسة آلاف إن صبروا واتقوا. وأجيب بأن هذا تقريب حسن ولكنه لا يغلب على الظن أن يكون الأمر كذلك. قالوا: قال تعالى: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ ويوم أحد هو الذي كان يأتيهم الأعداء، أما يوم بدر فهم ذهبوا إلى الأعداء. وأجيب بأن المشركين لما سمعوا يوم بدر أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد تعرضوا للعير، ثار الغضب في قلوبهم واجتمعوا وقصدوا النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن الصحابة لما سمعوا ذلك خافوا فأخبرهم الله تعالى أنهم إن أتوكم من فورهم يمددكم ربكم بخمسة آلاف. ثم قالوا في وجه النظم إنه تعالى ذكر قصة أحد ثم قال: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي يجب أن يكون توكلكم على الله لا على كثرة عددكم وعددكم وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ثم عاد إلى قصة أحد. ثم إنزال خمسة آلاف كان مشروطا بشرط أن يصبروا ويتقوا. ثم إنهم لم يصبروا عن الغنائم ولم يتقوا بل خالفوا أمر الرسول، فلما مات الشرط لا جرم فات المشروط. وأما إنزال ثلاثة آلاف فإنه صلى الله عليه وسلم وعدهم ذلك بشرط أن يثبتوا في تلك المقاعد، فلما أهملوا الشرط لم يحصل المشروط. روى الواقدي عن مجاهد أنه قال: حضرت الملائكة يوم أحد ولكنهم لم يقاتلوا. وروي عن   (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 376، 377. الترمذي في كتاب الجنّة باب 13. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 34. أحمد في مسنده (4/ 160) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أعطى اللواء مصعب بن عمير فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقدم يا مصعب. فقال الملك: لست بمصعب. فعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ملك أمد به. وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال: كنت أرمي السهم يومئذ فيرده عليّ رجل أبيض حسن الوجه وما كنت أعرفه، فظننت أنه ملك. هذا حاصل تقرير القولين. واختلفوا أيضا في عدد الملائكة فمنهم من ضم العدد الناقص إلى العدد الزائد لأن الوعد بإمداد الثلاثة الآلاف لا شرط فيه، والوعد بإمداد خمسة الآلاف مشروط بالصبر والتقوى ومجيء الكفار من فورهم فهما متغايران وعلى هذا إن حملنا الآية على قصة بدر وقد ورد فيها ذكر الألف في موضع آخر فيكون المجموع تسعة آلاف، وإن حملناها على قصة أحد كان الجميع ثمانية آلاف. ومنهم من أدخل الناقص في الزائد فقال: وعدوا بألف ثم زيد ألفان فصح أن يقال: وعدوا بثلاثة آلاف. ثم زيد ألفان آخران فوعدوا بخمسة آلاف. وأجمع أهل التفسير وأرباب السير أنه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار. وعن ابن عباس أنه لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر، وفيما سواه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون ولا يضربون. ومنهم من قال: إن نصر الملائكة بإلقاء الرعب في قلوب الكفار وبإشعار المؤمنين بأن النصرة لهم. وأما أبوبكر الأصم فقد أنكر إمداد الملائكة وقال: إن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط، فإذا حضر هو يوم بدر فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار، وبتقدير حضوره فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟ وأيضا فإن أكابر الكفار كانوا مشهورين وقاتل كل منهم من الصحابة معلوم. وأيضا لو قاتلوا فإما أن يكون بحيث يراهم الناس أولا، وعلى الأول كان المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف وأكثر ولم يقل أحد بذلك، ولأنه خلاف قوله وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال: 44] ولو كانوا في غير صورة الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك البتة. وعلى الثاني كان يلزم جز الرؤوس وتمزيق البطون وإسقاط الكفار عن الأفراس من غير مشاهدة فاعل لهذه الأفعال ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات فكان يجب أن يتواتر ويشتهر بين الكافر والمسلم والموافق والمخالف. وأيضا إنهم لو كانوا أجساما كثيفة وجب أن يراهم الكل، وإن كانوا أجساما لطيفة هوائية فكيف ثبتوا على الخبول؟ واعلم أن هذه الشبه لا يليق إيرادها بقوانين الشريعة وبمن يدعي التمسك بها ويعترف بأنه تعالى قادر على ما يشاء فاعل لما يريد، فما كان يليق بالأصم إيرادها مع أن نص القرآن ناطق بها وورودها في الإخبار قريب من التواتر. روى عبيد بن عمير قال: لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون: لم نر الخيل البلق ولا الرجال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 البيض الذين كنا نراهم يوم بدر. والتحقيق في هذا المقام أن التكليف ينافي الإلجاء، وأنه تعالى قادر على إهلاك جميع الكفار في لحظة واحدة بملك واحد بل بأدنى من ذلك أو بلا سبب، وكذا على أن يجبرهم على الإسلام ويقسرهم عليه، لكنه لما أراد إشادة هذا الدين على مهل وتدريج بواسطة الدعوة بطريق الابتلاء والتكليف، فلا جرم أجرى الأمور على ما أجرى فله الحمد على ما أولى، وله الحكم في الآخرة والأولى. والحاصل أن إهلاك قوم لوط كان بعد انقضاء تكليفهم وهو حين نزول البأس، فلا جرم أظهر القدرة وجعل عاليها سافلها. وفي حرب أحد كان الزمان زمان تكليف، فلا جرم أظهر الحكمة ليتميز الموافق من المنافق والثابت من المضطرب، فإنه لو جرى الأمر في أحد كما جرى في بدر أشبه أن يفضي الأمر إلى حد الإلجاء ونافى التكليف ونوط الثواب والعقاب به، ولمثل ذلك أمد بالملائكة حين أمد على عادة الإمداد بالعساكر وإلا فملك واحد يكفي في إهلاك كثير من الناس فاعلم. ولنعد إلى تفسير الألفاظ. قال صاحب الكشاف: إنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة ليقوي قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر الله. ومعنى أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة وإنما جيء ب «لن» الذي هو تأكيد النقي للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم كالآيسين من النصر. ومعنى الكفاية سد الخلة والقيام بما يجب، ومعنى الإمداد إعطاء الشيء حالا بعد حال. قال بعضهم: ما كان على جهة القوة والإعانة. قيل فيه: أمده يمده. وما كان على جهة الزيادة قيل فيه: مده يمده. وقرىء مُنْزَلِينَ بكسر الزاي بمعنى منزلين النصر. بَلى إيجاب لما بعد «لن» أي بلى يكفيكم الإمداد بهم فأوجب الكفاية. ثم قال: إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ يعني المشركين مِنْ فَوْرِهِمْ هذا أي من ساعتهم هذه. والفور مصدر من فارت القدر إذا غلت، ثم استعمل في معنى السرعة. يقال: جاء فلان ورجع من فوره. ومنه قول الأصوليين الأمر للفور أو للتراخي. ثم سميت به الحالة التي لا توقف فيها على صاحبها فقيل: خرج من فوره كما يقال من ساعته لم يلبث. جعل مجيء خمسة آلاف مشروطا بثلاثة أشياء: الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور. فلما لم توجد هذه الشرائط بكلها أو بجلها فلا جرم لم يوجد المشروط. ويحتمل أن يعلق قوله: مِنْ فَوْرِهِمْ هذا بما بعده أي يمددكم ربكم بالملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر النزول عن الإتيان. وفيه بشارة بتعجيل النصر والفتح إن صبروا عن الغنائم واتقوا مخالفة الرسول. وقوله: مُسَوِّمِينَ من السومة العلامة، وقد يعلم الفارس يوم اللقاء بعلامة ليعرف بها. فمن قرأ بكسر الواو فمعناه معلمين أنفسهم أو خيلهم بعلامات مخصوصة، ومن قرأ بالفتح فالمعنى أن الله سوّمهم. قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 الكلبي: معلمين بعمائم صفر مرخاة على أكتافهم. وعن الضحاك: معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الخيول وأذنابها. وعن مجاهد: مجزوزة أذناب خيلهم. وعن قتادة: كانوا على خيل بلق. وعن عروة بن الزبير: كانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء فنزلت الملائكة كذلك. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوم بدر: تسوموا فإن الملائكة قد تسوّمت. وقيل: مسومين مرسلين من أسمت الإبل وسوّمتها أرسلتها للرعي. فالمعنى أن الملائكة أرسلت خيولهم على الكفار لقتلهم وأسرهم، أو أن الله تعالى أرسلهم على المشركين ليهلكوهم كما تهلك الماشية النبات في المراعي. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ الضمير عائد إلى المدد أو الإمداد الدال عليه الفعل. وقال الزجاج: وما جعل الله ذكر المدد إلا بشرى وهي اسم من البشارة أي إلا لتبشروا بأنكم تنصرون وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ كما كانت السكينة لبني إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا من المقاتلة إذا تكاثروا، ولا من عند الملائكة والسكينة. ولكن ذلك مما يقوي به الله رجاء النصرة ويربط به على قلوب المجاهدين. وفيه تنبيه على أن إيمان العبد لا يكمل إلا عند الإعراض عن الأسباب والإقبال بالكلية على مسببها. وقوله: الْعَزِيزِ إشارة إلى كمال قدرته والْحَكِيمِ إشارة إلى كمال علمه فلا يخفى عليه حاجات العباد ولا يعجز عن إنجاحها لِيَقْطَعَ طَرَفاً أي طائفة وقطعة من الذين كفروا. وإنما حسن في هذا الموضع ذكر الطرف دون الوسط لأنه لا وصول إلى الوسط إلا بعد الأخذ من الطرف كما قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرعد: 41] قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة: 123] أَوْ يَكْبِتَهُمْ الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه. وفسره الأئمة هاهنا بالإخزاء والإهلاك واللعن والهزيمة والغيظ والإذلال والكل متقارب فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ غير ظافرين بمبتغاهم قيل: الخيبة لا تكون إلا بعد التوقع ونقيضه الظفر. وأما اليأس فقد يكون قبل التوقع وبعده. ونقيضه الرجاء، واللام في لِيَقْطَعَ يحتمل أن يتعلق بقوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ أو بقوله وَمَا النَّصْرُ ويحتمل أن يكون من تمام قوله: وَلِتَطْمَئِنَّ ولكنه ذكر بغير العاطف لأنه إذا كان البعض قريبا من البعض جاز حذف العاطف كما يقول السيد لعبده: اشتريتك لتخدمني لتعينني لتقوم بخدمتي. قوله عز من قائل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ فيه قولان: أحدهما وهو الأشهر أنه نزل في قصة أحد عن أنس بن مالك قال: كسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوم أحد ودمي وجهه فجعل يسيل الدم على وجهه ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ وفي رواية: شج رأسه صلى الله عليه وسلم عتبة بن أبي وقاص يوم أحد وكسر رباعيته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول الحديث فنزلت. وفي رواية عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن أقواما فقال: اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحرث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية. وفيها أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فتاب الله على هؤلاء فحسن إسلامهم. وقيل نزلت في حمزة بن عبد المطلب. وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما رآه ورأى ما فعلوا به من المثلة قال: لأمثلن منهم بثلاثين فنزلت، وقيل: أراد يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا فمنعه الله عن ذلك. مروى عن ابن عباس، وقيل: أراد أن يستغفر للمسلمين الذين عصوا أمره فنزلت. وقال القفال: كل هذه الأمور وقعت يوم أحد فلا يمتنع حمل نزول الآية في الكل. القول الثاني: وإليه ذهب مقاتل أنها نزلت في واقعة أخرى وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جمعا من خيار الصحابة زهاء سبعين إلى بني عامر ليعلموهم القرآن. فلما وصلوا إلى موضع يقال له بئر معونة، ذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره وأخذهم وقتلهم. فجزع من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شديدا ودعا على الكفار في القنوت أربعين يوما يقول بعد ما يرفع رأسه من الركعة الثانية في الصبح: اللهم العن بني لحيان والعن رعلا وذكوان. اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة. اللهم أشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف حتى أنزل الله عز وجل لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ولا يخفى أن ظاهر الآية يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل فعلا فمنع منه، وحينئذ يتوجه الإشكال بأن فعل ذلك الفعل إن كان من الله تعالى فكيف منعه منه وإلا فهو قدح في عصمته ومناف لقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] والجواب أن المنع من الفعل لا يدل على أن الممنوع مشتغل به كقوله: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ [الأحزاب: 48] مع أنه ما أطاعهم وقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] مع أنه ما أشرك قط. ولعله عليه السلام شاهد من قتل حمزة وغيره ما أورثه حزنا شديدا، وكان من الممكن أن يحمله على ما لا ينبغي من الفعل والقول، فنص الله تعالى على المنع تقوية لعصمته صلى الله عليه وسلم وتأكيدا لطهارته. ولئن سلمنا أنه كان مشغولا بذلك الفعل والقول فإنه محمول على ترك الأولى، والنهي إرشاد إلى اختيار الأفضل وأيضا إن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون بمجرد التشهي وإنما هو بطلب الأصلح فالذي يظن به أنه خلاف مسؤوله صلى الله عليه وسلم وقد وقع فهو بالحقيقة سؤاله صلى الله عليه وسلم، ولهذا سأل الله تعالى أن يجعل لعنه على من لا يستحقه طهرا وزكاة ورحمة والله أعلم. وقوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ معناه ليس لك من قصة هذه الواقعة ومن شأن هذه الحادثة شيء، فإني أعلم بمصالح عبادي. أو المراد الأمر الذي هو خلاف النهي أي ليس لك من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 أمر خلقي شيء إلا ما يكون أمري وحكمي. وقوله: أَوْ يَتُوبَ منصوب بإضمار «أن» . و «أن يتوب» في حكم اسم معطوف بأو على الأمر أي ليس لك من أمرهم شيء، أو من التوبة عليهم، أو من تعذيبهم. ويجوز أن يكون معطوفا على شَيْءٌ والحاصل منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل فعل أو قول إلا ما كان بإذنه وأمره. وفيه إرشاد إلى كمال درجات العبودية وأن لا يخوض العبد في أسرار ملكه تعالى وملكوته. وعن الفراء والزجاج أن قوله: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ عطف على لِيَقْطَعَ وما بعده. وقوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ كالكلام الأجنبي الواقع بين المعطوف والمعطوف عليه كما تقول: ضربت زيدا فاعلم ذاك وعمرا. فيكون المعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا على الكفر. وقيل: «أو» بمعنى «إلا أن» كقولك: لألزمنك أو تعطيني حقي. والمعنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم. ثم التوبة عليهم مفسرة عند أهل السنة بخلق الندم فيه على ما مضى، وخلق العزم فيهم على أن لا يفعلوا مثل ذلك في المستقبل. وأكدوا هذا الظاهر ببرهان عقلي وهو أن الندم كراهة تحصل في القلب عما سلف منه، والعزم إرادة تتعلق بترك ذلك الفعل فيما يستقبل. فلو كانت هذه الإرادة فعل العبد لافتقر في فعلها إلى إرادة أخرى وتسلسل، فهو إذن بخلق الله تعالى. وأما المعتزلة ففسروا التوبة عليهم إما بفعل الألطاف أو بقبول التوبة منهم. وقوله: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ تعليل حسن التعذيب بسبب شركهم أو عصيانهم. ثم أكد ما ذكر من قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ بقوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي هما والحقائق والماهيات التي فيهما لله، فليس الحكم فيهما إلا له. ثم ذكر لازم الملك والحكم فقال: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ بعميم فضله وإن كان من الأبالسة والفراعنة وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ بحكم الإلهية والقدرة وإن كان من الملائكة المقربين والصديقين. وكل ذلك يحسن منه شرعا وعقلا وإلا لم يحصل كمال الملك والحكم إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب، ولهذا ختم الكلام بقوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ هذا قول الأشاعرة ويؤكده ما يروى عن ابن عباس في تفسير الآية: يهب الذنب الكبير لمن يشاء، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير. وأيدوا هذا النقل بدليل عقلي يشبه ما مر آنفا، وهو أن الإرادات كلها تستند إلى الله تعالى دفعا للتسلسل. فإذا خلق الله إرادة الطاعة أطاع، وإذا خلق إرادة المعصية عصى. فطاعة العبد أو معصيته تنتهي إلى الله، وفعل الله لا يوجب على الله شيئا. أما المعتزلة فناقشوا في ذلك ورووا عن الحسن: يغفر لمن يشاء بالتوبة ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين، ويعذب من يشاء ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين للعذاب. والحق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 أن العذاب لازم ملكة العصيان، وكذا القرب منه تعالى لازم ملكة الطاعة. فإن أريد بالوجوب هذا فلا نزاع، وإن أريد غير ذلك فممنوع والله أعلم. التأويل: أخبر عن النصر بعد الصبر بقوله: وَإِذْ غَدَوْتَ وهو إشارة إلى جوهر السالك الصادق والسائر العاشق، وذلك أن يغدو في طلب الحق والرجوع إلى المبدأ من أصله أي صفات نفسه الحيوانية والبهيمية تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ أي صفاتك الروحانية مقاعد لقتال النفس والشيطان والدنيا وَاللَّهُ سَمِيعٌ لدعائكم بالإخلاص للخلاص عن ورطة تيه الهوى عَلِيمٌ بصدق نياتكم في طلب الحق. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا يعني القلب وأوصافه والروح وأخلاقه وَاللَّهُ وَلِيُّهُما ليخرجهما من ظلمات البشرية إلى نور الربوبية وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ الدينا وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ من غلبات شهوات النفس إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ فيه إشارة إلى أن نور النبي صلى الله عليه وسلم يلهم أرواح المؤمنين على الدوام عند مقاتلة الشياطين ومجاهدة النفس ومكابدة الهوى في الركون إلى زخارف الدنيا. وثلاثة آلاف من الملائكة إشارة إلى الجنود الروحانية الملكوتية التي لا تدركها الحواس كقوله: وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها [التوبة: 26] بَلى إِنْ تَصْبِرُوا على مخالفة النفس وتثقوا بالله عما سواه يزدكم في الإمداد بالجنود لِيَقْطَعَ طَرَفاً ليقهر بعضا من الصفات النفسانية التي هي منشأ الكفر بنصر الروح وصفاته أَوْ يَكْبِتَهُمْ أو يغلبهم ويظفر بهم وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعز بحكمته من يشاء على ما يشاء والله المستعان على ما تصفون. [سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 141] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 القراآت: سارِعُوا بغير واو العطف: أبو جعفر ونافع وابن عامر. قَرْحٌ بالضم حيث كان: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص وجبلة. الباقون بالفتح. الوقوف: مُضاعَفَةً ص لعطف المتفقتين تُفْلِحُونَ هـ ج للعطف لِلْكافِرِينَ هـ تُرْحَمُونَ هـ ومن قرأ سارِعُوا بغير واو فوقفه مطلق وَالْأَرْضُ ص لأن ما بعده صفة لجنة أيضا أي جنة واسعة معدّة. لِلْمُتَّقِينَ لا لأن الذين صفتهم. عَنِ النَّاسِ ط الْمُحْسِنِينَ ج 5 لأن والذين يصلح مبتدأ وخبره أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ فلا وقف على يَعْلَمُونَ ويصلح معطوفا لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له فيوقف على يَعْلَمُونَ لينصرف عموم أولئك إلى المتقين السابقين منهم بعصمة الله واللاحقين بهم برحمة الله. والوقف لطول الكلام على لِذُنُوبِهِمْ للابتداء بالاستفهام وعلى إِلَّا اللَّهُ لاعتراض الاستفهام ولزوم الجواب بأن يقول الروح: لا أحد يغفر الذنوب إلا أنت خالِدِينَ فِيها ط الْعامِلِينَ هـ سُنَنٌ لا لتعقب الأمر بالاعتبار بعد الإخبار بالتبار. الْمُكَذِّبِينَ هـ لِلْمُتَّقِينَ هـ مُؤْمِنِينَ هـ مِثْلُهُ ط بَيْنَ النَّاسِ ج لأن الواو مقحمة أو عاطفة على محذوف أي ليعتبروا وَلِيَعْلَمَ شُهَداءَ ط الظَّالِمِينَ لا للعطف على لِيَعْلَمَ الْكافِرِينَ هـ. التفسير: قال القفال: يحتمل أن يكون هذا الكلام متصلا بما قبله من جهة أن أكثر أموال المشركين كانت قد اجتمعت من الربا، وكانوا ينفقون تلك الأموال على العساكر، وكان من الممكن أن يصير ذلك داعيا للمسلمين إلى الإقدام على الربا كي يجمعوا الأموال وينفقوها على العساكر ويتمكنوا من الانتقام منهم، فورد النهي عن ذلك نظرا لهم ورحمة عليهم. وقيل: إن هذه الآيات ابتداء أمر ونهي وترغيب وترهيب تتميما لما سلف من الإرشاد إلى الأصلح في أمر الدين وفي باب الجهاد. وليس المراد النهي عن الربا في حال كونه أضعافا لما علم أنه منهي عنه مطلقا، وإنما هو نهي عنه مع توبيخ بما كانوا عليه في الغالب والمعتاد من تضعيفه. كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله زاد في الأجل، وهكذا مرة بعد أخرى حتى استغرق بالشيء الطفيف مال المديون. وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فيه أن اتقاء الله في هذا النهي واجب، وأن الفلاح يقف عليه. فلو أكل ولم يتق زال الفلاح. ويعلم منه أن الربا من الكبائر لا من الصغائر ويؤكد قوله: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ كان أبو حنيفة يقول: هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 المعدّة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه. وكون النار معدّة للكافرين لا يمنع دخول الفساق وهم مسلمون فيها لأن أكثر أهل النار الكفار فغلب جانبهم كما لو قلت: أعددت هذه الدابة للقاء المشركين. لم يمتنع من أن تركبها لبعض حوائجك. ومثله قوله في صفة الجنة: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ فإنه لا يدل على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين وغيرهم كالملائكة والحور. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فيه أن رجاء الرحمة موقوف على طاعة الله وطاعة الرسول فلهذا يتمسك به أصحاب الوعيد في أن من عصى الله ورسوله في شيء من الأشياء فهو ليس أهلا للرحمة. وغيرهم يحمل الآية على الزجر والتخويف وَسارِعُوا معطوف على ما قبله. ومن قرأ بغير الواو فلأنه جعل قوله: سارِعُوا وقوله: أَطِيعُوا اللَّهَ كالشيء الواحد لأنهما متلازمان. وتمسك كثير من الأصوليين به في أن ظاهر الأمر يوجب الفور قالوا: في الكلام محذوف والتقدير: سارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم. ونكر المغفرة ليفيد المغفرة العظيمة المتناهية في العظم وليس ذلك إلا المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام والإتيان بجميع الطاعات والاجتناب عن كل المنهيات وهذا قول عكرمة. وعن علي بن أبي طالب: هو أداء الفرائض. وعن عثمان بن عفان أنه الإخلاص لأنه المقصود من جميع العبادات. وعن أبي العالية أنه الهجرة. وقال الضحاك ومحمد بن إسحق: إنه الجهاد لأنه من تمام قصة أحد. وقال الأصم: بادروا إلى التوبة من الربا لأنه ورد عقيب النهي عن الربا. ثم عطف عليه المسارعة إلى الجنة لأن الغفران ظاهره إزالة العقاب. والجنة معناها حصول الثواب، ولا بد للمكلف من تحصيل الأمرين. ثم وصف الجنة بأن عرضها السموات، ومن البيّن أن نفس السموات لا تكون عرضا للجنة، فالمراد كعرض السموات لقوله في موضع آخر عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ [الحديد: 21] والمراد المبالغة في وصف سعة الجنة فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه ونظيره خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [هود: 107] لأنها أطول الأشياء بقاء عندنا. وقيل: المراد أنه لو جعلت السموات والأرضون طبقا طبقا بحيث يكون كل واحد من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة، وهذه غاية من السعة لا يعلمها إلا الله تعالى. وقيل: إن الجنة التي عرضها عرض السموات والأرض إنما تكون للرجل الواحد لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملكا له، فلا بد أن تكون الجنة المملوكة لكل أحد مقدارها هكذا. وقال أبو مسلم: معنى العرض القيمة، ومنه عارضت الثوب بكذا. معناه لو عرضت السموات والأرض على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 سبيل البيع لكانتا ثمنا للجنة. والأكثرون على أن المراد بالعرض هاهنا خلاف الطول. وخص بالذكر لأنه في العادة أدنى من الطول، وإذا كان العرض هكذا فما ظنك بالطول. ونظيره بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [الرحمن: 54] لأن البطائن في العادة تكون أدون حالا من الظهائر وإذا كانت البطانة كذلك فكيف الظهارة؟ وقال القفال: العرض عبارة عن السعة. تقول العرب: بلاد عريضة أي واسعة. والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق ولم يدق، وما ضاق عرضه دق. فجعل العرض كناية عن السعة. وسئل هاهنا إنكم تقولون الجنة في السماء فكيف يكون عرضها كعرض السماء؟ وأجيب بعد تسليم كونها الآن مخلوقة أنها فوق السموات وتحت العرش. قال صلى الله عليه وسلم في صفة الفردوس «سقفها عرش الرحمن» «1» وروي أن رسول هرقل سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنك تدعو إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار؟ والمعنى- والله ورسوله أعلم- أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم والليل في ضد ذلك الجانب، فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل. وسئل أنس بن مالك عن الجنة أفي الأرض أم في السماء؟ فقال: وأي أرض وسماء تسع الجنة؟ قيل: فأين هي؟ قال: فوق السموات السبع تحت العرش. ثم ذكر صفات المتقين حتى يتمكن الإنسان من الجنة بواسطة اكتساب تلك الصفات. منها قوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ في حال الغنى والفقر لا يخلون بأن ينفقوا ما قدروا عليه. عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة. وعن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب فكان الفقير أنكر عليها فقالت: احسب كم هي من مثقال ذرة. وقيل: في عرس أو حبس. والمراد في جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرة، فهم لا يدعون الإحسان إلى الناس في حالتي فرح وحزن. وقيل: إن ذلك الإحسان والإنفاق سواء سرهم بأن كان على وفق طبعهم، أو ساءهم بأن كان مخالفا له، فإنهم لا يتركونه. وفي افتتاحه بذكر الإنفاق دليل على عظم وقعه عند الله لأنه طاعة شاقة، أو لأنه كان أهم في ذلك الوقت لأجل الحاجة إليه في الجهاد ومواساة فقراء المسلمين. ومنها قوله وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ كظم القربة إذا ملأها وشد فاها. ويقال: كظم غيظه إذا سكت عليه ولم يظهره لا بقول ولا بفعل كأنه كتمه على امتلائه، ورد غيظه في جوفه، وكف غضبه عن الإمضاء، وهو من أقسام الصبر والحلم. قال صلى الله عليه وسلم «من كظم غيظا وهو يقدر على   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 335) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا» «1» وقال أيضا: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» «2» ومنها قوله: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قيل: يحتمل أن يراد العفو عن المعسرين لأنه ورد عقيب قصة الربا كما قال في البقرة: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 280] ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم غضب على المشركين حين مثلوا بحمزة فقال: لأمثلن بهم. فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والعفو عنهم. والظاهر أنه عام لجميع المكلفين في الأحوال إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه. قال صلى الله عليه وسلم «لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه» وعن عيسى ابن مريم عليه السلام: ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذاك مكافأة، إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يجوز أن يكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل فيه هؤلاء المذكورون، وأن يكون للعهد فيكون إشارة إلى هؤلاء. وذلك أن من أنواع الإحسان إيصال النفع إلى الغير وهو المعنى بالإنفاق في السراء والضراء في وجوه الخيرات. ويدخل فيه الإنفاق بالعلم وبالنفس، والجود بالنفس أقصى غاية الجود. ومنها دفع الضرر عن الغير إما في الدنيا بأن لا يشتغل بمقابلة الإساءة بإساءة أخرى وهو المعبر عنه بكظم الغيظ، وإما في الآخرة بأن يبرىء ذمته عن التبعات والمطالبات الأخروية وهو المقصود بالعفو. فإذن الآية دالة على جميع جهات الإحسان إلى الغير. فذكر ثواب المجموع بقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فإن محبة الله للعبد أعظم درجات الثواب. قال ابن عباس في رواية عطاء: إن منهالا التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا فضمها إلى نفسه وقبلها ثم ندم على ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الآية. وقال في رواية الكلبي: إن رجلين أنصاريا وثقيفا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، فكانا لا يفترقان في أحوالهما. فخرج الثقفي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرعة في السفر وخلف الأنصاري في أهله وحاجته. فأقبل ذات يوم فأبصر امرأة صاحبه قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها، فوقعت في نفسه فدخل ولم يستأذن حتى انتهى إليها. فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها فقبل ظاهر كفها ثم ندم واستحى فأدبر راجعا فقال: سبحان الله خنت أمانتك وعصيت ربك ولم تصب حاجتك. قال: وندم على صنيعه فخرج يسيح في الجبال ويتوب   (1) رواه ابو داود في كتاب الأدب باب 3. الترمذي في كتاب البر باب 74. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 18. أحمد في مسنده (3/ 438، 440) . (2) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 102. مسلم في كتاب البر حديث 106. الموطأ في كتاب حسن الخلق حديث 12. أحمد في مسنده (1/ 382) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 الى الله من ذنبه حتى وافى الثقفي فأخبرته أهله بفعله، فخرج يطلبه حتى دل عليه فوافقه ساجدا وهو يقول: رب ذنبي ذنبي. قد خنت أخي فقال له: يا فلان قم فانطلق الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله عن ذنبك لعل الله أن يجعل لك فرجا وتوبة. فأقبل معه حتى رجع إلى المدينة، وكان ذات يوم عند صلاة العصر فنزل جبريل عليه السلام بتوبته فتلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً إلى قوله: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ فقال عمر: يا رسول الله أخاص هذا لهذا أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة في التوبة. وعن ابن مسعود أن المسلمين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أبنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا؟ كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه اجدع أذنك اجدع أنفك افعل كذا. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأها عليهم، وبيّن أنهم أكرم على الله منهم حيث جعل كفارة ذنبهم الاستغفار. والفاحشة نعت محذوف أي فعلوا فعلة فاحشة متزايدة القبح أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أذنبوا أي ذنب كان مما يؤاخذ الإنسان به. وقيل: الفاحشة هي الزنا لقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً [الإسراء: 32] وظلم النفس ما دونه من القبلة واللمسة. وهذا القول أنسب بسبب النزول الذي رويناه. وقيل: الفاحشة هي الكبيرة وظلم النفس هي الصغيرة والصغيرة يجب الاستغفار منها لأنه صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالاستغفار وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: 19] وما كان استغفاره إلا عن الصغائر بل ترك الأولى ذَكَرُوا اللَّهَ أي وعيده أو عقابه وأنه سائلهم أو نهيه، أو جلاله الموجب للخشية والحياء منه، أو ذكروا العرض الأكبر على الله. وعلى جميع التقادير فلا بد من مضاف محذوف. ويكون الذكر بمعنى ضد النسيان وإليه ذهب الضحاك ومقاتل والواقدي. ونظيره إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201] وقيل: المراد ذكروا الله بالثناء والتعظيم والإجلال، فإن من آداب المسألة والدعاء تقديم التعظيم والثناء. فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ يقال: استغفر الله لذنبه ومن ذنبه بمعنى. والمراد بالاستغفار الإتيان بالتوبة على الوجه الصحيح، وهو الندم على فعل ما مضى مع العزم على ترك مثله في المستقبل. فأما الاستغفار بمجرد اللسان فذاك لا أثر له في إزالة الذنب وإنما يجب إظهار هذا الاستغفار لإزالة التهمة ولإظهار كونه منقطعا إلى الله تعالى وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ لأن كمال قدرته وغناه كما أنه يقتضي إيقاع العبد في العقاب، فكمال رحمته وعفوه يقتضي إزالة ذلك العقاب عنه، لكن صدور الرحمة عنه بالذات «سبقت رحمتي غضبي» «1» فجانب العفو والمغفرة أرجح ولا سيما إذا اقترن الذنب   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15، 22. مسلم في كتاب التوبة حديث 14- 16. الترمذي في- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 بالتوبة والاعتذار والتنصل بأقصى ما يمكن للعبد. وفي كتاب مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» «1» وعن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرضين خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» «2» وعن علي رضي الله عنه قال: حدثني أبو بكر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفر له» «3» ثم قرأ وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً إلى قوله: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وهذه الجملة معترضة والتقدير: فاستغفروا لذنوبهم وَلَمْ يُصِرُّوا لم يقيموا على قبيح فعلهم غير مستغفرين. والتركيب يدل على الشدة، ومنه صررت الصرة شددتها، وصر الفرس أذنيه ضمهما إلى رأسه. وأصر أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» «4» وروي «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار» وَهُمْ يَعْلَمُونَ حال من فاعل يصروا، وحرف النفي منصب عليها معا كما لو قلت: ما جاءني زيد وهو راكب. وأردت نفي المجيء والركوب معا. وذلك أن المقام مقام مدح لهم بعدم الإصرار. والمعنى ليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها لأنه قد يعذر الجاهل ولا يعذر العالم، ويحتمل أن يراد بالعلم العقل والتمييز والتمكن من الاحتراز عن الفواحش فيجري مجرى قوله صلى الله عليه وسلم «رفع القلم عن ثلاث» «5» وعلى هذا يجوز أن يراد نفي الإصرار في حالة العلم لا نفيه مطلقا كما لو أردت في المثال المذكور نفي المجيء   - كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 242، 258) . (1) رواه مسلم في كتاب التوبة حديث 11. الترمذي في كتاب الجنّة باب 2. أحمد في مسنده (1/ 289) ، (2/ 305) . (2) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 98. (3) رواه أبو داود في كتاب الوتر باب 26. الترمذي في كتاب الصلاة باب 181. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 193. أحمد في مسنده (1/ 2، 9) . (4) رواه البخاري في كتاب الدعوات باب 3. الترمذي في كتاب تفسير سورة 47 باب 1. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 57. أحمد في مسنده (2/ 282، 341) . (5) رواه البخاري في كتاب الطلاق باب 11. أبو داود في كتاب الحدود باب 17. الترمذي في كتاب الحدود باب 1. النسائي في كتاب الطلاق باب 21. ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 15. الدارمي في كتاب الحدود باب 1. أحمد في مسنده (1/ 116، 118) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 في حال الركوب لا نفي المجيء على الإطلاق أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وهي إشارة إلى إزالة العقاب وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وهذه إشارة إلى إيصال الثواب وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ذلك الجزاء. قال القاضي: وهذا يبطل قول من قال: إن الثواب تفضل من الله وليس جزاء على عملهم، وذلك أنه سمى الجزاء أجرا والأجر واجب مستحق فكذلك الجزاء. ولقائل أن يقول: إنه على وجه التشبيه لا التحقيق. واستدلوا أيضا بالآية على أن أهل الجنة هم المتقون والتائبون دون المصرين لقوله: وَلَمْ يُصِرُّوا والجواب ما مر أن كون الجنة معدة للمتقين الموصوفين لا يوجب أن لا يدخلها غيرهم بفضل الله وبرحمته. ثم ذكر ما يحمل المكلفين على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية فقال: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ وأصل الخلو الانفراد، والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه، وكل ما انقرض ومضى فقد انفرد عن الوجود، والسنة الطريقة المستقيمة. والمثال المتبع وهي «فعلة» بمعنى «مفعولة» من سن الماء يسنه إذا والى صبه فكأنه أجراه على نهج واحد، أو من سننت؟؟؟ النصل أحددته، أو من سن الإبل إذا أحسن الرعي. والمراد قد مضت من قبلكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة يعني سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله: فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فإنهم خالفوا رسلهم للحرص على الدنيا وطلب لذاتها، ثم انقرضوا ولم؟؟؟؟ أثر وبقي عليهم اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة هذا قول أكثر المفسرين. قال مجاهد: المراد سنن الله في الكافرين والمؤمنين فإن الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر، ولكن المؤمن بقي له الثناء الجميل والثواب الجزيل والكافر له اللعن والعقاب. ثم قال فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر، أو لأن الغرض زجر الكفار عن كفرهم وذلك إنما يحصل بتأمل أحوال أمثالهم. وليس المراد من قوله فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ الأمر بالسير بل المقصود تعرّف أحوالهم. فإن حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلا. ولا يبعد أن يقال: ندب إلى السير لأن لمشاهدة آثار الأقدمين أثرا أقوى من أثر السماع كما قيل: إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار هذا بَيانٌ المشار إليه بهذا إما أن يكون جميع ما تقدم من الأمر والنهي والوعد والوعيد للمتقين والتائبين والمصرين ويكون قوله: قَدْ خَلَتْ جملة معترضة للبعث على الإيمان وما يستحق من الأجر، وإما أن يكون ما حثهم عليه من النظر في سوء عواقب المكذبين ومن الاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم. أما البيان والهدى والموعظة فلا بد من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 الفرق بينها لأن العطف يقتضي المغايرة. فقيل: البيان كالجنس وهو إزالة الشبهات وتحته نوعان: أحدهما الكلام الذي يهدي المكلف إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى، وثانيهما الكلام الزاجر عما لا ينبغي في طريق الدين وهو الموعظة. وخص الهدى والموعظة بالمتقين لأنهم هم المنتفعون به. وقيل: البيان عام للناس والهدى والموعظة خاصان بالمتقين، لأن الهدى اسم للدلالة بشرط كونها موصلة إلى البغية. وأقول: يشبه أن يكون البيان عاما لجميع المكلفين وبأي طريق كان من طرق الدلالة. والهدى يراد به الكلام البرهاني والجدلي، والموعظة يراد بها الكلام الإقناعي الخطابي كقوله: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] وخص المتقون بالذكر لأن البيان في حق غيرهم غير مثمر. ثم لما بيّن هذه المقدمات ومهدها ذكر المقصود وهو قوله: وَلا تَهِنُوا. كأنه قال: إذا بحثتم عن أحوال القرون الخالية علمتم أن صولة الباطل تضحمل، وأن العاقبة والغلبة لأرباب الحق. والوهن الضعف أي لا تضعفوا عن الجهاد ولا يورثنكم ما أصابكم يوم أحد وهنا وجبنا وَلا تَحْزَنُوا على من قتل منكم وجرح وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا عنكم؟؟؟؟ أحد أو أنتم الأعلون شأنا لأن قتالكم لله وقتالهم للشيطان وقتلاكم في الجنة؟؟؟؟، أو أنتم الأعلون بالحجة والعاقبة الحميدة كقوله: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] وفي هذا تسلية لهم وبشارة. وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إما أن يكون قيدا لقوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي إن كنتم مصدقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة، وإما أن يكون قيدا لقوله: وَلا تَهِنُوا أي إن صح إيمانكم بالله وبحقية هذا الدين فلا تضعفوا لثقتكم بأن الله سيتم هذا الأمر. قال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد. فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا يعلون علينا، اللهم لا قوة لنا إلا بك، اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم فذلك قوله وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وقال راشد بن سعد: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد كئيبا حزينا جعلت المرأة تجيء بزوجها وأبيها وابنها مقتولين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهكذا تفعل برسولك؟ فنزلت إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ بفتح القاف وبضمها وهما لغتان كالضعف والضعف، والجهد والجهد. وقيل بالفتح لغة تهامة والحجاز. وقيل بالفتح مصدر، وبالضم اسم. وقال الفراء: إنه بالفتح الجراحة بعينها، وبالضم ألم الجراحة. وقال ابن مقسم: هما لغتان إلا أن المفتوحة توهم أنها جمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 قرحة. ومعنى الآية إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبل ذلك في يوم بدر. ثم لم يثبطهم ذلك عن معاودة القتال فأنتم أولى بأن لا تفرقوا ولا تجبنوا ونظيره فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ [النساء: 104] وقيل: القرحان في يوم أحد وذلك أنه قتل يومئذ خلق من الكفار نيف وعشرون رجلا، وقتل صاحب لوائهم، وكثرت الجراحات فيهم، وعقرت عامة خيلهم بالنبل، وقد كانت الهزيمة عليهم في أول النهار كما يجيء من قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ [آل عمران: 152] والمماثلة في عدد القتلى والجرحى غير لازمة وإنما تكفي المثلية في نفس القتل والجراحة. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ موصوفا وصفته مبتدأ خبره نُداوِلُها وتلك مبتدأ أو الأيام خبره كقولك: «هي الأيام تبلي كل جديد» فإن الضمير لا يوصف ويكون تِلْكَ إشارة إلى الوقائع والأحوال العجيبة التي يعرفها أهل التجارب من أبناء الزمان. والمراد بالأيام ما في تلك الأوقات من الظفر والغلبة والحالات الغريبة. وقوله نُداوِلُها كالتفسير لما تقدمه. والمداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر. ويقال: تداولته الأيدي أي تناقلته. والدنيا دول أي تنتقل من قوم إلى آخرين لا تدوم مسارّها ومغامها، فيوم يحصل فيه السرور له والغم لعدوّه، ويوم آخر بالعكس فلا يبقى شيء من أحوالها ولا يستقر أثر من آثارها ونظيره قولهم: «الحرب سجال» . شبهت بالدلاء لكونها تارة مملوءة وأخرى فارغة. وليس المراد من هذه المداولة أنه تعالى تارة ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين، فإن نصرة الله منصب شريف لا يناله الكافرون. بل المراد أنه تارة يشدد المحنة على الكافرين وأخرى على المؤمنين وذلك أنه لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميعها لحصل العلم الاضطراري بأن الإيمان حق وما سواه باطل، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب. فالحكمة في المداولة أن تكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الإسلام، فيعظم ثوابه عند الله وإلى هذا يشير قوله سبحانه: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وحذف المعطوف عليه ليذهب الوهم كل مذهب ويقرر الفوائد. والتقدير نداولها بين الناس ليكون كيت وكيت وليعلم. وفيه إيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة ولكن في ضمنها مصالح جمة لو عرفوها انقلبت مساءتهم مسرة منها أن يعلم الله. وقد احتج هشام بن الحكم بظاهر هذه الآية ونحوها كقوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا [آل عمران: 142] على أنه تعالى لا يعلم الحوادث إلا عند وقوعها وقد سبق الأجوبة عنها في تفسير قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [البقرة: 124] وتأويل الآية أن إطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 المقدور مجاز مشهور. يقال: هذا علم فلان أو قدرته والمراد معلومه أو مقدوره. فكل آية يشعر ظاهرها بتجدد العلم فالمراد تجدد المعلوم لأن التغير في علم الله تعالى محال. فمعنى الآية ليظهر معلومنا وهو المخلص من المنافق والمؤمن من الكفار. وقيل: معناه ليحكم بالامتياز، فوضع العلم مقام الحكم. وقيل: ليعلمهم علما يتعلق به الجزاء وهو أن يعلمهم موجودا منهم الثبات، لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد. وقيل: ليعلم أولياء الله فأضاف إلى نفسه تفخيما لهم. وعلى الأقوال العلم بمعنى العرفان ولهذا تعدى إلى مفعول واحد. وقيل: إنه بمعنى فعل القلب الذي يتعدى الى مفعولين والتقدير: وليعلمهم مميزين عن غيرهم. ويحتمل على جميع التقادير أن يضمر متعلق وليعلم بعده ومعناه: وليتميز الثابتون على الإيمان من المضطربين فعلنا ما فعلنا. ومن حكم المداولة قوله: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة كقوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] فإن كونهم كذلك منصب شريف لا يناله إلا هذه الأمة، ولن يكونوا من الأمة إلا بالصبر على ما ابتلوا به من الشدائد. أو المراد ليكرم ناسا منكم بالشهادة. والشهداء جمع شهيد كالكرماء والظرفاء. والمقتول من المسلمين بسيف الكفار يسمى شهيدا. قال النضر بن شميل: لأنهم أحياء حضروا دار السلام كما ماتوا بخلاف غيرهم. وقال ابن الأنباري: لأن الله وملائكته شهدوا له بالجنة وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي المشركين إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] قال ابن عباس: وقيل: لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان الصابرين على البلوى، وهو اعتراض بين بعض المعللات وبعض. وفيه أن دولة الكافرين على المؤمنين للفوائد المذكورة لا لأنه يحبهم. ومن الحكم قوله: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ والمحص في اللغة التنقية والمحق النقصان. وقال المفضل: هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه شيء. وقال الزجاج: معنى الآية أنه إن حصلت الغلبة للكافرين على المؤمنين كان المراد تمحيص ذنوب المؤمنين أي تطهيرهم وتصفيتهم، وإن كان بالعكس فالمراد محو آثار الكفار. وهذه مقابلة لطيفة لأن تمحيص هؤلاء بإهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك بإهلاك أنفسهم لا بالكلية، فإن ذلك غير واقع بل بتدريج ومهل ليقطع طرفا ننقصها من أطرافها. التأويل: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا ما يؤدي إلى الحرص على طلب الدنيا أَضْعافاً مُضاعَفَةً إلى ما لا يتناهى فلا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وَاتَّقُوا اللَّهَ خطاب للخواص أي اتقوا بالله عن غير الله في طلب الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ عن حجب ما سوى الله، وتظفرون بالوصول إلى الله. ثم خاطب العوام الذين هم أرباب الوسائط بقوله: وَاتَّقُوا أي بالقناعة النَّارَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 أي نار الحرص التي توري عنها نار القطيعة، وجوزوا بقدمي طاعة الله وطاعة رسوله. ثم أخبر عن المسارعة إلى الجنان بمصارعة النفس والجنان عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي المسافة بين العبد وبينها هذا القدر لأن الوصول إليها بعد العبور عما في السموات والأرض وهو عالم المحسوسات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عيسى أنه قال: لن يلج ملكوت السموات والأرض من لم يولد مرتين. فالولادة الثانية هي الخروج عن الصفات الحيوانية بتزكية النفس عنها. وولوج الملكوت هو التحلية بالصفات الروحانية يُنْفِقُونَ أموالهم فِي السَّرَّاءِ وأرواحهم في الضراء بل من سوى الله في طلب الله فَعَلُوا فاحِشَةً هي رؤية غير الله أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالتعلق بما سوى الله وَذَكَرُوا اللَّهَ بالنظر إليه وبرؤيته وَمَنْ يَغْفِرُ ومن يستر بكنف عواطفه ذنوب وجود الأغيار إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا من رؤية الوسائط والتعلق بها وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن كل شيء ما خلا الله باطل أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ أي هم مستحقون لمقامات القرب مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ من أصناف ألطافه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ العناية وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ لأن نيل المقصود في بذل المجهود قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ أمم لهم سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ نفوسكم الحيوانية بالعبور على أوصافها الدنية لتبلغوا سماء قلوبكم الروحانية فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ بهذه المقامات الروحانية والمكاشفات الربانية وَلا تَهِنُوا أيها السائرون في السير إلى الله وَلا تَحْزَنُوا على ما فاتكم من اللذات الفانية وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ من أهل الدنيا والآخرة لأنكم من أهل الله إِنْ يَمْسَسْكُمْ في أثناء المجاهدات قَرْحٌ ابتلاء وامتحان فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ من الأنبياء والأولياء قَرْحٌ محن مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ السائرين يوما نعمة ويوما نقمة، ويوما منحة ويوما محنة. وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أرباب المشاهدات والمكاشفات وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ فيه إشارة إلى أن كل ألم ونصب يصيب المؤمن فهو تطهير لقلبه وتكفير لسره، وما يصيب الكافر من نعمة ودولة وغنى ومنى فهو سبب لكفرانه ومزيد لطغيانه. وبوجه آخر البلاء لأهل الولاء تمحيص للقلوب عن ظلمات العيوب وتنويرها بأنوار الغيوب ومحق صفات نفوسهم الكافرة ومحو سمات أخلاقهم الفاجرة ليتخلصوا عن قفص الأشباح إلى حظائر الأرواح. [سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 150] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 القراآت: رَأَيْتُمُوهُ بغير همزة يعني بالتليين ونحوه رَأَوْكَ [الفرقان: 41] ورَأَوْهُ [الملك: 27] روى هبة الله بن جعفر عن الأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف. يُرِدْ ثَوابَ وبابه مدغما: أبو عمرو وشان بن عامر وسهل وحمزة وعلي وخلف نُؤْتِهِ مثل يُؤَدِّهِ [آل عمران: 75] وَكَأَيِّنْ بالمد والهمز مثل «كاعن» حيث كان: ابن كثير. وقرأ يزيد وَكَأَيِّنْ بالمد بغير همزة. وقرأ أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي بغير نون في الوقف وكأي الباقون: وَكَأَيِّنْ في الحالين قتل أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ونافع وقتيبة والمفضل الباقون. قاتَلَ. الوقوف: الصَّابِرِينَ هـ تَلْقَوْهُ ص لطول الكلام رَسُولٌ ج لأن ما بعده يصلح صفة واستئنافا الرُّسُلُ ط أَعْقابِكُمْ ط لتناهي الاستفهام شَيْئاً ط الشَّاكِرِينَ هـ مُؤَجَّلًا ج لابتداء الشرط مِنْها ج للعطف مِنْها ط الشَّاكِرِينَ هـ قتل ط ليكون قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلزاما للحجة على من اعتذر في الانهزام بما سمع من نداء إبليس ألا إن محمدا قد قتل. والتقدير ومعه ربيون كثير. ولو وصل كان الربيون مقتولين. ومن قرأ قاتَلَ فله أن لا يقف كَثِيرٌ ج لابتداء النفي مع فاء التعقيب وَمَا اسْتَكانُوا ط الصَّابِرِينَ هـ الْكافِرِينَ هـ الْآخِرَةِ ط الْمُحْسِنِينَ هـ خاسِرِينَ هـ مَوْلاكُمْ ج النَّاصِرِينَ هـ. التفسير: إنه سبحانه لما ذكر فوائد مداولة الأيام وحكمها، أتبعها ما هو السبب الأصلي في ذلك فقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بدون تحمل المشاق. و «أم» منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار و «لما» بمعنى «لم» مع زيادة التوقع. وليس المراد نفي العلم بالمجاهدين ولكن المراد نفي المعلوم. وإنما حسن إقامة ذلك مقام هذا لأن العلم متعلق بالمعلوم كما هو عليه، فلما حصلت بينهما هذه المطابقة حسن إقامة أحدهما مقام الآخر. تقول: ما علم الله في فلان خيرا أي ما فيه خير حتى يعلمه. فحاصل الكلام لا تحسبوا أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 تدخلوا الجنة ولم تجاهدوا بعد. وإنما أنكر هذا الحسبان لأنه تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة، وأوجب الصبر على تحمل متاعبها، وبين وجوه المصالح المنوطة بها في الدين والدنيا. وإذا كان كذلك فمن البعيد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال مثل هذه الطاعة. والواو في قوله: وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ واو الجمع في قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. كأنه قيل: إن دخول الجنة وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان فليس كل من أقر بدين الله كان صادقا، ولكن الفيصل فيه تسليط المكروهات ومخالفات النفس فإن الحب هو الذي لا ينقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء. وقيل: التقدير أظننتم أن تدخلوا الجنة قبل أن يعلم الله المجاهدين وأن يعلم الصابرين؟ ووجه آخر وهو أن يكون مجزوما أيضا لكن الميم لما حركت للساكنين حركت بالفتحة اتباعا للفتحة قبلها. وهذا كما قرىء وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ بفتح الميم إلا أن يراد ولما يعلمن بالنون الخفيفة ثم حذفت. وقرأ الحسن وَيَعْلَمَ بالجزم على العطف. وروي عن أبي عمرو وَيَعْلَمَ بالرفع على الحال كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ الخطاب فيه للذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى المشركين وكان رأيه في الإقامة بالمدينة. ويراد بالموت سببه وهو الجهاد والقتل. قال المحققون: إنه لم يكن تمنيهم للموت تمنيا لأن يقتلوا لأن قتل المشركين لهم كفر. ولا يجوز للمؤمن أن يتمنى الكفر أو يريده أو يرضى به، بل إنما تمنوا لفوز بدرجات الشهداء والوصول إلى كراماتهم. وشبهوا ذلك بمن شرب دواء الطبيب النصراني فإن غرضه حصول الشفاء. ولا يخطر بباله جر منفعة وإحسان إلى عدو الله وتنفيق صناعته. قالت الأشاعرة هاهنا: من أراد شيئا أراد ما هو من لوازمه، وثواب الشهداء لا يحصل إلا بالشهادة، ولا ريب أنه تعالى أراد إيصال ثواب الشهداء إلى المؤمنين، ولهذا ورد من الترغيبات ما ورد فأراد صيرورتهم شهداء، ولن يصيروا شهداء إلا إذا قتلهم الكفار فلا بد أن يريد أن يقتلهم الكفار وذلك القتل كفر ومعصية، فثبت أنه تعالى مريد للكفر والإيمان والطاعة والعصيان. مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته وصعوبة مقاساته. فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ قال الزجاج: أي وأنتم بصراء كقولهم: رأيته بعيني أي رأيتموه معاينين حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وشارفتم أن تقتلوا. ويحتمل أن يراد رأيتم إقدام القوم وشدة حرصهم على قتلكم وعلى قتل الرسول، ثم بقيتم أنتم تنظرون إليهم من غير جد في دفعهم ولا اجتهاد في مقاتلتهم، وفيه توبيخ لهم على تمنيهم الجهاد وعلى إلحاحهم في الخروج إليه، ثم انهزامهم وقلة ثباتهم عنده. قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالشعب أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل ولا ينتقلوا سواء كان الأمر لهم أو عليهم. فلما وقفوا وحملوا على الكفار هزموهم وقتل علي عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 السلام طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم، والزبير والمقداد شدا على المشركين، ثم حمل الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فهزموا أبا سفيان. ثم إن بعض القوم لما رأوا انهزام الكفار بادر قوم من الرماة الى الغنيمة، وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار، فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم وفرق جمعهم، وكثر القتل في المسلمين، ورمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر وكسر رباعيته وشج وجهه وأقبل يريد قتله، فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد حتى قتله ابن قميئة. واحتمل طلحة بن عبيد الله رسول الله ودافع عنه أبوبكر وعلي عليه السلام. وظن ابن قميئة أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد قتلت محمدا، وصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل. قيل: وكان الصارخ الشيطان ففشا في الناس خبر قتله صلى الله عليه وسلم فانكفؤا، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: إليّ عباد الله، حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هربهم فقالوا: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا، أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فنزلت وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ أي مرسل. قال أبو علي: وقد يكون الرسول في غير هذا الموضع بمعنى الرسالة أي حاله مقصور على الرسالة لا يتخطاها إلى البقاء والدوام قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فسيخلو كما خلوا. وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم فكونوا أنتم كذلك لأن الغرض من إرسال الرسل التبليغ وإلزام الحجة لا وجودهم بين أممهم أبدا أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ الفاء لتسبيب الجملة الشرطية عن الجملة التي قبلها، والهمزة لإنكار الجزاء لأنه في الحقيقة كأنه دخل عليه. والمعنى: أفتنقلبون على أعقابكم إن مات محمدا أو قتل؟ وسبب الإنكار ما تقدم من الدليلين: أحدهما أن الحاجة الى الرسول هي التبليغ وبعد ذلك لا حاجة إليه، فلا يلزم من قتله أو موته الإدبار عما كان هو عليه من الدين وما يلزم كالجهاد. وثانيهما القياس على موت سائر الأنبياء وقتلهم، فإن موسى عليه السلام مات ولم ترجع أمته عن ذلك الدين. والنصارى زعموا أن عيسى عليه السلام قتل وهم لم يرجعوا عن دينه وإنما ذكر القتل. وقد علم أنه لا يقتل لكونه مجوّزا عند المخاطبين. وقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] لو سلم أنه متقدم في النزول فإنه مما كان يختص بمعرفته العلماء منهم على أنه ليس نصا في العصمة عن القتل، بل يحتمل العصمة من فتنة الناس وإضلالهم. وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزمر: 30] يراد به المفارقة إلى الآخرة بأي طريق كان بدليل وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] وكثير منهم قد قتلوا. ويمكن أن يقال: صدق القضية الشرطية لا يتوقف على صدق جزأيها لصدق قولنا إن كانت الخمسة زوجا فهي تنقسم بمتساويين مع كذب جزأيها. ومعنى «أو» هو الترديد والتشكيك أي سواء فرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 وقوع الموت أو القتل فلا تأثير له في ضعف الدين ووجوب الإدبار أو الارتداد وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً بل لا يضر إلا نفسه، وهذا كما يقول الوالد لولده عند العتاب إن هذا الذي تأتي به من الأفعال لا يضر السماء والأرض. يريد أنه يعود ضرره عليه. وما ارتد أحد من المسلمين ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين. ويجوز أن يكون على وجه التغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. روي أنه لما صرخ الصارخ قال بعض المسلمين: ليت عبد الله بن أبيّ يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وقال ناس من المنافقين: لو كان نبيا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: يا قوم إن كان قتل محمد فإن رب محمد حي لا يموت. وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه. ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل. وعن بعض المهاجرين أنه مر بأنصاري يتشحط في دمه فقال: يا فلان، أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال: إن كان قتل فقد بلغ قاتلوا على دينكم. ففي أمثالهم قال تعالى: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا من الصبر والثبات. ثم قال: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ ووجه النظم أن المنافقين أرجفوا أن محمدا قتل فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الأديان، فأبطل قولهم بأن القتل مثل الموت في أنه لا يحصل إلا في الوقت المقدر. وكما أنه لو مات في بلده لم يدل ذلك على فساد دينه فكذا لو قتل. وفيه تحريض المؤمنين على الجهاد بإعلامهم أن الحذر لا يغنى عن القدر، وأن أحدا لا يموت قبل الأجل وإن خوّض المهالك واقتحم المعارك. أو الغرض بيان حفظة وكلاءته لنبيه فإنه ما بقي في تلك الواقعة سبب من أسباب الهلاك والشر إلا وقد حصل إلا أنه تعالى لما كان حافظا لنبيه ولم يقدّر في ذلك الوقت أجله لم يضره ذلك. وفيه تقريع لأصحابه أنهم قد قصروا في الذب عنه صلى الله عليه وسلم، وجواب عما قاله المنافقون للصحابة لما رجعوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. قال الأخفش والزجاج: تقدير الكلام وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله. وقال ابن عباس: الإذن هو قضاء الله وقدره فإنه لا يحدث شيء إلا بمشيئة الله وإرادته، فأورد الكلام على سبيل التمثيل كأنه فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله فيه، وذلك أن إسناد الموت إلى النفس نسبة الفعل إلى القابل لا إلى الفاعل، فأقيم القابل مقام الفاعل. وقال أبو مسلم: الإذن هو الأمر. والمعنى أن الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح فلا يموت أحد إلا بهذا الأمر. وقيل: المراد التكوين والتخليق لأنه لا يقدر على خلق الموت والحياة أحد إلا الله. وقيل: التخلية والإطلاق وترك المنع بالقهر والإجبار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 والمعنى ما كان لنفس أن تموت بالقتل إلا بأن يخلي الله بين القاتل والمقتول. وفيه أنه تعالى لا يخلي بين نبيه وبين أحد ليقتله صلى الله عليه وسلم، ولكنه جعل من بين يديه صلى الله عليه وسلم ومن خلفه رصدا ليتم على يديه بلاغ ما أرسله به فلا تهنوا في غزواتكم بعد ذلك بإرجاف مرجف. وقيل: الإذن العلم أي لن تموت نفس إلا في الوقت الذي علم الله موتها فيه. وفي الآية دليل على أن المقتول ميت بأجله، وأن تغيير الآجال ممتنع ولذا أكد هذا المعنى بقوله: كِتاباً مُؤَجَّلًا وهو مصدر مؤكد لنفسه لدلالة ما قبله عليه أي كتب الموت كتابا مؤجلا مؤقتا له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر. وقيل: الكتاب المؤجل هو المشتمل على الآجال. وقيل: هو اللوح المحفوظ الذي كتب فيه جميع الحوادث من الخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة. قال القاضي: الأجل والرزق مضافان إلى الله تعالى، وأما الكفر والفسق والإيمان والطاعة فكل ذلك مضاف إلى العبد. فإذا كتب تعالى ذلك فإنما يكتب ما يعلمه من اختيار العبد وذلك لا يخرج فيه العبد من أن يكون مذموما أو ممدوحا. والحق أن هذا تعكيس للقضية فإن الله تعالى إذا علم من العبد الكفر استحال أن يأتي هو بالإيمان وإلا انقلب علم الله جهلا، وإذا كان هو غير قادر على الإيمان حينئذ فما معنى اختياره؟ ثم إنه كان في الذين حضروا يوم أحد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة كما أخبر الله تعالى في هذه السورة فقوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها أي من ثوابها تعريض بالفريق الدنيوي وهم الذين شغلتهم الغنائم، وباقي الآية مدح للفريق الآخر الأخروي، وإن فضله تعالى وعطيته شامل لكلا الفريقين، لكن ثواب الفريق الثاني هو المعتمد به في الحقيقة ولهذا ختم الكلام بقوله: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ فأبهم الجزاء وأضافه إلى نفسه تنبيها على أن جزاء الذين شكروا نعمة الإسلام فلم يشغلهم عن الجهاد شيء لا يكتنه كنهه وتقصر عنه العبارة، وأنه كما يليق بعميم فضله وجسيم طوله. وهذه الآية وإن وردت في الجهاد لكنها عامة في جميع الأعمال كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» «1» وذلك لأن المؤثر في جانب الثواب والعقاب القصود والدواعي. فمن وضع الجبهة على الأرض والوقت ظهر والشمس أمامه، فإن قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان من الإيمان، وإن قصد تعظيم الشمس كان من الكفر. وَكَأَيِّنْ الأكثرون على أنها في الأصل مركبة من كاف التشبيه و «أي» التي هي في غاية الإبهام إذا قطعت عن الإضافة. كما أن «كذا» مركبة من «الكاف» و «ذا» المقصود به   (1) رواه البخاري في كتاب بدء الوحي باب 1، كتاب الإيمان باب 41. مسلم في كتاب الإمارة حديث 155. أبو داود في كتاب الطلاق باب 11. الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب 16. النسائي في كتاب الطهارة باب 59. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 26. أحمد في مسنده (1/ 25) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 الإشارة. «فكأين» مثل «كذا» في كون المجروحين مبهمين عند السامع إلا أن في «ذا» إشارة فى الأصل إلى ما في ذهن المتكلم بخلاف «أي» فإنه للعدد المبهم ومميزها منصوب ومفرد على الأصل. والأكثر إدخال «من» في مميز «كأين» وبه ورد القرآن، والتمييز بعد «كذا» و «كأين» في الأصل عن الكاف لا عن «ذا» و «أي» كما في «مثلك رجلا» لأنك تبين في كذا رجلا وكأين رجلا أن مثل العدد المبهم في أي جنس هو ولم تبين العدد المبهم. فأي في الأصل كان معربا لكنه انمحى عن الجزأين معناهما الإفرادي وصار المجموع كاسم مفرد بمعنى «كم» الخبرية فصار كأنه اسم مبني على السكون آخره نون ساكنة كما في «من» لا تنوين تمكن فلهذا يكتب بعد الياء نون، مع أن التنوين لا صورة له خطا ولأجل التركيب تصرف فيه فقيل: كائن مثل كاعن. وربما ظن بعضهم أنه اسم فاعل من كان، ولكنه بني لكثرة الاستعمال وهاتان اللغتان فيه مشهورتان ولهذا قرىء بهما. وفيه لغات أخر غير مشهورة تركنا ذكرها لأنه لم يقرأ بها ولعلك تجدها في كتبنا الأدبية. ومحل كَأَيِّنْ هاهنا رفع على الابتداء، وقوله قتل أو قاتَلَ خبره والضمير يعود إلى لفظ كَأَيِّنْ فإنه مفرد اللفظ. وإن كان مجموع المعنى. والربيون معناه الألوف أو الجماعات الكثيرة. الواحد ربى عن الفراء والزجاج. قال ابن قتيبة: أصله من الربة الجماعة، فحذفت الهاء في النسبة، ويقال: ترببوا أي تجمعوا. وقال ابن زيد: الربانيون الأئمة والولاة، والربيون الرعية. والكسر فيه من تغييرات النسب كالضم في دهري، والقياس الفتح، ثم من قرأ قتل فمعنى الآية إن كثيرا من الأنبياء قتلوا والذين بقوا بعده ما وهنوا في دينهم بل استمروا على جهاد عدوّهم ونصرة دينهم وكان ينبغي أن يكون لكم فيهم أسوة حسنة. فيكون المقصود من الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياء لتقتدي هذه الأمة بهم. ومن قرأ قاتَلَ فالمعنى: وكم من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه فأصابهم من عدوّهم قروح فما وهنوا. فعلى هذا يكون الغرض من الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في القتال. وربما تؤيد هذه القراءة بما روي عن سعيد بن جبير أنه قال: ما سمعنا بنبي في القتال. ويحتمل أن تنزل القراءة الأولى على هذه الرواية أيضا بأن يقال: المعنى وكأين من نبي قتل ممن كان معه وعلى دينه ربيون كثير، فما ضعف الباقون وما استكانوا لقتل من قتل من إخوانهم، بل مضوا على جهاد عدوّهم. ثم إنه تعالى مدح هؤلاء الربيين بصفات وذلك قوله فَما وَهَنُوا إلخ ولا بد من تغايرها فقيل فَما وَهَنُوا عند قتل النبي وَما ضَعُفُوا عن الجهاد بعده وَمَا اسْتَكانُوا للعدو أي لم يخضعوا له، وفيه تعريض بما أصاب المسلمين من الوهن والانكسار عن الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبضعفهم عند ذلك عن جهاد الكفار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 واستكانتهم لهم حين أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان. وقيل: الوهن استيلاء الخوف عليهم، والضعف ضعف الإيمان واختلاج الشبهات في صدورهم، والاستكانة الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم. وقيل: الوهن ضعف يلحق القلب، والضعف مطلقا اختلال القوة الجسمية، والاستكانة إظهار ذلك العجز والضعف. واستكان قيل «افتعل» من السكون كأنه سكن لصاحبه ليفعل به ما يريد. وعلى هذا فالمد شاذ كقولهم «هو منه بمنتزاح» أي ببعد يراد بمنتزح. والأصح أنه استفعل من «كان» والمد قياسي كأن صاحبه تغير من كون إلى كون أي من حال إلى حال. وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ بأن يريد إكرامهم والحكم بالثواب والجنة لهم. ثم أخبر أنهم كانوا مستعينين عند ذلك التصبر والتجلد بالدعاء والتضرع وطلب الإمداد والنصر من الله، والغرض أن تقتدي هذه الأمة بهم. فإن من عول في تحصيل مهماته على نفسه وعدده وعدده ذل، ومن اعتصم بالله والتجأ إليه فاز بالظفر. وفي إضافتهم الذنوب والإسراف إلى أنفسهم وهم ربانيون هضم للنفس واستصغار لها. قال المحققون: إنما قدموا الاستغفار لعلمهم بأنه تعالى ضمن نصر المؤمنين، فإذا لم يحصل النصرة وظهرت أمارات استيلاء الأعداء دل ذلك على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين، فيلزم تقديم التوبة والاستغفار على طلب النصرة ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وطهارة أقرب إلى الاستجابة. إنهم عمموا الذنوب أوّلا الصغائر والكبائر بقولهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا ثم خصصوا الذنوب الكبائر بقولهم وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه. والمراد بتثبيت الأقدام وإزالة الخوف عن قلوبهم وإماطة الخواطر الفاسدة عن صدورهم. والمراد بالنصر الأمور الزائدة على القوة والعدة والشدة كإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، وكإحداث أحوال سماوية أو أرضية توجب انهزامهم كهبوب ريح تثير الغبار في وجوههم، وإجراء سيل في مواضع وقوفهم. وفي الآية تأديب وإرشاد من الله تعالى في كيفية الطلب عند النوائب جهادا كان أو غيره فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا من النصرة والغنيمة والعز وطيب الذكر وانشراح الصدر وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وهو الجنة وما فيها من المنافع واللذات وذلك غير حاصل في الحال. والمراد أنه حكم لهم بحصولها في الآخرة، وحكم الله بالحصول كنفس الحصول. أو المراد أنه سيؤتيهم مثل أتى أمر الله أي سيأتي، قال القاضي: ولا يمتنع أن تكون الآية مختصة بالشهداء وأنهم في الجنة عند ربهم كما ماتوا أحياء. وثواب الآخرة كله حسن، فما ظنك بحسن ثوابها؟ وإنما لم يصف ثواب الدنيا بالحسن لقلتها وامتزاجها بالمضار وكدر صفوها بالانقطاع والزوال. قال القفال: يحتمل أن يكون الحسن هو الحسن كقوله وَقُولُوا لِلنَّاسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 حُسْناً [البقرة: 83] والغرض منه المبالغة كما يقال: فلان جود وعدل إذا كان غاية في الجود ونهاية في العدل. وهاهنا نكتة وهي أنه أدخل «من» التبعيضية في الآية المتقدمة في قوله: نُؤْتِهِ مِنْها في الموضعين، ولم يذكر في هذه الآية. لأن أولئك اشتغلوا بالثواب عن العبودية فلم ينالوا إلا البعض، بخلاف هؤلاء فإنهم لم يذكروا أنفسهم إلا بالعيب والقصور ولم يسألوا ربهم إلا ما يوجب إعلاء كلمته، فلا جرم فازوا بالكل. وفيه تنبيه على أن من أقبل على خدمة الله أقبل على خدمته كل ما سوى الله. ثم قال وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه. وهاهنا سر وهو أنه تعالى وفقهم للطاعة ثم أثابهم عليها ثم مدحهم على ذلك فسماهم محسنين، ليعلم العبد أن الكل بعنايته وفضله. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا عن السدي: المراد بالذين كفروا هو أبو سفيان وأصحابه فإنه كان كبير القوم في ذلك اليوم. والمعنى إن تستكينوا لهم وتستأمنوهم. وعن علي عليه السلام: هم المنافقون عبد الله بن أبيّ وأشياعه قالوا للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم. وعن الحسن: هم اليهود والنصارى يستغوونهم ويوقعون لهم الشبهة في الدين ولا سيما عند هذه الواقعة كانوا يقولون: لو كان نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوم له ويوم عليه. والأقرب أنه عام في جميع الكفار فإن خصوص السبب لا ينافي إرادة العموم، فعلى المؤمنين أن لا يطيعوهم في شيء ولا ينزلوا على حكمهم وعلى مشورتهم حتى لا يستجرّوهم إلى موافقتهم وهو المراد بقوله: يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي إلى الكفر بعد الإيمان فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ في الدنيا باستبدال ذلة الكفر بعزة الإسلام والانقياد للأعداء الذي هو أشق الأشياء لدى العقلاء، وفي الآخرة بالحرمان عن الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد. بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ناصركم وهو إضراب عما كانوا بصدده من طاعة الكفار. والمعنى أنكم إنما تطيعون الكفار لينصروكم ويعينوكم على مطالبكم وهذا خطأ وجهالة لأنهم عاجزون مثلكم متحيرون، وبغير إذن الله لا ينفعون ولا يضرون. وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ لو فرض أن لأحد سواه قدرة على النصر لأنه خبير بمواقع الحاجات، قدير على إنجاز الطلبات، ينصر في الدنيا والآخرة بلا شائبة علة من العلات، ونصرة غيره لو فرض فإنه مخصوص بالدنيا وببعض الأمور وفي بعض الأوقات ولغرض من الأغراض الفاسدات، كيف ولا ناصر بالحقيقة سواه. التأويل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ أن تلجوا عالم الملكوت ولم تظهر منكم مجاهدات تورث المشاهدات ولا الصبر على تزكية النفوس وتصفية القلوب على وفق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 الشريعة وقانون الطريقة لتتحلى الأرواح بأنوار الحقيقة وَلَقَدْ كُنْتُمْ يا أرباب الصدق وأصحاب الطلب تَمَنَّوْنَ موت النفوس عن صفاتها تزكية لها مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ بالمجاهدات والرياضات في خلاف النفس وقهرها عند لقاء العدو في الجهاد الأصغر ظاهرا وفي الجهاد الأكبر باطنا فَقَدْ رأيتم هذه الأسباب التي كنتم تمنونها عيانا وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ لا تفدون أرواحكم ولا تجاهدون حق الجهاد في الله بأرواحكم وأشباحكم أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فيه أن الإيمان التقليدي لا اعتبار له فينقلب المقلد عن إيمانه عند إعدام المقلد من الوالدين أو الأستاذ، وكذا عند موت المقلد فيعجز عند سؤال الملكين في قولهما له من ربك؟ فيقول: هاه لا أدري. فيقولون: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هاه لا أدري كنت أقول فيه ما قال الناس. فيقولان له: لا دريت ولا تليت. وَسَيَجْزِي اللَّهُ بالإيمان الحقيقي الشَّاكِرِينَ الذين شكروا نعمة الإيمان التقليدي بأداء حقوقه وهو الائتمار بأوامر الشرع والانتهاء عن نواهيه. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ عن أوصافها الدنية وأخلاقها الردية وتتخلص عنها بطبعها إلا بتوفيق الله وجذبه وإشراق نوره كما أن ظلمة الليل لا تنتهي إلا بإشراق طلوع الشمس. ثم أثبت للعبد كسبا في طلب الهداية واستجلاب العناية بقوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وهذه رتبة الخواص أي من عمل شوقا إلى الحق فقد رأى نعمة وجود المنعم، فثوابه نقد في الدنيا لأنه حاضر لا غيبة له وهو معنى قولهم «الصوفي ابن الوقت» وفيه أنشد: خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولى تمشى إلى عبد أتى زائرا من غير وعد وقال لي ... أصونك عن تعذيب قلبك بالوعد ومن عمل شوقا إلى الجنة فنظره على النعمة فثوابه في الآخرة وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ أي كلا الفريقين على قدر شكرهما. وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ أعدى العدو الذي بين جنبيه ومَعَهُ رِبِّيُّونَ متخلقون بأخلاق الرب فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ من تعب المجاهدات وَما ضَعُفُوا في طلب الحق وَمَا اسْتَكانُوا باحتمال الذلة والالتفات إلى غير الله. إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا أي النفوس الكافرة وصفاتها يَرُدُّوكُمْ إلى أسفل سافلين بشريتكم وبهيميتكم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 151 الى 160] سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 القراآت: الرُّعْبَ بضمتين حيث كان: ابن عامر وعلي ويزيد وسهل ويعقوب. الباقون: بسكون العين- وَمَأْواهُمُ وبابه بغير همز: أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف. وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ وبابه بإدغام الدال في الصاد: حمزة وعلي وخلف وأبو عمرو وهشام وسهل. وتغشى بتاء فوقانية وبالإمالة: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بياء الغيبة. كُلَّهُ بالرفع: أبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون: بالنصب. يعملون بصير بياء الغيبة: ابن كثير وعباس وعلي وخلف وحمزة. الباقون: بالخطاب. مُتُّمْ ومتنا بكسر الميم من مات يمات حيث كان: نافع وعلي وحمزة وخلف وافق حفصا إلا هاهنا لجوار قُتِلْتُمْ الباقون: بضم الميم من مات يموت. يَجْمَعُونَ بياء الغيبة: حفص والمفضل وسائر القراء بتاء الخطاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 الوقوف: سُلْطاناً ج لعطف المختلفتين النَّارُ ط الظَّالِمِينَ هـ بِإِذْنِهِ ج لأن «حتى» تحتمل انتهاء الحس، ووجه الابتداء أظهر لاقتران «إذا» مع حذف الجواب أي إذا فعلتم وفعلتم انقلب الأمر ويمنعكم نصره. والوقف على تُحِبُّونَ ظاهر في الوجهين. الْآخِرَةَ ج لأن «ثم» لترتيب الإخبار وقيل لعطف صَرَفَكُمْ على الجواب المحذوف. لِيَبْتَلِيَكُمْ ج عَفا عَنْكُمْ ط الْمُؤْمِنِينَ هـ أَصابَكُمْ ط تَعْمَلُونَ هـ طائِفَةً مِنْكُمْ (لا) لأن الواو للحال. الْجاهِلِيَّةِ ط مِنْ شَيْءٍ ط لِلَّهِ ط يُبْدُونَ لَكَ ط هاهُنا ط مَضاجِعِهِمْ ج لأن الواو مقحمة أو عاطفة على محذوف أي لينفذ الحكم فيكم. وَلِيَبْتَلِيَ ما فِي قُلُوبِكُمْ ط الصُّدُورِ هـ الْجَمْعانِ (لا) لأن إنما خبر إن كَسَبُوا ج لاحتمال الواو حالا واستئنافا عَنْهُمْ ط حَلِيمٌ هـ وَما قُتِلُوا ج لأن لام لِيَجْعَلَ قد يتعلق بقوله: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ أو بمحذوف أي ذلك ليجعل فِي قُلُوبِهِمْ ط وَيُمِيتُ ط بَصِيرٌ هـ يَجْمَعُونَ هـ تُحْشَرُونَ هـ لِنْتَ لَهُمْ ج لأن الواو للعطف و «لو» للشرط مِنْ حَوْلِكَ ص والوصل أولى ليعطف الأمر بالرحمة على النهي عن الغلظة تعريضا الْأَمْرِ ج لفاء التعقيب مع «إذا» الشرطية عَلَى اللَّهِ ط الْمُتَوَكِّلِينَ هـ لَكُمْ ج لابتداء شرط آخر مع الواو. مِنْ بَعْدِهِ ط الْمُؤْمِنُونَ هـ. التفسير: إنه تعالى يذكر في هذه الآيات وجوها كثيرة في باب الترغيب في الجهاد وعدم المبالاة بالكفار. من جملتها الوعد بإلقاء الرعب في قلوب الكفرة، ولا شك أن هذا من معاظم أسباب الاستيلاء، ثم إن هذا الوعد مخصوص بيوم أحد أو هو عام في جميع الأوقات. الأظهر الثاني كأنه قيل: إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد إلا أنا سنلقي الرعب في قلوب الكفار بعد ذلك حتى يظهر هذا الدين على سائر الأديان، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم «نصرت بالرعب مسيرة شهر» «1» وذهب كثير من المفسرين إلى أنه مختص بيوم أحد لوروده في مساق تلك القصة. قال السدي: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق. ثم إنهم ندموا وقالوا بئسما صنعنا. قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم. فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم حتى رجعوا عما هموا به ففي ذلك نزلت الآية. وقيل: إن الكفار لما استولوا على المسلمين وهزموهم أوقع الله الرعب في قلوبهم فتركوهم وفروا منهم من غير   (1) رواه الدارمي في كتاب السير باب 28. البخاري في كتاب التيمم باب 1. مسلم في كتاب المساجد حديث 3، 5. الترمذي في كتاب السير باب 5. النسائي في كتاب الغسل باب 26. أحمد في مسنده (1/ 301) . [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 سبب حتى روي أن أبا سفيان صعد الجبل من الخوف وقال: أين ابن أبي كبشة- يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ - أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فأجابه عمر وجرى بينهم من الكلمات ما جرى. والرعب الخوف الذي يملأ القلب فزعا ومنه سيل راعب إذا ملأ الأودية والأنهار. وإلقاء الرعب في قلوبهم لا يقتضي إلقاء جميع أنواعه فيها وإنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة فيها من بعض الوجوه. ولكن ظاهر قوله: فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا يقتضي وقوع الرعب في قلوب جميع الكفرة وهكذا هو في الواقع لأنه لا أحد يخالف دين الإسلام إلا وفي قلبه خوف المسلمين وهيبتهم. إما في الحرب وإما في المحاجة. وقيل: إنه مخصوص بأولئك الكفار. بِما أَشْرَكُوا أي بسبب إشراكهم بالله. وفيه وجه معقول وهو أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار كما قال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النمل: 62] ومن اعتقد أن لله شريكا لم يحصل له الاضطرار لأنه يقول: إن كان هذا المعبود لا ينصرني فذاك الآخر ينصرني فلا يحصل له الإجابة. فيلزمهم الرعب والخوف هذا على تقدير أن معبوديهم يصح منهم الإجابة. كيف وإنهم لا يملكون نفعا ولا ضرا؟ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً الهة لم ينزل الله بإشراكها حجة. والتركيب يدل على القدرة والشدة والحدة ومنه يقال للوالي سلطان، ومنه سلاطة اللسان، والسليط الزيت كأنه استخراج بالقهر. قال الجوهري: السلطان بمعنى الحجة والبرهان لا يجمع لأن مجراه مجرى المصدر. وليس المراد أن هناك حجة إلا أنها لم تنزل لأن الشرك لن يقوم عليه حجة، ولكن المراد نفي الحجة ونزولها جميعا كقوله: ولا ترى الضب بها ينجحر قال المتكلمون: التقليد باطل لأن كل ما لا دليل عليه لم يجز إثباته. ومنهم من يبالغ فيقول: ما لا دليل عليه فيجب نفيه. ومنهم من احتج بهذا الحرف على وحدانية الصانع فقال: لا سبيل إلى إثبات الصانع إلا باحتياج المحدثات إليه. ويكفي في رفع هذه الحاجة إثبات الصانع الواحد فما زاد لا سبيل إلى إثباته فلم يجز إثباته. أقول: هذا إذا استدللنا بعدم الدليل على وجود الشريك على نفيه، أما إذا استدللنا بوجود الدليل على نفيه فلا شريك لأجل الدليل، ولا دليل على الاشتراك لوجود الدليل على نفي الشريك. ولما ذكر حال الكفرة في الدنيا وهو استيلاء الرعب عليهم أتبعه حالهم في الآخرة فقال: وَمَأْواهُمُ أي والمكان الذي يأوون إليه النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ مقام المشركين من ثوى بالمكان يثوي إذا أقام به ثم أكد وعد إلقاء الرعب بقوله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 تستأصلونهم قتلا. قال أصحاب الاشتقاق: حسّه أي قتله لأنه أبطل حسه بالقتل كما يقال: بطنه إذا أصاب بطنه، ورأسه إذا أصاب رأسه. بِإِذْنِهِ بعلمه. وقيل: المراد بهذا الوعد أنه صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يذبح كبشا فصدق الله رؤياه بقتل طلحة صاحب لواء المشركين يوم أحد، وقتل تسعة نفر بعده على اللواء. وقيل: هو ما ذكره من قوله إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ [آل عمران: 125] إلا أن هذا كان مشروطا بشرط هو الصبر والتقوى. وقيل: المراد هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرماة: لا تبرحوا هذا المكان فإنا لا نزال غالبين ما دمتم فيه. فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يقتلونهم. وقيل: لما رجعوا الى المدينة قال ناس من المؤمنين: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فنزلت حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ قال بعض العلماء: هذا ليس بشرط فلهذا لم يقتض الجواب. والمعنى قد نصركم الله إلى حين كان منكم الفشل لأن وعدهم بالنصر كان مشروطا بالصبر. وقال آخرون: إنه للمجازاة. ثم اختلفوا في الجزاء على وجوه: أحدها قال البصريون: إنه محذوف كما مر في الوقوف وذلك لدلالة سياق الكلام عليه. وثانيها قال الكوفيون: جوابه وعصيتم، والواو زائدة. والمراد بالعصيان خروجهم من ذلك المكان فإن الفشل والتنازع أخرجهم من المكان الذي وقفهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وثالثها قال أبو مسلم: جوابه ثم صرفكم. و «ثم» هاهنا كالساقطة. وقيل: جوابه ما يدل عليه قوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ والتقدير: حتى إذا فشلتم صرتم فريقين. والمراد بالفشل الجبن والخور، وبالتنازع أن الرماة لما هزم المشركون ونساؤهم يصعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخلهن قالوا: الغنيمة. فقال عبد الله بن جبير أمير الرماة: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نبرح هذا المكان. فأبوا عليه وذهبوا إلى طلب الغنيمة، وبقي عبد الله مع طائفة دون العشرة إلى أن قتلهم المشركون. وقوله: فِي الْأَمْرِ إما أن يكون بمعنى الشأن والقصة أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن، أو بمعنى الأمر الذي يضاد النهي أي تنازعتم فيما أمركم الرسول به وعصيتم بترك ملازمة ذلك المكان. وإنما قدم ذكر الفشل على التنازع والمعصية كأنهم فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعا في الغنيمة، ثم تنازعوا من طريق القول في أنا هل نذهب في طلب الغنيمة أم لا، ثم اشتغل بعضهم بطلب الغنيمة. وإنما ورد الخطاب عاما وإن كانت المعصية بمفارقة ذلك الموضع خاصة بالبعض اعتمادا على المخصص بعده وهو قوله وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وفائدة قوله: مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ التنبيه على عظم شأن المعصية لأنهم لما شاهدوا أن الله أكرمهم بإنجاز الوعد كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية، فلما أقدموا عليها سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم. قوله: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ قالت الأشاعرة: معنى هذا الصرف أنه تعالى رد المسلمين عن الكفار وحالت الريح دبورا وكانت صبا حتى وقعت الهزيمة على المسلمين وقتل منهم من قتل واستولى الكفرة. ولا يتوجه عليهم إشكال لأن من مذهبهم أن الخير والشر بإرادة الله وتخليقه. وأما المعتزلة فلم يرضوا بهذا التفسير وقالوا: كيف يضيف الصرف بهذا المعنى إلى نفسه والصرف عن الكفار معصية وقد أضافها إلى الشيطان في قوله إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وأيضا إنه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف، ولو كان بفعل الله لم يجز معاتبة القوم عليه كما لا يجوز المعاتبة على طولهم وقصرهم وصحتهم ومرضهم؟ فعند ذلك ذكروا في تأويل الآية وجوها. قال الجبائي: إن الرماة كانوا فريقين: بعضهم فارقوا المكان أوّلا لطلب الغنائم، وبعضهم بقوا هناك إلى أن أحاط بهم العدو، وعلموا أنهم لو استمروا على المكث هناك لقتلهم العدو من غير فائدة أصلا، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك الموضع إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه فتحصنوا به، فلما كان ذلك الانصراف جائزا أضافه الله إلى نفسه بمعنى أنه كان يأمره وبإذنه. ثم قال لِيَبْتَلِيَكُمْ والمراد أنه تعالى لما صرفهم إلى ذلك المكان وتحصنوا فيه أمرهم هناك بالجهاد والذب عن بقية المسلمين. ولا شك أن الإقدام على الجهاد بعد الانهزام وبعد أن شاهدوا في تلك المعركة قتل أقاربهم وأحبائهم، من أعظم أنواع الابتلاء، فإذن الآية مشتلمة على المعذورين في الانصراف وعلى غير المعذورين. فقوله: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ يرجع إلى المعذورين، وقوله وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ يرجع إلى غير المعذورين. وسبب العفو ما علم من ندمهم على ما فرط منهم من عصيان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الكعبي: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم لِيَبْتَلِيَكُمْ بكثرة الأنعام عليكم والتخفيف عنكم. وقال أبو مسلم الأصفهاني: المعنى من الصرف أنه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفار من الرعب من المسلمين عقوبة لهم على عصيانهم وفشلهم. ومعنى الابتلاء أنه جعل ذلك الصرف محنة عليهم ليتوبوا عما خالفوا فيه أمره، ثم أعلمهم أنه قد عفا عنهم. قال القاضي: ظاهر قوله: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ يقتضي تقدم ذنب منهم. فإن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بالعفو عنهم من غير توبة، وإن كان من باب الكبائر فلا بد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو. وقالت الأشاعرة: لا شك أن ذلك الذنب كان من الكبائر لأنهم خالفوا صريح نص الرسول، وصارت تلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 المخالفة سببا لانهزام عسكر الإسلام ولقتل جم غفير من الصحابة. ثم إن ظاهر الآية دل على أنه تعالى قد عفا عنهم من غير توبة لأنها غير مذكورة فصارت الآية دليلا على أنه قد يعفو عن أصحاب الكبائر. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يتفضل عليهم بالعفو أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال، سواء كانت الدولة لهم أو عليهم، لأن الابتلاء رحمة كما أن النصرة رحمة. وقد يستدل بالآية على أن صاحب الكبيرة مؤمن لأنه سماهم مؤمنين خلاف ما يقوله المعتزلة من أنه لا مؤمن ولا كافر. قوله سبحانه: إِذْ تُصْعِدُونَ إما مستأنف بإضمار «واذكر» ، وإما أن يتعلق بما قبله أي عفا عنكم إذ تصعدون، لأن ما صدر عنهم من مفارقة ذلك المكان والأخذ في الوادي كالمنهزمين ذنب اقترفوه. أو المعنى ليبتليكم إذ تصعدون، أو ثم صرفكم حين إصعادكم، والإصعاد الذهاب في الأرض والإبعاد فيها. قال أبو معاذ النحوي: كل شيء له أسفل وأعلى كالوادي والنهر والأزقة فيقال فيه أصعد إذا أخذ من أسفله إلى أعلاه، وأما ما ارتفع كالسلم والجبل فإنه يقال صعد. وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ لا تلتفتون إليه. وأصله أن المعرّج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته. وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ كان يقول: إليّ عباد الله، أنا رسول الله من كرّ فله الجنة. فيحتمل أنه كان يدعوهم إلى نفسه حتى يجتمعوا عنده ولا يتفرقوا، ويحتمل أنه كان يدعوهم إلى محاربة العدو. فِي أُخْراكُمْ في ساقتكم وجماعتكم الأخرى، لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه صلى الله عليه وسلم وبقي هو في الجماعة المتأخرة. يقال: جئت في آخر الناس وأخراهم كما تقول في أوّلهم وأولاهم بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى. فَأَثابَكُمْ قال في الكشاف: إنه عطف على صرفكم. وأقول: لا يبعد أن يعطف على تُصْعِدُونَ لأنه بمعنى أصعدتم بدليل أن يقال: ثاب إليه أي رجع. والمرأة تسمى ثيبا لأن واطئها عائدا إليها. فأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله خيرا كان أو شرا إلا أن العرف خصه بالخير. فإن حملنا لفظ الآية على أصل اللغة استقام بلا تأويل، وإن حملناه على مقتضى العرف كان واردا على سبيل التهكم كقولهم: عتابك السيف وتحيتك الضرب. أي جعل مكان ما يرجون من الثواب الغم وهو في الأصل التغطية ومنه الغمام، فكأن الغم يستر وجه اللذة والسرور. والباء في بِغَمٍّ يحتمل أن تكون بمعنى المعاوضة نحو: بعت هذا بذاك، ويحتمل أن تكون بمعنى المصاحبة. أما الاحتمال الأول ففيه وجوه: قال الزجاج: إنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب عصيان أمره، أذاقكم الله غم الانهزام. وقيل: المجازاة والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم. وقال الحسن: يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين. وفي الكشاف: يجوز أن يكون الضمير في فَأَثابَكُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 للرسول أي فآساكم في الاغتنام. فكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته وشج وجهه وقتل عمه وغيره، غمه ما نزل بكم من قتل الأعزة ومن الانضمام في سلك العصاة لطلب الغنيمة ثم الحرمان عنها. وأما الاحتمال الثاني ففيه وجهان: أحدهما أن يكون هناك غمان: الأوّل ما أصابهم عند الفشل والتنازع، والثاني ما حصل عند الهزيمة. أو الأول غم فوت الغنائم، والثاني أن أبا سفيان وخالد بن الوليد اطلعا على المسلمين فحملوا عليهم وقتلوا منهم جمعا عظيما. أو الأول هذا والثاني خوفهم من رجوع المشركين واستئصال المسلمين. أو الأول ما أصابهم في أنفسهم وأموالهم، والثاني غم الإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم. أو الأول خوف عقاب المعصية، والثاني غم التوبة فإنها لا تتم إلا بالعود إلى المحاربة، وإذا أمر بالمعاودة بعد القلة والذلة فإن فعل غلب على ظنه القتل، وإن لم يفعل خاف الكفر وعقوبة الآخرة. وثانيهما أن يراد بغم مع مواصلة الغموم وتتابعها وكثرتها، فيشمل جميع الغموم المعدودة وما ينخرط في سلكها. ثم اللام في قوله: لِكَيْلا تَحْزَنُوا يحتمل أن يتعلق بقوله: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ لأن في عفوه تعالى ما يزيل كل هم وحزن، وإما أن يتعلق بقوله: فَأَثابَكُمْ فيكون المعنى على قول الزجاج: إنه عاقبهم بغم الهزيمة ليتمرنوا على تجرع الغموم واحتمال الشدائد فلا يحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا على مصيب من المضار، وليصير ذلك زاجرا لهم عن الإقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله. وعلى قول الحسن: جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلهم مغمومين يوم بدر لكيلا تحزنوا بإدبار الدنيا ومصائبها، ولا تفرحوا بإقبالها وعوائدها. قالت الأشاعرة: معنى إثابة الغم من الله تعالى خلق الغم فيهم ولا يقبح منه شيء. وأما المعتزلة فإنهم يقولون: الغم فعل العبد لكنه أسند إليه تعالى لأنه طبع العباد طبعا يغتمون بالمصائب وهم لا يحمدون على ذلك ولا يذمون. وإن سلم أنه بخلق الله فلرعاية المصالح، وليس الغرض تسليط الكفار على المسلمين فإن ذلك كفر ومعصية، ولكن الغرض أن لا يبقى في قلوب المؤمنين اشتغال بغير الله، ولا يحزنوا بالإدبار ولا يفرحوا بالإقبال. وإن جعل الإثابة مسندا إلى الرسول فإنما فعل ذلك ليسليهم وينفس عنهم لئلا يحزنوا على ما فاتهم من نصر الله ولا على ما أصابهم من غلبة العدوّ. وإن جعلت الباء بمعنى «مع» فالمعنى كما في قول الزجاج: أو المراد أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا وقعنا في غم فوت الغنيمة، فاعلموا أنكم لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في غموم أخر كل واحد منها أعظم من ذلك، فيصير هذا مانعا لهم من أن يحزنوا على فوات الغنيمة في وقعة أخرى. ثم كما زجرهم على تلك المعصية بزاجر دنيوي زجرهم بزاجر أخروي فقال: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ عالم بجميع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 أعمالكم وقصودكم ودواعيكم فيجازيكم بحسب ذلك. ثم أخبر أن الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فريقان: أحدهما الجازمون بحقية هذا الدين وأن هذه الواقعة لا تؤدي الى الاستئصال لإخبار الصادق أن هذا الدين سيظهر على سائر الأديان، فخاطب الجماعة بقوله: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً وأراد هؤلاء بقول: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ والأمنة مصدر كالأمن ومثله من المصادر العظمة والغلبة. والنعاس فتور في أوائل النوم. وانتصاب أَمَنَةً على أنها حال متقدمة من نُعاساً مثل: رأيت راكبا رجلا، أو مفعول له بمعنى نعستم أمنة، أو على أنه حال من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة، أو على جمع آمن كبارّ وبررة، أو على أنه مفعول أَنْزَلَ ونُعاساً بدل منه. قال أبو طلحة: غشانا النعاس ونحن في مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه وما أحد إلّا ويميل تحت حجفته. وعن الزبير: كنت مع الرسول صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف فأرسل الله علينا النوم. والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا وعن ابن مسعود: النعاس في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشيطان. وذلك أنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق بالله والفراغ عن الدنيا، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله. وكان في ذلك النعاس فوائد منها: أن شموله للمؤمنين كلهم لا في الوقت المعتاد معجزة ظاهرة جديدة له صلى الله عليه وسلم موجبة لزيادة وثوقهم بأن الله ينجز وعده وينصرهم، فيزداد جدهم واجتهادهم في الجهاد. ومنها أن الأرق والسهر يوجبان الفتور والكلال، والنعاس يجدد القوة والنشاط. ومنها شغلهم عن مشاهدة قتل الأعزة والأحبة. ومنها أن الأعداء كانوا حراصا متهالكين في قتلهم. فبقاؤهم سالمين في تلك المعركة وهم في النوم من أدل الدلائل على أن حفظ الله وكلاءته معهم. ومن الناس من زعم أن ذكر النعاس هاهنا كناية عن غاية الأمن وهذا صرف للفظ عن ظاهره من غير ضرورة مع أن فيه إبطال الفوائد والحكم المذكورة. واعلم أن من قرأ تَغْشى بالتاء فللعود إلى الأمنة ويؤيده أن الأمنة مقصودة بالذات، والنعاس مقصود بالعرض، ولأنها متبوع وأنه تابع. ومن قرأ بالياء فللعود إلى النعاس، وينصره كونه أقرب، وكون المبدل منه في حكم النحي، وموافقته لقوله في قصة بدر إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ [الأنفال: 11] ولأن العرب تقول: غشية النعاس، وقلما يقولون غشيه الأمن، ولأن النعاس والأمنة لما كانا شيئا واحدا كان التذكير أولى. وأما الفريق الثاني فهم المنافقون الذين كانوا في شك من نبوته صلى الله عليه وسلم وما حضروا إلا لطلب الغنيمة كعبد الله بن أبي ومعتب بن قشير ونظرائهم، فأخبر عنهم بقوله: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ما بهم إلا همّ أنفسهم لا همّ أنفسهم لا همّ الدين ولا همّ النبي ولا المسلمين. والهمّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 الأمر الشديد. ويقال: أهمه ذلك الأمر أي أقلقه وأحزنه. فالمعنى أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الهموم والأشجان منهم بسبب التشكك وعدم الثبات. والتحقيق فيه أن الإنسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه صار غافلا عما سواه، فلما كان أحب الأشياء عندهم هو النفس، وكانت أسباب الخوف على النفس هناك موجودة والدافع لذلك وهو الوثوق بنصر الله ووعده غير حاصل لهم فلم يكن لهم هناك إلا همّ أنفسهم. يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وهو في حكم المصدر أي غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به. وظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بدل منه. والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق أديان كثيرة، وأرداها مقالات أهل الجاهلية فذكر أولا أنهم يظنون بالله ظنا باطلا، ثم بين أنهم اختاروا من الأديان أرذلها كما يقال: فلان دينه ليس بحق دينه دين الملاحدة. أو ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ مصدر وغَيْرَ الْحَقِّ تأكيد ل يَظُنُّونَ كقولك: هذا القول غير ما تقول. وظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ كقولك: حاتم الجود ورجل صدق. مما أضيف للملابسة أي الظن المختص بالملة الجاهلية وهي زمان الفترة قبل الإسلام. أو أريد ظن أهل الجاهلية وهم أهل الشرك الجاهلون بالله. فالجاهلية مصدر كالعالمية والقادرية. قيل: إن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون الإله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات، وينكرون النبوة والمعاد، فلا جرم ما وثقوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يقوّيهم وينصرهم. وقيل: الظن هو أنهم كانوا يقولون: لو كان محمد نبيا حقا لم يسلط الله الكفار عليه، وهذا ظن فاسد. أما عند أهل السنة فلأنه تعالى فاعل لما يشاء ولا اعتراض لأحد عليه، وإذا شرف المولى عبده بخلعة لم يجب أن يشرفه بأخرى. وأما عند من يعتبر المصالح في أفعاله وأحكامه فلا يبعد أن يكون في التخلية بين الكافر والمسلم وغير ذلك من المصائب حكم خفية. ولو كان كون المؤمن محقا يوجب زوال المصائب عنه اضطر الناس الى معرفة الحق، وكان ينافي التكاليف واستحقاق الثواب والعقاب. وإنما يعرف كون الإنسان محقا بالدلائل والبينات، ولا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة والمال والجاه على حقية صاحبها والله أعلم. يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ حكاية شبهة تمسك بها أهل النفاق فاستفهموا عنها على سبيل الإنكار. وإنما يحتمل وجوها: أحدها هل لنا من التدبير من شيء يعنون رأي عبد الله بن أبي وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل قوله حين أمره أن يسكن في المدينة ولا يخرج منها. ونظيره ما حكى عنه لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا [آل عمران: 168] وثانيها من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لأحد قالوا له الأمر، وإذا كانت لعدوّه قالوا عليه الأمر. أي هل لنا من الأمر الذي كان يعدنا به محمد وهو النصر والقدرة شيء؟ وثالثها أنطمع أن يكون لنا الغلبة على هؤلاء؟ والغرض منه تعيير المسلمين على التسديد في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 الجهاد، فأمره الله تعالى أن يجيب عنها بقوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ والحوادث بأسرها مستندة الى قضائه وقدره. فإذا كان قدر الخروج إلى الكفار واختصاص جمع من الصحابة بالشهادة فلا مفر من ذلك، وإذا أراد إعلاء كلمة الإسلام وإظهار هذا الدين على الأديان وقع لا محالة. يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ في ضمائرهم أو فيما بينهم ما لا يُبْدُونَ لَكَ وذلك المخفي قولهم: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا أي لو كان هذا الدين حقا لما سلط الله الكفار على من يذب عنه، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة، فأمر الله تعالى نبيه أن يجيبهم بقوله: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وهي مصارعهم التي قتلوا فيها، لأن ما كتب الله في اللوح لم يكن بد من وجوده. فلو قعدتم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم أن يقتلوا في المصارع المعلومة حتى يوجد ما علم الله وجوده. وقيل: معناه لو تخلفتم أيها المنافقون عن الجهاد، لخرج المؤمنون الذين كتب الله عليهم قتال الكفار إلى مصارعهم ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم، على أن البروز إلى هذه المصارع لا يخلو عن الفوائد وذلك قوله: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ خص الابتلاء بما في الصدور والتمحيص بما في القلوب إما لاختلاف العبارة، وإما لأن الابتلاء محله القلب الذي في الصدر. والتمحيص مورده الهيئات والعقائد التي في القلب. واعلم أن نسق هذه الآية أنيق ونظمه عجيب. أما نسقه فقوله: وَطائِفَةٌ مبتدأ وأَهَمَّتْهُمْ صفته ويَظُنُّونَ خبره. ويحتمل أن يكون خبره محذوفا أي وثمة، أو ومنهم طائفة أهمتهم، ويَظُنُّونَ صفة أخرى، أو حال بمعنى أهمتهم أنفسهم ظانين، أو استئناف على وجه البيان للجملة قبلها، ويَقُولُونَ بدل من يَظُنُّونَ أو بيان له. وإنما صح وقوع القول الذي مقوله إنشاء بدلا من الإخبار بالظن لأن سؤالهم كان صادرا عن الظن. ويُخْفُونَ حال من يَقُولُونَ وقُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ اعتراض بين الحال وذي الحال، فمن قرأ كُلَّهُ بالرفع فلأنه مبتدأ ولِلَّهِ خبره، والجملة خبر «إن» . ومن قرأ بالنصب فلكونه تأكيدا للأمر ولِلَّهِ خبر «إن» كما لو قلت: إن الأمر أجمع لله. وقوله: يَقُولُونَ استئناف، وقوله: وَلِيَبْتَلِيَ تقدم ذكره في الوقوف. وأما نظمه فإنه لما أخبر عن هذه الطائفة بأنهم يظنون ظن الجاهلية، فسر ذلك الظن بأنهم يقولون هل لنا من الأمر من شيء، لأن هذا القول لا يصدر إلا عمن كان ظانا بل شاكا في حقية هذا الدين وفي المبدأ والمعاد وفي القضاء والقدر، فأزال ذلك الظن بقوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ بيده الإماتة والإحياء والفقر والإغناء والسراء والضراء. ثم لما كان سؤالهم ذلك مظنة أن يكون سؤال المؤمنين المسترشدين لا المعاندين المنكرين، أراد أن يكشف عن حالهم ويبين مقالهم كيلا يغتربه المؤمنون فقال: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 يُبْدُونَ لَكَ أي ذلك القول إنما صدر عنهم في هذه الحالة، فكان لسائل أن يسأل ما الذي يخفونه في أنفسهم؟ فقيل يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا وقد مر تفسيره. ويحتمل أن يراد: لو كان لنا رأي مطاع لم نخرج من المدينة فلم نقتل هاهنا؟ فيكون كالطعن في قوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ قال في التفسير الكبير: هذا بعينه هو المناظرة الدائرة بين السني والمعتزلي. فذاك يقول: الطاعة والعصيان والكفر والإيمان من الله. وهذا يقول: الإنسان مختار مستقل إن شاء آمن وإن شاء كفر. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن هذا الاعتقاد بأن ما قضى الله فهو كائن، والحذر لا يرد القدر، والتدبير لا يبطل التقدير. وإن شئتم المصالح ففائدته الابتلاء وهو أن يتميز الموافق عن المنافق كما في المثل: لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين وتطهير القلوب عن وساوس الشبهات وتبعات المعاصي والسيئات. ثم قال: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ صاحبتها وهي الأسرار والضمائر ليعلم أن ابتلاءه ليس لأنه لا يخفى عليه شيء، وإنما ذلك لمحض الإلهية أو للاستصلاح. قوله عز من قائل: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يعني يوم أحد. وذكر محمد بن إسحق أن ثلث الناس كانوا مجروحين، وثلثهم انهزموا، وثلثهم ثبتوا. ومن المنهزمين من ورد المدينة وكان أولهم سعد بن عثمان أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل. ثم بعده رجال ودخلوا على نسائهم وجعل النساء يقلن: أعن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرون؟ وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن: هاك المغزل اغزل. وقال بعض الرواة: إن المسلمين لم يعدوا الجبل. قال القفال: الذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفرا قليلا تولوا وأبعدوا، فمنهم من دخل المدينة، ومنهم من ذهب إلى سائر الجوانب. وأما الأكثرون فإنهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هنالك- ومن المنهزمين عمر- إلا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين. ولم يبعد، بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم أيضا عثمان انهزم هو مع رجلين من الأنصار- يقال لهما سعد وعقبة- انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا، ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لقد ذهبتم فيها عريضة. وأما الذين ثبتوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا أربعة عشر رجلا. سبعة من المهاجرين: أبو بكر، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوّام. وسبعة من الأنصار: الحباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحرث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذ على الموت ثلاثة من المهاجرين: علي وطلحة والزبير. وخمسة من الأنصار: أبو دجانة، والحرث بن الصمة، وحباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، وسهل بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 حنيف. ثم لم يقتل منهم أحد. وروى ابن عيينة أنه أصيب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول: وجهي لوجهك الفداء وعليك السلام غير مودع إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ تقول: زللت يا فلان تزل زليلا إذا زل في طين أو منطق. والاسم الزلة، واستزله غيره كأنه طلب منه الزلة ودعاه إليها. والباء في بِبَعْضِ ما كَسَبُوا للاستعانة مثلها في: كتبت بالقلم. والمعنى أنه كان قد صدر عنهم جنايات، فبواسطة تلك الجنايات قدر الشيطان على استزلالهم في التولي. وعلى هذا التقدير ففيه وجوه: قال الزجاج: إنهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة الفرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا، وإنما ذكرهم الشيطان ذنوبا كانت لهم فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها وإلا بعد الإخلاص في التوبة. فهذا خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطئين فيه. وقيل: إنهم لما أذنبوا بسبب مفارقة المركز، أوقعهم الشيطان بشؤم تلك المعصية في الهزيمة. وقيل: كانت لهم ذنوب قد تقدمت، فبشؤمها قدر الشيطان على دعائهم إلى التولي لأن الذنب يجر إلى الذنب كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة وتكون لطفا فيها. وإنما قال: بِبَعْضِ ما كَسَبُوا لأن الكسب قد يكون خيرا كقوله: لَها ما كَسَبَتْ [البقرة: 134، 141، 286] أو لأن جميع الذنوب لا يؤاخذ بها الله تعالى كقوله: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] وقال الحسن: استزلهم بقبول ما زين لهم من الهزيمة. ويحتمل أن تكون الباء بمعنى «في» أي السبب في توليهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان في بعض الأعمال. إما قبل هذه الغزوة وإما فيها كالفشل والتنازع والتحول عن المركز وطلب الغنيمة، فاقترفوا ذنوبا فلذلك منعتهم التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا. وعلى هذا التقدير لا يكون الفعل المسند إلى استزلال الشيطان فيه هو التولي، وإنما يكون أعمالا أخر إما في هذه الغزوة أو قبلها. وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ فيه بيان أنهم ما كفروا وما تركوا دينهم لأن العفو عن الكفر لا يجوز. بقي البحث في أنه أي ذنب هو؟ والظاهر أنه التولي لأن التوبيخ وقع عليه والآية سيقت لأجله. ثم إنه من الصغائر أو من الكبائر؟ قالت المعتزلة: كلاهما محتمل. لكنه إن كان من الصغائر فلا حاجة إلى إضمار التوبة، وإن كان من الكبائر فلا بد من إضمار توبتهم وإن كانت غير مذكورة في الآية. قال القاضي: الأقرب أنه من الصغائر لأنه لا يكاد يقال في الكبائر إنها زلة، ولأنهم ظنوا أن الهزيمة لما وقعت على المشركين لم يبق في ثباتهم حاجة، فلا جرم تحولوا لطلب الغنيمة، والخطأ في الاجتهاد ليس من الكبائر. وقالت الأشاعرة: إنه من الكبائر لأنهم خالفوا النص. وحيث عفا عنه من غير ذكر التوبة- والأصل عدم الإضمار- غلب على الظن أن العفو عن الكبائر واقع من غير شرط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 ثم ندب الى المؤمنين ما يزيد رغبتهم في الجهاد فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا قيل: إنه عام. وقيل: يعني المنافقين. وقيل: منافقي يوم أحد كعبد الله بن أبيّ وأصحابه. وفيه دليل على أن الإيمان ليس عبارة عن مجرد الإقرار باللسان كما يقوله الكرامية وإلا لم يسم المنافق كافرا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي لأجل إخوانهم مثل وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11] وذلك أنهم قالوا: لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا والميت والمقتول لا يكلم. وعلى تقدير فرض التكلم كان المناسب أن لو قيل: لو كنتم عندنا ما متم وما قتلتم. ومعنى الأخوة اشتراك النسب. فلعل المقتولين كانوا أقارب المنافقين وإن كانوا مسلمين. أو اتفاق الجنس فلعل بعض المنافقين صار مقتولا في بعض الغزوات. والضرب في الأرض الإبعاد فيها للتجارة وغيرها. والغزو قصد محاربة العدو قريبا كان أو بعيدا. والفاعل غاز والجمع غزّى مثل: سابق وسبق، وراكع وركع. وإنما قال: إِذا ضَرَبُوا دون «إذ ضربوا» أو «حين ضربوا» ليشاكل في المعنى قوله: وَقالُوا لأنه أراد حكاية الحال الماضية. والمعنى أن إخوانهم إذا ضربوا في الأرض. فالكافرون يقولون: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. فمن أخبر عنهم بعد ذلك لا بد أن يقول: «قالوا» . ويجوز أن يكون قالُوا في تقدير «يقولون» لكنه وقع التعبير عنه بلفظ الماضي لأنه لازم الحصول في المستقبل مثل أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: 1] وفيه دلالة على أن جدهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة قد بلغ الغاية، فكأن هذا المستقبل كالكائن الواقع. ويمكن أن يقال: عبر عن المستقبل بلفظ الماضي ليعلم أن المقصود الإخبار عن جدّهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة. وقال قطرب: كلمه «إذ» و «إذا» يجوز إقامة كل منهما مقام الأخرى، وهذا وإن لم يوجد له في كلام العرب نظير، لكن القرآن أولى ما يستشهد به وهو حجة على غيره وليس غيره حجة عليه. قال الواحدي: في الكلام محذوف والتقدير: إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزى فقتلوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. وأما اللام في قوله: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ففي متعلقه وجهان: الأول أنه قالُوا أي قالوا ذلك الكلام واعتقدوه ليجعل الله ذلك الكلام حسرة فتكون لام العاقبة كقوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] وكيف استعقب ذلك القول حصول الحسرة؟ فيه وجوه: فقيل: لأن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام تخيلوا أنهم لو بالغوا في منعه عن ذلك السفر أو الغزو لم يمت أو لم يقتل فازدادت حسرتهم وتلهفهم بسبب أنهم قصروا في منعه، بخلاف المسلم المعتقد في أن الحياة والموت لا يكونان إلا بتقدير الله فإنه لا يحصل له شيء من هذا النوع من الأسف. وقيل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 لأنهم إذا ألقوا هذه الشبهة إلى إخوانهم تثبطوا عن الجهاد، فإذا نال المسلمون في الجهاد غنيمة بقي أولئك المتخلفون في الخيبة والندامة. وقيل: المراد حسرتهم يوم القيامة إذا رأوا ثواب المجاهدين. وقيل: المقصود خيبتهم عن ترويج شبهتهم بعد ما أعلم الله المؤمنين بطلانها. وقيل: الغرض أن جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات يقسي قلوبهم ويضيق صدورهم فيقعون لذلك في الحيرة والحسرة. الوجه الثاني: أن متعلق اللام قوله: لا تَكُونُوا وذلك إشارة إلى ما دل عليه النهي أي لا تكونوا مثلهم ليجعل الله ذلك الانتفاء انتفاء كونكم مثلهم حسرة، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون مما يغمهم ويغيظهم وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ رد لجهالتهم وجواب عن مقالتهم أي الأمر بيده والخلق له. فقد يحيي المسافر والغازي، ويميت المقيم والقاعد. فعلى المكلف أن يتلقى أوامره بالامتثال، فالله أعلم بحقيقة الأحوال ولا يجري الأمور إلا على وفق إمضائه وأحكامه ونقضه وإبرامه وكل ميسر لما خلق له. عن خالد بن الوليد أنه قال عند موته: ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة وها أنا ذا أموت كما يموت الغير فلا نامت أعين الجبناء. وفي أمثالهم «الشجاع موقى والجبان ملقى» . وكان عليّ يقول: إن لم تقتلوا تموتوا والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش، ويجوز أن يكون المراد: والله يحيي قلوب أوليائه بنور اليقين والعرفان، ويميت قلوب أعدائه بظلمة الشك والخذلان وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا تكونوا مثلهم. ومن قرأ على الغيبة فالضمير للذين كفروا ويكون وعيدا لهم. ثم إنه لما كذب الكافرين في قولهم: لإخوانهم لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ونهى المؤمنين عن كونهم مثلهم لأنه يسبب التقاعد عن الجهاد وينفر الطبع عنه رغبهم فيه بقوله: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ شيء من مغفرته ورحمته خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ فاللام الأولى هي الموطئة، والثانية لام جواب القسم المقدر، وكذا في الآية الأخرى. والمعنى أن القتل والموت في السفر غير لازم الحصول لأن ذلك منوط بالقدر لا بالسفر. ولئن سلم أنه لازم فإنه يستعقب المغفرة ويستجلب الرحمة من الله، وإن ذلك خير مما تجمعون من الدنيا وما فيها لو لم تموتوا. وعن ابن عباس: خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء. ومن قرأ بالياء فالضمير للكفار لأن الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيرا، أو ورد على حسب معتقدهم أن أموالهم خيرات لهم. وإنما كانت المغفرة والرحمة خيرا من المال لأن المال الذي يجمع لأجل الغد قد يموت صاحبه قبل الغد، وإن لم يمت فلعل المال لا يبقى في الغد، فكم من أمير أصبح أسيرا. وعلى تقدير بقاء المال وبقاء صاحبه إلى الغد فلعل مانعا من مرض أو خوف يمنعه عن الانتفاع به، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 وبتقدير عدم المانع فلذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار، وبتقدير صفائها عن الشوائب فلا بد لها من الزوال والانقطاع، ومنافع الآخرة أصفى وأضفى وأبقى وأنقى ولا سيما منافعها العقلية، وأي نسبة لانتفاع الحمار بلذة قبقبه؟ فذبذبه إلى ابتهاج الملائكة المقربين بشروق أنوار العزة عليهم، ثم رغبهم بنوع آخر فقال: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ كأنه قيل: إن تركتم الجهاد وتم لكم الاحتراز عن الموت أو القتل بقيتم أياما قلائل في الدنيا مع اللذات الخسيسة الحسية والخيالية فتركتموها لا محالة فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم، ولو أعرضتم عن اللذات الفانية وبذلتم النفس والمال في دين الله وصلتم إلى أعلى الدرجات وهي مقام العندية. وإنما قدم القتل على الموت في الآية الأولى وعكس في الثانية ليقع الابتداء والختم على ما هو أفضل، أو لأن الآية الأولى سيقت لبيان فضل الجهاد والقتل في سبيله، فقدم ما هو الأغلب من حال المجاهدين الذين يفارقون الدنيا وهو القتل، والثانية سيقت لبيان أن حشر الخلائق كلهم إليه بأي وجه يفارقون الدنيا. ولا شك أن الغالب على أحوال الخلق كلهم الموت، ولهذا السر أطلق القتل إطلاقا ليعم أنواع القتل كلها. وفي قوله: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ لطائف منها: تقديم الجار على الفعل لإفادة الحصر، وأنهم لا يحشرون إلى غيره، وأنه لا حكم لأحد في ذلك اليوم إلا له، ومنها تخصيص اسم الله بالذكر ليدل على كمال اللطف والقهر، فهو لدلالته على كمال اللطف أعظم أنواع الوعد، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد. ومنها إدخال لام التوكيد القسمي في الحرف المتصل باسم الله تنبيها على أن الإلهية تقتضي هذا الحشر لحكمة المجازاة. ومنها بناء تُحْشَرُونَ على المفعول تعويلا على ما هو مركوز في العقول من أنه هو الذي يبدىء ويعيد، لا قدرة على الإعادة لأحد غيره. ومنها أنه أضاف حشره إلى غيرهم ليعلم أنهم أحياء كانوا أو أمواتا لا يخرجون عن قبضته. ومنها أنه خاطب الكل ليعلم أن القاتل والمقتول والظالم والمظلوم والقاعد والمجاهد كلهم في بساط العدل وفضاء القضاء موقوفون. واعلم أنه تعالى ذكر في الآيتين المغفرة والرحمة والحشر إليه. فالأول إشارة إلى من يعبده خوفا من عقابه، والثاني إشارة إلى من يعبده طمعا في ثوابه، والثالث إشارة إلى من يعبده لأنه يستحق العبادة. فهم أهل الحشر إلى الله لا إلى ثوابه ولا إلى إزالة عقابه، وما أحسن هذا النسق! يروى أن عيسى عليه السلام مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم، ورأى عليهم سيما الطاعة فقال: ماذا تطلبون؟ فقالوا: نخشى عذاب الله. فقال: هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه. ثم مر بآخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا: نطلب الجنة والرحمة. فقال: هو أكرم من أن يمنعكم رحمته. ثم مر بقوم ثالث ورأى عليهم سمات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 العبودية أكثر فسألهم فقالوا: نعبده لأنه إلهنا ونحن عبيده لا لرهبة ولا لرغبة. فقال: أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحققون. قال القاضي: في الآية دليل على أن المقتول ليس بميت وإلا كان قوله: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ عطفا للشيء على نفسه. قلت: لا، ولكنه عطف الأخص على الأعم. ثم إنه سبحانه لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم، زاد في الفضل والإحسان بأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم حين عفا عنهم وترك التغليظ عليهم في انهزامهم. روي أن امرأة عثمان دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم- وكان النبي صلى الله عليه وسلم وعلي يغسلان السلاح- فقالت: ما فعل عثمان؟ أما والله لا تجدونه أمام القوم. فقال لها علي: ألا إن عثمان فضح الذمار اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه. وروي أنه قال حينئذ: أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا. ولما دخل عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال: لقد ذهبتم فيها عريضة. وعنه أنه قال: «إنما أنا لكم مثل الوالد لولده، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها» «1» وقال صلى الله عليه وسلم: «لا حلم أحب إلى الله من حلم إمام ورفقه، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه» فلما كان صلى الله عليه وسلم إمام العالمين وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقا لأن الغرض من البعثة- وهو التزام التكاليف- لا يتم إلا إذا مالت قلوب الأمة إليه، وسكنت نفوسهم لديه، ورأوا فيه آثار الشفقة وأمارات النصيحة. وعن بعض الصحابة أنه قال: لقد أحسن الله إلينا كل الإحسان. كنا مشركين فلو جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا فما كنا ندخل في الإسلام، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الإيمان قبلنا ما وراءها، كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم هذا الدين وكملت هذه الشريعة. واعلم أن من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب، فإنه يعلم أن الحوادث الأرضية كلها مستندة إلى الأسباب الإلهية، فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر، فلا جرم إذا فاته مطلوب له لم يغضب، وإذا حصل له مطلوب لم يأنس به لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات، فلا ينازع أحدا في هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها، ولا يغضب على شيء بسبب فوات شيء من مطالبها، فيكون حسن الخلق طيب العشرة مع الخلق. ولما كان صلى الله عليه وسلم أكمل البشر في القوتين النظرية والعملية وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وجب أن يكون أكمل الناس خلقا وذلك من فضل الله ورحمته على الناس   (1) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 4. النسائي في كتاب الطهارة باب 35. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 16. أحمد في مسنده (2/ 247، 250) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 كما قال: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ و «ما» مزيدة للتوكيد. أما الحكم بزيادتها فللنظر إلى أصل المعنى. وعمل حرف الجر فيما بعدها فكأنه قال: فبرحمة. وأما إفادتها التوكيد فلاستحالة زيادة حرف لا فائدة فيه أصلا. وجوز بعضهم أن تكون استفهامية للتعجب والتقدير: فبأي رحمة. وإنما كان لينه ورفقه رحمة من الله لأن الدواعي والقصود والإرادات كلها بفعل الله تعالى. فلا رحمة بالحقيقة الإله، ولا رحيم إلا هو، لأن كل رحيم سواه فإنه يستفيد برحمته عوضا كالخوف من العقاب، أو الطمع في الثواب، أو الثناء، أو يحمله على ذلك رقة طبع أو حمية أو عصبية إلى غير ذلك من الأغراض. وأيضا رحمة المخلوق على غيره لن تتم ولن ينتفع بها المرحوم إلا بعد مواتاة سائر الأسباب السماوية من سلامة الأعضاء وغيرها. فلا رحمة إلا بإعانة الله وتوفيقه بربطه على جأش الراحم وضبطه حال المرحوم. ثم بيّن أن الحكمة في لين جانبه ما هي فقال: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا سيىء الخلق وأصله فظظ كحذر. فظظت يا رجل بالكسر فظاظة غَلِيظَ الْقَلْبِ قاسيه بحيث لا يتأثر عن شيء يوجب الرقة والعطف لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد والتركيب يدل على التفريق ومنه «فض الختام» . ويقال: لا يفضض الله فاك أي أسنانك. ومنهم من حمل الآية على واقعة أحد فقال: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ تشافههم بالملامة على ذلك لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم فكان ذلك مما يطمع العدو فيك وفيهم. وهاهنا دقيقة هي أن اللين والرفق إنما يجوز إذا لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله ولهذا أمر بالغلظة في قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم: 9] وقال في إقامة حد الزنا: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النور: 2] ومثله أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة: 54] أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] فيعلم من المدح على اللين في موضع ومن الأمر بالغلظة في موضع آخر أن الفضيلة في الوسط وهو استعمال كل شيء في موضعه، وأن طرفي الإفراط والتفريط مذمومان، ومنه المثل «لا تكن حلوا فتسترط ولا مرا فتعقى» . واحتجت الأشاعرة بالآية في مسألة القضاء والقدر. وذلك أن حسن خلقه مع الخلق إنما كان بسبب رحمة الله، وهي عند المعتزلة عامة في حق جميع المكلفين. فكل ما فعله مع محمد صلى الله عليه وسلم من الهداية والدعوة والبيان والإرشاد فقد فعل مثل ذلك مع فرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب. فلطف الله ورحمته مشترك بين أصفى الأصفياء وبين أشقى الأشقياء، فلا يكون اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفادا من رحمة الله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 وهذا خلاف نص الآية، فإذن جميع أفعال العباد بقضاء الله وقدره. والمعتزلة يحملون هذا على زيادة الألطاف، واستبعده الأشاعرة لأن كل ما كان ممكنا من الألطاف فقد فعله في حق كل المكلفين، والذي يستحقه المكلف بناء على طاعته من مزيد الألطاف فذاك بالحقيقة كسب نفسه، ويجب عندهم إيصاله إليه فلا يكون برحمة من الله. ثم قال: فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما يختص بك وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فيما يختص بحق الله إتماما للشفقة عليهم. قيل: في فاء التعقيب دلالة على أنه أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال كما أنه تعالى قد عفا عنهم كأنه قيل: اعف عنهم فإني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم، واستغفر لهم فإني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم، وهذا من كمال رحمة الله بهذه الأمة. ثم قال: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ والمشاورة مأخوذة من قولهم: شرت العسل أي اجتنيتها واستخرجتها من موضعها. وقيل: من شرت الدابة شورا عرضتها على البيع، أقبلت بها وأدبرت. والمكان الذي تعرض فيه الدواب يسمى مشوارا. يقال: إياك والخطب فإنها مشوار كثير العثار. وتركيبه يدل على الإظهار والكشف، فبالمشاورة يظهر خير الأمور وحسن الآراء. وقد ذكر العلماء لأمر الرسول بالمشاورة مع أنه أعلم الناس وأعقلهم فوائد منها: أنها توجب علو شأنهم ورفعة قدرهم وزيادة إخلاصهم ومحبتهم، وفي ترك ذلك نوع من الإهانة والفظاظة، وكان سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق ذلك عليهم. ومنها أن علوم الإنسان متناهية فلا يبعد أن يخطر ببال أحد ما لم يخطر بباله ولا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا. ومنها قال الحسن وسفيان بن عيينة: قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده، ومنها أنه شاورهم في وقعة أحد فأخطؤا فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان مظنة أنه قد بقي في قلبه أثر من تلك الواقعة. ومنها أن يظهر له مقادير عقولهم فينزلهم على قدر منازلهم. ومنها أن تصير النفوس الطاهرة متطابقة على تحصيل أصلح الوجوه فيكون أعون على الظفر بالمقصود ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم» وهذا هو السر في الجماعات والجمعات. ومنها أنه تعالى ما أمر رسوله بالمشاورة قبل تلك الواقعة وأمره بها بعدها مع صدور المعصية عنهم ليعلم أنهم الآن أعظم حالا مما كانوا، وأن عفوه أعظم من كل ذنب، وأن الاعتماد على فضله وكرمه لا على العمل والطاعة. ثم إن العلماء اتفقوا على أن كل ما نزل به وحي لم يجز للرسول أن يشاور الأمة فيه، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس كما قيل: إذا جاء نهر الله بطل نهر عيسى. وفيما وراء ذلك هل تجوز المشاورة في كلها أم لا؟ قال الكلبي وكثير من العلماء: إن الأمر بها مخصوص بالحرب لأن اللام في لفظ الْأَمْرِ ليس للاستغراق لخروج ما نزل فيه الوحي بالاتفاق، فهو إذن لمعهود سابق وليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 ذلك إلا ما جرى من أمر الحرب في قصة أحد. وقد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول على الماء فقبل منه، وأشار عليه السعدان- سعد بن معاذ وسعد بن عبادة- يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا فقبل منهما وخرق الصحيفة. ومنهم من قال: اللفظ عام خص منه ما نزل فيه وحي فيبقى حجة في الباقي، وكيف لا وإنه كان مأمورا بالاجتهاد فيما لم ينزل فيه وحي لعموم فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2] والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة. وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وكان من أمور الدين، وقد عد المشاورة من جملة ما خص النبي صلى الله عليه وسلم بالوجوب عليه لأن ظاهر الأمر للوجوب. وقد يروى عن الشافعي أنه حمله على الندب قال: وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم «البكر تستأمر في نفسها» «1» ولو أكرهها الأب على النكاح جاز لكن الأولى ذلك تطييبا لنفسها فكذا هاهنا. فَإِذا عَزَمْتَ أي قطعت الرأي على شيء بعد الشورى فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ لأن الاعتماد في جميع الأمور عليه لا على الفكر والتدبير والرأي الحسن. عن جابر بن زيد أنه قرأ فَإِذا عَزَمْتَ بالضم إذا أرشدتك إلى شيء وألزمته إياك فتوكل علي ولا تشاور بعد ذلك أحدا. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ عن ابن عباس: إن ينصركم كما نصركم يوم بدر فلا يغلبكم أحد وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ كما خذلكم يوم أحد فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد خذلانه لدلالة الفعل عليه، أو هو من قولك «ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان» تريد إذا جاوزته. وقيل: إن ينصركم بجذبات العناية فلا غالب لكم من الصفات البشرية، وإن يخذلكم بترك الجذبات فمن ينصركم بعده من الأنبياء والأولياء؟ فإنه القادر على الإخراج عن هذا الوجود كما أنه هو القادر على الإدخال فيه. وَعَلَى اللَّهِ وليخص المؤمنون إياه بالتوكل لما علم أن الأمر كله له ولا رادّ لقضائه ولا دافع لبلائه، ولأن الإيمان يوجب ذلك ويقتضيه. وليس المراد بالتوكل أن يهمل الإنسان حال نفسه بالكلية ويرفض الوسائط والأسباب كما يتصور الجهال وإلا كان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل، وإنما التوكل هو أن يراعي الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعوّل على عصمة الحق وتأييده وتوفيقه وتسديده. التأويل: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ أيها الطلاب وَعْدَهُ ألا من طلبني وجدني إذ تقتلون جنود الصفات البشرية بأمره لا على وفق الطبع حتى إذا تركتم قتال النفس وخالفتم في أمر   (1) رواه البخاري في كتاب الحيل باب 11. كتاب الإكراه باب 3. أبو داود في كتاب النكاح باب 23- 25. الترمذي في كتاب النكاح باب 18. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 11. الدارمي في كتاب النكاح باب 13. أحمد في مسنده (1/ 219) بلفظ «لا تنكح البكر .... ولا الثيب حتى تستأمر» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 الطلب وعصيتم الدليل المربي مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ الدليل بالتربية ما تُحِبُّونَ من دلالة الطريق، وإنما عصيتم الدليل إذ دلكم على الله لأن منكم من كان همته زخارف الدنيا، ومنكم من كان همته طلب نعيم الآخرة. قرئت هذه الآية عند الشبلي فصاح صيحة وقال: ما كان من أحد يقال له ومنكم من يريد الله ثم صرفكم عن جهاد النفس وقتل صفاتها باستيلائها عليكم ليمتحنكم بالستر بعد ما تجلى لكم أنوار المشاهدات، وبالصحو بعد ما أسكركم بأقداح الواردات، وبالفطام بعد ما أرضعكم بألبان الملاطفات وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ يعني بعد ابتلائكم عفا عن التفاتاتكم إلى الدنيا والآخرة بالعناية الأزلية وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ في الأزل إذ تصعدون في طريق الحق طالبين بعد ما كنتم هاربين ولا تلتفتون إلى أحد من الأمرين الدنيا والآخرة، ورسول الوارد من الحق يدعوكم إليّ عبادي إليّ عبادي، فجازاكم بدل غم الدنيا والآخرة غم طلب الحق لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من زخارف الدنيا ولا لما أصابكم من نعيم الآخرة وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من ترك نعيم الدنيا والآخرة في طلب وجدانه فلا يخيب رجاءكم ويوفي جزاءكم. ثم أخبر عن إنزال حقائق أصناف ألطافه على عباده في صور مختلفة. فأنزل الأمن في صورة النعاس على الصحابة، وأخرج جواهر الوقائع السنية لأرباب القلوب والمكاشفات من معدن النعاس فإن أكثرها يقع بين النوم واليقظة. وطائفة من أرباب النفوس ومدعي الإسلام لا هم لهم إلا هم أنفسهم من استيفاء حظوظها واستيفاء لذاتها ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ وهو أن الأمور إلى الخلق لا إلى الله ولا بقضائه وقدره. هل لنا من أمر النصرة والظفر من شيء؟ ما قُتِلْنا هاهُنا بالباطل على أيدي حزب الشيطان وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أنها المنافقون لأن الصدور معدن النفاق والغل ووسوسة الشيطان وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الأعراف: 43] يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس: 5] وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ أيها المؤمنون لأن القلوب محل الإيمان والاطمئنان كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: 22] أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] ونسبة الإسلام باللسان إلى الإيمان بالجنان كنسبة الصدر إلى القلب إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا الشيطان خلق من نار فلهذا استخرج من معدن الإنسان حديد ما كسبوا من التولي ليجعله مرآة ظهور صفاته العفو والمغفرة والحلم. وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ليعلم أن لله تعالى في كل شيء من الخير والشر أسرارا لا يعلمها إلا هو. ومن هنا قال: «لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم» «1» إذا   (1) رواه مسلم في كتاب التوبة حديث 11. الترمذي في كتاب الجنّة باب 2. أحمد في مسنده (1/ 286) ، (2/ 305) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 ضربوا في الأرض سافروا في البلاد مستفيدين من العباد، أو سلكوا في أرض نفوسهم سبيل الرشاد، أو كانوا غزى مجاهدين مع كفار النفس والهوى والشيطان. لو كانوا موافقين معنا ما ماتوا بمقاساة الرياضة، وما قتلوا بسيف المجاهدة، ليجعل الله ذلك القول حسرة في قلوب الصديقين، والله يحيي قلوب أهل المجاهدة بأنوار المشاهدة فلا يحسرون على ما يقاسون، ويميت قلوب المنكرين بظلمة الإنكار وغلبة صفات النفس فيحسبون أنهم يحسنون. وباقي الحقائق قد مرت في التفسير. وقد سنح عند تحرير هذا الموضع أن قوله: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ يمكن أن يفهم منه الخطاب مع الروح الإنساني أنه لان برحمة الله لصفات النفس وقواها الشهوية والغضبية حتى يستوفي كل منها حظها ويرتبط بذلك بقاء النسل وصلاح المعاش، ولولا ذلك لاضمحلت تلك القوى وانفضت من الجوانب وتلاشت، واختلت حكمة التمدن وفقدت الكمالات التي خلق الإنسان لأجلها. ثم الكلام في أن هذا اللين لا بد له من الغلظة حتى لا يتجاوز عن الوسط ولا يخرج عن قانون الشرع والعقل كما تقدم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 161 الى 175] وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 القراآت: يَغُلَّ بفتح الياء وضم الغين: ابن كثير وأبو عمرو وعاصم غير المفضل ويعقوب غير رويس. الباقون: بالضم والفتح على البناء للمفعول. ولا يحسبن بياء الغيبة: الحلواني عن هشام. الباقون: بتاء الخطاب. قُتِلُوا بالتشديد: ابن عامر. الباقون: بالتخفيف. وَأَنَّ اللَّهَ بالكسر على الابتداء: عليّ. الباقون: بالفتح. وخافوني بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل، وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل. الباقون بالحذف. الوقوف: أَنْ يَغُلَّ ط لابتداء الشرط يَوْمَ الْقِيامَةِ ج لانتهاء جزاء الشرط مع العطف لا يُظْلَمُونَ هـ جَهَنَّمُ ط الْمَصِيرُ هـ عِنْدَ اللَّهِ ط بِما يَعْمَلُونَ هـ وَالْحِكْمَةَ ج لمكان العطف مُبِينٍ هـ مِثْلَيْها (لا) لأن استفهام الإنكار دخل على قُلْتُمْ هذا ط أَنْفُسِكُمْ ط قَدِيرٌ هـ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ هـ لا نافَقُوا ج لاحتمال العطف والاستئناف والوصل أولى على تقدير وقد قيل لهم. أَوِ ادْفَعُوا ط لَاتَّبَعْناكُمْ ط لِلْإِيمانِ ج لاحتمال الحال والاستئناف. فِي قُلُوبِهِمْ ط يَكْتُمُونَ ج لاحتمال كون «الذين» بدلا عن ضمير يَكْتُمُونَ أو خبر مبتدأ محذوف. ما قُتِلُوا ط صادِقِينَ هـ أَمْواتاً ط عِنْدَ رَبِّهِمْ ص يُرْزَقُونَ هـ لا لأن فَرِحِينَ حالهم. مِنْ فَضْلِهِ (لا) للعطف. مِنْ خَلْفِهِمْ (لا) لتعلق «أن» . يَحْزَنُونَ هـ م للآية واستئناف الفعل إذ يستحيل أن يكون الاستبشار حالا للذين يحزنون. وَفَضْلٍ (لا) لأن التقدير وبأن ومن كسر وقف والجملة حينئذ اعتراضية. الْمُؤْمِنِينَ هـ ج لأن «الذين» يصلح صفة للمؤمنين ومبتدأ خبره للذين أحسنوا، أو نصبا على المدح والأول أوجه لاتحاد الصفة. الْقَرْحُ ط لمن لم يقف على الْمُؤْمِنِينَ. عَظِيمٌ ج لاحتمال البدل وكونه خبر مبتدأ محذوف. إِيماناً ق والوصل أولى للعطف واتصال توكل اللسان بيقين القلب. الْوَكِيلُ هـ سُوءٌ لا للعطف رِضْوانَ اللَّهِ ط عَظِيمٍ هـ أَوْلِياءَهُ ص لوصل النهي عن الخوف بعد ذكر التخويف مُؤْمِنِينَ هـ. التفسير: هذا حكم من أحكام الجهاد. وأصل الغلول أخذ الشيء في خفية. يقال: أغل الجازر والسالخ إذا أبقى في الجلد شيئا من اللحم ليسرقه. والغل الحقد الكامن في الصدر. والغلالة الثوب الذي يلبس تحت الدرع والثياب، والغلل الماء الذي يجري في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 أصول الشجر لأنه مستتر بالأشجار. وقال صلى الله عليه وسلم: «من بعثناه على عمل فغل شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه» «1» وقال أيضا: «هدايا الولاة غلول» «2» . وقال الجوهري: غل يغل غلولا أي خان. وأغل مثله إلا أن العرف جعله في الغالب مخصوصا بالخيانة في الغنيمة حتى قال أبو عبيدة: الغلول في المغنم خاصة، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر. عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاثة دخل الجنة الكبر والغلول والدين» «3» وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره حتى قال: «لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له زعاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك» «4» ومعنى الآية فيمن قرأ بفتح الياء وضم الغين: ما كان لنبي أن يخون أي ما صح وما ينبغي له ذلك لأن النبوة تنافي الغلول لأنها أعلى المراتب الإنسانية، فلا يليق بصاحبها ما هو عار في الدنيا ونار في الآخرة، كيف وإنه أمين على الوحي النازل عليه من فوق سبع سموات، أفلا يكون أمينا في الأرض؟ هيهات. وقيل: اللام منقولة والتقدير: وما كان نبي ليغل كقوله ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مريم: 35] أي ما كان الله ليتخذ ولدا. ومن قرأ بضم الياء وفتح الغين ففيه وجهان: أحدهما يخان أي يؤخذ من غنيمته. وفي تخصيصه بهذه الحرمة والخيانة محرمة على الإطلاق فوائد منها: أن المجني عليه كلما كان أجل منصبا كانت الخيانة في حقه أفحش. ومنها أنه لا يكاد يخفى عليه من   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 14. أحمد في مسنده (3/ 498) . (2) رواه أحمد في مسنده (5/ 424) بلفظ «هدايا العمال غلول» . (3) رواه الترمذي في كتاب السير باب 21. ابن ماجه في كتاب الصدقات باب 12. الدارمي في كتاب البيوع باب 52. أحمد في مسنده (5/ 276) . (4) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 24. أبو داود في كتاب الإمارة باب 12. أحمد في مسنده (2/ 426) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 قبل الوحي فكان فيه مع عذاب الآخرة فضيحة الدنيا. ومنها أن المسلمين في ذلك الوقت كانوا في غاية الفقر، فكانت تلك الخيانة وقتئذ أقبح. وثانيهما يخوّن أي ينسب إلى الخيانة فيكون من الإغلال. قال المبرد: تقول العرب: أكفرت الرجل جعلته كافرا أو نسبته الى الكفرة. قال القتيبي: لو كان هذا هو المراد لقيل «يغلل» كما يقال: «يفسق ويكفر» والأولى أن يقال: هو من أغللته أي وجدته غالا كما يقال: أبخلته أي وجدته كذلك. ومن هنا قال في الكشاف: معناه راجع إلى القراءة الأولى إذ معناه ما صح له أن يوجد غالا ولا يوجد غالا إلا إذا كان غالا. وكان ابن عباس ينكر على هذه القراءة ويقول: كيف لا ينسب إلى الخيانة وقد كان يقتل؟ وقال خصيف: قلت لسعيد بن جبير: ما كان لنبي أن يغل. فقال: بل يغل ويقتل. ولا يخفى أن الإنكار لا يتوجه إذا كان أغل بمعنى وجده غالا، وإنما يتوجه إذا كان الإغلال بمعنى النسبة إلى الخيانة كما روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض المنافقين: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها. وقد طعن بعضهم في هذه القراءة وقال: إن أكثر ما جاء من هذا القبيل في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ [يوسف: 38] ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ [يوسف: 76] ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ [آل عمران: 145] ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً [التوبة: 115] وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ [آل عمران: 179] وحكى أبو عبيدة عن يونس أنه قال: ليس في الكلام «ما كان لك أن تضرب» بضم التاء. والحق أن القرآن حجة على غيره لا بالعكس. ويوافق هذه القراءة ما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما وقعت غنائم هوازن في يده غله رجل بمخيط فنزلت. وعلى هذا يغل بمعنى يخان. وإن جعل يغل بمعنى يوجد غالا فالقراءتان متعاضدتان ويوافقهما أسباب النزول، أكثرها يروى أنه تأخرت قسمة الغنيمة في بعض الغزوات لمانع فجاءه قوم وقالوا: ألا تقسم غنائمنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لو كان لكم مثل أحد ذهبا ما حبست منكم درهما، أترون أني أغلكم مغنمكم؟ فنزلت. وعن ابن عباس أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم بشيء زائد فنزلت. وقال الكلبي ومقاتل: نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز طلبا للغنيمة وقالوا: يخشى أن يقول رسول الله من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر. فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟ فقالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال صلى الله عليه وسلم: بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم. وروي أنه صلى الله عليه وسلم بعث طلائع فغنم بعدهم غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع فنزلت مبالغة في النهي لرسوله يعني وما كان لنبي أن يعطي قوما ويمنع آخرين، بل عليه أن يقسم بالسوية. وسمى حرمان بعض الغزاة غلولا تغليظا وتقبيحا لصورة الأمر. وقيل: نزلت في أداء الوحي. كان يقرأ القرآن- وفيه عيب دينهم وسب آلهتهم- فسألوه أن يترك ذلك فقيل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم رغبة في الناس أو رهبة منهم وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أكثر المفسرين أجروه على ظاهره ونظيره في مانع الزكاة يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ [التوبة: 35] ويدل عليه الحديث الذي رويناه وعن ابن عباس أنه قال: يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم ثم يقال له: انزل إليه فخذه فيهبط إليه فإذا انتهى إليه حمله على ظهره فلا يقبل منه. وعن بعض جفاة الأعراب أنه سرق نافجة مسك فتليت عليه هذه الآية فقال: إذن أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل. قلت: ذلك الشقي قاس الأمور الأخروية على الأمور الدنيوية، ولم يعلم أن ذلك المسك وقتئذ يكون أنتن من الجيفة وأثقل من الجبل وذلك ليذوق وبال أمره ويرى نقيض مقصوده. قال المحققون: والفائدة فيه أنه إذا جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحته. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: «لكل غادر لواء يوم القيامة» «1» وقال أبو مسلم: هذا على سبيل التمثيل والتصوير لوباله وتبعته. والمراد أنه تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية. وقيل: المراد أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء، وفيه صرف اللفظ عن ظاهره من غير دليل ولا ضرورة. ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إثبات للجزاء لكل كاسب على سبيل العموم ليعلم صاحب الغلول أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب وهذا أبلغ مما لو خص الغال بتوفية الجزاء فقيل: ثم يوفى ما كسب. ثم فصل ما أجمل فقال: أَفَمَنِ اتَّبَعَ والهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره «أمن اتقى فاتبع» . قال الكلبي والضحاك: أفمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ رجع منه بشدّة إرادة انتقام لأجل الغلول؟ وقال الزجاج: أفمن اتبع رضوان الله بامتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى دفع المشركين يوم أحد، كمن باء بسخط من الله وهم الذين لم يمتثلوا؟ وقيل: الأولون المهاجرون والآخرون المنافقون. وقيل: أفمن اتبع رضوان الله بالإيمان والعمل بطاعته كمن باء بسخط من الله بالكفر به والاشتغال بمعصيته؟ وهذا القول أقرب لتكون الآية مجراة على العموم وإن كان سبب النزول خاصا. وقوله: وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ من تمام صلة من «باء» . وقوله: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ اعتراض. قال القفال: لا يجوز في الحكمة أن يسوى بين المسيء والمحسن وإلا كان إغراء بالمعاصي وإباحة لها وإهمالا للطاعات وتنفيرا عنها. هُمْ دَرَجاتٌ قيل: أي لهم   (1) رواه البخاري في كتاب الجزية باب 22. مسلم في كتاب الجهاد حديث 8، 10- 17. أبو داود في كتاب الجهاد باب 150. الترمذي في كتاب السير باب 28. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 42. الدارمي في كتاب البيوع باب 11. أحمد في مسنده (1/ 411، 417) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 درجات. وحسن هذا الحذف لأن اختلاف أعمالهم كأنه قد صيرهم بمنزلة الأشياء المختلفة في ذواتها. وقالت الحكماء: النفوس الإنسانية مختلفة بالماهية يدل عليها اختلاف صفاتها بالإشراق والإظلام، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة» «1» فهم في أنفسهم درجات لا أن لهم درجات. وقيل: المراد ذوو درجات. ثم الضمير إلى أي شيء يعود؟ قيل: إلى من اتبع رضوان الله لأن الغالب في العرف استعمال الدرجات في أهل الثواب، والدركات في أهل العقاب. ولأنه قد ذكر وصف من باء بسخط من الله وهو أن مأواه جهنم فيكون هذا وصفا لمن اتبع الرضوان ويؤيده قوله: عِنْدَ اللَّهِ وهذا وإن كان معناه في علمه وحكمه كما يقال: «هذه المسألة عند الشافعي كذا» ولا يراد به عندية المكان لتنزهه تعالى عن ذلك إلا أنه يفيد في الجملة تشريفا وأنه يليق بأهل الثواب. وقال الحسن: يعود إلى من باء بسخط لأنه أقرب لأنهم متفاوتون في العذاب. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن منها ضحضاحا وغمرا» «2» وقال: «إن أهون أهل النار عذابا رجل يحذى له نعلان من نار يغلي من حرهما دماغه ينادي يا رب وهل يعذب أحد عذابي» «3» والأوجه أن يكون عائدا إلى الكل، لأن درجات أهل الثواب متفاوتة، وكذا دركات أهل العقاب حسب تفاوت أعمال الخلق. وقد تستعمل الدرجات في مراتب أهل النار كقوله: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام: 132] وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم بمقدارها. قوله عز من قائل: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ في النظم وجوه منها: أن هذا الرسول نشأ فيما بينهم ولم يظهر منه طول عمره إلا الصدق والأمانة، فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة؟ ومنها كأنه تعالى قال: لا أكتفي في وصفه بأن أنزهه عن الخيانة ولكني أقول: إن وجوده فيكم من أعظم نعمي عليكم. ومنها أنكم كنتم خاملين جاهلين وإنما حصل لكم الشرف والعلم بسبب هذا الرسول، فالطعن فيه طعن فيكم. ومنها أن مثل هذا الرجل يجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه ويكون معه باليد واللسان والسيف والسنان، فيكون المقصود العود إلى ترغيب المسلمين في الجهاد. ومعنى المنّ هاهنا الإنعام على من لا يطلب الجزاء منه. والوجه في المنة إما أن يعود إلى أصل البعثة، وإما أن يعود إلى بعثة هذا الرسول. فمن الأول أن الخلق مجبولون على النقصان والجهالة، والنبي يورد عليهم   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 539) . (2) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 358. (3) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 1، مسلم في كتاب الإيمان حديث 362. الترمذي في كتاب جهنم باب 12. الدارمي في كتاب الرقاق باب 121. أحمد في مسنده (2/ 432) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 وجوه دلائل الكمال ويزيح عللهم في كل حال. وأيضا إنهم وإن شهدت فطرتهم بوجوب خدمة مولاهم لكن لا يعرفون كيفية تلك الخدمة إلى أن يشرحها النبي صلى الله عليه وسلم لهم. وأيضا إنهم جبلوا على الكسل والملل فهو يورد عليهم أنواع الترغيبات والترهيبات فيزول فتورهم ويتجدد نشاطهم. وبالجملة فعقول البشر بمنزلة أنوار البصر، وعقل النبي بمنزلة نور الشمس. فكما لا يتم الانتفاع بنور البصر إلا عند سطوع نور الشمس، فكذلك لا يحصل الاهتداء بمجرد العقل ما لم ينضم إليه إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الثاني أن هذا الرسول بعث مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي من جنسهم عربيا مثلهم، أو من ولد إسماعيل كما أنهم من ولده. فعلى هذا يكون المراد بالمؤمنين من آمن مع الرسول من قومه. وخص المؤمنين منهم لأنهم هم المنتفعون به، ووجه المنة أنه إذا كان اللسان واحدا سهل عليهم أخذ ما يجب أخذه عنه، وإذا كانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة كان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه والوثوق به. وفيه أيضا شرف لهم وفخر كما قال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] وذلك أن الافتخار بإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب. ثم اليهود والنصارى كانوا يفتخرون بموسى وعيسى وبالتوراة والإنجيل، وما كان للعرب ما يقابل ذلك. فلما بعث الله محمدا وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم. وقيل: مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي من جنس الإنس لا من الملك لأن الجنس إلى الجنس أميل. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن فاطمة أنهما قرآ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بفتح الفاء أي أشرفهم، وعلى هذا يكون المؤمنون عاما. ويحتمل أن يراد بهم العرب ويصح لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان، وخندف ذروة مضر، ومدركة ذروة خندف، وقريش ذروة مدركة، وذروة قريش محمد صلى الله عليه وسلم. وأما سائر أوصافه من قوله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ فقد مر تفسيرها في البقرة عند قوله: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا [البقرة: 129] وإعراب قوله: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ كما سلف في قوله: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة: 143] ومعنى المنة فيه أن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان موقعها أعظم. فبعثة هذا الرسول عقيب الجهل والذهاب عن الدين تكون أعم نفعا وأتم وقعا. ثم لما أجاب عن نسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغلول، حكى عنهم شبهة أخرى وهي قولهم لو كان رسولا من عند الله ما انهزم عسكره وهو المراد بقوله: أَنَّى هذا وأجاب عنها بقوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ والواو في قوله أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ لعطف هذه الجملة الاستفهامية على ما قبلها من قصة أحد إلا أن حرف الاستفهام قدم على واو العطف لأن له صدر الكلام ولَمَّا ظرف قُلْتُمْ ومقول القول أَنَّى هذا. وأَصابَتْكُمْ في محل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 الجر بإضافة لَمَّا إليه. والتقدير: أقلتم حين أصابتكم؟ ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على محذوف كأنه قيل: أفعلتم كذا، وقلتم حينئذ من أين أصابنا هذا، وكيف نصروا علينا، ونحن على الحق ومعنا الرسول وهم على الباطل ولا نبي معهم؟ والمراد بالمصيبة واقعة أحد، وبمثلها وقعة بدر. وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، وقيل: أراد نسبة الضعف في الهزيمة لا في عدد القتلى والأسرى. فالمسلمون هزموا الكفار يوم بدر وهزموهم أيضا في الأولى يوم أحد، ثم لما عصوا الله هزمهم المشركون فانهزام المشركين حصل مرتين، وانهزام المسلمين حصل مرة واحدة فخرج عن قوله: قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها جواب ضمني يعني أن أحوال الدنيا لا تدوم على حالة واحدة، فإذا أصبتم منهم مثلي ما نالوا منكم فما وجه الاستبعاد؟ لكنه صرح بجواب آخر فقال: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ وفي تقريره وجهان: الأول أن هذه المصيبة بشؤم معصيتكم. وذلك أنهم عصوا الرسول في أمور في الخروج عن المدينة وكان رأيه في الإقامة، ثم في الفشل وفي التنازع وفي مفارقة المركز وفي الاشتغال بطلب الغنيمة. الثاني ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال: يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى، وأمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم. فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لقومه فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ الفداء منهم فنتقوى به على قتال العدو ونرضى أن يستشهد منا بعددهم. فقتل يوم أحد سبعون رجلا بعدد أسارى بدر. فمعنى هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ هو بأخذكم الفداء واختياركم القتل. وتمسك المعتزلة بالآية على أن للعبد اختيارا في الفعل والترك، وأنه من عند نفسه. وعارضهم الأشاعرة بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فإن فعل العبد من جملة الأشياء فيكون الله قادرا عليه. فلو وجد بإيجاد العبد امتنع من الله أن يقدر عليه إذ لا قدرة على إيجاد الموجود والحق أن وجود الواسطة لا ينافي انتهاء الكل إلى مسبب الأسباب ويؤيده قوله: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ قال ابن عباس: أي وقع بقضائه وحكمه وفيه تسلية للمؤمنين لأن الرضا بالقضاء لازم. وقيل: بتخليته لأن الإذن مخل بين المأذون له ومراده، فاستعير الإذن للتخلية، وإن اعتبرتم المصالح فذاك قد وقع لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليتميزوا عن أهل النفاق. وإنما لم يقل «وليعلم المنافقين» ليناسب المؤمنين لفظا لأن الغرض تصوير أنهم شرعوا في الأعمال اللائقة بالنفاق في ذلك الوقت وأحدثوها، ولأنه عطف على الصلة. وَقِيلَ لَهُمْ قال الأصم: هذا القائل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يدعوهم إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 القتال. وقيل: هو أبو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، لما انخزل عبد الله بن أبي بثلث الناس تبعهم وقال: أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إن كان في قلبكم حب هذا الدين أَوِ ادْفَعُوا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم إن لم يكن بكم هم الآخرة وطلب مرضاة الله أي كونوا من رجال الدين أو من رجال الدنيا. وقال السدي وابن جريج: ادفعوا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا لأن الكثرة أحد أسباب الهيبة والرعب. ثم إنه كأن سائلا سأل فما أجاب المنافقون عند دعاء المؤمنين إياهم إلى القتال؟ فقيل: قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ كأنهم جحدوا أن يكون بين الفريقين قتال البتة. أو المراد لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لوافقناكم عليه، ولكنكم تلقون بأيديكم إلى التهلكة، وذلك أن رأي عبد الله كان في الإقامة وما كان يستصوب الخروج من المدينة، وكلا المعنيين منهم في الجواب فاسد. أما الأول فلأن ظهور أمارات الحرب كاف في وجوب القتال والدفع عن النفس والمال. والظن في أمور الدنيا قائم مقام العلم، ولا أمارة أقوى من قرب الأعداء من المدينة عند جبل أحد. وأما الثاني فلأنه تعالى لما وعدهم النصر والغلبة إن صبروا واتقوا لم يكن الخروج إلى ذلك القتال إلقاء النفس إلى التهلكة. ولركاكة جوابهم قال: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ لأنهم تباعدوا بهذا الجواب المنبئ عن الدغل والنفاق عن الإيمان المظنون بهم قبل اليوم. والمراد أنهم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال تقوية لجانب المشركين وعلى الأول قال أكثر العلماء: إنه تنصيص من الله تعالى على أنهم كفار لأن القرب من الكفر حصول الكفر. قال الحسن: إذا قال الله أقرب فهو اليقين بأنهم مشركون كقوله: مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 117] فهذه الزيادة لا شك فيها. وقال الواحدي: فيه دليل على أن الآتي بكلمة التوحيد لا يكفر لأنه تعالى لم يظهر القول بتكفيرهم يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أي لا يتجاوز الإيمان حناجرهم ومخارج الحروف منهم خلاف صفة المؤمنين في مواطأة قلوبهم ما نطقوا به من التوحيد وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ من بغض الإسلام والمسلمين وسائر مجاري أحوالهم فيما بينهم. وذلك أن المؤمنين قد علموا بعض ذلك بالقرائن والأمارات، وهو تعالى عالم بتفاصيل ذلك لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ: 3] . الَّذِينَ قالُوا منصوب على الذم أو على البدل من الَّذِينَ نافَقُوا أو مرفوع على الذم أي هم الذين، أو على البدل من ضمير يَكْتُمُونَ وقيل: يجوز أن يكون مجرورا بدلا من الضمير في بِأَفْواهِهِمْ أو قُلُوبِهِمْ لِإِخْوانِهِمْ لأجل إخوانهم المقتولين يوم أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 إخوة في النسب أو في سكنى الدار أو في الجنسية في النفاق. والقائلون- عند جمهور المفسرين- عبد الله بن أبيّ وأصحابه. واعترض الأصم بأنه قد خرج يوم أحد فكيف وصف بالقعود في قوله: وَقَعَدُوا أي والحال أنهم قد قعدوا عن القتال. والجواب أن القعود عن القتال وهو الجبن عنه وتركه لا ينافي الخروج. لَوْ أَطاعُونا في أمرنا إياهم بالقعود ما قُتِلُوا كأنهم قعدوا وما اكتفوا بذلك بل أرادوا تثبيط غيرهم وذلك لما في الطباع من محبة الحياة وكراهة الموت. «ومن يسمع يخل» فلعل بعض ضعفة المسلمين إذا سمع ذلك رغب في القعود ونفر طبعه عن الجهاد فأجابهم الله تعالى بقوله: قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الحذر يغني عن القدر، وأن سلامتكم كانت بسبب قيودكم لا بغيره من أسباب النجاة. وفيه استهزاء بهم أي إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت فادفعوا جميع أسبابه حتى لا تموتوا. وروي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقا. جميع ذلك بناء على أن القتل أمر مكروه يجب على العاقل أن يتحرز منه لو أمكنه، لكنا لا نسلم ذلك وهو المراد بقوله: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً والخطاب للرسول أو لكل أحد. ومن قرأ على الغيبة فالضمير للرسول. أو المراد لا يحسبن حاسب أو لا يحسبنهم أمواتا. وضمير المفعول للذين قتلوا أي لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا. فحذف المفعول الأوّل لدلالة الكلام عليه، فكأنه مذكور كما حذف المبتدأ في قوله: بَلْ أَحْياءٌ أي هم أحياء للدلالة. عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا أنا في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله عز وجل أنا أبلغهم عنكم فأنزل هذه الآية» «1» وعن جابر بن عبد الله قال: نظر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لي أراك مهتما؟ قلت: يا رسول الله قتل أبي وترك دينا وعيالا. «فقال: ألا أخبرك ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحا. فقال: يا عبدي سلني أعطك. فقال: أسألك أن تردّني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية. فقال: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. فقال: يا رب فأبلغ من ورائي» «2» فنزلت. وقال جماعة من أهل التفسير: نزلت   (1) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 121. أبو داود في كتاب الجهاد باب 25. الترمذي في كتاب تفسير سورة آل عمران باب 19. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 4. الدارمي في كتاب الجهاد باب 18. أحمد في مسنده (6/ 386) . (2) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة آل عمران باب 18. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. كتاب الجهاد باب 16. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 الآية في شهداء بئر معونة. وقال بعضهم: إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور تحسروا وقالوا: نحن في النعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور، فنزلت الآية تنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم أنهم أحياء متنعمون. واختلف العلماء في معنى هذه الحياة. فعن طائفة أنها على سبيل المجاز. وقال الأصم والبلخي: أريد بها الذكر الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى. وروي أن عبد الملك بن مروان لما رأى الزهري وعلم فقهه وتحقيقه قال: ما مات من خلف مثلك. ومن هذه الطائفة من قال: مجاز هذه الحياة أن أجسادهم باقية في قبورهم وأنها لا تبلى تحت الأرض البتة. روي أنه لما أراد معاوية أن يجري العين إلى قبور الشهداء أمر بأن ينادي: من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع. قال جابر: فخرجنا إليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان فأصاب المسحاة أصبع رجل منهم فقطرت دما. ومن هؤلاء من قال: المراد أنهم لا يغسلون كما لا يغسل الأحياء. وذهبت طائفة من متكلمي المعتزلة إلى أن المراد أنهم سيصيرون أحياء والغرض تعذيب منكري المعاد، وزيف بأنه عدول عن الظاهر، وبأن عذاب القبر ثابت. فالثواب أولى. وبأنه نهى عن حسبانهم أمواتا والذي يزيل هذا الحسبان هو اعتقاد أنهم أحياء في الحال لا اعتقاد أنهم أحياء في يوم القيامة، فإن ذلك مما لا يشك النبي والمؤمنون فيه. وبما رويناه عن ابن عباس أن أرواحهم في أجواف طير. وبقوله: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ والاستبشار بمن يكون في الدنيا لا بد أن يكون قبل يوم القيامة. وذهب كثير من المحققين إلى أنهم أحياء في الحال لكن بحياة روحانية، وأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة. وذلك أن الإنسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية، لأن أجزاء البدن في الذوبان والانحلال ويعرض لها السمن والهزال والقوّة والكلال، وكلنا يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره إلى آخره والباقي مغاير للمتبدل. ولأن الإنسان يكون عالما بنفسه حالما يكون غافلا عن جميع أعضائه وأجزائه، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم. ثم ذلك الشيء المغاير لهذا البدن المحسوس سواء كان جسما مخصوصا ساريا أو جوهرا مجردا لا يبعد أن ينفصل بعد موت البدن حيا أو أماته الله فيعيده حيا، وبهذا يثبت عذاب القبر وثوابه وتزول الشبهات. ومن تأمل في الأمور الواردة عليه وجد أحوال النفس مضادة لأحوال البدن، ووجد قوة أحدهما مقتضية لضعف الآخر، كما أن البدن يضعف وقت النوم وتقوى النفس على مشاهدة المغيبات ونقوش عالم الأرواح. وإذا أعرضت النفس عن الطعام والشراب وأقبلت على مطالعة العالم العلوي زادت سرورا وابتهاجا وفرحا وارتياحا، وانطبعت فيها الجلايا القدسية، وانكشفت لها المعارف الإلهية. وأكثر أرباب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 الشرع على أنهم أحياء في الحال بحياة جسمانية. ثم منهم من قال: إنه تعالى يصعد أجسادهم إلى السموات وإلى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادات والكرامات إليها، ومنهم من قال: بل يتركها في الأرض ويحييها ويوصل هذه السعادات إليها. ومن الناس من طعن في هذا القول وقال: إن تجويز كون البدن الميت الملقى في التراب حيا متنعما عاقلا عارفا نوع من السفسطة. والحق في هذه المسألة عندي خلاف ما يقوله أهل التناسخ من أن النفس بعد موت بدنها تقبل على بدن آخر وتعرض عن الأوّل بالكلية، وخلاف ما يقوله الفلاسفة من أن النفس تنقطع علاقتها عن البدن مطلقا وإنما تلتذ أو تتألم هي بما اكتسبت من المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة أو بالعقائد الباطلة والملكات الذميمة. والذي أقوله: إن النفس تبقى لها علاقة مع بدنها لا بالتحريك واكتساب الأعمال، ولكن بالتلذذ والتألم والتعقل ونحوها. وليس ببدع أن يتغير التعلق بحسب تغير الأطوار كما كان يتغير في مدّة العمر بحسب الأسنان والأمزجة. والتحقيق فيه أن النفس في هذا العالم جعلت متصرفة في البدن لأجل اكتساب الأعمال والملكات، وأنه يفتقر إلى تحريك الأعضاء وأعمال الجوارح والآلات، وبعد الموت تجعل متصرفة فيه من جهة الجزاء والحساب، فكيف ينبغي أن يقاس أحدهما على الآخر؟ فلعله يكفي بعد الموت أن يكون له علاقة التلذذ والتألم والإدراك فقط إلى أن تقوم القيامة الكبرى. وهذا القدر لا ينافي كون البدن مشاهدا في القبر من غير تحرك ولا إحساس ونطق، ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر وقال: يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقا. فقال عمر: يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردّوا عليّ شيئا. وفي حديث عذاب القبر «إنه ليسمع قرع نعالهم» «1» ولعل السر في أنه اكتفى بهذا القدر من التصرف أنه إن كان أكثر من ذلك كما سيكون في القيامة الكبرى نافى تكليف سائر الأحياء وأفضى الأمر إلى الإلجاء وهو السر في آخر حديث عذاب القبر «فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين» «2» وأما الشهداء فلا يبعد أن يجازيهم الله تعالى بمزيد التلذذ بنعيم الآخرة كما قتلوا تعجيلا للثواب. وكما عجلوا الانقطاع عن طيبات الدنيا ومشتهياتها فإن جزاء كل طائفة ينبغي أن يناسب عملهم. فافهم   (1) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 68، 87. النسائي في كتاب الجنة باب 70. أبو داود في كتاب الجنائز باب 74. أحمد في مسنده (3/ 126) . [ ..... ] (2) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 67، 86. أبو داود في كتاب السنّة باب 24. النسائي في كتاب الجنائز باب 110. أحمد في مسنده (2/ 272، 457) ، (3/ 126) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 هذه الأسرار فإنها علق مضنة وبه ثبت جميع ما ورد في الشريعة الحقة والله أعلم. ومعنى عِنْدَ رَبِّهِمْ أنهم مقربون ذوو كرامة كقوله: فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [فصلت: 38] أو المراد بحيث لا يملك أحد جزاءهم سوى ربهم، أو المراد في علمه وحكمه كما يقال: «هذه المسألة عند الشافعي كذا» . يرزقون كما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله كما ورد في الحديث. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وهو توفيق الشهادة وما خصصهم به من التفضيل على غيرهم من قبل تعجيل رزق الجنة ونعيمها. وقال المتكلمون: الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم. فقوله: يُرْزَقُونَ إشارة إلى المنفعة وقوله: فَرِحِينَ إشارة إلى الابتهاج الحاصل بسبب التعظيم. وبلسان الحكماء يُرْزَقُونَ إشارة إلى كون ذواتهم مشرقة بالمعارف الإلهية وفَرِحِينَ رمز إلى ابتهاجها بالنظر إلى ينبوع النور ومصدر الكمال، ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ بإخوانهم من المجاهدين الذين لم يقتلوا فيلحقوا بهم. والاستبشار السرور الحاصل بالبشارة. ومعنى مِنْ خَلْفِهِمْ أنهم بقوا بعدهم. وقيل لم يلحقوا بهم أي لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بدل الاشتمال من «الذين» . وذلك أن الله يبشرهم بأن من تركوا خلفهم من المؤمنين يبعثون امنين يوم القيامة، فهم مستبشرون بأنه لا خوف عليهم. وإنما بشرهم الله بذلك لأنهم لما فارقوا الدنيا بغتة كان ذلك مظنة أن يكون لهم نوع تعلق بأحوال إخوانهم وهو شبه تألم، فأكرمهم الله تعالى بإزالة ذلك التعلق بأن أعلمهم أمن إخوانهم من عذاب الله فحصل لهم سروران: من قبل حالهم في أنفسهم وذلك قوله: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ومن قبل حال إخوانهم وأعزتهم وذلك قوله وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ ثم كرر هذا المعنى لمزيد التأكيد فقال: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهي الثواب. وفضل وهو التفضل الزائد وهذا هو سرورهم بسعادة أنفسهم. وَأَنَّ اللَّهَ أي وبأن الله لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ وهذا سرورهم بسعادة إخوانهم المؤمنين. ثم إنه تعالى مدح المؤمنين بغزوتين متصلتين بغزوة أحد تعرف أولاهما بغزوة حمراء الأسد، والثانية بغزوة بدر الصغرى. أما الأولى فما روي أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وقالوا: إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلّا القليل. فلم تركناهم؟ فهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوّتهم فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال: لا أريد الآن أن يخرج معي إلا من حضر يومنا بالأمس. فخرج في سبعين من الصحابة حتى بلغوا حمراء الأسد- وهي من المدينة على ثمانية أميال- فألقى الله الرعب في قلوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 المشركين وانهزموا. فنزلت الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا بإتيان جميع المأمورات وَاتَّقَوْا بالانتهاء عن المحظورات وأَحْسَنُوا في طاعة الرسول واتقوا مخالفته وإن بلغ الأمر بهم إلى الجراحات. روي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة. ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة. و «من» في قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ للتبيين لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم. وقال أبو بكر الأصم: نزلت في يوم أحد لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم بالناس بعد الهزيمة فشد بهم على المشركين حتى كشفهم، وكانوا قد هموا بالمثلة فدفعهم عنهم بعد أن مثلوا بحمزة، فصلى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ودفنهم بدمائهم. وذكروا أن صفية جاءت لتنظر إلى أخيها حمزة فقال صلى الله عليه وسلم للزبير: ردّها لئلا تجزع من مثلة أخيها. فقالت: قد بلغني ما فعل به وذلك يسير في جنب طاعة الله تعالى. فقال للزبير: فدعها تنظر إليه، فقالت خيرا واستغفرت له. وجاءت امرأة أخرى قد قتل زوجها وأبوها وأخوها وابنها، فلما رأت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حي قالت: إن كل مصيبة بعدك هدر. وأما الثانية فروى ابن عباس أن أبا سفيان لما عزم أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى: يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى القابل فنقتتل بها إن شئت. فقال صلى الله عليه وسلم لعمر: قل بيننا وبينك ذاك إن شاء الله. فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل مرّ الظهران، فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال: يا نعيم إني واعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن أرجع. ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جرأة فألحق بالمدينة وثبطهم ولك عندي عشر من الإبل. فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم: ما هذا بالرأي أتوكم في دياركم وقراركم فقتلوا أكثركم، فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد، فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم. فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأخرجنّ إليهم وحدي. فخرج في سبعين راكبا وهم يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل، إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى وهي ماء لبني كنانة وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام. فلم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحدا من المشركين. وكانت معهم تجارت ونفقات فوافوا السوق وباعوا ما معهم واشتروا بها أدما وزبيبا وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين. ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق وأنزل الله في المؤمنين الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ يعني نعيم بن مسعود كما ذكرناه. وإنما عبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 عن الإنسان الواحد بالناس لأنه من جنس الناس كما يقال: فلان يركب الخيل وما له إلا فرس واحد. ولأن الواحد إذا قال قولا وله أتباع يقولون مثل قوله ويرضون به، حسن إضافة ذلك الفعل إلى الكل كقوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [البقرة: 72] وحين قال نعيم ذلك القول لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامّونه ويصلون جناح كلامه، وقال ابن عباس ومحمد بن إسحق: مر ركب من عبد القيس بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليخوفوهم وضمن لهم عليه جعلا- حمل بعير من زبيب-. وقال السدي: هم منافقوا المدينة كانوا يثبطون المسلمين عند الخروج ويقولون: إن الناس قد جمعوا لكم يعني أبا سفيان وأصحابه. والمفعول محذوف أي جمعوا لكم الجموع. والعرب تسمي الجيش جمعا. فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ قول نعيم أو قول المثبطين إِيماناً لأنهم لم يسمعوا قولهم وأخلصوا عنده النية والعزم على الجهاد، وأظهروا حمية الإسلام فكان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم. واستدل بالآية من قال: إن الطاعات داخلة في مسمى الإيمان وأنه يزيد وينقص بحسب زيادتها ونقصانها. وأما من قال: الإيمان عبارة عن نفس التصديق فتأويله أن الزيادة وقعت في ثمرات الإيمان، ولكنها جعلت في الإيمان مجازا. وقد مر تحقيق الكلام لنا في هذا المعنى في أوائل الكتاب. وكما أنهم أضمروا ذلك بحسب الاعتقاد وافقوا الخليل عليه السلام حين ألقي في النار فأظهروه باللسان وقالوا: حسبنا الله. وقد مر إعراب مثله في البقرة في قوله: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ [البقرة: 206] . وَنِعْمَ الْوَكِيلُ الكافي أو الكافل أو الموكول إليه هو. ثم عملوا بما اعتقدوه وقالوه فخرجوا فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهي العافية وَفَضْلٍ وهو الربح بالتجارة، أو النعمة منافع الدنيا والفضل ثواب الآخرة. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لم يصبهم قتل ولا جراح. وصفهم بأنه حصل لهم الملائم ولم يحصل لهم المنافي وهذه غاية المطلب ونهاية الأماني، وإن ذلك ثمرة الإخلاص والتوكل على الله سبحانه وتعالى. ثم روي أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا؟ فقال تعالى: وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ ليعلموا أن لهم ثواب المجاهدين حيث قضوا ما عليهم. ثم قال: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ تنبيها على أن السبب الكلي في ثواب المطيعين هو فضل ربهم ورحمته عليهم ولم ينج أحدا عمله إلا أن يتغمده الله برحمته، فعلى المؤمن أن لا يثق إلا بالله ولا يخاف أحدا إلا إياه وذلك قوله: إِنَّما ذلِكُمُ المثبط هو الشَّيْطانُ لعتوّه وتمرده وإغوائه. ثم بين شيطنته بقوله: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ أو الشيطان صفة اسم الإشارة، وهذه الجملة خبر والمفعول الأوّل محذوف أي يخوّفكم أولياءه فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس الذين هم أولياء المثبطين. والأولياء هم أبو سفيان وأصحابه. وقيل: الشيطان هو إبليس. وقيل: المضاف محذوف والتقدير إنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 ذلكم قول الشيطان. وقيل: يخوّف أولياءه القاعدين عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا فالضمير في فَلا تَخافُوهُمْ للناس في قوله: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ وقيل: التقدير يخوّفكم بأوليائه كقوله: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [الزمر: 36] فحذف حرف الجر قاله الفراء والزجاج وأبو علي، وزيفه ابن الأنباري بأن التخويف قد يتعدى بنفسه إلى مفعولين فلا ضرورة إلى إضمار حرف الجر. الله حسبي. التأويل: قد ذكرنا أن النفس يبقى لها نوع تعلق ببدنها. فالآن نقول: إن روح الشهيد مخصوص بمزيد تعلق ببدنه جزاء له على تعجيب إذاقة مرارة الفراق عن الدنيا، ولهذا لا تبلى أجساد كثير منهم وتبقى غضة طرية وكأنهم هم الشهداء في الحقيقة، وهكذا أجساد الكاملين من النبيين والصديقين الذين قتلوا أنفسهم بسيوف الرياضات، ومطارف الأذكار، وأسنة ألسنة الطاعنين، وتجرع سموم مخالفات النفس، ومكايدة الشيطان حتى ماتوا بالإرادة وحيوا بالطبيعة. وليس كل تعلق بهذا العالم سببا للتألم بل بعضه سبب اللذة والابتهاج يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس: 26- 27] وكما ورد في حديث الشهداء «من يبلغ إخواننا عنا إنا في الجنة» والذي جاء فيه «إن أرواحهم في أجواف طير خضر» «1» فلعل ذلك جزاء لهم على خروج الدم والأبخرة اللطيفة منهم ظلما. فمن الممكن أن يخلق الله تعالى من ذلك جسما لطيفا شبه طائر، ويكون لروح الشهيد به مزيد تعلق حتى تحركه ويطير حيث شاء من السماء والأرض وإلى الجنة بإذن الله تعالى. وأما كون الطير خضرا فإما لأن بدن الميت يميل إلى الخضرة، وإما أن يكون عبارة عن النضرة تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] وإما لأن حالهم بالنسبة إلى ما سيؤل إليه أهل الجنة والنار يوم القيامة كالمتوسط بين الحالين الذين يعبر عنهما بالبياض والسواد في قوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] وهذه المعاني ما وجدتها في كتب التفسير والتأويل، وأرجو أن أكون مصيبا فيها الغرض والله تعالى ورسوله أعلم بمرادهما. [سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 189] وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)   (1) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 121. أبو داود في كتاب الجهاد باب 25. الترمذي في كتاب تفسير سورة آل عمران باب 19. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 4. الدارمي في كتاب الجهاد باب 18. أحمد في مسنده (6/ 386) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 القراآت: وَلا يَحْزُنْكَ من الأفعال حيث كان إلا قوله: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] نافع ومثله لَيَحْزُنُنِي [يوسف: 13] ولِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة: 10] وقرأ يزيد على ضده. الباقون: بفتح الياء وضم الراء. ولا خلاف في مثل يَحْزَنُونَ [البقرة: 38] ولا تَحْزَنْ [الحجر: 88] مما هو لازم. وَلا يَحْسَبَنَّ وثلاثة بعدها بالياء التحتانية مع ضم الباء في تَحْسَبَنَّهُمْ أبو عمرو وابن كثير، وقرأ حمزة كلها بتاء الخطاب، وقرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب كلها بالتحتانية إلا قوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ فإنها بالتاء وفتح الباء. الباقون: الأوليان على الغيبة والأخريان بالخطاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 يَمِيزَ بالتشديد حيث كان: حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب عياش مخير. الباقون: خفيف بفتح الياء وكسر الميم. يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ بياء الغيبة: ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو لَقَدْ سَمِعَ وبابه مدغما: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام. سيكتب بضم الياء وفتح التاء وَقَتْلَهُمُ برفع اللام ويقول على الغيبة: حمزة الباقون: بالنون فيهما على التكلم. ونصب اللام في وَقَتْلَهُمُ وَبِالزُّبُرِ ابن عامر وَبِالْكِتابِ الحلواني عن هشام. الباقون: بغير إعادة الخافض فيهما. زُحْزِحَ عَنِ مدغما: شجاع وأبو شعيب من طريق العطار وابن مهران ليبيننه ولا يكتمونه بالياء فيهما لأنهم غيب: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب غير رويس وأبو بكر وحماد. الباقون: بتاء الخطاب فيهما على حكاية مخاطبتهم. الوقوف: فِي الْكُفْرِ ج للابتداء بأن ولاحتمال إضمار اللام أو الفاء شَيْئاً ط فِي الْآخِرَةِ ج لعطف المختلفتين مع اتحاد مقصود الكلام عَظِيمٌ هـ شَيْئاً ج لما ذكر فِي الْآخِرَةِ ط أَلِيمٌ هـ لِأَنْفُسِهِمْ ط إِثْماً ج لما ذكر أيضا مُهِينٌ هـ مِنَ الطَّيِّبِ ط وَرُسُلِهِ ط عَظِيمٌ هـ خَيْراً لَهُمْ ط شَرٌّ لَهُمْ ط الْقِيامَةِ ط وَالْأَرْضِ ط خَبِيرٌ هـ أَغْنِياءُ م لئلا يصير ما بعده من مقولهم، ومن قرأ بضم الياء فوقفه مطلق. بِغَيْرِ حَقٍّ ج لمن قرأ ويقول بالياء لأن التقدير: ويقول الله أو يقول الزبانية فلا ينعطف على قوله: سَنَكْتُبُ مع اتساق المعنى. الْحَرِيقِ هـ لِلْعَبِيدِ ج هـ لاحتمال الصفة وأن يكون المراد هم الذين، والوقف أولى لأنه لا يظلم العبيد مطلقا لا العبيد الموصوفة. نعم لو كان بدلا من الذين قالوا إن الله فقير صح تَأْكُلُهُ النَّارُ ط صادِقِينَ هـ الْمُنِيرِ هـ الْمَوْتِ ط يَوْمَ الْقِيامَةِ ط لابتداء شرط في أمر معظم. فَقَدْ فازَ ط الْغُرُورِ هـ كَثِيراً ط الْأُمُورِ هـ وَلا تَكْتُمُونَهُ ز لأن الجملتين وان اتفقتا لم يكن النبذ متصلا بأخذ الميثاق فلم يضف إلى ظرف «إذ» . قَلِيلًا ط يَشْتَرُونَ هـ مِنَ الْعَذابِ ج لما ذكر. أَلِيمٌ هـ وَالْأَرْضِ ط قَدِيرٌ هـ. التفسير: نزلت في كفار قريش وإنه تعالى جعل رسوله آمنا من شرهم وأتاح العاقبة له وإن جمعوا الجموع وجهزوا الجيوش حتى يظهر هذا الدين على الأديان كلها. وقيل في المنافقين ومسارعتهم هي أنهم كانوا يخوّفون المؤمنين بسبب واقعة أحد، ويؤيسونهم من النصر والظفر، وربما يقولون: إن محمدا لطالب ملك فتارة يكون الأمر له وتارة يكون عليه، ولو كان رسولا ما غلبه أحد. وقيل: إن قوما من الكفار أسلموا ثم ارتدوا خوفا من قريش، فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فبيّن الله تعالى أن ردتهم لا تؤثر في لحوق ضرر بك. ونصر بعضهم هذا القول بأن المسارعة وهي شدة الرغبة في الكفر إنما تناسب من كفر بعد الإيمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 المستمر على الكفر، وبأن إرادته أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة إنما تليق بمن آمن فاستوجب الحظ ثم أحبط، وبأن الحزن إنما يكون على فوات أمر مقصود وذلك هو ما قدر النبي صلى الله عليه وسلم من الانتفاع بإيمانهم أو انتفاعهم بالإيمان فبيّن الله تعالى أنه لا يحلق بسبب فوات ذلك ضرر بالدين، وأن وبال ذلك يعود عليهم كما دل عليه بقية الآية. فإن قيل: الحزن على كفر الكافر وعلى معصية العاصي طاعة، فكيف نهى نبي الله عن ذلك؟ فالجواب أنه نهي عن الإسراف في الحزن بحيث يأتي عليه ونظيره لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3] أو المراد لا يحزنوك لخوف أن يضروك ويعينوا عليك إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ أي دينه شَيْئاً من الضرر. يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ فيه دليل على أن إرادة الله تتعلق بالعدم، وتنصيص على أن الخير والشر والنفع والضر بإرادة الله، ومعنى قوله: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أنه كما لا حظ لهم من منافع الآخرة فلهم حظ عظيم من مضارها. وفي الإخبار عن إرادة عدم الجعل دون الإخبار عن عدم الجعل إشعار بأن استحقاقهم للحرمان بلغ إلى حد أراد أرحم الراحمين أن لا يرحمهم وأن الداعي إلى تعذيبهم خلص خلوصا لم يبق معه صارف البتة. ثم أنزل في اليهود خاصة وهو الأشبه أو في الكفار عامة إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الآية. والغرض تأكيد تقوية قلب الرسول كأنه قيل: إن أكثرهم ينازعونك في الدين لا لأجل شبهة لهم بل بناء على الحسد والمنازعة في منصب الدنيا. ومن كان عقله هذا القدر- وهو أن يبيع بالقليل من الدنيا السعادة الكثيرة في الآخرة- كان في غاية الحماقة، ومثله لا يقدر على إلحاق الضرر بالغير. ولو قيل: إن الآية في المرتدين فالمعنى أن اختيار دين بعد دين ثم الارتداد على العقبين يدل على الاضطراب وضعف الرأي، والإنسان المضطرب الحال لا قدرة له على إيصال الضرر إلى الغير. ثم بين أن بقاء المنافقين المتخلفين عن الجهاد والكفار الذين بقوا بعد شهداء أحد لا خير فيه فقال: وَلا يَحْسَبَنَّ من قرأ بالياء فقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا فاعل، و «أن» مع ما في حيزه ساد مسد مفعوليه. ومن قرأ بتاء الخطاب ف الَّذِينَ كَفَرُوا مفعول أول و «أن» مع ما في حيزه بدل منه. وصح الإبدال وإن لم يمض إلا أحد المفعولين لأن المبدل في حكم المنحي. ألا تراك تقول: جعلت متاعك بعضه فوق بعض. مع امتناع السكوت على متاعك؟ والتقدير: ولا تحسبن الذين كفروا أن إملائي خير لهم على أن «ما» مصدرية. ويجوز أن يقدر مضاف محذوف أي لا تحسبنهم أصحاب أن الإملاء خير لهم، أو لا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم. قال الأصمعي: يقال أملى عليه الزمان أي طال. وأملى له أي طوّل له وأمهله. قال أبو عبيدة: ومنه الملا للأرض الواسعة الطويلة، والملوان الليل والنهار. ويقال: أقمت عنده ملاوة من الدهر أي حينا وبرهة. وإِثْماً نصب على التمييز. وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 وصف العذاب أوّلا بالعظم ثم بالألم ثم بالإهانة تدرج من الأهون إلى الأشق، وفيه من الوعيد والسخط ما لا يخفى. قالت الأشاعرة هاهنا: إن إطالة المدة من فعل الله لا محالة. والآية دلت على أنها ليست بخير ففيه دلالة على أنه سبحانه فاعل الخير والشر. وأيضا إنه نص على أن الغرض من هذا الإملاء، أن يزدادوا إثما، فإذن الكفر والمعاصي بإرادة الله. وأيضا أخبر عنهم أنه لا خير لهم فيه وأنهم لا يحصلون منه إلا على ازدياد الغي والإثم، والإتيان بخلاف خبر الله تعالى محال، فعلمنا أنهم مجبورون على ذلك في صورة مختارين. أجابت المعتزلة بأن المراد أن هذا الإملاء ليس خيرا من موت الشهداء إذ الآية من تتمة قصة أحد، لا أنه ليس بخير مطلقا. وزيف بأن بناء المبالغة لا يجوز ذكره إلا مع المفضل عليه، لكنه لم يذكر فعلمنا أنه لنفي الخيرية لا لنفي كونه خيرا من شيء آخر، وعن الثاني أن ازدياد الإثم علة للإملاء وليس كل علة بغرض كقولك: قعدت عن الغزو للعجز والفاقة. ومثله وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا [إبراهيم: 30] وهم ما فعلوا ذلك إلا ضلال. ويقال: ما كانت موعظتي لك إلا للزيادة في تماديك في الغي إذا كانت عاقبة الموعظة ذلك. ورد بأن حمل اللام على لام العاقبة عدول عن الظاهر، على أنا نعلم بالبرهان أن علمه تعالى بأنهم مزدادون إثما على تقدير الإمهال علة فاعلية لازديادهم إثما فكان تعالى فاعلا للازدياد ومريدا له. قالوا: في الكلام تقديم وتأخير وترتيبه: لا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم. ويعضده قراءة يحيى بن وثاب بكسر «إن» الأولى وفتح الثانية. وردّ بأن التقديم والتأخير خلاف الأصل، والقراءة الشاذة لا اعتداد بها مع أن الواحدي أنكرها. ثم إنه تعالى أخبر أنه لا يجوز في حكمته أن يترك المؤمنين على ما هم عليه من اختلاط المخلص بالمنافق، ولكنه يعزل أحد الجنسين عن الآخر بإلقاء الحوادث وإبداء الوقائع كما في قصة أحد. لله در النائبات فإنها ... صدأ اللئام وصيقل الأحرار فقال: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ اللام لتأكيد النفي والخطاب في أَنْتُمْ للمصدقين جميعا من أهل الإخلاص والنفاق. خوطبوا بأنه ما كان في حكمة الله أن يترك المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض. وماز وميّز لغتان. مزت الشيء بعضه من بعض أميزه ميزا، وميّزته تمييزا. وفي الحديث «من ماز أذى عن الطريق فهو له صدقة وحجة» «1» ولفظ الطيب والخبيث وإن كان مفردا إلا أنه للجنس والمراد جميع   (1) رواه أحمد في مسنده (4/ 422، 423) بلفظ «أمز الأذى عن الطريق» عند ما طلب منه أبو برزة أن يحدثه بشيء ينفعه الله به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 المنافقين من المؤمنين، وإنما قدم الخبيث على الطيب ليقع فعل الميز عليه ليعلم أنه المطرح من الشيئين الملقى لرداءته، فإن الميز يقع على الأدون والأهون. وبم يحصل هذا الميز؟ قيل: بالمحن والمصائب كالقتل والهزيمة وكما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج مع ما بهم من القروح، فبمثل ذلك يظهر الثابت من المتزلزل والساكن من المتقلقل. وقيل: بإعلاء كلمة الدين وقلة شوكة المخالفين ليظهره على الدين كله. وقيل: بالوحي إلى نبيه ولهذا أردفه بقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي أي يصطفي ويختار مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ وبناء الكلام على ثلاث مراتب: الأولى أن هذا المنصب الذي استأثر الله تعالى بعلمه لا يليق بكل أحد منكم، وإنما هو مخصوص بالمصطفين من عبيده. الثانية أن الرسول أيضا لا يعلم المغيبات بأن يطلع عليها من تلقاء نفسه وبخاصية فيه، ولكنه إنما يعلم ذلك من طريق الوحي وإطلاع الله تعالى إياه عليه أن هذا مؤمن وذاك منافق. الثالثة أن هذا أيضا مختص ببعض الرسل وفي بعض الأوقات حسب مشيئته وإرادته. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ومن جملة الإيمان بالله أن تعتقدوه وحده علاما للغيوب، ومن جملة الإيمان بالرسل أن تنزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عبيدا مصطفين لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى. ووجه النظم على القول الأول: لا تظنوا أن هذا التمييز يحصل بأن يطلعكم الله على غيبه ويقول إن فلانا مؤمن وفلانا منافق، فإن سنة الله جارية بأنه لا يطلع العوام على غيبه ولا يكون لهم سبيل إلى معرفة الأمور إلا بالامتحان والقرائن المفيدة للظن الغالب، ولكنه يصطفي من رسله من يشاء، فيعلمهم أن هذا مؤمن وذاك منافق ويختارهم للرسالة ووضع التكاليف الشاقة التي بمثلها يتميز الفريقان ويخلص أهل الوفاء من أهل الجفاء. أو المراد ما كان الله ليطلعكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول، ولكنه يخص من يشاء بالرسالة ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل، فآمنوا بالله ورسله كلهم، لأن طريق ثبوت نبوّتهم واحد، فمن أقر بنبوّة واحد منهم لزمه الإقرار بنبوّة كلهم. ثم اتبعه الوعد بالثواب فقال: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ قال السدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عرضت عليّ أمتي في صورها كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر» فبلغ ذلك المنافقين فاستهزؤا فقالوا: زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا فأنزل الله ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ. وقال الكلبي: قالت قريش: تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان، وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله عنه راض، فأخبرنا بمن يؤمن بك وبمن لا يؤمن بك فنزلت. وقال أبو العالية: نزلت حين سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 ثم إنه عز من قائل لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد، حرض على بذل المال في سبيل الله فقال: ولا تحسبن الذين يبخلون من قرأ بتاء الخطاب قدر مضافا أي لا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم، وكذا من قرأ بالياء وجعل فاعله ضمير النبي أو أحد. ومن جعل الموصول فاعلا فالمفعول الأول محذوف للدلالة. التقدير: ولا تحسبن هؤلاء بخلهم هو خيرا وهو صيغة الفصل. قال الواحدي: جمهور المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مانعي الزكاة لترتب الوعيد عليه وسوق الكلام في معرض الذم، ولأن تارك التفضل لو عدّ بخيلا لم يتخلص الإنسان من البخل إلا بإخراج جميع المال. وفي حكم الزكاة سائر المصارف الواجبة كالإنفاق على النفس وعلى الأقربين الذين يلزمه مؤنتهم، وعلى المضطر، وفي الذب عن المسلمين إذا قصدهم عدوّ وتعين دفعهم بالمال. وروى عطية عن ابن عباس أنها نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته. وأراد بالبخل كتمان العلم الذي آتاهم الله، وعلى هذا يكون عودا إلى ما انجرّ منه الكلام إلى قصة أحد، وذلك هو شرح أحوال أهل الكتاب ويعضده أن كثيرا من آيات بقية السورة فيهم. وعلى هذا التفسير فمعنى سَيُطَوَّقُونَ أن الله تعالى يجعل في رقابهم طوقا من النار كقوله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار» «1» والسر فيه أنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق. وعلى التفسير الأول فإما أن يكون محمولا على ظاهره وهو أن يجعل ما بخل به من الزكاة حية يطوّقها في عنقه تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه ويقول: أنا مالك. عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما من رجل له مال لا يؤدي حق ماله إلا جعل طوقا في عنقه شجاعا أقرع يفر منه وهو يتبعه» «2» . ثم قرأ مصداقه من كتاب الله عز وجل ولا تحسبن الذين يبخلون الآية. وعن ابن عمر قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إن الذين لا يؤدي زكاة ماله يخيل إليه ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان فيلزمه أي يطوّقه يقول: أنا كنزك» «3» وأما أن يكون على طريق التمثيل لا على أن ثمة أطواقا أي سيلزمون إثمه في الآخرة إلزام الطوق. وفي أمثالهم «يقلدها طوق الحمامة» . إذا جاء بهنة يسب بها ويذم. وقال مجاهد: معناه سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة. ونظيره ما روي عن   (1) رواه أبو داود في كتاب العلم باب 9. الترمذي في كتاب العلم باب 3. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 24. أحمد في مسنده (2/ 263، 305) . (2) رواه النسائي في كتاب الزكاة باب 2. (3) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 3. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 2. أحمد في مسنده (1/ 377) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 ابن عباس أنه كان يقرأ وعلى الذين يطوّقونه فدية [البقرة: 184] قال المفسرون: يكلفونه ولا يطيقونه أي يؤمرون بأداء ما منعوه حتى لا يمكنهم الإتيان به فيكون ذلك توبيخا على معنى هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا؟ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وله ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره. فمالهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله؟ ونظيره قوله: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد: 7] وقال كثير من المفسرين: المقصود أنه يبطل ملك جميع المالكين إلا ملك الله فيصير كالميراث. قال ابن الأنباري: يقال ورث فلان علم فلان إذا تفرد به بعد أن كان مشاركا له فيه. ومثله وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل: 16] أي انفرد بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركا له فيه أو غالبا عليه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ من قرأ على الغيبة فظاهر، أي يجازيهم على منعهم الحقوق. ومن قرأ على الخطاب فللالتفات وهي أبلغ في الوعيد لأن الغضب كأنه تناهى إلى حد أقبل على الخطاب وشافه بالعتاب. ثم شرع في حكاية شبه الطاعنين في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وذلك أنه لما أمر بالإنفاق في سبيل الله قالوا: لو كان محمد صادقا في أن الله تعالى يطلب منا المال فهو إذن فقير ونحن أغنياء، لكن الفقر على الله محال فمحمد غير صادق. وأيضا لو كان نبيا لكان إنما يطلب المال لأجل أن تجيء نار من السماء فتحرقه كما كان في الأزمنة السالفة، فلما لم يفعل ذلك عرفنا أنه ليس بنبي. فهذا بيان النظم وليس في الآية تعيين القائلين إلا أن العلماء نسبوا هذا القول إلى اليهود لعنهم الله لقولهم في موضع آخر يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64] عنوا أنه بخيل. وذلك الجهل يناسب هذا الجهل، ولأن التشبيه غالب عليهم، والقائل بالتشبيه لا يمكنه إثبات كونه تعالى قادرا على كل المقدورات، وإذا عجز عن إثبات هذا الأصل عجز عن بيان أنه غني، ولما روى عكرمة ومحمد بن إسحق والسدي ومقاتل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا. فقال فنحاص بن عازوراء- وهو من علمائهم- أتزعم أن ربنا يستقرضنا أموالنا فهو إذن فقير ونحن أغنياء، فغضب أبوبكر ولطمه في وجهه وقال: لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ما الذي حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله إن عدوّ الله قال هكذا. فجحد ذلك فنحاص فنزلت هذه الآية تصديقا لأبي بكر. وأيضا إن موسى لما طلب منهم الجهاد ببذل النفوس قالوا له: اذهب أنت وربك فقاتلا. فلا يبعد أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما طلب منهم الأموال قالوا له: لو كان الإله غنيا فأي حاجة إلى أموالنا. ثم إن القائل لو كان فنحاصا وحده فإنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 يستقيم قوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا لأن أتباع الرجل والمقتدين به حكمهم حكمه. ثم إنه تعالى لم يجبهم عن شبهتهم. أما على قواعد أهل السنة فبأن يقول يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، فلا يبعد أن يأمر عبيده ببذل الأموال مع كونه أغنى الأغنياء. وأما على قوانين المعتزلة فبأن في هذا التكليف فوائد منها: إزالة حب المال عن القلب، ومنها التوسل إلى الثواب المخلد، ومنها تسخير البعض للبعض فبذلك ترتبط أمور التمدن وتنتظم أحوال صلاح المعاش والمعاد وإنما لم يجب لكثرة ورودها في القرآن لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة: 245] وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ [البقرة: 272] ولأن وجوب الوجود عبارة عن الغنى المطلق حتى لا يحتاج في ذاته ولا في شيء من صفاته ولا بجهة من جهاته إلى ما سوى ذاته. فمن اعترف بوجوب وجوده ثم شك في كمال غناه في وجوده فقد عاد بالنقض على موضوعه فلا يستحق الجواب عند أولي الألباب، وإنما يستأهل صنوفا من العتاب وضروبا من العذاب. فلهذا قال على جهة الوعيد سَنَكْتُبُ ما قالُوا في صحائف الحفظة، أو نستحفظه ونثبته في علمنا لا ننساه كما يثبت المكتوب فلا ينسى. وفي التفسير الكبير: سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يبقى على لسان الأمة إلى يوم القيامة. ثم عطف عليه قتلهم الأنبياء ليدل على أنهم كما لو يقدروا الله حق قدره حتى نسبوا إليه ما نسبوه، فكذلك لم يقضوا حقوق الأنبياء ففعلوا بهم ما فعلوا. وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ وهو من أسماء جهنم. «فعيل» بمعنى «مفعول» كالأليم بمعنى المؤلم. أو سميت باسم صاحبها أي ذات حرقة. والمعنى: ينتقم منهم فيقول لهم ذوقوا عذاب النار كما أذقتم المسلمين جرع الغصص. وهذا القول يحتمل أن يقال عند الموت، أو عند الحشر، أو عند قراءة الكتب. ويحتمل أن يكون كناية عن الوعيد وإن لم يكن ثمة قول. ذلِكَ العذاب أو الوعيد بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من السب والقتل. وذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال يباشر باليد، فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب وإن كان بعضه باللسان أو بسائر الجوارح والآلات. وإنما جمع لأن المخاطب جمع ولو كان مفردا. قيل: بما قدمت يداك مثنى كما في سورة الحج. قال الجبائي: قوله: وَأَنَّ اللَّهَ أي وبأن الله ليس بظلام للعبيد، فيه دلالة على أن فعل العقاب بهم كان يكون ظلما بتقدير أن لا يقع منهم الذنوب. وفيه بطلان قول المجبرة أن الله يعذب الأطفال بغير جرم ويجوز أن يعذب البالغين بغير ذنب، ويدل على كون العبد فاعلا وإلا لكان الظلم حاصلا. والجواب أنه لم ينف الظلم عن نفسه بمعنى أن الجزاء إنما كان مرتبا على الذنب الصادر بكسب العبد وفعله فلا ظلم، بل بمعنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 أنه مالك الملك، والمالك إذا تصرف في ملكه كيف شاء لم يكن ذلك ظلما. فخلق ذلك الفعل فيهم وترتيب العذاب عليه لا يكون ظلما. قيل: إنه نفى الظلم الكثير عن نفسه وذلك يوهم ثبوت أصل الظلم له، أجاب القاضي بأن العذاب الذي توعد بأن يفعل بهم لو كان ظلما لكان عظيما، فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتا. وهذا يؤكد ما ذكر أن إيصال العقاب إليهم كان يكون ظلما عظيما لو لم يكونوا مذنبين. أقول: إنه تعالى نفى حقيقة الظلم عنه في قوله: وَما ظَلَمْناهُمْ [هود: 101] وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281] وبحقيقة ما ذكرناه أنه مالك الكل له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء، ولكنه نفى هاهنا كثرة الشر والظلم أن يصدر عنه كأنه قال: إن خيّل إليكم أن في الوجود شرا بناء على ما في ظنكم من أن الحكيم قد يصدر عنه الشر القليل بتبعية الخير الكثير، فاعلموا أني منزه عن صدور الشر الكثير مني، وأن هذا من الشر القليل الذي في ضمنه خير كثير. ونقول: أراد نفي الشر القليل وأصل الظلم عنه، ولكن القليل من الظلم بالنسبة إلى رحمته الذاتية كثير، فلهذا عبر عنه بلفظ الكثرة والمبالغة. ثم قرر الشبهة الأخرى لهم فقال: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا قال الكلبي: نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وزيد بن التابوت وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا، وأنزل عليك الكتاب، وإن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئتنا به صدقناك فنزلت. قال عطاء: كانت بنو إسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت والسقف مكشوف، فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه وبنو إسرائيل خارجون واقفون حول البيت، فتنزل نار بيضاء لها دوي وحفيف ولا دخان لها فتأكل ذلك القربان وهو البر الذي يتقرب به إلى الله. وأصله مصدر كالكفران والرجحان. ثم سمي به نفس المتقرب به إلى الله ومنه قوله عليه السلام لكعب بن عجرة: «يا كعب، الصوم جنة والصلاة قربان» «1» أي بها يتقرب إلى الله ويستشفع في الحاجة لديه. وللعلماء فيما ادعاه اليهود قولان: قال السدي: إن هذا الشرط جاء في التوراة مع الاستثناء. قال: من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا. فكانت هذه العادة جارية إلى مبعث المسيح ثم زالت. وقيل: إنه افتراء لأن المعجزات كلها في كونها خارقة للعادة وآية لصحة النبوة سواء، فأي فائدة في تخصيصها؟ ولأنه إما أن يكون في التوراة أن مدعي   (1) رواه أحمد في مسنده (3/ 321، 399) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 النبوّة وإن جاء بجميع الآيات لا تقبلوا قوله إلا أن يجيء بهذه الآية المعينة، وحينئذ لا تكون سائر المعجزات دالة على الصدق، وإذا جاز الطعن فيها جاز في هذه. وإما أن يكون فيها أن مدعي النبوة يطالب بالمعجزة أية كانت. وحينئذ يكون طلب هذا المعجز المعين عبثا فلهذا نسبهم الله تعالى إلى الجحود والعناد فقال: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ أي بمدلوله ومؤدّاه فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنما الإيمان يجب عند الإتيان بالقربان. وإنما ذكر مجيء الرسل بالبينات ولم يقتصر على مجيء القربان ليتم الإلزام. وذلك أن القوم يحتمل أن يقولوا إن الإتيان بهذا القربان شرط للنبوة لا موجب لها، والشرط يلزم من عدمه عدم المشروط لكن لا يلزم من وجوده وجود المشروط. فلو اكتفى بذكر القربان لم يتم الإلزام، وحيث أضاف إليه البينات ثبت أنهم أتوا بالموجب وبالشرط جميعا، فكان الإقرار بالنبوة واجبا. ثم سلى رسوله بقوله: فَإِنْ كَذَّبُوكَ في أصل الشريعة والنبوة أو في قولك إن الأنبياء الأقدمين جاؤهم بالبينات وبالقربان فقتلوهم. فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وأي رسل والمصيبة إذا عمت طابت جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وهي الحجج الواضحات والمعجزات الباهرات. والزبر هي الصحف جمع زبور بمعنى مزبور أي مكتوب. وقال الزجاج: الزبور كل كتاب ذي حكمة فيشبه أن يكون من الزبر بمعنى الزجر عن خلاف الحق وبه سمي زبور داود لما فيه من الزواجر والمواعظ والكتاب المنير الموضح أو الواضح المستنير. ويعلم من عطف الزبور والكتاب على البينات، أن معجزاتهم كانت مغايرة لكتبهم، وأنها لم تكن معجزة لهم والإعجاز من خواص القرآن. وعطف الكتاب المنير على الزبر لأن الكتاب بوصفه بالإثارة أو الاستنارة أشرف من مطلق الزبر فخص بعد العموم لشرفه مثل وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] وقيل: المراد بالزبر الصحف، وبالكتاب المنير التوراة والإنجيل والزبور. ثم أكد التسلية بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ لأن تذكر الموت واستحضاره مما يزيل الغموم والأشجان الدنيوية، وكذا العلم بأن وراء هذه الدار دارا يتميز فيها المحسن عن المسيء، ويرى كل منهما جزاء عمله. والمراد بكل نفس ذائقة الموت كل ذات. فالقضية لا يمكن إجراؤها على عمومها لاستثناء الله تعالى منها تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116] وكذا كل الجمادات لأن لها ذوات. ولقوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] ولأنه لا موت ولا لأهل الجنة ولأهل النار. فالمراد المكلفون الحاضرون في دار التكليف، والملائكة عند من يجوّز الموت عليهم. روي عن ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 26] قالت الملائكة: مات أهل الأرض. فلما نزل كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ قالت الملائكة: متنا. وفي الآية دليل على أن المقتول ميت وعلى أن النفس باقية بعد البدن، لأن الذائق لا بد أن يكون باقيا حال حصول الذوق. قالت الحكماء: الموت واجب الحصول عند هذه الحياة الجسمانية لأنها لا تحصل إلا بالرطوبة الغريزية والحرارة الغريزية، ثم إن الحرارة الغريزية تؤثر في تقليل الرطوبة الغريزية. وإذا قلت: الرطوبة الغريزية ضعفت الحرارة الغريزية، ولا يزال تستمر هذه الحالة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفىء الحرارة الغريزية ويحصل الموت، فبهذا الطريق كان الموت ضروريا في هذه الحياة. قالوا: والأرواح المجردة لا موت لها، وناقشهم المسلمون فيه. وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ في ذكر التوفية إشارة إلى أن بعض الأجور يعطى قبل ذلك اليوم كما قال صلى الله عليه وسلم: «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» . فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ الزح التنحية والإبعاد والزحزحة تكريره فَقَدْ فازَ لم يقيد الفوز بشيء لأنه لا فوز وراء هذين الأمرين: الخلاص من العذاب والوصول إلى الثواب. فمن حصل له هذان فقد فاز الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز به. قال صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» «1» فالأول رعاية حقوق الله، والثاني محافظة حقوق العباد. ثم شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغرّ حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته، وذلك أن لذاتها تفنى وتبعاتها تبقى. والغرور بالضم مصدر، والغار المدلس هو الشيطان. عن علي بن أبي طالب: لين مسها قاتل سمها. وعن بعضهم: الدنيا ظاهرها مظنة السرور وباطنها مطية الشرور. وعن سعيد بن جبير: إنما هذا المن آثرها على الآخرة. فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ. لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ اللام جواب القسم المقدر، والنون دخلت مؤكدة، وضمت الواو للساكنين ولما كان يجب لما قبلها من الضم. والمراد ما نالهم من الفقر والضر والقتل والجرح، والتكاليف الشاقة البدنية والمالية من الصلاة والزكاة والصوم والجهاد، والذي كانوا يسمعونه من الكفرة كالطعن في الدين الحنيف وأهليه، وإغراء المخالفين وتحريضهم عليهم وإغواء المنافقين وتنفيرهم عنهم وَإِنْ تَصْبِرُوا على ما ابتلاكم الله به وَتَتَّقُوا المخالفة أو تصبروا على أداء الواجبات وتتقوا ارتكاب المحظورات فَإِنَّ ذلِكَ الصبر والتقوى مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ من معزوماتها الذي لا يترخص العاقل في تركه لكونه حميد العاقبة بين الصواب، أو هو من   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب 9. مسلم في كتاب الإمارة حديث 46. النسائي في كتاب البيعة باب 25. أحمد في مسنده (2/ 161، 191) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 عزائم الله ومما ألزمكم الأخذ به. قال الواحدي: كان هذا قبل نزول آية القتال. وقال القفال: الظاهر أنها نزلت بعد قصة أحد فلا تكون منسوخة بآية السيف. والمراد الصبر على ما يؤذون به الرسول على طريق الأقوال الجارية فيما بينهم واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال. والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة على هذا الوجه. عن كعب بن مالك أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط- المسلمون والمشركون واليهود- فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستصلحهم كلهم. فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشد الأذى، فأمر الله نبيه بالصبر على ذلك فنزلت الآية. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن خزرج قبل وقعة بدر حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي وذلك قبل أن يسلم عبد الله. فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة. فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا. فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف. فنزل ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا. ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك. فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون. فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا. ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له: يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب- يريد عبد لله بن أبي؟ قال: كذا وكذا. فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح، فو الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي نزل عليك، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوّجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما ردّ الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله هذه الآية. ثم إنه تعالى عجب من حال اليهود أنه كيف يليق بحالهم إيراد الطعن في نبوته مع أن كتبهم ناطقة به- وأيضا من جملة إيذائهم الرسول أنهم كانوا يكتمون نعته وصفته فلهذا قال: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ بإضمار «اذكر» والضمير في لَتُبَيِّنُنَّهُ قيل لمحمد لأنه معلوم وإن كان غير مذكور أي لتبينن حاله وهذا قول سعيد بن جبير والسدي. وقال الحسن وقتادة: يعود إلى الكتاب كأنه أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه كما يؤكد على الرجل إذا عزم عليه. وقيل له الله لتفعلن وَلا تَكْتُمُونَهُ قيل: الواو للحال أي غير كاتمين. ويحتمل أن تكون للعطف وإن لم يكن مؤكدا بالنون. والأمر بالبيان يتضمن النهي عن الكتمان، لكنه صرح به للتأكيد فَنَبَذُوهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 وَراءَ ظُهُورِهِمْ جعلوه كالشيء المطروح المتروك. وعن علي رضي الله عنه: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا. وقال قتادة: مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه، ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب. طوبى لعالم ناطق ولمستمع واع، هذا علم علما فبذله، وهذا سمع خيرا فوعاه. ومعنى قوله: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أنهم كتموا الحق ليتوسلوا به إلى وجدان حظ يسير من الدنيا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ هو ويدخل في الوعيد كل من كتم شيئا من أمر الدين لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم واستجلاب لمسارّهم واستجذاب لمبارّهم، أو لتقية من غير ضرورة، أو لبخل بالعلم وغيرة أن ينسب إلى غيره. ثم ذكر نوعا آخر من إيذاء اليهود وأوعدهم عليه وسلى رسوله بذلك فقال: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ من قرأ بتاء الخطاب وفتح الباء فالخطاب للرسول أو لكل أحد، وأحد المفعولين الَّذِينَ يَفْرَحُونَ والثاني بِمَفازَةٍ. وقوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ إعادة للعامل لطول الكلام وإفادة التأكيد. ومن ضم الباء في الثاني مع تاء فالخطاب للمؤمنين، ومن ضمها مع ياء الغيبة فالضمير للذين يفرحون، والمفعول الأول محذوف أي لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين، والثاني للتأكيد. ومعنى بِما أَتَوْا بما فعلوا. وأتى وجاء يستعملان بمعنى فعل. قال تعالى: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مريم: 61] لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا [مريم: 27] . ومعنى بمفازة من العذاب بمنجاة منه أي بمكان الفوز. وقال الفراء: أي ببعد منه لأن الفوز التباعد عن المكروه. في الصحيحين أن مروان قال لرافع أبوابه: اذهب إلى ابن عباس وقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهودا فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه، ثم قرأ ابن عباس وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآيتين. وقال الضحاك: كتب يهود المدينة إلى يهود العراق واليمن ومن بلغهم كتاب من اليهود في الأرض كلها أن محمدا ليس نبي الله فأثبتوا على دينكم واجمعوا كلمتكم على ذلك. فاجتمعت كلمتكم على الكفر بمحمد والقرآن، ففرحوا بذلك وقالوا: الحمد لله الذي جمع كلمتنا ولم نتفرق ولم نترك ديننا ونحن أهل الصوم والصلاة، نحن أولياء الله. فذلك قول الله يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا بما فعلوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فأنزل الله هذه الآية. يعني بما ذكروا من الصوم والصلاة والعبادة. وعن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، فإذا قدم اعتذروا عنده وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فأنزل الله هذه الآية. وهذه الوجوه كلها مشتركة في الإتيان بما لا ينبغي ومحبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 الحمد عليه ووصفه بسداد السيرة وحسن السريرة. ونحن إذا أنصفنا من أنفسنا وجدنا أكثر مجاري أمورنا على هذه الحالة، فنسأله العصمة والهداية. ثم ختم الكلام بقوله: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والغرض أنه كيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا القادر الغالب؟ التأويل: هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ كل واحد من صفتي البخل والسخاء بمنزلة الإكسير حتى يجعل الخير شرا وبالعكس. سَيُطَوَّقُونَ شبه بالطوق لأنه يحيط بالقلب ومنه ينشأ معظم الصفات الذميمة كالحرص والحسد والحقد والعداوة والكبر والغضب والبخل «حب الدنيا رأس كل خطيئة» . وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الإنسان وارث الدنيا والآخرة أولئك هم الوارثون. والوارث إذا مات من غير وارث فميراثه لبيت المال. فالإشارة فيه أن من غلب عليه هذه الصفات ومات قلبه فقد بطل استعداد وراثته فميراثه لله إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ فيه أن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، فيعكس القضايا فيصف الرب بصفات العبد والعبد بصفات الرب وذلك لغلبة الصفات الذميمة واستيلاء سلطان الهوى والشيطان، فيقول تارة: أنا ربكم الأعلى، وتارة إن الله فقير ونحن أغنياء. بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قالت يهود صفات النفس البهيمية والسبعية والشيطانية لا ننقاد لرسول أي لخاطر رحماني أو إلهام رباني حتى يأتينا بقربان هو الدنيا وما فيها يجعلها نسيكة لله عز وجل، تأكله نار الله الموقدة التي تقدح من زناد محبتهم، فإن كثيرا من الطالبين الصادقين يجعلون الدنيا وما فيها قربانا لله فلا تأكله نار الله. قل يا وارد الحق قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي أي واردات الحق بالبينات بالحجج الباهرة وَبِالَّذِي قُلْتُمْ أي بجعل الدنيا قربانا فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ غلبتموهم ومحوتموهم حتى لم يبق أثر الواردات. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ كلهم مستعدون للفناء في الله، ولا بد لها من موت. فمن كان موته بالأسباب تكون حياته بالأسباب، ومن كان فناؤه في الله يكون بقاؤه بالله. لَتُبْلَوُنَّ بالجهاد الأكبر وَلَتَسْمَعُنَّ من أهل العلم الظاهر ومن أهل الرياء أَذىً كَثِيراً بالغيبة والملامة والإنكار والاعتراض وَإِنْ تَصْبِرُوا على جهاد النفس وَتَتَّقُوا بالله عما سواه فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي من أمور أولي العزم فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 190 الى 200] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 القراآت: الْأَبْرارِ بالإمالة: أبو عمرو وحمزة غير خلاد ورجاء. والكسائي والنجاري عن ورش، وخلف وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. وكذلك كل ما تكرر فيه الراء غير ابن مجاهد والنقاش في جميع القرآن. وقتلوا وقاتلوا حمزة وعلي وخلف، وقرأ ابن كثير وابن عامر وَقُتِلُوا مشددا. الباقون: وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا مخففا. لا يَغُرَّنَّكَ بالنون الخفيفة: رويس. الباقون بالتشديد نُزُلًا حيث كان بالاختلاس عباس. الوقوف: الْأَلْبابِ ج لاحتمال الذين صفة أو مستأنفا نصبا أو رفعا على المدح بتقدير أعني الذين أو هم الذين والوصل أشهر. وَالْأَرْضِ ج لحق المحذوف أي يقولون ربنا. باطِلًا ج للابتداء بسبحانك تعظيما وإلا فالقول متحد وفاء التعقيب متعقب. النَّارَ هـ أَخْزَيْتَهُ ط أَنْصارٍ هـ فَآمَنَّا قف قتيل: والوصل أولى لأن كلمة رَبَّنا تكرار لمزيد الابتهال، وقوله: فَاغْفِرْ لَنا معطوف على فَآمَنَّا أي إذا آمنا فاغفر. الْأَبْرارِ هـ ج للآية وللعطف. يَوْمَ الْقِيامَةِ ط الْمِيعادَ هـ أُنْثى ج لاتحاد الكلام وإلا فبعضكم مبتدأ مِنْ بَعْضٍ ج الْأَنْهارُ ز لأن ثَواباً مفعول له أو مصدر. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ط الثَّوابِ هـ الْبِلادِ هـ ط لأن التقدير لهم متاع أو ذلك متاع. جَهَنَّمُ ط الْمِهادُ هـ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ط لِلْأَبْرارِ هـ لِلَّهِ لا لأن ما بعده حال آخر. قَلِيلًا ط عِنْدَ رَبِّهِمْ ط الْحِسابِ هـ تُفْلِحُونَ هـ. التفسير: إنه لما طال الكلام في تقرير القصص والأحكام عاد إلى ما هو الغرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 الأصلي من هذا الكتاب الكريم وهو جذب القلوب والإسرار بذكر ما يدل على التوحيد والكبرياء، عن ابن عمر قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكت وأطالت ثم قالت: كل أمره عجب. أتاني في ليلتي فدخل في لحافي، حتى ألصق جلده بجلدي ثم قال: يا عائشة، هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي؟ فقلت: يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب هواك قد أذنت لك. فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء، ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حقويه، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكي ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض. فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال له: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا بلال، أفلا أكون عبدا شكورا؟. ثم قال: وما لي لا أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. وعن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. واعلم أنه ذكر في سورة البقرة أن في خلق السموات والأرض إلى أن عد ثمانية دلائل، وهاهنا اقتصر منها على الثلاثة الأول تنبيها على أن العارف بعد استكمال المعرفة لا بد له من تقليل الدلائل ليكمل له الاستغراق في معرفة المدلول، فإن البصيرة إذا التفتت إلى معقول عسر عليها الالتفات إلى آخر كالبصر إذا حدّق إلى مرئي امتنع تحديقه نحو آخر، وإليه الإشارة بقوله: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه: 12] يعني المقدمتين اللتين وصلت بهما الى النتيجة وهو وادي قدس الوحدانية. وإنما وقع الاقتصار على الدلائل السماوية لأنها أقهر وأبهر، والعجائب فيها أكثر، وانتقال النفس منها إلى عظمة الله أيسر. وإنما قال في تلك السورة لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164] وفي هذه السورة لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ لأن العقل له ظاهر ولب، ففي أول الأمر يكون عقلا وفي كمال الحال يكون لبا. وباقي التفسير قد مر هناك. ثم بعد دلائل الإلهية ذكر وظائف العبودية وهي أن يكون باللسان وسائر الأركان وبالجنان مع الرحمن. فقوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إشارة إلى عبودية اللسان. وقوله: قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وهو في موضع حال آخر أي معتمدين على الجنب إشارة إلى عبودية سائر الجوارح والأركان. والمراد أنهم ذاكرون في أغلب أحوالهم كما قال صلى الله عليه وسلم «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله» «1» . وقيل: المراد بالذكر هاهنا الصلاة أي يصلون في حال القيام فإن عجزوا   (1) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 82. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 ففي حال القعود، فإن عجزوا ففي حال الاعتماد. وهذا موافق لمذهب الشافعي في ترتيب صلاة المريض العاجز ويوافق بحثا طبيا، وهو أن الاستلقاء يمنع من استكمال الفكر والتدبر بخلاف الاضطجاع على الجنب. والصلاة إذا كانت عن فكر وتدبر كانت أولى، ولأن الاستغراق في النوم يكون في هيئة الاستلقاء أكثر فذاك وضع الغافلين. وقال أبو حنيفة: بل يصلي مستلقيا إن عجز عن القعود حتى لو وجد خفة قعد. وقوله: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إشارة إلى عمل الجنان. وقد عرفت معنى الفكر في البحث الخامس من تفسير قوله: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ [البقرة: 31] وإنما لم يقل و «يتفكرون في الله» كما قال: يَذْكُرُونَ اللَّهَ لقوله صلى الله عليه وسلم: «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق» والسبب فيه أن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة وإنما يمكن على نعت المخالفة، فإنا نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها، وبإمكانها على وجوبه، وبافتقارها على غناه. فالفكر في المخلوقات ممكن وفي الخالق غير ممكن، كيف وإن الفكر ترتيب المقدمات على وجه منتج، والمقدمة لها موضوع ومحمول لا بد من تصورهما، وتصوره سبحانه محال لأن تصور الشيء عبارة عن حصول صورته في النفس، فتكون الصورة محاطة والنفس محيطة بها، ولا يحيط بالواجب شيء ألا إنه بكل شيء محيط، لكنه إذا تفكر في مخلوقاته ولا سيما السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم، وإلى الأرض مع ما عليها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان، عرف أوّلا أن لها ربا وصانعا فيقول: رَبَّنا. ثم يعترف بأن في كل من ذلك حكما ومقاصد وفوائد لا يحيط بتفاصيلها إلا موجدها فيقول: ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا ثم إذا قاس أحوال هذه المصنوعات إلى صانعها علم أن ذاته تعالى منزه عن مشابهة شيء من هذه المصنوعات فيعلم أنه ليس بجوهر ولا عرض ولا مركب ولا مؤلف ولا في حيز وجهة فيقول: سُبْحانَكَ أي أنزهك عما لا يليق بك من مناسبة الجواهر والأعراض. ثم إذا بلغ من الاستغراق في بحار العظمة والجلال هذا المبلغ وجد نفسه ذرة من ذرات الكائنات واقعة في حضيض عالم البشرية محاطة بالطبائع والأركان، فيتضرع إلى خالق السموات والأرض أن يخلصه من قيد العناصر ويعرج به من الأرض ويقيه عذاب كرة النار ويوصله إلى معارج السموات وذلك قوله فَقِنا عَذابَ النَّارِ، ثم ذكر سبب الاستعاذة من النار بقوله: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي أبلغت في إخزائه نظيره قوله: فَقَدْ فازَ [آل عمران: 185] وفي كلامهم: من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك. ثم توسل إلى ما سأل بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك قوله: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً الآية. فهذا بيان وجه النظم في هذه الكلمات والآيات على وجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 «ألقى في روعي» «1» والله أعلم بأسرار كلامه. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال: أشهد أن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له في كل يوم مثل عمل أهل الأرض» قالوا: وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله الذي هو عمل القلب لأن أحدا لا يقدر على أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض. وعنه صلى الله عليه وسلم: «لا عبادة كالتفكر» . وهذا إشارة إلى لفظ الخلق على أنه بمعنى المخلوق أو إلى السموات والأرض بتأويل المخلوق. وفي كلمة هذا ضرب من التعظيم كأنه لعظم شأنه معقود به الهمم حتى صار حاضرا في خزانه الخيال. وباطِلًا نصب على المصدر أي خلقا باطلا أو على الحال، وقيل. بنزع الخافص أي بالباطل أو للباطل. قالت المعتزلة: فيه دليل على أن كل ما يفعله الله تعالى فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبد ولأجل حكمة وغاية. وقوله: سُبْحانَكَ جملة معترضة تنزيها له من العبث وأن يخلق شيئا بغير حكمة. فوجه النظم في قوله: فَقِنا عَذابَ النَّارِ أن الحكمة في خلق الأرض والسموات أن يجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفته ووجوب طاعته واجتناب معصيته، والنار جزاء من عصى ولم يطع. وقالت الأشاعرة: الدليل الدال على أن أحد طرفي الممكن لا يترجح إلا بمرجح عام، وذلك المرجح لا بد أن ينتهي إلى الله تعالى، فإذن الخير والشر والأفعال كلها بقضاء الله وقدره، فلا يمكن أن تعلل أفعال الله بمصالح العباد بل له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء. والباطل في اللغة الذاهب الزائل الذي لا يكون له قوّة ولا صلابة فيكون بصدد التلاشي والاضمحلال. والمراد أن خلقهما خلق محكم متقن كقوله: وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً [النبأ: 12] هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: 3] . ومعنى سُبْحانَكَ أنك وإن خلقتهما في غاية شدة التركيب وبصدد البقاء إلا أنك غني عن الاحتياج إليهما، منزه عن الانتفاع بهما. ثم لما وصف ذاته تعالى بالغنى أقر لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة فقال فَقِنا عَذابَ النَّارِ واحتج حكماء الإسلام بالآية على أنه سبحانه خلق الأفلاك والكواكب وأودع في كل واحد منها قوى مخصوصة، وجعلها بحيث يحصل من حركتها واتصال بعضها ببعض مصالح هذا العالم ومنافع قطان العالم السفلي. قالوا: لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة، ولا يمكن أن تقصر منافعها على الاستدلال بها على الصانع لأن كل ذرة من ذرات الهواء والماء يشاركها في ذلك، فلا تبقى لخصوصياتها فائدة وهو خلاف النص. وناقشهم المتكلمون في ذلك وقالوا: إن الفلكيات أسباب للأرضيات على مجرى   (1) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث 64. أحمد في مسنده (3/ 50) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 العادة لا على سبيل الحقيقة. والإنصاف في هذا المقام أن وجود الوسائط لا ينافي استناد الكل إلى مسبب الأسباب، وأن كون أفعال الله تعالى مستتبعة لمصالح العباد لا ينافي جريان الأمور كلها بقضائه وقدره. ثم إنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب النار أتبعوا ذلك ما يدل على عظم ذلك العقاب وهو الإخزاء ليدل على شدة إخلاصهم وجدهم في الهرب من ذلك فيكون أقرب إلى الاستجابة، كما أنهم قدموا الثناء على الله بقولهم: سُبْحانَكَ على الطلب ليكون أقرب إلى الأدب وأحرى بالإجابة، وكل ذلك تعليم من الله تعالى عباده في حسن الطلب. قال الواحدي: الإخزاء جاء لمعان متقاربة. عن الزجاج: أخزى الله العدوّ أي أبعده. وقيل: أهانه. وقيل: فضحه. وقيل: أهلكه. وقال ابن الأنباري: الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو انقطاع حجة أو بوقوع في بلاء. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس بمؤمن لأنه إذا دخل النار فقد أخزاه الله والمؤمن لا يخزى لقوله: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم: 8] وأجيب بأنه لا يلزم من أن لا يكون من أمن وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم مخزي أن لا يكون غيره وهو مؤمن مخزي. وأيضا الآية ليست على عمومها لقوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم: 71] فثبت أن كل من دخل النار فإنه ليس بمخزي. وعن سعيد بن المسيب والثوري أن هذا في حق الكفار الذين أدخلوا النار للخلود. وأيضا إنه مخزي حال دخوله وإن كانت عاقبته الخروج. وقوله: يَوْمَ لا يُخْزِي [التحريم: 8] نفى الخزي على الإطلاق والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة وهي نفي الخزي المخلد. ويحتمل أن يقال: الإخزاء مشترك بين التخجيل وبين الإهلاك، وإذا كان المثبت هو الأول والمنفي هو الثاني لم يلزم التنافي. واحتجت المرجئة بالآية على أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار لأنه مؤمن لقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [البقرة: 178] ولقوله: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] والمؤمن لا يخزى لقوله: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ [التحريم: 8] والمدخل في النار مخزي بهذه الآية، والمقدمات بأسرها يدخلها المنع. أما الأولى فباحتمال أن لا يسمى بعد القتل مؤمنا وإن كان قبله مؤمنا، وأما الأخريان فبخصوص المحمول وجزئية الموضوع كما تقرر آنفا. وقد يتمسك حكماء الإسلام بهذا في أن العذاب الروحاني أشد لأنه بين سبب الاستعاذة بالإخزاء الذي هو التخجيل وهو أمر نفساني. وقد يتمسك المعتزلة بقوله: وَما لِلظَّالِمِينَ أي الداخلين في النار مِنْ أَنْصارٍ أي في نفي الشفاعة للفساق لأنها نوع نصرة، ونفي الجنس يقتضي نفي النوع. والجواب أن الظالم على الإطلاق هو الكافر لقوله: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 [البقرة: 254] وأيضا لا تأثير للشفاعة إلا بإذن الله فيؤل معنى الآية إلى أن الأمر يومئذ لله. وعلى هذا ففائدة تخصيص الظالمين بهذا الحكم أنه وعد المتقين الفوز فلهم هذه الحجة بخلاف الفساق. وأيضا أدلة الشفاعة مخصصة لعموم الآية. قالوا: الفاسق لا يخرج من النار وإلا كان مخرجه ناصرا له. وعورض بالآيات الدالة على العفو رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي تقول: سمعت رجلا يتكلم بكذا فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع اكتفاء بما وصفته به، أو جعلته حالا عنه. والمنادي عند الأكثرين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل: 125] أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ [يوسف: 108] وَداعِياً إِلَى اللَّهِ [الأحزاب: 46] وقيل: القرآن كما نسب إليه الهداية في قوله: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي [الإسراء: 9] كأنه يدعو إلى نفسه وينادي بما فيه من الدلائل كما قيل في جهنم تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى [المعارج: 17] والفصحاء يصفون الدهر بأنه ينادي ويعظ لدلالة تصاريفه قال: يا واضع الميت في قبره ... خاطبك الدهر فلم تسمع ويقال: ينادي إلى كذا ولكذا ودعاه إليه وله وهداه للطريق وإليه فيقام كل من اللام و «إلى» مقام الأخرى نظرا إلى وقوع معنى الانتهاء والاختصاص معا. وقال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير أي سمعنا مناديا للإيمان ينادي كما يقال: جاء مناد للأمير فنادى بكذا. وقيل: معناه لأجل الإيمان. ولهذا الغرض فسر بقوله: أَنْ آمِنُوا و «أن» مفسرة أو مخففة معناه أي آمنوا أو بأن آمنوا. والفائدة في الجمع بين المنادى وينادي للإيمان هي فائدة الإطلاق ثم التقييد والإجمال ثم التفصيل من رفع شأن المطلق والمجمل، وكونه حينئذ أوقع في النفس وأعز. فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا أصل الغفر والتكفير كلاهما الستر والتغطية. وأما الذنوب والسيئات فقيل: هما واحد والتكرار للتأكيد والإلحاح، إن الله يحب الملحين في الدعاء. وقيل: الأوّل الكبائر والثاني الصغائر. وقيل: الأوّل أريد به ما تقدم منهم، والثاني المستأنف. وقيل: الأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية وذنبا، والثاني ما أتى به مع الجهل بكونه ذنبا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ أي معدودين منهم ومن أتباعهم أو مشاركين لهم في الثواب أو على مثل أعمالهم ودرجاتهم كقول الرجل: أنا مع الشافعي في هذه المسألة أي مساو له في ذلك الاعتقاد. احتجت الأشاعرة بالآية على أن العفو غير مشروط بالتوبة لأنهم طلبوا المغفرة بدون ذكر التوبة بل بدون التوبة بدلالة فاء التعقيب في فَاغْفِرْ بعد قولهم: فَآمَنَّا. ثم إنه تعالى أجابهم إلى ذلك بقوله: فَاسْتَجابَ لَهُمْ ويعلم منه ثبوت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكبائر بالطريق الأولى. رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 عَلى رُسُلِكَ أي على تصديق رسلك لأنها مذكورة عقيب ذكر المنادي للإيمان وهو الرسول، وعقيب قوله: فَآمَنَّا وهو التصديق، فتكون على صلة للوعد كقولك: وعد الله الجنة على الطاعة. ويحتمل أن يتعلق بمحذوف أي ما وعدتنا منزلا على رسلك أو محمولا على رسلك لأن الرسل يحملون ذلك فإنما عليه ما حمل. وقيل: على ألسنة رسلك والمتعلق كما ذكر والموعود هو الثواب. وقيل: النصر على الأعداء. وإنما دعوا الله بإنجاز ما وعد مع علمهم بأنه لا يخلف الميعاد كما صرحوا به في آخر الأدعية، لأن معظم الغرض من الدعاء إظهار سيما العبودية. أو المراد وفقنا للأعمال التي بها نصير أهلا لوعدك، واعصمنا عما بها نكون أهلا لإخزائك، أو طلبوا تعجيل النصرة على الأعداء. أو المراد احفظ علينا أسباب إنجاز الميعاد. وقيل: فيه دليل على أنهم طلبوا منافع الآخرة بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق. ثم إن الثواب منفعة مقرونة بالتعظيم فلهذا ختموا الأدعية بقولهم وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ لأن التخجيل والتفضيح يكدّر صفو كل منّ وعطاء. والحاصل من هذه الآيات أنهم نظروا في المصنوع فعرفوا منه الصانع فقالوا: رَبَّنا ثم تفكروا في عجيب خلقه وبديع شكله فعرفوا أن صانعه حكيم والحكيم لا تخلو أفعاله من الفوائد والغايات وإن لم يكن مستكملا بها فقالوا: ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا ثم تأملوا في غاية الغايات ونهاية الحركات فوجدوها الإنسان المكلف على ألسنة الرسل، ووجدوا عاقبة التكليف الجنة أو النار فتضرعوا إلى معبودهم في توفيق الوصول إلى الجنة والخلاص من النار، ولأن دفع الضرر أهم من جلب المنفعة فجعلوا أول دعائهم وآخره الاستعاذة من العذاب، ولأن العذاب الروحاني عند العقلاء أشد من العذاب الجسماني فلا جرم وقع الختم على الاستعاذة من الإخزاء، اللهم شاركنا في هذا الدعاء واجعلنا من السعداء المتفكرين في ملكوت الأرض والسماء إنك واهب العطاء وكاشف الغطاء. عن جعفر الصادق: من حزبه أمر فقال خمس مرات «ربنا» أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد لأن الله تعالى حكى عنهم في هذه الآيات أنهم قالوا خمس مرات «ربنا» ثم قال: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أي أجابهم أَنِّي أي بأني لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى «من» في مِنْكُمْ للتبعيض. لأن كل عامل فرد من أفراد المخاطبين وفي «من» ذكر للتبيين لأن العامل إما ذكر وإما أنثى. وإضاعة العمل عبارة عن إضاعة ثوابه بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد، فكل واحد منكم من الآخر أي من أصله. أو المراد بعضكم كأنه من البعض الآخر لفرط اتصالكم واتحادكم كما يقال: فلان مني أي على خلقي وسيرتي. قال صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» . وقيل: المراد وصلة الإسلام. وهذه جملة معترضة بيّن بها شركة النساء مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 الرجال فيما يرجع إلى استحقاق الثواب على العمل. روي أن أم سلمة قالت: يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت. ثم فصل عمل العامل منهم تفخيما لشأن العمل وتنويها بذكره فقال: فَالَّذِينَ هاجَرُوا أوطانهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعده باختيارهم وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ألجأهم الكفار إلى الخروج وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي يريد طريق الدين وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا من قرأ بالتشديد فللتكثير وتكرر القتل فيهم. وقيل: أي قطعوا. ومن قرأ قتلوا وقاتلوا فإما لأن الواو لا تفيد الترتيب والترتيب الطبيعي: قاتلوا حتى قتلوا. وإما من قولهم: قتلنا ورب الكعبة إذا ظهرت أمارات القتل وإذا قتل قومه وعشيرته. وإما بإضمار «قد» أي قتلوا وقد قاتلوا لَأُكَفِّرَنَّ جواب للقسم المقدر عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وهو الذي طلبوه بقولهم: رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهو الذي طلبوه بقولهم رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهو الذي طلبوه من الثواب المقرون بالتعظيم بقولهم: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ أي ثوابا يختص به وبقدرته وبفضله لا يثيبه غيره ولا يقدر عليه. يقول الرجل: عندي ما تريد أنا مختص به وبملكه وإن لم يكن بحضرته. وثَواباً نصب على المصدر المؤكد أي إثابة أو تثويبا من عنده لأن قوله: لَأُكَفِّرَنَّ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ في معنى لأثيبنهم. وقال الكسائي: هو منصوب على القطع أي على الحال. وقال الفراء: نصب على التفسير كقولك: هو لك هبة أو بيعا أو صدقة. ثم ختم بقوله: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ لأنه القادر على كل المقدورات، العالم بكل المعلومات، القاضي جميع الحاجات. وفي تعليقه حسن الإثابة على احتمال المشاق في دينه والصبر على صعوبة تكاليفه دليل على أن حكمة الله تعالى اقتضت نوط الثواب والجنة بالعمل حتى لا يتكل الناس على فضله بالكلية، ولا يهملوا جانب العمل رأسا. عن الحسن: أخبر الله تعالى أنه استجاب لهم إلا أنه أتبع ذلك رافع الدعاء وما يستجاب به، فلا بد له من تقديمه بين يدي الدعاء يعني قوله: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] ثم إنه تعالى لما وعد المؤمنين الثواب العظيم وكانوا في الدنيا في غاية الفقر والشدة، والكفار كانوا في التنعم، أراد أن يسليهم ويصبرهم فقال: لا يَغُرَّنَّكَ والخطاب لكل مكلف يسمعه أي لا يغرنك أيها السامع أو للرسول والمراد الأمة. قال قتادة: والله ما غرّوا نبي الله حتى قبضه الله أوله. والمراد هو فلعل السبب في عدم اغتراره هو تواتر أمثال هذه الآيات عليه. قيل: إن مشركي مكة كانوا يتجرون ويتنعمون، فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت. وقيل: كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال فنزلت. والمراد بتقلبهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 تبسطهم وتصرفهم في المكاسب والمزارع والمتاجر ذلك التقلب أو الكسب والربح مَتاعٌ قَلِيلٌ في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة، أو في جنب ما وعد الله المؤمنين من الثواب، أو هو قليل في نفسه إذ لا نسبة لمدته إلى ما بين أمدي الأزل والأبد، ومع قلته سبب للوقوع في نار جهنم أبد الآبدين. والنعمة القليلة إذا كانت سببا للمضرة العظيمة لم تكن في الحقيقة نعمة ولهذا استدرك وقال لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا الآية، ويدخل في التقوى الأوامر والنواهي. والنزل ما يعدّ للضيف ويعجل، ومن هنا تمسك به بعض الأصحاب في الرؤية لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلا فلا بد من شيء آخر يكون أصلا بالنسبة إليها. قلت: ويحتمل أن يكون قوله: وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النحل: 96] إشارة إليه وهو مقام العندية والقرب الذي لا يوازيه شيء من نعيم الجنة. وقيل: المعنى وما عند الله من الكثير الدائم خير للأبرار مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل، وانتصاب نُزُلًا على الحال من جَنَّاتٌ لتخصيصها بالوصف، والعامل معنى الاستقرار في لهم، أو هو مصدر مؤكد كأنه قيل: رزقا أو عطاء، أو نصب على التفسير كما قلنا في ثَواباً. ثم إنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين وكان قد ذكر حال الكفار بين حال مؤمني أهل الكتاب كلهم فقال: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهذا قول مجاهد. وقال ابن جريج وابن زيد: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا. وعن جابر بن عبد الله وأنس وابن عباس وقتادة: نزلت في النجاشي لما مات نعاه جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأصحاب: اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم. قالوا: ومن هو؟. قال: النجاشي. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له، وقال لأصحابه: استغفروا له. فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه، فأنزل الله هذه الآية. واللام في لَمَنْ يُؤْمِنُ لام الابتداء الذي يدخل على خبر «إن» أو على اسمه عند الفصل كما في الآية. والمراد ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ القرآن وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ الكتابان وخاشِعِينَ لِلَّهِ حال من فاعل يؤمن لأن «من» في معنى الجمع فحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا كما يفعله من لم يسلم من أحبارهم ورؤسائهم أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا يخفى فخامة شأن هذا الوعد حسبما أشار إليه بقوله: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لأنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل المقدورات فيعلم ويعطي ما لكل أحد من جزاء الحسنات والسيئات. أو المراد سرعة موعد حسابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 فتكون فيه بشارة بسرعة حصول الأجر. ثم ختم السورة بآية جامعة لأسباب سعادة الدارين، وذلك أن أحوال الإنسان قسمان: الأول ما يتعلق به وحده فأمر فيه بالصبر ويندرج فيه الصبر على مشقة النظر والاستدلال في معرفة التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، والصبر على أداء الواجبات والمندوبات والاحتراز عن المنهيات، والصبر على شدائد الدنيا وآفاتها ومخاوفها. الثاني ما يتعلق بالمشاركة مع أهل المنزل أو المدينة فأمر فيه بالمصابرة، ويدخل فيه تحمل الأخلاق الرديئة من الأقارب والأجانب، وترك الانتقام منهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد مع أعداء الدين بالحجة وبالسيف وباللسان أو بالسنان. ثم إنه لا بد للإنسان في تكلف أقسام الصبر والمصابرة من قهر القوى النفسانية البهيمية والسبعية الباعثة على أضداد ذلك، فأمر بالمرابطة من الربط الشدّ. فكل من صبر على أمر فقد ربط قلبه عليه وألزم نفسه إياه. ثم لا بد في جميع الأعمال والأقوال من ملاحظة جانب الحق حتى يكون معتدا بها، فلهذا أمر بتقوى الله. ثم لما تمت وظائف العبودية ختم الكلام على وظيفة الربوبية وهو رجاء الفلاح منه، فظهر أن هذه الآية مشتملة على كنوز الحكم والمعارف وجامعة لآداب الدين والدنيا. ثم إنها على اختصارها كالإعادة لما تقدم في هذه السورة من الأصول وهي: تقرير التوحيد والعدل والنبوّة والمعاد. ومن الفروع كأحكام الحج والزكاة والجهاد. وعن الحسن اصْبِرُوا على دينكم فلا تتركوه بسبب الفقر والجوع وَصابِرُوا عدوّكم فلا تفشلوا بسبب ما أصابكم يوم أحد. وقال الفراء: اصبروا مع نبيكم وصابروا عدوكم، فلا ينبغي أن يكونوا أصبر منكم. وقال الأصم: لما كثرت تكاليف الله تعالى في هذه السورة أمرهم بالصبر عليها. ولما كثر ترغيب الله تعالى في الجهاد فيها أمرهم بالمصابرة مع الأعداء. أما المرابطة ففيها قولان: أحدهما أن يربط هؤلاء خيولهم في الثغور ويربط أولئك أيضا خيولهم بحيث يكون كل واحد من الخصمين مستعدا لقتال الآخر قال تعالى: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: 60] وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة» «1» وثانيهما أنها انتظار الصلاة بعد الصلاة لما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، ولكن انتظار الصلاة خلف الصلاة. وفي حديث أبي هريرة ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ثم قال: فذلك الرباط ثلاث مرات والله أعلم.   (1) رواه النسائي في كتاب الجهاد باب 39. الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب 25. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 7. أحمد في مسنده (5/ 440، 441) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 التأويل: إن في خلق سموات القلوب وأطوارها، وخلق أرض النفوس وقرارها، واختلاف ليل البشرية وصفاتها، ونهار الروحانية وأنوارها، لآيات لأولي الألباب. الذين عبروا بقدمي الذكر والفكر عن قشر الوجود الجسماني، ووصلوا إلى لب الوجود الروحاني، فشاهدوا بعيون البصائر ونواظر الضمائر أن لهم وللعالم إلها قادرا حيا عليما سميعا بصيرا متكلما مريدا باقيا. وإنما نالوا هذه المراتب لأنهم يذكرون الله في جميع الأحوال بالظاهر والباطن، ويتفكرون في خلق المصنوعات من البسائط والمركبات، ويقولون ما خلقت هذا باطلا أي خلقته إظهارا للحق على الخلق، ووسيلة للخلق إلى الحق. سبحانك تنزيها للحق عن الشبه بالخلق، فَقِنا باعد عنا عذاب نار قهرك والبعد عنك، ففيها كل الخزي والندامة والغواية والضلالة. ثم أخبر عن شرط العبودية في استجلاب فضل الربوبية بقوله: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا من هاتف الحق في الغيب بالسمع الحقيقي مناديا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي كما أسمعتنا النداء بالإرادة القديمة لا بسعي منا قبل أن تخلقنا. فاغفر لنا بفضلك ورحمتك. لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ بالظاهر والباطن مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى على قدر همتكم ورجوليتكم فَالَّذِينَ هاجَرُوا عن الأوطان والأوطار والأعمال السيئة والأخلاق الذميمة وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ من معاملات الطبيعة وديارها الى عالم الحقيقة بسطوات تجلي صفات الربوبية وَأُوذُوا فِي طلبي بأنواع البلاء وَقاتَلُوا مع النفس وَقُتِلُوا بسيف الصدق لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سيئات وجودهم وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ الوصول فيها أشجار التوكل واليقين والزهد والورع والتقوى والصدق والإخلاص والهدى والقناعة والعفة والمروءة والفتوّة والمجاهدة والشوق والذوق والرغبة والرهبة والوفاء والطلب والمحبة والحياء والكرم والشجاعة والعلم والحلم والعزة والقدرة والهمة وغيرها من المقامات والأخلاق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أنهار العناية ثَواباً من مقام العندية وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ لا يكون عند الجنة وغيرها. وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من علماء الظاهر علماء متقين يكون إيمانه من نتيجة نور الله الذي دخل قلبه، ويؤمن بما أنزل إليكم من الواردات والإلهامات والكشوف وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من الخواطر الرحمانية خاشِعِينَ لِلَّهِ كما قال صلى الله عليه وسلم: «إذا تجلى الله لشيء خضع له» لا يَشْتَرُونَ بما أوتوا من العلم والحكمة عرض الدنيا إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يوصلهم إلى مقام العندية قبل وفاتهم اصْبِرُوا على جهاد النفس بالرياضات وَصابِرُوا في مراقبة القلب عند الابتلاءات وَرابِطُوا الأرواح للوصل بالله وَاتَّقُوا اللَّهَ في الالتفات إلى ما سواه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فتفوزوا بالبقاء بالله وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 (سورة النساء مدنية حروفها 14535 كلماتها 3745 آياتها مائة وست وسبعون [سورة النساء (4) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) القراآت: تَسائَلُونَ خفيفا بحذف التاء: عاصم وحمزة وعلي وخلف وعباس مخير. الباقون بالتشديد أي بإدغام تاء التفاعل في السين. وَالْأَرْحامَ بالجر حمزة. الباقون بالنصب. ما طابَ بالإمالة: حمزة. فَواحِدَةً بالرفع: يزيد. الباقون بالنصب. هنيّا مريّا بالتشديد فيهما: يزيد وحمزة في الوقف على أيهما وقف، وإذا انفرد هَنِيئاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 همزها كل القرآن: يزيد. قيما ابن عامر ونافع. الباقون قِياماً ضِعافاً بالإمالة: خلف عن حمزة وابن سعدان والعجلي وخلف لنفسه وقتيبة على أصله. وَسَيَصْلَوْنَ بضم الياء: ابن عامر وأبو بكر وحماد والمفضل. الباقون بفتحها. الوقوف: وَنِساءً ج. لأن الجملتين وإن اتفقتا إلا أنه اعترضت المعطوفات وَالْأَرْحامَ ط رَقِيباً هـ بِالطَّيِّبِ ص إِلى أَمْوالِكُمْ ط كَبِيراً هـ وَرُباعَ ج أَيْمانُكُمْ ط أَلَّا تَعُولُوا ط لابتداء حكم آخر نِحْلَةً ط لأن المشروط خارج عن أصل الشرط الموجب. مَرِيئاً هـ مَعْرُوفاً هـ النِّكاحَ ج بناء على أنه ابتداء شرط بعد بلوغ النكاح، أو مجموع الشرط والجواب جواب «إذا» و «حتى» تكون داخلة على جملة شرطيه مقدمها حملية، وثالثها شرطية أخرى. أَمْوالَهُمْ ج أَنْ يَكْبَرُوا ط لابتداء جملتين متضادتين فَلْيَسْتَعْفِفْ ج بِالْمَعْرُوفِ ط للعود إلى أصل الموجب بعد وقوع العارض. عَلَيْهِمْ ط حَسِيباً هـ وَالْأَقْرَبُونَ الأول ص أَوْ كَثُرَ ط بتقدير جعلناه نصيبا مفروضا مَعْرُوفاً هـ خافُوا عَلَيْهِمْ ص سَدِيداً هـ ناراً ط سَعِيراً هـ. التفسير: لما كانت هذه السورة مشتملة على تكاليف كثيرة من التعطيف على الأولاد والنساء والأيتام وإيصال حقوقهم إليهم وحفظ أموالهم عليهم، ومن الأمر بالطهارة والصلاة، والجهاد والدية، ومن تحريم المحارم وتحليل غيرهن إلى غير ذلك من السياسات ومكارم الأخلاق التي يناط بها صلاح المعاش والمعاد، افتتح السورة ببعث المكلفين على التقوى. ومن غرائب القرآن أن فيه سورتين صدرهما يا أَيُّهَا النَّاسُ إحداهما في النصف الأول وهي الرابعة من سوره، والأخرى في النصف الثاني وهي أيضا في الرابعة من سوره. ثم التي في النصف الأول مصدرة بذكر المبدأ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والتي في النصف الثاني مصدرة بذكر المعاد اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى بأنه خلقنا من نفس واحدة. أما القيد الأوّل وهو أنه خلقنا فلا شك أنه علة لوجوب الانقياد لتكاليفه والخشوع لأوامره ونواهيه، لأن المخلوقية هي العبودية ومن شأن العبد امتثال أمر مولاه في كل ما يأمره وينهاه. وأيضا الإيجاد غاية الإحسان فيجب مقابلتها بغاية الإذعان، على أن مقابلة نعمته بالخدمة محال لأن توفيق تلك الخدمة نعمة أخرى منه. وأما القيد الثاني وهو خصوص أنه خلقنا من نفس واحدة، فإنما يوجب علينا الطاعة لأن خلق أشخاص غير محصورة من إنسان واحد مع تغاير أشكالهم وتباين أمزجتهم واختلاف أخلاقهم دليل ظاهر وبرهان باهر على وجود مدبر مختار وحكيم قدير، ولو كان ذلك بالطبيعة أو لعلة موجبة كان كلهم على حد واحد ونسبة واحدة. ثم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 هذا القيد فوائد أخر منها: أنه يأمر عقبه بالإحسان إلى اليتامى والنسوان، وكونهم متفرعين من أصل واحد وأرومة واحدة أعون على هذا المعنى ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» «1» . ومنها أنهم إذا عرفوا ذلك تركوا المفاخرة وأظهروا التواضع وحسن الخلق. ومنها أن تصوّر ذلك يذكر أمر المعاد فليس الإعادة بأصعب من الإبداء. ومنها أنه إخبار عن الغيب فيكون معجزا للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقرأ كتابا. وأجمع المفسرون على أن المراد بالنفس الواحدة هاهنا هو آدم عليه السلام، والتأنيث في الوصف نظرا إلى لفظة النفس. وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها حواء من ضلع من أضلاعها. وقال أبو مسلم: المراد وخلق من جنسها زوجها لقوله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النحل: 72] ولأنه تعالى قادر على خلق حواء من التراب فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم؟ والجواب أن الأمر لو كان كما ذكره أبو مسلم لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة وهو خلاف النص وخلاف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها» «2» احتج جمع من الطبائعيين بالآية على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة، وإن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال. والجواب أنه لا يلزم من إحداث شيء في صورة واحدة من المادة لحكمة أن يتوقف الإحداث على المادة في جميع الصور. قال في الكشاف: قوله: وَخَلَقَ مِنْها معطوف على محذوف أي أنشأها وخلق منها، أو معطوف على خَلَقَكُمْ والخطاب للذين بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي خلقكم من نفس آدم لأنهم من جنس المفرع منه، وخلق منها أمكم حواء وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً غيركم من الأمم الفائتة للحصر. أقول: وإنما التزم الإضمار في الأول والتخصيص في الثاني دفعا للتكرار، ولا تكرار بالحقيقة إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس خلق زوجها منه ولا خلق الرجال والنساء من الأصلين جميعا. نعم لو كان المراد بقوله: وَخَلَقَ مِنْها إلى آخره بيان الخلق الأول وتفصيله، لكان الأولى عدم دخول الواو إلا أن المراد وصف ذاته تعالى بالأوصاف الثلاثة جميعا من غير ترتيب يستفاد من النسق وإلا كان الأنسب أن يقال: «فبث» بالفاء. فدل العطف بالواو في الجميع على أن المراد هو ما ذكرنا، وأن   (1) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب 12، 16. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث 93، 94. أبو داود في كتاب النكاح باب 12. الترمذي في كتاب المناقب باب 60. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 56. أحمد في مسنده (4/ 5، 326) . (2) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 1. مسلم في كتاب الرضاع حديث 61، 62. الدارمي في كتاب النكاح باب 35. أحمد في مسنده (5/ 8) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 التفصيل والترتيب موكول إلى قضية العقل فافهم والله تعالى أعلم. ومعنى بث فرق ونشر. وإنما خص وصف الكثرة بالرجال اعتمادا على الفهم، ولأن شهرة الرجال أتم فكانت كثرتهم أظهر. وفيه تنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج، واللائق بحال النسوان الاختفاء والخمول. وإنما يقل الرجال والنساء معرفتين لئلا يلزم كونهما مبثوثين من نفسهما، ثم إن هذا البث معناه محمول على ظاهره عند من يرى أن جميع الأشخاص البشرية كانوا كالذر مجتمعين في صلب آدم، وأما عند من ينكر ذلك فالمراد أنه بث منهما أولادهما، ومن أولادهما جمعا آخرين وهلم جرا، فأضيف الكل إليهما على سبيل المجاز. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ من قرأ بالنصب فللعطف على اسم الله أي واتقوا حق الأرحام فلا تقطعوها وهو اختيار أكثر الأئمة كمجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد والفراء والزجاج. وأما للعطف على محل الجار والمجرور كقوله: فلسنا بالجبال ولا الحديدا وهو اختيار أبى علي الفارسي وعلي بن عيسى. وقيل: منصوب بالإغراء أي والأرحام فاحفظوها وصلوها. ومن قرأ بالجر فلأجل العطف على الضمير المجرور في بِهِ وهذا وإن كان مستنكرا عند النحاة بدون إعادة الخافض لأن الضمير المتصل من تتمة ما قبله ولا سيما المجرور فأشبه العطف على بعض الكلمة، إلا أن قراءة حمزة مما ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز الطعن فيها لقياسات نحوية واهية كبيت العنكبوت. وقد طعن الزجاج فيها من جهة أخرى وهي أنها تقتضي جواز الحلف بالأرحام وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تحلفوا بآبائكم» «1» . والجواب أن المنهي عنه هو الحلف بالآباء وهاهنا حلف أولا بالله ثم قرن به الرحم فأين أحدهما من الآخر؟ ولئن سلمنا أن الحلف بالرحم أيضا منهي عنه لكن لا نسلم أنه منهي عنه مطلقا، وإنما المنهي عنه ما حلف به على سبيل التعظيم، وأما الحلف بطريق التأكيد فلا بأس بها، ولهذا جاء في الحديث «أفلح وأبيه إن صدق» «2» . سلمنا أنها منهي عنها مطلقا لكن المراد هاهنا حكاية ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من قولهم في الاستعطاف والتساؤل وهو سؤال البعض البعض: أسألك بالله وبالرحم، وأنشدك الله   (1) رواه البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب 26. مسلم في كتاب الأيمان حديث 3. الترمذي في كتاب النذور باب 8، 9. النسائي في كتاب الأيمان باب 4، 5، 6. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب 2. الموطأ في كتاب النذور حديث 14. أحمد في مسنده (2/ 7، 8، 20، 76) . [ ..... ] (2) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 9. بلفظ «دخل الجنة وأبيه إن صدق» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 والرحم. وقرئ وَالْأَرْحامَ بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي والأرحام كذلك أي أنها مما يتقى ويتساءل به. فإن قيل: لم قال أولا اتَّقُوا رَبَّكُمُ ثم قال بعده وَاتَّقُوا اللَّهَ؟ قلنا: أما تكرار الأمر فللتأكيد كقولك للرجل: عجل عجل. وأما تخصيص الرب بالأول والله بالثاني فلأن الغرض في الأول الترغيب بتذكير النعمة والإحسان والتربية، وفي الثاني الترهيب. ولفظ الله يدل على كمال القدرة والقهر فكأنه قيل: إنه رباك وأحسن إليك فاتق مخالفته وإلا فإنه شديد العقاب فاتق سخطه. قال العلماء: في الآية دليل على جواز المسألة بالله. روى مجاهد عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سألكم بالله فأعطوه» «1» . وعن البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع منها إبرار القسم. ولا يخفى ما في الآية من تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها حيث قرن الأرحام باسمه، وقال في سورة القرة: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى [البقرة: 83] . وعن عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: «أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته» «2» وفي الصحيحين عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» «3» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الواصل بالمكافىء الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها» «4» عن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة» «5» . فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها، فلهذا بنى أصحاب أبي حنيفة على هذا الأصل مسألتين: إحداهما أن الرجل إذا ملك ذا رحم محرم عتق عليه مثل الأخ والأخت والعم والخال لأنه لو بقي الملك حل الاستخدام بالإجماع، لكن الاستخدام إيحاش وقطيعة رحم. والثانية أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يجوز الرجوع فيها حذرا من   (1) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب 108. النسائي في كتاب الزكاة باب 72. أحمد في مسنده (2/ 68، 96) . (2) رواه أبو داود في كتاب الزكاة باب 45. الترمذي في كتاب البر باب 9. أحمد في مسنده (1/ 191، 194) . (3) رواه مسلم في كتاب البر حديث 17. أحمد في مسنده (2/ 163) . (4) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 15. أبو داود في كتاب الزكاة باب 45. الترمذي في كتاب البر باب 10. أحمد في مسنده (2/ 163، 190) . (5) رواه الترمذي في كتاب الزكاة باب 26. النسائي في كتاب الزكاة باب 22. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 28. الدارمي في كتاب الزكاة باب 38. أحمد في مسنده (4/ 17، 18) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 الإيحاش والقطيعة. ثم إنه ختم الآية بما يتضمن الوعد والوعيد فقال: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً مراقبا يحفظ عليكم جميع أعمالكم فيجازيكم بحسبها. ثم إنه سبحانه بعد تقديم موجبات الشفقة على الضعفة ومن له رحم ماسة قال وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وأصل اليتم الانفراد ومنه الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة. فاليتامى هم الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم. فاليتيم لغة يتناول الصغير والكبير إلا أنه في عرف الشرع اختص بالذي لم يبلغ الحلم. قال صلى الله عليه وسلم: «لا يتم بعد الحلم» «1» . والمراد أنه إذا احتلم لا تجري عليه أحكام الصغار لأنه في تحصيل مصالحه يستغني بنفسه عن كافل يكفله وقيم يقوم بأمره. فإن قيل: إذا كان اسم اليتيم في الشرع مختصا بالصغير فما دام يتيما لا يجوز دفع أمواله إليه، وإذا صار كبيرا بحيث يجوز دفع ماله إليه لم يبق يتيما فكيف قال: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ؟ ففي الجواب طريقان: أحدهما أن المراد باليتامى الكبار البالغون، سماهم بذلك على مقتضى اللغة أو لقرب عهدهم باليتم كقوله: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ [الشعراء: 46] أي الذين كانوا سحرة قبل السجود. ويؤكد هذا الطريق قوله فيما بعد فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ والإشهاد لا يصح قبل البلوغ بل إنما يصح بعد البلوغ. وقال صلى الله عليه وسلم: «تستأمر اليتيمة في نفسها» «2» ولا تستأمر إلا وهي بالغة. وعلى هذا يكون في الآية إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عند حد البلوغ ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد، وأن لا يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار، ويوافقه ما رواه مقاتل والكلبي أنها نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لأبن أخ يتيم. فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية. فلما سمعها العم قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره يعني جنته. فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثبت الأجر وبقي الوزر. فقالوا: يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال: ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده. قيل: لأنه كان مشركا. الطريق الثاني أن المراد بهم الصغار أي الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتيم أموالهم، وآتوهم من أموالهم ما يحتاجون إليه لنفقتهم وكسوتهم، والخطاب للأولياء والأوصياء.   (1) رواه أبو داود في كتاب الوصايا باب 9. (2) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 23. الترمذي في كتاب النكاح باب 19. الدارمي في كتاب النكاح باب 12. أحمد في مسنده (4/ 394، 408) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ قال الفراء والزجاج: أي لا تستبدلوا الحرام- وهو مال اليتامى- بالحلال وهو مالكم وما أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه. والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز كالتعجل بمعنى الاستعجال والتأخر بمعنى الاستئخار، أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث- وهو اختزال أموال اليتامى والاعتزال عنها حتى تتلف- بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع عنها. وقال كثير من المفسرين: هذا التبدل هو أن يأخذ الجيد من مال اليتيم ويجعل مكانه الرديء. قال صاحب الكشاف: هذا ليس بتبدل وإنما هو تبديل. يريد أن الباء في بدل تدخل على المأخوذ، وفي تبدل على المعطى. ولما كان المأخوذ الطيب كان تبديلا. ثم وجهه بأنه لعله يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبي فيكون الباء في موضعه. وقيل: معنى الآية أن يأكل مال اليتيم سلفا مع التزام بدله بعد ذلك فيكون متبدلا الخبيث بالطيب. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ منضمة إِلى أَمْوالِكُمْ وفي الانفاق تسوية بين المالين في الحل إِنَّهُ أي الأكل كانَ حُوباً كَبِيراً ذنبا عظيما. والحاب مثله، والتركيب يدور على الضعف، والمراد بالأكل مطلق التصرف إلا أنه خص بالذكر لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف. وقيل: «إلى» هاهنا بمعنى «مع» والفائدة في زيادة قوله: إِلى أَمْوالِكُمْ أكل أموال اليتامى محرم على الإطلاق زيادة التقبيح والتوبيخ لأنهم إذا كانوا مستغنين عنها بما لهم من المال الحلال ومع ذلك طمعوا في مال اليتيم كانوا بالذم أحرى، ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أقسط الرجل عدل وقسط جار. وقال الزجاج: أصلهما جميعا من القسط وهو النصيب. فإذا قالوا قسط فمعناه ظلم صاحبه في قسطه من قولهم: قاسطته فقسطته أي غلبته على قسطه. وإذا قالوا أقسط بالهمز فمعناه صار ذا قسط مثل أنصف إذا أتى بالنصف فيلزمه العدالة والتسوية. واعلم أن قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ شرط وقوله: فَانْكِحُوا جواب له. ولا بد من بيان أن هذا الجزاء كيف يتعلق بهذا الشرط وللمفسرين فيه وجوه: الأول ما روي عن عروة أنه قال: قلت لعائشة: ما معنى قول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فقالت: يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب الرجل في مالها وجمالها إلا أنه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها. ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة ردية لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها. فقال تعالى وإن خفتم أن تظلموا اليتامى عند نكاحهن فانكحوا غيرهن ما طاب لكم من العدد. قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله تعالى يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ [النساء: 127] الآية. فقوله فيها: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 فِي يَتامَى النِّساءِ [النساء: 127] المراد منه هذه الآية وهي قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا. وعبر في الكشاف عن هذه الرواية بعبارة أخرى وهي: كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال أو يكون وليها فيتزوجها ضنا بها عن غيره، فربما اجتمعت عنده عشر منهن فيخاف لضعفهن وفقد من يغضب لهن أن يظلمهن حقوقهن ويفرط فيما يجب لهن فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا في يتامى النساء فانكحوا من غيرهن ما طابَ لَكُمْ. الثاني وهو قول سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي منقولا عن ابن عباس: لما نزلت الآية المتقدمة وما في أكل أموال اليتامى من الحوب الكبير، خاف الأولياء لحوق الحوب فتحرجوا من ولاية اليتامى. وكان الرجل منهم ربما كانت تحته العشر من الأزواج وأكثر فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فكونوا خائفين من ترك العدل بين النساء لأنهن كاليتامى في العجز والضعف، فقللوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فكأنه غير متحرج. الثالث: كانوا لا يتحرجون من الزنا ويتحرجون من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم ذلك فكونوا خائفين من الزنا أيضا وانكحوا ما حل لكم من النساء. الرابع روي عن عكرمة كان الرجل عنده النسوة ويكون عنده الأيتام فإذا أنفق مال نفسه على النسوة أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن. فقيل: إن خفتم أن تظلموا اليتامى بأكل أموالهم عند كثرة الزوجات فقد حظرت لكم أن تنكحوا أكثر من أربع ليزول هذا الخوف، فإن خفتم في الأربع أيضا فواحدة، فذكر الطرف الزائد وهو الأربع والناقص وهو الواحدة، ونبه بذلك على ما بينهما فكأنه قيل: إن خفتم الأربع فثلاثا وإن خفتم فاثنتين وإن خفتم فواحدة. قال الظاهريون: النكاح واجب لقوله: فَانْكِحُوا وظاهر الأمر للوجوب. وعورض بقوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء: 25] ولو سلم فالوجوب بحالة الخوف فلا يلزم منه الوجوب على الإطلاق وأيضا الآية سيقت لبيان وجوب تقليل الأزواج لا لأصل الوجوب وإنما قال: ما طابَ ولم يقل من طاب لأنه أراد به الجنس. تقول: ما عندك؟ فيقال: رجل أو امرأة. تريد ما ذلك الشيء الذي عندك أو ما تلك الحقيقة. ولأن الإناث من العقلاء تنزل منزلة غير العقلاء ومنه قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ولأن «ما» و «من» يتعاقبان. قال تعالى وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: 5] فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [النور: 45] . قال المفسرون: معنى ما طابَ لَكُمْ أي ما حل لكم من النساء لأن فيهن من يحرم نكاحها كما سيجيء. واعترض عليه الإمام بأن قوله: فَانْكِحُوا أمر إباحة فيؤل المعنى إلى قوله: أبحت لكم نكاح من هي مباحة لكم وهذا كلام مستدرك سلمناه، لكن الآية تصير مجملة لأن أسباب الحل والإباحة غير مذكورة في هذه الآية. وإذا حملنا الطيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 عن استطابة النفس وميل القلب كانت الآية عامة دخلها التخصيص وأنه أولى من الإجمال عند التعارض لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص، والمجمل لا يكون حجة أصلا، والجواب عن الأول أن ذكر الشيء ضمنا ثم صريحا لا يعد تكرارا بدليل قوله: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: 57] وعن الثاني أن قوله: ما طابَ لَكُمْ بمعنى ما حل لكم إذا كان إشارة إلى ما بقي بعد ما أخرجته آية التحريم فلا إجمال. وأما قوله: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ولم يوجد في كلام الفصحاء إلا هذه، وأحاد وموحد وجوّزوا إلى عشار ومعشر قياسا على قول الكميت: ولم يستر يثوك حتى رميت ... فوق الرجال خصالا عشارا فاتفق النحويون على أن فيها عدلا محققا. وذلك أن فائدتها تقسيم أمر ذي أجزاء على عدد معين، ولفظ المقسوم عليه في غير العدد مكرر على الإطراد في كلام العرب نحو: قرأت الكتاب جزءا جزءا، وجاءني القوم رجلا رجلا وجماعة جماعة. وكان القياس في باب العدد أيضا التكرير عملا بالاستقراء وإلحاقا للفرد المتنازع فيه بالأعم الأغلب، فلما وجد ثلاث مثلا غير مكرر لفظا حكم بأن أصله لفظ مكرر وليس إلا ثلاثة ثلاثة. فعند سيبويه منع صرف مثل هذا للعدل والوصف الأصلي، فإن هذا التركيب لم يستعمل إلا وصفا بخلاف المعدول عنه. وقيل: إن فيه عدلا مكررا من حيث اللفظ لأن أصله كان ثلاثة ثلاثة مرتين فعدل إلى واحد ثم إلى لفظ ثلاث أو مثلث. وقيل: إن فيه العدل والتعريف إذ لا يدخله اللام خلافا لما في الكشاف. وإذا جرى على النكرة فمحمول على البدل، وضعف بعدم جريانه على المعارف ولوقوعه حالا. فمعنى الآية فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا، فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هذه الأعداد فواحدة. فمن قرأ بالنصب أراد: فاختاروا أو انكحوا أو الزموا واحدة، ومن قرأ بالرفع أراد: فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة وذروا الجمع رأسا فإن الأمر كله يدور مع العدل فأينما وجدتموه فعليكم به. ثم قال: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فسوّى في السهولة بين الحرة الواحدة وبين ما شاء من الإماء لأنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر لا على المرء أكثر منهن أو أقل، عدل بينهن في القسم أم لم يعدل، عزل عنهن أم لم يعزل. ولما كانت التسوية بينها وبينهن احتج بها الشافعي في بيان أن نوافل العبادات أفضل من النكاح وذلك للإجماع على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري، فوجب أن يكون أفضل من النكاح لأن الزائد على أحد المتساويين يكون زائدا على المساوي الآخر. ولمانع أن يمنع التسوية فإن قول الطبيب مثلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 للمريض: كل التفاح أو الرمان يحتمل أن يكون للتسوية بينهما وقد يكون للمقاربة أي إن لم تجد التفاح فكل الرمان فإنه قريب منه في دفع الحاجة للضرورة، ومع وجود هذا الاحتمال لا يتم الاستدلال على أن فضل الحرة على الأمة معلوم شرعا وعقلا. وهاهنا مسألتان: الأولى أكثر الفقهاء على أن نكاح الأربع مشروع للأحرار دون العبيد، لأن هذا الخطاب إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك لأنه لا يمكن من النكاح إلا بإذن مولاه. وأيضا إنه قال بعد ذلك فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وهذا لا يكون إلا للأحرار، فكذا الخطاب الأوّل لأن هذه الخطابات وردت متتالية على نسق واحد فيبعد أن يدخل التقييد في اللاحق دون السابق. وكذا قوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً والعبد لا يأكل فيكون لسيده. وقال مالك: يحل للعبد أن يتزوج بالأربع تمسكا بظاهر الآية. ومن الفقهاء من سلم أن ظاهر الآية يتناول العبيد إلا أنهم خصصوا هذا العموم بالقياس. قالوا: أجمعنا على أن الرق له تأثير في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يحصل للعبد نصف ما للحر. الثانية ذهب جماعة إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد لأن قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ إطلاق في جميع الأعداد لصحة استثناء كل عدد منه، وقوله: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لا يصلح مخصصا لذلك العموم لأن تخصيص بعض الأعداد بالذكر لا ينافي ثبوت الحكم في الباقي، بل نقول: ذكرها يدل على نفي الحرج والحجر مطلقا. فإن من قال لولده افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدرسة وإلى البستان كان تصريحا في أن زمام الاختيار بيده ولا يكون تخصيصا. وأيضا ذكر جميع الأعداد متعذر، فذكر بعضها تنبيه على حصول الإذن في جميعها. ولئن سلمنا لكن الواو للجمع المطلق فيفيد الإذن في جمع تسعة بل ثمانية عشر لتضعيف كل منها. وأما السنة فلما ثبت بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم مات عن تسع وقد أمرنا باتباعه في قوله: فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] وأقل مراتب الأمر الإباحة. وقد قال صلى الله عليه وسلم «فمن رغب عن سنتي فليس مني» «1» والمعتمد عند الجمهور في جوابهم أمران: أحدهما الخبر كنحو ما روي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال صلى الله عليه وسلم: «أمسك أربعا وفارق واحدة» . وزيف بأن القرآن دل على عدم الحصر، ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز، وبأن الأمر بمفارقة الزائدة قد يكون لمانع النسب أو الرضاع. وأقول: إن القرآن لم   (1) رواه البخاري في كتاب النكاح باب 1. مسلم في كتاب النكاح حديث 5. النسائي في كتاب النكاح باب 4. الدارمي في كتاب النكاح باب 3. أحمد في مسنده (2/ 158) ، (3/ 241) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 يدل على عدم الحصر، غايته أنه لم يدل على الحصر فيكون مجملا. وبيان المجمل بخبر الواحد جائز. وأيضا قوله «أمسك أربعا» على الإطلاق وكذا «فارق واحدة» دليل على أن المانع هو الزيادة على الأربع لا غيرها، وكذا في نظائر هذا الحديث. وثانيهما إجماع فقهاء الأمصار. وضعف بأن الإجماع مع وجود المخالف لا ينعقد، وبتقدير التسليم فإن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به. والجواب أن المخالف إذا كان شاذا فلا يعبأ به، والقرآن لم يدل على عدم الحصر حتى يلزم نسخ الإجماع إياه ولكن الإجماع دل على وجود مبين في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم. ولئن سلم أن القرآن دل على عدم الحصر فالإجماع يكشف عن وجود ناسخ في عهده وذلك جائز بالاتفاق. لا يقال: فعلى تقدير الحصر كان ينبغي أن يقال مثنى أو ثلاث أو رباع بأو الفاصلة، لأنا نقول: يلزم حينئذ أن لا يجوز النكاح إلا على أحد هذه الأقسام، فلا يجوز لبعضهم أن يأتي بالتثنية، ولفريق ثان بالتثليث، والآخرين بالتربيع، فيذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو. ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا أي اختيار الواحدة أو التسري أقرب من أن لا تميلوا أو لا تجوروا. وكلا اللفظين مروي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم: عال الميزان عولا إذا مال. وعال الحاكم في حكمه إذا جار. ومنه عالت الفريضة إذا زادت سهامها. وفيه الميل عن الاعتدال. وقيل: معناه أن لا تفتقروا. ورجل عائل أي فقير وذلك أنه إذا قل عياله قلت نفقاته فلم يفتقر. ونقل عن الشافعي أنه قال: معناه أن لا تكثر عيالكم. وطعن فيه بعض القاصرين بأن هذا في اللغة معنى «تعيلوا» لا معنى «تعولوا» . يقال: أعال الرجل إذا كثر عياله. ومنه قراءة طاوس أن لا تعيلوا وأيضا إنه لا يناسب أول الآية. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا وأيضا هب أنه يقل العيال في اختيار الحرة الواحدة، فكيف يقل عند اختيار التسري ولا حصر لهن؟ والجواب عن الأوّل أن الشافعي لم يذهب إلى تفسير اللغة وإنما زعم أنه تعالى أشار إلى الشيء بذكر لازمه أي جعل الميل والجور كناية عن كثرة العيال، لأن كثرة العيال لا تنفك عن الميل والجور. وقرر الكناية في الكشاف على وجه آخر، وهو أنه جعل قوله تعالى: أَلَّا تَعُولُوا من عال الرجل عياله يعولهم كقولك: مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم. ولا شك أن من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال. فالحاصل أنه ذكر اللازم وهو الإنفاق وأراد الملزوم وهو كثرة العيال. والحاصل على ما قلنا أنه ذكر اللازم وهو الميل والجور وأراد الملزوم وهو كثرة العيال. والجواب عن الثاني أن حمل الكلام على ما لا يلزم منه تكرار أولي وبتقدير التسليم فتفسير الشافعي أيضا يؤل إلى تفسير الجمهور لكن بطريق الكناية كما قررنا. وعن الثالث أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب فينفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا فكأنه لا عيال. وأيضا إذا عجز المولى باعهن وتخلّص منهن بخلاف المهائر فإن الخلاص عنهن يفتقر إلى تسليم المهر إليهن. وقال في الكشاف: العزل عن السراري جائز بغير إذنهن فكن مظان قلة الولد بالإضافة إلى التزوج. وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ أي مهورهن. والخطاب للأزواج وهو قول علقمة وقتادة والنخعي واختيار الزجاج لأن ما قبله خطاب للناكحين. وقيل: خطاب للأولياء لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي البنات من مهورهن شيئا، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له ابنة: هينئا لك النافجة- يعنون أنك تأخذ مهرها إبلا فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أي تعظمه. وقال ابن الأعرابي: النافجة ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته. فنهى الله عن ذلك وأمر بدفع الحق إلى أهله، وهذا قول الكلبي وأبي صالح واختيار الفراء وابن قتيبة. قال القفال: يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة فيكونوا قد أمروا بدفع المهور التي سموها لهن، ويحتمل أن يراد الالتزام كقوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [التوبة: 29] أي حتى يضمنوها ويلتزموها. فيكون المعنى أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلتزم سواء سمي ذلك أو لم يسم إلا ما خص به الرسول صلى الله عليه وسلم من الموهوبة. قال: ويجوز أن يراد الوجهان جميعا. أما قوله نحلة فقد قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد: أي شريعة وديانة. فيكون مفعولا له، أو حالا من الصدقات أي دينا من الله شرعه وفرضه. وقال الكلبي: أي عطية وهبة فيكون نصبا على المصدر لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء، أو على الحال من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء من غير مطالبة منهن، لأن ما يؤخذ بالمطالبة لا يسمى نحلة، أو من الصدقات أي منحولة معطاة عن طيب نفس. وإنما سميت عطية من الزوج لأن الزوج لا يملك بدله شيئا، لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله. وإنما الذي استحقه الزوج هو الاستباحة لا الملك. والنحلة العطية من غير بدل. وقال قوم: إن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركا بين الزوجين، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر وكان ذلك عطية من الله تعالى ابتداء. ثم لما أمرهم بإيتاء الصدقات أباح لهم جواز قبول إبرائها وهبتها. وانتصب نَفْساً على التمييز وإنما وحد لأنه لا يلبس أن النفس لهن لأنهن أنفس ولو جمعت لجاز. والضمير في مِنْهُ للصداق أو للمذكور في قوله: طِبْنَ وبناء الكلام على الإبهام ثم التمييز دون أن يقول سمحن أو وهبن. وفي قوله: عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ دون أن يقول عنه تنبيه على أن قبول ذلك إنما يحل إذا طابت نفوسهن بالهبة من غير اضطرار وسوء معاشرة من الزوج يحملهن على ذلك وبعث لهن على تقليل الموهوب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 ولهذا ذكر الضمير في مِنْهُ لينصرف إلى الصداق الواحد فيكون متناولا بعضه، ولو أنث لتناول ظاهره هبة الصداق كله لأن بعض الصدقات واحدة منها أو أكثر. ومن هذا التقرير يظهر أن «من» في قوله: مِنْهُ للتبعيض إخراجا للكلام مخرج الغالب مع فائدة البعث المذكور لأنه لا يجوز هبة كل الصداق إذا طابت نفسها عن المهر بالكلية، ومن غفل عن هذه الدقيقة زعم أن «من» للتبيين والمعنى عن شيء هو هذا الجنس يعني الصداق. فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا تنغيص فيه. وقيل: الهنيء ما يستلذه الآكل، والمريء ما تحمد عاقبته. وقيل: هو ما ينساغ في مجراه ومنه يقال: المريء لمجرى الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة. وقيل: أصله من الهناء وهو معالجة الجرب بالقطران. فالهنيء شفاء من الجرب. وبالجملة فهو عبارة عن التحلل أو المبالغة في إزالة التبعة في الدنيا والآخرة. وهما صفتان للمصدر أي أكلا هنيئا مريئا، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هنيء مريء. وقد يوقف على قوله: فَكُلُوهُ ويبتدأ هَنِيئاً مَرِيئاً على الدعاء أو على أنهما قاما مقام مصدريهما أي هنأ مرأ. والمراد بالأكل التصرف الشامل للعين والدين. قال بعض العلماء: إن وهبت ثم طلبت علم أنها لم تطب عنه نفسا. وعن عمر أنه كتب إلى قضاته أن النساء يعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها. وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان ولا يؤاخكم الله به في الآخرة. ثم إنه تعالى لما أمر بإيتاء اليتامى أموالهم ويدفع صدقات النساء إليهن، استثنى منهم خفاف الأحلام وإن بلغوا أوان التكليف فقال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ أكثر العلماء على أن هذا الخطاب للأولياء. فورد أن الأنسب أن لو قيل أموالهم. وأجيب بأنه إنما حسنت إضافة الأموال إلى المخاطبين إجراء للوحدة النوعية مجرى الوحدة الشخصية كقوله: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 85] ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه ولكن كان بعضهم يقتل بعضا فقيل: «أنفسكم» لأن الكل من نوع واحد فكذا هنا المال شيء ينتفع به الإنسان ويحتاج إليه، فلهذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم. ويحتمل أن يضاف المال إليهم لا لأنهم ملكوه بل لأنهم ملكوا التصرف فيه، ويكفي في حسن الإضافة أدنى سبب. وقيل: خطاب للآباء نهاهم الله تعالى إذا كان أولادهم سفهاء أن يدفعوا أموالهم أو بعضها إليهم. فعلى هذا تكون إضافة الأموال إليهم حقيقة. والغرض الحث على حفظ المال وأنه إذا قرب أجله يجب عليه أن يوصي بماله إلى أمين يحفظه على ورثته. وقد يرجح القول الأول بأن ظاهر النهي للتحريم، وأجمعت الأمة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 أنه لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصغار ومن النسوان ما شاء من ماله. وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع إلى السفهاء أموالهم، وأيضا قوله: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً هذه الأوامر تناسب حال الأولياء لا الآباء. وأقول: لا يبعد حمل الآية على كلا القولين، لأن الإضافة في أموالكم لا تفيد إلا الاختصاص سواء كان اختصاص الملكية أو اختصاص التصرف. واختلفوا في السفهاء فعن مجاهد والضحاك أنها النساء أزواجا كن أو أمهات أو بنات، وهو مذهب ابن عمرو يدل عليه ما روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم «ألا إنما خلقت النار للسفهاء» يقولها ثلاثا. وإن السفهاء النساء إلا امرأة أطاعت قيمها. وقد جمع فعلية على فعلاء كفقيرة وفقراء. وقال الزهري وابن زيد: هم الأولاد الخفاف العقول. وعن ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد بن جبير: إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وأن ولده سفيه مفسد فلا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله. والصحيح أن المراد بالسفهاء كل من ليس له عقل يفي بحفظ المال ولا يد له بإصلاحه وتثميره والتصرف فيه، ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام والفساق وغيرهم مما لا وزن لهم عند أهل الدين والعلم بمصالح الدارين، فيضع المال فيما لا ينبغي ويفسده. ومعنى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً أنه لا يحصل قيامكم وانتعاشكم إلا به. سماه بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب. ومن قرأ قيما فعلى حذف الألف من قِياماً وهو مصدر قام وأصله قوام قلبت الواو ياء لإعلال فعله. فإن لم يكن مصدرا لم يعل كقوام لما يقام به. وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن، ولأن أترك ما لا يحاسبني الله عليه خير من أحتاج إلى الناس. وقال عبد الله بن عباس: الدراهم والدنانير خواتيم الله في الأرض لا تؤكل ولا تشرب حيث قصدت بها قضيت حاجتك. وقال قيس بن سعد: اللهم ارزقني حمدا ومجدا فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال. وقيل لأبي الزناد: لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ قال: هي وإن أدنتني فقد صانتني عنها. وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه. وربما رأوا رجلا في تشييع جنازة فقالوا له: اذهب إلى مكانك. وقال بعض الحكماء: من أضاع ماله فقد ضارّ الأكرمين: الدين والعرض. وفي منثور الحكم: من استغنى كرم على أهله. وفيه: الفقر مخذلة، والغنى مجدلة، والبؤس مرذلة، والسؤال مبذلة. وكان يقال: الدراهم مراهم لأنها تداوي كل جرح ويطيب بها كل صلح. وقال أبو العتاهية: أجلك قوم حين صرت إلى الغنى ... وكل غني في العيون جليل إذا مالت الدنيا على المرء رغبت ... إليه ومال الناس حيث تميل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 وليس الغنى إلا غنى زين الفتى ... عشية يقرى أو غداة ينيل وقد اختلف أقوال الناس في تفضيل الغنى والفقر مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم. فذهب قوم إلى تفضيل الغنى على الفقر، لأن الغني مقتدر والفقير عاجز والقدرة أفضل من العجز. وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة. وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر على الغنى، لأن الفقير تارك والغنى ملابس، وترك الدنيا أفضل من ملابستها وهذا قول من غلب عليه حب السلامة. وقال الباقون: خير الأمر أوساطها، والفضل للاعتدال بين الفقر والغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين، ويسلم من مذمة الحالين. ومن كلفته النفس فوق كفافها ... فما ينقضي حتى الممات عناؤه والحاصل أن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بمصالح الدارين، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال، فبذلك يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار ولهذا رغب الله تعالى في حفظه هاهنا. وفي آية المداينة حيث أمر بالكتاب والشهادة والرهان المقبوضة، فمن أراد الدنيا لهذا الغرض فنعمت المعونة هي، ومن أرادها لعينها فيا لها من حسرة وندامة. ثم إنه سبحانه أمر بعد ذلك بثلاثة أشياء وذلك قوله: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وإنما لم يقل «منها» كيلا يكون أمرا بجعل بعض أموالهم رزقا لهم فيأكلها الإنفاق، بل أمر بأن يجعلوها مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويربحوها حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من أصول الأموال وصلبها وَاكْسُوهُمْ كل من الرزق والكسوة بحسب المصلحة وكما يليق بحال أمثالهم وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً قال ابن جريج ومجاهد: هو عدة جميلة من البر والصلة. وقال ابن عباس: هو مثل أن يقول: إذا ربحت في سفري هذا فعلت بك ما أنت أهله، وإن غنمت في غزاتي جعلت لك حظا. وقال ابن زيد: إن لم يكن ممن وجبت نفقته عليك فقل: عافانا الله وإياك وبارك الله فيك. وقال الزجاج: علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم بما يتعلق بالعلم والعمل. وقال القفال: إن كان صبيا فالولي يعرّفه أن المال ماله وأنه إذا زال صباه فإن يرّد المال إليه كقوله: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى: 9] أي لا تعاشره بالتسلط عليه كما تعاشر العبيد وإن كان سفيها، وعظه ونصحه وحثه على الصلاة وعرفه أن عاقبة الإسراف فقر واحتياج. وبالجملة فكل ما سكنت إليه النفس وأحبته لحسنه عقلا أو شرعا من قول أو عمل فهو معروف، وما نفرت منه لقبحه فمنكر. ثم بيّن أن السفهاء متى يؤتون أموالهم فشرط في ذلك شرطين: أحدهما بلوغ النكاح والثاني إيناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 الرشد منهم. فبلوغ النكاح أن يحتلم لأنه يصلح للنكاح عنده، ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد ومناط الاحتلام خروج المني، ويدخل وقت إمكانه باستكمال تسع سنين قمرية أو يبلغ خمس عشرة سنة تامة قمرية عند الشافعي، وثماني عشرة عند أبي حنيفة. وهذان مشتركان بين الغلام والجارية ولها أمارتان أخريان: الحيض أو الحبل، ولطفل الكفار أمارة زائدة هي إنبات الشعر الخشن على العانة. وأما الإيناس ففي اللغة الإبصار. والمراد في الآية التبين والعرفان. والرشد خلاف الغيّ. ومعنى قوله: وَابْتَلُوا الْيَتامى اختبروا عقولهم وذوقوا أحوالهم ومعرفتهم بالتصرف قبل البلوغ، ومن هنا قال أبو حنيفة: تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة لأن الابتلاء المأمور به قبل بلوغهم إنما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء. وقال الشافعي: الابتلاء قبل البلوغ لا يقتضي الإذن في التصرف لأن الإذن يتوقف على دفع المال إليهم، ولكن لا يصح دفع المال إليهم لأنه موقوف على الشرطين. بل المراد بالابتلاء اختبار عقله واستبراء حاله حسبما يليق بكل طائفة. فولد التاجر يختبر في البيع والشراء بحضوره، ثم باستكشاف ذلك البيع والشراء منه وما فيهما من المصالح والمفاسد. وقد يدفع إليه شيئا ليبيع أو يشتري فيعرف بذلك مقدار فهمه وعقله، ثم الولي بعد ذلك يتم العقد لو أراد. وولد الزارع يختبر في أمر المزارعة والإنفاق على القوّام بها، وولد المحترف فيما يتعلق بحرفته، والمرأة في أمر القطن والغزل وحفظ الأقمشة وصون الأطعمة عن الهرة والفأرة وما أشبهها. ولا يكفي المرة الواحدة في الاختبار بل لا بد من مرتين وأكثر على ما يليق بالحال ويفيد غلبة الظن أنه رشد نوعا من الرشد يختص بحاله، لا الرشد من جميع الوجوه وعلى أكمل ما يمكن ولهذا ورد منكرا. وقد ظهر مما ذكرنا أنه لا بد بعد البلوغ من الرشد فيما يتعلق بصلاح ماله بحيث لا يقدر الغير على خديعته. ثم إن أبا حنيفة قال: إذا بلغ مهتديا إلى وجوه مصالح الدنيا فهو رشيد يدفع إليه ماله. وقال الشافعي: لا بد مع ذلك من الاهتداء لمصالح الدين، فإن الفاسق لا يخلو من إتلاف المال في الوجوه الفاسدة المحرمة، وقد نفى الله تعالى الرشد عن فرعون في قوله وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: 97] مع أنه كان يراعي مصالح الدنيا. ويتفرع على القولين أن الشافعي يرى الحجر على الفاسق وأبا حنيفة لا يراه. ثم إنه إذا بلغ غير رشيد واستمر على ذلك لم يدفع إليه ماله بالاتفاق إلى خمس وعشرين سنة، وفيما وراء ذلك خلاف. فعند أصحاب أبي حنيفة وعند الشافعي لا يدفع إليه أبدا إلا بإيناس الرشد كما هو مقتضى الآية. وعند أبي حنيفة يدفع لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة، فإذا زادت عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 في تغير أحوال الإنسان لقوله صلى الله عليه وسلم: «مروهم بالصلاة لسبع» «1» دفع إليه ماله، أونس منه رشد أو لم يؤنس. ثم قال: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا مصدران في موضع الحال أي مسرفين ومبادرين كبرهم، أو مفعول لهما أي لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم. والإسراف التبذير ضد القصد والإمساك. والكبر في السن وقد كبر الرجل بالكسر يكبر بالفتح كبرا أي أسن، وكبر بالضم يكبر كبرا وكبارة أي عظم. نهاهم عن الإفراط في الإنفاق كما يشتهون قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيديهم وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ فليمتنع منه وليتركه. وفي السين زيادة مبالغة كأنه طلب مزيد العفة وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وللعلماء خلاف في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم؟ قال الشافعي: له أن يأخذ قدر ما يحتاج إليه وبقدر أجرة عمله، لأن النهي في الآية عن الإسراف مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة، ولا سيما إذا كان فقيرا، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له: إن في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال: بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله. قال: أفأضربه؟ قال: مما كنت ضاربا منه ولدك. وروي أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف: سلام عليكم. أما بعد فإني قد رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار، وربعها لعبد الله بن مسعود، وربعها لعثمان ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله منزلة والي مال اليتيم، مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. وأيضا قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها فإنه يضرب له في تلك الصدقات بسهم، فكذا هنا. وعن سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه قرضا، ثم إذا أيسر قضاه، وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه. وأكثر العلماء على أن هذا الاقتراض إنما جاء في أصول الأموال من الذهب والفضة وغيرهما. وأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال. وقال أبوبكر الرازي: الذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذه لا على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء، سواء كان غنيا أو فقيرا، واحتج بقوله تعالى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وأجيب بأنها عامة. وقوله: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ خاص والخاص مقدم على العام. قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً وأجيب بأن محل النزاع هو أن أكل الوصي مال اليتيم ظلم أو لا؟ قال: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وهو أيضا عين النزاع. ثم اعلم أن الأئمة اتفقوا على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه رشيدا فالأولى والأحوط أن يشهد عليه إظهارا   (1) رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب 182. بلفظ «علموا الصبي الصلاة ابن سبع» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 للأمانة وبراءة من التهمة. ولكن اختلفوا في أن الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه فهل هو مصدق؟ فقال أبو حنيفة وأصحابه: يصدق بيمينه كسائر الأمناء. وقال مالك والشافعي: لا يصدق إلا بالبينة لأنه تعالى نص على الإشهاد فقال: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وظاهر الأمر للوجوب، ولأنه أمين من جهة الشرع لا من جهة اليتيم، وليس له نيابة عامة كالقاضي، ولا كمال الشفقة كالأب. نعم يصدق في قدر النفقة وفي عدم التقتير والإسراف لعسر إقامة البينة على ذلك وتنفيره الناس عن قبول الوصاية وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي كافيا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض، أو محاسبا كالشريب بمعنى المشارب، وفيه تهديد للولي ولليتيم أن يتصادقوا ولا يتكاذبوا. والباء في بِاللَّهِ زائدة نظرا إلى أصل المعنى وهي كفى الله. وحَسِيباً نصب على التمييز، ويحتمل الحال. ثم من هاهنا شرع في بيان المواريث والفرائض. قال ابن عباس: إن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأة يقال لها أم كحة وثلاث بنات له منها. فقام رجلان- هما ابنا عم الميت ووصياه سويد وعرفجة- فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا، إنما يورثون الرجال الكبار وكانوا يقولون لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة. قال: فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أوس بن ثابت مات وترك لي بنات وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن، وقد ترك أبوهن مالا حسنا وهو عند سويد وعرفجة ولم يعطياني ولا بناته من المال شيئا. فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا، ولا يحمل كلا، ولا ينكي عدوّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن. فانصرفوا فأنزل الله لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ الآية. فبعث إليهما لا تقربا من مال أوس شيئا فإن الله قد جعل لهن نصيبا، ولم يبين حتى يتبين فنزلت يُوصِيكُمُ اللَّهُ فأعطى أم كحة الثمن، والبنات الثلثين، والباقي ابني العم. وسبب الإجمال في الآية ثم التفصيل فيما بعد، هو أن الفطام من المألوف شديد، والتدرج في الأمور دأب الحكيم، وهكذا قد نزل الأحكام والتكاليف شيئا بعد شيء إلى أن كملت الشريعة الحقة وتم الدين الحنيفي مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بدل مِمَّا تَرَكَ بتكرير العامل ونَصِيباً مَفْرُوضاً نصب على الاختصاص تقديره أعني نصيبا ومقطوعا مقدرا لا بد لهم أن يحوزوه، أو على المصدر المؤكد كأنه قيل: قسمة مفروضة. احتج بعض أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام كالعمات والخالات والأخوال وأولاد البنات، لأن الكل من الأقربين. غاية ما في الباب أن مقدار أنصبائهم غير مذكور هاهنا إلا أنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 نثبت بالآية استحقاقهم لأصل النصيب، ونستفيد المقادير من سائر الدلائل. وأجيب بأنه تعالى قال: نَصِيباً مَفْرُوضاً وبالإجمال ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر. وأيضا الواجب عندهم ما علم ثبوته بدليل مظنون، والمفروض ما علم بدليل قاطع، وتوريث ذوي الأرحام ليس من هذا القبيل بالاتفاق، فعرفنا أنه غير مراد من الآية. وأيضا ليس المراد بالأقربين من له قرابة ما وإن كانت بعيدة وإلا دخل جميع أولاد آدم فيه. فالمراد إذن أقرب الناس إلى الوارث، وما ذاك إلا الوالدين والأولاد. ودخول الوالدين في الأقربين يكون كدخول النوع في الجنس، فلا يلزم تكرار والله تعالى أعلم. قال المفسرون: إنه تعالى لما ذكر في الآية للنساء أسوة بالرجال في أن لهن حظا من الميراث، وعلم أن في الأقارب من يرث وفيهم من لا يرث وربما حضروا القسمة فلا يحسن حرمانهم قال: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى الآية. ثم منهم من قال بوجوبه ومنهم من قال باستحبابه. وعلى الوجوب فعن سعيد بن المسيب والضحاك أنها منسوخة بآية المواريث، وعن أبي موسى الأشعري وإبراهيم النخعي والشعبي والزهري ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير أنها محكمة لكنها مما تهاون به الناس، قال الحسن: أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات واليتامى والمساكين من الورق والذهب، فإذا آل الأمر إلى قسمة الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك قالوا لهم قولا معروفا. كانوا يقولون لهم: ارجعوا بورك فيكم. وعلى الاستحباب وهو مذهب فقهاء الأمصار اليوم قالوا: إن هذا الرضخ يستحب إذا كانت الورثة كبارا، أما إذا كانوا صغارا فليس إلا القول المعروف كأن يقول الولي: إني لا أملك هذا المال إنما هو لهؤلاء الضعفاء الذين لا يعرفون ما عليهم من الحق، وإن يكبروا فسيعرفون حقكم. والضمير في مِنْهُ إما أن يعود إلى ما ترك، وإما إلى الميراث بدليل ذكر القسمة. وقيل: المراد قسمة الوصية. وإذا حضرها من لا يرث من الأقرباء واليتامى والمساكين، أمر الله الموصي أن يجعل لهم نصيبا من تلك الوصية ويقول لهم مع ذلك قولا معروفا. وقيل: أولو القربى الوارثون واليتامى والمساكين الذين لا يرثون. وقوله: وَقُولُوا لَهُمْ راجع إلى هؤلاء الذين لا يرثون. ويحكى هذا القول عن سعيد بن جبير. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا الجملة الشرطية وهي «لو» مع ما في حيزه صلة الذين. والمعنى ليخشى الذين من صفتهم وحالهم أنهم لو تركوا ذرية ضعافا خافوا عليهم. وأما المخشى فغير منصوص عليه. قال بعض المفسرين: هم الأوصياء أمروا بأن يخشوا الله فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا، أو أمروا بأن يخشوا على اليتامى من الضياع كما يخشون على أولادهم لو تركوهم، وعلى هذا فيكون القول السديد أي الصواب. القصد هو أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالقول الجميل ويدعوهم بيا بني ويا ولدي، وهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 القول أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام. نبههم الله على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها ليكون ذلك أجدر ما يدعوهم إلى حفظ مال اليتيم كما قال القائل: لقد زاد الحياة إليّ حبا ... بناتي إنهن من الضعاف أحاذر أن يرين البؤس بعدي ... وأن يشربن رنقا بعد صافي وقيل: هم الذين يجلسون إلى المريض فيقولون: إن ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا. فقدّم مالك، ولا يزالون يأمرونه بالوصية إلى الأجانب إلى أن يستغرق المال بالوصايا. فأمروا بأن يخشوا ربهم ويخشوا على أولاد المريض خوفهم على أولاد أنفسهم لو كانوا. وعلى هذا تكون الآية نهيا للحاضرين عن الترغيب في الوصية. والقول السديد أن يقولوا للمريض لا تسرف في الوصية فتجحف بأولادك مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: الثلث كثير. وكان الصحابة رضي الله عنهم يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث وإن الخمس أفضل من الربع والربع من الثلث. وقيل: يجوز أن تتصل الآية بما قبلها فيكون أمرا للورثة بالشفقة على الذين يحضرون القسمة من الضعفاء، وأن يتصوروا أنهم لو كانوا أولادهم خافوا عليهم الحرمان. وعن حبيب بن ثابت سألت مقسما عن الآية. فقال: هو الرجل الذي يحضره الموت ويريد الوصية للأجانب فيقول له من كان عنده: اتق الله وأمسك على ولدك مالك. مع أن ذلك الإنسان يحب أن يوصي له. وعلى هذا يكون نهيا عن الوصية ولا يساعده قوله: لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً ثم أكد الوعيد في باب إهمال مال اليتيم فقال إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً أي ظالمين أو على وجه الظلم من ولاة السوء وقضاته لا بالمعروف إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أي ملء بطونهم نارا أي ما يجر إلى النار وكأنه نار في الحقيقة. وقال السدي: يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأنفه وأذنيه وعينيه، فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا. وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ليلة أسري بي قوما لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من النار يخرج من أسافلهم فقال جبريل: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما» . وَسَيَصْلَوْنَ من قرأ بفتح الياء فهو من صلى فلان النار بالكسر يصلى صليا احترق. ومن قرأ بالضم فمعناه الإلقاء في النار لأجل الإحراق من الإصلاء. وقد يشدد من التصلية والمعنى واحد. والسعير النار، وسعرت النار والحرب هيجتها وألهبتها فهي سعير أي مسعورة. والتنكير للتعظيم أي نارا مبهمة الوصف لا يعلم شدتها إلا خالقها. قالت المعتزلة: لا يجوز أن يدخل تحت هذا الوعيد آكل اليسير من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 ماله، بل لا بد أن يكون مقدار خمسة دراهم لأنه القدر الذي وقع عليه الوعيد في آية الكنز في منع الزكاة ولا بد مع ذلك من عدم التوبة. فقيل لهم: إنكم خالفتم هذا العموم من وجهين: من جهة شرط عدم التوبة، ومن جهة شرط عدم كونه صغيرة، فلم لا يجوز لنا أن نزيد فيه شرط عدم العفو؟ وهاهنا نكتة وهي أنه أوعد مانع الزكاة بالكي، وآكل مال اليتيم بامتلاء البطن من النار. ولا شك أن هذا الوعيد أشد، والسبب فيه أن الفقير غير مالك لجزء من النصاب حتى يملكه المالك، واليتيم مالك لماله فكان مع اليتيم أشنع. وأيضا الفقير يقدر على الاكتساب من وجه آخر أو على السؤال، واليتيم عاجز عنهما فكان ضعفه أظهر وهذا من كمال عنايته تعالى بالضعفاء فنرجو أن يرحم ذلنا وضعفنا بعزته وقوته. التأويل: ذكر الناسين بدء خلقهم بالأشباح والأرواح فخلقوا بالأشباح من آدم، وبالأرواح من روح محمد صلى الله عليه وسلم. قال: أول ما خلق الله روحي فهو أبو الأرواح. وخلق من الروح زوجه وهي النفس، خلقها من أدنى شعاع من أشعة أنوار روح محمد صلى الله عليه وسلم وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً أرواحا كاملين وَنِساءً أرواحا ناقصات وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ أي اتقوه أن تساءلوا به غيره وَالْأَرْحامَ ولا تقطعوا رحم رحمتي بصلة غيري وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ تزكية عن آفة الحرص والحسد والدناءة والخسة والطمع وتحلية بالقناعة والمروءة وعلو الهمة والعافية وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ تزكية عن آفة الخيانة والخديعة وتحلية بالأمانة وسلامة الصدر وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ تزكية عن الجور وتحلية بالعدل، فإن اجتماع هذه الرذائل كان حوبا كبيرا حجابا عظيما فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ تزكية عن الفاحشة وتحلية بالعفة ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا تزكية عن الحدة والغضب، وتحلية بالسكون والحلم وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ تزكية عن البخل والغدر وتحلية بالوفاء والكرم فَكُلُوهُ هَنِيئاً تزكية عن الكبر والأنفة وتحلية بالتواضع والشفقة. فهذه كلها إشارات إلى تربية يتامى القلوب والنفوس بإيتاء حقوق تزكيتهم عن هذه الأوصاف وتحليتهم بهذه الأخلاق. ثم نهى عن إيتاء النفوس الأمارة حظوظها فقال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ وإنما قال: أَمْوالَكُمُ لأن الخطاب مع العقلاء والصلحاء وقد خلق الله الدنيا لأجلهم أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. وَارْزُقُوهُمْ فِيها قدر ما يسد الجوعة وَاكْسُوهُمْ ما يستر العورة وما زاد فإسراف في حق النفس. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً كنحو: أكلت رزق الله فأدّي شكر نعمته بامتثال أوامره ونواهيه وإلا أذيبي طعامك بذكر الله كما قال صلى الله عليه وسلم «أذيبوا طعامكم بذكر الله» . وَابْتَلُوا الْيَتامى أي قلوب السائرين بأدنى توسع في المعيشة بعد أن كانوا محجورين عن التصرف حَتَّى إِذا بَلَغُوا مبلغ الرجال البالغين فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 رُشْداً بأن استمروا بذلك التوسع على السير وزادوا في اجتهادهم وجدهم كما قال الجنيد: أشبع الزنجي وكدّه فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فالعبد في هذا المقام يكون جائز التصرف في مماليك سيده كالعبد المأذون، ولهذا قال هاهنا أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً أي فإن آنستم يا أولياء الطريقة من المريدين البالغين رشد التصرف في أصحاب الإرادة فادفعوا إليهم عنان التصرف بإجازة الشيخوخية، ولا تجعلوا الشيخوخية مأكلة لكم غيرة وغبطة عليهم أن يكبروا بالشيخوخية. وَمَنْ كانَ غَنِيًّا بالله من قوة الولاية مستظهرا بالعناية فَلْيَسْتَعْفِفْ عن الانتفاع بصحبتهم، وَمَنْ كانَ فَقِيراً مفتقرا إلى ولاية المريد فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فلينتفع بإعانته وليجزله بالشيخوخية مع الإمداد في الظاهر والباطن. فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ سلمتم إليهم مقام الشيخوخية فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ الله ورسوله وأرواح المشايخ وأوصوهم برعاية حقوقها مع الله والخلق. ثم أخبر عن نصيب كل نسيب فقال: لِلرِّجالِ وهم الأقوياء من الطلبة وَلِلنِّساءِ وهم الضعفاء نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وهم المشايخ والإخوان في الله وتركتهم بركتهم وأنوارهم نَصِيباً مَفْرُوضاً على قدر استعدادهم وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي في محافل صحبتهم ومجالس ذكرهم أُولُوا الْقُرْبى المنتمون إليهم المقتبسون من أنوارهم والمقتفون لآثارهم فَارْزُقُوهُمْ من مواهب بركاتهم وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً في التشويق وإرشاد الطريق وتقرير هوان الدنيا عند الله، وعزة أهل الله في الدارين. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً من متوسطي المريدين أو المبتدئين خافُوا عَلَيْهِمْ آفات المفارقة بسفر أو موت فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ أي يوصونهم بالتقوى وأن يقولوا قولا سديدا هو لا إله إلا الله. فإن التقوى ومداومة الذكر خطوتان يوصلان العبد إلى الله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ يضيعون أطفال الطريقة بعدم التربية ورعاية وظائف النصيحة إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نار الحسرة والغرامة يوم لا تنفع الندامة. [سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 22] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 القراآت: واحِدَةً بالرفع: أبو جعفر ونافع. الباقون: بالنصب. فَلِأُمِّهِ وما بعده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 بكسر الهمزة لأجل كسرة ما قبلها: حمزة وعلي. الباقون بالضم يُوصِي وما بعد مبنيا للمفعول: ابن كثير وابن عامر ويحيى وحماد والمفضل وافق الأعشى في الأولى وحفص في الثانية. الباقون: مبنيا للفاعل. ندخله بالنون في الحرفين: نافع وابن عامر وأبو جعفر. الباقون بالياء. وكذلك في سورة الفتح والتغابن والطلاق. وَالَّذانِ بتشديد النون: ابن كثير، وكذلك قوله: هذانِ [طه: 63] وهاتان وأَرِنَا الَّذَيْنِ [فصلت: 29] وأشباه ذلك. وأما قوله فَذانِكَ فابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وعباس مخير. الباقون: بالتخفيف كَرْهاً بالضم وكذلك في التوبة، حمزة وعلي وخلف. الباقون بالفتح مُبَيِّنَةٍ مبينات بفتح الياء: ابن كثير وأبوبكر وحماد. وقرأ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب مُبَيِّنَةٍ بالكسر مبينات بالفتح. الباقون كلها بالكسر. الوقوف: الْأُنْثَيَيْنِ ج ما تَرَكَ ج فَلَهَا النِّصْفُ ط لانتهاء حكم الأولاد إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ج فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ج أَوْ دَيْنٍ ط وَأَبْناؤُكُمْ ج لتقديرهم أبناؤكم، ولاحتمال كون آباؤكم مبتدأ وخبره. لا تَدْرُونَ نَفْعاً ج مِنَ اللَّهِ ط حَكِيماً هـ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ج دَيْنٍ ط مِنْهُمَا السُّدُسُ ج دَيْنٍ ط لأن غير حال عامله يُوصى مُضَارٍّ ج لاحتمال نصب وصية به كما يجيء. مِنَ اللَّهِ ط حَلِيمٌ هـ ط لأن تِلْكَ مبتدأ حُدُودُ اللَّهِ ط خالِدِينَ فِيها ط لأن ما بعده اعتراض مقرر للجزاء. الْعَظِيمُ هـ خالِداً فِيها ص لأن ما بعده من تتمة الجزاء. مُهِينٌ هـ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ج لابتداء الشرط مع الفاء. سَبِيلًا هـ فَآذُوهُما ج عَنْهُما ط رَحِيماً هـ عَلَيْهِمْ ط حَكِيماً هـ السَّيِّئاتِ ط لأن حتى إذا تصلح للابتداء وجوابه قالَ إِنِّي تُبْتُ [النساء: 18] وتصلح انتهاء لعمل السيئات وَهُمْ كُفَّارٌ ط أَلِيماً هـ كَرْهاً ط للعدول عن الإخبار إلى النهي. مُبَيِّنَةٍ ج للعارض بين المتفقين بِالْمَعْرُوفِ ج كَثِيراً هـ شَيْئاً ط مُبِيناً هـ غَلِيظاً ط وَمَقْتاً ط سَبِيلًا هـ. التفسير: إنه تعالى لما بين حكم مال الأيتام وما على الأولياء فيه، بيّن أن اليتيم كيف يملك المال إرثا ولم يكن ذلك إلا بيان جملة أحكام الميراث. أو نقول: أجمل حكم الميراث في قوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ ثم فصل ذلك بقوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ أي يعهد إليكم ويأمركم في أولادكم في شأن ميراثهم. واعلم أن أهل الجاهلية كانوا يتوارثون بشيئين: النسب والعهد. أما النسب فكانوا يورثون الكبار به ولا يورثون الصغار والإناث كما مر، وأما العهد فالحلف أو التبني كما سيجيء في تفسير قوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء: 23] وكان التوريث بالعهد مقرر في أول الإسلام مع زيادة سببين آخرين: أحدهما الهجرة. فكان المهاجر يرث من المهاجر وإن كان أجنبيا عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 إذا كان بينهما مزيد مخالطة ومخالصة، ولا يرثه غيره وإن كان من أقاربه. والثاني المؤاخاة. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين كل اثنين منهم فيكون سببا للتوارث. والذي تقرر عليه الأمر في الإسلام أن أسباب التوريث ثلاثة: قرابة ونكاح وولاء. والمراد من الولاء أن المعتق يرث بالعصوبة من المعتق. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث بنت حمزة من مولى لها. ووراء هذه الأسباب سبب عام وهو الإسلام، فمن مات ولم يخلف من يرثه بالأسباب الثلاثة فماله لبيت المال يرثه المسلمون بالعصوبة كما يحملون عنه الدية. قال صلى الله عليه وسلم: «أنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه» «1» وعن أبي حنيفة وأحمد أنه يوضع ماله في بيت المال على سبيل المصلحة لا إرثا، لأنه لا يخلو عن ابن عم وإن بعد فألحق بالمال الضائع الذي لا يرجى ظهور مالكه. وإنما بدأ سبحانه بذكر ميراث الأولاد لأن تعلق الإنسان بولده أشد التعلقات، ثم للأولاد حال انفراد وحال اجتماع مع أبوي الميت. أما حال الانفراد فثلاث ذكور وإناث معا، أو إناث فقط، أو ذكور فقط. أما الحالة الأولى فبيانها قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي للذكر منهم، فحذف الراجع للعلم به وفيه أحكام ثلاثة: أحدها: خلف ذكرا واحدا وأنثى واحدة فله سهمان ولها واحد. وثانيها: خلف ذكورا وإناثا لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهم. وثالثها: خلف مع الأولاد جمعا آخرين كالزوجين، فهم يأخذون سهامهم والباقي بين الأولاد لكل ذكر مثل نصيب أنثيين. وإنما لم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر إشعارا بفضيلته كما ضوعف حظه لذلك، ولأن الابتداء بما ينبىء عن فضل أحد أدخل في الأدب من الابتداء بما ينبىء عن النقص، ولأنهم كانوا يورّثون الذكور دون الإناث فكأنه قيل لهم: كفى الذكور تضعيف من النصيب، فليقطعوا الطمع عن الزيادة. وأما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيب النساء من المال أقل من نصيب الرجال، فلنقصان عقلهن ودينهن كما جاء في الحديث، ولأن احتياجهن إلى المال أقل لأن أزواجهن ينفقون عليهن، أو لكثرة الشهوة فيهن فقد يصير المال سببا لزيادة فجورهن كما قيل: إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أي مفسده. فكيف حال المرأة؟ وعن جعفر الصادق رضي الله عنه أن حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها، وأخذت حفنة أخرى وخبأتها، ثم أخذت حفنة أخرى ورفعتها إلى آدم. فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الله الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل. وأما الحالة الثانية فهن أكثر من اثنتين أو اثنتان أو واحدة. وحكم   (1) رواه أبو داود في كتاب الفرائض باب 8. ابن ماجه في كتاب الديات باب 7. أحمد في مسنده (4/ 131) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 القسم الأول مبين في قوله: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وحكم القسم الثالث في قوله: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فمن قرأ بالرفع على «كان» التامة فظاهر، ومن قرأ بالنصب فالضمير في كانت إما أن يعود إلى النساء وجاز لعدم الإلباس بدليل واحدة، وإما أن يعود إلى غائب حكمي أي إن كانت البنت أو المولودة. وقراءة النصب أوفق لقوله: فَإِنْ كُنَّ نِساءً وقراءة الرفع أيضا حسنة لئلا يحتاج إلى التكلف في عود الضمير. وجوّز صاحب الكشاف أن يكون الضمير في كُنَّ وكانَتْ مبهمة وتكون نِساءً وواحِدَةً تفسيرا لهما على أن «كان» تامة. وأما القسم الثاني وهو حكم البنتين فغير مذكور في الآية صريحا فلهذا اختلف العلماء فيه. فعن ابن عباس أن فرضهما النصف كما في الواحدة، لأن الثلثين فرض البنات بشرط كونهن فوق اثنتين، فإذا لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط. وعورض بأن النصف أيضا مشروط بالوحدة. أقول: ولعله نظر إلى أن الاثنتين أقرب إلى الواحد من الأعداد الغير المحصورة التي فوق الإثنتين سوى الثلاثة، والحمل على الأقرب أولى. وقال الأكثرون من الصحابة وغيرهم: إن فرضهما الثلثان لأن من مات وخلف ابنا وبنتا فللبنت الثلث بالآية، فيلزم أن يكون للبنتين الثلثان. وأيضا نصيب البنت مع الولد الذكر الثلث، فلأن يكون نصيبها مع ولد آخر أنثى هو الثلث أولى لأن الذكر أقوى من الأنثى. وعلى هذا فكان قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ دالا على أنثيين، فذكر بعد ذلك أنهن وإن بلغن ما بلغن من العدد لم يتجاوز الثلثين. وقيل: إن البنتين أمس رحما بالميت من الأختين، لكنه تعالى يقول في آخر السورة فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ فالبنتان أولى وهذا قياس جلي، ومما يؤيده أنه تعالى لم يذكر ميراث الأخوات الكثيرة ليقاس ميراثهن على ميراث البنات الكثيرة كما يقاس ميراث البنتين على الأختين. وقيل: لفظ فَوْقَ وهو صفة نساء أو خبر بعد خبر للتأكيد، أو ليخرج أقل الجمع وهو اثنان زائد كقوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الأنفال: 12] وقيل: فيه تقديم وتأخير والمراد: فإن كن نساء اثنتين فما فوقهما. وعن جابر بن عبد الله قال: جاءت امرأة بابنتين لها فقالت: يا رسول الله، هاتان بنتا ثابت بن قيس، أو قالت: سعد بن الربيع. قتل معك يوم أحد وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما. فقال: يقضي الله في ذلك ونزلت هذه الآية. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع لي المرأة وصاحبها. فقال لعمهما: أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك. وأما الحالة الثالثة وهو ما إذا كان الأولاد ذكورا فقط فلم يذكر في الآية، لأنه لما علم أن للذكر مثل حظ الأنثيين وقد تبين أن للبنت الواحدة النصف، علم منه أن للابن الواحد الكل، وإذا كان للواحد الكل، فإذا كانوا أكثر من واحد لم يحسن حرمان بعضهم ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 ترجيح بعضهم فيكون المال مشتركا بينهم بالسوية. وأيضا قال صلى الله عليه وسلم: «وما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر» ولا نزاع في أن الابن عصبة ذكر، فإذا لم يكن معه صاحب فرض فله كل المال لا محالة. والنص: سألت عن ولد الولد فقيل: اسم الولد يقع على ولد الابن أيضا لقوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ [الأعراف: 31] يا بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: 40، 47، 122 وغيرها من الآيات] . وقيل: قيس ولد الولد على الولد لما أنه كولد الصلب في الإرث والتعصيب، ولكنه لا يستحق شيئا مع أولاد الصلب على وجه الشركة، وإنما يستحق إذا لم يوجد ولد الصلب رأسا، أو لا يأخذ كما في مسألة بنت واحدة وبنت ابن فإنهما يأخذان الثلثين. واعلم أن عموم قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ مخصوص بصور منها: أن العبد والحر لا يتوارثان. ومنها أن القاتل لا يرث. ومنها أن لا يتوارث أهل ملتين والمرتد ماله فيء لبيت المال سواء اكتسب في الإسلام أو في الردة. وعند أبي حنيفة: ما اكتسب في الإسلام يرثه أقاربه المسلمون. ومنها أن الأنبياء لا يورثون خلافا للشيعة. روي أن فاطمة رضي الله عنها لما طلبت الميراث احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» «1» واحتجت بقوله تعالى حكاية عن زكريا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم: 6] وبقوله: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل: 16] ، والأصل في التوريث للمال، ووراثة العلم أو الدين مجاز. وبعموم قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ولأن المحتاج إلى هذه المسألة ما كان إلا عليا وفاطمة والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء في الدين. وأما أبو بكر فإنه ما كان محتاجا إلى معرفة هذه المسألة البتة لأنه ما كان يخطر بباله أنه يرث الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة؟ وأيضا يحتمل أن يكون قوله: «ما تركناه صدقة» صلة لقوله: «لا نورث» والمراد أن الشيء الذي تركناه صدقة فذلك الشيء لا يورث ولعل فائدة تخصيص الأنبياء بذلك أنهم إذا عزموا على التصدق بشيء فمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم فلا يرثه وارثهم عنهم. أجابوا بأن فاطمة رضي الله عنها رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة وانعقد الإجماع على ما ذهب إليه أبوبكر. واعلم أن جميع ما ذكرنا إنما هو في حالة انفراد الأولاد، أما حالة اجتماعهم بالأبوين فذلك قوله: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ والمراد بالأبوين الأب والأم. فغلب جانب الأب لشرفه، ومثله من التغليب في التثنية «القمران» و «العمران» و «الخافقان» .   (1) رواه البخاري في كتاب الخمس باب 1. مسلم في كتاب الجهاد حديث 49- 52. أبو داود في كتاب الإمارة باب 19. الترمذي في كتاب السير باب 44. النسائي في كتاب الفيء باب 9، 16. الموطأ في كتاب الكلام حديث 27. أحمد في مسنده (1/ 4، 6، 47، 179) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 والضمير في لِأَبَوَيْهِ يعود إلى الميت المعلوم من سياق الكلام في الميراث ولِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا بدل من لِأَبَوَيْهِ بتكرير العامل. وفائدة هذا البدل أنه لو قيل: ولأبويه السدس لأوهم اشتراكهما فيه. ولو قيل: ولأبويه السدسان لأوهم قسمة السدسين عليهما بالتساوي أو بالتفاوت. ولو قيل: ولكل واحد من أبويه السدس لفاتت فائدة الإجمال والتفصيل والإبهام والتفسير. فقوله: السُّدُسُ مبتدأ وخبره لِأَبَوَيْهِ وقد توسط البدل بينهما للبيان. واعلم أن للأبوين ثلاث أحوال: الأولى أن يحصل معهما ولد ولا نزاع أن اسم الولد يقع على الذكر وعلى الأنثى فههنا ثلاثة أوجه: أحدها أن يحصل معهما ولد ذكر واحد أو أكثر فللأبوين لكل واحد منهما السدس. والباقي للأولاد بالسوية. وثانيها أن يحصل معهما بنتان أو أكثر، فالحكم كما ذكر. وثالثها أن يكون معهما بنت واحدة فههنا للبنت النصف وللأم السدس وللأب السدس بحكم الآية، والباقي للأب بحكم التعصيب. فإن قيل: إن حق الوالدين على الولد مما لا يخفى فما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيب الأولاد أكثر ونصيب الوالدين أقل؟ فالجواب- والله أعلم- أن الوالدين ما بقي من عمرهما إلا القليل غالبا، أما الأولاد فهم في زمان الصبا فاحتياجهم إلى المال أكثر وأيضا كأنهما قالا بلسان الحال للأطفال: إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا. وأيضا ولد الولد ولد، وترفيه حال الولد أهم عند الوالدين من ترفيه حالهما. الحالة الثانية أن لا يكون معهما أحد من الأولاد ولا وارث سواهما وهو المراد بقوله: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ أي فقط فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ويعلم منه أن الباقي يكون للأب فيكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، ويحصل للأب السدس بالفرضية، والنصف بالعصوبة، ولأنه تعالى قيد فرضية الثلث للأم بأن يكون الوارث منحصرا في الأبوين اختلف العلماء في أنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين فكيف يكون فرض الأم؟ فقال ابن عباس: يدفع إلى الزوج نصيبه أو إلى الزوجة نصيبها، وللأم الثلث بحاله والباقي وذهب الأكثرون إلى أن الزوج أو الزوجة لهما نصيبهما، وثم يدفع ثلث ما بقي إلى الأم والباقي للأب ليكون للذكر مثل حظ الأنثيين كما هو قاعدة الميراث عند اجتماع الذكر والأنثى، فيكون الأبوان كشريكين بينهما مال، فإذا صار شيء منه مستحقا بقي الباقي بينهما على قدر الاستحقاق الأوّل. وأيضا الزوج إنما يأخذ سهمه بحكم عقد النكاح لا بحكم القرابة فأشبه الوصية في قسمة الباقي. وعن ابن سيرين أنه وافق ابن عباس في الزوجة والأبوين. فإنا إذا دفعنا الربع إلى الزوجة، والثلث إلى الأم بقي للأب الثلث ونصف السدس أكثر ما للأم، وخالفه في الزوج والأبوين لأنه إذا دفع إلى الزوج النصف وإلى الأم الثلث يبقى للأب السدس فيكون للأنثى مثل حظ الذكرين. هذا عكس قوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ الحالة الثالثة أن يوجد معها الإخوة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 والأخوات وذلك قوله: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ واتفقوا على أن واحدا من الإخوة أو الأخوات لا يحجب الأم من الثلث إلى السدس، واتفقوا على أن ثلاثة منهم يحجبون لكن الاثنين مختلف فيهما. فالأكثرون من الصحابة ذهبوا إلى إثبات الحجب بهما كما في الثلاثة بناء على أن الاثنين جمع لوجود التعدد في التثنية فما فوقها، فصح أن يتناول الإخوة للأخوين واستقراء باب الميراث يؤيد ذلك، فإنه جعل نصيب البنتين الثلثين مثل نصيب البنات وكذلك للأختين والأخوات. وذكر الشيخ الكامل محيي الدين بن العربي في الفتوحات أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فسأله عن خلاف الأئمة في أن أقل الجمع اثنان أو ثلاثة، فعلمه أن أقل الجمع في الشفع اثنان وفي الوتر ثلاثة. وقال صلى الله عليه وسلم: «الاثنان فما فوقهما جماعة» «1» وقد احتج ابن عباس بذلك على عثمان فقال: كيف تردّها إلى السدس بالأخوين وليسا بإخوة؟ فقال عثمان: لا أستطيع رد شيء كان قبلي ومضى في البلدان. فأشار إلى إجماعهم قبل أن يظهر ابن عباس الخلاف. ثم إن الاثنين أو الثلاثة إذا حجبوا الأم عن السدس، فذلك السدس يكون لهم حتى يبقى للأب الثلثان، أو لا يكون لهم شيء من الميراث ويكون خمسة الأسداس للأب. ذهب ابن عباس إلى الأوّل، وذهب الجمهور إلى الثاني إذ لا يلزم من كون الشخص حاجبا كونه وارثا ولم يرد لهم ذكر إلا بالحجب فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين. ثم ذكر أن هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء من بعد وصية يوصى بها أو دين. حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق. وإذا لم يكن أو كان لكنه قضى وفضل بعده شيء. فإن أوصى الميت وصية أخرجت من ثلث ما فضل ثم قسم الباقي ميراثا على فرائض الله تعالى. عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إنكم لتقرؤن الوصية قبل الدين وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية. والمراد أنه لا عبرة بالتقديم في الذكر لأن كلمة أولا تفيد الترتيب البتة، وإنما استفيد الترتيب من السنة عكس الترتيب في اللفظ. وفائدة هذا العكس أن الوصية تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، فكان أداؤها مظنة التفريط بخلاف الدين، فإن نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه فكان في تقديمها ترغيب لهم في أدائها، ولهذا جيء بكلمة أو دلالة على التسوية بينهما في الوجوب، ولأن كل مال ليس يحصل فيه الأمران فجيء بأو الفاصلة ليدل على أنه إن كان أحدهما فالميراث بعده، وكذلك إن كان كلاهما فالوصية تشبه الدين من جهة أن سهام أهل المواريث معتبرة بعد كل منهما. ولكنها تفارق الدين من جهة   (1) رواه البخاري في كتاب الأذان باب 35. النسائي في كتاب الإمامة باب 43- 45. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 44. أحمد في مسنده (5/ 254، 269) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية كما في الإرث بخلاف الدين فإنه يبقى بحاله. ثم قال: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً قال أبو البقاء أَيُّهُمْ مبتدأ وأَقْرَبُ خبره، والجملة في موضع نصب ب تَدْرُونَ وهي معلقة عن العمل لفظا لأنها من أفعال القلوب. وأقول: من الجائز أن لا تكون من أفعال القلوب بل تكون بمعنى المعرفة، وكان أَيُّهُمْ مفعوله مبنيا لحذف صدر الصلة نحو لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ [مريم: 69] . قال المفسرون: هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم، وبين قوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ومن حق الاعتراض أن يناسب ما اعترض بينه ويؤكده. فقيل: هذا من تمام الوصية أي لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون، أم أوصى منهم أم من لم يوص. يعني أن من أوصى ببعض ماله فعرّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعا وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفر عليكم عرض الدنيا وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ذهابا إلى حقيقة الأمر، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلا قريبا في الصورة إلا أنه فان فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى، وثواب الآخرة وإن كان آجلا إلا أنه باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى. وقيل: عن ابن عباس أن الابن إن كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه فيرفع. وكذلك الأب إن كان أرفع درجة من ابنه سأل أن يرفع ابنه إليه. فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعا لأن أحدهما لا يعرف ان انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك. وقيل: قد فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة، والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات. فلو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع فوضعتم أنتم الأموال في غير موضعها. وقيل: المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة الإنفاق والذب عنه، فلا يدري أن الابن سيحتاج إلى أن ينفق الأب عليه أو الأب سيفتقر إلى الابن. وقيل: المقصود جواز أن يموت هذا قبل: ذلك فيرنه وبالضد، والقول هو الأوّل. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ نصبت على أنها صفة تقوم مقام المصدر المؤكد أي فرض الله ذلك فرضا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بكل المعلومات فيكون عالما بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد حَكِيماً لا يأمر إلا بما هو الأحسن الأصلح. قال الخليل: «كان» هاهنا منخلع عن اعتبار الاقتران بالزمان، لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان ولكنه من الأزل إلى الأبد عليم حكيم. وقال سيبويه: إن القوم لما شاهدوا علما وحكمة تعجبوا فقيل لهم: إن الله كان كذلك أي لم يزل موصوفا بهذه الصفات. هذا واعلم أن الوارث إما أن يكون متصلا بالميت بغير واسطة أو بواسطة. وعلى الأول فسبب الاتصال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 إما أن يكون هو النسب أو الزوجية. فهذه ثلاثة أقسام: الأوّل قرابة التوالد الفروع والأصول وهو أشرف الاتصالات لعدم الواسطة ولكثرة المخالطة ولغاية الألفة والشفقة، ولهذا قدّم في الذكر. ويتلوه في الشرف القسم الثاني لمثل ما قلنا ولهذا أردفه بالقسم الأول وذلك قوله: وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إلى قوله تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ثم بيّن أحوال القسم الثالث وهو الكلالة في قوله: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً فما أحسن هذا النسق. ولما جعل في الموجب النسبيّ حظ الرجل مثل حظ الأنثيين، فكذلك جعل في الموجب السببي وهو الزوجية حظ الزوج ضعف حظ الزوجة. وقد نبه في الآية على فضل الرجال حيث ذكرهم على سبيل المخاطبة ثمان مرات، وذكرهن على الغيبة أقل من ذلك. ثم الواحدة والجماعة سواء في الربع والثمن، ولا فرق في الولد بين الذكر والأنثى، ولا بين الابن وابن الابن، ولا بين البنت وبنت الابن، ويخرج منه ولد البنت لأنه لا يرث. وهاهنا مسألة. قال الشافعي: يجوز للزوج غسل زوجته لأنها بعد الموت زوجته بدليل قوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأنها ليست زوجته، ولو كانت زوجته لحل له وطؤها لقوله: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ [المؤمنون: 6] وأجيب بأنه لو لم تكن زوجة له لكان قوله ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ مجازا. ولو كانت زوجة مع أنه لا يحل له وطؤها لزم التخصيص وإذا تعارض المجاز والتخصيص فالتخصيص أولى كما بين في أصول الفقه. وكيف لا وقد علم في صور كثيرة حصول الزوجية مع حرمة الوطء كزمان الحيض والنفاس ونهار رمضان وعند اشتغالها بالصلاة المفروضة والحج المفروض وعند كونها في العدّة عن الوطء بالشبهة. وأيضا حل الوطء ثابت على خلاف الأصل لما فيه من المصالح، وعند الموت لم يبق شيء من تلك المصالح فعاد إلى أصل الحرمة. أما حل الغسل ففيه مصالح فوجب القول ببقائه. واختلفوا في تفسير الكلالة فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الكلالة فقال: أقول فيه برأيي فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه. الكلالة ما خلا الوالد والولد. وعن عمر رضي الله عنه: الكلالة من لا ولد له فقط. وعنه في رواية أخرى التوقف. وكان يقول: ثلاثة لأن يكون بينهن الرسول صلى الله عليه وسلم لنا أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها: الكلالة والخلافة والربا. وقيل: الكلالة القرابة من غير جهة الولد والوالد. ومنه قولهم: ما ورث المجد عن كلالة كما تقول: ما صمت عن عيّ. قال الفرزدق: ورثتم قناة الملك لا عن كلالة ... عن ابني مناف عبد شمس وهاشم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 والمختار الصحيح من الأقوال قول أبي بكر لأن الكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوّة من الإعياء. قال الأعشى: فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من وجى حتى تلاقي محمدا فاستعيرت للقرابة من غير جهة الوالد والولد لأنها بالإضافة إلى قرابة الأصول والفروع كلالة ضعيفة. ويحتمل أن يقال: هي من الإكليل لأنهم يحيطون بالإنسان إحاطة الإكليل بالرأس بخلاف قرابة الولادة فإنها تذهب على الاستقامة كما قال: نسب تتابع كابرا عن كابر ... كالرمح أنبوبا على أنبوب وأيضا فإنه تعالى قال في آخر السورة قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [الآية: 176] فاحتج عمر بذلك. والجواب أنه تعالى حكم في تلك الآية بتوريث الإخوة والأخوات حال كون الميت كلالة. ولا شك أن الإخوة والأخوات لا يرثون حال وجود الأبوين، فيلزم أن لا يكون الميت كلالة حال وجود الأبوين. وأيضا إنه تعالى ذكر حكم الولد والوالدين في الآيات المتقدمة، ثم أتبعها ذكر الكلالة. وهذا الترتيب يقتضي أن يكون الكلالة من عدا الوالدين والولد، ثم الكلالة قد يجعل وصفا للمورث. والمراد الذي يرثه من سوى الوالدين والأولاد، ويمكن أن يحمل عليه بيت الفرزدق أي ما ورثتم الملك عن الأعمام بل عن الآباء، فسمى العم كلالة وهو هاهنا مورث لا وارث. وقد يجعل وصفا للوارث ومنه قول جابر: مرضت مرضا أشفيت منه على الموت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني رجل لا يرثني إلا كلالة وأراد به أنه ليس له والد ولا ولد. ويقال: رجل كلالة وامرأة كلالة وقوم كلالة لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر كالدلالة والجلالة، وإذا جعلت صفة للوارث أو المورث كانت بمعنى ذي كلالة كما يقال: فلان من قرابتي أي من ذوي قرابتي. ويجوز أن يكون صفة كالهجاجة والفقاقة يقال: رجل هجاجة وفقاقة كلاهما بالتخفيف أي أحمق. وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ فيه احتمالان: الأول وهو قول عطاء والضحاك: أن يكون مأخوذا من ورث الرجل يرث فيكون الرجل هو الموروث منه، وينتصب كلالة على الحال أو على أنه خبر «كان» ويُورَثُ صفة رجل. ويجوز أن يكون مفعولا له أي يورث لأجل كونه كلالة. والثاني وهو قول سعيد بن جبير أن يكون مبنيا للمفعول من أورث فالرجل حينئذ هو الوارث، وينتصب كلالة على الوجوه المذكورة. قيل: ما السبب في أنه قال: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ثم قال: وَلَهُ أَخٌ فكنى عن الرجل ولم يكن عن المرأة؟ والجواب أنه إذا جاء حرفان في معنى واحد جاز إسناد التفسير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 إلى أيهما أريد، وجاز إسناده إليهما أيضا. تقول: من كان له أخ أو أخت فليصله أو فليصلها. والترجيح بالتذكير للشرف معارض بالتأنيث للقرب. وإن قلت: فليصلهما جاز أيضا. ولعل التوحيد والتذكير في الآية أولى إما لأن الرجال في الأحكام أصل والنساء تبع لهم، وإما بتأويل أحد المذكورين. ثم إن المفسرين أجمعوا على أن المراد من الأخ والأخت هاهنا الأخ والأخت من الأم، ويدل عليه ما نسب إلى أبيّ وسعد بن أبي وقاص: وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما أي من الأخ والأخت السُّدُسُ من غير مفاضلة الذكر على الأنثى. هذا على الاحتمال الأوّل وهو أن الرجل مورث منه. وأما على الاحتمال الثاني وهو أن الرجل وارث فالضمير عائد إلى الرجل وإلى واحد من أخيه أو أخته. والمعنى مثل الأوّل، لأنك إذا قلت السدس له أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير فقد سوّيت بين الذكر والأنثى. ثم قال فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ فبيّن أن نصيبهم كيفما كانوا لا يزداد على الثلث. وقد يسند الإجماع إلى هذا بيانه أنه قال في آخر السورة قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء: 176] وأثبت للأختين الثلثين وللإخوة كل المال، وهاهنا أثبت للإخوة، والأخوات السدس عند الانفراد، والثلث عند الاجتماع، فعلم أن المراد من الإخوة والأخوات هاهنا غير المراد من الإخوة والأخوات في تلك الآية. فالمراد هاهنا الإخوة والأخوات من الأم وهم الأخياف، وهناك الإخوة والأخوات من الأب والأم وهم الأعيان، أو من الأب وهم أولاد العلات. فالكلالة وإن كانت عامة لمن عدا الوالد والولد إلا أنها في الآية خاصة كما بيننا. غَيْرَ مُضَارٍّ حال أي يوصي بها وهو غير مضارّ لورثته. ومن قرأ يُوصِي مبنيا للمفعول فعامل الحال محذوف يدل عليه المذكور أي يوصى إذا علم أن ثمة موصيا والضمير فيه وهو ذو الحال يعود إلى رجل على تقدير أنه المورث، أو إلى الميت الدال عليه سياق الكلام أي إن كان الرجل وارثا وضرار الورثة بأن يوصي بأزيد من الثلث أو بالثلث فما دونه ونيته مضارة الورثة ومغاضبتهم وقطع الميراث عنهم لا وجه الله. وقد يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه، أو يبيع شيئا بثمن بخس، أو يشتري شيئا بثمن غال، كل ذلك لئلا يصل المال إلى الورثة. قال العلماء: الأولى بالإنسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف، ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فإن كان في المال قلة وفي الورثة كثرة لم يوص، وإن كان بالعكس أوصى على قانون العدالة. وقد روي عن عكرمة عن ابن عباس: أن الإضرار في الوصية من الكبائر. ويروى مرفوعا وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة فإذا أوصى وحاف في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار. وإن الرجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة» «1» وعنه «من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة» . وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ نصب على المصدر المؤكد أو على أنه مفعول مُضَارٍّ أي لا يضار وصية من الله وهو الثلث فما دونه بزيادته على الثلث، أو وصية من الله بالأولاد لا يدعهم عالة بإسرافه في الوصية وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمن جار في وصيته أو عدل حَلِيمٌ عن الجائر لا يعاجله بالعقوبة، وفيه من الوعيد ما لا يخفى. ثم أكد الوعيد بالترغيب والترهيب فقال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وهو إشارة إلى جميع ما ذكر في السورة من أحكام اليتامى والوصايا والمواريث وغيرها، وهي الشرائع التي لا يجوز للمكلف أن يتجاوزها ويتخطاها إلى ما ليس له بحق. وقوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ عام في هذه التكاليف وفي غيرها، كما أن الوالد يقبل على ولده ويؤدبه في أمر مخصوص، ثم يقول احذر مخالفتي ويكون مقصوده منعه من معصيته في جميع الأمور. وإنما قيل: يُدْخِلْهُ وخالِدِينَ حملا على لفظ «من» ومعناه. وانتصب خالِدِينَ وخالِداً على الحال. ولا يجوز أن يكونا صفتين ل جَنَّاتٍ وناراً لأنهم جريا على غير من هماله، فكان يلزم حينئذ أن يقال: خالدين هم فيها وخالدا هو فيها. قالت المعتزلة: الآية تدل على القطع بوعيد الفساق وخلودهم وذلك أن التعدي في جميع حدود الله محال، لأن من حدوده ترك اليهودية والنصرانية والمجوسية، والتعدي فيها هو الإتيان بجميعها وذلك محال. فإن المراد تعدّي أي حدّ كان، ولأن الآية مذكورة عقيب قسمة المواريث فيكون المراد التعدي في هذه الحدود. وأجيب بما مر من أن ذلك مشروط عندكم بعدم التوبة، فأي مانع لنا من أن نزيد فيه شرطا آخر وهو عدم العفو. وبأن الآية لعلها مخصوصة بالكافر لأن جميع المعاصي يصح استثناؤها من هذا اللفظ أي: ومن يعص الله في كذا وفي كذا. وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر. نعم يخرج منه ما يخصصه دليل عقلي كما ذكرتم من استحالة الجمع بين اليهودية والنصرانية، ومما يؤكد كون الآية مخصوصة بالكافر أن قوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يفيد كونه فاعلا للمعاصي. فلو كان المراد من قوله: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ أيضا ذلك لزم التكرار فوجب حمله على الكفر. وإن سلم أن المراد هو التعدي في حدود المواريث فلعل المراد من التعدي هو اعتقاد كونها لا على وجه الحكمة والصواب ويلزم منه الكفر والله أعلم بمراده. قوله عم طوله: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ الآية.   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الوصايا باب 3. أحمد في مسنده (2/ 278) . [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 وجه النظم فيه أن التغليظ عليهم في باب الفاحشة من جملة الإحسان إليهن المأمور به في الآيات المتقدمة. وفيه أن مدار الشرع على العدل والإنصاف والاحتراز في كل باب من طرفي التفريط والإفراط، فلا ينبغي أن يصير الإحسان إليهن سببا لترك إقامة الحدود عليهن. واللاتي جمع التي وفيه لغات: اللائي بالهمزة، واللواتي واللوائي فكأنهما جمعا الجمع. وقد تحذف الياءات من الأربعة، وقد تسهل همزة اللائي بين الهمزة والياء لكونها مكسورة لقراءة ورش واللاء يئسن من المحيض [الطلاق: 4] وقد يقال: اللاي بياء ساكنة بعد الألف من غير همز، وقد يقال: اللوا بحذف التاء والياء معا. وقد يقال: اللاآت كاللامات. قال ابن الأنباري: العرب تقول في الجمع من غير الحيوان التي، ومن الحيوان اللاتي كقوله: أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء: 5] وقال في هذه الآية وَاللَّاتِي لأن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد بخلاف جمع الحيوان فإن كل واحد منهما متميز عن غيره بخواص وصفات. ومن العرب من يلغي هذا الفرق. والفاحشة الفعلة المتزايدة في القبح مصدر كالعافية. وأجمعوا على أنها الزنا هاهنا. قال المحققون: خصص هذا العمل بالفاحشة لأن القوى البدنية نطقية وغضبية وشهوية، وفساد الأولى الكفر والبدعة وأمثالها، وفساد الثانية القتل بغير حق ونحوه، وفساد الثالثة الزنا واللواط والسحق وما أشبهها وهذه أخص الجميع. ومعنى مِنْ نِسائِكُمْ من زوجاتكم أو من الحرائر أو من نسائكم المؤمنات والثيبات أقوال. فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ احتياطا لأمر الزنا. والمراد بقوله: مِنْكُمْ أي من رجالكم. قال الزهري: مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود فإن شهدوا مفصلا مفسرا كقولهم: رأيناه أدخل فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، أو كالرشاء في البئر. ولا بد مع ذلك من الوصف بالتحريم لا بمعنى عرضي كالحيض، ولا مع تحليل عالم كالمتعة، ولا بشبهة فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ خلدوهن محبوسات في بيوتكم حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي ملائكة الموت أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بالنكاح أو بالحد. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ يعني الزاني والزانية أو اللائط والملوط فَآذُوهُما فوبخوهما وقولوا لهما أما استحييتما أما خفتما الله أما لكما في النكاح مندوحة عن هذه؟ فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا وغيرا الحال فَأَعْرِضُوا عَنْهُما فاقطعوا التوبيخ والذم، أو خوطب الشهود الذين عثروا على سرهما أن يهددوهما بالرفع إلى الإمام والحد فإن تابا قبل الرفع إلى الإمام فأعرضوا عن العرض على الإمام. واعلم أن للعلماء خلافا في الآيتين. فعن الحسن أن الثانية مقدمة في النزول. أمروا بإيذاء الزانيين أولا ثم أمروا بإمساك النساء في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 البيوت إلى أن يتبين أحوالهن. وقال السدي: المراد بهذه الآية البكر من الرجال والنساء، وبالآية الأولى الثيب. وعن أبي مسلم أن الآية الأولى في السحاقات وحدّها الحبس إلى الموت إلا أن يخلصهن الله، والثاني في اللائطين وحدّهما الأذى بالقول والفعل. والدليل على ذلك تذكير اللذان ولفظ منكم أي من رجالكم كما في قوله: أَرْبَعَةً مِنْكُمْ وأما الزنا من الرجل والمرأة فذلك في سورة النور وحدّه في البكر الجلد وفي المحصن الرجم، وعلى هذا لا يلزم نسخ شيء من الآيات ولا تكرار الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين. وزيف قول أبي مسلم بأنه قول لم يقل به أحد، وبأن الصحابة اختلفوا في أحكام اللواطة ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية. وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على هذا الحكم دليل على أن الآية ليست في اللواطة. وأجاب أبو مسلم بأنه قول مجاهد- وهو من أكابر المفسرين- على أنه بيّن في الأصول أن استنباط تأويل جديد جائز، وأيضا كان مطلوب الصحابة معرفة حدّ اللوطيّ وكمية ذلك وليس في الآية دلالة عليه بالنفي والإثبات، ومطلق الإيذاء لا يصلح للحد. وجمهور المفسرين على أن الآيتين في الزنا وأنهما منسوختان لما روى مسلم في كتابه عن عبادة بن الصامت كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه كرب لذلك وتربد له وجهه فأنزل عليه ذات يوم فلقي كذلك، فلما سري عنه قال: خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. ثم استقر الأمر آخرا على أن البكر يجلد ويغرّب والثيب يرجم فقط. وقيل: إن هذه الآية صارت منسوخة بآية الجلد. وعن أصحاب أبي حنيفة أن آية الحبس نسخت بالحديث، والحديث منسوخ بآية الجلد، وآية الجلد نسخت بدلائل الرجم. وقال في الكشاف: من الجائز أن لا تكون الآية منسوخة بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوما بالكتاب والسنة ويوصي بإمساكهن في البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال. وقال الشيخ أبو سليمان الخطابي في معالم السنن: إنه لم يحصل النسخ في الآية ولا في الحديث. وذلك أن الآية تدل على أن إمساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا. ثم إن ذلك السبيل كان مجملا، فلما قال صلى الله عليه وسلم: خذوا عني الثيب يرجم والبكر يجلد وينفى. صار هذا الحديث بيانا لتلك الآية لا ناسخا لها، وصار أيضا مخصصا لعموم آية الجلد والله تعالى عليم. ثم أخبر عن المستحقين لقبول التوبة وعن المستحقين لعدم القبول فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ واجبة وجوب الوعد والكرم لا وجوبا يستحق بتركه الدم لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ قال أكثر المفسرين: كل من عصى فهو جاهل وفعله جهالة. ولهذا قال موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [البقرة: 67] لأنه حيث لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 يستعمل ما معه من العلم بالعقاب والثواب فكأنه لا علم له. وبهذا التفسير تكون المعصية مع العلم بأنها معصية جهالة. وقيل: المراد أنه جاهل بعقاب المعصية. وقيل: المراد أن يكون جاهلا بكونها معصية لكنه يكون متمكنا من تحصيل العلم بكونها معصية، ولهذا أجمعنا على أن اليهودي يستحق على يهوديته العقاب وإن كان لا يعلم كون اليهودية معصية لأنه متمكن من تحصيل العلم بكون اليهودية ذنبا ومعصية، وأن النائم أو الساهي لا يستحق العقاب لأنه أتى بالقبيح غير متمكن من العلم بكونه قبيحا. أما المتعمد فإنه لا يكون داخلا تحت الآية وإنما يعرف حاله بطريق القياس، وإنه لما كانت التوبة على هذا الجاهل واجبة فلأن تكون واجبة على العامد أولى لأنه عالم بقبح تلك المعصية. أما قوله: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فقد أجمعوا على أن المراد من هذا القرب قبل حضور زمان الموت ونزول سلطانه ومعاينة أهواله. وإنما كان ذلك الزمان قريبا لأن الأجل آت وكل ما هو آت قريب، ولأن مدة عمر الإنسان وإن طالت إذا قيست إلى طرفي الأزل والأبد كانت كالعدم، ولأن الإنسان يتوقع في كل لحظة نزول الموت به، وما هذا حاله فإنه يوصف بالقرب. و «من» في مِنْ قَرِيبٍ إما لابتداء الغاية أي يجعل مبتدأ توبته من زمان قريب من المعصية، أو للتبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضرة الموت زمانا قريبا لما قلنا ففي أي جزء تاب من أجزاء هذا الزمان فهو تائب من قريب وإلا فهو تائب من بعيد ألا ترى إلى قوله: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فبقي ما وراء ذلك في حكم القرب. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «1» والفائدة في قوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بعد قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أن الأوّل إعلام بأنه يجب على الله قبولها لزوم الكرم والفضل والإحسان، والثاني إخبار بأنه سيفعل ذلك. أو المراد بالأوّل توفيق التوبة والإعانة عليها، وبالثاني قبولها. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأنه إنما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشهوة والغضب والجهالة عليه حَكِيماً يجب في كرمه قبول توبة العبد إذا تاب من قريب. قال المحققون: قرب الموت وهو وقوعه في الشدائد بحيث يغلب على ظنه نزول الموت كما في القولنج، وفي حالة الطلق، وعند تلاطم الأمواج مع انكسار السفينة لا يمنع من قبول التوبة، بل التوبة حينئذ أولى بالقبول لقوله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النمل: 62] وإنما المانع من قبوله معاينة سلطان الموت ومشاهدة أحواله وأهواله بحيث   (1) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 98. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 30. أحمد في مسنده (2/ 132، 153) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 تصير معرفته بالله ضرورية كما لأهل الآخرة، وحينئذ يسقط التكليف عنه إذ لم يبق في يده زمام الاختيار، وأفضى الأمر إلى حد الإلجاء والإجبار. وهاهنا بحث للأشاعرة وهو أن أهل القيامة لا يشاهدون إلا أنهم صاروا أحياء بعد أن كانوا أمواتا، ويشاهدون أيضا أهوال القيامة فيستدلون بها على وجود الفاعل، فكيف يكون ذلك العلم ضروريا؟ وبتقدير كونه ضروريا فلم يمنع ذلك صحة التكليف؟ وذلك أن العبد مع علمه الضروري بوجود الإله المثيب المعاقب قد يقدم على المعصية لعلمه بأنه كريم وأنه لا تنفعه طاعة العبد ولا يضره ذنبه. وأيضا العلم النظري هو الذي لا يكون معه تجويز نقيضه، وعلى هذا فلا فرق بينه وبين الضروري البتة، وعلى هذا فكيف يصير النظري موجبا للتكليف، والضروري مانعا من التكليف؟ فثبت ضعف هذا الفرق، وأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فهو بفضله وعد وقبل التوبة في بعض الأوقات، وبعد له أخبر عن عدم قبول التوبة في وقت آخر، وله أن يقلب الأمر فيجعل المقبول مردودا والمردود مقبولا لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 23] وأقول: التحقيق فيه أنه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء، وقوله صدق وأمره حق، وقد عين لعبيده حالين: دنيا وعقبى. وقد أخبر أنه جعل الدنيا دار العمل، والعقبى دار الجزاء، وليس لأحد عليه اعتراض أنه لم لم يعكس الأمر. ثم إن لليقين مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. وليس ببعيد أن لا يكون علم اليقين منافيا للتكليف، ويكون عين اليقين منافيا له. ثم عطف قوله: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ على الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ تسوية بين الذين سوّفوا توبتهم إلى حضرة الموت، وبين الذين ماتوا على الكفر في أنه لا توبة لهم لأن حضرة الموت أوّل أحوال الآخرة. فكما إن المائت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، فكذلك المسوّف إلى حضرة الموت لمجاوزة كل منهما الحد المضروب للتوبة. أو المعنى أنه كما أن التوبة عن المعاصي لا تقبل عند القرب من الموت، كذلك الإيمان لا يقبل عند القرب من الموت، أو المراد أن الكفار إذا ماتوا على الكفر فلو تابوا في الآخرة لا تقبل توبتهم. أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ أي أعددنا الوعيد نظير قوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة. قالت الوعيدية: المعطوف مغاير للمعطوف عليه. لكن الطائفة الثانية كفار فالأوّلون فساق لكنهما مشتركان في العذاب الأليم، فثبت أن حكمهما واحد. وأجيب بأن أُولئِكَ إشارة إلى أقرب المذكورين، ويعضده أن الكفار أشنع قولا من الفساق، أو الطائفة الأولى هم الذين عاشوا على الكفر ثم تابوا في حضرة الموت كفرعون، والثانية هم الذين عاشوا على الكفر وماتوا عليه كنمروذ مثلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً من هاهنا شروع في النهي عما كانوا عليه في الجاهلية من إيذاء النساء بصنوف من العذاب وضروب من البلاء وذلك أنواع: الأول قوله: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا وفيه قولان: أحدهما الوراثة تعود إلى المال أي لا يحل لكم أن تمسكوهن حتى ترثوهن أموالهن وهن كارهات لإمساككم، وثانيهما أنها ترجع إلى أعيانهن. وكانوا إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه عليها وقال: ورثت امرأته كما ورثت ماله. فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء تزوّجها بغير صداق إلا الصداق الأوّل الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها من إنسان آخر وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئا فنزلت. النوع الثاني: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ قال أكثر المفسرين: كان الرجل منهم يكره زوجته ويريد مفارقتها فيسيىء العشرة معها ويضيق الأمر عليها حتى تفتدي منه بمالها وتختلع فنهوا عن ذلك. وقيل: إنه خطاب للوارث بأن يترك منعها من التزوّج بمن شاءت وأرادت لتبذل امرأة الميت ما أخذت من الميراث كما كان يفعله أهل الجاهلية. وقيل: إنه نهي للأولياء عن عضل المرأة، أو للأزواج كما مر في سورة البقرة. قال في الكشاف: إعراب تَعْضُلُوهُنَّ النصب عطفا على أَنْ تَرِثُوا ولا لتأكيد النفي. قلت: الظاهر أنه النهي لعطف الأمر وهو قوله: وَعاشِرُوهُنَّ عليه وصاحب الكشاف نظر إلى لما قبله وذهل عما بعده إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ من قرأ بالفتح فلأن الفاحشة لا فعل لها في الحقيقة وإنما الله تعالى هو الذي بينها، أو الشهود الأربعة هم بينوها. ومن قرأ بالكسر فلأنها إذا تبينت وظهرت صارت أسبابا للبيان كقوله: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: 36] لما صرن أسبابا للضلال. ثم إنه استثناء مماذا؟ قيل: من أخذ المال أي لا يحل له أن يحبسها ضرارا لتفتدي إلا إذا زنت فحينئذ حل لزوجها أن يسألها الخلع. وكان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها. وقيل: استثناء من العضل نهوا عن حبسهن في بيوت الأولياء والأزواج إلا بعد وجود الفاحشة. ومن هؤلاء القائلين من زعم أن هذا الحكم منسوخ بآية الجلد. وقيل: الفاحشة هي النشوز وشكاسة الخلق أي إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فإنهم معذورون حينئذ في طلب الخلع. النوع الثالث من التكاليف المتعلقة بأحوال النساء وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وهو الإجمال في القول والإنصاف في المبيت والنفقة فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ ورغبتم في فراقهن فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً فههنا قد يميل طبعكم إلى المفارقة ويكون الخير في الاستمرار على المواصلة، منه الثناء في الدينا بحسن الوفاء وكرم الخلق، ومنه الثواب في العقبى بالصبر على خلاف الهوى، ومنه حصول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 ولد نجيب ومال كثير لليمن في صحبتها. قال صلى الله عليه وسلم: «الشؤم في المرأة والفرس والدار» «1» وقيل: المعنى إن رغبتم في مفارقتهن فربما جعل الله تعالى في تلك المفارقة لهن خيرا كثيرا بأن تتخلص من زوج سيىء العشرة وتجد زوجا آخر أوفق منه. النوع الرابع من التكليف وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وذلك أنه لما أذن في مضارتهن إذا أتين بفاحشة بين تحريم الضرار في غير حالة الفاحشة. يروى أن الرجل منهم كان إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجته الأولى بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوّج المرأة روي يريدها فنهوا عنه. والقنطار المال العظيم، وفيه دليل على جواز المغالاة في المهر. روي أن عمر قال على المنبر: ألا لا تغالوا في مهور نسائكم. فقامت امرأة وقالت: يا ابن الخطاب، الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية. فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر ورجع عن ذلك. ويحتمل أن يقال: ذكر إيتاء القنطار وارد على سبيل المبالغة والفرض لا الرخصة. وهو في موضع الحال أي وقد آتيتم. ومعنى الإيتاء الالتزام ووقوع العقد عليه سواء أدّى المال إليها أم لا. واعلم أن النشوز إن كان من قبل الزوجة حل أخذ مال الخلع، وإن كان من قبل الزوج لم يحل إلا أنه يفيد الملك لو خالع، كما أن البيع وقت النداء منهي عنه، ثم إنه يفيد الملك. أَتَأْخُذُونَهُ استفهام بطريق الإنكار بُهْتاناً وهو أن يستقبل الرجل بأمر قبيح يقذفه به وهو بريء منه لأنه يبهت عند ذلك أي يتحير. وفي الحديث «إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بهته» «2» وهو مصدر في موضع الحال أي باهتين وآثمين، أو على أنه مفعول له مثل: قعدت جبنا. وقيل: بنزع الخافض أي ببهتان. وقيل: بمضمر أي تصيبون بهتانا. وسبب تسيمة هذا الأخذ بهتانا أنه تعالى فرض لها ذلك المهر فمن استردّه فكأنه يقول ليس ذلك بفرض فيكون بهتانا، أو أنه عند العقد تكفل بتسليم ذلك المهر إليها وأن لا يأخذه منها فإذا أخذه منها صار القول الأوّل بهتانا أي باطلا، أو كان من عادتهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تفتدي، فلما كان هذا الأمر واقعا على هذا الوجه في الأغلب سيق الكلام على ذلك. وبالحقيقة أن أخذ هذا المال طعن في   (1) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 47. مسلم في كتاب السلام حديث 115- 120. أبو داود في كتاب الطب باب 24. الترمذي في كتاب الأدب باب 58. النسائي في كتاب الخيل باب 5. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 55. الموطأ في كتاب الاستئذان حديث 22. أحمد في مسنده (2/ 8، 36، 115) . (2) رواه أحمد في مسنده (2/ 230، 284) . مسلم في كتاب البر حديث 70. أبو داود في كتاب الأدب باب 35. الترمذي في كتاب البر باب 23. الدارمي في كتاب الرقاق باب 6. بلفظ « ... وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهّته» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 ذاتها من حيث إنه مشعر بأنها قد أتت بفاحشة وقبض على مالها فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر. وقيل: المراد عقاب البهتان والإثم كقوله: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: 10] ثم عجب من الأخذ مستفهما فقال: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ عن ابن عباس ومجاهد والسدي واختاره الزجاج وابن قتيبه وإليه ذهب الشافعي أن المراد بالإفضاء الجماع إذ الفضاء الساحة ويقال: أفضيت إذا خرجت إلى الفضاء. وهذا المعنى إنما يحصل في الحقيقة عند الجماع. وقيل: الإفضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها وهو قول الكلبي واختاره الفراء، ويوافقه مذهب أبي حنيفة أن الخلوة الصحيحة تقرر المهر. ورجح مذهب الشافعي بأن الكلام ورد في معرض التعجب وهو إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببا قريبا في حصول الألفة والمودّة وذلك هو الجماع لا مجرد الخلوة، وأيضا الإفضاء لا بد أن يكون مفسرا بفعل ينتهي منه إليها لأن كلمة «إلى» لانتهاء الغاية، ومجرد الخلوة ليس كذلك إذا لم يحصل فعل من أفعال أحدهما إلى الآخرة. فإن قيل: على هذا يجب أن يكون التلامس والاضطجاع في لحاف واحد كافيا في تحقيق الإفضاء، وأنتم لا تقولون به؟ فالجواب أنه باطل بالإجماع إذ القائل قائلان: قائل بتفسير الإفضاء بالجماع، وقائل بتفسيره بمجرد الخلوة. وأيضا الشرع قد علق تقرر المهر بتحقيق الإفضاء، وقد اشتبه معناه أنه الخلوة أو الجماع فوجب الرجوع إلى ما قبل زمان الخلوة. ومقتضى ذلك عدم تقرر المهر. ثم أكد المنع من استرداد المهر بقوله: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً قال السدي وعكرمة والفراء: هو قولكم زوّجتك هذه المرأة على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. ومعلوم أنه إذا ألجأها إلى أن بذلت المهر فقد سرحها بالإساءة. وقال ابن عباس ومجاهد: الميثاق الغليظ كلمة النكاح المعقودة على الصداق وإليها أشار في الحديث «واستحللتم فروجهن بكلمة الله» «1» وقال آخرون: أخذن منكم بسبب إفضاء بعضكم إلى بعض ميثاقا غليظا وصفه بالغلظ لقوّته فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ النوع الخامس من التكاليف المتعلقة بأمور النساء قوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ قال ابن عباس وجمهور المفسرين: كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا عن ذلك. وهاهنا مسألة خلافية قال أبو حنيفة: يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه. وقال الشافعي: لا يحرم. حجة أبي حنيفة أن النكاح عبارة عن الوطء لقوله: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] وبالاتفاق   (1) رواه مسلم في كتاب الحج حديث 147. أبو داود في كتاب المناسك باب 56. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 84. الدارمي في كتاب المناسك باب 34. أحمد في مسنده (5/ 73) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 لا يحصل التحليل بمجرد العقد. ولقوله: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ [النساء: 6] أي الوطء لأن أهلية العقد حاصلة أبدا. ولقوله: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النور: 3] ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ناكح اليد ملعون» فيدخل في الآية المزنية لأنها منكوحة أي موطوأة. وعورض بالآيات الدالة على أن النكاح هو العقد كقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: 32] فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] وبقوله صلى الله عليه وسلم: «النكاح سنتي» «1» ولا شك أن الوطء من حيث إنه وطء ليس سنة له. وبقوله: «ولدت من نكاح لا من سفاح» وبأن من حلف في أولاد الزنا إنهم ليسوا من أولاد النكاح لم يحنث. سلمنا أن الوطء سمي بالنكاح لكن العقد أيضا مسمى به، فلم كان حمل الآية على ما ذكره أولى من حملها على ما ذكرنا مع إجماع المفسرين على أن سبب نزول الآية هو العقد لا الوطء؟ قالوا: حقيقة في الوطء مجاز في العقد لأنه في اللغة الضم، وهذا المعنى حاصل في الوطء لا في العقد. وإنما أطلق النكاح على العقد إطلاقا لاسم المسبب على السبب، والحمل على الحقيقة أولى أو مشترك بينهما. ويجوز استعماله في مفهوميه معا، فتكون الآية نهيا عن الوطء وعن العقد معا، أو لا يجوز استعماله في المفهومين فيكون نهيا عن القدر المشترك بينهما وهو الضم. والنهي عن المشترك يكون نهيا عن القسمين، فإن النهي عن التلوين يكون نهيا عن التسويد والتبييض لا محالة. وأجيب بأنه خلاف إجماع المفسرين، وبأن استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهوميه غير جائز، وبأن معنى الضم لا يتصورّ في العقد. سلمنا أن النكاح بمعنى الوطء ولكن ما في قوله: ما نَكَحَ لا نسلم أنها موصولة لأنها حقيقة في غير العقلاء وإنما هي مصدرية والتقدير: ولا تنكحوا نكاح آبائكم فإن أنكحتهم كانت بغير ولي وشهود وكانت مرفية ومهرية فنهوا عن مثل هذه الأنكحة. قاله محمد بن جرير الطبري. سلمنا أن المراد لا تنكحوا من نكح آباؤكم ولكنا لا نسلم أن «من» تفيد العموم وإذا لم تفد العموم لم تتناول محل النزاع. لكن لم قلتم إن النهي للتحريم لا للتنزيه؟ سلمنا أن النهي للتحريم لكن لا نسلم أنه غير صحيح لأن النهي عندكم لا يدل على الفاسد كما في البيع الفاسد وفي صوم يوم النحر. وإذا كان منعقدا كان صحيحا. ثم إنا نستدل على جواز نكاح مزنية الأب بقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: 221] نهى عن نكاحهن إلى غاية نفي إيمانهن، وهذا يقتضي جواز نكاحهن بعد تلك الغاية على الإطلاق مزنية كانت أو غيرها، إلا ما أخرجه الدليل، وهكذا سائر العمومات كقوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: 24] وكقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون دينه فزوّجوه» «2» وقوله: «زوّجوا أبناءكم   (1) رواه ابن ماجه في كتاب النكاح باب 1. (2) رواه الترمذي في كتاب النكاح باب 3. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 46. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 الأكفاء» وبقوله صلى الله عليه وسلم: «الحرام لا يحرّم الحلال» «1» . ودخول التخصيص فيه بما لو وقع قطرة من الخمر في إناء من الماء فتحرمه لا يمنع من الاستدلال به في غيره، وقد ناظر الشافعي محمد بن الحسن في هذه المسألة فوقع ختم الكلام على قول الشافعي وطء حدت به ووطء رجمت به فكيف يشتبهان؟ أما قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فللمفسرين فيه وجوه: أحسنها ما ذكره السيد صاحب حل العقد أنه على طريق المعنى. فإن النهي يدل على المؤاخذة بارتكاب المنهي عنه فكأنه قيل: أنتم مؤاخذون بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف قبل نزول آية التحريم فإنه معفوّ عنه. وقال في الكشاف: هذا كما استثنى «غير أن سيوفهم» من قوله: «ولا عيب فيهم» يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فإنه لا يحل لكم غيره وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه كقوله: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: 40] وقولهم: حتى يبيض القار. وقيل: استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل. والمعنى لكن ما قد سلف فإن الله قد تجاوز عنه. وقيل: «إلا» بمعنى «بعد» كقوله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] أي بعد موتتهم الأولى. وقيل: إلا ما قد سلف فإنكم مقرّون عليه. قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن وإنما فعل ذلك ليكون صرفهم عن هذه العادة على سبيل التدريج. وزيف؟؟؟ بعضهم هذا القول وقال ما أقرّ أحدا على نكاح امرأة أبيه وإن كان في الجاهلية. وروي أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بردة إلى رجل عرّس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله إنه أي إن هذا النكاح كان قبل النهي فاحشة، أعلم الله تعالى أن هذا الفعل كان أبدا ممقوتا عند العرب، وهذا النكاح بعد النهي فاحشة في الإسلام لأنه كان في علم الله وحكمه موصوفا بهذا الوصف، والمقت عبارة عن بغض مقرون باستحقار. حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه، وهو من الله تعالى في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار. قال بعضهم: مراتب القبح ثلاث: في العقول وفي الشرع وفي العادة. فالفاحشة إشارة إلى القبح العقلي لأن زوجة الأب تشبه الأم، والمقت إشارة إلى القبح الشرعي. وَساءَ سَبِيلًا إشارة إلى القبح العادي وساء فعل ذم وفاعله ضمير مبهم يفسره المنصوب بعده والله تعالى أعلم. التأويل: الوراثة الدينية أيضا سبب ونسب. فالسبب هو الإرادة بلبس خرقة المشايخ والتشبه بهم، والنسب هو الصحبة معهم بالتسليم لتصرفات ولايتهم ظاهرا وباطنا مستسلما لأحكام التسليل والتربية ليتولد السالك بالنشأة الثانية من صلب ولايتهم. ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم:   (1) رواه ابن ماجه في كتاب النكاح باب 63. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 «الأنبياء إخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد» «1» وإنما يتوارث أهل الدين على قدر تعلقاتهم السببية والنسبية والذكورة والأنوثة في الجدّ والاجتهاد وحسن الاستعداد وبتوارثهم العلوم الدينية واللدنية كقوله صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء» «2» وقول موسى للخضر هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف: 66] . وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ هي النفوس الأمارات بالسوء فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي من خواص العناصر الأربعة التي أنتم منها مركبون وهي التراب ومن خواصه الخسة والذلة، والماء ومن خواصه اللين والأنوثة والشره، والهواء ومن خواصه الحرص والحسد والبخل والشهوة، والنار ومن خواصها الكبر والغضب وحب الرياسة فَإِنْ شَهِدُوا بأن يظهر بعض هذه الصفات من النفوس فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ في سجن الدينا وأغلقوا عليهن أبواب الحواس الخمس حتى تموت النفس بالانقطاع عن حظوظها دون حقوقها أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بانفتاح روزنة القلوب إلى عالم الغيب وَالَّذانِ يَأْتِيانِها أي النفس والقالب يأتيان من الفواحش ظاهرا في الأعمال وباطنا في الأحوال والأخلاق فَآذُوهُما ظاهرا بالحدود وباطنا بالرياضات وترك الحظوظ فَأَعْرِضُوا عَنْهُما باللطف بعد العنف، وباليسر بعد العسر. بِجَهالَةٍ أي بصفة الجهولية وهي داخلة في الظلومية لأن الظلومية تقتضي المعصية والإصرار عليها، والجهولية تقتضي المعصية فحسب. فالعمل السوء إذا كان مصدره الجهولية فحسب يكون على عقيبه التوبة كما قال: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ أي عقيب المعصية. قال عليه السلام: «أتبع السيئة الحسنة تمحها» «3» والحسنة التوبة. ويحتمل أن يقال: من قريب أي قبل أن يموت القلب بالإصرار فإن الله لا يقبل التوبة من قلب ميت لأنها تكون اضطرارية باللسان لا اختيارية بالجنان وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ فيه إشارة إلى النهي عن التصرف في السفليات التي هي الأمهات المتصرف فيها آباؤكم العلوية إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ من التدبير الإلهي في ازدواج الأرواح لضرورة اكتساب الكمالات، فإن الركون إلى العالم السفلي يوجب مقت الحق والله أعلم. تم الجزء الرابع، ويليه الجزء الخامس أوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ..   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 48. مسلم في كتاب الفضائل حديث 143، 144. أبو داود في كتاب السنّة باب 13. (2) رواه البخاري في كتاب العلم باب 10. أبو داود في كتاب العلم باب 1. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 17. الدارمي في كتاب المقدمة باب 32. أحمد في مسنده (5/ 196) . (3) رواه الترمذي في كتاب البر باب 55. الدارمي في كتاب الرقاق باب 74. أحمد في مسنده (5/ 153، 228) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 (بسم الله الرحمن الرحيم) الجزء الخامس من أجزاء القرآن الكريم [سورة النساء (4) : الآيات 23 الى 30] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) القراآت: وَالْمُحْصَناتُ في كل القرآن بكسر الصاد إلّا قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ على الباقون بالفتح. وَأُحِلَّ مبنيا للمفعول: يزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون: مبنيا للفاعل. أُحْصِنَّ بفتح الهمزة والصاد: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. الباقون: أُحْصِنَّ بضم الهمزة وكسر الصاد. تِجارَةً بالنصب: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. الباقون: بالرفع. الوقوف: دَخَلْتُمْ بِهِنَّ الأولى (ز) لابتداء الشرط مع اتحاد المقصود فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ (ز) لذلك فإن جملة الشرط معترضة أَصْلابِكُمْ (لا) للعطف سَلَفَ (ط) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 رَحِيماً (هـ) لا للعطف أَيْمانُكُمْ (ج) لأن كِتابَ اللَّهِ يحتمل أن يكون مصدر التحريم لأنه في معنى الكتابة، ويحتمل أن يكون مصدر محذوف أي كتب الله كتابا، والأحسن أن يكون مفعولا له أي حرمت لكتاب الله. من قرأ وَأُحِلَّ بالفتح لم يحسن الوقف له على عَلَيْكُمْ للعطف على «كتب» ، ومن قرأ وَأُحِلَّ بالضم عطفا على حُرِّمَتْ جاز له الوقف لطول الكلام. مُسافِحِينَ (ط) لابتداء حكم المتعة. فَرِيضَةً (ط) الْفَرِيضَةِ (هـ) حَكِيماً (هـ) فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ (ط) بِإِيمانِكُمْ (ط) مِنْ بَعْضٍ (ج) لعطف المختلفين أَخْدانٍ (ج) لذلك مِنَ الْعَذابِ (ط) الْعَنَتَ مِنْكُمْ (ط) خَيْرٌ لَكُمْ (ط) رَحِيمٌ (هـ) وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ (ط) حَكِيمٌ (هـ) عَظِيماً (هـ) يُخَفِّفَ عَنْكُمْ (ج) لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى أي يخفف لضعفكم ضَعِيفاً (هـ) أَنْفُسَكُمْ (ط) رَحِيماً (هـ) ناراً (ط) يَسِيراً (هـ) . التفسير: إنه سبحانه نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النسوان، سبعة من جهة النسب: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وسبعة أخرى لا من جهة النسب: الأمهات من الرضاعة، والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء، وبنات النساء بشرط الدخول بالنساء، وأزواج الأبناء والآباء- وهذه في الآية المتقدمة- والجمع بين الأختين، والمحصنات من النساء. وذهب الكرخي إلى أن هذه الآية مجملة لأنه أضيف التحريم فيها إلى الأمهات والبنات، والتحريم لا يمكن إضافته إلى الأعيان وإنما يمكن إضافته إلى الأفعال وذلك غير مذكور في الآية، فليست إضافة هذا التحريم إلى بعض الأفعال التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات أولى من بعض وهذا معنى الإجمال. والجواب من المعلوم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن المراد منه تحريم نكاحهن لا سيما وقد تقدم قوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلّا لإحدى خصال ثلاث» «1» فإنه لا يشتبه أن المراد لا يحل إراقة دمه. ثم إنّ قوله: حُرِّمَتْ إنشاء للتحريم كقول القائل «بعت» أو «طلقت» لا إخبار عن التحريم في الزمان الماضي ولا يشتبه أن المحرم هو الله تعالى كقوله: بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ [العاديات: 9، 10] والخطاب لأولئك الحاضرين بالذات ولمن عداهم من الأمة بالتبعية. والأصل في كل حكم هو الاستمرار والتأبيد ما لم ينسخه ناسخ، والقرينة   (1) رواه البخاري في كتاب الديات باب مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15. النسائي في كتاب التحريم باب 5، 11. الدارمي في كتاب السير باب 11. أحمد في مسنده (1/ 61، 70) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 تدل على أن المراد أنه تعالى حرم على كل أحد أمه خاصة وبنته خاصة. واعلم أنّ حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمان آدم إلى هذا الزمان، ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان، بل إن زرادشت نبي المجوس بزعمهم قال بحله إلّا أن أكثر المسلمين اتفقوا على أنه كان كذابا. أما نكاح الأخوات فقد نقل أن ذلك كان مباحا في زمان آدم عليه السلام وذلك للضرورة، وبعض المسلمين ينكره ويقول: إنه تعالى بعث الحور من الجنة حتى تزوج بهن أبناء آدم، ويرد عليه أنّ هذا النسل حينئذ لا يكون محض أولاد آدم وذلك بالإجماع باطل. قال العلماء: السبب في تحريم الأمهات والبنات أن الوطء إذلال وإهانة فلا يليق بالأصل والجزء. والأمهات جمع الأم والهاء زائدة. ووزن أم «فعل» أو أصلية ووزنه «فع» . وقد يجيء جمعه على «أمات» وقد يقال الأمهات للإنسان، والأمات لغيره. وكل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمك بدرجة أو درجات بإناث رجعت إليها أو بذكور فهي أمك. ولا شك أن لفظ الأم حقيقة في التي ولدتك، أما في الجدة فيحتمل أن يكون حقيقة أيضا وحينئذ يكون اللفظ متواطئا فيها إن كان موضوعا بإزاء قدر مشترك بينهما، وتكون الآية نصا في تحريمها أو يكون مشتركا بينهما. وحينئذ إن جوز استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهوميه فالآية نص في تحريمها أيضا وإلّا فطريقان: أحدهما أن تحريم الجدات مستفاد من الإجماع، والثاني أنه تعالى تكلم بهذه الآية مرتين لكل من المفهومين. وكذا الكلام إن قلنا إنّ الأم حقيقة في الوالدة مجاز في الجدات. قال الشافعي: إذا تزوج الرجل بأمه ودخل بها يلزمه الحد. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه. حجة الشافعي أن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة لكونه محرّما قطعا في حكم الشرع فيكون وطؤها زنا محضا. الصنف الثاني من المحرمات البنات ويراد بهن كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات بإناث أو بذكور. والكلام في أن إطلاق لفظ البنت على بنت الابن وبنت البنت حقيقة أو مجاز كما مر في الأمهات. قال أبو حنيفة: البنت المخلوقة من ماء الزنا تحرم على الزاني. وقال الشافعي: لا تحرم لأنها ليست بنتا له شرعا لقوله صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش» وهذا يقتضي حصر النسب في الفراش، ولأنها لو كانت بنتا له لأخذت الميراث ولثبت له ولاية الإجبار عليها، ولوجب عليه نفقتها وحضانتها، ولحل الخلوة بها، لكن التوالي باطلة بالاتفاق فكذا المقدم. وأيضا إنّ أبا حنيفة إما أن يثبت كونها بنتا له على الحقيقة وهي كونها مخلوقة من مائه، أو بناء على حكم الشرع والأول باطل على مذهبه طردا وعكسا. أما الطرد فهو أنه إذا اشترى جارية بكرا وافتضها وحبسها في داره إلى أن تلد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 فهذا الولد معلوم أنه مخلوق من مائه قطعا مع أنه لا يثبت نسبه إلّا عند الاستلحاق، وأما العكس فهو أن المشرقي إذا تزوج بالمغربية وحصل هناك ولد فإنه يثبت النسب مع القطع بأنه غير مخلوق من مائه. والثاني أيضا باطل بإجماع المسلمين على أنه لا نسب لولد الزاني من الزاني، ولو انتسب إليه وجب على القاضي منعه. الصنف الثالث: الأخوات ويشمل الأخوات من الأب والأم، ومن الأب فقط، ومن الأم فقط. الصنف الرابع والخامس العمات والخالات. قال الواحدي: كل ذكر رجع نسبك إليه فأخته عمتك. وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أبي أمك، وكل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة فأختها خالتك. وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك، ولا تحرم أولاد العمات وأولاد الخالات. الصنف السادس والسابع: بنات الأخ وبنات الأخت، والقول فيهما كالقول في بنت الصلب. الثامن والتاسع: قوله: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ سمى المرضعات أمهات تفخيما لشأنهن كما سمى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لحرمتهن. وليس قوله: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ كقول القائل: وأمهاتكم اللاتي كسونكم أو أطعمنكم. وإلّا كان تكرارا لقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ بل المراد أن الرضاع هو الذي تستحق هي بسببه الأمومة ويعلم من تسمية المرضعة. أما والراضعة أختا إنه أجرى الرضاع مجرى النسب لأن المحرمات بسبب النسب سبع: اثنتان بالولادة وهما الأمهات والبنات، والباقية بطريق الإخوة وهن الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، فذكر من كل واحد من القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي منهما. فذكر من قسم الولادة الأمهات، ومن قسم الإخوة الأخوات. ثم إنه صلى الله عليه وسلم أكد هذا البيان بصريح قوله: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «1» فصار صريح الحديث مطابقا لمفهوم الآية. وهذا بيان لطيف فأمك من الرضاع كل أنثى أرضعتك، أو أرضعت من أرضعتك، أو أرضعت من ولدك من الآباء والأمهات، أو ولدت المرضعة، أو الفحل الذي منه اللبن بواسطة أو بغير واسطة. وبنتك من الرضاع كل أنثى أرضعت بلبنك، أو أرضعت بلبن من ولدت من الأبناء أو البنات. وأختك من الرضاع كل أنثى أرضعتها أمك أو أرضعت بلبن أبيك، أو ولدتها المرضعة أو الفحل الذي در لبنه على المرضعة. وعمتك كل أنثى من الرضاع من جهة الأب، وكل أنثى أرضعت بلبن واحد من أجدادك، أو كانت أخت الفحل الذي أرضعت   (1) رواه البخاري في كتاب الشهادات باب 7. مسلم في كتاب الرضاع حديث 1، 2. أبو داود في كتاب النكاح باب 6. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 34. الدارمي في كتاب النكاح باب 48. الموطأ في كتاب الرضاع حديث 1، 2، 16. أحمد في مسنده (1/ 275، 290) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 بلبنه. ومن جهة الأم كل أنثى هي أخت ذكر أرضعت أمك بلبنه بواسطة أو بغير واسطة. وخالتك من الرضاع من جهة الأم كل أنثى هي أخت أمك من الرضاع، أو أخت من أرضعتك من النسب أو الرضاع. ومن جهة الأب كل أنثى هي أخت أنثى أرضعت أباك من الرضاع أو النسب. وبنات الإخوة والأخوات من الرضاع كل أنثى ولدها ابن مرضعتك أو بنتها أو ولدها ابن الفحل الذي منه اللبن، أو بنته من الرضاع أو النسب، أو أرضعتها أختك أو أرضعت بلبن أخيك. وكذلك حكم بنات أولاد من أرضعته أختك أو أرضعت بلبن أخيك من الرضاع أو النسب، وكذلك بنات من أرضعته أمك أو أرضع بلبن أبيك وبنات أولادهما من الرضاع أو النسب. والرضاع المحرّم قد يسبق النكاح فيمنع انعقاده، وقد يطرأ عليه فيقطعه. وللرضاع أركان: أحدها المرضع ويجب أن تكون امرأة. فلبن البهيمة لا يثبت تحريما بين الذكر والأنثى للذين شربا منه وكذا لبن الرجل، وأن تكون حية. وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد يتعلق بلبن الميتة التحريم، وأن تكون محتملة للولادة بأن بلغت تسع سنين. وثانيها اللبن ويتعلق به التحريم ولو تغيّر بحموضة أو انعقاد أو إغلاء أو اتخذ منه جبن أو زبد أو مخيض أو أقط أو ثرد فيه طعام أو عجن به دقيق وخبز أو خلط بمائع حلال أو حرام. وثالثها المحل وهو معدة الصبي الحي فلا أثر للحقنة، ولا بعد الحولين الهلاليين، ولا للوصول إلى معدة الصبي الميت. ولا بد مع ذلك من خمس رضعات لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحرم المصة والمصتان ولا الرضعة والرضعتان» «1» ، ولما روت عائشة «خمس رضعات يحرّمن» «2» وعند أبي حنيفة: الرضعة الواحدة كافية. الصنف العاشر قوله: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ويدخل فيه الجدات من قبل الأب والأم. الحادي عشر وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ والربائب جمع ربيبة وهي بنت امرأة الرجل من غيره، ومعناها مربوبة لأنّ الرجل يربها. والحجور جمع حجر بالفتح والكسر. وكونها في حجره عبارة عن تربيته وهو بناء للكلام على الغالب ومثله هو في حضانة فلان وأصله من الحضن الذي هو الإبط. وقال أبو عبيد: في حجوركم أي في بيوتكم. وعن علي عليه السلام أنه جعل كونها ربيبة له وكونها في حجره شرطا في التحريم وهو استدلال حسن. وأما سائر العلماء فذهبوا إلى   (1) رواه مسلم في كتاب الرضاع حديث 17، 20، 23. أبو داود في كتاب النكاح باب 10. الترمذي في كتاب الرضاع باب 3. النسائي في كتاب النكاح باب 51. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 35. الدارمي في كتاب النكاح باب 49. أحمد في مسنده (4/ 4، 5، 31) . (2) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 9، 10. الموطأ في كتاب الرضاع حديث 13. أحمد في مسنده (6/ 1، 20، 255) . بلفظ «.. فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة» . [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 أنّ الكلام أخرج مخرج الأعم الأغلب، وأنه إذا دخل بالمرأة حرمت ابنتها عليه سواء كانت في تربيته أو لم تكن. أما اشتراط الدخول بأمها فلقوله: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وهو متعلق بربائبكم كما تقول: بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة. وأما عدم اشتراط التربية فلقوله: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ علق رفع الجناح بمجرد عدم الدخول، وهذا يقتضي أن السبب لحصول الجناح هو مجرد الدخول. وذهب جمع من الصحابة أن أم المرأة إنما تحرم بالدخول بالبنت كما أن الربيبة إنما تحرم بالدخول بأمها وهو قول علي وزيد وابن عمر وابن الزبير وجابر وأظهر الروايات عن ابن عباس. وحجتهم أنه تعالى ذكر جملتين وهو قوله: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ثم ذكر شرطا وهو قوله: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فوجب أن يكون ذلك الشرط معتبرا في الجملتين معا. وأما الأكثرون من الصحابة والتابعين فعلى أن قوله: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ جملة مستقلة بنفسها ولم يدل دليل على عود ذلك الشرط إليه إذ الظاهر تعلق الشرط بالثانية، وإذا تعلق الشرط بالثانية أو تعلق بإحدى الجملتين فلا حاجة إلى تعليقه بأخرى. وأيضا عود الشرط إلى الجملة الأولى وحدها باطل بالإجماع وكذا عوده إليهما معا، لأنّ معنى «من» مع الأولى البيان، ومعناها مع الثانية ابتداء الغاية، واستعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا غير جائز. نعم لو جعل «من» للاتصال كقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] أمكن اعتبار الاتصال في النساء والربائب معا، فأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهن أمهاتهن، كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن لأنهن بناتهن. إلّا أن هذا التفسير فيه خلل من جهة اللفظ ومن جهة المعنى. أما اللفظ فلأن قوله: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وكذا ربائبكم يكون حينئذ مبتدأ وقوله مِنْ نِسائِكُمُ خبرا ويقع بين المعطوفات فاصلة لأن قوله: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ وما بعده معطوف على فاعل حُرِّمَتْ. وأما من جهة المعنى فلأن الحكم بالاتصال والاتحاد يقتضي التحليل لا التحريم ظاهرا. ومما يدل على أن الجملة الأولى مرسلة ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا نكح الرجل امرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل، وإذا تزوج بالأم فلم يدخل بها ثم طلّقها فإن شاء تزوّج البنت» «1» وكان عبد الله بن مسعود يفتي بنكاح أم المرأة إذا طلق بنتها قبل المسيس وهو يومئذ بالكوفة. فاتفق أن ذهب إلى المدينة فصادفهم مجمعين على خلاف فتواه، فلما رجع إلى الكوفة لم يدخل داره حتى ذهب إلى ذلك الرجل وقرع عليه الباب وأمره بالنزول عن تلك المرأة. وعن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت   (1) رواه الترمذي في كتاب النكاح باب 25. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 قال: إنّ الرجل إذا طلق امرأته قبل الدخول وأراد أن يتزوج أمها فله ذلك، وإن ماتت عنده لم يتزوّج أمها أقام الموت مقام الدخول في التحريم كما قام مقامه في باب المهر. والدخول بهن كناية عن الجماع كقولهم: بنى عليها أو ضرب عليها الحجاب. يعني أدخلتموهن الستر، والباء للتعدية. وقد تقدم أن الخلوة الصحيحة عند أبي حنيفة تقوم مقام الدخول في التحريم. وقد تمسك أبوبكر الرازي بالآية في إثبات أن الزنى يوجب حرمة المصاهرة. قال: لأنّ الدخول بها اسم لمطلق الوطء من نكاح كان أو سفاح. ورد بأنّ تقديم قوله: مِنْ نِسائِكُمُ يوجب تخصيص الوطء بالحلال. الصنف الثاني عشر وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ فيخرج المتبنى وكان في صدر الإسلام بمنزلة الابن إلى أن نزل: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الأحزاب: 37] وحكم الابن من الرضاع حكم الابن من النسب في تحريم حليلته على أبيه لقوله صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «1» وإن كان ظاهر قوله: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وظاهر قوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ يقتضي الحل فههنا قد تخصص عموم القرآن بخبر الواحد. واتفقوا على أنّ حرمة التزوّج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد ولا تتوقف الحرمة على الدخول. وما روي عن ابن عباس أنه قال: أبهموا ما أبهم الله أراد به التأبيد. ألا ترى أنه قال في السبع المحرّمات من جهة النسب إنها من المبهمات أي من اللواتي تثبت حرمتهن على التأبيد؟ واتفقوا أيضا على تحريم حليلة ولد الولد على الجد. أما جارية الابن فقد قال أبو حنيفة: يجوز للأب أن يتزوّج بها. وقال الشافعي: لا يجوز لأنّ الحليلة فعيلة إما بمعنى المفعول من الحل أي المحللة، أو من الحلول بمعنى أن السيد يحل فيها، وإما بمعنى الفاعل لأنهما يحلّان في لحاف واحد، أو يحل كل واحد منهما في قلب صاحبه لما بينهما من الإلفة والمودّة. وعلى التقادير يصدق على جارية الابن أنها حليلته كما يصدق على زوجته أنها حليلته فتناولها الحرمة بالآية. الصنف الثالث عشر وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أي حرمت عليكم الجمع بينهما والتأنيث للتغليب أو للاكتساب أو بتأويل الخصلة. ويمكن أن يقال: الواو نائب عن الفعل المطلق من غير اعتبار تذكيره أو تأنيثه، والجمع يكون إما بالنكاح أو بالملك أو بهما. أما النكاح فلو عقد عليهما معا فنكاحهما باطل، وعلى الترتيب بطل الثاني   (1) رواه البخاري في كتاب الشهادات باب 7. مسلم في كتاب الرضاع حديث 1، 2. أبو داود في كتاب النكاح باب 6. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 34. الدارمي في كتاب النكاح باب 48. الموطأ في كتاب الرضاع حديث 1، 2، 16. أحمد في مسنده (1/ 275، 290) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 لأنّ الدفع أسهل من الرفع، وأما الجمع بينهما بملك اليمين أو بأن ينكح إحداهما ويشتري الأخرى فقد اختلف الصحابة فيه فقال علي وعمرو بن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر: لا يجوز الجمع بينهما لإطلاق الآية، ولأنه لو لجاز الجمع بينهما في الملك لجاز وطؤهما معا لقوله تعالى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: 6] ولأن الأصل في الإبضاع الحرمة، فلو سلم أن الآية تدل على الجواز فالأحوط جانب الترك. وأما سائر الصحابة والفقهاء فقد قالوا: النهي وارد عن نكاحهما، فلو جمع بينهما في الملك جاز إلّا أنه إذا وطئ إحداهما حرّم وطء الثانية عليه، ولا تزول هذه الحرمة ما لم يزل ملكه عن الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة أو تزويج. قال أبو حنيفة هاهنا: لا يجوز نكاح الأخت في عدّة الأخت البائن لأنّ النكاح الأول كأنه باق بدليل وجوب العدة ولزوم النفقة. وقال الشافعي: يجوز لأن نكاح المطلّقة زائل بدليل لزوم الحد بوطئها. وأما وجوب العدة ولزوم النفقة فنقول: متى حصل النكاح حصلت القدرة على حبسها، ولا يلزم من حصول القدرة على حبسها حصول النكاح لأنّ استثناء عين التالي لا ينتج. وإذا أسلم الكافر وتحته أختان فقد قال الشافعي: اختار أيتهما شاء وفارق الأخرى سواء تزوّج بهما معا أو على الترتيب، لأنّ الكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الشرائع في أحكام الدنيا إذا لا يتصوّر تكليفه بالفروع ما دام كافرا. نعم يعاقب بترك الفروع في الآخرة كما يعاقب على ترك الإسلام. ومما يؤيّد قول الشافعي ما روي أن فيروزا الديلي أسلم على ثمان نسوة فقال صلى الله عليه وسلم: اختر منهن أربعا وفارق سائرهن أطلق ولم يتفحص عن الترتيب. وقال أبو حنيفة: إن تزوّج بهما معا تركهما أو على الترتيب فارق الثانية، لأنّ الخطاب في قوله: وَأَنْ تَجْمَعُوا عام فيتناول المؤمن والكافر فخالف أصليه حيث جعل النهي دالا على الفساد، والكافر مخاطبا بالفروع. ومما يدل على أن الخطاب بالفروع لا يظهر أثر في حق الكافر في الأحكام الدنيوية الإجماع على أنه لو تزوج بغير وليّ وشهود أو على سبيل القهر والغصب فبعد الإسلام يقرّر ذلك النكاح، أما قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فمعناه أن ما مضى مغفور بدليل قوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وقد مرّ نظيره. واعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحق بالأختين جميع المحارم حيث قال: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» «1» وضبط العلماء ذلك بأنّ كل شخصين بينهما قرابة أو رضاع   (1) رواه البخاري في كتاب النكاح باب 27. مسلم في كتاب النكاح حديث 37- 39. أبو داود في كتاب النكاح باب 12. الترمذي في كتاب النكاح باب 3. النسائي في كتاب النكاح باب 31. الدارمي في كتاب النكاح باب 8. أحمد في مسنده (1/ 78، 373) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 لو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى حرّم النكاح بينهما فلا يجوز الجمع بينهما. فيحرم الجمع بين المرأة وبنت أخيها وبنات أولاد أخيها، وكذلك بين المرأة وبنت أختها وبنات أولاد أختها سواء كانت العمومة والخئولة من النسب أو الرضاع. ولا يحرم نكاح المرأة وأم زوجها، ولا نكاح المرأة وبنت زوجها لأنه لا توجد الحرمة على تقدير ذكورة كل واحدة منهما، وإنما توجد على تقدير ذكورة أم الزوج أو بنته فقط لمكان المصاهرة حينئذ بخلاف ما لو فرضت المرأة ذكرا فإنه لا يكون بينهما قرابة ولا رضاع. وقد يضبط تحريم الجمع بعبارتين أخريين: إحداهما يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة أو رضاع يقتضي المحرمية، والثانية يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما وصلة قرابة أو رضاع لو كانت تلك الوصلة بينك وبين امرأة لحرمت عليك. الصنف الرابع عشر وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ وقد ورد الإحصان في القرآن بمعان: أحدها الحرية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النور: 4] وثانيها العفة مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ أحصنت فرجها. وثالثها الإسلام فَإِذا أُحْصِنَّ قيل في تفسيره إذا أسلمن. ورابعها كونها ذات زوج وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ أي ذوات الأزواج منهن. والوجوه كلها مشتركة في أصل المعنى اللغوي وهو المنع. يقال: مدينة حصينة ودرع حصينة مانعة صاحبها من الآفات والجراحات. والحرية سبب لمنع الإنسان من نفاذ حكم الغير فيه، والعفة مانعة من ارتكاب المناهي، وكذا الإسلام والزوج مانع لزوجته من كثير من الأمور، والزوجة مانعة للزوج من الوقوع في الزنا. قرىء بكسر الصاد لأنهن أحصن فروجهن بالتزوج. ومعنى قوله: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أن اللاتي سبين ولهن أزواج في دار الكفر فهن حلال لغزاة المسلمين وهكذا إذا سبى الزوجان معا خلافا لأبي حنيفة قياسا على شراء الأمة واتهابها وارثها فإن كلا منها لا يوجب الفرقة. وأجيب بأنّ الحاصل عند السبي إحداث الملك فيها، وعند البيع نقل الملك من شخص إلى شخص، والأول أقوى فظهر الفرق. وقيل: المعنى أن ذوات الأزواج حرام عليكم إلّا إذا ملكتموهن بنكاح جديد بعد وقوع الفراق بينهن وبين أزواجهنّ. وقيل: المحصنات الحرائر. والمعنى حرمت عليكم الحرائر إلّا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع، أو إلّا ما أثبت الله لكم ملكا عليهن لحصول الشرائط المعتبرة من حضور الولي والشهود وغير ذلك، والقول هو الأول لما روي عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فاستحللناهن. ثم أكد تحريم المذكورات بقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: يحتمل أن يكون منصوبا باسم فعل ويكون عَلَيْكُمْ مفسرا له أي الزموا كتاب الله. وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أي ما وراء هذه المذكورات سواء كن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 مذكورات بالقول الصريح أو بدلالة جلية أو خفية أو ببيان النبي صلى الله عليه وسلم كما قلنا في تحريم الجمع بين الأختين وغيرهما. وقد دخل بعد هذه العناية في الآية تخصيصات أخر منها: أنّ المطلقة ثلاثا لا تحل ودليل ذلك قوله: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] ومنها الحربية والمرتدة بدليل قوله: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: 221] ومنها المعتدة بدليل قوله وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [البقرة: 228] ومنها أن من في نكاحه حرة لم يجز له أن ينكح أمة بالاتفاق. وعند الشافعي القادر على طول الحرة لا يجوز له نكاح الأمة بدليل وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا ومنها الخامسة بدليل مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النساء: 3] ومنها الملاعنة لقوله صلى الله عليه وسلم: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا» . وقوله: أَنْ تَبْتَغُوا مفعول له أي بين لكم ما يحل مما يحرم إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم في حال كونكم محصنين لا في حال كونكم مسافحين، لئلّا تضيّعوا أموالكم التي جعل الله لكم قياما فيما لا يحل لكم فتخسروا دنياكم ودينكم. ويجوز أن يكون تَبْتَغُوا بدلا من ما وَراءَ ذلِكُمْ ومفعول تَبْتَغُوا مقدر وهو النساء. والأجود أن لا يقدر لأنّه مفهوم من سوق الكلام وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم. ومعنى محصنين متعففين عن الزنا وسمي الزنا سفاحا لأنّه لا غرض للزاني إلّا سفح النطفة أي صبّها. قال أبو حنيفة: لا يجوز المهر بأقل من عشرة دراهم لأنّه تعالى قيد التحليل بالابتغاء بالأموال والدرهم والدرهمان لا يسمى أموالا. وقال الشافعي: يجوز بالقليل والكثير لأنّ قوله: بِأَمْوالِكُمْ مقابلة الجمع بالجمع فيقتضي توزع الفرد على الفرد، فيتمكن كل واحد من ابتغاء النكاح بما يسمى مالا، والقليل والكثير في هذه الحقيقة سواء. وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أعطى امرأة في نكاح كف دقيق أو سويق فقد استحل» وقال أبو حنيفة: لو تزوّج بها على تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهرا ولها مهر مثلها، لأنّ الابتغاء بالمال شرط والمال اسم للأعيان لا للمنافع، وكذا قوله وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ [النساء: 4] والإيتاء والأكل من صفة الأعيان. ولو تزوّج امرأة على خدمة سنة وإن كان حرا فلها مهر مثلها، وإن كان عبدا فلها خدمة سنة. وقال الشافعي: الآية تدل على أن الابتغاء بالمال جائز وليس فيه أن الابتغاء بغيره جائز أو لا. وأيضا قد خرج الخطاب مخرج الأعم الأغلب فلا يدل على نفي ما سواه. ومما يدل على جواز جعل المنفعة صداقا قوله تعالى في قصة شعيب عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ [القصص: 27] والأصل في شرع من قبلنا البقاء إلى أن يظهر الناسخ. وأيضا التي وهبت نفسها لما لم يجد الرجل الذي أراد التزوّج بها شيئا قال صلى الله عليه وسلم: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم، سورة كذا وكذا. فقال: زوّجتكها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 بما معك من القرآن. ومنه يعلم جواز عتق الأمة صداقا لها لا سيما وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها وكونه من خواصه ممنوع. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ أي فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو عقد عليهن أو خلوة صحيحة عند أبي حنيفة فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي عليه فأسقط الراجع للعلم به. ويجوز أن يراد بما النساء «ومن» للتبعيض أو البيان لا لابتداء الاستمتاع، ويكون رجوع الضمير إليه في بِهِ على اللفظ وفي فَآتُوهُنَّ على المعنى. والأجور المهور لأنّ المهر ثواب على البضع كما يسمى بدل منافع الدار والدابة أجرا. وفَرِيضَةً حال من الأجور بمعنى مفروضة، أو أقيمت مقام إيتاء لأنّ الإيتاء مفروض، أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة. ولا يخفى أنه إن استمتع بها بدخول بها يجب تمام المهر، وإن استمتع بعقد النكاح فقط فالأجر نصف المهر. قال أكثر علماء الأمة: إنّ الآية في النكاح المؤبد. وقيل: المراد بها حكم المتعة وهي أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معلوم ليجامعها، سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها. واتفقوا على أنها كانت مباحة في أول الإسلام، ثم السواد الأعظم من الأمة على أنها صارت منسوخة. وذهب الباقون ومنهم الشيعة إلى أنها ثابتة كما كانت، ويروى هذا عن ابن عباس وعمران بن الحصين. قال عمارة: سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح؟ قال: لا سفاح ولا نكاح. قلت: فما هي؟ قال: هي متعة كما يقال. قال: قلت هل لها عدة؟ قال: نعم، عدّتها حيضة. قلت: هل يتوارثان؟ قال: لا. وفي رواية أخرى عنه أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس في المتعة قال: قاتلهم الله إني ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق لكني قلت: إنها تحل للمضطر كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير له، ويروى أنه رجع عن ذلك عند موته وقال: اللهم إني أتوب إليك من قولي في الصرف والمتعة. وأما عمران بن الحصين فإنه قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله ولم ينزل بعدها آية تنسخها وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه ومات ولم ينهنا عنها، ثم قال رجل برأيه ما شاء- يريد أن عمر نهى عنها- وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي أنه قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا شقي. حجة الجمهور على حرمة المتعة أنّ الوطء لا يحل إلّا في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: 6] وهذه المرأة ليست بمملوكة ولا بزوجة وإلّا لحصل التوارث ولثبت النسب ولوجبت العدة عليها بالأشهر والتوالي باطلة بأسرها بالاتفاق. وروي عن عمر أنه نهى عن المتعة على المنبر بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم، فلو سكتوا لعلمهم بحرمتها فذاك، ولو سكتوا لجهلهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 بحلها وحرمتها فمحال عادة لشدة احتياجهم إلى البحث عن أمور النكاح، ولو سكتوا مع علمهم بحلها فإخفاء الحق مداهنة وكفر وبدعة وذلك محال منهم. وما روي عن عمر أنه قال: لا أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلّا رجمته. ثم إنّ الصحابة لم ينكروا عليه مع أنّ الرجم لا يجوز في المتعة فلعله ذكر ذلك على سبيل التهديد والسياسة ومثل ذلك جائز للإمام عند المصلحة. ألا ترى أنه قال صلى الله عليه وسلم: «من منع منا الزكاة فإنا آخذوها منه وشطر ماله» «1» مع أن أخذ شطر المال من مانعي الزكاة غير جائز إلّا للسياسة. وروى الواحدي في البسيط عن مالك عن الزهري عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. قال: وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو قائم بين الركن والمقام مسند ظهره إلى الكعبة يقول: يا أيها الناس إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء، ألا وإن الله قد حرمه عليكم إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا. القائلون بإباحة المتعة قالوا: الابتغاء بالأموال يتناول الاستمتاع بالمرأة على سبيل التأبيد وعلى سبيل التوقيت، بل الآية مقصورة على نكاح المتعة لما روي أن أبي بن كعب كان يقرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن وبه قرأ ابن عباس أيضا، والصحابة ما أنكروا عليهما فكان إجماعا. وأيضا أمر بإيتاء الأجور لمجرد الاستمتاع أي التلذذ وهذا في المتعة، وأما في النكاح المطلق فيلزم الأجر بالعقد. وأيضا قال في أول السورة: فَانْكِحُوا [النساء: 3] فناسب أن تحمل هذه الآية على نكاح المتعة لئلا يلزم التكرار في سورة واحدة، والحمل على حكم جديد أولى. ومما يدل على ثبوت المتعة ما جاء في الروايات أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. وأكثر الروايات أنه صلى الله عليه وسلم أباح المتعة في حجة الوداع وفي يوم الفتح. وذلك أنّ أصحابه شكوا إليه يومئذ طول العزوبة فقال: استمتعوا من هذه النساء. وقول من قال إنه حصل التحليل مرارا والنسخ مرارا ضعيف لم يقل به أحد من المعتبرين إلّا الذين أرادوا إزالة التناقض عن هذه الروايات. ونهي عمر يدل على أنه كان ثابتا في عهد الرسول، وما كان ثابتا في عهده لم يمكن نسخه بقول عمر كما أشار إليه عمران بن الحصين. وأجيب بأنّ المراد من قول عمر «وأنا أنهي عنها» أنه قد ثبت عندي نسخها في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم وقد سلموا له ذلك فكان إجماعا. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ الذين حملوا الآية على بيان   (1) رواه النسائي في كتاب الزكاة باب 7. أحمد في مسنده (5/ 2، 4) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 حكم النكاح قالوا: المراد أنه إذا كان المهر مقدّرا بمقدار معين فلا حرج في أن تحط عنه شيئا أو تبرّئه عنه بالكلية كقوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ [النساء: 4] وقال الزجاج: لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للزوج مهرها أو يهب الزوج للمرأة تمام المهر، إذا طلّقها قبل الدخول. قال أبو حنيفة: إلحاق الزيادة بالصداق جائز لأنّ التراضي قد يقع على الزيادة وقد يقع على النقصان وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها، أما إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة وكان لها نصف المسمى في العقد. وقال الشافعي: الزيادة بمنزلة الهبة. فإن أقبضها ملكته بالقبض وإن لم يقبضها بطلت، والدليل على بطلان هذه الزيادة أنها لو التحقت بالأصل فإما أن ترفع العقد الأول وتحدث عقدا ثانيا وهو باطل بالإجماع، وإما أن تحصل عقدا مع بقاء العقد الأول وهو تحصيل الحاصل. والذين حملوا الآية على حكم المتعة قالوا: المراد أنه ليس للرجل سبيل على المرأة من بعد الفريضة وهي المقدار المفروض من الأجر والأجل، فإن قال لها زيدي في الأيام وأزيد في الأجر فهي بالخيار. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً لا يشرع الأحكام إلّا على وفق الحكمة والصواب. ثم وسع الأمر على عبادة فقال: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا فضلا في المال وسعة ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه كما أن القصر قصور فيه ونقصان. وأَنْ يَنْكِحَ متعلق ب طَوْلًا يقال: طال على الأمر إذا غلبه فتمكن من فعله. والمحصنات هاهنا الحرائر، والمعنى ومن لم يقدر على نكاح الحرة فلينكح من الإماء التي ملكتها أيمانكم. قال ابن عباس: يريد جارية أخيك فإنّ الإنسان لا يجوز له أن يتزوّج بجارية نفسه والفتيات المملوكات. تقول العرب للأمة فتاة وللعبد فتى. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم عبدي ولكن ليقل فتاي وفتاتي» «1» وقال الشافعي: إنّ الله تعالى شرط في نكاح الإماء ثلاث شرائط: اثنتان في الناكح الأولى فقد طول الحرة وهو عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة كما يقول الرجل: لا أستطيع أن أحج إذا كان لا يجد ما يحج به. فإذا كان كذلك جاز له التزوّج بالأمة لأنّ العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة ساداتهن. والثانية خشية العنت كما يجيء في آخر الآية. والثالثة في المنكوحة وهي أن تكون الأمة لمسلم ومع ذلك تكون مؤمنة لا كافرة لقوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فالقيد الأول مستفاد من قوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ أي من فتيات المسلمين لا من فتيات غيركم وهم المخالفون في الدين، والقيد الثاني من وصف الفتيات بالمؤمنات. أما فائدة القيد الأول فهي أن الولد تابع   (1) رواه مسلم في كتاب الألفاظ حديث 14. أحمد في مسنده (2/ 444) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 للأم في الحرية والرق، وحينئذ يعلق الولد رقيقا على ملك الكافر. إلّا أن هذا القيد ألغاه أكثر الأئمة لأنّ الولد إذا رق للكافر بيع عليه في الحال. وأما فائدة القيد الثاني فالحذر من اجتماع النقصانين الكفر والرق. وهذا قول مجاهد وسعيد والحسن ومذهب مالك والشافعي. أما أبو حنيفة فإنه يقول: الغني والفقير سواء في جواز نكاح الأمة. وذلك أنه يحمل النكاح في الآية على الوطء ويقول: المراد أن من لم يملك فراش الحرة فله أن ينكح أمة. ثم الأمة لو كانت كتابية جاز له نكاحها ولكن نكاح الأمة المؤمنة أفضل فحمل التقييد في الآية على الفضل لا على الوجوب قياسا على جواز نكاح الحرة الكتابية بالإجماع مع وصف الجرائر أيضا بالمؤمنات. وأجيب بالفرق وهو اجتماع النقصانين. ومن الناس من قال: لا يجوز التزوّج بالكتابيات البتة ولا شك أن في الآية دلالة على الحذر عن نكاح الإماء وأن الإقدام عليه لا يجوز إلّا عند الضرورة وذلك لتباعة الولد الأم في الرق، ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة فربما تعوّدت بسبب ذلك فجورا وقحة، ولما للمولى عليها من حق الاستخدام فلا تخلص لخدمة الزوج، ولأنّ السيد قد يبيعها فتصير مطلقة عند من يقول بذلك، ولأنّ مهرها ملك لمولاها فلا تقدر على هبة مهرها من زوجها ولا على إبرائه. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ قال الزجاج: أي اعملوا على الظاهر في الإيمان فإنكم مكلفون بظواهر الأمور والله أعلم بما في الصدور. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ كلكم أولاد آدم فلا يتداخلكم أنفة من التزوّج بالإماء عند الضرورة، أو كلكم مشتركون في الإيمان وهو أعظم المقاصد فإذا حصل الاشتراك فيه فما وراءه غير ملتفت إليه. وفيه توهين ما كانوا عليه في الجاهلية من الفخر بالأنساب والأحساب وتأنيس بنكاح الإماء إذا كن مؤمنات. ثم شرح كيفية هذا النكاح فقال: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ فلذلك اتفقوا على أنّ نكاح الأمة بدون إذن سيدها باطل لأنّ نكاحهن غير واجب فيتوجه الأمر إلى اشتراط الإذن، ولأنّ التزوّج بها يعطل على السيد أكثر منافعها فوجب أن لا يجوز إلّا بإذنه. ولفظ القرآن مقتصر على الأمة. وأما العبد فقد ثبت ذلك في حقه بالحديث. روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوّج العبد بغير إذن سيده فهو عاهر» «1» واستدل الشافعي بالآية على أنّ المرأة البالغة العاقلة لا يصح نكاحها إلّا بإذن الولي لأنّ قوله: فَانْكِحُوهُنَّ الضمير فيه يعود إلى الإماء. والأمة ذات موصوفة بصفة الرق، وصفة الرق صفة زائلة، والإشارة إلى ذات موصوفة بصفة عرضية زائلة تبقى بعد زوال تلك الصفة بدليل أنه لو حلف لا يتكلم مع هذا الشاب فصار شيخا ثم تكلم معه   (1) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 16. الترمذي في كتاب النكاح باب 21. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 43. الدارمي في كتاب النكاح باب 40. أحمد في مسنده (3/ 301، 377) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 يحنث في يمينه. فعند زوال الرق عنها وهي حرة عاقلة بالغة يتوقف جواز نكاحها على إذن وليها، وإذا ثبت الحكم في هذه الصورة ثبت في سائر الصور ضرورة أنه لا قائل بالفرق. واعترض على قول الشافعي بأنّ ظاهر الآية يدل على الاكتفاء بحصول إذن أهلها وعنده لا يجوز للمرأة أن تزوّج أمتها. وأجيب بأن المراد بالإذن الرضا، وعندنا أن رضا المولى لا بد منه. فإما أنه كاف فليس في الآية دليل عليه، وأيضا إن أهلهن عبارة عمن يقدر على إنكاحهن وهو المولى إن كان رجلا أو ولي المولى إن كان امرأة. سلمنا أن الأهل هو المولى لكنه عام يخصصه قوله صلى الله عليه وسلم: «العاهر هي التي تنكح نفسها» «1» إذ يلزمه أن لا يكون لها عبارة في نكاح مملوكها ضرورة أنه لا قائل بالفرق. قلت: الإنصاف أن استدلال الشافعي لا يتم. فلقائل أن يقول: لا نسلم أن صفة الرق للأمة عرضية من حيث إنها أمة، وإن سلمنا ذلك فلا نسلم أن الإشارة إلى ذات الأمة في الآية تبقى بعد زوال صفة الرق. فكونها مثل قول القائل لا أتكلم مع هذا الشاب ممنوع. فمن المعلوم عرفا أن المراد به ذات الشاب من حيث هو ولكنه كقول الحالف: لا أكلم شابا. فحينئذ لو كلّم زيدا وزيد شاب حنث فإذا صار شيخا ثم كلمه لم يحنث. وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن وفيه دلالة على وجوب مهرها إذا نكحها- سمى لها المهر أو لم يسم- وفي قوله: بِالْمَعْرُوفِ دلالة على أنه مبني على الاجتهاد وغالب الظن في المعتاد المتعارف وهو مهر المثل، أو المراد بغير مطل وضرار وإحواج إلى الاقتضاء. وقيل: الأجور النفقة عليهن لأن المهر مقدر فلا معنى لاشتراط المعروف فيه فكأنه تعالى بيّن أن كونها أمة لا يقدح في وجوب نفقتها وكفايتها كما في حق الحرة إذا حصلت التخلية من المولى بينه وبينها على العادة. وعن بعض أصحاب مالك أنّ الأمة هي المستحقة لقبض مهرها، وأنّ المولى إذا آجرها للخدمة كان هو المستحق للأجرة دونها واحتجوا في المهر بظاهر قوله: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وأما الجمهور فعلى أن مهرها لمولاها لقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النحل: 75] وهذا ينفي كون المملوكة مالكة لشيء أصلا، ولأنّ منافعها كانت مملوكة للسيد وقد أباحها للزوج بعقد النكاح فوجب أن يستحق بدلها. أما ظاهر الآية فلو حملنا لفظ الأجور على النفقة فلا إشكال، ولو حملناه على المهور فالجواب أنها ثمن أبضاعهن فلذلك أضيف الأجور إليهن. وليس في قوله: وَآتُوهُنَّ ما يوجب كون المهر ملكا لهن. وهب أن المهر ملك لهن ولكنه صلى الله عليه وسلم قال: «العبد وما يملكه لمولاه» أو المراد وآتوا مواليهن فحذف المضاف مُحْصَناتٍ قال ابن عباس: أي عفائف وهو حال من قوله:   (1) رواه الترمذي في كتاب النكاح باب 15. بلفظ «البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بيّنة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 فَانْكِحُوهُنَّ وظاهره يقتضي حرمة نكاح الزواني لكن الأكثرون على أنه يجوز فالآية محمولة على الندب والاستحباب. غَيْرَ مُسافِحاتٍ قال أكثر المفسرين: المسافحة هي التي تؤاجر نفسها أي رجل أرادها، ومتخذة الخدن هي التي لها صديق معيّن. وكان أهل الجاهلية يفصلون بين القسمين وما كانوا يحكمون على ذات الخدن بكونها زانية، فلما كان هذا الفرق معتبرا عندهم فلا جرم أفردهما الله تعالى بالذكر تنصيصا على حرمتهما معا. والأخدان جمع خدن كالأتراب جمع ترب. والخدن الذي يخادنك أي يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن، يقع على الذكر والأنثى. فَإِذا أُحْصِنَّ بالتزوّج وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد، أو بالإسلام وهو قول عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والسدي. وكأنه تعالى ذكر حال إيمانهن في النكاح في قوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ثم كرر ذلك في حكم ما يجب عليهن عند إقدامهن على الفاحشة. وهاهنا إشكال وهو أن المحصنات في قوله: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ أريد بها الحرائر المتزوجات أو الحرائر الأبكار. وعلى الأول يجب عليهن نصف الرجم وتنصيف الرجم محال، وعلى الثاني يجب عليهن خمسون جلدة وهذا القدر واجب في زنا الأمة محصنة كانت أو لم تكن، وقد علق ذلك في الآية بمجموع الأمرين: الإحصان والزنا. والجواب أنا نختار القسم الأول ويسقط الرجم عنهن بالدليل العقلي لأن الرجم لا ينتصف، أو الثاني والمراد بيان تخفيف عذابهن. وذلك أن حد الزنا يغلظ عند التزوج فهذه إذا زنت وقد تزوّجت فحدها خمسون جلدة لا يزيد عليها، فلأن يكون قبل التزوّج هذا القدر أولى. واعلم أن الخوارج اتفقوا على إنكار الرجم واحتجوا بأنّ الآية تدل على أنّ عذاب الأمة نصف عذاب الحرة المحصنة، فلو كان على الحرة الرجم لزم تنصيف الرجم في حق الأمة وهو محال. والجواب ما مرّ أن المخصص في حق الأمة دليل عقلي، والفقهاء جعلوا الآية أصلا في نقصان حكم العبد عن حكم الحرة في غير الحد وإن كان من الأمور ما لا يجب ذلك فيه كالصلاة والصوم وغيرهما. ذلِكَ إشارة إلى نكاح الإماء بالاتفاق لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وقد عرفت فيما مرّ أن معناه الوقوع في أمر شاق. وللمفسرين هاهنا قولان: أحدهما أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة ربما تدعو إلى الزنا فيقع في الحد في الدنيا وفي العذاب الأليم في الآخرة، والثاني أن الشبق قد يفضي إلى الأمراض الشديدة كأوجاع الوركين والظهر والوسواس وكاختناق الرحم للنساء، والأول أليق ببيان القرآن وعليه أكثر العلماء. وَأَنْ تَصْبِرُوا أي صبركم عن نكاح الإماء بعد شروطه المبيحة متعففين خير لكم لما فيه من المفاسد المذكورة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «الحرائر صلاح البيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 والإماء هلاك البيت» . وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تأكيد لما ذكره من أن الأولى ترك النكاح إلّا أنه أباحه لاحتياج المكلفين فهو من باب المغفرة والرحمة يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أقيمت اللام مقام «أن» في قولك أريد أن يقوم. وقيل: زيدت اللام وقدر «أن» وذلك لتأكيد إرادة التبيين كما زيدت في «لا أبالك» لتأكيد إضافة الأب. وقيل: في الآية إضمار والأصل يريد الله إنزال هذه الأحكام ليبين لكم دينكم وشرعكم وما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم ويهديكم مناهج من كان قبلكم. قيل: المراد أن كل ما بيّن لنا من التحريم والتحليل في شأن النساء فقد كان الحكم كذلك في جميع الشرائع والملل. وقيل: بل المراد أن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها إلّا أنها متفقة في باب المصالح، وقيل: المعنى سنن من كان قبلكم من أهل الحق لتقتدوا بهم ويتوب عليكم. قال القاضي: معناه كما أراد منا نفس الطاعة فلا جرم بينها وأزاح الشبه عنها، كذلك يريد أن يتوب علينا إن وقع تقصير وتفريط. وفي الآية إشعار بأنه تعالى هو الذي يخلق التوبة فينا، فيرد عليه أنه إذا أراد التوبة منا وجب أن تحصل التوبة لكنا وليس كذلك. وأجيب بأنّ المراد التوبة في باب نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في هذه الآيات وقد حصلت هذه التوبة، وكذا الكلام في قوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وقالت المعتزلة: يريد أن تفعلوا ما تستوجبون به أن يتوب عليكم. وَيُرِيدُ الفجرة الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا عن الحق والقصد مَيْلًا عَظِيماً وقيل: هم اليهود، وقيل: المجوس كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرمهن الله قالوا: فإنكم تحلّون بنت الخالة والعمة والخالة والعمة حرام عليكم فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلت. يقول: يريدون أن تكونوا زناة مثلهم. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ بإحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً فلضعفه خفف تكليفه ولم يثقل. أما ضعف خلقته بالنسبة إلى كثير من المخلوقات بل الحيوانات فظاهر ولهذا اشتد احتياجه إلى التعاون والتمدن والأغذية والأدوية والمساكن والملابس والذخائر والمعاملات إلى غير ذلك من الضرورات، وأما ضعف عزائمه ودواعيه فأظهر ولهذا لا يصبر على مشاق الطاعات ولا عن الشهوات ولا سيما عن النساء. عن سعيد بن المسيب: ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلّا أتاهم من قبل النساء، لقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشو بالأخرى وإن أخوف ما أخاف علي النساء. عن ابن عباس: ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت. يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: 31] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: 40] مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [النساء: 110] ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ [النساء: 147] اللهم لا تحرمنا مواعيدك إنك لا تخلف الميعاد. ثم إنه لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإيفاء المهر والنفقات بيّن عقيب ذلك أنه كيف يتصرف في الأموال فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ بما لا يبيحه الشرع بوجه وقد مر تفسيره في البقرة في قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 188] إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وقد سبق مثله في آخر البقرة. وخص التجارة بالذكر وإن كان غير ذلك من الأموال المستفادة بنحو الهبة والإرث وأخذ الصدقات والمهور وأروش الجنايات حلالا، لأنّ أكثر أسباب الرزق يتعلق بالتجارة. ويدخل تحت هذا النهي أكل مال الغير بالباطل، وأكل مال نفسه بالباطل كما أن قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يدل على النهي عن قتل غيره وعن قتل نفسه. قال أبو حنيفة: النهي في المعاملات لا يدل على البطلان. وقال الشافعي: يدل لأن الوكيل إذا تصرف على خلاف قول المالك فذلك غير منعقد بالإجماع فالتصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي وهو الله سبحانه أولى أن يكون باطلا. وأي فرق بين قوله: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين» وبين قوله: «لا تبيعوا الحر» وإذا كان الثاني غير منعقد بالاتفاق فكذا الأول. وقال أبو حنيفة: خيار المجلس غير ثابت في عقود المعاوضات المحضة لأن التراضي المذكور في الآية قد حصل. وقال الشافعي: لا شك أن هذا التراضي يقتضي الحل إلّا أنا نثبت بعد ذلك للمتبايعين الخيار بقوله صلى الله عليه وسلم: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» «1» . وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ من كان من جنسكم من المؤمنين لأنّ المؤمنين كنفس واحدة، أو لا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة حينما يعرضه غم أو خوف أو مرض شديد يرى قتل نفسه أسهل عليه. عن الحسن البصري قال: حدثنا جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان رجل جرح فقتل نفسه فقال الله: بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة» «2» . وعن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال لرجل ممن يدعي الإسلام: هذا من أهل النار. فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراح. فقيل له: يا رسول الله الذي قلت له آنفا إنه من أهل النار فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى   (1) رواه البخاري في كتاب البيوع باب 42، 44، 47. مسلم في كتاب البيوع حديث 45. أبو داود في كتاب البيوع باب 51. النسائي في كتاب البيوع باب 9. الموطأ في كتاب البيوع حديث 79. أحمد في مسنده (1/ 56) . (2) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 83. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 النار. فكاد بعض المسلمين أن يرتاب. فبيناهم على ذلك إذ قيل له: إنه لم يمت ولكن به جراحات شديدة، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا» «1» . وعن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزاة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صلّيت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو صلّيت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله تعالى يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا. وقيل: معنى الآية لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من القتل والردة والزنا بعد الإحصان إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ولأجل رحمته نهاكم عما يضركم عاجلا وآجلا. وقيل من رحمته أنه لم يأمركم بقتل أنفسكم كما أمر بني إسرائيل بذلك توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ القتل عُدْواناً وَظُلْماً لا خطأ ولا قصاصا. هذا قول عطاء. وقال الزجاج: ذلك إشارة إلى القتل والأكل بالباطل. وعن ابن عباس أنه عائد إلى كل ما نهى الله تعالى عنه من أول السورة. وتنكير النار للتعظيم أو للنوع. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً مثل على وفق المتعارف كقوله: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] وإلّا فلا مانع له عن حكمه ولا منازع له في ملكه. التأويل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ الآية كلها إشارات إلى نهي التعلق ومنع التصرف في الأمهات السفليات والمتوالدات من أوصاف الإنسان وصفات الحيوان. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً بأنواع غفرانه ظلمات الصفات الإنسانية التي تتولد من تصرفات الحواس في المحسوسات عند الضرورات بالأمر لا بالطبع رَحِيماً بالمؤمنين فيما اضطرهم إليه من التصرفات بقدر الحاجة الضرورية. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ هي الدنيا التي تصرف فيها العلويات إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ بإذن الله تعالى حيث قال: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: 31] مُحْصِنِينَ حرائر من الدنيا وما فيها غَيْرَ مُسافِحِينَ في الطلب مياه وجوهكم. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ من الضروريات فأعطوا حقوق تلك الحظوظ بالطاعة والشكر والذكر. ثم إنّ الله تعالى أحب نزاهة قلب المؤمن عن دنس حب الدنيا كما أحب   (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 175. الترمذي في كتاب الطب باب 7. النسائي في كتاب الجنائز باب 68. الدارمي في كتاب الديات باب 10. أحمد في مسنده (2/ 254، 478) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 نزاهة فراشه فقال: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي من لم يقدر أن يسخر عجوز الدنيا الصالحة بأسرها ويجعلها منكوحة له ويحصنها بتصرّف شرائع الإسلام بحيث لا يكون لها تصرف في قلبه بوجه ما، فليتصرف في القدر الذي ملكت يمين قلبه من الدنيا ولم تملك قلبه لأنها مأمورة بخدمته وهي مؤمنة له بالخدمة كما قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: «يا دنيا اخدمي من خدمني واستخدمي من خدمك» . مُحْصَناتٍ بالصدق والإخلاص غَيْرَ مُسافِحاتٍ بالتبذير والإسراف وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ من النفس والهوى فَإِذا أُحْصِنَّ بالإخلاص في العطاء والمنع والأخذ والدفع فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ هي غلبات شهواتها على القلب فليبذل نصف ما ملكت يمينه من الدنيا في الله جناية وغرامة فهو حدها كما أن حدّ عجوز الدنيا إذا أحصنها ذوو الطول من الرجال فأتت بفاحشة إهلاكها بالكلية بالبذل في الله كما كان حال سليمان عليه السلام إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد لما شغلته عن الصلاة وأتت بفاحشة حب الخيل فطفق مسبحا بالسوق والأعناق ذلِكَ التصرف في قدر من الدنيا لِمَنْ خَشِيَ ضعف النفس وقلة صبرها على ترك الدنيا وامتناعها عن قبول الأوامر والنواهي وَأَنْ تَصْبِرُوا عن التصرّف في الدنيا بالكلية خَيْرٌ لَكُمْ كما قال صلى الله عليه وسلم: «يا طالب الدنيا لتبر فتركها خير وأبر» . يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ فلكم المعونة ولغيركم المئونة. قال إبراهيم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: 99] وأخبر عن حال موسى بقوله: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الأعراف: 143] وعن حال نبينا بقوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] وعن حال هذه الأمة بقوله: سَنُرِيهِمْ آياتِنا [فصلت: 53] والمعونة هي الجذبة التي توازي عمل الثقلين، فلا جرم كان لغير نبيّنا الوصول إلى السموات فقط، وكان لنبيّنا الوصول إلى مقام قاب قوسين أو أدنى، ولأمته التقرّب: «لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه» «1» . والفرق بين النبي والولي، أنّ النبي مستقل بنفسه والولي لا يمكنه السير إلّا في متابعة النبي وتسليكه. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ولهذا أعين بالخدمة حتى يتصل بقوّة ذلك إلى مقام لا يصل إليه الثقلان بسعيهم إلى الأبد، وضعفه بالنسبة إلى جلال الله وكماله وإلّا فهو أقوى في حمل الأمانة من سائر المخلوقات. وأيضا من ضعفه أنه لا يصبر عن الله لحظة فإنه يحبهم ويحبونه. الصبر يحمد في المواطن كلها ... إلّا عليك فإنه لا يحمد وكان أبو الحسن الخرقاني يقول: لو لم ألق نفسا لم أبق. وغير الإنسان يصبر عن الله   (1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 38. أحمد في مسنده (6/ 256) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 لعدم المحبة. ومن ضعفه أنه لا يصبر مع الله عند غلبات سطوات التجلي كما أنه صلى الله عليه وسلم كان يغان على قلبه وكان يقول حينئذ: كلميني يا حميراء. وكان الشبلي يقول: لا معك قرار ولا منك فرار، المستغاث بك منك إليك. ضعف الإنسان سبب كماله وسعادته، فساعة يتصف بصفات البهيمة، وساعة يتسم بسمات الملك. وليس لغيره هذا الاستعداد فلهذا جاء في الحديث الرباني: «أنا ملك حي لا أموت أبدا فأطعني عبدي لعلك تكون ملكا حيا لا تموت أبدا» . إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً أي تجارة تنجيكم من عذاب أليم. وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بصرف أموالكم في شهواتها فإن ذلك سمها القاتل إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً إذ بيّن لكم هذه الآفات ودلكم على هذه التجارات. وَمَنْ يَفْعَلْ صرف المال إلى الهوى تعديا عن أمر الله وظلما على نفسه. [سورة النساء (4) : الآيات 31 الى 40] إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 القراآت: يكفر ويدخلكم بياء الغيبة: المفضل. الباقون بالنون. مُدْخَلًا بفتح الميم وكذلك في الحج: أبو جعفر ونافع. الباقون بالضم. وَسْئَلُوا وبابه مما دخل عليه واو العطف أو فاؤه بغير همزة: ابن كثير وعلي وخلف وسهل وحمزة في الوقف. عَقَدَتْ من العقد: عاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون عاقدت من المعاقدة. بِما حَفِظَ اللَّهُ بالنصب: يزيد. الباقون بالرفع. وَالْجارِ بالإمالة: إبراهيم بن حماد وقتيبة ونصير وأبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو والنجاري عن ورش وَالْجارِ الْجُنُبِ بفتح الجيم وسكون النون: المفضل. الباقون بضمتين. بِالْبُخْلِ بفتحتين حيث كان: حمزة وعلي وخلف والمفضل عباس مخير. الباقون: بضم الباء وسكون الخاء. حَسَنَةً بالرفع: ابن كثير وأبو جعفر ونافع. الباقون بالنصب. يُضاعِفْها بالتشديد: ابن كثير وابن عامر ويزيد ويعقوب. الباقون يُضاعِفْها بالألف. الوقوف: كَرِيماً هـ عَلى بَعْضٍ ط مِمَّا اكْتَسَبْنَ ط مِنْ فَضْلِهِ ط عَلِيماً هـ وَالْأَقْرَبُونَ ط بناء على أن ما بعده مبتدأ نَصِيبَهُمْ ط شَهِيداً هـ مِنْ أَمْوالِهِمْ ج لأن ما يتلو مبتدأ بِما حَفِظَ اللَّهُ ط وَاضْرِبُوهُنَّ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب سَبِيلًا ط كَبِيراً هـ مِنْ أَهْلِها ج لأن «أن» للشرط مع اتحاد الكلام بَيْنِهِما ط خَبِيراً هـ وَابْنِ السَّبِيلِ ط للعطف أَيْمانُكُمْ ط فَخُوراً هـ لا بناء على أن الذين بدل مِنْ فَضْلِهِ ط مُهِيناً هـ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والعطف بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ط وإن جعل «الذين» مبتدأ لأن خبره محذوف أي فأولئك قرينهم الشيطان قَرِيناً هـ رَزَقَهُمُ اللَّهُ ط عَلِيماً هـ ذَرَّةٍ ط لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى أي لا يظلم بنقص الثواب ومع ذلك يضاعفه عَظِيماً هـ. التفسير: هذا كالتفصيل للوعيد المتقدم. ومن الناس من قال: جميع الذنوب والمعاصي كبائر. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة، فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله فإنّ الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلّا راجعا عن الإسلام أو جاحدا فريضة أو منكرا لقدر. وضعف بأن الذنوب لو كانت كلها كبائر لم يبق فرق بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر وبقوله تعالى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: 53] لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49] وبأنه صلى الله عليه وسلم نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر، وبقوله تعالى: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ [الحجرات: 7] ولا بد من فرق بين الفسوق والعصيان. فالكبائر هي الفسوق، والصغائر العصيان. حجة المانع ما روي عن ابن عباس: أنّ الذنب إنما يكبر لوجهين: لكثرة نعم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 عصى فيه ولجلالته، ولا شك أن نعمه تعالى غير متناهية وأنه أجل الموجودات فيكون عصيانه كبيرا. وعورض بأنه أرحم الراحمين وأغنى الأغنياء عن طاعات المطيعين، وكل ذلك يوجب خفة الذنب وإن سلم أن الذنوب كلها كبائر من حيث إنها ذنوب ولكن بعضها أكبر من بعض وذلك يوجب التفاوت. وإذ قد عرفت أن الذنوب بعضها صغائر وبعضها كبائر فالكبيرة تتميز عن الصغيرة بذاتها أو باعتبار فاعلها. ذهب إلى كل واحد طائفة. فمن الأولين من قال: ويروى عن ابن عباس كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة كالقتل المحرم والزنا وأكل مال اليتيم وغيرها. وزيف بأنه لا ذنب إلّا وهو متعلق الذم عاجلا والعقاب آجلا فيكون كل ذنب كبيرا وهو خلاف المفروض. وعن ابن مسعود أن الكبائر هي ما نهى الله تعالى في الآيات المتقدمة، وضعف بأنه تعالى ذكر الكبائر في سائر السور أيضا فلا وجه للتخصيص. وقيل: كل عمد فهو كبير. وردّ بأنه إن أراد بالعمد أنه ليس بساه فما هذا حاله فهو الذي نهى الله عنه فيكون كل ذنب كبيرا وقد أبطلناه، وإن أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية فلا يكون كفر اليهود والنصارى كبيرا وهو باطل بالاتفاق. وأما الذين يقولون الكبائر تمتاز عن الصغائر باعتبار فاعلها، فوجهه أنّ لكل طاعة قدرا من الثواب، ولكل معصية قدرا من العقاب. فإذا وجد للإنسان طاعة ومعصية فالتعادل بين الاستحقاقين وإن كان ممكنا بحسب العقل إلّا أنه غير ممكن بحسب السمع وإلّا لم يكن مثل ذلك المكلف لا في الجنة ولا في النار وقد قال تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] فلا بد من ترجيح أحدهما، ويلزم حينئذ الإحباط والتكفير. والحق في هذه المسألة وعليه الأكثرون بعد ما مرّ من إثبات قسمة الذنب إلى الكبير والصغير أنه تعالى لم يميّز جملة الكبائر عن جملة الصغائر لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر. فلو عرف المكلف جميع الكبائر اجتنبها فقط واجترأ على الإقدام على الصغائر، أما إذا عرف أنه لا ذنب إلّا ويجوز كونه كبيرا صار هذا المعنى زاجرا له عن الذنوب كلها، ونظير هذا في الشرع إخفاء ليلة القدر في ليالي رمضان، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة، ووقت الموت في جملة الأوقات. هذا ولا مانع من أن يبيّن الشارع في بعض الذنوب أنه كبيرة كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلّا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» «1» . وذكر عند ابن عباس أنها سبعة   (1) رواه البخاري في كتاب الوصايا باب 23. مسلم في كتاب الإيمان حديث 144. أبو داود في كتاب الوصايا باب 10. النسائي في كتاب الوصايا باب 12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 فقال: هي إلى السبعين أقرب. وفي رواية إلى السبعمائة. وعن ابن عمر أنه عدّ منها: استحلال آمّين البيت الحرام وشرب الخمر. وعن ابن مسعود: زيادة القنوط من رحمة الله والأمن من مكره. وفي بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم زيادة قول الزور وعقوق الوالدين والسرقة. وأما قول العلماء في الكبيرة فمنهم من قال: هي التي توجب الحد. وقيل: هي التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص أو كتاب أو سنة. وقيل: كل جريرة تؤذن بقلة اكتراث صاحبها بالدين. وقيل: لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار. ويراد بالإصرار المداومة على نوع واحد من الصغائر، أو الإكثار منها وإن لم تكن من نوع واحد. احتج أبو القاسم الكعبي بالآية على القطع بوعيد أهل الكبائر لأنها تدل على أنه إذا لم يجتنب الكبائر فلا تكفر عنه. والجواب عنه أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج ويؤيده قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ [البقرة: 283] وأداء الأمانة واجب أمنه أو لم يأمنه. سلمنا أنّ الآية رجعت إلى قوله من لم يجتنب الكبائر لم يكفر عنه سيّئاته، فغايته أنه يكون عاما في باب الوعيد. والجواب عنه هو الجواب عن سائر العمومات، وهو أنه مشروط بعدم العفو عندنا كما أنه مشروط عندكم بعدم التوبة. ثم قالت المعتزلة: إنّ عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر، وعندنا لا يجب على الله شيء بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان. ويدخل في الاجتناب عن الكبائر الإتيان بالطاعات لأن ترك الواجب أيضا كبيرة. وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا فمن فتح الميم أراد مكان الدخول، ومن ضمها أراد الإدخال. ووصفه بالكرم إشعار بأنه على وجه التعظيم خلاف إدخال أهل النار الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم، أو هو وصف باعتبار صاحبه. ثم إنه سبحانه لما أمرهم بتهذيب أعمال الجوارح وهو أن لا يقدموا على أكل الأموال بالباطل وعلى قتل الأنفس، حثهم على تهذيب الأخلاق في الباطن. أو نقول: لما نهاهم عن الأكل والقتل ولن يتم ذلك إلّا بالرضا بالقضاء وتطييب القلب بالمقسوم المقدّر، فلا جرم قال: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ قالت المعتزلة: التمني قول القائل: «ليته كذا» . وقال أهل السنة: هو عبارة عن إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون ولهذا قالوا: إنه تعالى لو أراد من الكافر أن يؤمن مع علمه بأنه لا يؤمن كان متمنيا. ثم مراتب السعادات إما نفسانية نظرية كالذكاء والحدس وحصول المعارف والحقائق، أو عملية كالأخلاق الفاضلة، وإما بدنية كالصحة والجمال والعمر، وإما خارجية كحصول الأولاد النجباء وكثرة العشائر والأصدقاء والرياسة التامة ونفاذ القول وكونه محبوبا للخلق حسن الذكر مطاع الأمر، فهذه مجامع السعادات. وبعضها محض عطاء الله تعالى، وبعضها مما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 يظن أنها كسبية. وبالحقيقة كلها عطاء منه تعالى فإنه لولا ترجيح الدواعي وإزالة العوائق وتحصيل الموجبات وتوفيق الأسباب فلأي سبب يكون السعي والجد مشتركا فيه، والفوز بالبغية والظفر بالمطلوب غير مشترك فيه؟ وإذا كان كذلك فما الفائدة في الحسد غير الاعتراض على مدبر الأمور وكافل مصالح الجمهور؟ فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له علما بأن ما قسم له هو خير له، ولو كان خلافه لكان وبالا عليه كما قال: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى: 27] . وفي الكلمات القدسية: «من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر نعمائي كتبته صديقا وبعثته يوم القيامة مع الصديقين. ومن لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر نعمائي فليخرج من أرضي وسمائي وليطلب ربا سوائي» . قال المحققون: لا يجوز للإنسان أن يقول: اللهم أعطني دارا مثل دار فلان، وزوجة مثل زوجة فلان، وإن كان هذا غبطة لا حسدا، بل ينبغي أن يقول: اللهم أعطني ما يكون صلاحا لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي. وعن الحسن: لا يتمن أحد المال فلعل هلاكه في ذلك المال. أما سبب النزول فعن مجاهد قالت أم سلمة: يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو، ولهم من الميراث ضعف ما لنا فنزلت. وعن قتادة والسدي: لما نزل قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11] قال الرجال: نرجو أن نفضل على النساء في الآخرة كما فضلنا في الميراث. وقال النساء: نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال. وفي رواية قلن: نحن أحوج لأن ضعفاءهم أقدر على طلب المعاش فنزلت. وقيل: أتت وافدة النساء إلى الرسول وقالت: رب الرجال والنساء واحد، وأنت الرسول إلينا وإليهم، وأبونا آدم وأمنا حواء فما السبب في أن الله يذكر الرجال ولا يذكرنا؟ فنزلت الآية. فقالت: وقد سبقنا الرجال بالجهاد فما لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن للحامل منكم أجر الصائم القائم، وإذا ضربها الطلق لم يدر أحد ما لها من الأجر، فإن أرضعت كان لها بكل مصة أجر إحياء نفس. لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا من نعيم الدنيا وثواب الآخرة فينبغي أن يرضوا بما قسم لهم، وكذا للنساء، أو لكل فريق جزاء ما اكتسب من الطاعات فلا ينبغي أن يضيعه بسبب الحسد المذموم. وتلخيصه لا تضيع ما لك بتمني ما لغيرك. أو لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا بسبب قيامهم بالنفقة على النساء وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ بحفظ فروجهن وطاعة أزواجهن والقيام بمصالح البيت وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فعنده من ذخائر الإنعام ما لا ينفده مطالب الأنام. و «من» للتبعيض أي شيئا من خزائن كرمه وطوله إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 عَلِيماً فهو العالم بما يكون صلاحا للسائلين، فليقتصر السائل على المجمل وليفوّض التفصيل إليه فإن ذلك أقرب إلى الأدب وأوفق للطلب. قوله سبحانه وتعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ يمكن تفسيره. بحيث يكون الوالدان والأقربون وارثين وبحيث يكونان موروثا منهما. والمعنى على الأول: لكل أحد جعلنا ورثة في تركته. ثم إنه كأنه قيل: ومن هؤلاء الورثة؟ فقيل: هم الوالدان والأقربون فيحسن الوقف على قوله: مِمَّا تَرَكَ وفيه ضمير كل. وأما على الثاني، فإما أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي أي ورثة، وإما أن يكون جَعَلْنا مَوالِيَ صفة لِكُلٍّ بل محذوف والعائد محذوف وكذا المبتدأ والتقدير: ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب مما ترك الوالدان والأقربون كما تقول: لكل من خلقه الله إنسانا من رزق الله. أي حظ من رزق الله، والمولى لفظ مشترك بين معان: منها المعتق لأنه ولي نعمته في عتقه، ومنها العبد المعتق لاتصال ولاية مولاه في إنعامه عليه، وهذا كما يسمى الطالب غريما لأن له اللزوم والمطالبة بحقه، ويسمى المطلوب غريما لكون الدين لازما له. ومنها الحليف لأن الحالف يلي أمره بعقد اليمين، ومنها ابن العم لأنه يليه بالنصرة ومنه المولى للناصر قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا [محمد: 11] ومنها العصبة وهو المراد في الآية إذ هو الأليق بها كقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى بالمؤمنين من مات وترك مالا فماله للموالي العصبة، ومن ترك كلا فأنا وليّه» «1» . وأما قوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فإما أن يكون مبتدأ ضمن معنى الشرط، فوقع قوله: فَآتُوهُمْ خبره. وإما أن يكون منصوبا على قولك: «زيدا فاضربه» مما توسط الفاء بين الفعل ومفعول مفسره إيذانا بتلازمهما وإما أن يكون معطوفا على الْوالِدانِ والإيمان جمع اليمين اليد أو الحلف. من الناس من قال: الآية منسوخة. وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك وهدمي هدمك أي ما يهدر، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف فنسخ بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: 75] وبقوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ [النساء: 11] وأيضا: إن الواحد منهم كان يتخذ إنسانا أجنبيا ابنا له وهم الأدعياء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين كل رجلين منهم، فكانوا يرثون بالتبني والمؤاخاة فنسخ. ومن المفسرين من زعم أنها غير منسوخة. وقوله: وَالَّذِينَ معطوف على ما   (1) رواه البخاري في كتاب الفرائض باب 15. مسلم في كتاب الفرائض حديث 16. أحمد في مسنده (2/ 356) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 قبله. والمعنى: أن ما ترك الذين عقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به فلا تدفعوا المال إلى الحليف بل إلى الوارث، فيكون الضمير في فَآتُوهُمْ للموالي قاله أبو علي الجبائي. أو المراد بالذين عاقدت الزوج والزوجة، والنكاح يسمى عقدا بين ميراث الزوج والزوجة بعد ميراث الولد والوالدين كما في قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ [النساء: 11] قاله أبو مسلم. وقيل: المراد الميراث الحاصل بسبب الولاء. وقيل: هم الحلفاء. والمراد بإيتاء نصيبهم النصرة والنصيحة والمصافاة. وقال الأصم: المراد التحفة بالشيء القليل كقوله: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ [النساء: 8] وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يرث المولى الأسفل من الأعلى. وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد أنه قال: يرث، لما روى ابن عباس أن رجلا أعتق عبدا له فمات المعتق ولم يترك إلّا العتيق فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام. والحديث عند الجمهور محمول على أن المال صار لبيت المال ثم دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغلام لفقره. وقال أبو حنيفة: لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صح وورث بحق الموالاة، وخالفه الشافعي فيه. وحكى الأقطع أن هذه الموالاة لا تصح عند أبي حنيفة أيضا إلا بين العرب دون العجم لرخاوة عقدهم في أمورهم. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لأنه عالم بجميع الجزئيات والكليات فشهد على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه، وفيه وعيد للعاصين، ووعد للمطيعين. هذا وقد مر أن النساء تكلمن في تفضيل الله الرجال عليهن في الميراث ونحوه، فذكر في هذه الآية ما يشتمل على بعض أسباب التفضيل فقال: الرِّجالُ قَوَّامُونَ يقال: هذا قيم المرأة وقوّامها بناء مبالغة للذي يقوم بأمرها ويهتم بحفظها كما يقوم الوالي على الرعية ومنه سمي الرجال قوّاما. والضمير في بعضهم للرجال والنساء جميعا أي إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل الله بعضهم- وهم الرجال- على بعض- وهم النساء. وقيل: وفيه دليل على أن الولاية إنما تستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة والقهر. وذكروا في فضل الرجال العقل والحزم والعزم والقوة والكتابة في الغالب والفروسية والرمي، وأن منهم الأنبياء والعلماء والحكماء، وفيهم الإمامة الكبرى وهي الخلافة، والصغرى وهو الاقتداء بهم في الصلاة، وأنهم أهل الجهاد والأذان والخطبة والاعتكاف والشهادة في الحدود والقصاص بالاتفاق وفي الأنكحة عند الشافعي، وزيادة السهم في الميراث والتعصيب فيه، والحمالة تحمل الدية في القتل الخطأ، والقسامة والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج وإليهم الانتساب، وكل ذلك يدل على فضلهم، وحاصلها يرجع إلى العلم والقدرة. ومنها سبب خارجيّ وذلك أنهم فضلوا عليهن بما أنفقوا أي أخرجوا في نكاحهن من أموالهم مهرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 ونفقة. عن مقاتل أن سعد بن الربيع، وكان من نقباء الأنصار، نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، فلطمها. فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أفرشته كريمتي فلطمها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتقتص منه، وكانت قد نزلت آية القصاص، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارجعوا هذا جبريل أتاني وأنزل الله هذه الآية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير ورفع القصاص. فلهذا قال العلماء: لا قصاص بين الرجل وامرأته فيما دون النفس ولو شجها ولكن يجب العقل، وقيل: لا قصاص إلّا في الجرح والقتل، وأما في اللطمة ونحوها فلا. ثم قسم النساء قسمين، فوصف الصالحات منهن بأنهن قانتات مطيعات لله وللزوج حافظات للغيب قائمات بحقوق الزوج في غيبته، والغيب خلاف الشهادة. ومواجب حفظ غيبة الزوج أن تحفظ نفسها عن الزنا لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها، ولئلّا يلحق به الولد الحاصل من نطفة غيره، وأن تحفظ أسراره عن الإفشاء وماله عن الضياع ومنزلها عما لا ينبغي شرعا وعرفا. عن النبي صلى الله عليه وسلم «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها وتلا الآية» «1» . و «ما» في قوله: بِما حَفِظَ اللَّهُ موصولة والعائد محذوف أي بالذي حفظه الله لهن أي عليهن أن يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن حيث أمرهم بالعدل فيهن في قوله: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: 229] فقوله: بِما حَفِظَ اللَّهُ يجري مجرى قولهم «هذا بذاك» أي هذا في مقابلة ذاك، أو مصدرية والمعنى: أنهن حافظات للغيب بحفظ الله إياهن فإنهن لا يتيسر لهن حفظ الغيب إلّا بتوفيق الله، أو بما حفظهن حين وعدهن الثواب العظيم على الأمانة، وأوعدهن العذاب الشديد على الخيانة. ومن قرأ بِما حَفِظَ اللَّهُ بالنصب ف «ما» أيضا موصولة أي بالأمر الذي يحفظ حق الله وأمانته وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم، أو مصدرية أي بسبب حفظهن حدود الله وأوامره فإن المرأة لولا أنها تحاول رعاية تكليف الله وتجتهد في حفظ أوامره وإلا لما أطاعت زوجها. ثم ذكر غير الصالحات منهن فقال: وَاللَّاتِي تَخافُونَ تعرفون بالقرائن والأمارات نُشُوزَهُنَّ عصيانهن والترفع عليكم بالخلاف من نشز الشيء ارتفع، ومنه نشز للأرض المرتفعة فَعِظُوهُنَّ وهو أن يقول: اتقي الله فإن لي عليك حقا، وارجعي عما أنت عليه، واعلمي أن طاعتي عليك فرض ونحو ذلك. وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ أي في المراقد أي لا تداخلوهن تحت اللحف. وقيل: هو أن يوليها ظهره في المضجع. وقيل: في المضاجع أي ببيوتهن التي يبتن فيها أي لا   (1) رواه أبو داود في كتاب الزكاة باب 32. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 5. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 تبايتوهن. وفي ضمن الهجران الامتناع من كلامها. ولكن ينبغي أن لا يزيد في هجره الكلام على ثلاث، فإذا هجرها في المضجع فإن كانت تحب الزوج شق ذلك عليها فتركت النشوز، وإن كانت تبغضه وافقها ذلك الهجران فكان ذلك دليلا على كمال نشوزها فيباح الضرب وذلك قوله: وَاضْرِبُوهُنَّ والأولى ترك الضرب لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تضربوا إماء الله» «1» فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرت النساء على أزواجهن أي اجترأن فرخص في ضربهن. فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم» . ومعناه أن الذين ضربوا أزواجهم ليسوا خيرا ممن لم يضربوا. وإذا ضربها وجب أن لا يكون مفضيا إلى الهلاك البتة، وأن يكون مفرقا على بدنها لا يوالي به في موضع واحد، ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن، وأن يكون دون الأربعين. وقيل: دون عشرين لأنه حد كامل في شرب العبد، ومنهم من لا يرى الضرب بالسياط ولا بالعصا. وبالجملة فالتخفيف مرعي في هذا الباب ولهذا قال علي بن أبي طالب: يعظها بلسانه فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها، فإن أبت ضربها، فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين. وقال آخرون: هذا الترتيب مرعي عند خوف النشوز، فأما عند تحقق النشوز فلا بأس بالجمع بين الكل. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «علق سوطك حيث يراه أهلك» . فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا بالأذى والتوبيخ، واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا لا بالجهة كَبِيراً لا بالجثة فَاحْذَرُوا واعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على أزواجكم وأرقائكم. روي أن أبا مسعود الأنصاري رفع سوطه ليضرب غلاما له فبصر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاح به: أبا مسعود، الله أقدر منك عليه. فرمى بالسوط وأعتق الغلام. وفيه أنه مع علوه وكبرياء سلطانه تعصونه فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو إذا رجع الجاني عليكم، أو أنه مع علوه وكبريائه لا يكلفكم إلا ما تطيقون فكذلك لا تكلفوهن محبتكم فلعلهن لا يقدرن على ذلك، أو أنه مع علو شأنه وكبريائه يكتفي من العبيد بالظواهر ولا يهتك السرائر فأنتم أجدر بأن لا تفتشوا عما في قلبها من الحب والبغض إذا صلح حالها في الظاهر، أو أنهن إن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم فالله تعالى قادر قاهر ينتصف لهن منكم. ثم بيّن أنه ليس بعد الضرب إلا المحاكمة فقال: وَإِنْ خِفْتُمْ قال ابن عباس: أي علمتم وذلك لإصرارها على النشوز حيث لم يؤثر فيها الوعظ والهجران والضرب. واعترض   (1) رواه ابن ماجه في كتاب النكاح باب 51. الدارمي في كتاب النكاح باب 34 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 عليه الزجاج بأنه إذا علم الشقاق قطعا فلا حاجة إلى الحكمين. وأجيب بأن الشقاق معلوم إلّا أنا لا نعلم أن سبب الشقاق منه أو منها، فالحاجة إلى الحكمين لهذا المعنى. أو نقول: المراد إزالة الشقاق في الاستقبال. ومعنى شِقاقَ بَيْنِهِما شقاقا بينهما، فأضيف الشقاق إلى الظرف على سبيل الاتساع وهو إجراء الظرف مجرى المفعول به، أو على جعل البين مشاقا مثل «نهاره صائم» والضمير للزوجين يدل عليهما مساق الكلام، أو ذكر الرجال والنساء فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ رجلا مقنعا رضا يصلح لحكومة الإصلاح بينهما ويهتدي إلى المقصود من البعث. ولا بد فيه من العقل والبلوغ والحرية والإسلام، ويستحب أن يكون الحكمان من أهلهما لأن الأقارب أعرف ببواطن أحوالهما وتسكن إليهما نفوس الزوجين، فيبرزان لهما ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة، وموجبات كل من الأمرين. وينبغي أن يخلو حكم الرجل بالرجل وحكم المرأة بالمرأة فيعرفان ما عندهما وما فيه رغبتهما، وإذا اجتمعا لم يخف أحدهما عن الآخر ما علم. ثم المبعوثان وكيلان من جهة الزوجين أو موليان من جهة الحكام المخاطبين بقوله: فَابْعَثُوا فيه للشافعي قولان: - أصحهما وبه قال أبو حنيفة وأحمد- أنهما وكيلان لأن البضع حق الزوج والمال حق الزوجة وهما رشيدان. والخطاب في قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ وفي فَابْعَثُوا لصالحي الأمة لأنه يجري مجرى دفع الضرر، فلكل أحد أن يقوم به. وثانيهما- وبه قال مالك- أنهما موليان لأنه تعالى سماهما الحكمين. ولما روي أن عليا عليه السلام بعث حكمين من زوجين فقال: أتدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا وإن رأيتما أن تفرّقا ففرقا. وعلى الأول يوكل الرجل الذي هو من أهله بالطلاق وبقبول العوض في الخلع، والمرأة الآخر ببذل العوض وقبول الطلاق. ولا يجوز بعثهما إلا برضاهما فإن لم يرضيا ولم يتفقا على شيء أدب القاضي الظالم واستوفى حق المظلوم. وعلى الثاني لا يشترط رضا الزوجين في بعث الحكمين. إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما فيه أربعة أوجه: الأول: إن يرد الحكمان خيرا يوفق الله بين الحكمين حتى يتفقا على ما هو خير. الثاني: إن يرد الزوجان إصلاحا أبدل الله الزوجين بالشقاق وفاقا. الثالث: إن يرد الحكمان إصلاحا يؤلف الله بين الزوجين. الرابع: إن يرد الزوجان خيرا يوفق الله بين الحكمين حتى تتفق كلمتاهما ويحصل الغرض، والتوفيق جعل الأسباب موافقة للغرض ولا يستعمل إلا في الخير والطاعة. وفيه أنه لا يتم شيء من الأغراض إلّا بتوفيق الله تعالى وتيسيره إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً فيوفق بين المختلفين ويجمع بين المفترقين بمقتضى علمه وإرادته. وفيه وعيد للزوجين والحكمين في سلوك ما يخالف طريق الحق ووعد على الجد في حسم مادة الخصومة والخشونة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 ثم أرشد إلى مجامع الأخلاق الحسنة بقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً فإن من عبد الله وأشرك به شيئا آخر فقد حبط عمله وضل سعيه وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً تقديره وأحسنوا بهما إحسانا. يقال: أحسن بفلان وإلى فلان. وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وقد مر تفاسيرها في البقرة. قال أبوبكر الرازي: إن اضطر إلى قتل أبيه بأن يخاف أن يقتله إن ترك قتله جاز له أن يقتله وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى الذي قرب جواره وَالْجارِ الْجُنُبِ الذي بعد جواره. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه، ألا وإن الجوار أربعون دارا» «1» . وعن الزهري أنه أراد أربعين من كل جانب. وقيل: الجار ذي القربى الجار القريب النسب، والجار الجنب الأجنبي. والتركيب يدل على البعد، ومنه الجانبان للناحيتين، والجنبان لبعد كل منهما عن الآخر، ومنه الجنابة لبعده عن الطهارة وعن حضور الجماعة والمسجد ما لم يغتسل. ومن قرأ الْجُنُبِ فمعناه المجنوب مثل «خلق» بمعنى مخلوق، أو المراد ذي الجنب فحذف المضاف وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وهو الذي حصل بجنبك إما رفيقا في سفر، وإما جارا ملاصقا، وإما شريكا في تعلم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس، أو في مسجد أو غير ذلك من أدنى صحبة اتفقت بينك وبينه، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان. وقيل: الصاحب بالجنب المرأة فإنها تكون معك وتضطجع إلى جنبك وَابْنِ السَّبِيلِ المسافر الذي انقطع عن بلده، أو الضيف وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ عن علي بن أبي طالب أنه كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وذكر اليمين تأكيد كما يقال: مشيت برجلي. والإحسان إليهم أن لا يكلفهم فوق طاقتهم ولا يؤذيهم بالكلام الخشن، بل يعاشرهم معاشرة جميلة ويعطيهم من الطعام والكسوة ما يليق بحالهم في كل وقت. وكانوا في الجاهلية يسيئون إلى المملوك فيكلفون الإماء البغاء وهو الكسب بفروجهن، ويضعون على العبيد الخراج الثقيل. وقيل: كل حيوان فهو مملوك. والإحسان إلى كل نوع بما يليق بحاله طاعة عظيمة إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً تياها جهولا يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه وممالكيه، وعن الالتفات إلى حالهم والتفقد لهم والتحفي بهم، ويأنف من أقاربه إذا كانوا فقراء ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء. وأصله من الخيلاء الكبر، والفخور المتطاول الذي يعد مناقبه. وعن ابن عباس هو الذي يفخر على عباد الله تعالى بما أعطاه من أنواع نعمه، ولعل هذا يجوز على سبيل التحدث بالنعم فقط. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ البخل في اللغة منع الإحسان، وفي الشرع منع   (1) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 29. مسلم في كتاب الإيمان حديث 73. الترمذي في كتاب القيامة باب 60. أحمد في مسنده (1/ 387) . بدون لفظ «ألا وإن الجوار أربعون دارا» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 الواجب. وفيه أربع لغات: البخل مثل الفقر، والبخل بضم الباء وسكون الخاء، وبضمهما، وبفتحهما. وسبب النظم أن الإحسان إلى الأصناف المذكورين إنما يكون في الأغلب بالمال فذم المعرضين عن ذلك الإحسان لحب المال، ويحتمل أن يشمل البخل بالعلم أيضا، أي يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم مقتا للسخاء وهذه نهاية البخل. وفي أمثالهم «أبخل من الضنين بنائل غيره» وقد عابهم بكتمان نعمة الله وما آتاهم من فضل الغنى حتى أوهموا الفقر مع الغنى، والإعسار مع اليسار، والعجز مع الإمكان فخالفوا سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى يحب أن يرى على عبده أثر نعمته» «1» وبنى عامل للرشيد قصرا حذاء قصره فنم به عنده. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن الكريم يسره أن يرى أثر نعمته فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك فأعجبه كلامه. ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر مثل أن يظهر الشكاية من الله تعالى ولا يرضى بقضائه فلذلك قال: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ويحتمل أن يراد كافر النعمة لا كافر الإيمان. وقال ابن عباس: إنّ الآية في اليهود، كانوا يأتون رجالا من الأنصار يخالطونهم وينتصحون لهم يقولون: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون. وأيضا إنهم كتموا صفة محمد ولم يبينوها للناس. ثم لما ذمّ الذين لا ينفقون أموالهم عطف عليهم الذين ينفقون أموالهم ولكن رياء وفخارا وليقال ما أسخاهم وما أجودهم لا ابتغاء وجه الله، ومثل هذا الإنفاق دليل على أنه لا يؤمن بالله واليوم الآخر وإلّا أنفق لله أو للآخرة وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً في الدنيا آمرا بالبخل والفحشاء فَساءَ قَرِيناً في الآخرة يقرن به في النار. ثم استفهم على سبيل الإنكار فقال: وَماذا عَلَيْهِمْ أي أيّ تبعة ووبال عليهم؟ أو ما الذي عليهم في باب الإيمان والإنفاق في سبيل الله؟ والمراد التوبيخ وإلّا فكل منفعة في ذلك كما يقال للمنتقم: ما ضرك لو عفوت؟ وللعاق: ما كان يرزؤك لو كنت بارا؟. وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً بعث على إصلاح أفعال القلوب التي يطلع عليها علام الغيوب، وردع عن دواعي النفاق والرياء والسمعة والفخار. احتج القائلون بأن الإيمان يصح على سبيل التقليد بأن قوله: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا مشعر بأن الإتيان بالإيمان في غاية السهولة والاستدلال في غاية الصعوبة. وأجيب بأن الصعوبة في الإيمان الاستدلالي التفصيلي لا الإجمالي. وقال جمهور المعتزلة: لو كانوا غير قادرين لم يقل: وَماذا عَلَيْهِمْ كما لا يقال للمرأة ماذا عليها لو كانت رجلا، وللقبيح ماذا عليه لو كان جميلا. وأجيب بعدم التحسين والتقبيح العقليين وأنه لا يسأل عما يفعل.   (1) رواه الترمذي في كتاب الأدب باب 54. أحمد في مسنده (2/ 311) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 ثم رغب في الإيمان والطاعة قائلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ والمثقال مفعال من الثقل كالميزان من الوزن. والذرة النملة الصغيرة. وعن ابن عباس أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها ثم قال: كل واحد من هذه الأشياء ذرة. وقيل: كل جزء من أجزاء الهباء في الكوّة ذرة. وانتصاب مِثْقالَ على أنه مفعول ثان أي لا ينقص الناس مثقال ذرة، أو على المصدر أي ظلما قدر مقدارها، وأراد نفي الظلم رأسا إلا أنه أخرج الكلام على أصغر المتعارف. وهذه الآية مما يتمسك به المعتزلة في أنه تعالى غير خالق لأعمال العباد وإلا كان ظلمهم منسوبا إليه، وفي أن العبد يستحق الثواب على طاعته وإلا كان منعه عنه ظلما. وأجيب بأنه إذا كان متصرفا في ملكه كيف شاء فلا يتصور منه ظلم أصلا. وقد يحتج الأصحاب هاهنا على صحة مذهبهم في عدم الإحباط بأن عقاب شرب قطرة من الخمر لو كان مزيلا لطاعات سبعين سنة كان ظلما، وفي عدم وعيد الفساق بأن عقاب شرب جرعة من الخمر لو كان دائما مخلدا لزوم إبطال ثواب إيمان سبعين سنة وهو ظلم. ثم قال: وَإِنْ تَكُ حذفت النون من هذه الكلمة بعد سقوط الواو بالتقاء الساكنين لأجل التخفيف وكثرة الاستعمال. من قرأ حَسَنَةً بالرفع فعلى «كان» التامة، ومن قرأ بالنصب فالتأنيث في ضمير المثقال لكونه مضافا إلى مؤنث. والمراد بالمضاعفة ليس هو المضاعفة بالمدة لأن مدة الثواب غير متناهية وتضعيف غير المتناهي محال، بل المراد المضاعفة بحسب المقدار، كأن يستحق عشرة أجزاء من الثواب فيجعله عشرين أو ثلاثين. عن ابن مسعود أنه قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان ابن فلان، من كان له عليه حق فليأت إلى حقه، ثم يقال له: أعط هؤلاء حقوقهم، فيقول: يا رب ومن أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله لملائكته: انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها، فإن بقي مثقال ذرة من حسنة ضعفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضل رحمته ومصداق ذلك في كتاب الله وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها. قال الحسن: الوعد بالمضاعفة أحب عند العلماء مما لو قال في الحسنة الواحدة مائة ألف حسنة، لأن هذا يكون مقداره معلوما، أما على هذه العبارة فلا يعلم كميته إلّا الله تعالى. وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فبطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها» «1» أما قوله: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً فإن لَدُنْهُ بمعنى عند إلا أن لدن أكثر تمكنا. يقول الرجل: عندي مال وإن كان المال ببلد آخر. ولا يقول: لديّ مال إلّا إذا كان بحضرته. والمعتزلة حملوا   (1) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث 56. أحمد في مسنده (3/ 123) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 المضاعفة على القدر المستحق وهذا الثاني على الفضل التابع للأجر. ويمكن أن يقال: الأول إشارة إلى السعادات الجسمانية، والثاني إشارة إلى اللذات الروحانية والله أعلم. التأويل: جملة الكبائر مندرجة تحت ثلاث: إحداها اتباع الهوى وينشأ منه البدع والضلالات وطلب الشهوات وحظوظ النفس بترك الطاعات، وثانيتها حب الدنيا وينشعب منه القتل والظلم وأكل الحرام، وثالثتها رؤية غير الله وهو الشرك والرياء والنفاق وغيرها. ثم أخبر أن الذين ليس بالتمني فقال: وَلا تَتَمَنَّوْا فإنه لا يحصل بالتمني ولكن لِلرِّجالِ المجتهدين في الله نَصِيبٌ مما جدّوا في طلبه وَلِلنِّساءِ وهم الذين يطلبون من الله غير الله نَصِيبٌ على قدر همتهم في الطلب وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فيه معنيان: سلوه من فضله الخاص وهو العلم اللدني وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ، [النساء: 113] أو سلوه منه ولا تسألوه من غيره وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ لكل طالب صادق جعلنا استعدادا في الأزل للوراثة مما ترك والداه وأقرباؤه، طلبه لعدم الاستعداد والمشيئة. والذين جرى بينكم وبينهم عقد الأخوة في الله فَآتُوهُمْ بالنصح وحسن التربية والتسليك نَصِيبَهُمْ الذي قدّر لهم الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بمصالح دينهن ودنياهن بتفضيل الله وهو استعداد الخلافة والوراثة وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ أي تجريدهم عن الدنيا وتفريدهم للمولى. فَالصَّالِحاتُ اللاتي يصلحن للكمال قانِتاتٌ مطيعات لله لهن قلوب حافِظاتٌ لواردات الغيب بِما حَفِظَ اللَّهُ عليهن حقائق الغيب وأسراره. وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ إذا دارت عليهن كؤوس الواردات كما قيل: فأسكر القوم دور كاس ... وكان سكري من المدير فَعِظُوهُنَّ باللسان وخوّفوهن بالهجران ليتأدب السكران وَاضْرِبُوهُنَّ بسوط الانفصال وفراق الإخوان كما كان حال الخضر مع موسى حيث قال: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف: 78] هذا قانون أرباب الكمال إذا رأوا من أهل الإرادة أمارات الملال أو عربدة من غلبات الأحوال. وَإِنْ خِفْتُمْ شقاقا بين الشيخ الواصل والمريد المتكامل فَابْعَثُوا متوسطين من المشايخ الكاملين ومن السالكين المعتبرين إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً بينهما بما رأيا فيه صلاحهما يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما بالإرادة وحسن التربية وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً من الدنيا والعقبى لتتخلقوا بأخلاق الله وتحسنوا إلى الوالدين وغيرهما إِحْساناً بلا شرك ورياء وفخر وخيلاء والله ولي والتوفيق. [سورة النساء (4) : الآيات 41 الى 57] فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 القراآت: تُسَوَّى بإدغام تاء التفعل في السين: أبو جعفر ونافع وابن عامر تُسَوَّى بالإمالة وحذف التاء الأولى: حمزة وعلي وخلف. الباقون تُسَوَّى مبنيا للمفعول من التسوية لمستم من اللمس وكذلك في المائدة: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون: لامَسْتُمُ من الملامسة فَتِيلًا انْظُرْ بكسر التنوين: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وابن ذكوان. الباقون: بالضم. وفرق بعضهم بين موضع الخفض فلم يجوز الضم كراهة الانتقال من الكسرة إلى الضمة نحو مُتَشابِهٍ انْظُرُوا [الأنعام: 99] وبِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا [الأعراف: 49] وخَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ [إبراهيم: 26] وعَذابٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 ارْكُضْ [ص: 41] وأشباه ذلك. نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ وبابه مدغما: حمزة وعلي وخلف وهشام وأبو عمرو. الوقوف: شَهِيداً ط الْأَرْضُ ط حَدِيثاً هـ تَغْتَسِلُوا ط وَأَيْدِيكُمْ ط غَفُوراً هـ السَّبِيلَ هـ ط بِأَعْدائِكُمْ ط نَصِيراً هـ فِي الدِّينِ ط وَأَقْوَمَ لا لاتصال لكن قَلِيلًا هـ السَّبْتِ ط مَفْعُولًا هـ لِمَنْ يَشاءُ ج عَظِيماً هـ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ط فَتِيلًا هـ الْكَذِبَ ط مُبِيناً هـ ط سَبِيلًا هـ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ط نَصِيراً هـ ط لأن «أم» بمعنى همزة الاستفهام للإنكار نَقِيراً هـ لا للعطف مِنْ فَضْلِهِ ج لتناهي الاستفهام مع تعقب الفاء عَظِيماً هـ صَدَّ عَنْهُ ط سَعِيراً هـ ناراً ط الْعَذابَ ط حَكِيماً هـ أَبَداً ط مُطَهَّرَةٌ ز لاستئناف الفعل على أنه من تمام المقصود ظَلِيلًا هـ. التفسير: إنه سبحانه لما أوعد الظالمين بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: 40] ووعد المطيعين بقوله: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها [النساء: 40] أراد أن يبين أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله حجة على الخلق ليكون الإلزام أتم والتبكيت أعظم. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: اقرأ القرآن عليّ. قال: فقلت: يا رسول الله أنت الذي علّمتنيه! فقال: أحب أن أسمعه من غيري. قال ابن مسعود: فافتتحت سورة النساء، فلما انتهيت إلى هذه الآية قال: حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. قال العلماء: إنه بكاء فرح لما شرفه الله تعالى بكرامة قبول الشهادة على الخلائق. والمعنى كيف يصنع هؤلاء الذين شاهدتهم وعرفت أحوالهم من مردة الكفرة كاليهود وغيرهم إذا جئنا من كل أمة بشهيد يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم، وجئنا بك على هؤلاء المكذبين شهيدا؟ ثم وصف ذلك اليوم فقال: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ قيل: هذه الجملة معترضة والمراد وقد عصوا. والظاهر أن الواو للعطف وحينئذ تقتضي كون عصيان الرسول مغايرا للكفر لأنّ عطف الشيء على نفسه غير جائز. فإما أن يخص الكفر بنوع منه وهو الكفر بالله، أو يقال: إنه عام وأفرد ذكر قسم منه إظهارا لشرف الرسول وتفظيعا لشأن الجحود به، أو يحمل عصيان الرسول على المعاصي المغايرة للكفر فيكون في الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع. ومعنى لَوْ تُسَوَّى لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى، أو يودون أنهم لم يبعثوا أو أنهم كانوا والأرض سواء، أو تصير البهائم ترابا فيودون حالها كقوله: يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [النبأ: 40] أما قوله: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فإما أن يتصل بما قبله والواو للعطف أي يودون لو انطبقت عليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 الأرض ولم يكونوا كتموا أمر محمد ولا كفروا به ولا نافقوا، أو للحال والمراد أن المشركين لما رأوا يوم القيامة أن الله يغفر لأهل الإسلام دون أهل الشرك قالوا تعالوا فلنجحد فيقولون: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] رجاء أن يغفر الله لهم، فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، هناك يودون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا. وإما أن يكون كلاما مستأنفا فإن ما عملوه ظاهر عند الله فكيف يقدرون على كتمانه وإن قصدوه أو توهموه؟ ثم أتبع وصف اليوم كيفية الصلاة التي هي سنام الطاعات وأعظم المنجيات فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى وقد مر سبب نزوله في البقرة. وفي لفظ الصلاة هاهنا قولان: أحدهما أن المراد منه المسجد وهو قول ابن عباس وابن مسعود والحسن وإليه يذهب الشافعي، وليس فيه إلا حذف المضاف أي لا تقربوا موضع الصلاة. وثانيهما وعليه الأكثرون أن المراد نفس الصلاة أي لا تصلوا إذا كنتم سكارى. ومعنى الآية على القول الأولى لا تقربوا المسجد في حالتين: إحداهما حالة السكر، وذلك أن جمعا من أكابر الصحابة قبل تحريم الخمر كانوا يشربونها ثم يأتون المسجد للصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فنهوا عن ذلك لأن الظاهر أن الإنسان إذا أتى المسجد فإنما يأتيه للصلاة، ولا شك أن الصلاة فيها أقوال مخصوصة يمنع السكر منها. وثانيهما حالة الجنابة، واستثنى من هذه الحالة حالة العبور أي الاجتياز في المسجد بأن كان الطريق إلى الماء فيه، أو كان الماء فيه ووقع الاحتلام فيه. والمعنى على القول الثاني النهي عن الصلاة في حالتين: الأولى حالة السكر أيضا إلّا إذا علموا ما يقولون، ومعنى قربان الصلاة غشيانها والقيام إليها. والثانية حالة الجنابة ويستثنى منها حالة عبور السبيل ويراد به في هذا القول السفر. أي لا تقربوا الصلاة في حالة الجنابة، إلّا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حال السفر. ويجوز أن يكون إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ صفة لقوله: جُنُباً أي لا تقربوها جنبا غير عابري سبيل أي جنبا مقيمين. وإنما استثنى حالة المسافر لما يجيء من تفصيل فيها، وهو أن المسافر إذا أجنب ثم لم يجد الماء تيمم وصلى مع الجنابة. ويرد عليه بعد أن الجنب المقيم أيضا إذا عجز عن استعمال الماء لمرض أو برد يجوز له التيمم والصلاة على الجنابة، اللهم إلّا أن يقال: إن عذر السفر أعم وأغلب فلهذا تخصص بالذكر أولا. وسكارى جمع سكران. وقوله: وَأَنْتُمْ سُكارى في محل النصب على الحال ولهذا عطف عليه قوله: وَلا جُنُباً والجنب يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الاجتناب، وخالف الضحاك جمهور الصحابة والتابعين فقال: إن السكر هاهنا يراد به غلبة النوم ويوافقه الاشتقاق، فإن السكر عبارة عن سد الطريق، ومنه سكر السبيل سد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 طريقه. والسكر في الشراب هو أن ينقطع عما عليه من المضار في حال الصحو، فعند النوم تمتلىء مجاري الروح من الأبخرة الغليظة فتنسد تلك المجاري بها ولا ينفذ الروح السامع والباصر إلى ظاهر البدن. والجواب أن لفظ السكر حقيقة في السكر من الخمر والأصل في الإطلاق الحقيقة، ومتى استعمل مجازا فإنما استعمل مقيدا كقوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ [ق: 19] وَتَرَى النَّاسَ سُكارى [الحج: 2] وأيضا أجمع المفسرون على أنها نزلت في شرب الخمر، وسبب النزول يمتنع أن لا يكون مرادا من الآية. ثم على قول الجمهور يمكن ادعاء النسخ في الآية بأنه إنما نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول، والحكم الممدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية فهذا يقتضي جواز الصلاة مع السكر إذا كان بحيث يعلم ما يقول. وجواز الصلاة مع هذا السكر توهم جواز هذا السكر، لكنه تعالى حرم الخمر في آية سورة المائدة على الإطلاق فتكون ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية. ومن قال: إن مدلول الكلام يرجع إلى النهي عن الشرب المخل بالفهم عند القرب من الصلاة، وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه فلا يكون منسوخا، يكذبه أن الصحابة لم يفهموا منها التحريم المطلق فكانوا لا يشربون في أوقات الصلاة، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلّا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون إلى أن نزلت آية المائدة فقالوا: انتهينا يا رب. والتحقيق فيه أن النهي عن مباح الأصل في وقت ما وبوجه ما وإن كان لا يدل على تحريمه ولا على إباحته في غير ذلك الوقت وبغير ذلك الوجه إلّا أن جانب الإباحة راجح بحكم الأصل فيغلب على الظن ذلك كما فهمه الصحابة. ثم إنه تعالى ذكر حكم المعذورين في حال الحدث فخص أولا من بينهم مرضاهم وسفرهم لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم لكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة. والمعنى أن المرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه فلهم أن يتمموا، وكذلك الذين هم على حالة السفر إذا عدموه لبعده. ويحتمل أن يقال: قوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ليس قيدا في حكم المرضى لأنهم في الرخصة وإن وجدوا ماء. ثم عمم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف سبع أو عدو أو عدم آلة استقاء أو انحصار في مكان لا ماء فيه أو غير ذلك من الأسباب التي لا تكثر كثرة المرض والسفر. ويراد بالمرض ما يخاف معه محذور كبطء برء وشين فاحش ظاهر بقول طبيب مقبول الرواية لا أن يتألم ولا يخاف. روي أن بعض الصحابة أصابته جنابة وكان به جراحة عظيمة، فسأل بعضهم فلم يفته بالتيمم، فاغتسل فمات. فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوه قتلهم الله. وقال مالك وداود: يجوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 له التيمم بجميع أنواع المرض. وفي معنى المرض البرد المؤدي إلى المرض لو استعمل الماء كما مر من حديث عمرو بن العاص في تفسير قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] والسفر يعم الطويل والقصير أعني مسافة القصر وما دونها لإطلاق قوله: أَوْ عَلى سَفَرٍ والغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان. كان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطا من الأرض يغيب فيه عن أعين الناس، فكنى به عن ذلك. وأكثر العلماء ألحقوا بالغائط كل ما يخرج من السبيلين من معتاد أو نادر. أما اللمس أو الملامسة ففيه قولان: أحدهما أن المراد به التقاء البشرتين بجماع أو بغيره كما هو مقتضى اللغة وهو قول ابن مسعود وابن عمرو الشعبي والنخعي وإليه ذهب الشافعي. وثانيهما المراد به الجماع وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ومذهب أبي حنيفة والشيعة لما ورد في القرآن بطريق الكناية: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 237] فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا. [المجادلة: 3] عن ابن عباس: إنّ الله حيّ كريم يعف ويكني، فعبر عن المباشرة بالملامسة. وأيضا لتشمل الآية الحدثين الأصغر والأكبر. ثم على مذهب الشافعي قال بعض أهل الظاهر: إنما ينتقض وضوء اللامس دون الملموس لقوله: أَوْ لامَسْتُمُ والصحيح أنه ينتقض وضوأهما معا لاشتراك اللامس والملموس في ابتغاء اللذة. قوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً قال الشافعي: إذا دخل وقت الصلاة فطلب الماء ولم يجده فتيمم وصلى ثم دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى، لأن عدم الوجدان مشعر بسبق الطلب فلا بد في كل مرة من سبق الطلب. وقال أبو حنيفة: لا يجب بدليل قوله: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] وسبق الطلب في حقه تعالى محال. وأجيب بأنه بنى الكلام على المجاز للمبالغة كأنه طلب شيئا ثم لم يجد. وأجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه احتاج إليه لعطشه أو لعطش حيوان محترم معه جاز له التيمم، ولو وجد من الماء ما لا يكفيه فالأصح عند الأئمة أنه يستعمله أو يصبه ثم يتيمم ليكون عاملا بظاهر الآية. والتيمم في اللغة القصد. والصعيد التراب، «فعيل» بمعنى «فاعل» . وقال ثعلب والزجاج: إنه وجه الأرض ترابا كان أو غيره. ومن هنا قال أبو حنيفة: إذا كان صخر لا تراب عليه وضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك كافيا. وقال الشافعي: لا بد من تراب لتحقق مفهوم التصاعد فيه وليلتصق بيده فيمكنه المسح ببعضه كما جاء في المائدة فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة: 6] ولا يفهم من قول القائل: مسحت برأسي من الدهن إلّا معنى التبعيض، ولأن الصعيد وصف بالطيب والطيب هو الذي يحتمل الإثبات لقوله: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف: 58] ولأنه صلى الله عليه وسلم خصص التراب بهذا المعنى فقال: «جعلت لي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 الأرض مسجدا وترابها طهورا» «1» . أما مسح الوجه واليد فعن علي وابن عباس: اختصاص المسح بالجبهة وظاهر الكفين وقريب منه مذهب مالك لأن المسح مكتفى فيه بأقل ما يطلق عليه اسم المسح. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يستوعب الوجه واليدين إلى المرفقين كما في الوضوء. وعن الزهري إلى الآباط، لأن اليد حقيقة لهذا العضو إلى الإبط، ثم ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً وهو كناية عن الترخيص والتيسير لأن من كان عادته العفو عن المذنبين كان أولى بالترخيص للعاجزين. عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء؟ قالت: فعاتبني أبوبكر وقال ما شاء الله أن يقول، فجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي. فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير وهو أحد النقباء: ما هو بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته. ثم إنه سبحانه لما ذكر من أول السورة إلى هاهنا أحكاما كثيرة عدل إلى ذكر طرف من آثار المتقدمين وأحوالهم، لأنّ الانتقال من أسلوب إلى أسلوب مما يزيد السامع هزة وجدة فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أي ألم ينته علمك؟ أو ألم تنظر إلى من أوتوا حظا من علم التوراة وهم أحبار اليهود؟ وإنما أدخل «من» التبعيضية لأنهم عرفوا من التوراة نبوة موسى ولم يعرفوا منها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. فأما الذين أسلموا منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه فقد وصفهم بأن معهم علم الكتاب في قوله: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد: 43] لأنهم عرفوا الأمرين جميعا يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ يختارونها لأن من اشترى شيئا فقد آثره واختاره قاله الزجاج. والمراد تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم لأغراضهم الفاسدة من أخذ الرشا وحب الرياسة. وقيل: المراد يستبدلون الضلالة- وهو البقاء على اليهودية- بالهدى- وهو الإسلام- بعد وضوح الآيات لهم على صحته. وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا أنتم أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوه، ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين، الضلال والإضلال. عن ابن عباس أن الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رأس   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 222) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 المنافقين عبد الله بن أبي ورهطه فيثبطانهم عن الإسلام. وقيل: المراد عوام اليهود كانوا يعطون أحبارهم بعض أموالهم لينصروا اليهودية فكأنهم اشتروا بمالهم الشبهة والضلالة وَاللَّهُ أَعْلَمُ منكم بِأَعْدائِكُمْ لأنه عالم بكنه ما في صدورهم من الحنق والغيظ، فإذا أطلعكم على أحوالهم فلا تستنصحوهم في أموركم واحذروهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا متوليا لأمور العبد وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً فثقوا بولايته ونصرته دونهم. وكرر «كفى» ليكون أشد تأثيرا في القلب وأكثر مبالغة، وزيدت الباء في الفاعل إيذانا بأن الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره فكان الباء للسببية. وقال ابن السراج: التقدير كفى اكتفاؤك بالله. وقيل: فائدة الباء وهي للإلصاق أن يعلم أن هذه الكفاية صدرت من الله تعالى بغير واسطة. وقوله: مِنَ الَّذِينَ هادُوا إما بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب وقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ إلى آخر الآية معترض بين البيان والمبين، وإما بيان لأعدائكم والجملتان بينهما معترضتان، وإما صلة نَصِيراً كقوله: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا [الأنبياء: 77] وإما كلام مستأنف على أن يُحَرِّفُونَ صفة مبتدأ محذوف تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم عن مواضعه. قال الواحدي: الكلم جمع حروفه أقل من حروف واحده، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره. ومعنى هذا التحريف استبدال لفظ مكان لفظ كوضعهم «آدم طوالا» مكان «أسمر ربعة» وجعلهم الحد بدل الرجم. واختير «عن» للدلالة على الإمالة والإزالة. وأما في المائدة فقيل: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ [المائدة: 41] نظرا إلى أن الكلم كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له. وقيل: المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة كما يفعله في زماننا أهل البدعة. وجعل بعض العلماء هذا القول أصح لاستبعاد تحريف المشهور المتواتر، لكن دعوى التواتر بشروطه في التوراة ممنوعة. وقيل: كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه عن أمر فيخبرهم به فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه. ومن جملة جهالاتهم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر سمعنا وفي الباطن عصينا، أو كانوا يقولون كلا اللفظين ظاهرا إظهارا للعناد والمرود والكفر والجحود، ومنها قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وهو كلام ذو وجهين: أما احتماله المدح فلقول العرب: أسمع فلان فلانا إذا سبه. وإذا كان المراد: اسمع غير مسمع مكروها كان مدحا وتوقيرا ونصحا. وأما احتمال الذم فبأن يكون معناه اسمع منا مدعوا عليك بلا سمعت، لأن من كان أصم فإنه لا يسمع فلا يسمع، أو بأن يراد اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه أي غير مسمع جوابا يوافقك، أو بأن يراد اسمع غير مسمع كلاما ما ترتضيه، وعلى هذا يجوز أن يكون غَيْرَ مُسْمَعٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 مفعول اسْمَعْ لا حالا من ضميره أي اسمع كلاما غير مسمع إياك لنبوّ سمعك عنه. ومنها قولهم له صلى الله عليه وسلم راعِنا وقد عرفت احتمالاته في البقرة. وإنما جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد تصريحهم بالعصيان على وجه لأن المواجهة بالعصيان أهون خطبا في العرف من المواجهة بالسب ودعاء السوء ولهذا كانت الكفرة يواجهونه بالأول دون الثاني. لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ مفعول لأجله، أو مصدر لمحذوف، أو ل يَقُولُونَ لأنه في معنى اللي أيضا وعينه «واو» بدليل لويت فقلبت وأدغمت. والمعنى: يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون راعِنا موضع انْظُرْنا وغَيْرَ مُسْمَعٍ موضع لا سمعت مكروها، أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا، أو لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عند ذكر هذا الكلام سخرية وطعنا على عادة المستهزئين، فبين الله تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء طعنا في الدين ونبه بذلك على ما كانوا يقولونه فيما بينهم إنا نشتمه ولا يعرفه ولو كان نبيا لعرف بإظهار ذلك عليه فانقلب ما جعلوه طعنا في الدين دلالة قاطعة على صحته لأن الإخبار عن الغيب معجز. وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا بدل قولهم: سَمِعْنا وَعَصَيْنا إذ وضح لهم الآيات وثبت لهم البينات كرات بعد مرات واسْمَعْ دون أن يقال معه غَيْرَ مُسْمَعٍ وَانْظُرْنا مكان راعِنا لَكانَ قولهم ذلك خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ أعدل لا أشد من قولهم: «رمح قويم» أي مستقيم وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي بسببه فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إيمانا قَلِيلًا وهو إيمانهم بالله وبالتوراة وببعض الأنبياء دون سائر رسله. أو إلّا قليلا منهم آمنوا لأن «فعيلا» قد يراد به الجمع كقوله: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] أو أراد بالقلة العدم. ثم زجرهم عن كفر الجحود والعناد بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآية. والطمس المحو. يقال: طريق طامس ومطموس، ومفازة طامسة الأعلام، وطمست الكتاب محوته. وهو في الآية حقيقة أو مجاز قولان. والمعنى على الأول محو تخطيط صورها وأشكالها من عين وحاجب وأنف وفم. والفاء في فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها إما للتسبيب أي فنجعل الوجوه بسبب هذا الطمس على هيئة أقفائها مطموسة مثلها، لأن الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه من الحواس والتخاطيط، فإذا أزيلت ومحيت لم يبق فرق بينها وبين القفا. وإما للتعقيب على أن العقوبة شيئان: إحداهما عقيب الأخرى الطمس، ثم نكس الوجه إلى خلف والأقفاء إلى قدام. وإنما يكون هذا عقوبة لما فيه من تشويه الخلقة والمثلة والفضيحة كما قال في حق أهل النار وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق: 10] على أن وجوههم مردودة إلى أقفائهم فتدرك الكتابة وتقرأ من هناك. وأما المعنى على القول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 الثاني فعن الحسن: نطمسها عن الهدى ونردها بالخذلان على أدبارها أي على ضلالاتها وشبهاتها. وذلك أن المتوجه إلى عالم الحس معرض عن عالم العقل، وبقدر الإقبال على ذاك يحصل الإدبار عن هذا. وقال عبد الرحمن بن زيد: نردهم إلى حيث جاؤوا منه وهي أذرعات الشام. يريد إجلاء بني قريظة والنضير. والطمس على هذا إما تقبيح الوجوه وإما إزالة آثارهم عن ديار العرب. وقيل: الطمس القلب والتغيير. والمراد بالوجوه رؤساؤهم ووجهاؤهم أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وأدبارهم. والضمير في قوله: أَوْ نَلْعَنَهُمْ إما للوجوه إن أريد بها الوجهاء، وإما لأصحاب الوجوه لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم، أو يرجع إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات. فإن قيل: فأين وقوع الوعيد؟ فالجواب أنه مشروط بعدم إيمان جميعهم ولكنه قد آمن ناس من علمائهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. حكي أنه لما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن سلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال: يا رسول الله، ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي. وأيضا إنه ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه بل إياه أو اللعن. فإن كان الطمس تبديل أحوال رؤسائهم أو إجلاءهم إلى الشام فقد كان أحد الأمرين، وإن كان غيره فقد حصل اللعن فإنهم ملعونون بكل لسان. واللعن الموعود ظاهره اللعن المتعارف لا المسخ. وقيل: هو منتظر ولهذا قيل: وُجُوهاً منكرة دون «وجوهكم» ليشمل وجوها غير المخاطبين من أبناء جنسهم، ولا بد من مسخ وطمس لليهود قبل يوم القيامة. وقيل: إنّ قوله: آمِنُوا تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم فلزم أن يكون قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً واقعا في الآخرة. فالتقدير: آمنوا من قبل أن يجيء الوقت الذي نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا لأنه لا راد لحكمه ولا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله، وهذا كما يقال في الشيء الذي لا يشك في حصوله هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد، فإذا حكم بإنزال العذاب على قوم فعل ذلك البتة. والمراد بالأمر الشأن والفعل الذي تعلق إرادته به لا الأمر الذي هو أحد أقسام الكلام، فلا يصح استدلال الجبائي بالآية على أن كلامه تعالى مفعول أي مخلوق. ثم بين أن مثل هذا التهديد من خواص الشرك والكفر فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ الآية. وفي الآية دلالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع لاتصالها بقصتهم، ولأنها دلت على أن ما سوى الشرك مغفور واليهودية غير مغفورة بالإجماع. ومن هنا قال الشافعي: المسلم لا يقتل بالذمي لأن الذمي مشرك، والمشرك المباح الدم هو الذي لا يجب القصاص على قاتله، ولا يتوجه النهي عن قتله ترك العمل بهذا الدليل في النهي فيبقى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 معمولا به في سقوط القصاص عن قاتله. واستدلت الأشاعرة بالآية على غفران صاحب الكبيرة قبل التوبة لأن ما دون الشرك يشمله. والمعتزلة خصصوا الثاني بمن تاب كما أن الأول مخصص بالإجماع بمن لم يتب. قالوا: ونظيره قولك: «إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء» . المعنى لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله، ويبذل القنطار لمن يستأهله. والمشيئة تكون قصدا في الفعلين: المنفي والمثبت جميعا، لأنه إن شاء لم يتب المشرك فلا يترتب عليه الغفران، وإن شاء تاب صاحب الكبيرة فيستوجب الغفران. وروى الواحدي في البسيط بإسناده عن ابن عمر قال: كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية فأمسكنا عن الشهادة. وقال ابن عباس بمحضر عمر: إني لأرجو كما لا ينفع مع الشرك عمل كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب فسكت عمر. وعن ابن عباس: لما قتل وحشي حمزة يوم أحد وكانوا قد وعدوه الإعتاق إن هو فعل ذلك. ثم إنهم ما وفوا بذلك ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ندمهم، وأنه لا يمنعهم من الدخول في الإسلام إلّا قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الفرقان: 68] فقالوا: قد ارتكبنا كل ما في الآية فنزل قوله: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الفرقان: 70] فقالوا: هذا شرط شديد نخاف أن لا نقوم به فنزل إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فقالوا: نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزل قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 52] فدخلوا عند ذلك في الإسلام. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى اختلق وافتعل إِثْماً عَظِيماً لأنه ادعى ما لا يصح كونه. عن ابن عباس في رواية الكلبي أن قوما من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد هل على هؤلاء ذنب؟ فقال: لا. فقالوا: والله ما نحن إلّا كهيئتهم. ما عملنا بالليل يكفر عنا بالنهار، وما عملنا بالنهار يكفر عنا بالليل. وكانوا يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 111] فنزل فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ويدخل فيه كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل أو قبول الطاعة والزلفى عند الله بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وإن تزكيته هي التي يعتد بها كما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض» وكفى بإظهار المعجزات على يده تزكية له وتصديقا لقوله: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا هو ما فتلت بين أصبعيك من الوسخ «فعيل» بمعنى «مفعول» . ابن السكيت: هو ما كان في شق النواة. والضمير للذين يزكون أي يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم، أو لمن يشاء أي يثابون على زكاتهم من غير نقص شيء من ثوابهم. ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من فريتهم وادعاء زكاتهم ومكانتهم عند الله فقال: انْظُرْ كَيْفَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ أي بزعمهم هذا إِثْماً مُبِيناً من بين سائر آثامهم. قال المفسرون: خرج كعب بن الأشرف وحيي بن الأخطب في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزل كعب على أبي سفيان والآخرون في دور قريش. فقال لهم أهل مكة: إنكم أهل كتاب ومحمد صلى الله عليه وسلم صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم. فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما فذلك قوله: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ثم قال كعب لأهل مكة: ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد صلى الله عليه وسلم ففعلوا ذلك، فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق، أنحن أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال كعب: اعرضوا علي دينكم. فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقهم الماء ونقري الضعيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد صلى الله عليه وسلم الحديث. فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما هو عليه فأنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعني كعبا وأصحابه. فلما رجعا إلى قومهما قال لهما قومهما: إن محمدا يزعم أنه قد نزل فيكما كذا وكذا. قالا: صدق والله ما حملنا على ذلك إلا بغضه وحسده. وقد مر معنى الطاغوت في تفسير آية الكرسي. وأما الجبت ففي الصحاح أنه كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك وليس من محض العربية لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة من غير حرف ذو لقي. وحكى القفال عن بعضهم أن أصله جبس فأبدلت السين تاء والجبس هو الخبيث الرديء. وقال الكلبي: الجبت في الآية هو حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف. وكانت اليهود يرجعون إليهما فسميا بهذين الاسمين لسعيهما في إغواء الناس وإضلالهم فلا جرم جزاهم الله بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وبالحري إذ جعلوا من هو أضل من النعام وأقل من الأنعام حيث رضوا بمعبودية الأصنام أهدى سبيلا وأفضل حالا من الذين هم أشرف الأنام باختيارهم دين الإسلام الذي هو عبادة ذي الجلال والإكرام. وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً وعيد لهم بلزوم الإبعاد والطرد ولصوق العار والصغار، ووعد لنبيه والمؤمنين بالاستيلاء والاستعلاء عليهم إلى يوم القيامة. والخطاب في فَلَنْ تَجِدَ للنبي أو لكل طالب يفرض: ثم لما وصفهم بالضلال والإضلال وصفهم بالبخل والحسد اللذين هما شر الخصال، لأن البخيل يمنع ما أوتي من النعمة، والحاسد يتمنى أن يزول عن الغير ما أوتي من الفضيلة. و «أم» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 قيل: إنها متصلة وقد سبقها استفهام في المعنى كأنه لما حكى قولهم للمشركين أنهم أهدى سبيلا من المؤمنين قال: أمن ذلك يتعجب أم من قولهم لهم نصيب من الملك مع أنهم لو كان لهم ملك لبخلوا بأقل القليل؟ وقيل: الميم زائدة والتقدير ألهم نصيب؟ والأصح أنها منقطعة كأنه لما تم الكلام الأول قال: بل ألهم نصيب من الملك؟ ومعنى الآية أنهم كانوا يقولون نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب؟ فأبطل الله عليهم قولهم. وقيل: كانوا يزعمون أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان ويخرج من اليهود من يجدد ملكهم ودينهم فكذبهم الله. وقيل: المراد بالملك التمليك يعني أنهم إنما يقدرون على دفع نبوتك لو كان التمليك إليهم، ولو كان التمليك إليهم لبخلوا بالنقير والقطمير فكيف يقدرون على النفي والإثبات؟ وقال أبوبكر الأصم: كانوا أصحاب بساتين وأموال وكانوا في عزة ومنعة كما تكون أحوال الملوك، ثم كانوا يبخلون على الفقراء بأقل القليل فنزلت الآية فيهم. وعلى هذا فإنما يتوجه الإنكار على أنهم لا يؤتون أحدا مما يملكون شيئا. وعلى الأقوال المتقدمة يتوجه الإنكار على أن لهم نصيبا من الملك فكأنه تعالى جعل بخلهم كالمانع من حصول الملك لهم فإن البخل والملك لا يجتمعان كما قيل: بالبر يستعبد الحر والإنسان عبد الإحسان. والبخيل تنفر الطباع عن الانقياد له فلا يتيسر له أسباب المملكة، وإن اجتمعت بالندرة فسوف تضمحل. وإنما لم يعمل «إذن» لدخول الفاء عليه. وذلك أن ما بعد العاطف من تمام ما قبله بسبب ربط العاطف بعض الكلام ببعض فينخرم تصدره فكأنه معتمد فترجح إلغاؤه وارتفاع الفعل بعده. وجاء في قراءة ابن مسعود فإذن لا يؤتوا بالأعمال وليس بقوي. والنقير نقرة في ظهر النواة «فعيل» بمعنى «مفعول» ومنها «نبتت النخلة» وهو مثل في القلة كالفتيل. فإن قيل: كيف يعقل أنهم لا يبذلون نقيرا وكثيرا ما يشاهد منهم بذل الأموال؟ قلنا: المدعى عدم إيتاء النقير على تقدير حصول الملك ويراد به الملك الظاهر كما لملوك الدنيا، أو الباطن كما للعلماء الربانيين، أو كلاهما كما للأنبياء. وحصول شيء من هذه الأقسام لهم ممنوع لما ضربت عليهم الذلة والمسكنة. ولئن فرض حصول شيء منها فما يدريك لعل الشح يغلب عليهم حتى لا يشاهد منهم بذل نقير كما أخبر عنه علام الغيوب. وأما على تفسير الأصم فلعل المراد لأنهم لا يبذلون شيئا نسبته إلى ما يملكونه كنسبة النقير إلى النواة، أو أنهم لا يطيبون بذلك نفسا لغلبة الشح عليهم والله تعالى أعلم بمراده. هذا بيان بخلهم، أما بيان حسدهم فذلك قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ وهي منقطعة والتقدير: بل أيحسدون الناس يعني النبي والمؤمنين. فإن كان اللام للعهد فظاهر وإن كان للجنس فلأنهم هم الناس والباقون هم النسناس. ومعنى الهمزة إنكار الحسد واستقباحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 والمراد بالفضل ما آتاهم الله من أشرف المناصب وهو النبوة والخاتمية وما كان ينضم إليها كل يوم من النصرة والعزة والاستيلاء والاستعلاء، والفاضل محسود بكل أوان، والحاسد مذموم بكل لسان. ثم نبّه على ما يزيل التعجب من شأن محمد صلى الله عليه وسلم فقال: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الذين هم أسلاف محمد الْكِتابَ الذي هو بيان الشرائع وَالْحِكْمَةَ التي هي الوقوف على الأسرار والحقائق والعمل بما يتضمن صلاح الدارين وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً عن ابن عباس: الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان، فليس ببدع أن يؤتى إنسان ما أوتي أسلافه. وقيل: من جملة حسدهم أنهم استكثروا نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لهم: كيف استكثرتم له التسع وكان لداود مائة ولسليمان ثلاثمائة مهيرة وسبعمائة سرية؟ فَمِنْهُمْ أي من اليهود مَنْ آمَنَ بِهِ أي بما ذكر من حديث آل إبراهيم وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وأنكره مع علمه بصحته، أو من اليهود من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من أنكر نبوته، أو من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ومنهم من كفر. والمعنى أن أولئك الأنبياء جرت عادة أممهم فيهم أن بعضهم آمن بهم وبعضهم بقوا على كفرهم، فأنت يا محمد لا تتعجب مما عليه هؤلاء والغرض تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته وَكَفى بِجَهَنَّمَ لعذاب هؤلاء الكفار المتقدمين والمتأخرين سَعِيراً. ثم أكد وعيد الكفار بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا ويدخل فيها كل ما يدل على ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه وملائكته والكتب والرسل. وكفرهم بها أن ينكروا كونها آيات أو يغفلوا عنها ولا ينظروا فيها، أو يلقوا الشكوك والشبهات فيها، أو ينكروها مع العلم بها عنادا وحسدا وبغيا ولددا. وهاهنا سؤال وهو أنه تعالى قادر على إبقائهم في النار أحياء معذبين من غير أن تحترق جلودهم، فما الحكمة في إنضاج جلودهم؟ والجواب لا يسأل عما يفعل كما أنه قادر على إيصال الآلام إليهم من غير إدخالهم النار مع أنه لا يمكن أن يقال لم عذبهم بإدخالهم النار. وسؤال آخر وهو أنه كيف يعذب مكان الجلود العاصية جلودا لم تعص؟ والجواب يجعل النضيج غير نضيج، فالذات واحدة والمتبدل هو الصفة ويؤيده قول أهل اللغة: تبديل الشيء تغييره وإن لم يأت ببدله، وأبدلت الشيء غيرته، فالتبديل تغيير الصفة أو الذات. والإبدال تغيير الذات. وصاحب الكشاف جزم بأن المراد من هذا التبديل هو تغيير الذات فلهذا فسر التبديل بالإبدال، ولعله إنما حمله على ذلك وصف الجلود بقوله: غَيْرَها ولقائل أن يقول: المغايرة أعم من أن تكون في الذات أو في الصفات، فما أدراك أنها في الآية مغايرة الذات لا الصفات اللهم إلا أن يعضده نقل صحيح فيكون الجواب عن السؤال أن المعذب هو الإنسان، والجلد ليس حزءا من ماهيته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 وإنما هو سبب لوصول العذاب إليه. أو يقال: المراد الدوام وعدم الانقطاع، ولا نضج ولا احتراق أي كلما ظنوا أنهم احترقوا وأشرفوا على الهلاك أعطيناهم قوة جديدة بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا. وقال السدي: يخرج من لحم الكافر جلد آخر وفي هذا التأويل بعد لأن لحمه متناه فعند نفاده لا بد من طريق آخر في تبديل الجلد فيعود أول السؤال. وقيل: المراد بالجلود السرابيل سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم: 50] وضعف بأنه ترك للظاهر وأن السرابيل لا توصف بالنضج لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز: أعزك الله أي أدامك على عزك وزادك فيه، أو ليذوقوا بهذه الحالة الجديدة العذاب. والمراد بالذوق أن إحساسهم بذلك العذاب في كل حال يكون كإحساس الذائق بالمذوق إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين حَكِيماً لا يفعل إلّا الصواب ثم قرن الوعد بالوعيد على عادته فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية. قال الواحدي: الظليل ليس بمبني على الفعيل حتى يقال إنه بمعنى فاعل أو مفعول، بل هو مبالغة في نعت الظل مشتق من لفظه كقولهم: «ليل أليل» . قيل: إذا لم يكن في الجنة شمس تؤذي بحرها فما فائدة وصفها بالظل؟ وأيضا المواضع التي لا يصل نور الشمس إليها في الدنيا يكون هواؤها عفنا فاسدا فما معنى وصف هواء الجنة بذلك؟ والجواب المنع من أنه لا شمس هنالك حتى يوجد ضوء ثان هو الظل، والمراد بالظل الظليل ما كان فينانا، أي منبسطا لا جوب فيه أي لا فرج لالتفاف الأغصان، ودائما لا تنسخه الشمس، وسجساجا لا حر فيه ولا برد. وعند الحكماء: المراد بالظل الراحة لأنه من أسبابها ولا سيما في البلاد الحارة كبلاد العرب. فلما كان هذا مطلوبا عندهم صار موعودا لهم. التأويل: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي يتمنون أن يخلوا في عالم الطبيعة ولم ينكشف لهم عالم الحقيقة كيلا يروا ما يرون من عذاب القطيعة، كما أن السكران ممنوع من الصلاة. فسكران الغفلة والهوى محجوب عن المواصلات لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى من غلبات الأحوال فإن التكاليف حينئذ زائلة وَلا جُنُباً بالالتفات إلى غير الله فإن الصلاة إذ ذاك باطلة. وتستثنى من الحالة الأولى حالة الشعور، ومن الثانية حالة العبور «كن في الدنيا كأنك غريب أو كعابر سبيل» «1» فهذا القدر من الالتفات من المحظورات التي أباحها الضرورات. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى بحب الدنيا أَوْ عَلى سَفَرٍ في متابعة الهوى   (1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 3. الترمذي في كتاب الزهد باب 25. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 3. أحمد في مسنده (2/ 24، 41) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ في قضاء شهوة من الشهوات أَوْ لامَسْتُمُ عجوز الدنيا في تحصيل لذة من اللذات فَلَمْ تَجِدُوا ماءً التوبة والاستغفار فَتَيَمَّمُوا فتمعكوا في تراب أقدام الكرام فإنه طهور الذنوب العظام. مِنَ الَّذِينَ هادُوا يعني دأب علماء السوء قريب من دأب الذين هادوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يؤولونها على حسب إرادتهم وَيَقُولُونَ سَمِعْنا ما في القرآن بالمقال وَعَصَيْنا بالفعال وينكرون على أرباب المقامات والأحوال ويقولون اسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا يخاطبونهم بكلام ذي وجهين لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً في أهل الدين. يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ظاهرا ولم يؤتوا علم باطن الكتاب آمِنُوا بِما نَزَّلْنا على الأولياء من علم باطن القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من العلم الظاهر لأن أهل العلم اللدني يصدقون أهل العلم الظاهر، ولكن أهل العلم الظاهر يصعب عليهم تصديق علوم الأولياء لأنه لا يناسب عقولهم مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وجوه القلوب بالعمى والصمم فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها ناظرين إلى الدنيا وزخارفها بعد أن كانوا ناظرين في الميثاق إلى يومها أَوْ نَلْعَنَهُمْ نمسخ صفاتهم الإنسانية بالسبعية والشيطانية كما مسخنا أصحاب السبت بالصورة، ومسخ المعنى أصعب من مسخ الصورة لأن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ للشرك ثلاث مراتب وكذا للمغفرة. فشرك جلي بالأعيان وهو للعوام من عبدة الكواكب والأصنام فلا يغفر إلا بالتوحيد وهو إظهار العبودية في إثبات الربوبية مصدقا بالسر والعلانية. وشرك خفي بالأوصاف للخواص وهو شوب العبودية بالالتفات إلى غير الربوبية، فلا يغفر إلّا بالوحدانية وهو إفراد الواحد للواحد. وشرك أخفى للأخص وهو رؤية الأغيار والأنانية فلا يغفر إلا بالوحدة وهو فناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ من أهل العلوم الظاهرة تعلموا العلم ليباهوا به العلماء أو ليماروا به السفهاء فحصل له صفات ذميمة أخرى مثل المباهاة والمماراة والكبر والعجب والحسد والرياء وحب الجاه والرياسة وغلبة الأقران والأنداد بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ بتسليم نفوسهم إلى أرباب التزكية من العلماء الراسخين والمشايخ المحققين كما يسلم الجلد إلى الدباغ ليجعله أديما، فإذا سلموا أنفسهم إليهم وصبروا على تصرفاتهم رأوا أثر الزكاة فيهم ولن يضيع سعيهم يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ بجبت النفس الأمّارة وطاغوت الهوى وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من أهل الأهواء والمبتدعة والمتفلسفة هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بكل ما أمر الله به ورسوله. ثم وصفهم بالبخل والحسد ثم قال: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ يعني أهل الخلة والمحبة الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ العلم الظاهر والعلم الباطن وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً هو معرفة الله تعالى فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ لأن من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 العلماء مقبلين ومنهم مدبرين وَكَفى بِجَهَنَّمَ نفسهم الحاسدة سَعِيراً تحرق حسناتهم فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا بأوليائنا الذين هم مظاهر آيات الحق وحجج الله على الخلق سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نار الحسد والغضب والكبر والعجب كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ أي انقطعت بعض أماني نفوسهم الأمّارة ومقتضيات هواها. ولا يخفى حسن استعارة الجلود لآثار الشيء من حيث الظهور والاشتمال بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ فإن دواعي الحرص والغضب والشهوة لا تتناهى البتة ما دامت النفس على صفة الأمرية، فلن تزال أسيرة في يد الشهوات ذائقة لعذاب التعلقات وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ أي نجذبهم بجذبات العناية إلى جَنَّاتٍ من الوصلة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من ماء الحكمة ولبن الفطرة وخمر الشهود وعسل الكشوف لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ من تجلي صفات الجمال والجلال مُطَهَّرَةٌ من لوث الوهم والخيال وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا هو ظل شمس عالم الوجود يوم لا ظل إلّا ظله. [سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 70] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 القراآت: أَنِ اقْتُلُوا بكسر النون لالتقاء الساكنين: أبو عمرو وعاصم وحمزة وسهل ويعقوب. الباقون: بالضم نقلا لحركة همزة الوصل إلى ما قبلها أَوِ اخْرُجُوا بكسر الواو للساكنين: عاصم وسهل وحمزة. الباقون: بالضم. إلا قليلا بالنصب: ابن عامر على أصل الاستثناء أو بمعنى إلّا فعلا أو أبوا إلّا قليلا. الباقون: بالرفع على البدل وهو أكثر. الوقوف: إِلى أَهْلِها لا لأن التقدير يأمركم أن تؤدوا وأن تحكموا بالعدل إذا حكمتم بين الناس. بِالْعَدْلِ ط يَعِظُكُمْ بِهِ ط بَصِيراً هـ مِنْكُمْ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ط تَأْوِيلًا هـ أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ج بَعِيداً هـ صُدُوداً هـ ج للآية مع فاء التعقيب يَحْلِفُونَ قد قيل على أن ما بعده ابتداء القسم والأولى تعليق الباء بيحلفون. وَتَوْفِيقاً هـ بَلِيغاً هـ بِإِذْنِ اللَّهِ ط رَحِيماً هـ تَسْلِيماً هـ قَلِيلٌ مِنْهُمْ ط تَثْبِيتاً هـ لا عَظِيماً هـ لا لأن ما بعده من تتمة جواب «لو» . مُسْتَقِيماً هـ وَالصَّالِحِينَ ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى. رَفِيقاً هـ مِنَ اللَّهِ ط عَلِيماً هـ. التفسير: لما شرح بعض أحوال الكفار عاد إلى ذكر التكاليف. وأيضا لما حكى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق وقالوا للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور، سواء كانت من باب المذاهب والديانات أو من باب الدنيا والمعاملات. وأيضا قد وعد في الآية السابقة الثواب العظيم على الأعمال الصالحات وكان من أجلها الأمانة فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها روي أن عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار كان سادن الكعبة، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح فقيل له: إنه مع عثمان. فطلب منه فأبى فقال: لو علمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أمنعه. فلوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وصلى ركعتين. فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له مع السقاية السدانة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى العباس ثم قال: يا عثمان خذ المفتاح على أن للعباس معك نصيبا فأنزل الله هذه الآية. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، ففعل ذلك علي رضي الله عنه فقال له عثمان: يا علي أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق فقال: لقد أنزل الله في شأنك فقرأ عليه هذه الآية. فقال عثمان: أشهد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله وأسلم. فجاء جبريل عليه السلام وقال: ما دام هذا البيت كان المفتاح والسدانة في أولاد عثمان وقال: خذوها يا بني طلحة بأمانة الله لا ينزعها منكم إلّا ظالم. ثم إنّ عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة وهو اليوم في أيديهم. ثم نزول الآية عند هذه القصة لا يوجب خصوصها بها ولكنها تعم جميع أنواع الأمانات. فأولها الأمانة مع الرب تعالى في كل ما أمر به ونهى عنه. قال ابن مسعود: الأمانة في الكل لازمة، في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم. وعن ابن عمر أنه تعالى خلق فرج الإنسان وقال هذا أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلّا بحقها وهذا باب واسع. فأمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها، وأمانة العين أن لا يستعمله في النظر إلى الحرام، وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي والفحش والأكاذيب، وكذا القول في سائر الأعضاء. ثم الأمانة مع سائر الخلق ويدخل فيه رد الودائع وترك التطفيف ونشر عيوب الناس وإفشاء أسرارهم، ويدخل فيه عدل الأمراء مع الرعية والعلماء مع العوام بأن يرشدوهم إلى ما ينفعهم في دنياهم ودينهم ويمنعوهم عن العقائد الباطلة والأخلاق غير الفاضلة، وتشمل أمانة الزوجة للزوج في ماله وفي بضعها، وأمانة الزوج للزوجة في إيفاء حقوقها وحظوظها، وأمانة السيد للمملوك وبالعكس، وأمانة الجار للجار والصاحب للصاحب، ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد والأمانة مع نفسه بأن لا يختار لها إلا ما هو أنفع وأصلح في الدين وفي الدنيا، وأن لا يوقعها بسبب اللذات الفانية، في التبعات الدائمة. وقد عظم الله تعالى أمر الأمانة في مواضع من كتابه إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ [الأحزاب: 72] وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [المؤمنون: 8] وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا لا إيمان لمن لا أمانة له» والأمانة مصدر سمي به المفعول ولذلك جمع. ثم لما أمر بأداء ما وجب لغيرك عليك أمر باستيفاء حقوق الناس بعضهم من بعض إذا كنت بصدد الحكم فقال: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وفي قوله: وَإِذا حَكَمْتُمْ تصريح بأنه ليس لجميع الناس أن يشرعوا في الحكم والقضاء. وقد عدّ العلماء من شروط النيابة العامة: الإسلام والعقل والبلوغ والذكورة والحرية والعدالة والكفاية وأهلية الاجتهاد بأن يعرف ما يتعلق بالأحكام من كتاب الله وسنة رسوله. ويعرف منهما العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ، ومن السنة المتواتر والآحاد والمسند والمرسل وحال الرواة، ويعرف أقاويل الصحابة ومن بعدهم إجماعا وخلافا، وجلي القياس وخفيه وصحيحه وفاسده، ويعرف لسان العرب لغة وإعرابا خصوصا وعموما إلى غير ذلك مما له مدخل في استنباط الأحكام الشرعية من مداركها ومظانها. وكفى بما في هذا المنصب من الخطر أنه منصب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 من بعده، فعلى المتصدي لذلك أن يتأدب بآدابهم ويتخلق بأخلاقهم وإلا فالويل له. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجاء بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين قط» وإذا كان حال العادل هكذا فما ظنك بالجائر؟ وعنه «ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأين أعوان الظلمة؟ فيجتمعون كلهم حتى من برى لهم قلما أو لاق لهم دواة، فيجمعون ويلقون في النار» . إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ المخصوص بالمدح محذوف و «ما» موصولة أو مبهمة موصوفة والتقدير: نعم الذي أو نعم شيئا يعظكم به ذلك المأمور من أداء الأمانات والحكم بالعدل إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً يسمع كيف تحكمون ويبصر كيف تؤدون، وفيه أعظم أسباب الوعد للمطيع وأشد أصناف الوعيد للعاصي. ثم إنه سبحانه أمر الرعاة بطاعة الولاة كما أمر الولاة في الآية المتقدمة بالشفقة على الرعاة فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ الآية. عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا. قالت المعتزلة: الطاعة موافقة الإرادة. وقالت الأشاعرة: الطاعة موافقة الأمر. ولا نزاع أن موافقة الأمر طاعة إنما النزاع في أن المأمور به كإيمان أبي لهب هل يكون مرادا أم لا. فعند الأشاعرة الأمر قد يوجد بدون الإرادة لئلا يلزم الجمع بين الضدين في تكليف أبي لهب مثلا بالإيمان. وعند المعتزلة لا يأمر إلا بما يريد والخلاف بين الفريقين مشهور. قال في التفسير الكبير: هذه آية مشتملة على أكثر علم أصول الفقه لأن أصول الشريعة أربعة: الكتاب والسنة وأشار إليهما بقوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وليس العطف للمغايرة الكلية، ولكن الكتاب يدل على أمر الله، ثم يعلم منه أمر الرسول لا محالة. والسنة تدل على أمر الرسول ثم يعلم منه أمر الله. والإجماع والقياس. وأشير إلى الإجماع بقوله: وَأُولِي الْأَمْرِ لأنه تعالى أمر بطاعتهم على سبيل الجزم. ووجب أن يكون معصوما لأن لو احتمل إقدامه على الخطا والخطأ منهي عنه لزم اعتبار اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد وإنه محال. ثم ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعضها على ما يقوله الشيعة من أن المراد بهم الأئمة المعصومون، أو على ما زعم بعضهم أنهم الخلفاء الراشدون، أو على ما روي عن سعيد بن جبير وابن عباس أنهم أمراء السرايا كعبد الله بن حذافة السهمي أو كخالد بن الوليد إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وكان معه عمار بن ياسر فوقع بينهما خلاف فنزلت الآية. أو على ما روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك أنهم العلماء الذين يفتون بالأحكام الشرعية ويعلمون الناس دينهم لكنه لا سبيل إلى الثاني. أما ما زعمه الشيعة فلأنا نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 المعصوم والاستفادة منه، فلو وجب علينا طاعته على الإطلاق لزم تكليف ما لا يطاق ولو وجب علينا طاعته إذا صرنا عارفين به وبمذهبه صار هذا الإيجاب مشروطا، وظاهر الآية يقتضي الإطلاق على أن طاعة الله وطاعة رسوله مطلقة. فلو كانت هذه الطاعة مشروطة لزم أن تكون اللفظة الواحدة مطلقة ومشروطة معا وهو باطل. وأيضا الإمام المعصوم عندهم في كل زمان واحد، ولفظ أولي الأمر جمع. وأيضا إنه قال: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وعلى هذا ينبغي أن يقال: فردوه إلى الإمام. وأما سائر الأقوال فلا نزاع في وجوب طاعتهم، لكنه إذا علم بالدليل أن طاعتهم حق وصواب. وذلك الدليل ليس الكتاب والسنة فلا يكون هذا قسما منفصلا كما أن وجوب طاعة الزوجة للزوج والتلميذ للأستاذ داخل في طاعة الله وطاعة الرسول. أما إذا حملناه على إجماع أهل الحل والعقد لم يكن هذا داخلا فيما تقدم إذ الإجماع قد يدل على حكم لا يوجد في الكتاب والسنة. وأيضا قوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ مشعر بإجماع تقدم يخالف حكمه حكم التنازع. وأيضا طاعة الأمراء والخلفاء مشروطة بما إذا كانوا على الحق، وظاهر الآية يقتضي الإطلاق. وإذا ثبت أن حمل الآية على هذه الوجوه غير مناسب تعين أن يكون ذلك المعصوم كل الأمة أي أهل الحل والعقد وأصحاب الاعتبار والآراء. فالمراد بقوله: وَأُولِي الْأَمْرِ ما اجتمعت الأمة عليه وهو المدعى. وأما القياس فذلك قوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إذ ليس المراد من رده إلى الله والرسول رده إلى الكتاب والسنة والإجماع وإلا كان تكرارا لما تقدم، ولا تفويض علمه إلى الله ورسوله والسكوت عنه لأن الواقعة ربما كانت لا تحتمل الإهمال وتفتقر إلى قطع مادة الشغب والخصومة فيها بنفي أو إثبات، ولا الإحالة على البراءة الأصلية فإنها معلومة بحكم العقل، فالرد إليها لا يكون ردا إلى الله والرسول فإذا المراد ردها إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة لها وهذا معنى القياس، فحاصل الآية الخطاب لجميع المكلفين بطاعة الله، ثم لمن عدا الرسول بطاعة الرسول، ثم لما سوى أهل الحل والعقد بطاعتهم، ثم أمر أهل استنباط الأحكام من مداركها إن وقع اختلاف واشتباه بين الناس في حكم واقعة ما أن يستخرجوا لها وجها من نظائرها وأشباهها فما أحسن هذا الترتيب. ثم في إطلاق الآية دلالة على أن الكتاب والسنة متقدمان على القياس مطلقا سواء كان القياس جليا أو خفيا، وأنه لا يجوز معارضة النص ولا تخصيصه بالقياس. وقد اعتبر هذا الترتيب أيضا في قصة معاذ واستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف لا والقرآن مقطوع في متنه والقياس مظنون والقرآن كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والقياس نتيجة عقل الإنسان الذي هو عرضة الخطأ والنسيان. وقد أجمع العلماء على أن إبليس خصص عموم الخطاب في قوله: إِذْ قُلْنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا [البقرة: 34] بقياس هو قوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص: 76] فاستحق اللعن إلى يوم الدين. والسر فيه أن تخصيص النص بالقياس يقدم القياس على النص وفيه ما فيه. ثم إن كان الأمر للوجوب فقوله: أَطِيعُوا يدل على وجوب الطاعة وإن كان للندب، فههنا يدل على الوجوب ظاهرا لأنه ختم الأوامر بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وهو وعيد والظاهر أنه قيد في جميع الأوامر لا في قوله: فَرُدُّوهُ وحده. وأيضا مجرد الندبية وهو أولوية الفعل معلوم من تلك الأوامر فلا بد للآية من فائدة خاصة، فيحمل على المنع من الترك ليحصل من المجموع معنى الوجوب. ثم هذا الوجوب يكون دائما إن كان الأمر للدوام والتكرار وكذا إن لم يكن غيره كذلك لأن الوقت المخصوص والكيفية المخصوصة غير مذكورة. فلو حملناه على العموم كانت الآية مبينة وإلا كانت مجملة، والمبين أولى من المجمل. وأيضا تخصيص اسم الله بالذكر يدل على أن وجوب الطاعة إنما هو لكونه إلها والإلهية دائمة فالوجوب دائم. وإنما كرر لفظ أَطِيعُوا للفصل بين اسم الله تعالى وبين المخلوقين، ونعلم من إطلاق وجوب طاعة أولي الأمر أن الإجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة وأنه لا يشترط انقراض العصر. ومن إطلاق قوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ أن القياس يجوز إجراؤه في الحدود والكفارات أيضا. والمراد بالتنازع قال الزجاج: هو الاختلاف وقول كل فريق القول قولي كأن كل واحد منهما ينزع الحق إلى جانبه ذلِكَ الرد أو المأمور به في الآية خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبة من آل الشيء إذا رجع. وقيل: الرد إلى الكتاب والسنة خير مما تأولون أنتم. ثم إنه تعالى لما أوجب على المكلفين طاعته وطاعة رسوله، وذكر أن المنافقين الذين في قلوبهم مرض لا يطيعون ولا يرضون بحكمه فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الآية. قال الليث: قولهم زعم فلان معناه لا نعرف أنه صدق أو كذب ومنه زعموا مطية الكذب. وقال ابن الأعرابي: الزعم قد يستعمل في القول المحقق لكن المراد في الآية الكذب بالاتفاق. قال أبو مسلم: ظاهر الآية يدل على أن الزاعم كان منافقا من أهل الكتاب مثل أن يكون يهوديا أظهر الإسلام على سبيل النفاق، لأن قوله تعالى: يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ إنما يليق بمثل هذا المنافق. أما سبب النزول ففيه وجوه. والذي عليه أكثر المفسرين ما رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن رجلا من المنافقين يسمى بشرا خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال المنافق: بيني وبينك كعب بن الأشرف. وذلك أن اليهودي كان محقا وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقضي إلا بالحق لجلالة منصبه عن قبول الرشوة، وكان كعب يبطل الحقوق بالرشا، فما زال اليهودي بالمنافق حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 ذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي. فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال: ننطلق إلى عمر بن الخطاب. فأقبلا إلى عمر فقال اليهودي: اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليك وتعلق بي فجئت معه. فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم. فقال لهما: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد ثم قال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله وهرب اليهودي فنزلت الآية. وقال جبريل: إن عمر فرق بين الحق والباطل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت الفاروق. وعلى هذا الطاغوت كعب بن الأشرف. وقال السدي: كان ناس من اليهود أسلموا ونافق بعضهم، وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل قرظي نضيريا قتل به وأخذ ديته مائة وسق من تمر، وإذا كان بالعكس لم يقتل به وأعصى ديته ستين وسقا من تمر. وكانت النضير حلفاء الأوس وكانوا أكثر وأشرف من قريظة وهم حلفاء الخزرج. فقتل نضيري قرظيا واختصموا في ذلك. فقال بنو النضير: لا قصاص علينا إنما علينا ستون وسقا من تمر على ما اصطلحنا عليه. وقالت الخزرج: هذا حكم الجاهلية ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا واحد ولا فضل بيننا. فقال المنافقون: انطلقوا إلى أبي برزة الكاهن الأسلمي. وقال المسلمون: لا بل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأبى المنافقون فانطلقوا إلى أبي برزه ليحكم بينهم فقال: أعظموا اللقمة- يعني الرشوة- فقالوا: لك عشرة أوسق. فقال: لا بل مائة وسق ديتي فإني أخاف إن نفرت النضيري قتلتني قريظة، وإن نفرت القرظي قتلتني النضير. فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم فأنزل الله هذه الآية. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم كاهن أسلم إلى الإسلام فأبى وانصرف فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابنيه: أدركا أباكما فإنه إن جاز عقبة كذا لم يسلم أبدا فأدركاه فلم يزالا به حتى انصرف وأسلم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى: ألا إن كاهن أسلم قد أسلم. وعلى هذا القول الطاغوت هو الكاهن. وقال الحسن: إنّ رجلا من المسلمين كان له على رجل من المنافقين حق، فدعاه المنافق إلى وثن كان أهل الجاهلية يتحاكمون إليه ورجل قائم يترجم الأباطيل عن الوثن، فالطاغوت ذلك الرجل. وقيل: كانوا يتحاكمون إلى الوثن يضربون القداح بحضرته، فما خرج على القداح عملوا به فالطاغوت هو الوثن. ثم إن الطاغوت أي شيء كان من الأشياء المذكورة فإنه تعالى جعل التحاكم إليه مقابلا للكفر به، لكن الكفر به إيمان بالله وبرسوله فيكون نصا في تكفير من لم يرض بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم تشككا أو تمردا ويؤكده قوله بعد ذلك: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ الآية. ومن هنا ذهب كثير من الصحابة إلى الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم. ثم قال: وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 فاحتجت المعتزلة به على أن كفر الكافر ليس بخلق الله وإلا لم يتوجه الذم على الشيطان ولم يحصل التعجب والتعجيب فإن لقائل أن يقول: إنما فعلوا لأجل أنك خلقت ذلك الفعل فيهم وأردته منهم بل التعجب من هذا التعجب أولى وقد عرفت الجواب مرارا. قوله: فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فيه وجهان: أحدهما- وهو قول الحسن واختاره الواحدي- أنه جملة معترضة وأصل النظم وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ثُمَّ جاؤُكَ يعني أنهم في أول الأمر يصدون عنك أشد الصدود ثم بعد ذلك يجيؤنك ويحلفون كذبا على أنهم ما أرادوا بذلك الصد إلا الإحسان والتوفيق. ووجه الاعتراض أنه حكى عنهم التحاكم إلى الطاغوت وأنهم يصدون، ثم أتبعها ما يدل على شدة أحوالهم بسبب أعمالهم القبيحة في الدنيا والآخرة. والثاني أنه متصل بما قبله لا على وجه الاعتراض والمعنى أنه إذا كانت نفرتهم من الحضور عند الرسول في أوقات السلامة هكذا فكيف تكون نفرتهم إذا أتوا بجناية خافوا بسببها منك ثم جاؤك كراها يحلفون بالله على سبيل الكذب ما أردنا بتلك الجناية إلا الخير والمصلحة؟ أما المصيبة فقيل: إنها قتل عمر صاحبهم فإنهم جاؤا وطلبوا بدمه وحلفوا أنهم ما أرادوا بالذهاب إلى غير الرسول إلا الصلاح وهو اختيار الزجاج. وقال الجبائي: هي ما أمر الله رسوله بها من أنه لا يستصحبهم في الغزوات ويخصهم بمزيد الإذلال، والمعنى ثم جاؤك في وقت المصيبة يحلفون ويعتذرون ما أردنا بما كان منا من مواساة الكفار إلا إصلاح الحال. وقال أبو مسلم: إنه تعالى بشر رسوله أن المنافقين سيصيبهم مصائب تلجئهم إليه وإلى أن يظهروا الإيمان. ومن عادة العرب عند التبشير والإنذار أن يقولوا: كيف أنت إذا كان كذا. ومعنى الإحسان والتوفيق ما أردنا بالتحاكم إلى غير الرسول إلا إحسانا بين الخصوم وائتلافا بينهم فإنهم لا يقدرون عند الرسول أن يرفعوا أصواتهم ويبينوا حججهم، أو ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا بالحكم العدل والتوفيق بينه وبين خصمه، وما خطر ببالنا أنه يحكم له بما حكم به، وعلى هذا لا يبقى للحلف مناسبة ظاهرة. أو ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك يا رسول الله إلا أنك لا تحكم إلا بالحق المرّ وغيرك يدور على التوسط ويأمر كل واحد من الخصمين بالإحسان إلى الآخر وتقريب مراده من مراد صاحبه حتى تحصل بينهم الموافقة. ثم أخبر الله سبحانه بما في ضمائرهم من الدغل والنفاق فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ وذلك أن من أراد المبالغة في شيء قال هذا شيء لا يعلمه إلا الله يعني أنه لكثرته وعظم حاله لا يقدر أحد على معرفته إلا هو. ثم علّم نبيه كيف يعاملهم فأمره بثلاثة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 أشياء: الأول الإعراض عنهم والمراد به أنه لا يقبل منهم ذلك العذر ويستمر على السخط، أو أنه لا يهتك سترهم ولا يظهر لهم أنه عالم بكنه ما في بواطنهم من النفاق لما فيه من حسن العشرة والحذر من آثار الفتنة. الثاني أن يعظهم فيزجرهم عن النفاق بالتخويف من عذاب الدارين. الثالث قوله: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً وفيه وجوه: أحدها أن في الآية تقديما وتأخيرا. والمعنى قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما ويستشعرون منه الخوف. الثاني وقل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولا بليغا هو أن الله يعلم ما في قلوبكم فلن يغني عنكم الإخفاء، فطهروا قلوبكم عن دنس النفاق وإلا فسينزل الله بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك أو شرا من ذلك وأغلظ. الثالث قل لهم في أنفسهم خاليا بهم مسارا لهم بالنصيحة فإن النصح بين الملأ تقريع وفي السر أنفع وأنجع، قولا يؤثر فيهم. وقيل: القول البليغ يتعلق بالوعظ وهو أن يكون كلاما حسنا وجيز المباني غزير المعاني يدخل الأذن بلا إذن، مشتملا على الترغيب والترهيب والإعذار والإنذار. ثم رغب مرة أخرى في طاعة الرسول فقال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ أكثر النحاة على أن «من» صلة تفيد تأكيد النفي والتقدير: وما أرسلنا رسولا. وقيل: المفعول محذوف والتقدير: وما أرسلنا من هذا الجنس أحدا. قال الجبائي: هذه الآية من أقوى الدلائل على بطلان مذهب المجبرة لكونها صريحة في أن معصية الناس غير مرادة الله تعالى. والجواب أن إرسال الرسل لأجل الطاعة لا ينافي كون المعصية مرادة لله تعالى، على أن قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ أي بتيسيره وتوفيقه وإعانته يدل على أن الكل بقضائه وقدره، وكذا لو كان المراد بسبب إذن الله في طاعة الرسول. قيل: في الآية دلالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة فإنه لو دعا إلى شرع من قبله لكان المطاع هو ذلك المتقدم، وفيها دلالة على أن الرسل معصومون عن المعاصي وإلا لم يجب اتباعهم في جميع أقوالهم وأفعالهم. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالتحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ تائبين عن النفاق متنصلين عما ارتكبوا فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ من رد قضاء رسوله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ انتصب شفيعا لهم إلى الله بعد اعتذارهم إليه من إيذائه برد قضائه لَوَجَدُوا اللَّهَ لعلموه تَوَّاباً رَحِيماً ولم يقل: «واستغفرت لهم» لما في الالتفات عن الخطاب إلى ذكر الرسول تنبيه على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان، فالآية على هذا التفسير من تمام ما قبلها. وقال أبوبكر الأصم: نزلت في قوم من المنافقين اصطلحوا على كيد في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلوا عليه لذلك الغرض فأتاه جبريل فأخبره به فقال صلى الله عليه وسلم: إن قوما دخلوا يريدون أمرا لا ينالونه فليقوموا فليستغفروا الله حتى أستغفر لهم فلم يقوموا. فقال: ألا يقومون فلم يفعلوا فقال صلى الله عليه وسلم: قم يا فلان حتى عدّ اثني عشر رجلا منهم فقاموا وقالوا: كنا عزمنا على ما قلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 ونحن نتوب إلى الله من ظلمنا أنفسنا فاستغفر لنا. فقال: الآن اخرجوا أنا كنت في بدء الأمر أقرب إلى الاستغفار وكان الله أقرب إلى الإجابة. اخرجوا عني. فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ عن عطاء ومجاهد والشعبي أنها من تمام قصة اليهودي والمنافق. وعن الزهري عن عروة بن الزبير أنها نزلت في شأن الزبير وحاطب بن أبي بلتعة وذلك أنهما اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة، والشرج مسيل الماء كانا يسقيان بها النخل فقال: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب حاطب وقال: إن كان ابن عمتك؟ وذلك أن أم الزبير صفية بنت عبد المطلب. فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر يعني الجدار الذي يحيط بالمزرعة وهو أصغر من الجدار واستوف حقك ثم أرسله إلى جارك. واعلم أن الحكم في هذا أن من كانت أرضه أقرب إلى فم الوادي فهو أولى بأول الماء وحقه تمام السقي. والرسول صلى الله عليه وسلم أذن للزبير في السقي على وجه المسامحة، فلما أساء خصمه الأدب ولم يعرف حق ما أمره به الرسول صلى الله عليه وسلم من المسامحة لأجله أمره باستيفاء حقه وحمل خصمه على مر الحق. وفي قوله: فَلا وَرَبِّكَ قولان: أحدهما أن «لا» صلة لتأكيد معنى القسم والتقدير فو ربك. والثاني أنها مفيدة وعلى هذا ففيه وجهان: الأول أنه يفيد نفي أمر سبق والتقدير ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ثم استأنف القسم بقوله: وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. الثاني أنها لتوكيد النفي الذي جاء في الجواب، وهذا الوجه لا يتمشى فيما إذا كان الجواب مثبتا. ومعنى شجر اختلف واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه، والتشاجر التنازع لاختلاط كلام بعضهم ببعض، والحرج الضيق أو الشك لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له اليقين وَيُسَلِّمُوا وينقادوا. يقال: سلم لأمر الله أي سلم نفسه له وجعلها خالصة لحكمه ومن التعليمية من تمسك بالآية في أنه لا يحصل الإيمان إلا بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم وهدايته والنزول على حكمه وقضائه في كل أمر ديني، ومنع بأن معرفة النبوة موقوفة على معرفة الإله فلو توقفت معرفة الإله على معرفة النبوة لزم الدور فإذن الحكم غير كلي والتقليد في جميع الأحكام غير مرضي. واعلم أن الرضا بتحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون رضا في الظاهر دون القلب فلهذا قال: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وهو الجزم بأن ما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق والصدق، ثم من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا فقد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول فعدم الحرج إشارة إلى الانقياد في الباطن والتسليم إشارة إلى الانقياد في الظاهر. وفي الآية دليل على عصمة الأنبياء عن الخطأ في الفتاوي والأحكام، وعلى أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس وإلّا كان في النفس حرج. قالت المعتزلة: لو كانت المعاصي بقضاء الله تعالى لزم التناقض لأن الرضا بقضائه واجب فالرضا بالمعاصي واجب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 لكن الرسول قد نهى عنها فيجب أن يحصل الرضا في تركها ويلزم الرضا بالفعل والترك معا وهو محال. وأجيب بأن المراد من قضاء الله التكوين والإيجاد. فالرضا بقضائه أن يعتقد كون الكل بإيجاده، والمراد من الرضا بقضاء الرسول أن يلتزم ما حكم به ويتلقى بالبشر والقبول فأين ذاك من هذا. قوله: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ روي أن حاطبا لما أحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوعب للزبير حقه في صريح الحكم خرجا فمرا على المقداد فقال: لمن كان القضاء؟ فقال حاطب: قضى لابن عمته ولوى شدقه ففطن يهودي كان مع المقداد فقال: قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم، وأيم الله لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى فدعانا إلى التوبة منه وقال: اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا. فقال ثابت بن قيس بن شماس: أما والله إن الله ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد أن أقتل نفسي لقتلتها، وكذا قال ابن مسعود وعمار بن ياسر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: والله لو أمرنا ربنا لفعلنا والحمد الله الذي لم يفعل بنا ذلك ونزلت الآية. فالضمير في قوله: عَلَيْهِمْ يعود إلى الناس والمراد بالقليل المؤمنون منهم. عن ابن عباس ومجاهد أنه يعود إلى المنافقين والمراد أنا لو كتبنا القتل والخروج عن الوطن على هؤلاء المنافقين ما فعله إلّا قليل منهم رياء وسمعة وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم، فإن لم نفعل بهم ذلك بل كلفناهم بالأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليلزموا الإخلاص وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ من الانقياد والطاعة لله ولرسوله. وسمى التكليف وعظا لاقترانه بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي أنفع وأفضل من غيره أو خير الدنيا والآخرة لأن خَيْراً يستعمل بالوجهين جميعا. وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً أقرب إلى ثباتهم على الإيمان والطاعة لأن الطاعة تدعو إلى أمثالها وتجر إلى المواظبة عليها، ولأنه حق والحق ثابت والباطل زائل. وأيضا الإنسان يطلب الخير أولا فإذا حصل يطلب ثباته ودوامه. ثم بين أن ما يوعظون به كما هو خير في نفسه فهو أيضا مستعقب للخير فقال: وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وثوابا جزيلا. «وإذا» جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما يكون لهم بعد الخير والتثبيت؟ فقيل: هو أن نؤتيهم من لدنا أجرا عظيما. وفي إيراد صيغة التعظيم في لَآتَيْناهُمْ ولَدُنَّا وفي قوله: مِنْ لَدُنَّا وفي وصف الأجر بالعظم وفي تنكير الأجر من المبالغة ما لا يخفى. والصراط المستقيم الدين الحق أو الطريق من عرصة القيامة إلى الجنة وهذا أولى لأنه مذكور بعد استحقاق الأجر. ثم أكد أمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 الطاعة بقوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ولا شك أن الآية عامة في جميع المكلفين إلّا أن المفسرين ذكروا في سبب نزولها وجوها. قال الكلبي: نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه يعرف في وجهه الحزن. فقال له: يا ثوبان ما غيّر لونك؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين وأني إن أدخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة فذاك حريّ أن لا أراك أبدا. وقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إذا خرجنا من عندك إلى أهالينا اشتقنا إليك فما ينفعنا شيء حتى نرجع إليك، ثم ذكرت درجتك في الجنة فكيف لنا برؤيتك إن دخلنا الجنة فأنزل الله هذه الآية. فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أتى الأنصاري ولده وهو في حديقة له فأخبره بموت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده فعمي مكانه. وقال السدي: إن ناسا من الأنصار قالوا: يا رسول الله إنك تسكن الجنة في أعلاها ونحن نشتاق إليك فكيف نصنع فنزلت. وليس المراد من كون المطيعين مع المذكورين في الآية أن كلهم في درجة واحدة فإن ذلك يقتضي التسوية بين الفاضل والمفضول وإنه محال، ولكن المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا، أو إذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا على ذلك. والتحقيق فيه أن عالم الأنوار لا تمانع فيها ولا تدافع بل ينعكس بعضها على بعض ويتقوى بعضها ببعض كالمرايا المجلوة المتقابلة. إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الحجر: 47] . ثم إنه تعالى ذكر أصنافا أربعة: النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ولا شك في تغايرها متداخلة كانت أو متباينة. والمراد بالتداخل أن لا يمتنع كون كل متقدم موصوفا بما يتلوه كأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صديقا وشهيدا وصالحا، أو الصديق شهيدا وصالحا، وقد مر تفسير النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل البقرة. وأما الصديق فمبالغة الصادق وهو من غلب على أقواله الصدق وإنه لخصلة مرضية في جميع الأديان ومحققة للنطق الذي هو من مقومات الإنسان، وكفى به منقبة أن الإيمان ليس إلا التصديق، وكفى بنقيضه مذمة أن الكفر ليس سوى التكذيب. وذكر المفسرون أكثرهم أن الصديقين في الآية كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك لقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحديد: 19] وقال قوم: هم أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخصصه بعضهم بمن سبق إلى تصديق الرسول فصار في ذلك قدوة الناس كأبي بكر وعلي وأمثالهما، ولا واسطة بين الصديق والنبي ولذلك قال في هذه الآية: مِنَ النَّبِيِّينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 وَالصِّدِّيقِينَ. وفي صفة إبراهيم إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا [مريم: 41] يعني أنك إن ترقيت من الصديقين وصلت إلى النبوة وإن نزلت من النبوة وصلت إليهم. وأما الشهداء فالمراد بهم هاهنا أعم من المقتولين بسيف الكفار من المسلمين. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول من قتل في سبيل الله. قال: إن شهداء أمتي إذا لقليل. «من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات بالبطن فهو شهيد.» وفي رواية «ومن مات بجمع فهو شهيد» «1» . وقيل: هو الذي يشهد لصحة دين الله تارة بالحجة والبيان وأخرى بالسيف والسنان. وأقول: لا يبعد أيضا أن يدخل كل هذه الأمة في الشهداء لقوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] . وأما الصالحون فالصالح هو الذي صلح في اعتقاده وفي عمله وهذه مرتبة لا ينبغي أن تنحط عنها مرتبة المؤمن. ثم قال في معرض التعجب وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً كأنه قيل: وما أحسن أولئك. والرفيق كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه وانتصابه على الحال، ويجوز أن يكون مفردا بيّن به الجنس في باب التمييز. وقيل: معناه حسن كل واحد منهم رفيقا كما قال يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج: 5] والرفق في اللغة لين الجانب ولطافة الفعل فسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك به وتصحيبه، ومن الرفقة في السفر لارتفاق بعضهم ببعض. وقد يكون الإنسان مع غيره ولا يكون رفيقا له فبيّن الله تعالى أن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يكونون كالرفقاء للمطيع من شدة محبتهم له وسرورهم برؤيته. ذلِكَ مبتدأ والْفَضْلُ صفته ومِنَ اللَّهِ خبره، أو ذلِكَ مبتدأ والْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ خبره. قالت المعتزلة: ذلك إشارة إلى الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الأنبياء وهذا شيء تفضل الله به عليهم تبعا لثوابهم الواجب على الله. أو أراد أن فضل المنعم عليهم ومزيتهم من الله لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه ولولا أنه أعطى العقل والقدرة وأزاح الأحذار والموانع لم يتمكن المكلف من فعل الطاعة فصار ذلك بمنزلة من وهب غيره ثوبا لينتفع به فإذا باعه وانتفع بثمنه جاز أن يوصف ذلك الثمن بأنه فضل من الواهب. وقال أهل السنة: ذلك إشارة إلى جميع ما تقدم ولا يجب على الله شيء البتة بل الثواب كله فضل من الله، وكيف يجب عليه شيء وإنه هو الذي خلق القدرة والداعية؟ وأيضا الوجوب عبارة عن استحقاق الذم عند الترك وأنه ينافي الإلهية. وأيضا كل ما فرض من الطاعات فإنه في مقابلة النعم السالفة التي لا تعدّ ولا تحصى فيمتنع كونها موجبة الثواب في المستقبل. معنى الآية أن ذلك الثواب بكمال درجته كأنه هو الفضل وما عداه غير معتمد   (1) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 165. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 عليه وذلك الثواب المذكور هو من الله لا من غيره. وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بالطاعة وكيفية الثواب عليها، وفيه ترغيب للمكلف على إكمال الطاعة والاحتراز عن التقصير فيه. التأويل: الوجود المجازي أمانة من الله تعالى كما أنّ وجود الظل أمانة من الشمس فلا جرم إذا تجلت شمس الربوبية لظلال وجود النفس والقلب والروح يقول بلسان العزة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها فتلاشت الظلال واضمحلّت الأغيار وانمحت الآثار وبقي الواحد القهار، وهذا أحد أسرار قوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرعد: 15] . وَإِذا حَكَمْتُمْ بعد فناء الوجود المجازي وبقاء الوجود الحقيقي بين الروح والقلب والنفس أن تحكموا بآداب الطريقة فيراقب القلب شواهد اللقاء ويلازم الروح عقبة الفناء والسر وارد سلطان البقاء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الخطاب مع القلب والروح والسر فإنهم آمنوا على الحقيقة، وطاعة القلب لله أن يحب الله وحده، وطاعة الروح أن لا يلتفت إلى غيره، وطاعة السر أن لا يرى غيره في الوجود. أما الرسول فهو الرسول الوارد من الحق في الباطن كما قال صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد: استفت قلبك يا وابصة ولو أفتاك المفتون. وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يعني مشايخكم ومن بيده أمر تربيتكم. فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ يعني منازعة النفس القلب والروح والسر فردوه إلى الكتاب والسنة أو يريد منازعة القلب فيما يحكم به الكتاب والسنّة نزاعا من قصور الفهم والدراية فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ لمراقبة القلوب بشواهد الغيوب وَإِلَى الرَّسُولِ وارد الحق بصدق النية وصفاء الطوية ذلك الإيمان الإيقاني بشهود النور الرباني خير من تعلم الكتاب والسنة بالتقليد دون التحقيق. ثم يخبر عن حال أهل القال المتحاكمين إلى طاغوت الهوى والخبال من أهل البدع والضلال بقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الآية. أصابتهم مصيبة ملامة من الخلق أو سياسة من السلطان. فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ فيه أن الإيمان الحقيقي ليس بمجرد التصديق والإقرار ولكنه سيضرب على محك الاعتبار وهو تحكيم الشرع لا الطبع والنبوة لا البنوة والمولى لا الهوى ووارد الحق لا موارد الخلق فيما اختلفت آراؤهم وتحيّرت عقولهم ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي مرآة أَنْفُسِهِمْ صورة كراهة من القضاء الأزلي والأحكام الإلهية. والصديقين الذين لهم قدم صدق عند ربهم، والشهداء أهل الجهاد الأكبر، والصالحين الذين لهم صلوح الولاية وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً في سلوك طريق الحق والله المستعان. [سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 81] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 القراآت: لَيُبَطِّئَنَّ ونحوه مثل فَلَنُنَبِّئَنَّ ولَنُبَوِّئَنَّهُمْ بالياء الخالصة: يزيد والشموني وحمزة في الوقف. كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بالتاء الفوقانية: ابن كثير وحفص والمفضل وسهل ويعقوب. الباقون بياء الغيبة يَغْلِبْ فَسَوْفَ وبابه نحو إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ [الرعد: 5] اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ [الإسراء: 63] مدغما: أبوبكر وحمزة غير خلف وعلي وهشام. ولا يظلمون بالياء التحتانية: ابن كثير، وعلي وحمزة وخلف وهشام ويزيد وابن مجاهد عن ابن ذكوان. الباقون بتاء الخطاب بَيَّتَ طائِفَةٌ مدغما: أبوبكر وحمزة. الوقوف: جَمِيعاً هـ لَيُبَطِّئَنَّ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب شَهِيداً هـ عَظِيماً هـ بِالْآخِرَةِ ط عَظِيماً هـ أَهْلُها ج وَلِيًّا كذلك للتفصيل بين الدعوات نَصِيراً هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ج للفصل بين القصتين المتضادتين. أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ ج لاحتمال الابتداء وتقدير الفاء واللام. ضَعِيفاً هـ الزَّكاةَ ط لأنّ جواب «فلما» منتظر ولكن التعجب في قوله: أَلَمْ تَرَ واقع على قوله: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ. خَشْيَةً ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى. الْقِتالُ ج لأنّ «لولا» أي «هلا» استفهام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 آخر مع اتحاد المعمول. قَرِيبٍ ط قَلِيلٌ ج للفصل بين وصف الدارين. فَتِيلًا هـ مُشَيَّدَةٍ ط للعدول لفظا ومعنى. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ط للفصل بين النقيضين. مِنْ عِنْدِكَ ج. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ط. حَدِيثاً هـ. فَمِنَ اللَّهِ ز فصلا بين النقيضين فَمِنْ نَفْسِكَ ط. رَسُولًا هـ. شَهِيداً هـ أَطاعَ اللَّهَ ج لحق العطف مع ابتداء بشرط آخر حَفِيظاً ط لاستئناف الفعل بعدها. طاعَةٌ ز لابتداء بشرط مع أن المقصود من بيان نفاقهم لا يتم بعد. تَقُولُ ط يُبَيِّتُونَ ج لاختلاف الجملتين مع الاتصال أي إذا كتب الله ما يبيتون فأعرض ولا تهتم. عَلَى اللَّهِ ط وَكِيلًا هـ. التفسير: إنه سبحانه عاد بعد الترغيب في طاعة الله وطاعة رسوله إلى ذكر الجهاد لأنه أشق الطاعات ولأنه أعظم الأمور التي بها تناط تقوية الدين فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ والحذر والحذر بمعنى كالأثر والإثر والمثل والمثل. يقال: أخذ حذره إذا تيقظ واحترز عن المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه. والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم. وقيل: المراد بالحذر السلاح لأنه مما يتقي به ويحذر. فإن قيل: أي فائدة في هذا الأمر والحذر لا يغني عن القدر والمقدور كائن والهم فضل؟ قلت: هذا من عالم الأسباب والوسائط المرتبطة ولا ريب أن الكل يقع على نحو ما قدّر، فمن امتثل وترتب عليه الأثر كان بقدر، ومن أهمل حتى فاتته السلامة كان أيضا بقدر، وهكذا شأن جميع التكاليف إذا اعتبر. فَانْفِرُوا إلى قتال عدوّكم انهضوا لذلك قال صلى الله عليه وسلم: «وإذا استنفرتم فانفروا» «1» . ثُباتٍ جماعات متفرقة سرية بعد سرية واحدها ثبة محذوفة اللام وأصلها ثبى فعوضت الهاء عن الياء المحذوفة. والتركيب يدل على الاجتماع ومنه الثبة لوسط الحوض الذي يجتمع عنده الماء وصبيت الشيء جمعته. أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً مجتمعين كركبة واحدة وهذا قريب مما قاله الشاعر: طاروا إليه زرافات ووحدانا. والغرض النهي عن التخاذل وإلقاء النفس إلى التهلكة. وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ اللام الأولى هي الداخلة في خبر «إنّ» والثانية هي الداخلة في جواب القسم، وتقدير الكلام: لمن حلف بالله ليبطئن وهو إما متعد بسبب التشديد فيكون المفعول محذوفا أي ليبطئن غيره وليثبطنه عن الغزو كما هو ديدن المنافق عبد الله بن أبي ثبّط الناس يوم أحد، وإما لازم فقد جاء بطأ بالتشديد بمعنى أبطأكعتم بمعنى أعتم أي ليتثاقلن وليختلفن عن الجهاد، وهذا   (1) رواه البخاري في كتاب الصيد باب 10. مسلم في كتاب الحج حديث 445. أبو داود في كتاب الجهاد باب 2. الترمذي في كتاب السير باب 32. النسائي في كتاب البيعة باب 15. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 9. الدارمي في كتاب السير باب 69. أحمد في مسنده (1/ 226، 316) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 المعنى أوفق بقوله: فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ من قتل أو هزيمة قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ فتح أو غنيمة ليقولن (قوله) كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ اعتراض بين الفعل الذي هو لَيَقُولَنَّ وبين مفعوله وهو يا لَيْتَنِي والمنادى محذوف أي يا قوم ليتني. وجوّز أبو علي إدخال حرف النداء في الفعل والحرف من غير إضمار المنادي. كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ منصوب بإضمار أن أي ليت لي كونا معهم فافوز. والخطاب في قوله: وَإِنَّ مِنْكُمْ للمذكورين في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا والأظهر أن هذا المبطئ سواء جعل لازما أو متعديا كان منافقا فلعله جعله من المؤمنين من حيث الجنس أو النسب أو الاختلاط أو لأنه كان حكمه حكم المؤمنين لظاهر الإيمان. والمراد يا أيها المؤمنون في زعمكم ودعواكم كقوله: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الحجر: 6] ومعنى الاعتراض في البين أن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن. وقال جمع من المفسرين: إنّ هؤلاء المبطئين كانوا ضعفة المسلمين. وعلى هذا فالتبطئة بمعنى الإبطاء البتة لأنّ المؤمن لا يثبط غيره ولكنه قد يتثاقل وهم المراد بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ [التوبة: 38] ثم لما ذم المبطئين رغب في الجهاد بقوله: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ ومعناه يشترون أو يبيعون. وعلى الأول فهم المنافقون المبطئون وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويجاهدوا حق الجهاد ولا يختاروا الدنيا على المعاد. وعلى الثاني فهم المؤمنون الذين تركوا الدنيا لأجل الآخرة. والمراد إن أبطأ أهل النفاق وضعفة الإيمان عن القتال فليقاتل التائبون المخلصون. وقيل: يحتمل أن يراد المؤمنون على التقدير الأول أيضا لأن الإنسان إذا أراد أن يبذل هذه الحياة الدنيا في سبيل الله بخلت نفسه فاشتراها من نفسه بسعادة الآخرة ليقدر على بذلها في سبيل الله، أو لعله أريد اشتغل بالقتال واترك ترجيح الفاني على الباقي، أو المراد أنهم كانوا يرجحون الحياة على الموت لاستيفاء السعادات البدنية فقيل لهم: قاتلوا فإنكم تستولون على الأعداء وتفوزون بالأموال. وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ وعد الأجر العظيم على تقديري المغلوبية والغالبية ليعلم أنه لا عمل أشرف من الجهاد، وليكون المجاهد على بصيرة من حاله على أي تقدير كان فيقدم ولا يحجم، ثم زاد في تحريضهم فقال: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ ومعناه أنه لا عذر لكم في ترك المقاتلة وقد بلغ الحال إلى ما بلغ. وقوله: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ إما مجرور أي في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين، وإما منصوب على الاختصاص أي وأخص من سبيل الله الذي هو عام في كل خير خلاص المستضعفين وهم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون والإعسار والضعف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم أذلاء يلقون منهم أذى شديدا، فكانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة وبقي بعضهم إلى الفتح. والولدان جمع ولد كخربان في خرب. وقيل: الرجال والنساء الأحرار والحرائر، والولدان العبيد والإماء لأنّ العبد والأمة يقال لهما الوليد والوليدة وجمعهما الولدان والولائد إلّا أنه خص الولدان بالذكر تغليبا كالآباء والإخوة مع إرادة الأمهات والأخوات أيضا. وعن ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين من الولدان والنساء. والظالم صفة للقرية إلّا أنه مسند إلى أهلها فتبع القرية في الإعراب، وهو مذكر لإسناده إلى الأهل. والأهل يذكر ويؤنث، ولو أنّث لا لتأنيث الموصوف بل لجواز تأنيث الأهل جاز. وإنما اشترك الولدان في الدعاء وإن كانوا غير مكلفين لأن المشركين كانوا يؤذونهم إرغاما لآبائهم، أو لأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة الله بدعاء صغائرهم الذين لم يذنبوا كما فعل قوم يونس، ووردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا أي كن أنت لنا وليا وناصرا وولّ علينا رجلا يوالينا ويقوم بمصالحنا. فاستجاب الله دعاءهم لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة جعل عتاب بن أسيد أميرا لهم فكان الولي هو الرسول، وكان النصير عتاب بن أسيد كما أرادوا. قال ابن عباس: كان ينصر الضعيف من القوي حتى كانوا أعزّ بها من الظلمة. ثم شجع المؤمنين تشجيعا بأن أخبرهم أنهم يقاتلون في سبيل الله فهو وليّهم وناصرهم وأعداؤهم يقاتلون في سبيل غير الله وهو الطاغوت والشيطان فلا ولي لهم إلّا الشيطان وإن كيده أوهن شيء وأضعفه. والكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال. وفائدة إدخال «كان» أن يعلم أنه منذ كان كان موصوفا بالضعف والذلة. ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر وإن كانوا مدة حياتهم في غاية الخمول والفقر، وأما الملوك والجبابرة فإذا ماتوا انقرض أثرهم ولا يبقى في الدنيا رسمهم ولا ظلمهم؟ قوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ فيه قولان: الأول أنها نزلت في المؤمنين نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود وقدامة بن مظعون وسعد بن أبي وقاص كانوا يلقون من المشركين أذى كثيرا ويقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن لنا في قتال هؤلاء. فيقول لهم: كفوا أيديكم عنهم فإني لم أؤمر بقتالهم. فلما هاجر إلى المدينة وأمرهم الله بقتال المشركين كرهه بعضهم وشق عليهم. الثاني قال ابن عباس في رواية أبي صالح: لما استشهد الله من المسلمين من استشهد يوم أحد قال المنافقون الذين تخلّفوا عن الجهاد: لو كان إخواننا الذين قتلوا عندنا ما ماتوا وما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 قتلوا فنزلت. وقد يحتج للقول الأول بأن رغبتهم في القتال أوّلا دليل الإيمان، ويمكن أن يجاب بأن المنافقين أيضا كانوا يظهرون الرغبة في الجهاد إلى أن أمروا بالقتال فأحجموا. واحتج أصحاب القول الثاني بأنهم كانوا يخشون الناس كخشية الله أو أشد، وكانوا يعترضون على الله تعالى بقولهم: لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ وكانوا يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة فلهذا قيل لهم قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وكل هذه الأمور من نعوت المنافقين وأجيب بأن حب الحياة والنفرة عن القتل من لوازم الطباع وهو المعنى بالخشية والاعتراض محمول على تمني تخفيف التكليف لا على الإنكار وقوله: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ إنما ذكر ليهون على قلبهم أمر هذه الحياة. والأقوى حمل الآية على المنافقين لأن ما بعدها وهو قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ في شأنهم بلا اختلاف. وفي الآية دلالة على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدما على الجهاد وهو أيضا ترتيب مطابق لما في المعقول، لأنّ التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله مقدمان على الترهيب والقتل في سبيل الله. وإذا في إِذا فَرِيقٌ للمفاجأة وهو مجرد عن الظرفية والعامل في لما معنى المفاجأة أي فاجأ وقت خشية فريق زمان كتبة القتال عليهم. وقوله: كَخَشْيَةِ اللَّهِ من إضافة المصدر إلى المفعول. ومحل الكاف النصب على الحال لما عطف عليه من قوله: أَوْ أَشَدَّ ثم نصب خَشْيَةً على التمييز فالتقدير: يخشون الناس مشبهين لأهل خشية الله أو أشد خشية من خشية أهل الله. نعم لو قيل: أشد خشية بالإضافة انتصب خشية الله على المصدر ولا يمكن أن يقال أشد خشية بالنصب على إرادة المصدر، اللهم إلّا أن تجعل الخشية خاشية أو ذات خشية مثل جد جده فيكون المعنى: خشية مثل خشية الله أو خشية أشد خشية من خشية الله. وعلى هذا يجوز أن يكون محل أَشَدَّ مجرورا عطفا على خشية الله أي كخشية الله أو كخشية أشد خشية منها. وكلمة «أو» ليست للشك هاهنا فإن ذلك على علام الغيوب محال ولكنها بمعنى الواو، أو المراد أن كل خوفين فإن أحدهما بالنسبة إلى الآخر إما أن يكون أنقص أو مساويا أو أزيد، فبيّن في الآية أن خوفهم من الناس ليس بأنقص من خوفهم من الله فيبقى إما أن يكون مساويا أو أزيد فهذا لا يوجب كونه تعالى شاكا فيه ولكنه يوجب إبقاء الإبهام في هذين القسمين على المخاطبين. أو هذا نظر قوله وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 117] يعني أن من يراهم يقول هذا الكلام. وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء: 77] إن كانت الآية في المؤمنين فهم إنما قالوا ذلك لا اعتراضا على الله ولكن جزعا من الموت وحبا للحياة واستزادة في مدة الكف واستمهالا إلى وقت آخر كقوله: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [المنافقون: 10] وإن كان من كلام المنافقين فلا شك أنهم كانوا منكرين لكتبة القتال عليهم، فهم قالوا ذلك بناء على زعم الرسول ودعواه. ومعنى لَوْلا أَخَّرْتَنا هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا، ثم أزال الشبهة وأزاح العلة بقوله: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لا لكل الناس بل لِمَنِ اتَّقى فإن للكافر والفاسق هنالك نيرانا وأهوالا ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» «1» . وأما ترجيح الآخرة فلأن نعم الدنيا قليلة ونعم الآخرة كثيرة، ونعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبّدة، ونعم الدنيا مشوبة بالأقذار ونعم الآخرة صافية عن الأكدار، ونعم الدنيا مشكوكة التمتع بها ونعم الآخرة يقينية الانتفاع منها. ثم بكت الفريق الخائنين بأنهم يدركهم الموت أينما كانوا ولو كانوا في حصون مرتفعة. والبروج في كلام العرب القصور والحصون وأصلها من الظهور ومنه تبرجت المرأة إذا أظهرت محاسنها. والغرض أنه لا خلاص لهم من الموت والجهاد موت مستعقب للسعادة الأبدية، وإذا كان لا بد من الموت فوقوعه على هذا الوجه أولى. قال المفسرون: كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين أمسك الله تعالى عنهم بعض الإمساك كما جرت عادته في جميع الأمم قال: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الأعراف: 94] فعند هذا قالت اليهود والمنافقون: ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا منذ قدم. فقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يعني الخصب والرخص وتتابع الأمطار قالوا هذا من عند الله، وإن تصبهم سيئة يعني الجدب وانقطاع الأمطار قالوا هذا من شؤم محمد وهذا كقوله: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف: 131] . وقال قوم: الحسنة النصر على الأعداء والغنيمة، والسيئة القتل والهزيمة. وقال أهل التحقيق: خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ وكل ما ينتفع به فهو حسنة. فإن كان منتفعا به في الدنيا فهو الخصب والغنيمة وأمثالهما، وإن كان منتفعا به في الآخرة فهو الطاعة. فالحسنة تعم الحسنات، والسيئة تعم السيئات فلا جرم أجابهم الله تعالى بقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وكيف لا وجميع الممكنات من الأفعال والذوات والصفات لا بد من استنادها إلى الواجب بالذات؟ ولهذا تعجب من حالهم وقال: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً فنفى عنهم مقاربة الفقه والفهم فضلا عن الفقه والفهم. قالت المعتزلة: بل هذه الآية حجة لنا لأنه لو كان حصول الفهم والمعرفة بتخليق   (1) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث 1. الترمذي في كتاب الزهد باب 16. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 3. أحمد في مسنده (2/ 197) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 الله تعالى لم يبق لهذا التعجب معنى البتة لأنه تعالى ما خلقها. والجواب: أنه تعالى لا يسأل عما يفعل. وأيضا المعارضة بالعلم والداعي. وقالت المعتزلة أيضا: الحديث «فعيل» بمعنى «مفعول» والمراد به الآيات المذكورة في هذه المواضع فيلزم منه كون القرآن محدثا. والجواب بعد تسليم ما ذكروا أنه لا نزاع في حدوث العبارات إنما النزاع في الكلام النفسي. قوله عز من قائل: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ قال أبو علي الجبائي: السيئة تارة تقع على البلية والمحنة وتارة تقع على الذنب والمعصية. ثم إنه تعالى أضاف السيئة إلى نفسه في الآية الأولى بقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وأضافها في هذه الآية إلى العبد بقوله: وَما أَصابَكَ أي يا إنسان خطابا عاما مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فلابد من التوفيق وإزالة التناقض، وما ذاك إلّا بأن يجعل هناك بمعنى البلية وهاهنا بمعنى المعصية. قال: وإنما فصل بين الحسنة والسيئة في هذه الآية فأضاف الحسنة التي هي الطاعة إلى نفسه دون السيئة مع أن كليهما من فعل العبد عندنا، لأنّ الحسنة إنما تصل إلى العبد بتسهيل الله وألطافه فصحت إضافتها إليه، وأما السيئة فلا يصح إضافتها إلى الله تعالى لا بأنه فعلها ولا بأنه أرادها ولا بأنه أمر بها ولا بأنه رغب فيها. وقال في الكشاف: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أي من نعمة وإحسان فَمِنَ اللَّهِ تفضلا منه وإحسانا وامتنانا وامتحانا وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ أي من بلية ومصيبة فَمِنْ عِنْدِكَ لأنك السبب فيها بما اكتسبت يداك كما روي عن عائشة «ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلّا بذنب وما يعفو الله أكثر منه» «1» . وقالت الأشاعرة: كل من الحسنة والسيئة بأي معنى فرض فإنها من الله تعالى لوجوب انتهاء جميع الحوادث إليه. لكنه قد يظن بعض الظاهريين أن إضافة السيّئة إلى الله تعالى خروج عن قانون الأدب فبين في الآية أن كل ما يصيب الإنسان من سيّئة حتى الكفر الذي هو أقبح القبائح فإن ذلك بتخليق الله تعالى. والوجه فيه أن يقدر الكلام استفهاما على سبيل الإنكار ليفيد أن شيئا من السيّئات ليست مضافة إلى الإنسان بل كلها بقضائه ومشيئته، ويؤيده ما يروى أنه قرىء فَمِنْ نَفْسِكَ بصريح الاستفهام. ومما يدل دلالة ظاهرة على أن المراد من هذه الآيات إسناد جميع الأمور إلى الله تعالى قوله بعد ذلك: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا أي ليس لك إلّا الرسالة والتبليغ وقد فعلت ذلك وما قصرت وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على جدّك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي، فأما   (1) رواه البخاري في كتاب المرضى باب 1. مسلم في كتاب البر حديث 52. الترمذي في كتاب الجنائز باب 1. أحمد في مسنده (2/ 303) ، (3/ 4، 18) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 تحصيل الهداية فليس إليك بل إلى الله. قال علماء المعاني: قوله رَسُولًا حال من الكاف أي حال كونك ذا رسالة ولِلنَّاسِ صفة رَسُولًا متعلق ب أَرْسَلْناكَ وإلّا لقيل إلى الناس. فأصل النظم وأرسلناك رسولا للناس فلابد للتقديم من خاصية هو التخصيص أعني ثبوت الحكم للمقدم ونفيه عما يقابله حقيقة أو عرفا لا عما عداه مطلقا. وبعد تقديم هذه المقدمة فاللام في قوله: لِلنَّاسِ إما أن يكون للعهد الخارجي أو للجنس أو للاستغراق. والأول باطل لأن المعهود الخارجي حصة معينة من الأفراد فيلزم اختصاص إرساله ببعض الإنس لوقوع بعض الناس في مقابلة كلهم عرفا فيكون مناقضا لما في الآيات الأخر كقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] ولقوله: «بعثت إلى الخلق كافة» والثاني وهو حمل اللام على تعريف الجنس أيضا باطل لأنه يلزم اختصاص إرساله بالإنس دون الجن، لأنّ ثبوت الحكم لحقيقة الإنس بوساطة التقديم ينفي الحكم عما يقابلها عرفا وهو حقيقة الجن، أو ينفي الحكم عما عداها من الحقائق فيشمل حقيقة الجن ضرورة. وعلى التقديرين يلزم الخلف لأنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين لقوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف: 29] الآية. فتعين حمل اللام على الاستغراق ليثبت الحكم لكل فرد من أفراد الإنسان وتحصل موجبة كلية وينفي نقيض هذا الحكم وهو ما كان يزعمه الضالة من سالبة جزئية هي أنه ليس مبعوثا إلى بعض الناس كالعجم وأنه رسول العرب خاصة، وعلى هذا يكون الجن مسكوتا عنهم بالنسبة إلى هذه الآية. فلدلالة دليل آخر على كونه مبعوثا إلى الثقلين لا تكون منافية لدلالة هذه الآية، لأن التقديم قد استوفى حظه من الخاصية من غير تعرض للجن. ثم لما بين أنه لكل فرد من أفراد الناس رسول أوجب طاعته بقوله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنّ طاعة الرسول لكونه رسولا فيما هو رسول لا تكون إلّا طاعة لله. قال مقاتل في هذه الآية: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله» فقال المنافقون: لقد قارف الرجل الشرك، هو ينهي أن يعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى فأنزل الله هذه الآية. وهي من أقوى الدلائل على أنه معصوم في جميع الأوامر والنواهي وفي تبليغه وفي أفعاله وإلّا لم تكن طاعته فيما أخطأ طاعة لله. وَمَنْ تَوَلَّى قيل: هو التولي بالقلب أي حكمك يا محمد على الظواهر، وأما البواطن فلا تتعرّض لها. وقيل: هو التولي بالظاهر ومعناه فلا ينبغي أن تغتم بسبب ذلك التولّي. فَما أَرْسَلْناكَ لتحفظ الناس عن المعاصي فإن من أضلّه الله لم يقدر أحد على إرشاده. والمعنى فما أرسلناك لتشتغل بزجرهم عند ذلك التولي كقوله: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] ثم نسخ بآية الجهاد. ثم حكى سيرة المنافقين بقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 وَيَقُولُونَ أي حين ما أمرتهم بشيء طاعَةٌ أي أمرنا وشأننا طاعة، والنصب في مثل هذا جائز بمعنى أطعناك طاعة، ولكن الرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها فلهذا لم يقرأ بغيره فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي دبرت خلاف ما أمرت به وما ضمنت من الطاعة. قال الزجاج: كل أمر تفكروا فيه كثيرا وتأملوا في مصالحه ومفاسده كثيرا قيل هذا أمر مبيت. وفي اشتقاقه وجهان: الأول أن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس في بيته في الليل فهناك يكون الخاطر أصفى والشواغل أقل فلا جرم سمي الفكر المستقصى تبييتا.. الثاني قال الأخفش: إذا أراد العرب قرض الشعر بالقوافي بالغوا في التفكر فيه فسمي الفكر البليغ تبييتا، فاشتقاقه من أبيات الشعر. ثم إنه تعالى خص طائفة من المنافقين بالتبييت، وذكروا في التخصيص وجهين: أحدهما أنه ذكر من علم أنه يبقى على كفره ونفاقه، فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فلم يذكرهم. وثانيهما أن هذه الطائفة كانوا قد سهروا ليلهم في التبييت وغيرهم سمعوا وسكتوا ولم يبيتوا فلا جرم لم يذكروا. قلت: ووجه ثالث وهو أن هذا النوع من الكلام أجلب للقلوب وأدخل في عدم الإنكار. وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ يثبته في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه أو يكتبه في جملة ما يوحى إليك فيطلعك على أسرارهم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في شأنهم فإنّ الله ينتقم لك منهم إذا قوي أمر الإسلام وعزت أنصاره. قال بعضهم: الأمر بالإعراض منسوخ بآية الجهاد. والأكثرون على أن الصفح مطلق فلا حاجة إلى التزام النسخ والله تعالى أعلم. التأويل: خُذُوا حِذْرَكُمْ وهو ذكر الله فَانْفِرُوا ثُباتٍ جاهدوا بالرياضات من عالم التفرقة وهو عالم الحيوانية أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً من عالم الجمعية وهو عالم الروحانية إلى عالم الوحدة وَإِنَّ مِنْكُمْ أيها الصدّيقون لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ من المدعين المتكاسلين في السير، القانعين بالاسم، النازلين على الرسم مصيبة شدة ومجاهدة فضل من الله مواهب غيبية وعلوم لدنية ومرتبة عند الخواص وقبول عند العوام يشترون الحياة الدنيا يشترون حظوظ النفس بحقوق الرب فيقتل نفسه بسيف الصدق أو يغلب عليها بالظفر فتسلم على مدة. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ أي الأرواح الضعيفة استضعفتها النفوس باستيلائها عليها وَالنِّساءِ أي القلوب فإنّ القلب للروح كالزوجة للزوج لتصرف الروح في القلب كتصرف الزوج في الزوجة. وَالْوِلْدانِ الصفات الحميدة المتولّدة بين الروح والقلب مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ قرية البدن الظَّالِمِ أَهْلُها وهي النفس الأمارة بالسوء نَصِيراً شيخا مربيا أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ من أهل السلامة كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ من الاعتصام بحبل أهل الملامة وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فإنكم لستم أهل الغرام فاقنعوا بدار السلام والسلام لأرباب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 الغرام من أهل الملام إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ ويخافون لومة الناس ولو كان من شرطهم أن لا يخافوا لومة لائم ولا يناموا نومة نائم فنفروا عن فريقهم كالبهائم، وضلوا عن طريقهم كالهائم. لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فنموت بالآجال فإن لنا كل لحظة موتة في ترك حظوة. فيا أيها البطلة في زي الطلبة الذين غلب عليكم حب الدنيا فأقعدكم عن طلب المولى أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ اضطرارا إن لم تموتوا قبل أن تموتوا اختيارا وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أجسام قوية مجسمة وَإِنْ تُصِبْهُمْ يعني أهل البطالة حَسَنَةٌ من فتوحات غيبية يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا يرون للشيخ فيما عليهم حقا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من الرياضات والمجاهدات يَقُولُوا للشيخ هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ أي بسببك وسعيك قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ القبض والبسط والفرح والترح ما أَصابَكَ من فتح وموهبة فَمِنَ اللَّهِ فضلا وكرما وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ بلاء وعناء فَمِنَ شؤم صفات نَفْسِكَ الأمارة. والتحقيق فيه أن للأعمال أربع مراتب: التقدير والخلق وهاتان من الله تعالى، والكسب والفعل وهاتان من العبد، وإن كان العبد وكسبه وفعله كلها مخلوقة خلقها الله تعالى فافهم. وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا يهتدون بهداك ويتبعون خطاك، ويقولون إذا كانوا حاضرين في صحبتك، وتنعكس أشعة أنوار النبوة عليهم، ويصغون بآذانهم الواعية إلى الحكم والمواعظ الوافية السمع والطاعة. فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ وهبت عليهم رياح الهوى عاد الطبع المشئوم إلى أصله وهكذا حال أكثر مريدي هذا الزمان من مشايخهم والله يكتب بغير عليهم ما يُبَيِّتُونَ لأنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ واصبر معهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فلعل الله يصلح بالهم. [سورة النساء (4) : الآيات 82 الى 91] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 القراآت: وَمَنْ أَصْدَقُ وكل صاد ساكنة بعدها دال بإشمام الصاد الزاي: علي ورويس وحمزة غير العجلي. حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وبابه مدغما: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. وقرأ سهل ويعقوب والمفضل حصرة صدورهم بالنصب والتنوين. الوقوف: الْقُرْآنَ ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط. كَثِيراً هـ أَذاعُوا بِهِ ط مِنْهُمْ ط قَلِيلًا هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ج ط لأن قوله: لا تُكَلَّفُ يحتمل الاستئناف والحال أي قاتل غير مكلف. إِلَّا نَفْسَكَ ط لعطف قوله: وَحَرِّضِ على قوله: فَقاتِلْ. الْمُؤْمِنِينَ ج لأنّ عَسَى مستأنف لفظا ومتصل معنى لأنه لترجية نجح ما أمر به. كَفَرُوا ط تَنْكِيلًا هـ نَصِيبٌ مِنْها ط لابتداء شرط آخر مع واو العطف. كِفْلٌ مِنْها ط مُقِيتاً هـ رُدُّوها ط حَسِيباً هـ إِلَّا هُوَ ط لا رَيْبَ فِيهِ ط حَدِيثاً هـ بِما كَسَبُوا ط مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط. سَبِيلًا هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ط وَجَدْتُمُوهُمْ ص نَصِيراً هـ ط أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ ط فَلَقاتَلُوكُمْ ط السَّلَمَ لا لأن ما بعده جواب «فإن» . سَبِيلًا هـ قَوْمَهُمْ ط أُرْكِسُوا فِيها ج ثَقِفْتُمُوهُمْ ط مُبِيناً هـ. التفسير: لما حكي عن المنافقين ما حكى وكان السبب فيه اعتقادهم أنه صلى الله عليه وسلم غير محق في ادعاء الرسالة، أمرهم بالتفكر والتدبر وهو النظر في عواقب الأمور وأدبارها، ومنه قول أكثم: لا تدبروا أعجاز أمور قد ولت صدورها. ويقال في فصيح الكلام: لو استقبلت من أمري ما استدبرت. أي لو عرفت في صدره ما عرفت من عاقبته. وظاهرا الآية يدل على أنه احتج بالقرآن على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإلا انقطع النظم. ودلالة القرآن على صدق النبي من ثلاثة أوجه: الفصاحة والاشتمال على الغيوب والسلامة من الاختلاف وهو المقصود من الآية. واختلف المفسرون في المراد من سلامته من الاختلاف. فقال أبو بكر الأصم: معناه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 أن المنافقين كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من المكايد، والرسول كان يخبرهم عنها حالا فحالا. فقيل لهم: إن ذلك لو لم يحصل بإخبار الله تعالى لم يطرد صدقه ولظهر أنواع الاختلاف والتفاوت. وقال أكثر المتكلمين: المراد تجاوب معانيه وتلاؤم مقاصده مع أنه مشتمل على علوم كثيرة وفنون غزيرة، ولو كان من عند غير الله لم يخل من تناقض واضطراب. والذي تظن به التناقض كقوله: لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 39] مع قوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 92] أو كقوله: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الشعراء: 32] مع قوله: كَأَنَّها جَانٌّ [القصص: 31] ليس بذاك عند التدبر وملاحظة شروط التناقض من اتحاد الزمان والمكان وغيرهما وقال أبو مسلم: المراد صحة نظمه وكون كله بل كل جزء من أجزائه وأبعاضه بالغا حد الإعجاز. ومن المعلوم أن الإنسان وإن كان في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة إذا كتب كتابا طويلا مشتملا على المعاني الكثيرة فلا بد أن يظهر التفاوت في كلامه بحيث يكون بعضه قويا متينا وبعضه سخيفا نازلا، ولما لم يكن القرآن كذلك علمنا أنه معجز من عند الله تعالى. وفي الآية دلالة على وجوب النظر والاستدلال أعني التدبر فيما إليه سبيل. وقال الجبائي: فيها دلالة على أن أفعال العباد غير مخلوقة لله لأن فعل العبد لا ينفك عن التفاوت والاختلاف. والجواب أنه لا يلزم من كون كلامه غير متفاوت ولا مختلف أن لا تكون أفعاله مختلفة بحسب اختلاف المظاهر والقوابل. سلمنا لكن اختلافه وهو كونه غير مطابق للأغراض والمقاصد الإنسانية قد يكون بحسب نظرنا لا بحسب الأمر نفسه. ثم حكى عن المنافقين- وقيل عن ضعفة المسلمين- أنه إذا جاءهم الخبر بأمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر من باب الأمن أو من باب الخوف أذاعوا به وأفشوه. يقال: أذاع السر وأذاع به لغتان. ويجوز أن يكون معنى أذاع به فعل به الإذاعة وهو أبلغ. ولا يخفى ما في ذلك الإفشاء من الضرر من جهة أن الإرجاف لا ينفك عن الكذب، ومن جهة أن تلك الزيادات إن كانت في جانب الأمن ولم تقع أورثت شبهة لضعفة المسلمين في صدق الرسول، لأن المنافقين كانوا يروونها عن الرسول، وإن كانت في جانب الخوف حصل اضطراب في الضعفة ووقعوا في الحيرة. وأيضا البحث عن الإرجاف موجب ظهور الأسرار وذلك لا يوافق مصلحة المدينة فربما وصل الخبر إلى الكفار فاستعدوا للقتال أو تحصنوا. وفي معنى الآية أقوال: الأول: ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر- وهم كبار الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمرون منهم- لَعَلِمَهُ لعلم تدبير ما أخبروا به الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها، وأصل الاستنباط إخراج النبط وهو الماء يخرج من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 البئر أول ما تحفر فاستعير لاستخراج المعاني. والتدبير الثاني: كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار فيذيعونه فتعود إذاعتهم مفسدة. فقيل لهم: لو فوضوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر وكانوا كأن لم يسمعوا العلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه. الثالث: كانوا يسمعون من أفواه بعض المنافقين شيئا من خبر السرايا غير معلوم الصحة فيذيعونه فقيل لهم: لو سكتوا حتى سمعوه من الرسول وأولي الأمر لعلموا صحته وهل هو مما يذاع أو لا يذاع فالمستنبطون هم المذيعون. ومعنى يستنبطونه منهم يتلقونه من الرسول وأولي الأمر ويستخرجون علمه من جهنم. قالت العلماء: في الآية دلالة على أن القياس حجة لأنهم أمروا أن يرجعوا في معرفة الوقائع إلى أولي الأمر من المستنبطين. فرواية النص لا تكون استنباطا فهو إذن رد واقعة إلى نظيرها وهو القياس. واعترض بأنا لا نسلم أن المستنبطين هم العلماء وأولو الآراء بل هم المذيعون كما في القول الثالث. سلمنا لكن الآية نزلت في الحروب، ولا يلزم من جواز الاستنباط في الوقائع المتعلقة بها جواز الاستنباط في الوقائع الشرعية. فإن قيس أحد البابين على الآخر كان إثباتا للقياس الشرعي بالقياس الشرعي. سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون المراد استخراج الأحكام الشرعية من النصوص الخفية أو من تركيبات النصوص أو بالبراءة الأصلية أو بحكم العقل كما يقول الأكثرون إن الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار الحرمة وكل هذه الأمور ليست من القياس الشرعي في شيء؟ سلمنا أن القياس الشرعي داخل في الآية. لكن بشرط كونه مفيدا «للعلم» بدليل قوله لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ولا نزاع في مثله إنما النزاع في أن القياس المفيد للظن هل هو حجة أم لا. وأجيب بأن صرف المستنبطين إلى المذيعين ليس بالقوي إذ لو كان المراد ذلك لكان الأليق بنظم الكلام أن يقال: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لعلموه من غير إقامة المظهر مقام المضمر. وعن الثاني بأن الأمن أو الخوف عام في كل ما يتعلق بباب التكليف. ولئن سلم أنه مخصوص بأمور الحرب فإذا عرف أحكام الحروب بالقياس الشرعي لزم جواز التمسك به في سائر الوقائع إذ لا قائل بالفرق. ألا ترى أن من قال القياس حجة في باب البيع لا في باب النكاح لم يلتفت إليه؟ وعن الثالث أن شيئا من ذلك لا يسمى استنباطا. وعن الرابع أن العلم قد يراد به الظن الغالب. سلمنا لكن القياس الشرعي عندنا يفيد العلم لأنه مهما غلب على الظن أن حكم الله في الأصل معلل بكذا ثم غلب على الظن أن ذلك المعنى قائم في الفرع، حصل ظن أن حكم الله في الفرع مساو لحكمه في الأصل، وعند هذا الظن نقطع بأنه مكلف بأن يعمل على وفق هذا الظن وهذا معنى قولهم: «الظن واقع في طريق الحكم» والحكم مقطوع به كأنه تعالى قال: مهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 غلب على ظنك كذا في الواقعة الفلانية فاعلم قطعا أن حكمي فيها كذا. أما قوله لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا فظاهره يقتضي إشكالا وهو أن قليلا من الناس لا يحتاج في عدم اتباع الشيطان إلى فضل الله ورحمته، لكن الاحتياج بالنسبة إلى كل واحد من الناس ثابت بالاتفاق فهذا تناقض. فذكر المفسرون في إزالة التناقض وجوها الأول: أن الاستثناء راجع إلى قوله: أَذاعُوا بِهِ كأنه تعالى أخرج بعض المنافقين من هذه الإذاعة كما أخرجهم في قوله: بَيَّتَ طائِفَةٌ الثاني: أنه عائد إلى قوله: لَعَلِمَهُ يعني لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلّا قليلا. قال الفراء والمبرد: القول الأول أولى لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله. وصرف الاستثناء إلى ما ذكروه يقتضي ضد ذلك، قال الزجاج: هذا غلط لأنه لا يراد بهذا الاستنباط ما يستخرج بنظر دقيق وفكر غامض إنما هو استنباط خبر، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه إلّا البالغ في البلادة. والإنصاف أن الاستنباط لو حمل على مجرد تفرق الأخبار والأراجيف فكلام الزجاج الصحيح وإن كان محمولا على استخراج الأحكام الشرعية كما مر فالحق ما ذكره الفراء والمبرد. الثالث: أن الاستثناء مصروف إلى ما يليه كما هو حق النسق لأن الفضل والرحمة مفسران بشيء خاص وفيه وجهان: أحدهما قول جماعة من المفسرين أن المراد إنزال القرآن وبعثة محمد والتقدير: لولا بعثة محمد وإنزال القرآن لا تبعتم الشيطان ولكفرتم بالله إلّا القليل منكم فإن ذلك القليل بتقدير عدم بعثة محمد ما كان يكفر بالله وهم مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل، كانوا مؤمنين بالله قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. وثانيهما قول أبي مسلم أن المراد بالفضل والرحمة هاهنا نصرته تعالى ومعونته اللذان تمناهما المنافقون بقولهم: فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً [النساء: 73] والتقدير: لولا حصول النصر والظفر على سبيل التتابع لتركتم الدين إلّا القليل منكم وهم أهل البصائر والعزائم، ومن أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كونه حقا حصول الدولة في الدنيا، فلا تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقا، ولا انقطاع النصر والغلبة يدل على كونه باطلا، بل الأمر في كونه حقا وباطلا مبني على الدليل وهذا أحسن الوجوه. قوله: فَقاتِلْ قيل: إنه جواب لقوله: وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ [النساء: 74] كأنه تعالى قال: إن أردت الفوز فقاتل. وقيل: إنه متصل بمعنى ما ذكر من قصص المنافقين كذا وكذا فلا تعتد بهم ولا تلتفت إليهم بل قاتل فإنك لا تؤاخذ إلّا بفعلك، فإذا أديت فرضك لم تكلف فرض غيرك، ويعلم من قوله: وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أن الواجب على الرسول إنما هو الجهاد وتحريض الناس على الجهاد أي الحث والإحماء عليه، فإذا أتى بالأمرين فقد خرج عن عهدة التكليف وليس عليه من كون غيره تاركا شيء. واعلم أن الجهاد في حق غير الرسول من فروض الكفايات، فما لم يغلب على الظن أنه مفيد لم يجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 بخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه على ثقة من النصر والظفر بدليل قوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] وبدليل قوله هاهنا: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وعسى من الله جزم لأن الرجاء عليه محال فهو إطماع وإطماع الكريم إيجاب فلزمه الجهاد وإن كان وحده فلا جرم أنه صلى الله عليه وسلم قال في بدر الصغرى: «لأخرجن وحدي» فخرج وتبعه سبعون راكبا، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده، ثم إنه تعالى كف بأس المشركين وألقى الرعب في قلوب أبي سفيان وأصحابه حتى ندموا وترك الحرب في تلك السنة. وفي الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان أشجع الخلق لأنه تعالى لم يأمره بالقتال وحده إلّا أنه كذلك. وقيل: اقتدى به أبو بكر حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة ومن عرف أن الأمر كله بيد الله وأنه لا يحدث شيء إلّا بقضاء الله سهل عليه الفوت وكان بمعزل عن تقية الموت. وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من قريش وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا تعذيبا لأن عذاب الله دائم وعذاب غيره غير دائم، وعذاب غير الله يخلصه الله عنه وعذاب الله لا يقدر أحد على تخليصه منه، وعذاب غير الله يكون من وجه واحد وعذاب الله يصل إلى جميع الأبعاض والأجزاء ويشمل الروح والجسم فهذا طرف من الفرق والله أعلم بكنه عذابه ونعوذ بالله من عقابه. قوله سبحانه: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً وجه نظمه يعرف من تفسيره وذلك أنه قيل: المراد منه تحريض النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على الجهاد، لأنه إذا كان يأمرهم بالغزو فقد جعل نفسه شفيعا لهم في تحصيل الأغراض المتعلقة بالجهاد. وأيضا التحريض وهو الحث على سبيل الرفق والتلطف والتهديد جار مجرى الشفاعة. وقيل: كان بعض المنافقين يشفع لمنافق آخر فى أن يأذن له الرسول في التخلف عن الجهاد، وكان بعض المؤمنين يشفع لمؤمن آخر عند مؤمن ثالث أن يحصل له عدّة الجهاد فنزلت. ونقل الواحدي عن ابن عباس أن الشفاعة الحسنة هاهنا هي أن يشفع إيمانه بالله بقتال الكفار، والشفاعة السيئة أن يشفع كفره بالله بمحبة الكفار وترك إيذائهم. وقال مقاتل: الشفاعة إلى الله إنما هي دعوة الله المسلم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك» «1» فذلك النصيب والدعوة على المسلم بضد ذلك. وقال الحسن ومجاهد والكلبي وابن زيد: هي مطلق الشفاعة والحسنة منها هي التي بها روعي حق مسلم ودفع بها عنه شر أو جلب إليه خير وابتغى بها وجه الله ولم يؤخذ عليها رشوة وكانت في أمر حائز لا في حد من حدود الله ولا في إبطال حق من الحقوق، والسيئة ما كان بخلاف ذلك، وعلى هذا فوجه النظم أن التحريض على الجهاد بعث على الفعل الحسن وأنه نوع شفاعة كما مر في القول   (1) رواه الترمذي في كتاب البر باب 50. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 الأول. وعن مسروق أنه شفع شفاعة فأهدى إليه المشفوع له جارية فغضب وردها وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك ولا أتكلم فيما بقي منها. قال أهل اللغة: الكفل أيضا النصيب فهل لاختلاف اللفظين فائدة؟ فأجيب بأن الكفل اسم للنصيب الذي يكون عليه اعتماد الإنسان ومنه يقال «كفل البعير واكتفله» إذا أدار حول سنامه كساء وركب. والكفيل الضامن لأن الغريم اعتمد عليه. والتقدير من يشفع شفاعة سيئة يكن له منها نصيب يعتمد عليه ويكون له ذخيرة في معاشه ومعاده والغرض التهكم وحصول ضد ذلك مثل: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً أي مقتدرا وحفيظا. واشتقاقه من القوت لأنه يمسك النفس ويحفظها. والغرض أنه قادر على كل المقدورات حفيظ لجميع المعلومات فيجازي كل شافع بما يليق بحاله، ثم لما أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم أيضا بأن الأعداء لو رضوا بالمسالمة أو ألقوا في المبارزة بالسلم فقابلوهم بالإكرام وأيضا السلام دعاء بالسلامة والدعاء نوع من الشفاعة والتحية تفعلة من الحياة ويجيء الناقص من باب التفعيل على «تفعلة» مثل: تسلية وتعزية. لكنه أدغم هاهنا لاجتماع المثلين. وكانت العرب تقول عند التلاقي حياك الله. دعاء له بالحياة فأبدل الله ذلك بالسلام، ولعمري إن هذا أحسن لأن الحياة إن لم تكن مقرونة بالسلامة لم يعتد بها بل لعل الموت خير منها، ولأن السلام اسم من أسماء الله تعالى فالابتداء به أولى، ولأن دفع الضرر أهم من جلب النفع وقد سلم الله عليك يا مؤمن في اثني عشر موضعا في الأزل ولهذا سمى نفسه بالسلام، وعلى لسان نوح: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود: 48] والمراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسلم عليك على لسان جبريل: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ [القدر: 5] قال المفسرون إنه خاف على أمته أن يصيروا مثل أمة موسى وعيسى فقال الله تعالى: لا تهتم بذلك فإني وإن أخرجتك من الدنيا إلّا إني جعلت جبرائيل خليفة لك ينزل إلى أمتك كل ليلة قدر ويبلغهم السلام مني. وسلم عليك على لسان موسى: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: 47] وسلم عليك على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: 59] وأمر محمدا صلى الله عليه وسلم بالسلام عليك: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الأنعام: 54] وأمر المؤمنين بالسلام عليك: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها وسلم عليك على لسان ملك الموت: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [النحل: 32] قيل: إن ملك الموت يسلم في أذن المسلم: السلام يقرئك السلام ويقول: أجبني فإني مشتاق إليك واشتاقت الجنات والحور العين إليك، فإذا سمع المؤمن البشارة يقول لملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 الموت: لا هدية أعز من روحي فاقبض روحي هدية لك. وسلم عليك من الأرواح الطاهرة: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الواقعة: 91] وسلم عليك على لسان خزنة الجنة: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: 73] وسلم عليك على لسان الملائكة في الجنة: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ [الرعد: 24] وسلم عليك على لسان أهل الجنة: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب: 44] وسلم عليك إلى الأبد: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] ولما أراد إكرام يحيى عليه السلام وعده بالسلام في مواطن ثلاثة هي أشد الأوقات حاجة إلى السلام فقال: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 15] ولما ذكر تعظيم محمد صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56] وعن عبد الله بن سلام قال: لما سمعت بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت في غمار الناس فأول ما سمعت عنه: «يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» «1» وكانت تحية النصارى وضع اليد على الفم، وتحية اليهود الإشارة بالأصابع، وتحية المجوس الانحناء، وتحية الجاهلية «حياك الله» ، وتحيتهم للملوك «أنعم صباحا» فشتان ما بين تحياتهم وتحيتنا «السلام عليك ورحمة الله وبركاته» وفي هذا دليل على أن هذا الدين أشرف الأديان وأكملها. ومما يدل على فضيلة السلام عقلا أن الوعد بالنفع قد يقدر الإنسان على الوفاء به وقد لا يقدر، وأما الوعد بترك الضرر فإنه يقدر عليه لا محالة والسلام يدل عليه فهو أفضل أنواع التحية. قال بعض العلماء: فمن دخل بيتا وجب عليه أن يسلم على الحاضرين لقوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النور: 61] وقال صلى الله عليه وسلم: «أفشوا السلام» والأمر للوجوب، ولأن السلام بشارة بالسلامة وإزالة الضرر وهو واجب لقوله: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» «2» ولأنه من شعائر الإسلام وإظهار شعائر الإسلام واجب. وعن ابن عباس والنخعي وأكثر العلماء أن السلام سنة. وأما الجواب فواجب بالإجماع لأن ترك الجواب إهانة والإهانة ضرر والضرر حرام ولقوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها وظاهر الأمر الوجوب وعن ابن عباس: ما من   (1) رواه الدارمي في كتاب الصلاة باب 156. أحمد في مسنده (5/ 451) . (2) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 4، 5. مسلم في كتاب الإيمان حديث 64. أبو داود في كتاب الجهاد باب 2. الترمذي في كتاب القيامة باب 52. النسائي في كتاب الإيمان باب 8، 9. الدارمي في كتاب الرقاق باب 4، 8. أحمد في مسنده (2/ 160، 162) ، (6/ 21) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلّا نزع عنهم روح القدس وردت عليه الملائكة. قال العلماء: الأحسن أن يزيد في جواب السلام الرحمة، وإن ذكر في الابتداء السلام والرحمة زاد في جوابه البركة، وإن ذكر المجموع أعادها فقط فإن منتهى الأمر في السلام أن يقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لأن هذا القدر هو الوارد في التشهد. وروي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليك يا رسول الله. فقال: وعليك السلام ورحمة الله، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله. فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. وجاء ثالث وقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال: وعليك فقال: نقصتني فأين قول الله: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها فقال: إنك لم تترك لي فضلا فرددت عليك مثله. فقوله تعالى: أَوْ رُدُّوها أي أجيبوها بمثلها، ورد السلام كرّة ورجعة إما إشارة إلى هذه الصورة وإما إلى التخيير بين الزيادة وتركها، ورد الجواب فرض على الكفاية إذا قام به بعض سقط عن الباقين. والأولى أن يقوم به الكل إكثارا للإكرام، والأحسن أن يدخل حرف العطف فيقول: وعليكم السلام. وهو واجب على الفور بقدر ما يعهد بين الإيجاب والقبول في العقود فإن أخر عن ذلك كان ابتداء سلام لا جوابا وإذا ورد عليه سلام في كتاب فجوابه بالكتابة أيضا واجب لقوله: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا ومن قال لآخر أقرئ فلانا عني السلام وجب عليه أن يفعل. قال العلماء: المبتدئ يقول السلام عليكم والمجيب يقول: وعليكم السلام ليقع الابتداء والاختتام بذكر الله. فإن خالف المبتدئ فليكن الاختتام بحاله. ويجوز «سلام عليكم» بل قالوا إنه أولى من المعرف لأن المنكر في القرآن أكثر، وإن المنكر ورد من الله والملائكة والمؤمنين، والمعرف ورد في تسليم الإنسان على نفسه، قال موسى: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: 47] وقال عيسى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ [مريم: 33] وأيضا المعرف يدل على أصل الماهية والمنكر على الماهية مع وصف الكمال. ومن السنة أن يسلم الراكب لزيادة هيبته على الماشي، وراكب الفرس على راكب الحمار، والصغير على الكبير، والأقل على الأكثر احتراما للجماعة، والقائم على القاعد لأنه الواصل إليه لأن القائم أهيب ومن السنة الجهر بالسلام لأنه أقوى في إدخال السرور في القلب. ومنها الابتداء به إظهارا للتواضع، ومنها الإفشاء والتعميم لأن التخصيص إيحاش، والمصافحة عند السلام عادة النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تصافح المسلمان تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر» «1» ومن استقبله رجل واحد فليقل: سلام عليكم وليقصد الرجل والملكين لأنه إذا سلم عليهما ردا السلام عليه، ومن سلم الملك عليه فقد سلم من عذاب   (1) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب 142. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 الله، ومن دخل بيتا خاليا فليسلم ويكون كأنه سلام من الله على نفسه، أو سلام على من فيه من مؤمني الجن، أو طلب السلامة ببركة اسم السلام ممن في البيت من الشياطين والمؤذيات. ولو قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين كان حسنا. ومن السنة أن يكون المبتدئ بالسلام على الطهارة وكذا المجيب. روي أن واحدا سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قضاء الحاجة فقام وتيمم ثم رد الجواب. وإذا دخل يوم الجمعة والإمام يخطب فلا ينبغي أن يسلم لاشتغال الناس بالاستماع، فإن سلم ورد بعضهم فلا بأس، ولو اقتصروا على الإشارة كان أحسن. ومن دخل الحمام فرأى الناس متزرين سلم عليهم فإن لم يكونوا متزرين لم يسلم عليهم. والأولى ترك السلام على القارئ كيلا يقطع عليه القراءة باشتغاله بالجواب، وكذا القول فيمن كان مشتغلا برواية الحديث ومذاكرة العلم أو بالأذان أو الإقامة. ولا يسلم على المشغول بالأكل هكذا أطلق وحمله بعضهم على ما إذا كانت اللقمة في فيه. ولا يسلم على قاضي الحاجة قال أبو يوسف: ولا على لاعب النرد ولا على المغني ومطير الحمام وكل من كان مشتغلا بنوع معصية، ولا مانع من السلام على من هو في مساومة أو معاملة. وإذا دخل الرجل بيته سلم على امرأته فإن حضرت أجنبية هناك لم يسلم عليها، وإذا سلمت الأجنبية عليه وكان يخاف في رد الجواب عليها تهمة أو فتنة لم يجب الرد بل الأولى أن لا يفعل. وحيث قلنا لا يسلم فلو سلم لم يجب عليها الرد لأنه أتى بفعل منهي عنه فكان وجوده كعدمه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يبتدأ اليهودي بالسلام» «1» وعن أبي حنيفة أنه قال: لا تبتدئه بسلام في كتاب ولا في غيره. وعن أبي يوسف: لا تسلم عليهم ولا تصافحهم وإذا دخلت فقل: السلام على من اتبع الهدى. ولا بأس في الدعاء له بما يصلحه في دنياه، ورخص بعض العلماء في ابتداء السلام عليهم إذا دعت إلى ذلك حاجة، أما إذا سلموا علينا فقال أكثر العلماء ينبغي أن نقول: وعليك لما روي أن اليهود تقول للمسلمين: السام عليكم، وعن الحسن: يجوز أن يقول للكافر وعليك السلام ولا يقل: ورحمة الله. لأنها استغفار. وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه عليك السلام ورحمة الله فقيل له في ذلك؟ فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ واعلم أن مذهب أبي حنيفة أن من وهب لغير ذي رحم محرم فله الرجوع فيها ما لم يثب منها، فإذا أثيب منها فلا رجوع له فيها. وقال الشافعي: له الرجوع في حق الولد وليس له الرجوع في حق الأجنبي. واحتج لأبي حنيفة بالآية وذلك أن التحية تشمل جميع أنواع الإكرام فتشمل الهبة ومقتضاها وجوب   (1) رواه مسلم في كتاب السلام حديث 14. أبو داود في كتاب الأدب باب 138. الترمذي في كتاب الاستئذان باب 12. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 13. أحمد في مسنده (2/ 263، 266) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 الرد إذا لم يصر مقابلا بالأحسن، فإذا لم يثبت الوجوب فلا أقل من الجواز، وقال الشافعي: هذا الأمر محمول على الندب بدليل أنه لو أثيب بما هو أقل منه سقطت مكنة الرد بالإجماع مع أن ظاهر الآية يقتضي أن يثاب بالأحسن. ثم احتج الشافعي على قوله بما روي عن ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلّا الوالد فيما يعطي ولده» «1» إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً فيحاسبكم على محافظة حقوق التحية وغيرها، فكونوا على حذر من مخالفته. ثم أكد الوعيد بقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ فالأول توحيد والثاني عدل كأنه تعالى يقول: من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا اله إلّا هو، وإنما تنكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة الذي يجمع فيه الأولون والآخرون للجزاء والحساب. وقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إما خبر المبتدأ وإما اعتراض والخبر: لَيَجْمَعَنَّكُمْ والتقدير الله والله ليجمعنكم إلى يوم القيامة أي ليضمنكم إليه ويجمعن بينكم وبينه بأن يبعثكم فيه، والقيامة والقيام كالطلابة والطلاب وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب. قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: 6] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً استفهام على سبيل الإنكار، وذلك أن الصدق من صفات الكمال والكمال للواجب أولى وأحق وأقدم وأتم من غيره، والمعتزلة نفوا عنه الكذب بناء على أنه قبيح، ومن كذب لم يكذب إلّا لأنه محتاج إلى أن يكذب لجر منفعة أو دفع مضرة، أو هو غني عنه إلّا أنه يجهل غناه أو هو جاهل بقبحه، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في إخباره ولا يبالي بأيهما نطق، وربما كان الكذب أحلى على حنكه من الصدق، وكل هذه الأمور من الحكيم قبيح يجب تنزيهه عنها، واعلم أن المسائل الأصولية قسمان منها ما العلم بصحة النبوة يحتاج إلى العلم بصحته كعلمنا بافتقار العالم إلى صانع عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات، فهذا القسم يمتنع إثباته بالقرآن والخبر وإلّا وقع الدور. ومنها غير ذلك كإثبات الحشر والنشر فإنه يمكن إثباته بالقرآن والحديث فاعلم. ثم عاد إلى حكاية أحوال المنافقين فقال: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وهو منصوب على الحال والعامل معنوي مثل: ما لك قائما أي ما تصنع؟ وقيل: نصب على أنه خبر «كان» أي ما لكم كنتم في شأن المنافقين فئتين؟ استفهام على سبيل الإنكار أي لا تختلفوا في كفرهم ولكن اقطعوا بنفاقهم فقد ظهرت دلائل ذلك وانكشفت جلية الحال.   (1) رواه البخاري في كتاب الهبة باب 30. النسائي في كتاب الهبة باب 1. ابن ماجه في كتاب الهبات باب 2. أحمد في مسنده (2/ 182) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 وذلك أنها نزلت في قوم من العرب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأسلموا وأصابوا وباء المدينة وحماها فقالوا: يا رسول الله نريد أن نخرج إلى الصحراء فأذن لنا فيه فأذن لهم. فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين. فتكلم المؤمنون فيهم فقال بعضهم: نافقوا. وقال بعضهم: هم مسلمون. فبين الله نفاقهم. وقال مجاهد وقتادة: هم قوم هاجروا من مكة ثم بدا لهم فرجعوا وكتبوا إنا على دينك وما أخرجنا إلا اجتواء المدينة والاشتياق إلى بلدنا. وعن زيد بن ثابت: هم الذين تخلفوا يوم أحد وقالوا: لو نعلم قتالا لاتبعناكم. وطعن بعضهم في هذا القول بأن نسق الكلام وهو قوله: حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يأباه إذ الهجرة تكون من مكة إلى المدينة. وعن عكرمة: هم قوم أخذوا أموال المشركين وانطلقوا بها إلى اليمامة. وقيل: هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا يسارا مولى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن زيد: نزلت في أهل الإفك. قال الحسن: سماهم المنافقين وإن أظهروا الكفر باعتبار حالهم التي كانوا عليها. وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ الركس والإركاس رد الشيء مقلوبا. ويقال للرفث الركس لأنه رد إلى حالة خسيسة وهي حال النجاسة ويسمى رجيعا أيضا لذلك والمراد ردهم إلى أحكام الكفار من الذل والصغار والسبي والقتل بِما كَسَبُوا أي بما أظهروا من الارتداد بعد ما كانوا على النفاق وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا لأن المخلوق لا يقدر على تبديل خلق الخالق وعلى خلاف مقتضى إرادته ومشيئته. وهذا ظاهر في المقصود. والمعتزلة يقولون: قوله: أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أي بسبب كسبهم وفعلهم ينفي القول بأن ضلالهم حصل بخلق الله فإذن المراد من إضلال الله حكمه بضلالهم كما يقال: فلان يكفر فلانا أي ينسبه إلى الكفر ويحكم عليه بذلك. أو المراد إضلالهم عن طريق الجنة وهو مفسر بمنع الألطاف. ثم ذكر أنهم بالغوا في الكفر إلى أن تمنوا أن تصيروا كفارا فكيف تطمعون في إيمانهم وهو قوله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً أي في الكفر. والمراد فتكونون أنتم وهم سواء إلّا أنه اكتفى بذكر المخاطبين عن ذكر غيرهم لتقدم ذكرهم. وقوله: فَتَكُونُونَ عطف على تَكْفُرُونَ. فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا أي حتى يضموا إلى إيمانهم المهاجرة الصحيحة المعتمدة وهي الهجرة في سبيل الله لا لغرض من الأغراض الفانية مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم قام بين أظهر المشركين وأنا بريء من كل مسلم مع مشرك» «1» . وكانت الهجرة واجبة إلى أن فتحت مكة. عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة «لا هجرة   (1) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 95. النسائي في كتاب القسامة باب 27. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 بعد الفتح ولكن جهاد ونية» «1» . وعن الحسن: إن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما. قال المحققون: الهجرة في سبيل الله تشمل الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان، والانتقال من أعمال الكفار إلى أعمال المسلمين بل هذا أقدم وأهم لقوله صلى الله عليه وسلم: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» . فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة فحكمهم حكم سائر المشركين فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في الحل أو في الحرم وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ في هذه الحالة وَلِيًّا يتولى شيئا من مهماتكم وَلا نَصِيراً ينصركم على أعدائكم بل جانبوهم مجانبة كلية. ثم لما أمر بقتل هؤلاء الكفار استثنى عنه موضعين: الأول إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ أي ينتهون ويتصلون إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ والمعنى أن من دخل في عهد من كان داخلا في عهدكم فهم أيضا داخلون في عهدكم. قال القفال: وقد يدخل في الآية أن يقصد قوم حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فيتعذر عليهم ذلك المطلوب فيلتجئوا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد إلى أن يجدوا السبيل إليه. والقوم هم الأسلميون وذلك أنه صلى الله عليه وسلم وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه، وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال. وقال ابن عباس: هم بنو بكر بن زيد مناة كانوا في الصلح. وقال مقاتل: هم خزاعة وخزيمة. وهاهنا نكتة وهي أنه تعالى رفع السيف عمن التجأ إلى الكفار المصالحين فلأن يدفع النار عمن التجأ إلى محبة الله ومحبة رسوله كان أولى. وعن أبي عبيدة: المراد بالوصلة الانتساب. يقال: وصلت إلى فلان واتصلت به إذا انتهيت إليه. واعترض عليه بأن أهل مكة أكثرهم كانوا متصلين بالرسول صلى الله عليه وسلم من جهة النسب مع أنه كان قد أباح دم الكفار منهم. الاستثناء الثاني قوله: أَوْ جاؤُكُمْ وفي العطف وجهان: أحدهما أن يكون معطوفا على صفة قوم والمعنى إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين أو إلى قوم جاؤوكم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم. وثانيهما العطف على صلة الذين كأنه قيل: الذين يتصلون بالمعاهد أو إلى الذين لا يقاتلونكم وهذا أنسب بقوله في صفتهم فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ إلى آخر الآية. إذ بين أن كفهم عن القتال سبب استحقاقهم لنفي التعرض لهم بالاستقلال لا بواسطة الاتصال. ومعنى حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ضاقت. والحصر الضيق والانقباض وهو في موضع الحال بإضمار «قد» بدلالة قراءة من قرأ   (1) رواه البخاري في كتاب الصيد باب 10. مسلم في كتاب الإمارة حديث 86. الترمذي في كتاب السير باب 33. النسائي في كتاب البيعة باب 15. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب 12. الدارمي في كتاب السير باب 69. أحمد في مسنده (1/ 226، 355) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 حصرة. وجعله المبرد صفة لموصوف محذوف منصوب على الحال أي جاؤوكم قوما حصرت. وقيل: هو بيان لجاؤوكم. وقوله: أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أي عن أن يقاتلوكم. ثم هؤلاء الجاؤون من الكفار أو من المؤمنين قال الجمهور: هم من الكفار بنو مدلج جاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مقاتلين. وعلى هذا يلزم النسخ لأن الكافر وإن ترك القتال جاز قتله، وقال أبو مسلم: إنه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم استثنى من له عذر وهما طائفتان: إحداهما الذين قصدوا الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة والنصرة إلّا أنه كان في طريفهم كفار غالبون فصاروا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص. والثانية من صار إلى الرسول ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه لأنه يخاف الله فيه، ولا يقاتل الكفار أيضا لأنهم أقاربه أو لأنه بقي أولاده وأزواجه بينهم فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه. فهذان الفريقان من المشركين لا يحل قتالهم وإن كان لم يوجد منهم الهجرة ومقاتلة الكفار، وعلى هذا فمعنى قوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ أي لو شاء لقوّى قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم إن أقدمتم على مقاتلتهم على سبيل الظلم. وعلى الأول معناه أن ضيق صدورهم عن قتالكم لأن الله قذف الرعب في قلوبهم، ولو قوّى قلوبهم لتسلطوا عليكم ولقاتلوكم وهو جواب «لو» على التكرير أو البدل. قال الكعبي: إنه تعالى أخبر أنه لو شاء لفعل وهذا ينبىء عن القدرة على الظلم وهو صحيح عندنا ولا يدل على أنه فعل الظلم وأراده والنزاع فيه فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ أي فإن لم يتعرضوا لكم وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي الانقياد والاستسلام فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم سَتَجِدُونَ آخَرِينَ هم قوم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين أُرْكِسُوا فِيها أي ردوا مقلوبين منكوسين فيها. وهذه استعارة لشدة إصرارهم على الكفر وعداوة المسلمين، لأن من وقع في حفر منكوسا تعذر خروجه فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا أي ولم يلقوا ولم يكفوا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ حيث تمكنتم منهم. قال الأكثرون: وفيه دليل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا لم يجز لنا قتالهم. ولا قتلهم. وهذا مبني على أن المعلق بكلمة «إن» على الشرط يعدم عند الشرط. أما قوله: سُلْطاناً فمعناه حجة واضحة لانكشاف حالهم في الكفر والغدر، أو تسلط ظاهر حيث أذنا لكم في قتلهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 [سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 101] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) القراآت: فتثبتوا من التثبت وكذلك في الحجرات: حمزة وعلي وخلف. والباقون فَتَبَيَّنُوا من التبين السلم مقصورا: أبو جعفر ونافع وابن عامر وحمزة وخلف والمفضل وسهل. الباقون بالألف. غَيْرُ بالنصب: أبو جعفر ونافع وابن عامر وعلي وخلف. الباقون غَيْرُ بالرفع الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ مشددة التاء: البزي وابن فليح. الوقوف: إِلَّا خَطَأً ج يَصَّدَّقُوا ط لابتداء حكم آخر. مُؤْمِنَةٍ ط لذلك مُؤْمِنَةٍ ج مُتَتابِعَيْنِ ز لاحتمال كون تَوْبَةً مصدرا لفعل محذوف والأوجه كونه مفعولا له. مِنَ اللَّهِ ط حَكِيماً هـ عَظِيماً هـ مُؤْمِناً ج لأن ما بعده يصلح حالا واستفهاما الدُّنْيا ز لانقطاع النظم مع اتصال الفاء. كَثِيرَةٌ ط فَتَبَيَّنُوا ط خَبِيراً هـ وَأَنْفُسِهِمْ الأول ط دَرَجَةً ط الْحُسْنى ط عَظِيماً هـ لا لأن ما بعده بدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 وَرَحْمَةً ط رَحِيماً هـ فِيمَ كُنْتُمْ ط فِي الْأَرْضِ ط فَتُهاجِرُوا فِيها ط لتناهي الاستفهام بجوابه. جَهَنَّمُ ط مَصِيراً هـ للاستثناء. سَبِيلًا هـ لا عَنْهُمْ ط غَفُوراً هـ وَسَعَةً ط عَلَى اللَّهِ ط رَحِيماً هـ مِنَ الصَّلاةِ ق والأصح أن شرط تغليب في حال المسافر كَفَرُوا ط مُبِيناً هـ. التفسير: لما لم يكن بد في مجاهدة الكفار من أنه قد يتفق أن يرى الرجل رجلا يظنه كافرا حربيا فيقتله ثم يتبين أنه كان مسلما، ذكر الله تعالى حكم هذه الواقعة وأمثالها في هذه الآيات. أما سبب النزول فقد روى عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فأخطأ المسلمون وظنوا أن أباه اليمان واحد من الكفار فضربوه بأسيافهم وحذيفة يقول: إنه أبي فلم يفهموا قوله إلّا بعد أن قتلوه. فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. فلما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك زاد وقع حذيفة عنده ونزلت الآية. وقيل: نزلت في أبي الدرداء وذلك أنه كان في سرية فعدل إلى شعب لحاجة له فوجد رجلا في غنم له فحمل عليه بالسيف، فقال الرجل: لا إله إلّا الله فقتله وساق غنمه. ثم وجد في نفسه شيئا فذكر الواقعة للرسول صلى الله عليه وسلم فقال: هلا شققت عن قلبه؟ وندم أبو الدرداء. والذي عليه أكثر المفسرين ما ذكره الكلبي أن عياش بن أبي ربيعة المخزومي أسلم وخاف أن يظهر إسلامه فخرج هاربا إلى المدينة وذلك قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمها، ثم أتى أطما من آطامها فتحصن فيه فجزعت أمه جزعا شديدا وأقسمت لا تأكل ولا تشرب ولا يؤويها سقف حتى يرجع. فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبي أنيسة وكان أبو جهل أخا عياش لأمه، فأتياه وهو في الأطم فقالا: انزل فإن أمك لم يؤوها سقف بيت بعدك، وحلفت لا تأكل طعاما ولا شرابا حتى ترجع إليها، ولم يزل يفتل منه أبو جهل في الذروة والغارب ويقول: أليس محمد يحثك على صلة الرحم؟ انصرف وبرّ بأمك وأنت على دينك حتى نزل فذهب معهما. فلما أخرجاه من المدينة أو ثقاه بنسعة وجلده كل منهما مائة جلدة ثم قدما به على أمه فقالت: والله ما أحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به. ثم تركوه موثقا في الشمس فأعطاهم بعض الذي أرادوا، فأتاه الحرث بن زيد وقال: يا عياش، والله لئن كان الذي كنت عليه هدى لقد تركت الهدى، وإن كان ضلالة فقد دخلت الآن فيه. فغضب عياش من مقالته وقال له: هذا أخي- يعني أبا جهل- فمن أنت يا حارث؟ لله عليّ، إن وجدتك خاليا أن أقتلك. ثم إن عياشا أسلم بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة وأسلم الحرث بعده وهاجر وليس عياش يومئذ حاضرا ولم يشعر بإسلامه، فبينما هو يسير بظهر قباء إذ لقي الحرث بن زيد، فلما رآه حمل عليه فقتله فقال الناس: أي شيء صنعت؟ إنه قد أسلم. فرجع عياش إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان من أمري وأمر الحرث ما علمت وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزلت وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أي ما صح له ولا استقام، أو ما كان له فيما أتاه من ربه وعهد إليه، أو ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك. والغرض بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف إِلَّا خَطَأً إلّا لهذا العذر وبهذا السبب فيكون مفعولا له، أو إلّا في حال الخطأ أو إلّا قتلا خطأ. قال أبو هاشم- وهو أحد رؤساء المعتزلة-: التقدير، وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا فيبقى مؤمنا إلا أن يقتله خطأ فيبقى حينئذ مؤمنا. وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ فعليه إعتاق رَقَبَةٍ أي نسمة مؤمنة. والحر العتيق الكريم لأنّ الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد ومنه غتاق الخيل والطير لكرامها، وحر الوجه أكرم موضع منه. وعبر عن النسمة بالرقبة كما عبر عنها بالرأس في قولهم: «فلان يملك كذا رأسا من الرقيق» . وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ الدية من الودي كالشية من الوشي. والأصل ودية وهي مخصوصة ببدل النفس دون سائر المتلفات، وقد تستعمل في بدل الأطراف والأعضاء والمراد بالأهل الورثة إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أي يتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد. والتصدق الإعطاء والمراد هاهنا العفو ومحله النصب على الظرف أو الحال والعامل. مُسَلَّمَةٌ أو عليه كأنه قيل: يجب عليه الدية أو يسلمها إلّا زمان التصدق أو إلّا متصدقين. وهاهنا مسائل: الأولى القتل على ثلاثة أقسام: عمد وخطأ وشبه عمد. أما العمد فهو أن يقصد قتله بالسبب الذي يعلم إفضاءه إلى الموت سواء كان جارحا أو لم يكن. وأما الخطأ فضربان: أحدهما أن يقصد رمي مشرك أو طائر فأصاب مسلما، والثاني أن يظنه مشركا بأن كان عليه شعار الكفار. فالأول خطأ في الفعل، والثاني خطأ في القصد. وأما شبه العمد فهو أن يضربه مثلا بعصا خفيفة لا تقتل غالبا فيموت منه فهذا خطأ في القتل وإن كان عمدا في الضرب. الثانية قال أبو حنيفة: القتل بالمثقل ليس بعمد محض بل هو خطأ أو شبه عمد فيكون داخلا تحت الآية فيجب في الآية والكفارة ولا يجب فيه القصاص. وقال الشافعي: إنه عمد محض يجب فيه القصاص حجة الشافعي أنه قتل عمد عدوان أما إنه قتل فبقوله تعالى لموسى: وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ [طه: 40] يعني القبطي إذ وكزه موسى فقضى عليه. وأما أنه عمد عدوان فظاهر لأن من ضرب رأس الإنسان بحجر الرحى أو صلبه أو غرقه أو خنقه ثم قال ما قصدت قتله عد ما جنا، وإذا ثبت أنه قتل عمد عدوان فهو يوجب القصاص لقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة: 178] وأن المقصود أن شرع القصاص صون الأرواح عن الإهدار والإهدار في المثقل كهو في المحدد، والعلم الضروري حاصل بأن التفاوت في آلة الإهدار غير معتبر. حجة أبي حنيفة قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا ان قتيل العمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 والخطأ قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل» «1» هذا عام سواء كان السوط أو العصا صغيرا أو كبيرا، وأجيب بأن العصا والسوط يجب حملهما على الخفيف ليتحقق معنى الخطأ، فإن من ضرب رأس إنسان بقطعة جبل ثم قال: ما كنت أقصد قتله لم يعبأ بقوله. الثالثة قال أبو حنيفة: القتل العمد لا يوجب الكفارة لأنه شرط في الآية أن يكون القتل خطأ، وعند انتفاء الشرط لا يحصل المشروط. وقال الشافعي: يوجبها لما روي أن واثلة بن الأسقع قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا أوجب النار بالقتل فقال: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار. وأيضا نص الله تعالى على الكفارة في قتل الصيد عمدا في الحرم وفي الإحرام فأوجبها على الخاطئ بالاتفاق، فههنا نص على الخاطئ فبأن نوجبه على العامد كان أولى لأنه لما أخرج نفسا مؤمنة عن جملة الإحياء عمدا لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار لأن إطلاقها من قبل الرق كاحيائها من قبل أن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار كما أن الميت ممنوع من التصرف مطلقا، ولتحقيق هذا المعنى أوجب أن تكون الرقبة كاملة الرق، وأن تكون سليمة عن عيب مخل بالعمل كهرم وعمى وجنون. الرابعة قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي: لا تجزىء الرقبة إلّا إذا صام وصلى لأنه تعالى أوجب تحرير الرقبة المؤمنة. والإيمان إما التصديق وإما العمل وإما المجموع وعلى التقديرات فالكل فائت عن الصبي. وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي: يجزىء الصبي إذا كان أحد أبويه مسلما لأن حكمه حكم المؤمن. الخامسة أنه تعالى أوجب الدية في القرآن ولم يبين كيفيتها وإنما عرفت من السنة. عن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن أن في النفس مائة من الإبل. وهذه المائة إذا كان القتل خطأ مخمسة عشرون منها بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون جذعة وعشرون حقة. وبه قال مالك لما روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في دية الخطأ بمائة من الإبل وفصلها كما ذكرنا. وأبدل أبو حنيفة وأحمد أبناء اللبون بأبناء المخاض، لأن هذا الأقل متفق عليه والزائد منفي بالبراءة الأصلية. وقال غيرهما: أبناء المخاض غير معتبرة في باب الزكاة فيجب أن لا تعتبر في الدية التي سببها أقوى من السبب الموجب للزكاة. واتفقوا على أن الدية في العمد المحض مغلظة من ذلك التثليث في الإبل، وهو أن يكون ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها. ومنه الحلول على قياس أبدال سائر المتلفات خلاف دية الخطأ فإنها مؤجلة الثلث في السنة الأولى، والثلث الآخر في السنة   (1) رواه النسائي في كتاب القسامة باب 32، 33. ابن ماجه في كتاب الديات باب 5. أحمد في مسنده (2/ 64، 166) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 الثانية، والباقي في السنة الثالثة، استفاض ذلك عن الخلفاء الراشدين ولم ينكره أحد فكان إجماعا. ومنه ثبوتها في ذمة الجاني لا تحملها العاقلة خلاف دية الخطأ فانها تكون على العاقلة لما روي أن امرأتين من هذيل اقتتلنا فرمت إحداهما الأخرى بحجر، ويروى بعمود فسطاط. فقتلتها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على عاقلة القاتلة. وهذه صورة شبه العمد، والتحمل في الخطأ أولى. وجهات التحمل ثلاث: القرابة والولاء وبيت المال، والقرابة يعني بها العصبة الذين هم على حاشية النسب وهم الإخوة وبنوهم. وقال أبو حنيفة ومالك: يتحمل الآباء والبنون كغيرهم ويراعى الترتيب في العصبات فيقدم الأقرب فالأقرب، فإن كان فيهم وفاء إذا وزع عليهم لكثرتهم أو لقلة المال وإلّا شاركهم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. وقال أبوبكر الأصم وجمهور الخوارج: الدية في الخطأ أيضا تجب على القاتل كما أن تحرير الرقبة أيضا عليه ويؤيده عطف الدية في الآية على التحرير. وأيضا الجناية صدرت عنه فلا يعقل تضمين غيره كما في سائر الاتلافات. وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد غير جائز، وأجيب بإجماع الصحابة على ذلك. السادسة مذهب أكثر الفقهاء أن دية المرأة نصف دية الرجل بإجماع المعتبرين من الصحابة، ولأن المرأة في الميراث وفي الشهادة نصف الرجل فكذلك في الدية. وقال الأصم وابن علية: ديتها مثل دية الرجل لعموم قوله: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً. السابعة إذا لم توجد الإبل فالواجب عند الشافعي في الجديد الرجوع إلى قيمة الإبل بالغة ما بلغت وإنما تقوم بغالب نقد البلد لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوّم الإبل على أهل القرى، فإذا غلت رفع قيمتها. وإذا هانت نقص من قيمتها، وقال أبو حنيفة: الواجب حينئذ ألف دينار أو عشرة آلاف درهم وعند مالك الدراهم اثنا عشر ألفا. الثامنة لا فرق بين هذه الدية وبين سائر الأموال في أنه يقضي منها الدين وينفذ منها الوصية ويقسم الباقي بين الورثة على فرائض الله لما روي أن امرأة جاءت في أيام عمر تطلب نصيبها من دية الزوج فقال عمر: لا أعلم لك شيئا إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه. فشهد بعض الصحابة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تورث الزوجة من دية زوجها فقضى عمر بذلك. وعن ابن مسعود: يرث كل وارث من الدية غير القاتل. وعن شريك: لا يقضى من الدية دين ولا تنفذ وصية. وعن ربيعة: الغرة لأم الجنين وحدها وهذا خلاف الجماعة. واعلم أنّ الله تعالى ذكر في هذه الآية أن من قتل مؤمنا خطأ فعليه تحرير الرقبة وتسليم الدية ثم قال: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وسكت عن الدية. فالسكوت عن إيجاب الدية في هذه الصورة مع ذكرها فيما قبلها وفيما بعدها وهو قوله: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 يدل على عدم وجوب الدية هاهنا. ثم المعنيّ بقوله: مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ إما أن يكون أن هذا المقتول من سكان دار الحرب أو أنه ذو نسب منهم مع أنه في دار الإسلام، والثاني باطل بالإجماع لأن قتل هذا المسلم يوجب الدية البتة فتعين الأول. وإنما سقطت الدية لأن إيجاب الدية في قتل المسلم الساكن في دار الحرب محوج إلى أن يبحث الغازي عن كل شخص من أشخاص قطان دار الحرب هل هو من المسلمين أم لا، وذلك يوجب المشقة والنفرة عن الجهاد على أنه هو الذي أهدر دم نفسه بسبب اختيار السكنى فيهم. وأما الكفارة فإنها حق الله تعالى لأنه أهلك إنسانا مواظبا على طاعته فيلزمه إقامة آخر مقامه يمكنه المواظبة عليها. أما قوله: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ففيه قولان: أحدهما أنّ المراد الذمي فعن ابن عباس هم أهل الذمة من أهل الكتاب. وعن الحسن هم المعاهدون منه الذمي فعن ابن عباس هم أهل الذمة من أهل الكتاب. وعن الحسن هم المعاهدون وثانيهما أن المراد منه المسلم لأنه عطف على قوله: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ والضمير فيه عائد إلى ما تقدم وهو المؤمن فكذا هاهنا. واعترض عليه بلزوم عطف الشيء على نفسه لأنّ المؤمن المقتول خطأ سواء كان من أهل الحرب أو من أهل الذمة داخل تحت قوله: مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً إلّا أنه أفرد المؤمن الساكن في دار الحرب لأن من حكمه سقوط ديته وهاهنا لا غرض في الإفراد فيكون تكرارا محضا. وأيضا لو كان المراد ذلك لما كانت الدية مسلمة إلى أهله كفار لا يرثونه ولكان كونه منهم مبهما مجملا لأنه لا يدري أنه منهم في أي أمر من الأمور بخلاف ما لو حمل كونه منهم على الوصف الذي وقع التنصيص عليه وهو حصول الميثاق بينهما. وأجيب بأنه لما أفرد حكم المؤمن المقتول في دار الحرب للغرض الذي ذكر، ثم أعاد ذكر المؤمن المقتول فيما بين المعاهدين تنصيصا على الفرق بينه وبين ما قبله وتنبيها على التسوية بينه وبين المسلم المقتول في دار الإسلام. وأما أهله فهم المسلمون الذين تصرف ديته إليهم، وأما الإبهام فيزول إذا جعل «من» بمعني «في» كما في الآية المتقدمة عليه. وهاهنا مسألة خلافية شرعية هي أن أبا حنيفة قال: دية الذمي مثل دية المسلم لقوله تعالى: وَإِنْ كانَ أي المقتول مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ وقال الشافعي: دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، ودية المجوسي ثلث خمسها هكذا روي من قضاء الصحابة. ولا يخفى أن استدلال أبي حنيفة لا يتم على الثاني من قول المفسرين في الآية، وعلى القول الأول أيضا يجوز أن يكون المراد بالدية الثانية مقدارا مغايرا للأول. وهاهنا سؤال وهو أنه لم قدم تحرير الرقبة على الدية في الآية الأولى وفي الأخيرة عكس الترتيب؟ ويمكن أن يقال: الفائدة فيه أن يعلم أنه لا ترتيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 بين التحرير والدية، وأيضا ليقع الافتتاح والاختتام بحق الله تعالى. ويترتب على التحرير قوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي رقبة بمعنى لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها فعليه صيام شهرين متتابعين. ومتى يعتبر الإعسار ليجوز له العدول إلى الصوم؟ الأصح عند الشافعي وقت الأداء، وعند بعضهم وقت الوجوب. وأما الشهران فهما هلاليان البتة. نعم لو ابتدأ في خلال الشهر تمم المنكسر ثلاثين. والمراد بالتتابع أن لا يفطر يوما منهما، فلو أفطر ولو بالمرض وجب الاستئناف إلّا أن يكون الفطر بحيض أو نفاس. وعن مسروق أن الصوم بدل من مجموع الرقبة والدية. تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ أي شرع لكم ما شرع قبولا من الله ورحمة منه من تاب الله عليه إذا قبل توبته. ومعنى التوبة عن الخطأ أنه لا يخلو من ترك احتياط ومن ندم وأسف على ما فرط منه. ويجوز أن يكون المعنى نقلكم من الرقبة إلى الصوم توبة منه أي تخفيفا منه لأن التخفيف من لوازم التوبة. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأنه لم يقصد ولم يتعمد حَكِيماً محكم الفعل لا يؤاخذ الإنسان بما لا يختار ولا يتعمد. وعند المعتزلة معنى الحكيم أن أفعاله واقعة على قانون الحكمة وقضية العدالة. ثم لما ذكر حكم القتل الخطأ أردفه ببيان حكم القتل العمد وله أحكام وجوب الدية والكفارة عند غير أبي حنيفة ومالك والقصاص كما مر في البقرة، فلا جرم اقتصر هاهنا على بيان ما فيه من الإثم والوعيد، ولا يخفى ما في الآية من التخويف والتهديد فلا جرم تمسكت الوعيدية بها في القطع بخلود الفاسق في النار. وأجيب بوجهين: الأول إجماع المفسرين على أنها نزلت في كافر قتل مؤمنا. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن مقيس بن ضبابة وجد أخاه قتيلا في بني النجار وكان مسلما، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه رسولا من بني فهر وقال له: ائت بني النجار فاقرأهم السلام وقل لهم: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن ضبابة أن تدفعوه إلى أخيه فيقتص منه، وإن لم تعلموا له قاتلا أن تدفعوا إليه ديته. فأبلغهم الفهري ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمعا وطاعة لله ولرسوله، والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي إليه ديته فأعطوه مائة من الإبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة وبينهما وبين المدينة قريب، فأتى الشيطان مقيسا فوسوس إليه فقال: أي شيء صنعت تقبل دية أخيك فيكون عليك مسبة؟ اقتل الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية. فرمى الفهري بصخرة فشدخ رأسه ثم ركب بعيرا منها وساق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا وجعل يقول في شعره: قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع وأدركت ثأري واضطجعت موسدا وكنت إلى الأوثان أول راجع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 فنزلت الآية فيه وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ثم أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة فأدركه الناس بالسوق فقتلوه. الوجه الثاني أنه يجوز عندنا أن يخلف الله وعيد المؤمنين فإن خلف الوعيد كرم. وضعف الوجه الأول بأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبأن ما قبل الآية وما بعدها في نهي المؤمن عن قتل المؤمن فكذا هذه الآية، وبأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية فيجب أن يكون الموجب لهذا الوعيد هو مجرد القتل العمد، وبأن الكفر بالاستقلال موجب لهذا الوعيد فأي فائدة في ضم القتل إليه؟ وإذا لا أثر للقتل في هذه الصورة فيكون الكلام جاريا مجرى قول القائل «إنّ من تنفس لجزاؤه جهنم» وزيف الوجه الثاني بأن الوعيد قسم من أقسام الخبر. وإذا جاز الكذب فيه لغرض إظهار الكرم فلم لا يجوز في القصص والأخبار وغير ذلك لغرض المصلحة؟ وفتح هذا الباب يفضي إلى الطعن في الشرائع. قال القفال: الآية تدل على أنّ جزاء القتل العمد هو ما ذكر. وقد يقول الرجل لغيره: جزاؤك أني أفعل بك كذا إلّا أني لا أفعله. ولا يخفى ضعف هذا الجواب أيضا لدلالة سائر الآيات كقوله: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 8] على أنه يوصل الجزاء إلى المستحقين، ولأن قوله: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً صريح في أنه تعالى سيفعل به ذلك لا سيما وقد أخبر عنه بلفظ الماضي ليعلم أنه كالواقع. ولتأكد هذه المعاني نقل عن ابن عباس أن توبة من أقدم على القتل العمد العدوان غير مقبولة. وعن سفيان كان أهل العلم إذا سألوا قالوا: لا توبة له. وحمله الجمهور على التغليظ والتشديد وإلّا فكل ذنب ممحوّ بالتوبة حتى الشرك. هذا عند المعتزلة، وعند الأشاعرة كل الذنوب يحتمل العفو إلّا الشرك لقوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] . ثم بالغ في تحريم قتل المؤمن فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا لتفعل هاهنا بمعنى الاستفعال أي اطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تتهوّكوا فيه عن غير روية وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ وهو والسلم بمعنى الاستسلام، وقيل الإسلام، وقيل التحية يعني سلام أهل الإسلام. قال السدي: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على سرية، فلقي مرداس بن نهيك رجلا من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره وكان يقول لا إله إلّا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهرب ثقة بإسلامه، فقتله أسامة واستاق غنما كانت معه. فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره فقال: قتلت رجلا يقول لا إله إلّا الله. فقال: يا رسول الله إنما تعوذ من القتل. فقال: كيف أنت إذا خاصمك يوم القيامة بلا إله إلّا الله؟ قال: فما زال يردّدها عليّ أقتلت رجلا وهو يقول لا إله إلّا الله حتى تمنيت لو أنّ إسلامي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 كان يومئذ فنزلت الآية. وقد روى الكلبي وقتادة مثل ذلك. وقال الحسن: إنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا يتطرّفون فلقوا المشركين فهزموهم فشذ منهم رجل فتبعه رجل من المسلمين وأراد متاعه، فلما غشيه بالسنان قال: إني مسلم فكذبه ثم أوجره السنان فقتله وأخذ متاعه وكان قليلا، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قتلته بعد ما زعم أنه مسلم. قال: يا رسول الله إنما قالها متعوّذا. قال: فهلّا شققت عن قلبه؟ قال: لم؟ قال: لتنظر أصادق هو أم كاذب. قال: وكنت أعلم ذلك يا رسول الله؟ قال: ويلك إنك لم تكن لتعلم ذلك إنما يبين عنه لسانه. قال: فما لبث القاتل أن مات فدفن فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره. قال: ثم عادوا فحفروا له فأمكنوا ودفنوه فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره مرتين أو ثلاثا. فلما رأوا أنّ الأرض لا تقبله ألقوا عليه الحجارة. قال الحسن: إنّ الأرض تجن من هو شر منه ولكن وعظ القوم أن لا يعودوا. وعن سعيد بن جبير قال: خرج المقداد بن الأسود في سرية فإذا هم برجل في غنيمة له فأرادوا قتله فقال: لا إله إلّا الله. فقتله المقداد. فقيل له: أقتلته وقد قال لا إله إلّا الله؟ فقال: ودّ لو فرّ بأهله وماله. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فنزلت. قال القفال: ولا منافاة بين هذه الروايات، فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته. وعن أبي عبيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أشرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند نقرة نحره فقال لا إله إلّا الله فليرفع عنه الرمح» . قال الفقهاء: توبة الزنديق مقبولة لإطلاق هذه الآية. وقال أبو حنيفة: إسلام الصبي يصح لإطلاق الآية. وقال الشافعي: لا يصح وإلّا لوجب عليه لأنه لو لم يجب لكان ذلك إذنا في الكفر وهو غير جائز، لكنه غير واجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ» «1» . وقال أكثر الفقهاء: لو قال اليهودي أو النصراني أنا مؤمن أو مسلم لا يحكم بإسلامه لأنه يعتقد أن الإيمان والإسلام هو دينه. ولو قال لا إله إلّا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحصل الجزم بإسلامه لأنّ منهم من يقول إنه رسول العرب وحدهم ومنهم من يقول إنّ محمدا الذي هو الرسول الحق المنتظر بعد، فلا بد أن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل، وأن الدين الذي هو موجود فيما بين المسلمين حق. تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا قال أبو عبيدة: جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء. يقال: إنّ الدنيا عرض حاضر   (1) رواه البخاري في كتاب الطلاق باب 11. أبو داود في كتاب الحدود باب 17. الترمذي في كتاب الحدود باب 1. النسائي في كتاب الطلاق باب 21. ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 15. الدارمي في كتاب الحدود باب 1. أحمد في مسنده (1/ 116) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 يأخذ منها البر والفاجر، سمي عرضا لأنه عارض زائل غير باق، ومنه العرض لمقابل الجوهر لقلة ثباته كما قيل: العرض لا يبقى زمانين فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ يغنمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام متعوّذا به لتأخذوا ماله. وقيل: يريد ما أعدّ لعباده من حسن الثواب في الآخرة كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ اختلفوا في وجه الشبه فقال الأكثرون: يريد أنكم أول ما دخلتم في الإسلام سمعت منكم كلمة الشهادة فحقنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالاستقامة والاشتهار بالإيمان وأن صرتم أعلاما فيه، فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام ما فعل بكم. واعترض بأن لهم أن يقولوا ما كان إيماننا مثل إيمان هؤلاء لأنا آمنا بالاختيار وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف، فكيف يمكن تشبيه أحدهما بالآخر؟ وعن سعيد بن جبير: المراد أنكم كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم كما أخفى إيمانه هذا الراعي عن قومه فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم. وأورد عليه أن إخفاء الإيمان ما كان عاما فيهم. وفي التفسير الكبير: المراد أنكم في أول الأمر إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام فمنّ الله عليكم بتقوية ذلك الميل وتزايد نور الإيمان، فكذا هؤلاء قد حدث لهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم إيمانهم إلى أن تتكامل رغبتهم فيه. وقيل: إنّ قوله: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ منقطع عما تقدمه. وذلك أن القوم لما نهاهم عن قتل منّ تكلّم بلا إله إلّا الله ذكر أن الله من عليكم بأن قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر، ثم أعاد الأمر بالتبين مبالغة في التحذير، ثم حذر عن الإضمار خلاف الإظهار فقال: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وفيه من الوعيد ما فيه. ولما عاتبهم الله تعالى على ما صدر منهم وبدر عنهم كان مظنة أن يقع في قلبهم أن الأولى الاحتراز عن الجهاد فذكر من فضل الجهاد ما يزيح علّتهم ويزيد رغبتهم، أو نقول: لما نهاهم عما نهاهم أتبعه فضيلة الجهاد ليبلغوا في الاحتراز عما يوجب خللا في هذا المنصب الجليل فقال: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ عن زيد بن ثابت قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت عليه: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولم يذكر أُولِي الضَّرَرِ فقال ابن أم مكتوم: فكيف وأنا أعمى لا أبصر؟ قال زيد: فتغشّى النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه الوحي فاتكأ على فخذي فو الذي نفسي بيده لقد ثقل عليّ حتى خشيت أن يرضها ثم سري عنه فقال: اكتب: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فكتبتها. رواه البخاري. والمراد بالضرر النقصان سواء كان في البنية كعمى وعرج ومرض أو بسبب عدم الأهبة. من قرأ غَيْرُ بالنصب فعلى الاستثناء من القاعدين أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 على الحال عنهم، ومن قرأ بالرفع فعلى أنه صفة للقاعدين ويجوز أن يكون غير صفة للمعرفة كما سبق في تفسير غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] . وقرىء بالجر على أنه صفة المؤمنين. قال الزجاج: ويجوز أن يكون رفعا على جهة الاستثناء والمعنى لا يستوي القاعدون والمجاهدون، إلّا أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين بدليل قوله صلى الله عليه وسلم عند انصرافه من بعض غزواته «لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم أولئك أقوام حبسهم العذر» «1» وعنه صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد قال الله تعالى: اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ» «2» . ويعلم منه أن صحة النية وخلوص الطوية لها مدخل عظيم في قبول الأعمال. وذكروا في معنى قوله: «نية المؤمن أبلغ من عمله» أنّ ما ينويه المؤمن أبلغ من عمله إذ ما ينويه المؤمن من دوامه على الإيمان والأعمال الصالحة لو بقي أبدا خير من عمله الذي أدركه في مدة حياته. قيل: إنه قدّم ذكر النفس على المال في قوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التوبة: 111] وهاهنا أخر لأنّ النفس أشرف من المال. فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيها على أنّ الرغبة فيها أشد، والبائع أخر تنبيها على أنّ المماكسة فيها أشد فلا يرضى ببذلها، إلّا في آخر الأمر. وفائدة نفي الاستواء ومعلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان تبيين ما بينهما من التفاوت ليهتم القاعد للجهاد ويترفع بنفسه عن انحطاط مرتبته فيجاهد كقوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] تحريكا للجاهل لينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم. ثم إن عدم الاستواء يحتمل الزيادة والنقصان فأوضح الحال بقوله: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ كأنه قيل: مالهم لا يستوون؟ فأجيب بذلك. وانتصب دَرَجَةً على المصدر لأنّ الدرجة بدل على التفضيل. وقيل: حال أي ذوي درجة. وقيل: بنزع الخافض أي بدرجة. وقيل: على الظرف أي في درجة وَكُلًّا وكل فريق من القاعدين والمجاهدين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة. قال الفقهاء: فيه دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية إذ لو كان واجبا على التعيين لم يكن القاعد أهلا للوعد. وانتصب أَجْراً بفضل لأنّ التفضيل يدل على الأجر. وهاهنا سؤال وهو أنه لم ذكر أولا درجة وثانيا درجات؟ وأجيب بأن اللام في قوله أوّلا على القاعدين للعهد والمراد بهم أولو الضرر، وقوله ثانيا على القاعدين للأصحاء الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم لأن الغزو   (1) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 35. أبو داود في كتاب الجهاد باب 19. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 6. أحمد في مسنده (3/ 103، 160) . (2) رواه أحمد في مسنده (2/ 189، 194، 198) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 فرض كفاية. وقيل: المراد بالدرجة جنسها الذي يشمل الكثير بالنوع وهي الدرجات الرفيعة والمنازل الشريفة والمغفرة والرحمة. وقيل: المراد بالدرجة الغنيمة في الدنيا، وبالدرجات مراتب الجنة. وقيل: المراد بالمجاهد الأول صاحب الجهاد الأصغر وهو الجهاد بالنفس والمال، وبالمجاهد الثاني صاحب الجهاد الأكبر وهو المجاهد بالرياضة والأعمال. واستدلت الشيعة هاهنا بأنّ عليا رضي الله عنه أفضل من أبي بكر وغيره من الصحابة لأنه بالنسبة إليهم مجاهد وهم بالإضافة إليه قاعدون بما اشتهر من وقائعه وأيامه وشجاعته وحماسته. أجاب أهل السنة بأنّ جهاد أبي بكر بالدعوة إلى الدين وهو الجهاد الأكبر وحين كان الإسلام ضعيفا والاحتياج إلى المدد شديدا، وأما جهاد علي فإنما ظهر بالمدينة في الغزوات وكان الإسلام في ذلك الوقت قويا. والحق أنه لا تدل الآية إلّا على تفضيل المجاهدين على القاعدين، أما على تفضيل المجاهدين بعضهم على بعض فلا. قالت المعتزلة: هاهنا قد ظهر من الآية أنّ التفاوت في الفضل بحسب التفاوت في العمل، فعلة الثواب هو العمل ولهذا سمي أجرا. وأجيب بأنّ العمل علة الثواب لكن لا لذاته بل يجعل الشارع ذلك العمل موجبا له. قالت الشافعية: الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح لأنّ قوله: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عام يشمل الجهاد الواجب والمندوب وهو الزائد على قدر الكفاية، والمشتغل بالنكاح قاعد، فالاشتغال بالجهاد المندوب أفضل منه بالنكاح. ثم لما ذكر ثواب المجاهدين أتبعه وعيد القاعدين الراضين بالسكون في دار الكفر فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ وأنه يحتمل أن يكون ماضيا فيكون إخبارا عن حال قوم انقرضوا ومضوا. عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانوا قوما من المسلمين بمكة فخرجوا في قوم من المشركين في قتال فقتلوا معهم فنزلت الآية. ويحتمل أن يكون مستقبلا بحذف إحدى التاءين فيكون الوعيد عاما في كل من كان بهذه الصفة. قال الجمهور: معنى تتوفاهم تقبض أرواحهم عند الموت. ولا منافاة بينه وبين قوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر: 42] قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة: 11] لأنه تعالى هو المتوفى والفاعل لكل الأشياء بالحقيقة إلّا أن الرئيس المفوّض إليه هذا العمل ملك الموت وسائر الملائكة أعوانه. وعن الحسن: تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي يحشرونهم إلى النار. أما قوله: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فمنصوب على الحال عن مفعول توفي والإضافة فيه لفظية ولذا لم تفد تعريفا فصح وقوعه حالا. والظلم قد يراد به الشرك إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] فالمراد أنهم ظالمون أنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة. وقد يراد به المعصية فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فاطر: 32] فالمراد الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك غير مهاجرين إلى دار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 الإسلام حين كانت الهجرة فريضة. وفي خبر «إنّ» وجوه: الأول قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ والعائد محذوف للدلالة أي قالوا لهم. الثاني فَأُولئِكَ فيكون قالُوا حالا من الملائكة بتقدير «قد» . الثالث إنّ الخبر محذوف وهو هلكوا. ثم فسر الهلاك بقوله: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ أي في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ والمراد التوبيخ على ترك الجهاد والرضا بالسكنى في دار الكفر وهو بالحقيقة النعي عليهم بأنهم ليسوا من الدين في شيء، ولهذا لم يجيبوا بقولهم كنا في كذا أو لم نكن في شيء بل أجابوا بقولهم: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ اعتذارا مما وبخوا به واعتلالا بأنهم ما كانوا قادرين على المهاجرة من أرض مكة حتى يكونوا في شيء. ثم إنّ الملائكة لم يقبلوا منهم هذا العذر فبكتوهم قائلين: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمتنعون فيها من إظهار دينكم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة. ثم استثنى من أهل الوعيد المستضعفين من الرجال والنساء والولدان. فسئل لم عدّ الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد، ومن حق الاستثناء أن يدخل فيه المستثنى لو لم يخرج وليس الولدان من أصحاب الوعيد لأنهم ليسوا من أهل التكليف؟ وأجيب بأنّ المراد بالولدان العبيد والإماء البالغون، أو المراد المراهقون الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء حتى يتوجه التكليف عليهم فيما بينهم وبين الله. سلمنا أن المراد بهم الأطفال لكن السبب في سقوط الوعيد هو العجز وإنه حاصل في الولدان فحسن استثناؤهم بهذا الوجه. وقوله: لا يَسْتَطِيعُونَ قيل في موضع الحال، والأصح أنه صفة للمستضعفين. وإنما جاز ذلك والجمل نكرات لأنّ المعرف تعريف الجنس قريب من المنكر. والمعنى أنّ العاجزين هم الذين لا يقدرون على حيلة ولا نفقة، أو يكون بهم مرض، أو كانوا تحت قهر قاهر يمنعهم عن المهاجرة. ومعنى لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لا يعرفون الطريق ولا يجدون من يدلّهم على الطريق. وإنما قال سبحانه: فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ بكلمة الإطماع تنبيها على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه حتى إن المضطر من حقه أن يعفو الله عنه بل يكون من العفو على ظن وحسبان لا على جزم وإيقان، فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز ولا يكون في الواقع كذلك لأنّ الفطام عن المألوف شديد والفراق عن الأوطان شاق، فلعل حب الوطن يحمله على تأويل غير سديد. ومع قيام هذا الاحتمال أنى يحصل الجزم بالعفو هذا من جانب العبد. وأما من الرب فعسى إطماع وإطماع الكريم إيجاب. فالجزم بالعفو حاصل إلا أنّه يرد على لفظ العفو أنه لا يتقرر إلّا مع الذنب ولا ذنب مع العجز وجوابه أيضا يخرج مما قلنا: وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً قال الزجاج: أي كان في الأزل موصوفا بهذه الصفة، أو أنه مع جميع العباد بهذه الصفة أي أنه عادة أجراها في حق غيره. وأيضا لو قال إنه عفو غفور كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 إخبارا عن كونه كذلك وحيث قال كان دل على أنه إخبار وقع مخبره على وفقه فكان أدل على كونه حقا وصدقا. قالت الأشاعرة: أخبر عن العفو والمغفرة مطلقا غير مقيد بحال التوبة فدل على أن العفو مرجو من غير التوبة. قال ابن عباس في رواية عطاء: كان عبد الرحمن بن عوف يخبر أهل مكة بما ينزل فيهم من القرآن، فكتب إليهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الآية. فلما قرأها المسلمون قال ضمرة بن جندب الليثي لبنيه- وكان شيخا كبيرا- احملوني فإني لست من المستضعفين وإني لأهتدي إلى الطريق. فحمله بنوه على سرير متوجها إلى المدينة، فلما بلغ التنعيم أشرف على الموت فصفق بيمينه على شماله وقال: اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك به رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات حميدا. فبلغ خبره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فقالوا: لو وافى المدينة لكان أتم أجرا فأنزل الله تعالى فيه: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً أي مذهبا ومهربا ومضطربا قاله الفراء. وفي الكشاف يقال: راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك وأصله من الرغام وهو التراب فإنهم يقولون: رغم أنفه يريدون أنه وصل إليه شيء يكرهه، وذلك لأنّ الأنف عضو في غاية العزة والتراب في غاية الذلة. ويمكن أن يقال: إنّ من فارق أهل بلدته فإذا استقام أمره في بلدة أخرى رغمت أنوف أهل بلدته بسبب سوء معاملتهم معه. واعلم أنه سبحانه لما رغب في الهجرة ذكر بعده ما لأجله يمتنع الإنسان عن هجرة الوطن، وبين الجواب عنه والمانع أمران: الأوّل أن يكون له في وطنه نوع رفاهية وراحة فيخاف زوال ذلك عنه فأجاب الله تعالى عنه بقوله: وَمَنْ يُهاجِرْ كأنه قيل للمكلف إن كنت تكره الهجرة عن وطنك خوفا من أن تقع في المشقة والمحنة في السفر فلا تخف فإنّ الله تعالى يعطيك من النعم الجليلة والمراتب السنية في مهاجرك ما يكون سببا لرغم أنوف أعدائك، ويصير سببا لسعة عيشك، وإنما قدم في الآية ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش لأن ابتهاج المهاجر بدولته من حيث إنها سبب رغم آناف الأعداء أشد من ابتهاجه بها من حيث إنها سبب سعة رزقه وعيشه. المانع الثاني أن الإنسان يقول: إن خرجت من بيتي في طلب العمل والجهاد والمهاجرة إلى الله ورسوله، وفي معناه كل غرض ديني من طلب علم أو حج أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهدا في الدنيا وابتغاء رزق طيب، فربما وصلت إليه وربما لم أصل إليه، فالأولى أن لا أضيع الرفاهية الحاضرة لطلب شيء مظنون، فأجاب الله سبحانه عنه بقوله: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ قال بعضهم: ثبت له أجر قصده وأجر القدر الذي أتى به من ذلك العمل، وأما أجر تمام العمل فمحال. والصحيح أن المراد من قصد طاعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 ثم عجز عن إتمامها فإن له ثواب تمام تلك الطاعة كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المريض إذا عجز عما كان يفعله من الطاعة في حال الصحة كتب له ثواب مثل ذلك إلى أن يبرأ» . وأيضا من المعلوم أن كل من أتى بعمل فإنه يجد الثواب المرتب على ذلك القدر فلا يبقى في الآية فائدة الترغيب. وأيضا لا تكون الآية جوابا عن قول الصحابة في ضمرة لو وافى المدينة لكان أتم أجرا. قالت المعتزلة: في الآية دليل على أن العمل يوجب الثواب على الله لأن الوقوع والوجوب السقوط. قال تعالى: فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها [الحج: 36] أي وقعت وسقطت ولفظ الأجر وكلمة «على» يؤكدان ما قلنا، وأجيب بأنا لا ننازع في أن الثواب يقع البتة لكن بحكم الوعد والعلم والتفضل والكرم. واستدل بعض الفقهاء بالآية على أن الغازي، إذا مات في الطريق وجب سهمه في الغنيمة كما وجب أجره، وردّ بأن قسم الغنيمة يتوقف على حيازتها بخلاف الأجر. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يغفر ما كان منه من القعود إلى أن خرج ويرحمه بإكمال أجر المجاهدين. ومما يفتقر المجاهد إليه معرفة كيفية أداء الصلاة في زمان الخوف والاشتغال بمحاربة العدو فلا جرم قال: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ يقال: قصر صلاته وأقصرها وقصرها بمعنى. ولفظ القصر مشعر بالتخفيف إلّا أنه ليس صريحا في أن التخفيف في كمية الركعات أو كيفية أدائها. والجمهور على أن المراد القصر في العدد وهو أن كل صلاة تكون في الحضر أربع ركعات وهي الظهر والعصر والعشاء فإنها تصير في السفر ركعتين، ويبقى المغرب والصبح بحالهما، وعن ابن عباس: فرض الله صلاة الحضر أربعا، وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيكم. وعنه أيضا أن المراد التخفيف في كيفية الأداء كما يؤتى به عند شدة التحام القتال من الصلاة مع تلطخ الثوب بالدم ومن الإيماء مقام الركوع والسجود ويؤكد هذا الرأي بقوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فإن خوف فتنة العدو لا يزول فيما يؤتى بركعتين على تمام أوصافهما، وإنما يزول بالتجوز والتخفيف فيهما. حجة الجمهور ما روي عن يعلى بن أمية أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب: كيف نقصر وقد أمنا وقال الله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ؟ فقال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. فهذا الخبر يدل على أنهم فهموا من القصر التخفيف في أعداد الركعات ويؤيده حديث ذي اليدين: «أقصرت الصلاة أم نسيت؟» وأيضا القصر بمعنى تغيير هيئة الصلاة يجيء بعد ذلك، فجمل الكلام على ما لا يلزم منه التكرار أولى. أما تقييد القصر بحالة الخوف فلأن الآية نزلت على غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرها لم يخل عن خوف قتال الكفار فلا يمكن الاستدلال بمفهومها على عدم جواز القصر في حالة الأمن ولا في حالة الخوف بسبب آخر، على أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 كل محنة وبلية وشدة فهي فتنة. ثم إن الشافعي قال: القصر رخصة كسائر رخص السفر فإن شاء أتم وإن شاء قصر لأن قوله: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ مشعر بعدم الوجوب، ولما روي أن عائشة رضي الله عنها قالت: اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فلما قدمت مكة قلت: يا رسول الله بأبي وأمي قصرت. وأتممت وصمت وأفطرت. فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ. وكان عثمان يتم ويقصر وما ظهر إنكار من الصحابة عليه. وقال أبو حنيفة: القصر واجب فإنّ صلى المسافر أربعا ولم يقعد في الثنتين فسدت صلاته لما روي عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافرا صلى ركعتين، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «فاقبلوا صدقته» «1» وظاهر الأمر للوجوب. وعن عائشة: أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر. قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فما تصنع بقوله: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا قلت: كأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فنفي عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه. وأجيب بأن هذا الاحتمال إنما يخطر ببالهم إذا قال الشارع لهم رخصت لكم في هذا القصر، أما إذا قال أوجبت عليكم هذا القصر وحرمت عليكم الإتمام وجعلته مفسدا لصلاتكم فلا يخطر هذا الاحتمال ببال عاقل. وحديث ابن عباس إنما يدل على كون القصر مشروعا لا على أن الإتمام غير جائز، وخبر عائشة لا تعاضده الآية لأن تقرير الصلاة على ركعتين لا يطلق عليه لفظ القصر. ثم إن بعض الظاهريين زعموا أن قليل السفر وكثيره سواء في القصر لإطلاق قوله: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ وجمهور الفقهاء على أن السفر المرخص مقدر بمقدار مخصوص، فعن الأوزاعي والزهري ويروى عن عمر أن القصر في يوم تام، وعن ابن عباس إذا زاد على يوم وليلة قصر. وقال أنس بن مالك: المعتبر خمسة فراسخ. وقال الحسن: مسيرة ليلتين. وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: من الكوفة إلى المدائن وهو ثلاثة أيام. وهو قول أبي حنيفة قياسا على مدة جواز المسح للمسافر، وأما أصحاب الشافعي فإنهم عوّلوا على ما روي عن مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان. والمراد بالبريد أربعة فراسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الذي قدر أميال البادية كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة   (1) رواه مسلم في كتاب المسافرين حديث 4. أبو داود في كتاب السفر باب 1. الترمذي في كتاب تفسير سورة النساء باب 20. النسائي في كتاب الخوف باب 1. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 73. الدارمي في كتاب الصلاة باب 179. أحمد في مسنده (1/ 25، 36) ، (6/ 63) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 آلاف خطوة، فإن كل ثلاثة أقدام خطوة. قالت الفقهاء: فاختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجماع على أن الحكم غير مربوط بمطلق السفر. وقال أهل الظاهر: اضطراب السلف في هذه الأقاويل يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلا قويا فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن. إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً يريد أن العداوة الحاصلة بينكم وبينهم قديمة فكونوا على حذر منهم. التأويل: ليس لمؤمن الروح أن يقصد قتل مؤمن القلب إلّا أن يكون قتل خطأ وذلك أن الروح إذا خلص عن حجب ظلمات الصفات البشرية يتجلى الروح للقلب فيتنور بأنوار الروحانية، ثم تنعكس أنوار الروح عن مرآة القلب إلى النفس الأمارة فتموت عن صفاتها الذميمة الظلمانية، وتحيا بالصفات الحميدة الروحانية، وتطمئن إلى ذكر الله كاطمئنان القلب به، ففي بعض الأحوال يتأيد الروح بوارد روح قدسي رباني ويتجلى في تلك الحالة الروح للقلب فيخر موسى القلب صعقا ميتا بسطوة تجلي الروح القدسي الرباني ويجعل جبل النفس دكا. وكان قتله خطأ لأنه ما كان مقصودا بالقتل في هذا التجلي وكان القصد تنويره وتصفيته وقتل النفس الكافرة. مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً أي قلبا مؤمنا: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وهي رقبة السر الروحاني فتصير رقبة السر محررة عن رق المخلوقات وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ يعني يسلم العاقلة- وهو الله تعالى- دية القلب إلى أهل القلب وهم الأوصاف الحميدة الروحانية من جمال كمال ألطافه لتصير الأوصاف بها أخلاقا ربانية إلّا أن تتصدق الأوصاف بهذه الدية على مساكين أوصاف النفس الحيوانية والشيطانية فَإِنْ كانَ القتيل بالتجلي مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أي من صفات النفس وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي هذه الصفة قد آمنت بأنوار الروح القدسي دون أخواتها من الصفات: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وهي رقبة القلب تصير محررة عن رق حب الدنيا ولا دية لأهل القتيل. وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وهم صفات النفس وميثاقها قبول أحكام الشرع ظاهرا وترك المحاربة مع القلب وأوصافه فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ على عاقلة الرحمة إلى أهل تلك الصفة المقبولة وهم بقية صفات النفس كما قال تعالى: إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي [يوسف: 53] وتحرير رقبة مؤمنة وهي رقبة الروح يصيرها محررة عن رقة الكونين. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة مؤمنة من الروح والقلب والسر للتحرير بأن تكون رقابهم قد حررت عن رق ما سوى الله: فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ أي فعليه الإمساك عن مشارب العالمين على التتابع والدوام مراقبا قلبه لا يدخله شيئا من الدنيا والآخرة مراعيا وقته. فلو أفطر بأدنى شيء من المشارب كلها يستأنف الصوم ولا يفطر بشيء دون لقاء الله تعالى. قال قائلهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 لقد صام طرفي عن شهود سواكم ... وحق له لما اعتراه نواكم يعيد قوم حين يبدو هلالهم ... ويبدو هلال الصب حين يراكم تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ جذبة منه. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً أي النفس الكافرة إذا قتلت قلبا مؤمنا متعمدا للعداوة الأصلية بينهما ففي حياة أحدهما موت الآخر فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ وهي سفل عالم الطبيعة. إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بقدم السلوك حتى صار الإيمان إيقانا والإيقان إحسانا والإحسان عيانا والعيان عينا والعين شهودا والشهود شاهدا والشاهد مشهودا وهذا مقام الشيخوخة فَتَبَيَّنُوا عن حال المريد في الرد والقبول. وَلا تَقُولُوا له لَسْتَ مُؤْمِناً صادقا ولا تنفروه بالتشديدات والتصرف في النفس والمال تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تهتمون لأجل رزقه فإن الضيف إذا نزل نزل برزقه. كَذلِكَ كُنْتُمْ ضعفاء في الصدق والطلب محتاجين إلى الصحبة في بدو الإرادة فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بصحبة المشايخ وقبولهم إياكم. إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هم العوام الذين ظلموا أنفسهم بتدنيسها فِيمَ كُنْتُمْ في أي غفلة كنتم تضيعون أعماركم وتبطلون استعدادكم الفطري، وفي أي واد من أودية الهوى تهيمون، وفي أي روضة من رياض الدنيا تسرحون؟ أكنتم تؤثرون الفاني على الباقي وتنسون الشراب الطهور والساقي؟ مُسْتَضْعَفِينَ عاجزين لاستيلاء النفس الأمارة وغلبة الهوى أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ أي أرض القلب واسِعَةً فتخرجوا عن مضيق سجن البشرية إلى قضاء هواء الهوية لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً في الخروج عن الدنيا لكثرة العيال وضعف الحال وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا إلى صاحب ولاية وهؤلاء المستضعفون هم الخواص المقتصدون، وأما خواص الخواص وهم السابقون بالخيرات فهم المجاهدون الجهاد الأكبر وقد مر. وَمَنْ يُهاجِرْ عن بلد البشرية في طلب حضرة الربوبية يَجِدْ في أرض الإنسانية مُراغَماً متحوّلا ومنازل مثل القلب والروح والسر وَسَعَةً في تلك العوالم من رحمة الله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 6] «لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن» فافهم يا قصير النظر كثير الفكر قليل العبر والله أجل وأكبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 [سورة النساء (4) : الآيات 102 الى 113] وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) القراءات: عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ عباس بالاختلاس. اطْمَأْنَنْتُمْ وبابه بغير همز: أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف. بريا بالتشديد: يزيد والشموتي وحمزة في الوقف. الوقوف: مِنْ وَرائِكُمْ ج. وَأَسْلِحَتَهُمْ ط لانقطاع النظم مع اتصال المعنى. واحِدَةً ط أَسْلِحَتِكُمْ ج حِذْرَكُمْ ط مُهِيناً هـ وَعَلى جُنُوبِكُمْ ط للابتداء بإذا الشرطية مع الفاء. الصَّلاةَ ج لاحتمال فإن أو لأن. مَوْقُوتاً هـ الْقَوْمِ ط كَما تَأْلَمُونَ لا لاحتمال الواو الاستئناف أو الحال: ما لا يَرْجُونَ ط حَكِيماً هـ أَراكَ اللَّهُ ط لأن ما بعده استئناف. خَصِيماً هـ لا للعطف وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ط رَحِيماً هـ للآية مع العطف. أَنْفُسَهُمْ ط أَثِيماً هـ ج لاحتمال ما بعد الوصف. مِنَ الْقَوْلِ ط مُحِيطاً هـ ط وَكِيلًا هـ رَحِيماً هـ عَلى نَفْسِهِ ط حَكِيماً هـ مُبِيناً هـ يُضِلُّوكَ ط مِنْ شَيْءٍ ط تَعْلَمُ ط عَظِيماً هـ. التفسير: قال أبو يوسف والحسن بن زياد: صلاة الخوف كانت خاصة للرسول صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 ولا تجوز لغيره لقوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ ولأن تغيير هيئة الصلاة أمر على خلاف الدليل إلّا أنا جوّزنا ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم لفضيلة الصلاة خلفه فينبغي لغيره على المنع. وجمهور الفقهاء على أنها عامة لأن أئمة الأمة نواب عنه في كل عصر ألا ترى أن قوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103] لم يوجب كون الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوصا به دون أئمة أمته؟ وذهب المزني إلى نسخ صلاة الخوف محتجا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلها في حرب الخندق، وأجيب بأن ذلك قبل نزول الآية. عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فلقي المشركين بعسفان، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه قال بعضهم لبعض: كأن هذا فرصة لكم لو أغرتم عليهم ما علموا بكم حتى تواقعوهم. فقال قائل منهم: فإن لهم صلاة أخرى هي أحب إليهم من أهليهم وأموالهم فاستعدّوا حتى تغيروا عليهم فيها فأنزل الله عز وجل على نبيه: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ إلى آخر الآية أما شرح صلاة الخوف فهو أن الإمام يجعل القوم طائفتين ويصلي بإحداهما ركعة واحدة، ثم إذا فرغوا من الركعة سلموا منها ويذهبون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم الإمام ركعة أخرى ويسلم. وهذا مذهب من يرى صلاة الخوف ركعة فللإمام ركعتان وللقوم ركعة، وهذا مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد. وقال الحسن البصري: إن الإمام يصلي بتلك الطائفة ركعتين ويسلم، ثم تذهب تلك الطائفة إلى وجه العدوّ وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي الإمام بهم مرة أخرى ركعتين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ببطن نخل. وليس في هذه الصلاة إلّا اقتداء مفترض بمتنفل، فإن الصلاة الثانية نافلة للإمام لا محالة. وفي جواز ذلك اختلاف بين العلماء. وقال الشافعي إن كان العدو في جهة القبلة صلى الإمام بجميع العسكر إلى الاعتدال عن ركوع الركعة الأولى، فإذا حان وقت السجدة حرست فرقة إما صف أو فرقة من صف إلى أن يفرغ الإمام وغير الحارسة من السجدتين، فإذا فرغ الإمام منهما سجدت الفرقة الحارسة ولحقت به حيث أمكنها، وإذا سجد الإمام الركعة الثانية حرست فرقة إما الفرقة الحارسة في الركعة الأولى أو الفرقة الأخرى وهذه أولى. فإذا فرغ الإمام من السجود سجدت الحارسة ولحقت بالإمام في التشهد ليسلم بهم. وليس في هذه الصلاة إلّا التخلف عن الإمام بأركان السجدتين والجلسة بينهما، واحتمل لحاجة الخوف وظهور العذر وبمثله صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، وأما إن لم يكن العدوّ في وجه القبلة أو كانوا بحيث يمنعهم شيء من أبصار المسلمين صلى الإمام في الثنائية كالصبح أو الرباعية المقصورة بكل فرقة ركعة، وذلك أن ينحاز الإمام بفرقة إلى حيث لا تبلغهم سهام العدو فيصلي بهم ركعة، فإذا قام إلى الثانية انفردوا بها وسلموا وأخذوا مكان، إخوانهم في الصف، وانحاز الصف المقاتل إلى الإمام وهو ينتظر لهم واقتدوا به في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 الثانية، فإذا جلس للتشهد قاموا وأتموا الثانية ولحقوا به قبل السلام وسلم بهم، وهذه صلاة ذات الرقاع رواه أبو داود والنسائي عن صالح عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو حنيفة: ويروى عن ابن عمر وابن مسعود أن الطائفة الأولى يصلي بهم الإمام ركعة ويعودون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بغير قراءة وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة. والفرق أن الطائفة الأولى أدركت أول الصلاة فهي في حكم من خلف الإمام، وأما الثانية فلم تدرك أول الصلاة والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في صلاته. ولا خلاف في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى بهذه الصلاة في أوقات مختلفة بحسب المصالح، وإنما وقع الاختلاف بين الفقهاء في أن الأفضل والأشد موافقة لظاهر الآية أيّ هذه الأقسام. فقال الواحدي: وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلت عند إتيان الثانية كما هو مذهب الشافعي. وأما عند أبي حنيفة فالطائفة الثانية تأتي والأولى بعد في الصلاة وما فرغوا منها. وأيضا قوله: فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ظاهره يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية مع الإمام. قال أصحاب أبي حنيفة: فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ يدل على أن الطائفة الأولى لم يفرغوا من الصلاة ولكنهم يصلون ركعة ثم يكونون من وراء الطائفة الثانية للحراسة. أجاب الواحدي بأن هذا إنما يلزم إذا جعلنا السجود والكون من ورائكم لطائفة واحدة، لكن السجود للأولى والكون من الوراء الذي بمعنى الحراسة للطائفة الثانية، أو معنى سجدوا صلوا وحينئذ لا يبقى إشكال وأيضا الذي اختاره الشافعي أحوط لأمر الحرب فإنها أخف على الطائفتين جميعا والحراسة خارج الصلاة أهون وليس فيها ما في غيرها من زيادة الذهاب والرجوع وكثرة الأفعال والاستدبار، وليس فيها إلّا الانفراد عن الإمام في الركعة الثانية وذلك جائز على الأصح في الأمن أيضا، وإلّا انتظار الإمام بالطائفة الثانية مرتين وإن كانت الصلاة مغربا فيصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة ويجوز العكس. وإن كانت رباعية فيصلي بكل طائفة ركعتين، ويجوز أن يفرقهم أربع فرق إن مست الحاجة إليه بأن لا يكفي نصف المسلمين لعدوهم. واعلم أن الصلاة على الوجه المشروع ليست عزيمة بل لو صلى الإمام بطائفة وأمر غيره فيصلي بالآخرين أو صلى بعضهم أو كلهم منفردين جاز، لكن كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمحون بترك فضيلة الجماعة ويتنافسون في الاقتداء به فأمره الله تعالى بترتيبهم هكذا لتحوز إحدى الطائفتين فضيلة التكبير معه، والأخرى فضيلة التسليم معه. فالخطاب في قوله: وَإِذا كُنْتَ للنبي صلى الله عليه وسلم أي إذا كنت أيها النبي مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم فَأَقَمْتَ لَهُمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 الصَّلاةَ فاجعلهم طائفتين: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فصل بهم وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فإن كان الضمير لغير المصلين فلا كلام، وإن كان للمصلين فليأخذوا من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر، ويحتمل أن يكون أمرا للفريقين بحمل السلاح لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط. ثم قال للطائفة الثانية: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ فكأنه جعل الحذر والتيقظ آلة يستعملها الغازي. وفيه رحمة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة. وإنما أمر هذه الطائفة بأخذ الحذر والأسلحة جميعا لأن العدو قلما يتنبه في أول الصلاة لكون المسلمين في الصلاة بل يظنونهم قياما للمحاربة، وأما في الركعة الثانية فيظهر لهم ذلك من ركوعهم وسجودهم الأولين فربما ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم كما ذكرنا في سبب النزول، فلا جرم خص الله تعالى هذا الموضع بزيادة تحذير مَيْلَةً واحِدَةً شدة واحدة. ثم رخص لهم في وضع السلاح إذا أصابه بلل المطر فيسود وتفسد حدته وجدته أو يثقل على المرء إذا كان محشوا، وحين كان الرجل مريضا فيشق عليه حمل السلاح ولكنه أعاد الأمر بأخذ الحذر لأن الغفلة عن كيد العدو لا تجوز بكل حال. قال بعض العلماء أخذ السلاح في صلاة الخوف سنة مؤكدة والأصح أنه واجب لأن ظاهر الأمر للوجوب، ولأن رفع لجناح عند العذر ينبىء عن وجود الجناح في غير ذلك الوقت لكن الشرط أن لا يحمل سلاحا فحسب أن أمكنه، ولا يحمل الرمح إلّا في طرف الصف. وبالجملة بحيث لا يتأذى به أحد وفي هذا دليل على أنه كان يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذرا غير غافل عن كيد العدو، فلا يكون شيء من الروايات الواردة فيها على خلاف نص القرآن وكما أن الآية دلت على وجوب الحذر عن العدو كذلك تدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنون، وبهذا الطريق كان الإقدام على العلاج بالدواء والاحتراز عن الوباء في الجلوس تحت الجدار المائل واجبا. قالت المعتزلة: لو لم يكن العبد قادرا على الفعل والترك، وعلى جميع وجوه الحذر لم يكن للأمر بالحذر فائدة. والجواب أنا لا ننكر الأسباب لكنا ندعي انتهاء الكل إلى مسببها ولهذا ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ليعلموا أنه تعالى رتب على هذا الحذر كون الكفار مخذولين مقهورين وكان كما أخبر. أما قوله: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ ففيه قولان: الأول فإذا قضيتم صلاة الخوف فواظبوا على ذكر الله في جميع الأحوال فإن ما أنتم عليه من الخوف والحرب جدير بذكر الله وإظهار الخشوع واللجا إليه. الثاني أن المراد بالذكر الصلاة أي صلوا قياما حال اشتغالكم بالمسايفة والمقارعة، وقعودا جاثين على الركب حال اشتغالكم بالرمي، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح. وأورد على هذا القول أن الذكر بمعنى الصلاة مجاز وأن المعنى يصير حينئذ: فإذا قضيتم الصلاة فصلوا وفيه بعد اللهم إلّا أن يقال: المراد فإذا أردتم قضاء الصلاة فصلوا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 شدّة التحام القتال. واعلم أن الآية مسبوقة بحكمين: أحدهما بيان القصر في صلاة المسافر والثاني بيان صلاة الخوف. فقوله: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ يحتمل أن يراد به فإذا صرتم مقيمين فأقيموا الصلاة تامة من غير قصر البتة، ويحتمل أن يراد فإذا زال الخوف وحصل سكون القلب فأقيموا الصلاة التي كنتم تعرفونها من غير تغيير شيء من هيئاتها إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أي مكتوبة موقوتة محدودة بأوقات لا يجوز إخراجها عنها ولو في شدة الخوف، وفيه دليل للشافعي في إيجابه الصلاة على المحارب في حال المسايفة والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها. وعند أبي حنيفة هو معذور في تركها إلى أن يطمئن. وأوقات الصلاة الخمس مشهورة وقد يستدل عليها بقوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] فإن الوسطى يجب أن تكون مغايرة للصلوات لئلا يلزم التكرار فهي زائدة على الثلاث، ولو كان الواجب أربعا لم يوجد لها وسطى فإذا أقلها خمس وسيجيء آيات أخر دالة على الأوقات الخمس كقوله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هود: 114] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: 78] وسنشرحها إن شاء الله تعالى في مواضعها. قال المحققون: إن للإنسان خمس مراتب: سن النمو إلى تمام سن الشباب، وسن الوقوف وهو أن يبقى ذلك الشخص على صفة كماله من غير زيادة ولا نقصان، وسن الكهولة ويظهر فيها نقصان خفي في الإنسان، وسن الشيخوخة ويظهر فيها نقصانات جلية فيه إلى أن يموت ويهلك. وأما المرتبة الخامسة فهي أخباره وآثاره إلى أن يندرس وينطمس ويصير كأن لم يكن، وكذا الشمس إذا ظهر سلطانها من المشرق لا يزال يزداد ضياؤها إلى طلوع جرمها، ثم يزداد ارتفاعها شيئا بعد شيء إلى أن يبلغ وسط السماء، ثم يظهر فيها نقصانات خفية من الانحطاط وضعف النور والحر إلى وقت العصر حين يصير ظل كل شيء مثله، ثم تظهر النقصانات الجلية إلى أن يصير في زمان لطيف ظل كل شيء مثليه، ثم أزيد إلى أن تغرب، ثم يبقى أثرها في أفق المغرب وهو الشفق، ثم ينمحي حتى يصير كأن الشمس لم توجد قط. فهذه الأحوال الخمس أمور عجيبة لا يقدر عليها إلّا خالقها وخالق جميع الأشياء، وموافقة لأسنان الإنسان فلهذا تعينت أوقاتها للعبادة والإقبال على المعبود الحق تعالى جده. ثم عاد إلى الحث على الجهاد فقال: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ لا تضعفوا في طلب الكفار بالقتال والتعرض لهم بما يقلقهم. ثم ألزمهم الحجة بقوله: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ والمعنى أن حصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم ولكم مع ذلك رجاء الثواب على الجهاد دونهم لأنهم ينكرون المعاد فأنتم أولى بالصبر على القتال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 والحد فيه منهم، ويحتمل أن يراد بهذا الرجاء ما وعدهم الله من النصر والغلبة على سائر الأديان، أو يراد أنكم تعبدون الإله العالم القادر السميع البصير الذي يصح أن يرجى منه، وأنهم يعبدون الأصنام التي لا خيرهن يرجى ولا شرهن يخشى. ويروى أن هذا في بدر الصغرى كان بهم جراح فتواكلوا. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لا يكلفكم إلا ما فيه صلاح لكم في دينكم ودنياكم. ثم رجع إلى ما انجر منه الكلام وهو حديث المنافقين، وفيه أن الأحكام المذكورة كلها بإنزال الله تعالى وليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قومه، وفيه أن كفر الكافر لا يبيح المساهلة في النظر له وإن كان يجوز الجهاد معه بل الواجب أن يحكم له وعليه بما أنزله تعالى على رسوله. قال أكثر المفسرين: إن رجلا من الأنصار- يقال له طعمة بن أبيرق أحد بني ظفر بن الحرث- سرق درعا من جار له- يقال له قتادة بن النعمان- وجرابا فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق، ثم خبأها عند رجل من اليهود- يقال له زيد بن السمين- فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده وحلف لهم والله ما أخذها وما له بها من علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها فقال: دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود. فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلموه في ذلك وسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: إنك إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرىء اليهودي. فَهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل وكان هواه صلى الله عليه وسلم معهم وأن يعاقب اليهودي. وقيل: همَّ أن يقطع يده فأنزل الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الآيات إلى قوله: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً وفي الآية دليل على أن طعمة وقومه كانوا منافقين وإلا لما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم نصرة الباطل وإلحاق السرقة باليهودي. قال أبو علي: قوله: بِما أَراكَ اللَّهُ ليس منقولا بالهمزة من رؤية البصر لأن حكم الحادثة لا يرى بالبصر ولا من رؤية القلب وإلا لاقتضى ثلاثة مفاعيل وليس في الآية إلا اثنان: أحدهما الكاف والآخر الضمير العائد المحذوف فهو إذن بمعنى الاعتقاد معناه بما علمك الله. وسمى ذلك العلم بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية في القوة والظهور، وكان عمر يقول: لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه والرأي منا ظن وتكلف. قال بعض العلماء: في الآية دلالة على أنه ما كان يحكم إلا بالوحي والنص، وأن الاجتهاد ما كان جائزا له صلى الله عليه وسلم وحينئذ يجب أن يكون حال الأمة كذلك لقوله: فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] وأجيب بأن العمل بالقياس عمل بالنص أيضا وكأنه تعالى قال: مهما غلب على ظنك أن حكم الصورة المسكوت عنها مثل حكم الصورة المنصوص عليها بسبب أمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 جامع بين الصورتين، فاعلم أن تكليفي في حقك أن تعمل بموجب ذلك الظن. وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ أي لأجلهم يريد بني ظفر وهم قوم طعمة خَصِيماً مخاصما وأصله من الخصم بالضم والسكون وهو ناحية الشيء وطرفه، وكأن كل واحد من الخصمين في ناحية من الحجة والدعوى. قال بعض الطاعنين في عصمة الأنبياء صلى الله عليه وسلم: لولا أن الرسول أراد أن يخاصم لأجل الخائن ويذب عنه لما ورد النهي عنه ولما أمر صلى الله عليه وسلم بالاستغفار. والجواب أن النهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي مرتكبا للمنهي عنه، بل ثبت في الرواية أن قوم طعمة لما التمسوا منه صلى الله عليه وسلم أن يذب عن طعمة ويلحق السرقة باليهودي توقف وانتظر الوحي، ولعله أمر بالاستغفار لأنه مال طبعه إلى نصرة طعمة بسبب أنه كان في الظاهر من المسلمين وحسنات الأبرار سيئات المقربين، أو لعل القوم شهدوا بسرقة اليهودي وبراءة طعمة ولم يظهر للرسول صلى الله عليه وسلم ما يوجب القدح في شهادتهم، فهم بالقضاء على اليهودي فأطلعه الله تعالى على مصدوق الحال، أو لعل المراد واستغفر لأولئك الذين يذبون عن طعمة ثم قال: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ يعني طعمة ومن عاونه من قومه ممن علموا كونه سارقا. والاختيان كالخيانة يقال: خانه واختانه، والعاصي خائن نفسه لأنه يحرم نفسه الثواب ويوصلها إلى العقاب. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً قال المفسرون: إن طعمة خان في الدرع وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة. وإنما ورد البناءان على المبالغة والعموم ليتناول طعمة وكل من خان خيانة فلا تخاصم لخائن قط ولا تجادل عنه لأن الله لا يحبه. وأيضا كان الله عالما من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب الإثم. وروي أنه هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله، ومن كانت تلك خاتمة أمره لا يشك في حاله. وقالت العقلاء: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات. وعن عمر أنه أمر بقطع يد سارق فجاءت أمه تبكي وتقول: هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه. فقال: كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة. وفي الآية دليل على أن من كان قليل الخيانة والإثم لم يكن في معرض السخط من الله. يَسْتَخْفُونَ يستترون من الناس حياء منهم وخوفا من ضررهم وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ أي لا يستحيون منه لأن الاستخفاء لازم الاستحياء وهو معهم بالعلم والقدرة والرؤية وكفى هذا زاجرا للإنسان عن المعاصي. إِذْ يُبَيِّتُونَ يدبرون ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وهو تدبير طعمة أن يرمي بالدرع في دار زيد ليسرق دونه ويحلف ببراءته وتسمية التدبير وهو معنى في النفس قولا ليس فيها إشكال عند القائلين بالكلام النفسي، وأما عند غيرهم فمجاز، أو لعلهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية المكر فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه الله، أو المراد بالقول الحلف الكاذب الذي حلف به بعد أن بيته ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ها للتنبيه في أنتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 وأولاء وهما مبتدأ وخبر وقوله: جادَلْتُمْ عَنْهُمْ جملة موضحة للأولى كما يقال للسخي: أنت حاتم تجود بمالك. أو المراد أنتم الذين جادلتم والخطاب لقوم مؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وقومه لأنهم في الظاهر مسلمون. والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا فمن الذي يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا حافظا ومحاميا عن عذاب الله. وهذا الاستفهام معطوف على الأول وكلاهما للإنكار والتقريع. ثم أردف الوعيد بذكر التوبة فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً قبيحا متعديا يسوء به غيره كما فعل طعمة بقتادة واليهودي أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بما يجازي به كالحلف الكاذب. وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن إيصال الضرر إلى الغير سوء حاضر بخلاف الذي يعود وباله إلى فاعله فإن ذلك في الأكثر لا يكون ضررا عاجلا، لأن الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه. وقد يستدل بإطلاق الآية على أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب وإن كان كفرا أو قتلا عمدا أو غصبا للأموال، بل على أن مجرد الاستغفار كاف. وعن بعضهم أن الاستغفار لا ينفع مع الإصرار فلابد من اقترانه بالتوبة يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً أي له فحذف هذا الرابط لدلالة الكلام عليه لأنه لا معنى للترغيب في الاستغفار إلا إذا كان المراد ذلك. وقيل: ومن يعمل سوءا من ذنب دون الشرك أو يظلم نفسه بالشرك، وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة لتلزمه الحجة مع العلم بما يكون منه، أو بعث لقومه لما فرط منهم من نصرته والذب عنه. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً لكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة ولذلك لم يجز وصف الباري تعالى بذلك. والمقصود منه ترغيب العاصي في الاستغفار وكأنه قال: الذنب الذي أتيت به إنما يعود وباله وضرره إليك لا إليّ فإني منزه عن النفع والضر، ولا تيأس من قبول التوبة. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً تقتضي حكمته أن يتجاوز عن التائب ما علمه منه. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً صغيرة وَإِثْماً كبيرة وقيل: الخطيئة الذنب القاصر على فاعله والإثم هو الذنب المتعدي إلى الغير كالظلم والقتل. وقيل الخطيئة ما لا ينبغي فعله سواء كان بالعمد أو الخطأ، والإثم ما حصل بسبب العمد. ثُمَّ يَرْمِ بِهِ أي بأحد المذكورين أو بالإثم أو بذلك الذنب لأن الخطيئة في معنى الذنب، أو بذلك الكسب بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً لأنه بكسب الإثم أثيم وبرمي البريء باهت فهو جامع بين الأمرين، فلا جرم يلحقه الذم في الدارين. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ ولولا أن خصك الله الفضل وهو النبوة وبالرحمة وهي العصمة لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ من بني ظفر أو طائفة من الناس والطائفة بنو ظفر أَنْ يُضِلُّوكَ عن القضاء الحق والحكم العدل وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بسبب تعاونهم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 الإثم والعدوان وشهادتهم بالزور والبهتان لأن وباله عليهم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ لأنك إنما عملت بظاهر الحال وما أمرت الأنبياء إلا بالأحكام على الظواهر، أو هو وعد بإدامة العصمة له مما يريدون في الاستقبال من إيقاعه في الباطل. ثم أكد الوعيد بقوله: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أي إنه لما أمرك بتبليغ الشريعة إلى الخلق فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الوقوع في الشبهات والضلالات؟ وعلى الأول يكون المراد أنه أوجب في الكتاب والحكمة بناء أحكام الشرع على الظاهر فكيف يضرك بناء الأمر عليه وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ من أخبار الأولين. فيه معنيان: أحدهما أن يكون كما قال: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52] أي أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وأطلعك على أسرارهما وأوقفك على حقائقهما مع أنك ما كنت قبل ذلك عالما بشيء منهما، فكذلك يفعل بك في مستأنف أيامك حتى لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك. الثاني أن يكون المراد منها خفيات الأمور وضمائر القلوب أي علمك ما لم تكن تعلم من أخبار الأولين، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين ووجوه مكايدهم ما تقدر على الاحتراز منهم وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً فيه دليل ظاهر على شرف العلم حيث سماه عظيما وسمى متاع الدنيا بأسرها قليلا. التأويل: الصلاة صورة جذبة الحق ومعراج العبد فلهذا فرضت في الخوف والأمن وشدة القتال والسفر والحضر والصحة والمرض ليكون العبد مجذوب العناية على الدوام وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ أي أدمتها لهم لأن النظر إليك عبادة كما أن الصلاة عبادة، وكما أن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر فإنك تنهاهم عن الفحشاء والمنكر فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ هم الخواص مِنْهُمْ أي من عوامهم مَعَكَ أي مع الله لأنك مع الله كقوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] وَلْيَأْخُذُوا يعني طائفة من بقية القوم أَسْلِحَتَهُمْ من الطاعات والعبادات دفعا لعدو النفس والشيطان فَإِذا سَجَدُوا يعني من معك ونزّلوا مقامات القرب فَلْيَكُونُوا أي هؤلاء القوم مِنْ وَرائِكُمْ في المرتبة والمقام والمتابعة يحفظونكم باشتغالهم بالأمور الدنيوية لحوائجكم الضرورية للإنسان. وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ في الصحبة فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ في الوصلة وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وهو آداب الطريقة وَأَسْلِحَتَهُمْ وهي أركان الشريعة وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا هم عدوّ النفس وصفاتها إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ يعني أشغال الدنيا وضروريات حوائج الإنسان يمطر عليكم في بعض الأوقات أن تضعوا أسلحة الطاعة والأركان ساعة فساعة. وَخُذُوا حِذْرَكُمْ من التوجه إلى الحق ومراقبة الأحوال وحفظ القلب وحضوره مع الله وخلو السر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 عن الالتفات لغير الله ورعاية التسليم والتفويض إلى الله والاستمداد من همم أعاظم الدين والالتجاء إلى ولاية النبوة إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ بهذه الأسباب لِلْكافِرِينَ من كفار النفس والشيطان عَذاباً مُهِيناً فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ المكتوبة فَاذْكُرُوا اللَّهَ في جميع حالاتكم إِنَّ الصَّلاةَ كانت في الأزل عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً مؤقتا إلى الأبد كما أشار إليه بقوله: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ [الفتح: 1] أي بابا من القدم إلى الحدوث لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ [الفتح: 2] بما فتح عليك ما تَقَدَّمَ في الأزل مِنْ ذَنْبِكَ [الفتح: 2] بأن لم تكن مصليا وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] من ذنبك بأن لا تكون مصليا وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [الفتح: 2] بأن يجعل سيئاتك وهي عدم صلاتك في الأزل أو الأبد مبدلة بالحسنات وهي الصلاة المقبولة من الأزل إلى الأبد وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً من الأزل إلى الأبد ومن الأبد إلى الأزل. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ النفس وصفاتها إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ في الجهاد بعناء الرياضات والعبادات فإنهم يألمون في طلب اللذات والشهوات كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ العواطف الأزلية والعوارف الأبدية ما لا يَرْجُونَ لأنّ همم النفس الدنية لا تجاوز قصورها الدنية المجازية الفانية بِما أَراكَ اللَّهُ حين أوحى إليك بلا واسطة ما أوحى وأراك آياته الكبرى. [سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 126] لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 القراآت: يؤتيه بالياء: أبو عمرو وحمزة وخلف وقتيبة وسهل. الباقون بالنون. نُوَلِّهِ وَنُصْلِهِ مثل يُؤَدِّهِ [آل عمران: 75] . يَدْخُلُونَ بضم الياء وفتح الخاء وكذلك في «مريم» و «حم المؤمن» : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ويزيد وأبو بكر وحماد. الآخرون بالعكس. إبراهام وما بعده في هذه السورة: هشام وكذلك روى الموصلي عن الأخفش عن ابن ذكوان. الوقوف: بَيْنَ النَّاسِ ط عَظِيماً هـ جَهَنَّمَ ط مَصِيراً هـ لِمَنْ يَشاءُ ط بَعِيداً هـ إِناثاً ج لابتداء النفي مع واو العطف. مَرِيداً لا لأن ما بعده صفة له. لَعَنَهُ اللَّهُ م لأنّ قوله: وَقالَ غير معطوف على لَعَنَهُ. مَفْرُوضاً هـ لا للعطف خَلْقَ اللَّهِ ط مُبِيناً ط كيلا يصير يَعِدُهُمْ وصفا للخسران. وَيُمَنِّيهِمْ ط غُرُوراً هـ مَحِيصاً هـ أَبَداً ط حَقًّا ط قِيلًا هـ الْكِتابِ ط يجز به لا للعطف. نَصِيراً هـ نَقِيراً هـ حَنِيفاً ط خَلِيلًا هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط مُحِيطاً هـ. التفسير: ثم أشار إلى ما كانوا يتناجون به حيث يبيتون ما لا يرضى من القول. والنجوى سر بين اثنين وكذا النجو يقال: نجوته نجوا أي ساررته وكذلك ناجيته. قال الفراء: قد تكون النجوى اسما ومصدرا، والآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق بعضا إلّا أنها في المعنى عامة. والمراد أنه لا خير فيما يتناجى به الناس ويخوضون فيه من الحديث. إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ وفي محل «من» وجوه مبنية على معنى النجوى. فإن كان النجوى السر جاز أن يكون «من» في موضع النصب لأنه استثناء الشيء من خلاف جنسه كقوله إلّا أواريّ ومعناه لكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير، أو في موضع الرفع كقوله: إلّا اليعافير وإلّا العيس. وأبو عبيد جعل هذا من باب حذف المضاف معناه إلّا نجوى من أمر على أنه مجرور بدل من كثير كما تقول: لا خير في قيامهم إلّا قيام زيد أي في قيامه، وعلى هذا يكون الاستثناء من جنسه. وإن كان النجوى بمعنى ذوي نجوى كقوله: وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الإسراء: 47] كان محله أيضا مجرورا من كَثِيرٍ أو من نجوى كما لو قلت: لا خير في جماعة من القوم إلّا زيد إن شئت أتبعت زيدا الجماعة وإن شئت أتبعته القوم. وإنما قال: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مع أنه يصدق الحكم كليا بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «كلام ابن آدم كله عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 لا له إلّا ما كان من أمر بمعروف أو نهى عن منكر» «1» أو ذكر الله استجلابا للقلوب وليكون أدخل في الاعتراف به، وليخرج عنه الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. واعلم أن قول الخير إما أن يتعلق بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة، والأول إن كان من الخيرات الجسمانية فهو الأمر بالصدقة، وإن كان من الخيرات الروحانية بتكميل القوة النظرية أو العملية فهو الأمر بالمعروف. والثاني هو الإصلاح بين الناس فثبت أن الآية مشتملة على جوامع الخيرات ومكارم الأخلاق، وهذه الأوامر وإن كانت مستحسنة في الظاهر إلّا أنها لا تقع في حيّز القبول إلّا إذا عمل صاحبها بما أمر كيلا يكون من زمرة أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 44] لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ [الصف: 1] وإلّا إذا طلب بها وجه الله فلهذا قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ويمكن أن يقال: إنّ معنى وَمَنْ يَفْعَلْ الأمر والمراد أو؟؟؟ من يأمر فعبر عن الأمر بالفعل لأنّ الأمر فعل من الأفعال. والمراد بقوله: مَنْ أَمَرَ من فعل لأنّ الأمر يلزمه الفعل غالبا. ثم قال: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ قال الزجاج: إنّ طعمة كان قد تبيّن له بما أظهر الله من أمره ما دلّه على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فعادى الرسول وأظهر الخلاف وارتد على عقبيه واتبع دين عبادة الأوثان وهو غير دين الموحدين وسبيلهم. ومعنى نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى نجعله واليا لما اختاره لنفسه ونكله إلى ما توكل عليه. قال بعض الأئمة: هذا منسوخ بآية السيف ولا سيما في حق المرتد. والظاهر أن المراد به الطبع والخذلان وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ نلزمه إياها وَساءَتْ مَصِيراً هي. وانتصب مَصِيراً على التمييز من الضمير المبهم في ساءت لأنه يعود إلى ما في الذهن لا إلى المذكور. يحكى أنّ الشافعي سئل عن آية في كتاب الله دالّة على أن الإجماع حجة، فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى وقف على هذه الآية. ووجه الاستدلال أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام لأنه تعالى جمع بين اتباع غير سبيلهم وبين مشاقة الرسول ورتب الوعيد عليهما، واتباع غير سبيل المؤمنين يلزمه عدم اتباع سبيل المؤمنين لاستحالة الجمع بين الضدين أو النقيضين. فعدم اتباع سبيل المؤمنين حرام فاتباع سبيلهم واجب كموالاة الرسول. وفي الآية دلالة على وجوب عصمة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى وجوب الاقتداء بأقواله وأفعاله وإلّا وجب المشاقة في بعض من الأمور وهي منهي عنها في الكل. قيل: في الآية دلالة على أنه لا يمكن تصحيح الدين إلّا بالنظر والاستدلال لأنّ الهدى اسم للدليل لا للعلم إذ لا معنى لتبين العلم لكنه رتب الوعيد على المخالفة بعد تبيين الدليل فيكون تبيين الدليل معتبرا في صحة الدين. وأقول: الموقوف على النظر هو معرفة وجود الواجب لذاته وصحة نبوّة   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب 12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 النبي صلى الله عليه وسلم والباقي يكفي في اعتقاده إخبار الصادق على أن إخبار الصادق أيضا دليل فلا حكم إلّا عن دليل. ثم إنه كرّر في السورة قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ للتأكيد. وقيل: لقصة طعمة وإشراكه بالله. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً لأنّه لا أجلى من وجود الصانع ووحدته، والمطلوب كلما كان أجلى كان نقيضه أبعد. ثم أوضح هذا المعنى بقوله سبحانه: إِنْ يَدْعُونَ أي ما يعبدون مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً أي أوثانا وكانوا يسمونها بأسماء الإناث كاللات والعزى، فاللات تأنيث الله، والعزى تأنيث الأعز. قال الحسن: لم يكن حي من أحياء العرب إلّا ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان ويؤيده قراءة عائشة إلّا أوثانا وقراءة ابن عباس إلّا أثنا جمع وثن مثل أسد وأسد إلّا أن الواو أبدلت همزة كأجوه. وقيل: المراد إلّا أمواتا لأنّ الإخبار عن الأموات يكون كالإخبار عن الإناث. تقول: هذه الأحجار أعجبتني كما تقول هذه المرأة أعجبتني، ولأن الأنثى أخس من الذكر والميت أخس من الحي. وقيل: كانوا يقولون في أصنامهم هنّ بنات الله. وقيل: إنّ بعضهم كان يعبد الملائكة ويقولون الملائكة بنات الله. وَإِنْ يَدْعُونَ ما يعبدون بعبادة الأصنام إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً بالغا في العصيان مجردا عن الطاعة. يقال: شجرة مرداء إذا تناثر ورقها، والأمرد ذلك الذي لم تنبت له لحية. قال المفسرون: كان في كل واحدة من تلك الأوثان شيطان يتراءى للسدنة يكلمهم. وقالت المعتزلة: جعلت طاعتهم للشيطان عبادة له لأنه هو الذي أغراهم على عبادتها فأطاعوه. والظاهر أنّ المراد بالشيطان هاهنا هو إبليس لأنه وصف بقوله: لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ وهو جواب قسم محذوف أي شيطانا جامعا بين لعنة الله إياه وبين هذا القول الشنيع وهو الإخبار عن الاتخاذ مؤكدا بالقسم. ويمكن أن يقال: المراد بلعنة الله ما استحق به اللعن من استكباره عن السجود كقولهم: أبيت اللعن أي لا فعلت ما تستحقه به. ومعنى نَصِيباً مَفْرُوضاً حظا مقطوعا واجبا فرضته لنفسي وأصل الفرض القطع ومنه الفريضة لأنه قاطع الأعذار وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة: 237] جعلتم لهن قطعة من المال. وفرض الجندي رزقه المقطوع المعين. قال الحسن: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وذلك لما روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: «يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير بيديك. قال: أخرج بعث النار. قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون» «1» الحديث. وهاهنا سؤال وهو أن حزب الشيطان وهم الذين يتبعون خطواته من الكفار والفساق لما كانوا أكثر من حزب الله   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 7. مسلم في كتاب الإيمان حديث 379. الترمذي في كتاب تفسير سورة 22 باب 1، 2. أحمد في مسنده (1/ 388) ، (2/ 166) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 فلم أطلق عليهم لفظ النصيب مع أنه لا يتناول إلّا القسم الأقل؟ والجواب أنّ هذا التفاوت إنما يحصل من نوع البشر، أما إذا ضمّ الملائكة إليهم فالغلبة للمحقين لا محالة. وأيضا الغلبة لأهل الحق وإن قلّوا، وغيرهم كالعدم وإن كثروا. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ يعني عن الحق. قالت المعتزلة: فيه دلالة على أصلين من أصولنا: الأول أنّ المضل هو الشيطان دون الله، والثاني أنّ الإضلال ليس عبارة عن خلق الكفر والضلال فإنّ الشيطان بالاتفاق لا يقدر على ذلك. وأجيب بأنّ هذا كلام إبليس فلا يكون حجة على أنّ كلامه في هذه المسألة مضطرب جدا فتارة يميل إلى القدر المحض وهو قوله: لَأُضِلَّنَّهُمْ لَأُغْوِيَنَّهُمْ [ص: 82] وأخرى إلى الجبر المحض كقوله: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي [الأعراف: 16] وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال واقتحام الأهوال وانتظام الأحوال فلا يكاد يقدم على التوبة والإقبال على تهيئة زاد الآخرة حتى يصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة. وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ البتك القطع، وسيف باتك أي صارم، والتبتيك التقطيع شدّد للكثرة. وجمهور المفسرين على أنّ المراد به هاهنا قطع آذان البحائر كانوا يشقون أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن إذا جاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ويسمونها بحيرة. وقال بعضهم: كانوا يقطعون آذان الأنعام نسكا في عبادة الأوثان فهم يظنون أن ذلك عبادة مع أنه في نفسه كفر وفسق. قوله: فَلَيُبَتِّكُنَّ صيغة غابر للغائبين واللام لجواب قسم آخر أي فو الله ليبتكن وأصله ليبتكون، فلما دخلت النون الثقيلة سقطت نون الرفع ولتوالي الأمثال وواو الجمع لالتقاء الساكنين واكتفى بالضمة، والفاء للتسبيب والإيذان بتلازم ما قبلها وما بعدها والجملة كالتفسير لقوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ ومثله في الإعراب قوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ والمراد من التغيير إما المعنوي وإما الحسي. فمن الأول قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن والضحاك ومجاهد والنخعي وقتادة والسدي أنه تغيير دين الله بتبديل الحرام حلالا وبالعكس، أو بإبطال الاستعداد الفطري فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30] «كل مولود يولد على الفطرة» . ومن الثاني قول الحسن المراد ما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الواشمات والواشرات والمتنمصات» «1» وذلك أنّ المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا. أما وشم اليد فهو أن   (1) رواه البخاري في كتاب البيوع باب 25، 113. مسلم في كتاب اللباس حديث 119. أبو داود في كتاب الترجل باب 5. الترمذي في كتاب اللباس باب 25. النسائي في كتاب الطلاق باب 13. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 52. الدارمي في كتاب الاستئذان باب 19. أحمد في مسنده (1/ 83، 87) ، (6/ 250) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 يغرزها بالإبرة ثم يذر عليها النيل. والوشر تحديد الأسنان، والتنميص نتف شعر الحاجب وغيره. وقال أنس وشهر بن حوشب وعكرمة وأبو صالح: تغيير خلق الله هو الخصاء وقطع الآذان وفقء العيون. وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفا أعور وأعين فحلها. وخصاء البهائم مباح عند عامة العلماء وأما في بني آدم فمحظور. وعند أبي حنيفة يكره شراء الخصيان وإمساكهم واستخدامهم لأنّ الرغبة فيهم تدعو إلى خصائهم. وقال ابن زيد: هو التخنث تشبه الذكر بالأنثى. وعلى هذا فالسحق أيضا داخل في الآية لأنّه تشبه الأنثى بالذكر. وحكى الزجاج عن بعضهم أنّ الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب، وخلق الشمس والقمر مسخرين للناس ينتفعون بهما فعبدوهما فغيروا خلق الله. واعلم أن دخول الضرر في الإنسان إنما يكون على ثلاثة أوجه: التشويش والنقصان والبطلان، فادعى الشيطان لعنه الله إلقاء أكثر الخلق في ضرر الدين وهو قوله: لَأُضِلَّنَّهُمْ ثم فصل ذلك بقوله: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وهو الضرر من جنس التشويش لأن صاحب الأماني يتشوّش فكره في استخراج الحيل الدقيقة والوسائل اللطيفة في تحصيل مطالبه الشهوية والغضبية والشيطانية. وقوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ إشارة إلى الضرر بالنقصان لأنّ الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف العزم في طلب الآخرة. وقوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ إشارة إلى البطلان لأن من بقي مواظبا على طلب اللذات العاجلة معرضا عن السعادات الباقية فلا يزال يتزايد ميله وركونه إلى الدنيا حتى يتغير قلبه بالكلية ولا يخطر بباله ذكر الآخرة. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً إذ فاته أشرف المطالب بسبب الاشتغال بأخسها. والسبب فيه أنّ الشيطان يعدهم ويمنيهم فيقول للشخص إنه سيطول عمره وينال من الدنيا مقصوده ويستولي على أعدائه ويوقع في قلبه أن الدنيا دول فربما تيسرت لي كما تيسرت لغيري وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً لأنه ربما لم يطل عمره، وإن طال فربما لم يجد مطلوبه، وإن طال عمره ونال مأموله على أحسن الوجوه فلا بد أن يكون عند الموت في أشد حسرة وأبلغ حيرة لأنّ المطلوب كلما كان ألذ وأشهى وكان الإلف معه أدوم وأبقى كانت مفارقته آلم وأنكى. وأيضا لعل الشيطان يعدهم أنه لا قيامة ولا حساب ولا جزاء ولا عقاب فاجتهدوا في استيفاء اللذات العاجلة واغتنموا فرصة الحياة الزائلة فلذلك قيل: أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً مفرا ومعدلا وله معنيان: أحدهما لا بدّ لهم من ورودها، والثاني التخليد بمعنى الدوام للكفار أو طول المكث للفساق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 ثم أردف الوعيد بالوعد على سنته المعهودة فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قال أهل السنة: لو كان الخلود الدوام لزم التكرار فإذن هو طول المكث المطلق. وقوله: أَبَداً مفيد للتأبيد. وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا مصدران الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره لأن قوله: سَنُدْخِلُهُمْ وعد منه تعالى ومضمونه هو مضمون وعد الله، وأما حَقًّا فمضمونه أخص من مضمون الوعد لأن الوعد من حيث هو وعد يحتمل أن يكون حقا وأن لا يكون فمضموناهما متغايران تغاير الجنس والنوع. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا توكيد ثالث بليغ من قبل الاستفهام المتضمن للإنكار. وفائدة هذه التوكيدات معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة وإلقاء أمانيه الفارغة والتنبيه على أن قول أصدق القائلين أولى بالقبول من قول من لا أحد أكذب منه. والقيل. مصدر قال قولا. وعن ابن السكيت أن القيل والقال اسمان لا مصدران. عن أبي صالح قال: جلس أهل الكتب أهل التوراة والإنجيل وأهل القرآن كل صنف يقول لصاحبه نحن خير منكم فنزلت: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ وقال مسروق وقتادة: احتج المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أهدى منكم وأولى بالله نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب التي قبله فنزلت. ثم أفلج الله حجة المسلمين على من ناواهم من أهل الأديان بقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وبقوله: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً الآيتان. وقيل: الخطاب في: بِأَمانِيِّكُمْ لعبدة الأوثان، وأمانيهم أن لا يكون حشر ولا نشر ولا معاد ولا عقاب وإن اعترفوا به لكنهم يصفون أصنامهم بأنها شفعاؤهم عند الله. وقيل: الخطاب للمسلمين وأمانيهم أن يغفر لهم وإن ارتكبوا الكبائر، وأما أماني أهل الكتاب فقولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 111] نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] ولَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: 80] واسم «ليس» مضمر فقيل: أي ليس وضع الدين على أمانيكم. وقيل: ليس الثواب الذي تقدم الوعد به في قوله: سَنُدْخِلُهُمْ. وعن الحسن ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب أي أثر فيه وصدقه العمل، إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا: نحن نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل. ويؤيد هذا المعنى قوله بيانا للمذكور: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً فمن هنا استدلت المعتزلة بالآية على القطع بوعيد الفساق ونفي الشفاعة، وأجيب بأنه مخصوص بالكفار لأنهم مخاطبون بالفروع عندنا. سلمنا أنه يعم المؤمن والكافر إلّا أنه مخصوص في حق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 المؤمن بقوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون جزاؤهم الآلام والأسقام والهموم والغموم الدنيوية؟ روي أنه لما نزلت الآية قال أبو بكر: كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك يا أبابكر ألست تمرض أليس يصيبك اللأواء؟ فهو ما تجزون. عن عائشة أن رجلا قرأ هذه الآية فقال: أنجزي بكل ما نعمل لقد هلكنا. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم كلامه فقال: يجزي المؤمن في الدنيا بمصيبة في جسده وبما يؤذيه. وعن أبي هريرة لما نزلت الآية بكينا وحزنا وقلنا: يا رسول الله ما أبقت هذه الآية لنا شيئا، فقال صلى الله عليه وسلم: أبشروا فإنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة في الدنيا إلّا جعلها الله له كفارة حتى الشوكة التي تقع في قدمه، سلمنا أن الجزاء إنما يصل إليه في الآخرة لكنه روي عن ابن عباس أنه لما نزلت الآية شقت على المسلمين وقالوا: يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءا فكيف الجزاء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنه تعالى وعد على الطاعة عشر حسنات، وعلى المعصية الواحدة عقوبة واحدة، فمن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات، فويل لمن غلبت آحاده أعشاره. وأيضا المؤمن الذي أطاع الله سبعين سنة ثم شرب قطرة من الخمر فهو مؤمن قد عمل الصالحات فوجب القطع بأنه يدخل الجنة. قالوا: إن صاحب الكبيرة غير مؤمن، وأجيب بنحو قوله: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] أما حديث نفي الشفاعة فإذا كانت شفاعة الملائكة والأنبياء بإذن الله صدق أنه لا ولي لأحد ولا نصيرا إلّا الله. قال في الكشاف: «من» في قوله: مِنَ الصَّالِحاتِ للتبعيض أراد ومن يعمل بعض الصالحات لأن كلّا لا يتمكن من كل الصالحات لاختلاف الأحوال، وإنما يعمل منها ما هو في وسعه، وكم من مكلف لا حج عليه ولا جهاد ولا زكاة ولا صلاة في بعض الأحوال. ومن في قوله: مِنْ ذَكَرٍ لتبيين الإبهام في: مَنْ يَعْمَلْ والضمير في: لا يُظْلَمُونَ عائد إلى عمال السوء وعمال الصالحات جميعا، أو يعود إلى الصالحين فقط. وذكره عند أحد الفريقين يغني عن ذكره عند الآخر والمسيء مستغن عن هذا القيد، فمن المعلوم أن أرحم الراحمين لا يزيد في عقابه وأما نقصان الفضل في الثواب كان محتملا فأزيل ذلك الوهم، ثم بين فضل الإيمان المشروط به الفوز بالجنة فقال: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً وبيان الفضل من وجهين: الأول أنه الدين المشتمل على إظهار كمال العبودية والانقياد لله وإليه الإشارة بقوله: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وهو راجع إلى الاعتقاد الحق وعلى إظهار كمال الطاعة وحسن العمل والإخلاص وإليه الإشارة بقوله: وَهُوَ مُحْسِنٌ وهو عائد إلى فعل الخيرات وترك المنكرات بصفاء النيات وخلوص الطويات. وفيه تنبيه على أن كمال الإيمان لا يحصل إلّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 عند تفويض جميع الأمور إلى الخالق، وإظهار التبري من الحول والقوة، ومن الاستعانة بغير المعبود الحق من الأفلاك والكواكب والطبائع وغيرها كائنا من كان الوجه الثاني أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما دعا الخلق إلى ما يشبه دين أبيه إبراهيم عليه السلام، ومن المشهور فيما بين أهل الأديان أنه ما كان يدعو إلى عبادة فلك ولا طاعة كوكب ولا سجدة صنم ولا استعانة بطبيعة، بل كان مائلا عن الملل الباطلة بعيدا عنها بعد المركز عن جميع أجزاء الدائرة ولهذا شرف بقوله: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وهذه جملة معترضة والسبب في إيرادها أن يعلم أن من كان في علو الدرجة بهذه الحيثية كان جديرا بأن تتبع طريقته. قال العلماء: إن خليل الإنسان هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره وقد دخل حبه في خلال قلبه، ولما أطلع الله تعالى إبراهيم عليه السلام على الملكوت الأعلى والأسفل ودعا القوم مرة بعد أخرى إلى توحيد الله ومنعهم عن عبادة النجوم والقمر والشمس وعن عبادة الأوثان، ثم سلم نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان، ثم جعله الله إماما للناس ورسولا إليهم وبشره بأن الملك والنبوة في ذريته إلى يوم الدين كان خليلا لله، لأن خلته عبارة عن إرادة إيصال الخيرات والمنافع. وقيل: الخليل، هو الذي يوافقك في خلالك وقد قال صلى الله عليه وسلم: «تخلفوا بأخلاق الله» فلما بلغ إبراهيم عليه السلام في مكارم الأخلاق مبلغا لم يبلغه من تقدمه فلا جرم استحق اسم الخليل. وقيل: الخليل الذي يسايرك في طريقك من الخل وهو الطريق في الرمل، فلما كان إبراهيم منقادا لكل ما أمر به مجتنبا عن كل ما نهى عنه فكأنه ساير ووافق أوامر الله تعالى ونواهيه فاستحق اسم الخليل لذلك. هذا من جهة الاشتقاق، وأما من قبل أسباب النزول فعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل بم اتخذ الله إبراهيم خليلا؟ قال: لإطعامه الطعام يا محمد. وقال عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي: دخل إبراهيم فجأة فرأى ملك الموت في صورة شاب لا يعرفه، فقال إبراهيم عليه السلام: بإذن من دخلت؟ فقال: بإذن رب المنزل. فعرفه إبراهيم عليه السلام. فقال له ملك الموت: إن ربك اتخذ من عباده خليلا. قال إبراهيم: ومن ذلك؟ قال: وما تصنع به؟ قال: أكون خادما له حتى أموت. قال: فإنه أنت. وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أصاب الناس سنة جهدوا فيها فحشدوا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام، وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر، فبعث غلمانه بالإبل إلى خليله بمصر يسأله الميرة، فقال خليله: لو كان إبراهيم إنما يريده لنفسه احتملنا ذلك له ولكنه يريد للأضياف وقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة، فرجع رسل إبراهيم فمروا ببطحاء فقالوا: لو أنا احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة إنا لنستحي أن نمرّ بهم وإبلنا فارغة، فملؤا تلك الغرائر. ثم إنهم أتوا إبراهيم وسارة نائمة فأعلموه ذلك فاهتم إبراهيم لمكان الناس فغلبته عيناه فنام واستيقظت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 سارة فقامت إلى تلك الغرائر ففتحتها فإذا هي أجود حوّاري تكون فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس واستيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام فقال: يا سارة من أين هذا الطعام؟ فقالت: من عند خليلك المصري. فقال: هذا من عند خليلي الله فيومئذ اتخذه الله خليلا. وقال شهر بن حوشب: هبط ملك في صورة رجل وذكر اسم الله بصوت رخيم شج. فقال إبراهيم: اذكره مرة أخرى. فقال: لا أذكره مجانا. فقال: لك مالي كله. فذكره الملك بصوت أشجى من الأول. فقال: اذكره مرة ثالثة ولك أولادي. فقال الملك: أبشر فإني ملك لا أحتاج إلى مالك وولدك وإنما كان المقصود امتحانك. فلما بذل المال والأولاد على سماع ذكر الله فلا جرم اتخذه الله خليلا. وروى طاوس عن ابن عباس أن جبريل والملائكة لما دخلوا على إبراهيم في صورة غلمان حسان الوجوه، فظن الخليل أنهم أضيافه وذبح لهم عجلا سمينا وقربه إليهم وقال: كلوا على شرط أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره. فقال جبريل: أنت خليل الله. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتخذ الله إبراهيم خليلا وموسى نجيا واتخذني حبيبا. ثم قال: وعزتي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي» . قلت: وذكرت الفرق بين الخليل والحبيب في سورة البقرة في تفسير قوله: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ [البقرة: 131] فتذكر، قال في التفسير الكبير: إذا استنار جوهر الروح بالمعارف القدسية والجلايا الإلهية صار الإنسان متوغلا في عالم القدس فلا يرى إلا الله، ولا يسمع إلا الله، ولا يتحرك إلا لله، ولا يسكن إلا لله، فهذا الشخص يستحق أن يسمى خليل الله لما أن محبة الله ونوره تخللت في جميع قواه. قال بعض النصارى: إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفا فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر لمثل ذلك؟ والجواب أن الخلة لا تقتضي الجنسية بخلاف النبوة وإنه سبحانه متعال عن مجانسة المحدثات. ولهذا قال بعد ذلك: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً ليعلم أنه لم يتخذ إبراهيم خليلا للمجانسة أو الاحتياج، ولكنه اصطفاه لمجرد الفضل والامتنان، وفيه أنه مع خلته لم يستنكف أن يكون عبدا له داخلا تحت ملكه وملكه، وفيه أن من كان في القهر والتسخير بهذه الحيثية وجب على كل عاقل أن يخضع لتكاليفه وينقاد لأوامره ونواهيه كما قال إبراهيم: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [البقرة: 131] وأيضا إنه لما ذكر الوعد والوعيد وإنه لا يمكن الوفاء بهما إلّا بالقدرة التامة على جميع الممكنات والعلم الكامل الشامل لجميع الكليات والجزئيات أشار إلى الأول بقوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وإلى الثاني بقوله: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً وإنما قدم القدرة على العلم لأن الفعل بحدوثه يدل على القدرة وبما فيه من الإحكام والإتقان يدل على العلم، ولا ريب أن الاعتبار الأول مقدم على الثاني. وقال بعضهم: الإحاطة أيضا هاهنا بمعنى القدرة كقوله تعالى: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 اللَّهُ بِها [الفتح: 21] ولا يلزم تكرار لأن الأول لا يدل إلا على مالك لكل ما في السموات والأرض قادر عليهما والثاني يفيد القدرة المطلقة على جميع الأشياء وإن فرضت خارج السموات والأرض، وعلى أن سلسلة القضاء والقدر في جميع الممكنات إنما تنقطع بإيجاده وتكوينه وإبداعه. التأويل: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ من نجوى النفس والهوى والشيطان إلّا فيمن أمر بالخيرات وهو الله بالوحي وبالخواطر الرحمانية ثم خواص عباده. وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالف الإلهام الرباني وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بأن يتبع الهوى وتسويل النفس والشيطان. نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى نكلله بالخذلان إلى ما تولى. وَنُصْلِهِ بسلاسل معاملاته. جَهَنَّمَ الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ولو كان مغفورا لم يشرك به وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ الآن فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً وهو الضلال بالإضلال الأزلي فافهم إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً صفات ذميمة يتولد منها الشرك وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً هي الدنيا كما قال عليه السلام: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلّا ذكر الله وما والاه» «1» والنصيب المفروض طائفة خلقهم الله أهلا للنار. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ كذب عدو الله فإنه مزين وليس إليه من الضلالة شيء كما قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت مبلغا وليس إليّ من الهداية شيء» «2» وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وهو قوله: «هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي» . لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ يعني عوام الخلق الذين يذنبون ولا يتوبون ويطمعون أن يغفر الله لهم وقد قال: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [طه: 82] ووَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ علماء السوء الذين يغرون العوام بالرجاء والطمع ويقطعون عليهم طريق الطلب والاجتهاد فليس من تمنى نعمته من غير أن يتعنى في خدمته كمن تعنى في خدمته من غير أن يتمنى نعمته. مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ في الحال بإظهار الرين على مرآة قلبه كما قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أذنب عبد ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ورجع منه صقل» «3» وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يخرجه من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة والتوبة. وَلا نَصِيراً ينصره بالظفر على النفس الأمارة. مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى أي من قلب أو نفس.   (1) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب 14. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 3. الدارمي في كتاب المقدمة باب 32. (2) رواه أحمد في مسنده (4/ 101) بلفظ: «أنا مبلّغ والله يهدي» . [ ..... ] (3) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 231. والترمذي في كتاب تفسير سورة 83 باب 1. الموطأ في كتاب الكلام حديث 18. أحمد في مسنده (5/ 386) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً يعني من محمد صلى الله عليه وسلم حين أسلم سره وروحه وقلبه ونفسه وشيطانه كما قال: «أسلم شيطاني على يدي» «1» ومن إسلام نفسه يقول يوم القيامة: «أمتي أمتي» حين يقول الأنبياء نفسي نفسي. وَهُوَ مُحْسِنٌ بمعنى أنه من أهل المشاهدة يعبد الله كأنه يراه بل يراه ولأنه أحسن خلقه العظيم إلى أن بلغ حد الكمال والختم. واتبع ملة إبراهيم بأن الله اتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا. قيل لمجنون بني عامر: ما اسمك؟ قال: ليلى. وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال: الحبيب. فكان محمد صلى الله عليه وسلم حبيبا خليلا أي فقيرا من الخلة الحاجة لأنه افتقر بالكلية إلى الله في كل أحواله. والفرق بين مقام الخليل ومقام الحبيب أن الخليل اتخذ الآلهة عدوا في الله فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 77] والحبيب اتخذ نفسه عدوا في الله وقال: ليت رب محمد لم يخلق محمدا وهذا مقام الفناء في الفناء بل البقاء بعد الفناء فلا جرم يقول بالرب عن الرب. [سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 141] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)   (1) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث 69، 70. الترمذي في كتاب الرضاع باب 17. النسائي في كتاب النساء باب 4. الدارمي في كتاب الرقاق باب 25، 66. أحمد في مسنده (1/ 257، 397) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 القراآت: يُصْلِحا من الإصلاح: عاصم وعلي وحمزة وخلف. الباقون. يصالحا من التصالح وإدغام التاء في الصاد. إِنْ يَشَأْ حيث كان بغير همز: الأعشى وأوقيه وورش من طريق الأصفهاني وحمزة في الوقف. وإن تلوا بواو واحدة: ابن عامر وحمزة. الباقون بالواوين. نَزَّلَ وأَنْزَلَ كلاهما على ما لم يسم فاعله من التنزيل والإنزال: ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو والباقون: نَزَّلَ وأَنْزَلَ مبنيين للفاعل من التنزيل والإنزال أيضا. وَقَدْ نَزَّلَ مشددا مبنيا للفاعل: عاصم ويعقوب. الباقون مبنيا للمفعول. الوقوف: فِي النِّساءِ ط فِيهِنَّ لا للعطف أي الله والمتلو يفتيكم الْوِلْدانِ لا للعطف أيضا أي في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا. بِالْقِسْطِ ط عَلِيماً هـ صُلْحاً ط خَيْرٌ ط الشُّحَّ ط خَبِيراً هـ كَالْمُعَلَّقَةِ ط رَحِيماً هـ سَعَتِهِ ط حَكِيماً هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ط وَما فِي الْأَرْضِ ط حَمِيداً هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط وَكِيلًا هـ بِآخَرِينَ ط قَدِيراً هـ وَالْآخِرَةِ ط بَصِيراً هـ وَالْأَقْرَبِينَ ج لابتداء الشرط مع اتفاق المعنى. أَنْ تَعْدِلُوا ج لذلك خَبِيراً هـ مِنْ قَبْلُ ط بَعِيداً هـ سَبِيلًا هـ أَلِيماً هـ لا لأن «الذين» صفة المنافقين وإن كان يحتمل النصب والرفع على الذم. الْمُؤْمِنِينَ ط جَمِيعاً هـ غَيْرِهِ ج لأن ما بعده كالتعليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 مِثْلُهُمْ ط جَمِيعاً هـ لا لأن ما بعده صفة المنافقين. لَكُمْ ج لابتداء الشرط مع أنه بيان التربص. مَعَكُمْ ز لترجيح جانب العطف وإتمام بيان النفاق. نَصِيبٌ لا لأن قالُوا جواب: «إن» . الْمُؤْمِنِينَ ط الْقِيامَةِ ط سَبِيلًا هـ. التفسير: أحسن الترتيبات اللائقة بالدعوة إلى الدين الحق والبعث على قبول التكاليف هو ما عليه القرآن الكريم من اقتران الوعد بالوعيد وخلط الترغيب بالترهيب وضم الآيات الدالة على العظمة والكبرياء إلى بيان الأحكام. والاستفتاء طلب الفتوى. يقال: استفتيت الرجل فأفتاني إفتاء وفتيا وفتوى وهما اسمان يوضعان موضع الإفتاء وهو إظهار المشكل من الفتى وهو الشاب الذي قوي وكمل كأنه قوي ببيانه ما أشكل فشب وصار فتيا قويا. والاستفتاء لا يقع في ذوات النساء وإنما يقع في حالة من أحوالهن فلذلك اختلفوا فعن بعضهم أنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان شيئا من الميراث كما مر في أول السورة فنزلت في توريثهم. وقيل: إنه في الأوصياء. وقيل: في توفية الصداق لهن كانت اليتيمة تكون عند الرجل فإن كانت جميلة ومال إليها تزوج بها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها من الأزواج حتى تموت فيرثها. أما قوله: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ ففيه وجوه: أحدها أنه رفع بالابتداء معطوفا على اسم الله أي الله يفتيكم والمتلو في الكتاب يفتيكم أيضا. ويجوز أن يكون رفعا على الفاعلية لكونه عطفا على المستتر في يفتيكم، وجاز بلا تأكيد للفصل أي يفتيكم الله والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى كقولك: أعجبني زيد وكرمه. وذلك المتلو هو قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى [النساء: 3] كما سلف في أول السورة جعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب. وثانيها وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ مبتدأ وفِي الْكِتابِ خبره وهي جملة معترضة ويكون المراد من الكتاب اللوح المحفوظ. والغرض تعظيم حال هذه الآية وأن المخل بها وبمقتضاها من رعاية حقوق اليتامى ظالم متهاون بما عظمه الله، ونظيره في تعظيم القرآن قوله: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: 4] وثالثها أنه مجرور على القسم لمعنى التعظيم أيضا كأنه قيل: قل الله يفتيكم فيهن وحق المتلو. ورابعها أن يكون مجرورا على أنه معطوف على المجرور في فِيهِنَّ. قال الزجاج: إنه ليس بسديد لفظا لعدم إعادة الخافض، ومعنى لأنه لا معنى لقول القائل: يفتي الله فيما يتلى عليكم من الكتاب، لأن الإفتاء إنما يكون في المسائل. وقوله: فِي يَتامَى النِّساءِ على الوجه الأول صلة يُتْلى أي يتلى عليكم في معناهن أو بدل من فِيهِنَّ وعلى سائر الوجوه بدل من فِيهِنَّ لا غير. والإضافة في يَتامَى النِّساءِ قال الكوفيون: إنها إضافة الصفة إلى الموصوف وأصله في النساء اليتامى. وقال البصريون: إنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 على تأويل جرد قطيفة وسحق عمامة. وجوز بعضهم أن يكون المراد بالنساء أمهات اليتامى كما في قصة أم كحة. ومعنى لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ قال ابن عباس: يريد ما فرض لهن من الميراث بناء على أنها نزلت في ميراث اليتامى والصغار. وقال غيره: يعني ما كتب لهن من الصداق. وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ قال أبو عبيدة: هذا يحتمل الشهوة والنفرة أي ترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن، أو ترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن. احتج أصحاب أبي حنيفة بالآية على أنه يجوز لغير الأب والجد تزويج الصغيرة. ورد باحتمال أن يكون المراد وترغبون أن تنكحوهن إذا بلغن، ولأن قدامة بن مظعون زوج بنت أخيه عثمان بن مظعون من عبد الله بن عمر فخطبها المغيرة بن شعبة ورغبت أمها في المال، فجاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قدامة: أنا عمها ووصي أبيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها صغيرة وإنها لا تزوج إلا بإذنها وفرق بينها وبين ابن عمر. ولأنه ليس في الآية أكثر من ذكر رغبة الأولياء في نكاح اليتيمة، وذلك لا يدل على الجواز. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ نزلت في ميراث الصغار. والخطاب في أَنْ تَقُومُوا للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم. قيل: ويجوز أن يكون وَأَنْ تَقُومُوا منصوبا أي ويأمركم أن تقوموا. ومن جملة ما أخبر الله تعالى أنه يفتيهم به في النساء لكن لم يتقدم ذكره. قوله وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ ارتفاع امْرَأَةٌ بفعل يفسره خافت أي علمت. وقيل: ظنت والظاهر أنه على معناه الأصلي إلا أن الخوف لا يحصل إلا عند ظهور العلامات الدالة على وقوع المخوف كأن يقول الرجل لامرأته: إنك دميمة أو مسنة وإني أريد أن أتزوج شابة جميلة، والبعل الزوج، والنشوز يكون من الزوجين وهو كراهة كل منهما صاحبه ويتبع نشوز الرجل أن يعرض عنها ويقبح وجهها ويترك مجامعتها ويسيء عشرتها. عن عائشة أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد الرجل أن يستبدل بها غيرها فتقول: أمسكني وتزوج بغيري وأنت في حل من النفقة والقسم كما فعلت سودة بنت زمعة حين كرهت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت مكان عائشة من قلبه فوهبت لها يومها. ومعنى الصلح وهو مصدر من غير لفظ الفعل مثل وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] أن يصالحا على أن تطيب المرأة له نفسا عن القسمة أو عن بعضها أو عن المهر والنفقة فإن هذه الأمور هي التي تقدر المرأة على طلبها من الزوج شاء أم أبى. أما الوطء فليس كذلك لأن الزوج لا يجبر على الوطء. وَالصُّلْحُ خَيْرٌ من الفرقة أو من النشوز والإعراض فاللام للعهد، أو هو خير من الخصومة في كل شيء فاللام للاستغراق وبه تمسك أصحاب أبي حنيفة في جواز الصلح على الإنكار، أو الصلح خير من الخيرات كما أن الخصومة شر من الشرور. والجملة معترضة، وكذا قوله: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ إلا أنه اعتراض مؤكد للمطلوب محصل للمقصود. والشح البخل مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 حرص، وأرض شحاح لا تسيل إلا من مطر كثير. جعل الشح كالأمر الحاضر للنفوس لأنها جبلت على ذلك. ثم يحتمل أن يكون هذا تعريضا بالمرأة أنها تشح ببذل نصيبها أو حقها، أو بالزوج أنه يشح بأنه ينقضي عمره معها مع دمامتها وكبر سنها وعدم الالتذاذ بصحبتها. واعلم أنه رخص أولا في الصلح بقوله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وغايته ارتفاع الإثم، ثم بين أنه كما لا جناح فيه فكذلك فيه خير كثير. ثم حث على الإحسان والتقوى وحسم مادة الخصومة رأسا فقال: وَإِنْ تُحْسِنُوا أي بالإقامة على نسائكم فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ وأحببتم غيرهن وتتقوا النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة المحوجة إلى الصلح فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الإحسان والتقوى خَبِيراً فيثيبكم على ذلك. وعلى هذا فالخطاب للأزواج، وقيل: الخطاب للزوجين أن يحسن كل منهما إلى صاحبه ويحترز عن الظلم. وقيل: لغيرهما أن يحسنوا في المصالحة بينهما ويتقوا الميل إلى واحد منهما. يحكى أن عمران بن حطان الخارجي كان من أدمّ بني آدم وامرأته من أجملهم. فأجالت يوما نظرها في وجهه ثم قالت: الحمد لله. فقال: مالك؟ فقالت: حمدت الله على إني وإياك من أهل الجنة. لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، والشاكر والصابر من أهل الجنة. وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا لن تقدروا على التسوية بين النساء في ميل الطباع وَلَوْ حَرَصْتُمْ وإذا لم تقدروا عليها بحيث لا يقع ميل البتة ولا زيادة ولا نقصان لم تكونوا مكلفين به، وهذا تفسير يناسب مذهب المعتزلة من أن تكليف ما لا يطاق غير واقع ولا جائز. فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ أي رفع عنكم تمام العدل وغايته ولكن ائتوا منه ما استطعتم بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم وطاقتكم. وبوجه آخر لن تستطيعوا التسوية في الميل القلبي وَلَوْ حَرَصْتُمْ ولا التسوية الكلية في نتائج الحب من الأقوال والأفعال لأن الفعل بدون الداعي ومع قيام الصارف محال. فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمتها ونفقتها وسائر حقوقها وحظوظها من غير رضا منها فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ بين السماء والأرض لا على قرار أي غير ذات بعل ولا مطلقة. والغرض النهي عن الميل الكلي مع جواز التفريط في العدل الكلي في نتائج الميل القلبي، وأما الميل القلبي فمعفو بالكل وبالبعض لأن القلب ليس في تصرف الإنسان وإنما هو بين أصبعين من أصابع الرحمن. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل فيقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» «1» يعني المحبة لأن   (1) رواه الترمذي في كتاب النكاح باب 41. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 عائشة كانت أحب إليه. وعنه صلى الله عليه وسلم «من كانت له امرأتان يميل مع أحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل» «1» وَإِنْ تُصْلِحُوا ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة وَتَتَّقُوا فيما يستقبل فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا يرزق كل واحد منهما زوجا خيرا من زوجه وعيشا أهنأ من عيشته. والسعة الغنى والمقدرة وَكانَ اللَّهُ واسِعاً من الرزق والفضل والرحمة والعلم وأي كمال يفرض ولهذ أطلق. حَكِيماً قال ابن عباس: فيما حكم ووعظ. وقال الكبي: فيما حكم على الزوج من إمساكها بمعروف أو تسريحها بإحسان. ثم قال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وهو كالتفسير لسعة ملكه وملكه. وفيه أن الذي أمر به من العدل والإحسان إلى اليتامى والنسوان ليس لعجز أو افتقار وإنما يعود فائدة ذلك إلى المكلف لأنه الأحسن له في دنياه وعقباه. ثم بين أن الأمر بتقوى الله شريعة قديمة لم يلحقها نسخ وتبديل، وإن استغناءه تعالى بالنسبة إلى الأمم السالفة كهو بالنسبة إلى الأمم الآتية فقال: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي جنسه ليشمل التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الصحف. وقوله: مِنْ قَبْلِكُمْ إما أن يتعلق ب وَصَّيْنَا أو ب أُوتُوا وقوله: وَإِيَّاكُمْ عطف على الَّذِينَ ومعنى أَنِ اتَّقُوا بأن اتقوا وتكون «أن» المفسرة لأن التوصية في معنى القول. وَإِنْ تَكْفُرُوا عطف على اتَّقُوا أي أمرناهم وأمرناكم بالتقوى. وقلنا لهم ولكم إن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وهو خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها فحقه أن يكون مطاعا في خلقه غير معصى يخشون عقابه ويرجون ثوابه. أو قلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله في سمواته وأرضه من الملائكة وغيرهم من يوحده ويعبده ويتقيه. وَكانَ اللَّهُ مع ذلك غَنِيًّا عن خلقه وعن عباداتهم حَمِيداً في ذاته وإن لم يحمده واحد منهم. ثم كرر قوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تقريرا لأنه أهل أن يتقى وتوكيدا لاستغنائه عن طاعات المطيعين وسيئات المذنبين. ثم بالغ في هذا المعنى بقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يعدمكم أيها الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ يوجد خلقا آخرين غير الإنس أو من جنس الإنس وَكانَ اللَّهُ على ذلك الإعدام ثم الإيجاد قَدِيراً بليغ القدرة لم يزل موصوفا بذلك ولن يزال كذلك. وفي الآية من التخويف والغضب ما لا يخفى. وقيل: الخطاب لأعداء النبي صلى الله عليه وسلم من العرب والمراد بآخرين ناس يوالونه. يروى أنها لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 38. الترمذي في كتاب النكاح باب 42. الدارمي في كتاب النكاح باب 24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 بيده على ظهر سلمان وقال: إنهم قوم هذا يريد أبناء فارس. ثم رغب الإنسان فيما عنده من الكرامة فقال: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فماله يطلب الأخس بالذات مع أنه إذا طلب الأشرف تبعه الأخس. فالتقدير: فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده ليحصل ربط الجزاء بالشرط وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً لأقوال المجاهدين والطالبين بَصِيراً بمطامح عيونهم ومطارح ظنونهم فيجازيهم على نحو ذلك. ثم بيّن أنّ كمال سعادة الإنسان في أن يكون قوله لله وفعله لله وحركته لله وسكونه لله فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ مجتهدين في اختيار العدل محترزين عن ارتكاب الميل شُهَداءَ لِلَّهِ لوجهه ولأجل مرضاته كما أمرتم بإقامتها ولو كانت تلك الشهادة وبالا على أنفسكم، أو الوالدين والأقربين بأن يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره. وفي كلام الحكماء: «إذا كان الكذب ينجي فالصدق أنجى» . أو المراد الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها وأن يقول: أشهد أنّ لفلان على والدي كذا أو على أقاربي كذا. وإنما قدم الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لله عكس قوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18] لأنّ شهادة الله تعالى عبارة عن كونه خالقا للمخلوقات، وقيامه بالقسط عبارة عن رعاية قوانين العدل في تلك المخلوقات، والأول مقدم على الثاني. وأما في حق العباد فالعدالة مقدمة على الشهادة تقدم الشرط على المشروط فاعلم. إِنْ يَكُنْ المشهود عليه غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فلا تكتموا الشهادة طلبا لرضا الغني أو ترحما على الفقير فَاللَّهُ أَوْلى بأمورهما ومصالحهما. وكان حق النسق أن لو قيل فالله أولى به أي بأحد هذين إلّا أنه ثنى الضمير ليعود إلى الجنسين كأنه قيل: فالله أولى بجنسي الفقير والغني أي بالأغنياء والفقراء يريد بالنظر لهما وإرادة مصلحتهما ولولا أنّ الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها. قال السدي: اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم غني وفقير وكان ميله إلى الفقير رأى أنّ الفقير لا يظلم الغني فأبى الله إلّا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير وأنزل الآية. وقوله: أَنْ تَعْدِلُوا يحتمل أن يكون من العدل أو من العدول فكأنه قيل: فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس، أو إرادة أن تعدلوا عن الحق. واحتمال آخر وهو أن يراد اتركوا الهوى لأجل أن تعدلوا أي حتى تتصفوا بصفة العدالة لأنّ العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر. وَإِنْ تَلْوُوا بواوين من لوى يلوي إذا فتل، وبواو واحدة من الولاية. والمعنى وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق وحكومة العدل أَوْ تُعْرِضُوا عن الشهادة بما عندكم أو إن وليتم إقامة الشهادة أو تركتموها. واعلم أن الإنسان لا يكون قائما بالقسط إلّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 إذا كان راسخ القدم في الإيمان فلهذا أردف ما ذكر بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا وظاهره مشعر بالأمر بتحصيل الحاصل. فالمفسرون ذكروا فيه وجوها الأول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في الماضي والحاضر آمَنُوا في المستقبل أي دوموا على الإيمان واثبتوا. الثاني: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تقليدا آمَنُوا استدلالا. الثالث: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استدلالا إجماليا آمَنُوا استدلالا تفصيليا. الرابع: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وملائكته وكتبه ورسله آمَنُوا بأن كنه الله تعالى وعظمته وكذلك أحوال الملائكة وأسرار الكتب وصفات الرسل لا ينتهي إليها عقولكم. الخامس قال الكلبي: إن عبد الله بن سلام وأسدا وأسيدا ابني كعب وثعلبة بن قيس وجماعة من مؤمني أهل الكتاب قالوا: يا رسول الله، إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فأنزل الله هذه الآية فآمنوا بكل ذلك. وقيل: إن المخاطبين ليسواهم المسلمين والتقدير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بموسى والتوراة وبعيسى والإنجيل آمَنُوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبجميع الكتب المنزلة من قبل لا ببعضها فقط، لأن طريق العلم بصدق النبي هو المعجز وأنه حاصل في الكل، فالخطاب لليهود والنصارى. أو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللسان آمَنُوا بالقلب فهم المنافقون، أو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللات والعزى آمَنُوا بالله فهم المشركون، والمراد بالكتاب الذي أنزل من قبل جنسه. فإن قيل: لم ذكر في مراتب الإيمان أمورا ثلاثة: الإيمان بالله وبالرسل وبالكتب. وذكر في مراتب الكفر أمورا خمسة؟ أجيب بأن الإيمان بالثلاثة يلزم منه الإيمان بالملائكة وباليوم الآخر، لكنه ربما ادّعى الإنسان أنه يؤمن بالثلاثة ثم إنه ينكر الملائكة واليوم الآخر لتأويلات فاسدة، فلما كان هذا الاحتمال قائما نص على أن منكر الملائكة والقيامة كافر بالله. فإن قيل: لم قدم في مراتب الإيمان ذكر الرسول على ذكر الكتاب في مراتب الكفر عكس الأمر؟ فالجواب أن الكتاب مقدم على الرسول في مرتبة النزول من الخالق إلى الخلق، وأما في العروج فالرسول مقدم على الكتاب. وبوجه آخر الرسول الأول هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والرسل عام له ولغيره، فلما خص ذكره أولا للتشريف جعل ذكره تاليا لذكر الله لمزيد التشريف ولبيان أفضليته صلى الله عليه وسلم. ثم لما رغب في الإيمان والثبات عليه بين فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً والمراد الذين تكرر منهم الكفر بعد الإيمان تارات وأطوارا. قال القفال: وليس المراد بيان العدد بل المراد ترددهم وتمرنهم على ذلك. وقيل: اليهود هم آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا بعزير ثم آمنوا بداود ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا عند مقدم محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم المنافقون أظهروا الإسلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 ثم كفروا بنفاقهم وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم، ثم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، ثم ازدادوا كفرا بجدهم واجتهادهم في استخراج وجوه المكايد في حق المسلمين. وقيل: هم طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الإيمان تارة والكفر أخرى على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران: 72] ثم إنهم بالغوا في ذلك وازدادوا إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام. وفي الآية دلالة على أنه قد يحصل الكفر بعد الإيمان وذلك يبطل مذهب القائلين بالموافاة وهي أن شرط صحة الإسلام أن يموت الشخص على الإسلام وهم يجيبون عن ذلك بأنا نحمل الإيمان على إظهار الإيمان. وفيها أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان فيجب أن يكون الإيمان كذلك لأنهما ضدان متنافيان، فإذا قبل أحدهما التفاوت فكذا الآخر. وكيف يزداد كفرهم فيه وجوه: أحدها أنهم ماتوا على كفرهم. وثانيها بسبب ذنوب أصابوها حال كفرهم وعلى هذا فإصابة الطاعات وقت الإيمان تكون زيادة في الإيمان. وثالثها استهزاؤهم بالدين. أما قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ فقيل عليه اللام تفيد نفي التأكيد وهذا لا يليق بالوضع إنما اللائق به تأكيد النفي. وأجيب بأن نفي التأكيد إذا ذكر على سبيل التهكم أفاد تأكيد النفي. ثم أورد عليه أن الكفر قبل التوبة غير مغفور على الإطلاق وحينئذ تضيع الشرائط المذكورة في الآية، وبعد التوبة مغفور ولو بعد ألف مرة فكيف يصح النفي؟ وأجيب بأن اللام في الذين لمعهودين وهم قوم علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر لا يتوبون عنه قط، فقوله: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ إخبار عن موتهم على الكفر، أو اللام للاستغراق وخرج الكلام على الغالب المعتاد وهو أن من كان مضطرب الحال كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر، لم يكن للإيمان في قلبه وقع واحتشام. فالظاهر من حال مثله أنه يموت على الكفر، فليس المراد أنه لو أتى بالإيمان الصحيح لم يكن معتبرا بل المراد منه الاستبعاد والاستغراب كالفاسق يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع فإنه لا يرجى منه الثبات والغالب أنه يموت على الفسق. وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أي إلى الإيمان عند الأشاعرة، وعند المعتزلة إلى الجنة. أو محمول على المنع من زيادة الألطاف. بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ تهكم كقولهم: عتابك الصيف تحيتهم الضرب أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ. كان المنافقون يوادّون اليهود اعتقادا منهم أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم لا يتم وحينئذ يبتغون بودّهم أن يحصل لهم بهم قوة وغلبة، فخيّب الله آمالهم بقوله: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وعزّة الله تستتبع عزة الرسول والمؤمنين كقوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] وجَمِيعاً حال من العزة أي مجموعة. قال المفسرون: إنّ المشركين كانوا بمكة يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزؤن به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 وبين أظهرهم المسلمون ولا يتهيّأ لهم حينئذ الإنكار عليهم ظاهرا فنزلت إذا ذاك. وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ فكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين ويجالسهم بعض المنافقين فأنزل الله تعالى في هؤلاء المنافقين وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ معنى آية الأنعام أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن مقدر والمعنى أنه إذا سمعتم آيات الله حال كونها يكفر بها ويستهزأ بها. وقال الكسائي: المعنى إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها، ولكن أوقع فعل السماع على الآيات كما يقال: سمعت عبد الله يلام وفيه نظر، لأنّ إيقاع فعل السماع على الآيات ممكن بخلاف إيقاعه على عبد الله. إِنَّكُمْ أيها المنافقون إِذاً مِثْلُهُمْ مثل الأحبار في الكفر و «إذن» هاهنا ملغاة لوقوعها بين الاسم والخبر ولذلك لم يذكر بعدها الفعل أي إذن تكونوا مثلهم، وأفرد مِثْلُهُمْ لأنها في معنى المصدر نحو أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا [المؤمنون: 47] وقد جمع في قوله: ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: 38] وإنما لم يحكم بكفر المسلمين بمكة لمجالسة المشركين الخائضين وحكم بنفاق هؤلاء بالمدينة لمجالسة أحبار اليهود الخائضين، لأن مجالسة أولئك المسلمين كانت للضرورة وفي أوان ضعف الإسلام ولم يرد نهي بعد، ومجالسة هؤلاء المنافقين كانت في وقت الاختيار وقوة الإسلام وبعد ورود النهي. قال أهل العلم: في الآية دليل على أن من رضي بالكفر فهو كافر، ومن رضي بمنكر يراه وخالط أهله وإن لم يباشر كان شريكهم في الإثم. ثم حقق كون المنافقين مثل الكافرين بقوله: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً يعني القاعدين والمقعود معهم. والضمير في مَعَهُمْ يعود إلى الكافرين المستهزئين بدلالة يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها وأراد جامِعُ بالتنوين لأنه بعد ما جمعهم ولكن حذف التنوين تخفيفا في اللفظ. والمعنى أنهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا فكذلك يجتمعون في عذاب جهنم يوم القيامة ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب» . يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من نصر أو إخفاق. فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ ظهور على اليهود قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ مظاهرين فأسهموا لنا في الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ أي اليهود نصيب استيلاء ما في الظاهر قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ الحوذ السوق السريع والاستحواذ الغلبة. وهذا جاء بالواو على أصله كما جاء استروح واستصوب. وفي الآية وجهان: الأول ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم ثم لم نفعل شيئا من ذلك وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بأن ثبطناهم عنكم فهاتوا نصيبا لنا مما أصبتم. الثاني أنّ أولئك الكفار كانوا قد هموا بالدخول في الإسلام. ثم إنّ المنافقين نفروهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 وأطمعوهم أنه سيضعف أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويقوى أمركم. فالمراد ألسنا غلبناكم على رأيكم في الدخول في الإسلام ومنعناكم منه وأرشدناكم إلى مصالحكم فادفعوا إلينا نصيبا مما وجدتم. وفي تسمية ظفر المؤمنين فتحا وظفر الكافرين نصيبا تثبيت للمؤمنين وتعظيم لما هم عليه من الدين وتحقير لشأن الكافرين وتوهين لأمرهم، فكان ظفر المسلمين أمر عظيم يفتح له أبواب السماء حين ينزل على أولياء الله، وظفر الكافرين حظ دنيوي ينقضي ولا يبقى منه إلّا الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. أي بين المؤمن والمنافق. والغرض أنه يقال: ما وضع السيف على المنافقين في الدنيا ولكن أخر عقابهم إلى يوم القيامة وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا قال علي وابن عباس: المراد في الدنيا ولكن بالحجة أي حجة المسلمين غالبة على حجة الكل. وقيل: في الآخرة. وقيل: عام في الكل. والشافعي بنى عليه مسائل منها: أن الكافر إذا استولى على مال المسلم وأحرزه إلى دار الحرب لم يملكه بدلالة هذه الآية. ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبدا مسلما. ومنها أنّ المسلم لا يقتل بالذمي والله تعالى أعلم. التأويل: النفس للروح كالمرأة للزوج ويَتامَى النِّساءِ صفات النفوس وما كُتِبَ لَهُنَّ ما أوجب الله للنفوس من الحقوق. وحاصل المعنى أنّ نفسك مطيتك فارفق بها وإليه الإشارة بقوله: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ فالروح تشح بترك حقوق الله، والنفس تشح بحظوظها فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ في رفض حظوظ النفس فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ بين العالم العلوي والعالم السفلي وَإِنْ يَتَفَرَّقا أي الروح والنفس فالروح تجتذب بجذبة دع نفسك وتعال إلى سعة غنى الله في عالم هويته لتستغني عن مركب النفس بالوصول إلى المقصود. والنفس تجتذب عن الروح بجذبة ارجعي إلى ربك إلى سعة غنى الله في عالم فادخلي في عبادي وادخلي جنتي. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا للإيمان ثلاث مراتب: إيمان للعوام أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث والجنة والنار والقدر وهذا إيمان غيبي، وإيمان للخواص وهو أنه تعالى إذا تجلّى للعبد بصفة من صفاته خضع له جميع أجزاء وجوده وآمن بالكلية وهذا إيمان عياني، وإيمان للأخص وهو بعد رفع الحجب الأنانية حين أفناه بصفة الجلال وأبقاه بصفة الجمال فلم يبق له إلا عين وبقي في العين وهذا إيمان عيني. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي بالتقليد ثُمَّ كَفَرُوا إذ لم يكن للتقليد أصل ثُمَّ آمَنُوا بالاستدلال العقلي ثُمَّ كَفَرُوا إذ لم تكن عقولهم مشرقة بالنور الإلهي ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بالشبهات والاعتراضات لَمْ يَكُنِ اللَّهُ في الأزل غافرا لهم بنوره عند الرش وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا اليوم لأن الأصل لا يخطىء بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ أي بشرهم بأن أصلهم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 جوهر الكفار ولهذا اتخذوا الكافرين أولياء فإنّ ائتلافهم هاهنا نتيجة تعارف أرواحهم وكما يعيشون يموتون وكما يموتون يحشرون. تم الجزء الخامس، ويليه الجزء السادس أوله: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الجزء السادس من أجزاء القرآن الكريم [سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 152] إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) القراآت: فِي الدَّرْكِ بسكون الراء: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير الأعشى. الباقون بالفتح يُؤْتِيهِمْ بالياء: حفص وعياش. الباقون بالنون. الوقوف: خادِعُهُمْ ط لعطف المختلفين. كُسالى لا لأن يُراؤُنَ . صفتهم قَلِيلًا هـ ز بناء على أن مُذَبْذَبِينَ نصب على الذم، والأوجه أنه حال أي يراؤون مذبذبين. بَيْنَ ذلِكَ ق وقد قيل على تقدير الابتداء أي لا هم إلى هؤلاء، والأوجه أنه بيان الذبذبة أي لا منسوبين إلى هؤلاء هؤُلاءِ الثانية ط سَبِيلًا هـ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ط مُبِيناً هـ مِنَ النَّارِ ج لابتداء النفي مع العطف. نَصِيراً هـ ط للاستثناء. مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ط عَظِيماً هـ وَآمَنْتُمْ ط عَلِيماً هـ ظُلِمَ ط عَلِيماً هـ قَدِيراً هـ بِبَعْضٍ لا للعطف سَبِيلًا هـ لا لأن ما بعده خبر «إن» وقيل: إن الخبر محذوف أي هلكوا وما يتلوه مستأنف. حَقًّا ج لاحتمال ما بعده للعطف والاستئناف مُهِيناً هـ أُجُورَهُمْ ط رَحِيماً هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 التفسير: قال الزجاج: أي يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يظهرون له الإيمان ويبطنون الكفر كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] وهو خادعهم اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه. قال ابن عباس: يعطيهم نورا كما يعطي المؤمنين فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم ويبقى نور المؤمنين فينادون انظرونا نقتبس من نوركم. وباقي تفسير المخادعة تقدم في أول البقرة. كسالى جمع كسلان كسكارى في سكران أي يقومون متثاقلين متباطئين متقاعسين كما يرى من يفعل شيئا على كره لا عن طيب نفس ورغبة وهو معنى الكسل. والسبب في ذلك أنهم يبتغون بها في الحال ولا يرجون من فعلها ثوابا ولا يخافون من تركها عقابا. يُراؤُنَ النَّاسَ أي لا يقومون إلى الصلاة إلّا لأجل الرياء والسمعة. ومعنى المفاعلة في الرياء أن المرائي يرى الناس عمله وهم يرونه استحسان ذلك العمل، أو فاعل هاهنا بمعنى فعل بالتشديد كقولك: ناعمة ونعمه. وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ أي ولا يصلون إِلَّا قَلِيلًا لأنه متى لم يكن معهم أحد من الأجانب لا يصلون، وإذا كانوا مع الناس فعند دخول وقت الصلاة يتكلفون حتى يصيروا غائبين عن أعين الناس، فإن لم يجدوا مندوحة فحينئذ يصلون. وقيل: إنهم في صلاتهم لا يذكرون الله إلا قليلا وهو الذي يظهر مثل التكبيرات، فأما الذي يخفى وهو القراءة والتسبيحات فهم لا يذكرونها. وقيل: إنهم لا يذكرون الله في جميع الأوقات إلا ذكرا قليلا في الندرة كما ترى من بعض المتهاونين بأمور الدين لو صحبته أياما وليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تسبيحة ولا تحميدة، ولكن حديث الدنيا يستغرق أوقاته، ويجوز أن يراد بالقلة العدم، قال قتادة: يريد أن الله لا يقبل صلاتهم لأن ما رده الله فكثيره قليل، وما قبله الله فقليله كثير. ومعنى مذبذبين ذبذبهم الشيطان والهوى. وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين أي يذاد ويدفع إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب كأن المعنى كلما مال إلى جانب ذب عنه. وقرأ ابن عباس مُذَبْذَبِينَ بالكسر أي يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم. وعن أبي جعفر «مدبدبين» بالدال غير المعجمة والمعنى أخذ بهم تارة في دبة وتارة في دبة والدبة الطريقة. ومعنى بَيْنَ ذلِكَ أي بين الكفر والإيمان لأن ذكر الكافرين والمؤمنين يدل على الكفر والإيمان وذلك قد يشار به إلى اثنين كقوله: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة: 68] واعلم أن السبب في التذبذب هو أن الفعل يتوقف على الداعي، فإذا كان الداعي إلى الفعل هو الأغراض المتعلقة بأحوال هذا العالم وأنها سيالة متغيرة لزم وقوع التغير في الميل والرغبة، وإذا تعارضت الدواعي والصوارف بقي الإنسان في الحيرة والتردد، وأما من كان مطلوبه في فعله اقتناء الخيرات الباقية واكتساب السعادات الروحانية وعلم أن تلك المطالب أمور باقية بريئة عن التغير والزوال، لا جرم كان هذا الإنسان ثابتا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 إيمانه راسخا في شأنه فلهذا المعنى وصف أهل الإيمان بالثبات يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [إبراهيم: 27] أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر: 27] قيل: إنه تعالى ذمهم على ترك طريقة المؤمنين وطريقة الكفار، والذم على ترك طريقة الكفار غير جائز. قلنا: إنما توجه الذم لأنهم عدلوا عن الكفر إلى ما هو أخبث وهو طريق النفاق ولهذا ورد فيهم من المبالغات ما ورد من قوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [الرعد: 28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ أي لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام أولياء، وهو نهي للمؤمنين عن مولاة المنافقين والتخلق بأخلاقهم ومذاهبهم. ومعنى سُلْطاناً حجة بينة على النفاق لأن وليّ المنافق منافق لا محالة. ومعنى قوله: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي في أقصى قعرها فإن القعر الأخير من النار درك ودرك ومع ذلك وصف بالأسفل. ودركات النار منازلها نقيض درجات الجنة، فبين أن المنافق في غاية البعد ونهاية الطرد عن حضرة الله تعالى وأنه مع فرعون لأنّ الدرك الأسفل أشد العذاب وقد قال عز من قائل: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر: 46] وقيل: إن النار سبع دركات سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض. قال أبو حاتم: جمع الدرك أدراك كفرس وأفراس، وجمع الدرك أدرك كفلس وأفلس. ثم قال: وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً احتجوا بهذا على إثبات الشفاعة في حق الفساق من أهل القبلة لأنه تعالى ذكره في معرض الزجر عن النفاق، فلو حصل نفي الشفاعة مع عدم النفاق لم يبق هذا زجرا عن النفاق من حيث إنه نفاق. ثم استثنى منهم التائبين فشرط أمورا أربعة أولها التوبة. وثانيها إصلاح ما أفسدوا من أسرارهم. وثالثها الاعتصام بدين الله. ورابعها الإخلاص لأنه إذا كان مطلوبه جلب المنافع ودفع المضار تغير عن التوبة وإصلاح العمل سريعا، أما إذا كان مطلوبه مرضاة الله وسعادة الآخرة والاعتصام بحبل الله بقي على هذه الطريقة ولم يتغير عنها. وعند حصول الشرائط قال: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل مؤمنون تشريفا للمؤمنين أنهم متبعون والمنافقون بعد الشرائط تبع لهم. ثم بين وعد المؤمنين بقوله: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ليشمل المنافقين التائبين بالتبعية. ثم برهن على أن فائدة الإيمان والعمل الصالح إنما ترجع على المكلفين فقال: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ لأن تعذيب الملوك بعض الرعية إنما يكون للتشفي من الغيظ أو لدرك الثأر أو لجلب المنافع أو لدفع المضار وأمثال هذه الأمور في حقه تعالى محال، وإنما المقصود حمل المكلفين على فعل الحسن وترك القبيح لينالوا السعادة العظمى، فمن امتثل وأطاع فكيف يليق بكرمه تعذيبه. قالت المعتزلة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 هذا صريح في أنه تعالى لم يخلق أحدا لغرض التعذيب. وفي أن فاعل الشكر والإيمان هو العبد وإلّا لصار التقدير ما يفعل الله بعذابكم إن خلق الشكر والإيمان فيكم، ومعلوم أن هذا غير منتظم. والجواب مسلم أنه تعالى غير مستكمل بالتعذيب ولا بالإثابة لكن وقوع البعض في مظاهر اللطف والبعض في مظاهر القهر ضروري كما سبق. وأيضا انتهاء الكل إلى إرادته وخلقه وتكوينه ضروري بواسطة أو بغير واسطة، فيؤل المعنى إلى أنه لا يعذبكم إن كنتم مظاهر اللطف وهذا كلام في غاية الصحة. قال في الكشاف: وإنما قدم الشكر على الإيمان لأن العاقل ينظر أولا إلى النعمة فيشكر شكرا مبهما، ثم إذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به. وأقول: إن لم تكن الواو للترتيب فلا سؤال، وإن كانت للترتيب فلعله إنما قدم الشكر في هذه الآية خلاف أكثر الآيات التي قدم الإيمان فيها على العمل الصالح وهو الأصل، لأن الآية مسوقة في غرض المنافقين، ولم يقع نزاع في إيمانهم ظاهرا وإنما يقع النزاع في بواطنهم وأفعالهم التي تصدر عنهم غير مطابقة للقول اللساني، فكان تقديم الشكر هاهنا أهم لأنه عبارة عن صرف جميع ما أعطاه الله تعالى فيما خلق لأجله حتى تكون أفعاله وأقواله على نهج السداد وسنن الاستقامة وَكانَ اللَّهُ شاكِراً مثيبا على الشكر فسمى جزاء الشكر شكرا، وفيه أنه يجزي على العمل القليل ثوابا كثيرا عَلِيماً بالكليات والجزئيات من غير غلط ونسيان فيوصل جزاء الشاكرين إليهم كما يليق بحالهم بل كما يليق بكرمه وسعة فضله ورحمته. ثم إنه سبحانه لما هتك ستر المنافقين وفضحهم وكان هتك الستر منافيا للكرم والرحمة ظاهرا ذكر ما يجري مجرى العذر من ذلك فقال: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ الآية يعني أنه لا يحب إظهار الفضائح إلا في حق من ظلم وهم المسلمون الذين عظم ضرر المنافقين وكيدهم فيهم. وأيضا إن المنافق إذا تاب وأصلح لم يكد يسلم من تعيير المسلمين إياه على ما صدر عنه في الماضي فبيّن تعالى أن تعييرهم بعد التوبة أمر مذموم وأنه تعالى لا يرضى به إلا من ظلم نفسه وعاد إلى نفاقه. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أنه تعالى لا يريد من عباده فعل القبائح لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادته. وقالت الأشاعرة: المحبة عبارة عن إيصال الثواب على الفعل وحينئذ يصح أن يقال: إنه أراده وما أحبه. قال أهل العلم: إنه لا يحب الجهر بالسوء ولا غير الجهر، ولكنه ذكر هذا الوصف لأن كيفية الواقعة أوجبت ذلك كقوله: إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النساء: 94] والتبين واجب في الطعن والإقامة. أما قوله: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فالاستثناء فيه متصل أو منقطع. وعلى الأول قال أبو عبيدة: تقديره إلّا جهر من ظلم فحذف المضاف. وقال الزجاج: الجهر بمعنى المجاهر أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 لا يحب الله المجاهر بالسوء إلّا من ظلم. وعلى الثاني المعنى لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته. وماذا يفعل المظلوم؟ قال ابن عباس: له أن يرفع صوته بالدعاء على من ظلمه. وقال مجاهد: له أن يخبر بظلم ظالمه له. وقال الأصم: لا يجوز إظهار الأحوال المستورة المكنونة حذرا من الغيبة والريبة لكن له إظهار ظلمه بأن يذكر أنه سرق أو غصب. وقال الحسن: له أن ينتصر من ظالمه. وعن مجاهد أن ضيفا تضيف قوما فأساؤا قراه فاشتكاهم فنزلت الآية رخصة في أن يشكو. وقرأ الضحاك وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير إِلَّا مَنْ ظُلِمَ على البناء للفاعل. وقيل: إنه كلام منقطع عما قبله أي لكن من ظلم فدعوه وخلوه. وقال الفراء والزجاج: معناه لكن من ظلم فإنه يجهر له بالسوء من القول وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً فليتق الله ولا يقل إلا الحق ولا يقذف مستورا. ثم حث على العفو بقوله: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ وهو إشارة إلى إيصال النفع أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ وهذا إشارة إلى دفع الضرر، وعلى هذين تدور المعاشرة مع الخلق. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً قال الحسن: أي يعفو عن الجاني مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنّة الله. وقيل: عفو لمن عفا، قدير على إيصال الثواب إليه. وقال الكلبي: معناه أن الله أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو صاحبك. وفي الخبر أن أبا بكر الصديق شتمه رجل فسكت مرارا ثم رد عليه فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبوبكر: شتمني وأنت جالس فلما رددت عليه قمت. قال: إن ملكا كان يجيب عنك، فلما رددت ذهب الملك وجاء الشيطان فلم أجلس عند مجيء الشيطان. ثم إنه سبحانه تكلم بعد ذكر أحوال المنافقين في مذاهب اليهود والنصارى وأباطيلهم. وذلك أنواع: الأول إيمانهم ببعض الأنبياء دون بعض فسلكهم في سلك من لا يقر بالوحدانية ولا بالنبوّات وهم الذين يكفرون بالله ورسله، وفي سلك من يقر بالوحدانية وينكر النبوّات وهم الذين يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله في الإيمان بالله والكفر بالرسل وذلك أن اليهود آمنوا بموسى والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان، والنصارى آمنوا بعيسى والإنجيل وكفروا لمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا بالبعض وأرادوا أن يتخذوا بين ذلك أي بين الإيمان بالكل وبين الكفر بالكل سبيلا أي واسطة أُولئِكَ أي الطوائف الثلاث هُمُ الْكافِرُونَ أما الطائفة الأولى فكفرهم ظاهر، وأما الثانية فلأنّ تكذيب الأنبياء وإنكارهم يستلزم تكذيب الله إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] وأما الطائفة الثالثة فلأنّ الدليل الدال على نبوة بعض الأنبياء هو المعجزة ويلزم منه حصول النبوة حيث حصل المعجز فالقدح في بعض من ظهر على يده المعجزة هو القدح في كل نبي. فقيل: هب أنه يلزمهم الكفر بكل الأنبياء ولكن ليس إذا توجه بعض الإلزامات على إنسان لزم أن يكون ذلك الإنسان قائلا به، فإلزام الكفر أمر والتزام الكفر غيره. فالجواب أن الإلزام إذا كان خفيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 يحتاج فيه إلى فكر وتأمل فالأمر كما ذكرتم، أما إذا كان جليا واضحا لم يبق بين الإلزام والالتزام فرق. وانتصاب حَقًّا على أنه مصدر مؤكد لغيره كقوله: زيد قائم حقا أي أخبرتك بهذا المعنى إخبارا حقا أي ثابتا. وقيل: المراد هم الكافرون كفرا حقا وطعن الواحدي فيه بأن الكفر لا يكون حقا بوجه من الوجوه. وأجيب بأن الحق هاهنا الكامل الراسخ الثابت. ثم ختم النوع بوعد المؤمنين. ومعنى: بَيْنَ أَحَدٍ بين اثنين منهم أو جماعة لأن أحدا في سياق النفي يفيد التعدد. ومعنى سَوْفَ توكيد الوعيد لا التأخر المجرد ولهذا قال سيبويه: لن أفعل نفى سوف أفعل. فالمعنى أن إيتاء الأجور كائن لا محالة وإن تأخر. التأويل: إنّ المنافقين يخادعون الله في الدنيا لأن الله خادعهم في الأزل حيث رش نوره وشاهدوه ثم أخطأهم إن شكرتم نعم الله عليكم وآمنتم أنفسكم من عذابه لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ من العوام ولا من التحدث بالنفس من الخواص ولا من الخواطر من الأخص إِلَّا مَنْ ظُلِمَ إما بتقاضي دواعي البشرية من غير اختيار أو بابتلاء من اضطرار. وأيضا لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ بإفشاء سر الربوبية، وإظهار مواهب الألوهية، أو بكشف القناع من مكنونات الغيب ومصونات غيب الغيب إِلَّا مَنْ ظُلِمَ بغلبات الأحوال وتعاقب كؤوس الجلال والجمال فاضطر إلى المقال فقال باللسان الباقي لا باللسان الفاني: أنا الحق وسبحاني إِنْ تُبْدُوا خَيْراً مما كوشفتم به من ألطاف الحق تنبيها للخلق وإفادة بالحق، أو تخفوه صيانة لنفوسكم عن آفات الشوائب وفطامها عن المشارب أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ مما يدعو إليه هوى النفس الأمارة، أو تتركوا إعلان ما جعل الله إظهاره سوءا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا فتكون عفوا متخلقا بأخلاقه إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ فيه إشارة إلى أن الإيمان لا يتبعض وإن كان يزيد وينقص مثاله شعاع الشمس إذا دخل كوّة البيت فيزيد وينقص بحسب سعة الكوة وضيقها، ولكن لا يمكن تجزئتها بحيث يؤخذ جزء منه فيجعل في شيء آخر غير محاذ للشمس والله تعالى أعلم. [سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 169] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 القراآت: لا تَعْدُوا بتشديد الدال مع سكون العين: أبو جعفر ونافع غير ورش. وقرأ ورش مفتوحة العين مشددة. بَلْ طَبَعَ بالإدغام: علي وهشام وأبو عمر وعن حمزة بَلْ رَفَعَهُ مظهرا وبابه: الحلواني عن قالون سيؤتيهم حمزة وخلف وقتيبة. الباقون بالنون. زَبُوراً بضم الزاي حيث كان: حمزة وخلف والباقون بالفتح. الوقوف: بِظُلْمِهِمْ ج لأن «ثم» لترتيب الأخبار مع أن مراد الكلام متحد. عَنْ ذلِكَ ج لأن التقدير وقد آتينا. مُبِيناً هـ غَلِيظاً هـ غُلْفٌ ط قَلِيلًا هـ ص للعطف. عَظِيماً هـ لا لأنّ التقدير وفي قولهم. رَسُولَ اللَّهِ ج لأن ما بعده يحتمل ابتداء النفي والحال. شُبِّهَ لَهُمْ ط مِنْهُ ط الظَّنِّ ج لاحتمال الاستئناف والحال يَقِيناً ج لتقرير نفي القتل بإثبات الرفع. إِلَيْهِ ط حَكِيماً هـ قَبْلَ مَوْتِهِ ط لأن الواو للاستئناف مع اتحاد المقصود. شَهِيداً هـ ج للآية ولأن قوله: فَبِظُلْمٍ راجع إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ وَقَوْلِهِمْ متعلق الكل حَرَّمْنا. كَثِيراً لا بِالْباطِلِ ط أَلِيماً هـ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ط عَظِيماً هـ مِنْ بَعْدِهِ ج للعطف مع تكرار الفعل. وَسُلَيْمانَ ج لأنّ التقدير وقد آتينا التخصيص داود بإيتاء الزبر. زَبُوراً هـ ج لأنّ التقدير وقصصنا رسلا. عَلَيْكَ ط. تَكْلِيماً هـ ج لاحتمال البدل والنصب على المدح. الرُّسُلِ ط ج حَكِيماً هـ بِعِلْمِهِ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال. يَشْهَدُونَ ط شَهِيداً هـ بَعِيداً هـ طَرِيقاً هـ لا أَبَداً ط يَسِيراً هـ. التفسير: هذا نوع ثان من جهالات اليهود فإنهم قالوا: إن كنت رسولا من عند الله فأتنا بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالألواح. وقيل: اقترحوا أن ينزل عليهم كتابا إلى فلان وكتابا إلى فلان بأنك رسول الله. وقيل: كتابا نعاينه حين ينزل. فإن استكبرت ما سألوه فَقَدْ سَأَلُوا بمعنى سأل آباؤهم ومن هؤلاء على مذهبهم مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً وإنما كان سؤال الرؤية أكبر من سؤال تنزيل الكتاب لأن التنزيل أمر ممكن في ذاته بخلاف رؤية الله عيانا فإنها ممتنعة لذاتها عند المعتزلة، أو ممتنعة في الدنيا عند غيرهم. وفي قوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وجوه: أحدها أن البينات الصاعقة لأنها تدل على قدرة الله تعالى وعلى علمه وعلى قدمه وعلى كونه مخالفا للأجسام والأعراض، وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوة. وثانيها أنها إنزال الصاعقة وإحياؤهم بعد إماتتهم. وثالثها أنها الآيات التسع من العصا واليد وفلق البحر وغيرها. وفحوى الكلام أن هؤلاء يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتابا من السماء فاعلم أنهم لا يطلبونه منك إلّا عنادا ولجاجا فإن موسى عليه السلام قد أنزل عليه هذا الكتاب وأنزل عليه سائر المعجزات الباهرة ثم إنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد وأقبلوا على عبادة العجل، وكل ذلك يدل على أنهم مجبولون على اللجاج والعناد والبعد عن طريق الحق فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ حيث لم نستأصل عبدة العجل وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً تسلطا ظاهرا وهو أن أمرهم بقتل أنفسهم، أو المراد قوّة أمره وكمال حاله وانكسار خصومه ففيه بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندونه فإنه بالآخرة يستولي عليهم ويقهرهم. ثم حكى عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم منها أنه تعالى رفع الطور بميثاقهم أي بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه، ومنها قصة دخولهم الباب باب بيت المقدس، ومنها قصة اعتدائهم في السبت باصطياد السمك وقد مر جميع هذه القصص في سورة البقرة. وقيل: إن العدو هاهنا ليس بمعنى الاعتداء وإنما هو بمعنى الحضر والمراد به النهي عن العمل والكسب يوم السبت كأنه قيل لهم: اسكنوا عن العمل في هذا اليوم واقعدوا في منازلكم فأنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 الرزاق. ثم قال: وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي العهد المؤكد غاية التوكيد على أن يتمسكوا بالتوراة ويعملوا بما فيها. فَبِما نَقْضِهِمْ «ما» مزيدة للتوكيد أي فبنقضهم وبسبب كذا وكذا ثم قال: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها ردّا لقولهم قلوبنا أوعية للعلم وتنبيها على أنه تعالى ختم عليها فلهذا لا يصل أثر الدعوة والبيان إليها، أو تكذيبا لادعائهم إن قلوبنا في أكنة وذلك بحسب تفسيري الغلف كما مر في سورة البقرة فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إيمانا قَلِيلًا وهو إيمانهم بموسى والتوراة على زعمهم وإلا فالكافر بنبي واحد كافر بجميع الأنبياء فالقلة في الحقيقة بمعنى العدم وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً فإنكارهم قدرة الله تعالى على خلق الولد من غير أب وكذا إنكارهم نبوة عيسى كفر ونسبتهم الزنا لمريم بهتان عظيم لأنه ظهر لهم عند ولادة عيسى من الكرامات والمعجزات ما دلهم على براءتها من كل سوء وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ قالوه على وجه الاستهزاء كقول فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27] أو أنه تعالى جعل الذكر الحسن مكان القبيح الذي كانوا يطلقونه عليه من الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة. وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ أي المقتول لَهُمْ لدلالة ذكر قتلنا على المقتول، أو يكون شبه مسندا إلى الجار والمجرور وهولهم أي وقع لهم التشبيه، ولا يجوز أن يكون في شبه ضمير المسيح لأنه المشبه به وليس بمشبه. قال أكثر المتكلمين: إن اليهود لما قصدوا قتله رفعه الله إلى السماء فخاف رؤساء اليهود وقوع الفتنة فيما بين عوامهم فأخذوا إنسانا وقتلوه وصلبوه ولبّسوا على الناس أنه هو المسيح، والناس ما كانوا يعرفون المسيح، إلّا بالاسم لأنه كان قليل المخالطة مع الناس. وقيل: إنّ اليهود لما علموا أنه في البيت الفلاني مع أصحابه، أمر يهوذا رأس اليهود رجلا من أصحابه- يقال له طيطايوس- أن يدخل على عيسى ويخرجه ليقتله، فلما دخل عليه أخرج الله تعالى عيسى من سقف البيت وألقى على ذلك الرجل شبه عيسى فخرج فظنوا أنه هو المسيح فصلبوه وقتلوه. وقيل: وكلوا بعيسى عليه السلام رجلا يحرسه وصعد عيسى في الجبل ورفع إلى السماء وألقى الله الشبه على ذلك الرقيب فقتلوه وهو يقول لست عيسى. وقيل: إن رهطا من اليهود سبوه وسبوا أمه فدعا عليهم: اللهم أنت ربي وبكلمتك خلقتني، اللهم العن من سبني وسب والدتي. فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير، فأجمعت اليهود على قتله فلما هموا بأخذه وكان معه عشرة من أصحابه قال لهم: من يشتري الجنة بأن يلقى عليه شبهي؟ فقال واحد منهم: أنا. فألقى الله شبه عيسى عليه فأخرج وقتل ورفع الله عيسى. وقيل: كان رجل يدعي أنه من أصحاب عيسى وكان منافقا، فذهب إلى اليهود ودلهم عليه فلما دخل مع اليهود لأخذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 ألقى الله شبهه عليه فقتل وصلب. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ قيل: إن المختلفين هم اليهود لما قتلوا الشخص المشبه ونظروا إلى بدنه قالوا: الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره. وقال السبكي: لما قتلوا اليهودي المشبه مكانه قالوا: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا، وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وقيل: إن المختلفين هم النصارى وذلك أنهم بأسرهم متفقون على أن اليهود قتلوه إلا أن كبار فرق النصارى ثلاثة: النسطورية والملكانية واليعقوبية. فالنسطورية زعموا أن المسيح صلب من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته وهو قريب من قول الحكماء إنّ القتل والموت يرد على الهيكل لا على النفس المجردة، وعلى هذا فالفرق بين عيسى وبين سائر المصلوبين أن نفسه كانت قدسية علوية مشرقة قريبة من عالم الأرواح فلم يعظم تألمها بسبب القتل وتخريب البدن. وقالت الملكانية: القتل والصلب وصل إلى اللاهوت بالإحساس والشعور لا بالمباشرة. وقالت اليعقوبية: القتل والصلب وقع للمسيح الذي هو جوهر متولد من جوهرين، والشك في الأحكام استواء طرفي نقيضه عند الذاكر وقد يطلق عليه الظن ولهذا ذم في قوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وأما العمل بالقياس فليس من اتباع الظن في شيء لأنه عمل بالطرف الراجح، ولأن العلم بوجوب العمل قطعي. ثم قال: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً وإنه يحتمل عدم يقين القتل أي قتلا يقينا أو متيقنين. واليقين عقد جازم مطابق ثابت لدليل ويحتمل يقين عدم القتل على أن يَقِيناً تأكيد لقوله: وَما قَتَلُوهُ أي حق انتفاء قتله حقا وهذا أولى لقوله: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وقيل: هو من قولهم قتلت الشيء علما إذا تبالغ فيه علمه فيكون تهكما بهم لأنه نفى عنهم العلم أولا نفيا كليا ثم نبه بقوله: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً على أن رفع عيسى إلى السماء بالنسبة إلى قدرته سهل وأن فيه من الحكم والفوائد ما لا يحصيها إلّا هو. ثم قال: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فقوله: إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف «وإن» هي النافية. التقدير: وما من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمنن به كقوله: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] والضمير في بِهِ عائد إلى عيسى، وفي مَوْتِهِ إلى أحد. عن شهر بن حوشب قال لي الحجاج: آية ما قرأتها إلّا تخالج في نفسي شيء منها يعني هذه الآية وقال: إني أوتي بالأسير من اليهود والنصارى فأضرب عنقه فلا أسمع منه ذلك. فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا: يا عدوّ الله أتاك عيسى نبيا فكذبت به فيقول: آمنت أنه عبد نبي. وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه الله أو ابن الله فيؤمن به ويقول: إنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه. قال: وكان متكئا فاستوى جالسا فنظر إليّ وقال: ممن قلت؟ قلت: حدثني محمد بن علي ابن الحنفية فأخد ينكت الأرض بقضيبه ثم قال: لقد أخذتها من عين صافية أو من معدنها. وعن ابن عباس أنه فسره كذلك فقال له عكرمة: فإن أتاه رجل فضرب عنقه؟ قال: لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه. قال: وإن خر من فوق بيت أو احترق أو أكله سبع؟ قال: يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به. وفائدة هذا الإخبار الوعيد وإلزام الحجة والبعث على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع، لأنه إذا لم يكن بد من الإيمان به فلأن يؤمنوا به حال التكليف ليقع معتدا به أولى. وقيل: الضميران في بِهِ وفي مَوْتِهِ لعيسى والمراد بأهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله. روي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال وتقع الأمنة حتى ترتع الأسود والنمور مع الإبل والبقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات، ويلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه. قال بعض المتكلمين: ينبغي أن يكون هذا عند ارتفاع التكاليف أو بحيث لا يعرف إذ لو نزل مع بقاء التكليف على وجه يعرف أنه عيسى. فأما أن يكون نبيا- ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم- أو غير نبي وعزل الأنبياء لا يجوز. وأجيب بأنه كان نبيا إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك انتهت مدة نبوته فلا يلزم عزله فلا يبعد أن يصير بعد نزوله تبعا لمحمد صلى الله عليه وسلم. قال في الكشاف: ويجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلّا ليؤمنن به على أن الله تعالى يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ويعلمهم نزوله وما أنزل له ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم. وقيل: الضمير في بِهِ يرجع إلى الله تعالى وقيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يشهد على اليهود بأنهم كذبوه وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله وكذلك كل نبي شاهد على أمته. قوله: فَبِظُلْمٍ التنوين للتعظيم يعني فبأي ظلم مِنَ الَّذِينَ هادُوا والذنوب نوعان: الظلم على الخلق وهو قوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا الآية والإعراض عن الدين الحق وهو قوله: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً أي ناسا كثيرا أو صدا كثيرا. ومن هذا القبيل أخذ الربا بعد النهي عنه وأكل أموال الناس بالباطل أي بالرشا على التحريف فهذه الذنوب هي الموجبة للتشديد عليهم في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فتحريم بعض المطاعم الطيبة كما يجيء في سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [الأنعام: 146] الآية وأما في الآخرة فقوله: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً واعلم أن في متعلق قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ وما عطف عليه قولين: الأوّل أنه محذوف والتقدير: فبنقضهم وبكذا وكذا لعناهم أو سخطنا عليهم أو نحو ذلك ثم استأنف قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 فَبِظُلْمٍ ومتعلقه حَرَّمْنا وكذا متعلق المعطوفات بعده. الثاني أن متعلق الكل حَرَّمْنا وقوله: فَبِظُلْمٍ بدل من قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ قاله الزجاج. ويرجح الأوّل بأن حذف المتعلق أفخم ليذهب الوهم كل مذهب، ولأنّ تحريم الطيبات عقوبة خفيفة فلا يحسن تعليقها بتلك الجنايات العظائم. قلت: لو جعل قوله: وَأَعْتَدْنا معطوفا على حَرَّمْنا زال هذا الإشكال، أما تكرار الكفر في الآيات ثلاث مرات ويلزم من عطف الثالث على الأوّل أو على الثاني عطف الشيء على نفسه فقد أجاب عنه في الكشاف بأنه قد تكرر منهم الكفر لأنهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فعطف بعض كفرهم على بعض، أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه كأنهم قيل: فبجمعهم بين نقض الميثاق والكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء عليهم السلام، وقولهم قلوبنا غلف، وجمعهم بين كفرهم وبهتهم مريم وافتخارهم بقتل عيسى، عاقبناهم أو بل طبع الله عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم وكذا وكذا. ثم وصف طريقة المؤمنين المحقين منهم فقال: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ يعني عبد الله بن سلام وأضرابه ممن نبت في العلم وثبت وأتقن واستبصر حتى حصلت له المعارف بالاستدلال واليقين دون التقليد والتخمين، لأن المقلد يكون بحيث إذا شكك تشكك، أما المستدل فإنه لا يتشكك البتة وَالْمُؤْمِنُونَ يريد المؤمنين منهم أو المؤمنين من المهاجرين والأنصار. والراسخون مبتدأ ويُؤْمِنُونَ خبره. أما قوله: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ففيه أقوال: الأوّل روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا: إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها، ولا يخفى ركاكة هذا القول لأن هذا المصحف منقول بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟ الثاني قول البصريين إنه نصب على المدح لبيان فضل الصلاة وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ رفع على المدح لبيان فضل الزكاة كقولك: جاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد. فتقدير الآية أعني المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وطعن الكسائي في هذا القول بأن النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام وهاهنا الخبر وهو قوله: أُولئِكَ إلخ منتظر. والجواب أن الخبر يُؤْمِنُونَ ولم سلم فما الدليل على أنه لا يجوز الاعتراض بالمدح بين المبتدأ وخبره؟ الثالث وهو اختيار الكسائي أن المقيمين خفض للعطف على ما في قوله: أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ والمراد بهم الأنبياء لأنه لم يخل شرع واحد منهم من الصلاة. قال تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ [الأنبياء: 73] أو الملائكة لقوله: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصافات: 165] واعلم أن العلماء ثلاثة أقسام: العلماء بأحكام الله وتكاليفه وشرائعه، والعلماء بذات الله وصفاته الواجبة والممتنعة وأحوال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 المبدإ والمعاد، والعلماء الجامعون بين العلمين المذكورين مع العمل بما يجب العمل به وهم الراسخون في العلم وأنهم أكابر العلماء، وإلى الأقسام الثلاثة أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: «جالس العلماء وخالط الحكماء ورافق الكبراء» اللهم اجعلنا من زمرتهم بفضلك يا مستعان. ثم إنه سبحانه عاد إلى الجواب عن سؤال اليهود وهو اقتراح نزول الكتاب جملة فقال: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية. فبدأ بذكر نوح عليه السلام لأنه أول من شرع الله على لسانه الأحكام والحلال والحرام، ثم قال: وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ثم خص بعض النبيين بالذكر لكونهم أفضل من غيرهم، ولم يذكر فيهم موسى لأن المقصود من تعداد هؤلاء الأنبياء أنهم كانوا رسلا مع أن واحدا منهم ما أوتي كتابا مثل التوراة دفعة واحدة. ثم ختم ذكر الأنبياء بقوله: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً يعني أنكم اعترفتم، أن الزبور من عند الله، ثم إنه ما نزل على داود جملة واحدة وهذا إلزام حسن قوي والزبور كتاب داود عليه السلام. من قرأ بضم الزاي فعلى أنه جمع زبر وهو الكتاب كقدر وقدور. ثم قال: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ والمعنى أنه تعالى إنما ذكر أحوال بعض الأنبياء في القرآن والأكثرون غير مذكورين على سبيل التفصيل. وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً هذا أيضا من تتمة الجواب. والمراد أنه بعث كل هؤلاء الأنبياء والرسل وخص موسى عليه السلام بشرف التكليم معه، ولم يلزم منه الطعن في سائر الأنبياء فكيف يلزم الطعن بإنزال التوراة عليه دفعة وإنزال غيرها على غيره منجما رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ يعني أن المقصود من بعثة الأنبياء إلزام التكاليف بالإنذار والتبشير، وقد يتوقف هذا المطلوب على إنزال الكتب وقد يكون إنزال الكتاب منجما مفرقا أقرب إلى المصلحة لأنه إذا نزل جملة كثرت التكاليف فيثقل القبول كما ثقل على قوم موسى فعصوا. ثم ختم الآية بقوله: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً والمعنى أن عزته تقتضي أن لا يجاب المتعنت إلى مطلوبه وإن كان أمرا هينا في القدرة وكذلك حكمته تقتضي هذا الامتناع، لأنه لو فعل ذلك لأصروا على اللجاج في كل قضية. واحتج الأشاعرة بالآية على أن معرفة الله لا تثبت إلّا بالسمع لقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فيكون قبل البعثة لهم حجة في ترك الطاعات والمعارف. وأجابت المعتزلة بأن الرسل منبهون عن الغفلة وباعثون على النظر وكان إرسالهم إزاحة للغفلة وتتميما لإلزام الحجة مع إفادة تفصيل أمور الدين وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع. والمعتزلة قالوا: في الآية دلالة على امتناع تكليف ما لا يطاق لأن عدم إرسال الرسل إذا كان يصلح عذرا فبأن يكون عدم القدرة والمكنة صالحا للعذر أولى وعورض. وأيضا قالوا: الآية تدل على أن العبد قد يحتج على الرب فيبطل قول أهل السنة إنه لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 اعتراض عليه لأحد. وأجيب بأنه يشبه الحجة وليس حجة في الحقيقة. قوله: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ لا بد له من مستدرك لأن لكِنِ لا يبتدأ به. وفي ذلك المستدرك وجهان: أحدهما أن هذه الآيات بأسرها جواب عن قول اليهود لو كان نبيا لنزل عليه الكتاب جملة، وهذا الكلام يتضمن أنه هذا القرآن ليس كتابا نازلا عليه من السماء فلا جرم قيل: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بأنه نازل عليه من السماء. الثاني أنه تعالى لما قال: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قال القوم: نحن لا نشهد لك بذلك فنزل لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ ومعنى شهادة الله إنزال القرآن بحيث عجز عن معارضته الأولون والآخرون أي يشهد لك بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله إليك. ثم فسر ذلك وأوضح بقوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي متلبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره، أو بسبب علمه الكامل مثل: كتبت بالقلم وهذا كما يقال في الرجل المشهور بكمال الفضل إذا صنف كتابا واستقصى في تحريره إنما صنف هذا بكمال علمه يعني أنه اتخذ جملة علومه آلة ووسيلة إلى تصنيف ذلك الكتاب، أو أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه، أو أنزله بما علم من مصالح العباد فيه، أو أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من شياطين الجن والإنس. وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ لأنهم لا يسبقونه بالقول فشهادته تستتبع شهادتهم ومن صدقه رب العالمين وملائكة السموات والأرضين لم يلتفت إلى تكذيب أخس الناس إياه وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً وإن لم يشهد غيره إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وَصَدُّوا غيرهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بإلقاء الشبهات كقولهم: لو كان رسولا لأنزل عليه القرآن دفعة كما نزلت التوراة على موسى، وكقولهم إن شريعة موسى لا تنسخ وإن الأنبياء لا يكونون إلّا من ولد هارون وداود قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً لأن غاية الضلال أن ينضم معه الإضلال. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا محمدا صلى الله عليه وسلم بكتمان بعثته أو عوامهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم. ومعنى قوله: وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً أنهم لا يسلكون إلّا الطريق الموصل إلى جهنم أو لا يهديهم يوم القيامة إلّا طريقها. والعامل في خالِدِينَ معنى لا ليهديهم أي يعاقبهم أو يدخلهم النار خالدين. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لأنه لا صارف له عن ذلك ولا يتعذر عليه إيصال الألم إليه شيئا بعد شيء إلى غير النهاية. واللام في الَّذِينَ إما لقوم معهودين علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر، وإما للاستغراق فيجب أن يضمر شرط عدم التوبة. وحمل المعتزلة قوله: وَظَلَمُوا على أصحاب الكبائر بناء على أنه لا فرق عندهم بين الكافر وصاحب الكبيرة في أنه لا يغفر لهما إلّا بالتوبة. التأويل: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً لعل خرة موسى بلن تراني كانت بشؤم القوم وما كان في أنفسهم من سوء أدب هذا السؤال لئلا يطمعوا في مطلوب لم يعطه نبيهم، فما اتعظوا بحالة نبيهم لأنهم كانوا أشقياء والسعيد من وعظ بغيره. فكما زاد عنادهم زاد بلاؤهم وابتلاؤهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 كرفع الطور فوقهم وغير ذلك. قال أهل الإشارة: ارتكاب المحظورات يوجب تحريم المباحات والطيبات التي أحلت لهم ولأزواجهم الطيبين قبل التلوث بقذر المخالفات والإسراف في المباحات يستتبع حرمان المناجاة والقربات لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هم الذين رسخوا بقدمي الصدق والعمل في العلم إلى أن بلغوا معادن العلوم فاتصلت علومهم الكسبية بالعلوم العطائية واللدنية إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ أي كل ما أوحينا إليهم أوحينا إليك من سر فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10] وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي ليلة المعراج وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء: 164] الآن في القرآن مفصلة أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ تجلى له بصفة العالمية حتى علم بعلمه ما كان وما سيكون وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ على تلك الخلوة وإن لم يكونوا معك في الخلوة وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ما جرى. قد كان ما كان سرا لا أبوح به ... ظن خيرا ولا تسأل عن الخبر [سورة النساء (4) : الآيات 170 الى 176] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 القراآت: فسنحشرهم بالنون: المفضل. الباقون بالياء. الوقوف: خَيْراً لَكُمْ ط. وَالْأَرْضِ ط حَكِيماً هـ إِلَّا الْحَقَّ ط. وَكَلِمَتُهُ ج للاستئناف مع اتحاد المقصود. وَرُوحٌ مِنْهُ ز لعطف المختلفين ولكن فاء التعقيب توجب تعجيل الإيمان مع تمام البيان. وَرُسُلِهِ ط. ثَلاثَةٌ ط خَيْراً لَكُمْ ط إِلهٌ واحِدٌ ط. وَلَدٌ ج لأن المنفي منه مطلق الولد ولو وصل أوهم أن المنفي ولد موصوف بأن له ما في السموات وما في الأرض. وَكِيلًا هْ مُقَرَّبُونَ طمِيعاً هـ. مِنْ فَضْلِهِ ج أَلِيماً هـ وَلا نَصِيراً هـ مُبِيناً هـ وَفَضْلٍ لا للعطف. مُسْتَقِيماً هـ يَسْتَفْتُونَكَ ط. الْكَلالَةِ ط ما تَرَكَ ج لأن ما بعده مبتدأ ولكن الكلام متحد البيان. لَها وَلَدٌ ط لأن جملة الشرط تعود إلى قوله: فَلَها نِصْفُ وبينهما عارض مِمَّا تَرَكَ ط لابتداء حكم جامع للصنفين. الْأُنْثَيَيْنِ ط أَنْ تَضِلُّوا ط عَلِيمٌ هـ. التفسير: لما بيّن فساد طريقة اليهود وأجاب عن شبههم عمم الخطاب فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ أي بالقرآن والقرآن معجز فيكون حقا أو بالدعوة إلى عبادة الله والإعراض عن غيره وهو الحق الذي تشهد له العقول السليمة. فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ انتصابه بمضمر وكذا في انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ لأنه لما بعثهم على الإيمان والانتهاء عن التثليث علم أنه يحملهم على أمر. فالمعنى: اقصدوا وأتوا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث وهو الإيمان والتوحيد، فإن الإيمان لا شك أنه أحمد عاقبة من الكفر بل العاقبة كلها له. وقيل: إنه منصوب على خبرية «كان» أي يكن الإيمان خيرا لكم والأول أصح لئلا يلزم الحذف من غير قرينة وَإِنْ تَكْفُرُوا فإن الله غني عنكم لأنه مالك الكل، أو هو قادر على إنزال العذاب لأن الكل تحت قهره وتسخيره، أو له عبيد أخر يعبدونه غيركم وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأحوال العباد حَكِيماً لا يضيع أجر المحسن ولا يهمل جزاء المسيء. ثم لما أجاب عن شبه اليهود خاطب النصارى ومنعهم عن الغلو في الدين وهو الإفراط في شأن المسيح إلى أن اعتقدوه إلها لا نبيا، وحثهم على أن لا يقولوا على الله إلّا الحق الذي يحق ويجب وصفه به وهو تنزيهه عن الحلول في بدن إنسان والاتحاد بروحه واتخاذه لصاحبة وولد إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ وجد بأمره من غير واسطة أب ولا نطفة أَلْقاها أي الكلمة إِلى مَرْيَمَ أي أوصلها إليها وحصلها فيها وَرُوحٌ مِنْهُ أي إنه طاهر نظيف بمنزلة الروح كما يقال: هذه نعمة من الله، أو سمي بذلك لأنه سبب حياة الأرواح أو كمالها كما سمي القرآن روحا في قوله: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] وقيل: أي رحمة منه كقوله: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 ولا شك أن وجود النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للأمة قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا رحمة مهداة» وقيل: الروح هو الريح يعني أن النفخ من جبريل كان بأمر الله تعالى فهو منه والتنكير للتعظيم أي روح من الأرواح الشريفة القدسية العالية. وقوله: مِنْهُ إضافة لذلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي آمنوا به كإيمانكم بسائر الرسل ولا تجعلوه إلها وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ هي خبر مبتدأ محذوف أي الله ثلاثة إن كان معتقدهم أن الذات جوهر واحد وأنه ثلاثة بالصفات ويسمونها الأقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس، وربما يقولون أقنوم الذات وأقنوم العلم وأقنوم الحياة، أو الآلهة ثلاثة إن كان في اعتقادهم أنها ذوات قائمة بأنفسها الأب والأم والابن. ولعل القولين مرجعهما إلى واحد لأنهم إذا جوزوا على الصفات الانتقال والحلول في عيسى وفي مريم فقد جعلوها مستقلة بأنفسها ولهذا لزم الكفر والشرك، وإلا فمجرد إثبات الصفات لله تعالى لا يوجب الشرك. فالأشاعرة أثبتوا لله تعالى ثمان صفات قدماء. انْتَهُوا عن التثليث واقصدوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ لا تركيب فيه بوجه من الوجوه سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أسبحه تسبيحا وأنزهه تنزيها من أن يكون له ولد فلا يتصل به عيسى اتصال الأبناء بالآباء ولكن من حيث إنه عبده ورسوله موجود بأمره جسدا حيا من غير أب لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فكيف يكون بعض ملكه جزءا منه على أن الجزء إنما يصح في المنقسم عقلا أو حسا، وإنه لا ينقسم بجهة من الجهات لا العقلية ولا الحسية. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا وإذا كان كافيا في تدبير المخلوقات وحفظ المحدثات فلا حاجة معه إلى القول بإثبات إله آخر مستقل أو مشارك. قال الكلبي: إن وفد نجران قالوا: يا محمد لم تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى. قال: وأي شيء أقول فيه؟ قالوا: تقول إنه عبد الله ورسوله. فقال لهم: إنه ليس بعار لعيسى أن يكون عبد الله. قالوا: بلى. فنزل نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ والتحقيق أن الشبهة التي عليها يعوّلون في دعوى أنه ابن الله هي أنه كان يخبر عن المغيبات ويأتي بخوارق العادات كإحياء الأموات فقيل لهم: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ بسبب هذا القدر من العلم والقدرة عن عبودية الله تعالى فإن الملائكة المقربين أعلى حالا منه لأنهم مطلعون على اللوح المحفوظ، وقد حمل العرش مع عظمته ثمانية منهم ثم إنهم لم يستنكفوا عن كونهم عبادا لله تعالى فكيف يستنكف المسيح عن ذلك أي يمتنع ويأنف؟ والتركيب يدور على التنحية والإزالة من ذلك نكفت الدمع أنكفه إذا نحيته عن خدك بأصبعك، ونكفت عن الشيء أي عدلت. والقائلون بأفضلية الملائكة استدلوا بهذه الآية وقد تقدم الاستدلال بها والجواب عنها والبحث عليها في سورة البقرة في تفسير قوله: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا [البقرة: 34] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 الآية. أما قوله: لَا الْمَلائِكَةُ فإنه معطوف علىْ مَسِيحُ وهو الأظهر، وجوز بعضهم عطفه على الضمير في كُونَ أو في بْداً لمعنى الوصفية فيه فيكون المعنى: أنّ المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا الملائكة موصوفين بالعبودية، أو لا يأنف أن يعبد الله هو والملائكة. وفي المعنيين انحراف عن الغرض فالأول أولى. والمراد بالملائكة كل واحد منهم حتى يكون خبره أيضابْداً أو يكون الخبر عِباداً وحذف لدلالةبْداً عليه مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ أي يجمعهم يوم القيامة إليه حيث لا يملكون لأنفسهم شيئا. ثم إنه تعالى لم يذكر ما يفعل بهم بل ذكر أولا ثواب المؤمنين المطيعين فسئل إن التفصيل غير مطابق للمفصل لأنه اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد فأجاب في الكشاف بأن هذا كقولك: جمع الإمام الخوارج فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ومن خرج عليه نكل به. فحذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه، ولأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ أو قدم ثواب المؤمنين توطئة كأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وسيعاقب مع ذلك بما يصيبهم من العذاب. أقول: لو جعل الضمير في قول: سَيَحْشُرُهُمْ راجعا إلى الناس جميعا لم يحتج إلى هذه التكلفات ويحصل الربط بسبب العموم ومثله غير عزيز في القرآن كقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30] ثم عاد إلى تعميم الخطاب بقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ الآية. فيحتمل أن يراد بالبرهان والنور كليهما القرآن، ويحتمل أن يراد بالبرهان محمد صلى الله عليه وسلم لأنه يقيم البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل وبالنور المبين القرآن لأن سبب لوقوع نور الإيمان في القلب. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه وَاعْتَصَمُوا بِهِ تمسكوا بدينه أو لجؤا إليه في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن زيغ الشيطان فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ قال ابن عباس: الرحمة الجنة، والفضل ما يتفضل عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ أي إلى عبادته صِراطاً مُسْتَقِيماً هو الدين الحنيفي والتقدير صراطا مستقيما إليه، ويحتمل أن يراد بالرحمة والفضل اللذات الحسية الباقية، وبالهداية اللذات الروحانية الدائمة. ثم إنه سبحانه ختم السورة بنحو مما بدأها به وهو أحكام المواريث فقال: يَسْتَفْتُونَكَ الآية. قال أهل العلم: إنّ الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول هذه السورة، والأخرى في الصيف وهي هذه ولهذا تسمى آية الصيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 عن جابر قال: اشتكيت فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي سبع أخوات فنفخ في وجهي فأفقت فقلت: يا رسول الله أوصي لأخواتي بالثلث. قال: أحسن. فقلت: الشطر؟ قال: أحسن. ثم خرج وتركني قال: ثم دخل فقال: يا جابر إني لا أراك تموت في وجعك هذا وإن الله قد أنزل فبيّن الذي لأخواتك وجعل لأخواتك الثلثين. وروي أنه آخر ما نزل من الأحكام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة عام حجة الوداع فأتاه جابر بن عبد الله فقال: إن لي أختا فكم آخذ من ميراثها إن ماتت؟ فنزلت. هذا وقد تقدم أن الكلالة اسم يقع على الوارث وهو من عدا الوالد والولد وعلى المورث وهو الذي لا ولد له ولا والدين. إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ارتفع امْرُؤٌ بمضمر يفسره هذا الظاهر، ومحل لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ الرفع على الصفة أي إن هلك امرؤ وغير ذي ولد. اعلم أن ظاهر الآية مطلق ولا بد فيه من تقييدات ثلاثة: الأول أن الولد مطلق والمراد به الابن لأنه هو الذي يسقط الأخت، وأما البنت فلا تسقطها ولكنها تعصبها لما روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت بأن للبنت النصف ولبنت الابن السدس والباقي للأخت. فعلى هذا فلو خلف بنتا وأختا فللبنت النصف والباقي للأخت بالعصوبة. الثاني أن ظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم يكن للميت ولد فإن الأخت تأخذ النصف وليس كذلك على الإطلاق، بل الشرط أن لا يكون للميت ولد ولا والد لأن الأخت لا ترث مع الوالد بالإجماع. الثالث قوله: وَلَهُ أُخْتٌ المراد الأخت من الأب والأم أو من الأب لأن الأخت من الأم والأخ من الأم ذكر حكمهما في أول السورة بالإجماع. ثم قال: وَهُوَ يَرِثُها أي وأخوها يرثها ويستغرق مالها إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ أي ابن كما قلنا لأن الابن يسقط الأخ دون البنت. وأيضا إن هذا في الأخ من الأبوين أو من الأب، أما الأخ من الأم فإنه لا يستغرق الميراث. وأيضا المراد إن لم يكن لها ولد ولا والد لأن الأب أيضا مسقط للأخ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر» والأب أولى من الأخ. ثم قال: فَإِنْ كانَتَا يعني من يرث بالإخوة اثْنَتَيْنِ فأنث وثنى باعتبار الخبر كقولهم من كانت أمك وكذا الكلام في قوله: وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً وأراد بالإخوة الإخوة والأخوات لكنه غلب جانب الذكورة. روي أن الصديق قال في خطبة: ألا إنّ الآيات التي أنزلها الله في سورة النساء في الفرائض أولاها في الوالد والولد، وثانيتها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والتي ختم بها السورة في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والتي ختم بها الأنفال في أولي الأرحام يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا قال البصريون: المضاف محذوف أي كراهة أن تضلوا. وقال الكوفيون: لئلا تضلوا. وقال الجرجاني صاحب النظم: يبين الله لكم الضلالة لتعلموا أنها ضلالة فتتجنبوها وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيكون بيانه حقا وتعريفه صدقا. ختم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 السورة ببيان كمال العلم كما أنه ابتدأها بكمال القدرة فبهما تتم الإلهية ويحصل الترهيب والترغيب للعاصي والمطيع والله المستعان. التأويل: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني إن تؤمنوا يكن لكم ماله وإن تكفروا فالكل له لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ لا تميلوا إلى طرفي التفريط والإفراط. فاليهود فرطوا في شأنه فلم يقبلوه نبيا وهموا بقتله، والنصارى أفرطوا في حبه فجعلوه ابن الله، وكذلك كل ولي له سبحانه يشقى قوم بترك احترامه وطلب أذيته، وقوم بالزيادة في إعظامه حتى يعتقد فيه ما ليس يرضى به كالخوارج والغلاة من الشيعة ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم» «1» . وَرُوحٌ مِنْهُ لأنه تكوّن بأمركن من غير واسطة أب كما أن الروح تكون كذلك قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] ولغلبة جانب الروحانية عليه كان يحيي الأجساد الميتة إذ ينفخ فيها وهذا الاستعداد الروحاني الذي هو من كلمة الله مركوز في جبلة الإنسان فمن تخلص جوهر روحانيته من معدن بشريته في إنسانيته يكون عيسى وقته فيحيي الله تعالى بأنفاسه القلوب الميتة ويفتح به آذانا صما وعيونا عميا فيكون في قومه كالنبي في أمته وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ يعني نفوسكم والرسول والله. بل انتهوا بنظر الوحدة عن رؤية الثلاثة فينكشف لكم إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سبحانه أن يتولد من وحدانيته شيء له الوجود الحقيقي القائم الدائم أولا وآخرا وظاهرا وباطنا كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا لكل هالك. نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ لأن العبدية وهي حقيقة الإمكان الذاتي واجبة له ولهذا نطق في المهد بقوله: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم: 30] لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ إنما ذكرهم لأن بعض الكفار كانوا يقولون الملائكة بنات الله كما قالت النصارى المسيح ابن الله. قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ جعل نفس النبي برهانا لأنه برهان بالكلية وبرهان غيره كان في أشياء غير أنفسهم مثل ما كان برهان موسى في عصاه. فمن ذلك برهان بصره ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] ومنه برهان أنفه «إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن» «2» ومنه برهان لسانه وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] وبرهان بصاقه بصق في العجين وفي البرمة فأكلوا من ذلك وهم ألف حتى تركوه والبرمة تفور كما هي والعجين يخبز. وبرهان تفله تفل في عين علي كرم الله وجهه وهي ترمد فبرأ بإذن الله وذلك يوم خيبر، وبرهان يده وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 48. الدارمي في كتاب الرقاق باب 68. أحمد في مسنده (1/ 23، 24، 47) . (2) رواه أحمد في مسنده (2/ 541) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 [الأنفال: 17] وسبح الحصى في يده، وبرهان أصبعه أشار بها إلى القمر فانشق فلقتين، وقد جرى الماء من بين أصابعه حتى شرب ورفع منه خلق كثير، وبرهان صدره كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل. أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] وبرهان قلبه «تنام عيناي ولا ينام قلبي» «1» نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: 193] وبرهان كله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] اللهم ارزقنا الاقتناص من هذا البرهان والاقتباس من أنوار القرآن إنك أنت الرؤوف المنان.   (1) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 79. أحمد في مسنده (5/ 40) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 (سورة المائدة) (مائة وعشرون آية) وهي مدنية غير آية نزلت عشية عرفة اليوم أكملت لكم دينكم حروفها أحد عشر ألفا وسبعمائة وثلاثة وثلاثون وكلماتها ألفان وثمانمائة وأربع [سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 القراآت: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ بالنون الخفيفة: روي عن رويس. الباقون مثقلة. شَنَآنُ في الموضعين بسكون النون: ابن عامر وإسماعيل وأبوبكر وحماد ويزيد من طريق ابن وردان. الباقون بالفتح. أَنْ صَدُّوكُمْ بكسر الهمز: ابن كثير أبو عمرو. الباقون بالفتح. وَلا تَعاوَنُوا بتشديد التاء: البزي وابن فليح. الْمَيْتَةُ وفَمَنِ اضْطُرَّ كما مر في البقرة. وَاخْشَوْنِي بالياء في الوقف: سهل ويعقوب. وَأَرْجُلَكُمْ بالنصب: ابن عامر ونافع وعلي والمفضل وحفص ويعقوب والأعشى في اختياره. الباقون بالجر. الوقوف: بِالْعُقُودِ ط لاستئناف الفعل. حُرُمٌ ط ما يُرِيدُ هـ وَرِضْواناً ط فَاصْطادُوا ط لابتداء نهي أن تعتدوا لئلّا يتوهم العطف وحذف التاء من تعاونوا. وَالتَّقْوى ص لعطف المتفقتين. وَالْعُدْوانِ ص كذلك وَاتَّقُوا اللَّهَ ط شَدِيدُ الْعِقابِ هـ بِالْأَزْلامِ ط فِسْقٌ ط وَاخْشَوْنِي ط دِيناً ط لأنّ الشرط من تمام التحريم لا مما يليه. لِإِثْمٍ لا لأن ما بعده جزاء. رَحِيمٌ هـ أُحِلَّ لَهُمْ ط فصلا بين السؤال والجواب. الطَّيِّباتُ ط للعطف أي وصيد ما علمتم. مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ز لفاء التعقيب مع عطف المختلفين. عَلَيْهِ ص وَاتَّقُوا اللَّهَ ط الْحِسابِ هـ الطَّيِّباتُ ط لأن ما بعده مبتدأ. لَكُمُ ص لعطف المتفقتين. لَهُمْ ز لأن قوله: وَالْمُحْصَناتُ عطف على وَطَعامُ الَّذِينَ لا على ما يليه. أَخْدانٍ ط عَمَلُهُ ز لعطف المختلفين مع أن ما بعده من تمام جزاء الكفر معنى. الْخاسِرِينَ هـ الْكَعْبَيْنِ ط لابتداء حكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 فَاطَّهَّرُوا ط كذلك. وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ط تَشْكُرُونَ هـ واثَقَكُمْ بِهِ لا لأن «إذ» ظرف المواثقة. وَأَطَعْنا ز لعطف المتفقتين مع وقوع العارض. وَاتَّقُوا اللَّهَ ط الصُّدُورِ هـ بِالْقِسْطِ ز لعطف المتفقتين مع زيادة نون التأكيد المؤذن بالاستئناف. أَلَّا تَعْدِلُوا ط للاستئناف. اعْدِلُوا ج وقفة لطيفة لأن الضمير مبتدأ مع شدة اتصال المعنى. لِلتَّقْوى ز وَاتَّقُوا اللَّهَ ط بِما تَعْمَلُونَ هـ الصَّالِحاتِ لا لأن ما بعده مفعول الوعد أي أن لهم. عَظِيمٌ هـ الْجَحِيمِ هـ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ج لاعتراض الظرف بين المتفقين. وَاتَّقُوا اللَّهَ ط الْمُؤْمِنُونَ هـ. التفسير: وفي بالعهد وأوفى به بمعنى. والعقد وصل الشيء بالشيء على سبيل الاستيثاق والإحكام والعهد وإلزام مع إحكام. والمقصود من الإيفاء بالعقود أداء تكاليفه فعلا وتركا. والتحقيق أن الإيمان معرفة الله بذاته وصفاته وأحكامه وأفعاله فكأنه قيل: يا أيها الذين التزمتم بأيمانكم أنواع العقود أوفوا بها. ومعنى تسمية التكاليف عقودا أنها مربوطة بالعباد كما يربط الشيء بالشيء بالحبل الموثق. قال الشافعي: إذا نذر صوم يوم العيد أو نذر ذبح الولد لغا لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نذر في معصية الله» «1» . وقال أبو حنيفة: يجب عليه الصوم والذبح لقوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غايته أنه لغا هذا النذر في خصوص كون الصوم واقعا في يوم العيد وفي خصوص كون الذبح في الولد. وقال أيضا خيار المجلس غير ثابت لقوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وخصص الشافعي عموم الآية بقوله: صلى الله عليه وسلم: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» . وقال أبو حنيفة: الجمع بين الطلقات حرام لأن النكاح من العقود بدليل: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ [البقرة: 235] وقال: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ترك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع فيبقى سائرها على الأصل. والشافعي خصص هذا العموم بالقياس وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ وقد نفذ فلا يحرم. ثم إنه سبحانه لما مهد القاعدة الكلية ذكر ما يندرج تحتها فقال: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ والبهيمة كل حي لا عقل له من قولهم: استبهم الأمر إذا أشكل. وهذا باب مبهم أي مسدود. ثم خص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر. والأنعام هي: المال الراعية من الإبل والبقر والغنم. قال الواحدي: ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء، وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان مثل: خاتم فضة بتقدير من. وفائدة زيادة لفظ البهيمة مع صحة ما لو قيل أحلت لكم الأنعام كما قال في سورة الحج هي فائدة   (1) رواه النسائي في كتاب الأيمان باب 41. أحمد في مسنده (4/ 433) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 الإجمال ثم التبيين. وإنما وحد البهيمة لأنها اسم جمع يشمل أفرادها. وجمع الأنعام لأن النعم مفردا يقع في الأكثر على الإبل وحدها. وقيل: المراد بالبهيمة شيء وبالأنعام شيء آخر وعلى هذا ففيه وجهان: أحدهما أن البهيمة الظباء وبقرة الوحش ونحوها كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه. الثاني أنها الأجنة. عن ابن عباس أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين فأخذ ابن عباس بذنبها وقال: هذه بهيمة الأنعام. وعن ابن عمر أنها أجنة الأنعام وذكاته ذكاة أمه، قالت الثنوية: ذبح الحيوانات إيلام والإيلام قبيح وخصوصا إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى حيث لا يقدر أن يدفع عن نفسه ولم يكن له لسان يحتج على من يقصد إيلامه، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم فلا يكون الذبح مباحا حلالا، فلقوة هذه الشبهة زعم البكرية من المسلمين أنه تعالى يدفع ألم الذبح عن الحيوانات. وقالت المعتزلة: إن الإيلام إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقا بجناية ولا ملحوقا بعوض، وهاهنا يعوض الله سبحانه وتعالى هذه الحيوانات بأعواض شريفة فلا يكون ظلما وقبيحا كالفصد والحجامة لطلب الصحة وقالت الأشاعرة: الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه فلا اعتراض عليه ولذا قال: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ قال بعضهم: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ مجمل لاحتمال أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو بالكل. والجواب أن الإحلال لا يضاف إلى الذات فتعين إضمار الانتفاع بالبهيمة فيشمل أقسام الانتفاع. على أن قوله: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ [النحل: 5] يدل على الانتفاع بها من كل الوجوه، إلّا أنه ألحق بالآية نوعين من الاستثناء الأول قوله: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي إلّا محرم ما يتلى عليكم أو إلّا ما يتلى عليكم آية تحريمه. وأجمع المفسرون على أن الآية قوله بعد ذلك: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ. والثاني قوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي داخلون في الحرم أو في الإحرام. قال الجوهري: رجل حرام أي محرم والجمع حرم مثل قذال وقذل. وقيل: مفرد يستوي فيه الواحد والجمع كما يقال قوم جنب، وانتصاب: غَيْرَ مُحِلِّي على الحال من الضمير في: لَكُمْ أي أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الصيد في حالة الإحرام وفي الحرم. ثم كان لقائل أن يقول: ما السبب في إباحة الأنعام في جميع الأحوال وإباحة الصيد في بعض الأحوال؟ فقيل: إن الله يحكم ما يريد فليس لأحد اعتراض على حكمه ولا سؤال بلم وكيف. ثم أكد النهي عن مخالفة تكاليفه بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الأكثرون على أنها جمع شعيرة: «فعيلة» بمعنى: «مفعلة» . وقال ابن فارس: واحدها شعارة. ثم المفسرون اختلفوا على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 قولين: أحدهما أنها عامة في جميع تكاليفه ومنه قول الحسن: شعائر الله دين الله. والثاني أنها شيء خاص من التكاليف. ثم قيل: المراد لا تحلوا ما حرم الله عليكم في حال إحرامكم من الصيد. وقيل: الأفعال التي هي علامات الحج التي يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر. وقال الفراء: كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من شعائر الحج فنهوا عن ترك السعي بينهما. وقال أبو عبيدة: الشعائر الهدايا التي تطعن في سنامها وتقلد ليعلم أنها هدي. وقال ابن عباس: إن الحطم واسمه شريح بن ضبيعة الكندي أتى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمامة إلى المدينة فخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إلام تدعو الناس؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. فقال: حسن إلّا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم، ولعلي أسلم وآتي بهم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ثم خرج من عنده. فلما خرج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبى غادر وما الرجل بمسلم. فمرّ بسرح المدينة فاستاقه فطلبوه فعجزوا عنه، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرة القضاء سمع تلبية حجاج اليمامة فقال لأصحابه: هذا الحطم وأصحابه وكان قد قلد ما نهب من سرح المدينة وأهداه إلى الكعبة، فلما توجهوا في طلبه أنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ يريد ما أشعر لله وإن كانوا على غير دين الإسلام. وقال زيد بن أسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حين صدهم المشركون وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء عن البيت كما صدنا أصحابهم؟ فأنزل الله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أي قوما قاصدين إياه. والمعنى لا تعتدوا على هؤلاء العمار لأن صدكم أصحابهم فالشهر الحرام شهر الحج أعني ذا الحجة، أو المراد رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وعبر عنها بلفظ الواحد اكتفاء باسم الجنس، أي لا تحلوا القتال في هذه الأشهر. والهدي ما أهدى إلى البيت وتقرب به إلى الله من النسائك جمع هدية. والقلائد جمع قلادة وهي ما قلد به الهدي من نعل أو عروة مزادة أو لحاء شجر الحرم. والمراد لا تحلوا ذوات القلائد من الهدي أفرد للاختصاص بالفضل مثل وجبريل وميكال. ويحتمل أنه نهي عن التعرض للقلائد ليلزم النهي عن ذوات القلائد بالطريق الأولى كقوله: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور: 31] فإنه نهي عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها. وللمفسرين خلاف في الآية فذهب كثير منهم كابن عباس ومجاهد والحسن والشعبي وقتادة أنها منسوخة، وذلك أن المسلمين والمشركين كانوا يحجون جميعا فنهى المسلمون أن يمنعوا أحدا عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 حج البيت بقوله: لا تُحِلُّوا ثم نزل بعد ذلك: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ [التوبة: 17] وهؤلاء فسروا ابتغاء الفضل بالتجارة، وابتغاء الرضوان بأن المشركين كانوا يظنون في أنفسهم أنهم على شيء من الدين وأن الحج يقرّبهم إلى الله فوصفهم الله بظنهم. وقال الآخرون: إنها محكمة وإنه تعالى أمرنا أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين بدليل قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ أي ثوابا وَرِضْواناً وأن يرضى عنهم وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر. وقال أبو مسلم: المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الخطر. وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ظاهر الأمر للوجوب إلّا أنه يفيد هاهنا الإباحة لأنه لما كان المانع من حل الاصطياد هو الإحرام لقوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فإذا زال الإحرام رجع إلى أصل الإباحة وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ معطوف على لا تُحِلُّوا وجرم بمعنى كسب من حيث المعنى ومن حيث تعديه إلى مفعول واحد تارة وإلى مفعولين أخرى. تقول: جرم ذنبا نحو كسبه وجرمته ذنبا نحو كسبته إياه وهذا هو المذكور في الآية. الشنآن بالتحريك والتسكين مصدر شنأته أشنؤه وكلاهما شاذ فالتحريك شاذ في المعنى لأن فعلان من بناء الحركة والاضطراب كالضربان والخفقان. والتسكين شاذ في اللفظ لأنه لم يجىء شيء من المصادر عليه قاله الجوهري. ومعنى الآية لا يكسبنكم بغض قوم الاعتداء أو لا يحملنكم بغضهم على الاعتداء. وقوله: أَنْ صَدُّوكُمْ من قرأ بكسر الهمزة فهو شرط وجوابه ما يدل عليه لا يَجْرِمَنَّكُمْ، ومن قرأ بفتح «أن» فمعناه التعليل أي لأن صدوكم. قيل: هذه القراءة أولى لأن المراد منع أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة والسورة نزلت بعد الحديبية. وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى على العفو والإغضاء أو على كل ما يعدّ برا وتقوى. وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ على الانتقام والتشفي أو على كل ما يورث الإثم والتجاوز عن الحد. والحاصل أن الباطل والإثم لا يصلح لأن يقتدى به ويعان عليه وإنما اللائق بالاقتداء به والتعاون عليه هو الخير والبر وما فيه تقوى الله سبحانه وتعالى. ثم بالغ في هذا المعنى بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في استحلال محارمه. إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. ثم شرع في تفصيل الاستثناء الموعود تلاوته في قوله: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الآية. والمجموع المستثنى أحد عشر نوعا: الأول الميتة كانوا يقولون إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله. قالت العقلاء: الحكمة في تحريم الميتة أن الدم جوهر لطيف فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفن فيحصل من أكله مضار كثيرة. الثاني الدم كانوا يأكلون الفصيد وهو دم كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 يجعل في معىّ من فصد عرق ثم يشوى فيطعمه الضيف في الأزمة ومنه المثل: «لم يحرم من فصد له» أي فصد له البعير وربما يقال: «من فزد له» . الثالث لحم الخنزير. قالت العلماء: الغذاء يصير جزءا من جوهر المغتذي ولا بد أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلا في الغذاء، والخنزير مطبوع على الحرص والشره فحرم أكله لئلا يتكيف الإنسان بكيفيته. وأما الغنم فإنها في غاية السلامة وكأنها عارية عن جميع الأخلاق فلا تتغير من أكلها أحوال الإنسان. والرابع: ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ والإهلال رفع الصوت وكانوا يقولون عند الذبح باسم اللات والعزى وقد مر في سورة البقرة سائر ما يتعلق بهذه الأنواع الأربعة فليرجع إليها. الخامس المنخنقة كانوا في الجاهلية يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها. وقد تنخنق بحبل الصائد وقد يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتنخنق فتموت، وبالجملة فبأي وجه انخنقت فهي حرام. السادس الموقوذة وهي المقتولة بالخشب. وقذها إذا ضربها حتى ماتت ومنها ما رمي بالبندق فمات. السابع المتردية التي تقع في الردى وهو الهلاك، وتردى إذا وقع في بئر أو سقط من موضع مرتفع ويدخل فيه ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم أن زهوق روحه بالتردي أو بالسهم. الثامن النطيحة التي نطحتها أخرى فماتت بسببه، ولا يخفى أن هذه الأقسام الأربعة داخلة في الميتة دخول الخاص في العام فأفردت بالذكر لمزيد البيان. والهاء في المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة لأنها صفات الشاة بناء على أغلب ما يأكله الناس وإلّا فالحكم عام. وإنما أنث النطيحة مع أن «فعيلا» بمعنى «مفعول» لا يدخله الهاء كقولهم: كف خضيب، ولحية دهين، وعين كحيل. لأن الموصوف غير مذكور. تقول: مررت بامرأة قتيل فلان فإذا حذفت الموصوف قلت: بقتيلة فلان لئلّا يقع الاشتباه. التاسع ما أكل السبع وهو اسم يقع على ما له ناب ويعدو على الإنسان ويفترس الحيوان كالأسد وما دونه. قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي فحرمه الله وفي الآية حذف التقدير: وما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع فقد نفد ولا حكم له وإنما الحكم للباقي. قوله: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ الذكاء في اللغة تمام الشيء ومنه الذكاء في الفهم وفي السن التمام فيها، والمذاكي الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان، وتذكية النار رفعها وقوّة اشتعالها، والتذكية كمال الذبح. أما المستثنى منه فعن علي وابن عباس والحسن وقتادة أنه جميع ما تقدم من قوله: وَالْمُنْخَنِقَةُ إلى قوله: وَما أَكَلَ السَّبُعُ والمعنى أنك إن أدركت ذكاته بأن وجدت له عينا تطرف أو ذنبا يتحرك أو رجلا تركض فاذبح فهو حلال لأن ذلك دليل الحياة المستقرة. وقيل: إنه مختص بقوله: وَما أَكَلَ السَّبُعُ. وقيل: إنه استثناء منقطع من المحرمات كأنه قيل: لكن ما ذكيتم من غير هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 فهو حلال، أو من التحريم أي حرم عليكم ما مضى إلّا ما ذكيتم فإنه لكم حلال. العاشر ما ذبح على النصب وهو مفرد وجمعه أنصاب كطنب وأطناب وهو كل ما نصب فعبد من دون الله قاله الجوهري. وضعف بأنه حينئذ يكون كالتكرار لقوله: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وقال ابن جريج: النصب ليست بأصنام فإن الأصنام أحجار مصوّرة منقوشة، وهذه النصب أحجار كانوا ينصبونها حول الكعبة وكانوا يذبحون عندها للأصنام وكانوا يلطخونها بتلك الدماء ويشرحون اللحوم عليها، فالمراد ما ذبح على اعتقاد تعظيم النصب، ويحتمل أن يكون الذبح للأصنام واقعا عليها. وقيل: النصب جمع إما لنصاب كحمر وحمار أو لنصب كسقف وسقف. الحادي عشر ما أبدعه أهل الجاهلية وإن لم يكن من جملة المطاعم أي حرم عليكم بأن تستقسموا بالأزلام، وإنما ذكر مع الذبح على النصب لأنهم كانوا يفعلون كلا منهما عند البيت كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو أمرا آخر من معاظم الأمور ضرب القداح وكانوا قد كتبوا على بعضها: «أمرني ربي» وعلى بعضها: «نهاني ربي» وتركوا بعضها غفلا أي خاليا عن الكتابة. فإن خرج الأمر أقدم على الفعل، وإن خرج النهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاد العمل. فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح. وقال كثير من أهل اللغة: الاستقسام هاهنا هو الميسر المنهي عنه. والأزلام قداح الميسر والتركيب يدور على التسوية والإجادة. يقال: ما أحسن مازلم سهمه أي سوّاه ورجل مزلم إذا كان مخفف الهيئة وامرأة مزلمة إذا لم تكن طويلة. ذلِكُمْ فِسْقٌ إشارة إلى جميع ما تقدم من المحرمات أي تناولها فسق، ويحتمل أن يرجع إلى الاستقسام بالأزلام فقط. وكونه فسقا بمعنى الميسر ظاهر، وأما بمعنى طلب الخير والشر فوجهه أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم ويعتقدون أن ما خرج من الأمر أو النهي هو إرشاد الأصنام وإعانتها فلذلك كان فسقا وكفرا. وقال الواحدي: إنما حرم لأنه طلب معرفة الغيب وأنه تعالى مختص بمعرفته، وضعف بأن طلب الظن بالأمارات المتعارفة غير منهي كالتعبير والفأل وكما يدعيه أصحاب الكرامات والفراسات. ثم إنه سبحانه حرض على التمسك بما شرع فقال: الْيَوْمَ يَئِسَ قيل: ليس المراد يوما بعينه وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الماضية والآتية كقولك: كنت بالأمس شابا وأنت اليوم شيخ. وقيل: المراد يوم معين وذلك أنها نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر والنبي صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته العضباء. وعن ابن عباس أنه قرأ الآية ومعه يهودي فقال اليهودي: لو نزلت علينا في يوم لاتخذناه عيدا. فقال ابن عباس: إنها نزلت في عيدين اتفقا في يوم واحد في يوم جمعة وافق يوم عرفة أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 يئسوا من أن يحللوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله تعالى محرمة أو يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم لأنه حقق وعده بإظهار هذا الدين على سائر الأديان فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ أخلصوا إلى الخشية. قيل: في الآية دليل على أن التقية جائزة عند الخوف لأنه علل إظهار هذه الشرائع بزوال الخوف من الكفار. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ سئل هاهنا إنه يلزم منه أن الدين كان ناقصا قبل ذلك، وكيف يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مواظبا على الدين الناقص أكثر عمره؟ وأجيب بأنه كقول الملك إذا استولى على عدوه: اليوم كمل ملكنا. وزيف بأنّ السؤال بعد باق لأنّ ملك ذلك الملك لا بد أن يكون قبل قهر العدوّ ناقصا. وقيل: المراد إني أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكاليفكم من تعليم الحلال والحرام وقوانين القياس وأصول الاجتهاد، وضعف بأنه يلزم أن لا يكمل لهم قبل ذلك اليوم ما كانوا محتاجين إليه من الشرائع، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز. والمختار في الجواب أن الدين كان أبدا كاملا بمعنى أنّ الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت- ناسخة أو منسوخة أو مجملة أو مبينة أو غير ذلك- كافية بحسب ذلك الوقت وفي آخر زمان البعثة حكم ببقاء الأحكام على حالها من غير نسخ وزيادة ونقص إلى يوم القيامة. قال نفاة القياس: إكمال الدين أن يكون حكم كل واقعة منصوصا عليه فلا فائدة في القياس. وأجيب بأن إكماله هو جعل النصوص بحيث يمكن استنباط أحكام نظائرها منها. قالوا: تمكين كل أحد أن يحكم بما غلب على ظنه لا يكون إكمالا للدين وإنما يكون إلقاء للناس في ورطة الظنون والأوهام. وأجيب بأنه إذا كان تكليف كل مجتهد أن يعمل بمقتضى ظنه كان كل مجتهد قاطعا بأنه عامل بحكم الله. روي أنه لما نزلت الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فرح الصحابة وأظهروا السرور إلّا أكابرهم كأبي بكر الصدّيق وغيره فإنهم حزنوا وقالوا: ليس بعد الكمال إلّا الزوال. وكان كما ظنوا فإنه لم يعمر بعدها إلّا أحدا وثمانين يوما أو اثنين وثمانين يوما ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا نقص. قال العلماء: كان ذلك جاريا مجرى إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن قرب وفاته وذلك إخبار بالغيب فيكون معجزا. واحتجت الأشاعرة بالآية على أن الدين- سواء قيل إنه العمل أو المعرفة أو مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل- لا يحصل إلّا بخلق الله وإيجاده فإنه لن يكون إكمال الدين منه إلّا وأصله منه. والمعتزلة حملوا ذلك على إكمال بيان الدين وإظهار الشرائع. ثم قال: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي أي بذلك الإكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام، أو نعمتي بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين وَرَضِيتُ أي اخترت لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً نصب على الحال أو مفعول ثان إن ضمن رضيت معنى صيرت. واعلم أن قوله: ذلِكُمْ فِسْقٌ إلى هاهنا اعتراض أكد به معنى التحريم لأنّ تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة واختيار دين الإسلام للناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 من بين سائر الأديان. ثم بين الرخصة بقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ أي في مجاعة وأصل الخمص ضمور البطن غَيْرَ مُتَجانِفٍ منصوب باضطرّ أو بمضمر أي فتناول غير منحرف إلى إثم بأن يأكل فوق الشبع أو عاصيا بسفره، وقد مرّ القول في هذه الرخصة مستوفي في سورة البقرة. يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ كأنهم حين تلي عليهم ما حرّم عليهم من خبيثات المآكل سألوا عما أحل لهم والسؤال في معنى القول. وإنما لم يقل ماذا أحل لنا على حكاية قولهم نظرا إلى ضمير الغائب في: يَسْئَلُونَكَ ومثل هذا يجوز فيه الوجهان. تقول: أقسم زيد ليفعلن أو لأفعلن. أما سبب النزول فعن أبي رافع أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له فلم يدخل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جبريل: إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة. فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو. قال أبو رافع: فأمرني أن لا أدع بالمدينة كلبا إلّا قتلته حتى بلغت العوالي فإذا امرأة عندها كلب يحرسها فرحمتها فتركته فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني بقتله، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاء ناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي تقتلها فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن نزلت هذه الآية. فأمر بقتل الكلب الكلب والعقور وما يضر ويؤذي وأذن في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها. وقال سعيد بن جبير: نزلت في عدي بن حاتم وزيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير حين قالا: يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة وإنها تأخذ البقر والحمر والظباء والضب فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما نقتل فلا ندرك وقد حرّم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزل: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أي ما ليس بخبيث منها وهو ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد، أو أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى عند أهل المروءة والأخلاق الجميلة، واعلم أن الأصل في الأعيان الحل لأنها خلقت لمنافع العباد هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] واستثنى من ذلك أصول: الأوّل: تنصيص الكتاب على تحريمه كالميتة والدم وغيرهما. الثاني: تنصيص السنة كما روي عن جمع من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام خيبر عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية والبغال كالحمير. ولا تحرم الخيل عند الشافعي لما روي عن جابر أنه قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل. الثالث: ما هو في معنى المنصوص كالنبيذ فإنه مسكر كالخمر فيشاركها في التحريم. الرابع: كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور وقد مر معنى السبع عن قريب فلا يحل بموجب هذا الأصل الكلب والأسد والذئب والنمر والفهد والدب والببر والقرد والفيل لأنها تعدو بأنيابها، ولا يحل من الطيور البازي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 والشاهين والصقر والعقاب وجميع جوارح الطير. الخامس: ما أمر بقتله من الحيوانات فهو حرام لأنّ الأمر بقتله إسقاط لحرمته ومنع من اقتنائه. ولو كان مأكولا لجاز اقتناؤه للتسمين وإعداده للأكل وقت الحاجة. ومنه الفواسق الخمس. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والفأرة والغراب الأبقع والكلب والحدأة» . «1» السادس ما ورد النهي عن قتله فهو حرام لأنه لو كان مأكولا لجاز ذبحه ليؤكل كما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الخطاطيف، وكذا الصرد والنملة والنحلة والهدهد والخفاش. السابع: الاستطابة والاستخباث لقوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ قال العلماء: فيبعد الرجوع إلى طبقات الناس وتنزيل كل قوم على ما يستطيبون ويستخبثون لأن ذلك يوجب اختلاف الأحكام في الحل والحرمة وذلك يخالف موضوع الشرع. فالعرب أولى أمة بالاعتبار لأنّ الدين عربي وهم المخاطبون أوّلا وليس لهم ترفه وتنعم يورث تضييق المطاعم على الناس، ولكن المعتبر استطابة سكان القرى والبلاد دون أجلاف البوادي الذين لا تمييز لهم. وأيضا يعتبر أصحاب اليسار والترفه دون أصحاب الضرورات والحاجات. وأيضا المعتبر حال الخصب والرفاهية دون حال الجدب والشدة. والحشرات بأسرها مستخبثة كالذباب والخنفساء والجعلان وحمار قبان إلّا الضب فإنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا آكله ولا أحرمه» . ومن الأصول أنه لا يجوز أكل الأعيان النجسة في حال الاختيار وكذا أكل الطاهر إذا نجس بملاقاة النجاسة كالدهن والسمن الذائب والدبس والخل. ومن الأصول الكسب بمخامرة النجاسة ولكن كسب الحجام حلال عند الشافعي، ومن الأصول ما يضر كالزجاج والسم والنبات المسكر أو المجنن. قوله سبحانه: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ معناه أحل لكم صيد ما علمتم على حذف المضاف لدلالة فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ويجوز أن تكون «ما» شرطية والجزاء فَكُلُوا وعلى هذا يجوز الوقف على الطَّيِّباتُ. والجوارح الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والبازي والصقر. قال تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: 6] أي كسبتم. وجوّز بعضهم أن يكون من الجراحة. وقال: ما أخذ من الصيد فلم يسل منه دم لم يحل. وانتصاب مُكَلِّبِينَ على الحال من عَلَّمْتُمْ. وفائدة هذه الحال مع الاستغناء عنها ب عَلَّمْتُمْ أن معلم الجوارح ينبغي أن يكون ماهرا في علمه مدربا فيه موصوفا بالتكليب. نقل عن ابن عمر والضحاك والسدي أن ما صادها غير الكلاب فلم يدرك   (1) رواه مسلم في كتاب الحج حديث 67، 68، 69. النسائي في كتاب المناسك باب 113، 114. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 91. الموطأ في كتاب الحج حديث 90. أحمد في مسنده (6/ 23، 87، 261) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 ذكاته لم يجز أكله لأنّ قوله: مُكَلِّبِينَ يدل على كون هذا الحكم مخصوصا بالكلب. والجمهور على أنّ الجوارح يدخل فيه ما يمكن الاصطياد به من السباع. قالوا: المكلب مؤدب الجوارح ورائضها لأنّ تصطاد لصاحبها وإنما اشتق من الكلب لكثرة هذا المعنى في جنسه، أو لأنّ كل سبع يسمى كلبا كقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك فأكله الأسد» . أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة. يقال: فلان كلب بكذا إذا كان حريصا عليه. وهب أن المذكور في الآية إباحة الصيد بالكلب لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره لجواز الاصطياد بالرمي وبالشبكة ونحوها مع سكوت الآية عنها. تُعَلِّمُونَهُنَّ حال ثانية أو استئناف مما علمكم الله من علم التكليب لأنّ بعضه إلهام من الله أو مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره. واعلم أنه يعتبر في صيرورة الكلب معلما أمور منها: أن ينزجر بزجر صاحبه في ابتداء الأمر وكذا إذا انطلق واشتد عدوه وحدّته، يشترط أن ينزجر بزجره أيضا على الأشبه فيه يظهر التأدب. ومنها أن يسترسل بإرسال صاحبه أي إذا أغري بالصيد هاج. ومنها أن يمسك الصيد لقوله: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وفي هذا اعتبار وصفين: أحدهما أن يحفظه ولا يخليه، والثاني أن لا يأكل منه لقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: فإن أكل فلا تأكل منه فإنما أمسكه على نفسه. وجوارح الطير يشترط فيها أن تهيج عند الإغراء وأن تترك الأكل ولكن لا مطمع في انزجارها بعد الطيران. ويشترط عند الشافعي تكرر هذه الأمور بحيث يغلب على الظن تأدب الجارحة بها وأقله ثلاث مرات. ولم يقدر الأكثرون عدد المرات كأنهم رأوا العرف مضطربا، وطباع الجوارح مختلفة فيرجع إلى أهل الخبرة بطباعها. وعن سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة أنه يحل وإن أكل فعندهم الإمساك هو أن يحفظه ولا يتركه. ومعنى الآية كلوا مما تبقي لكم الجوارح وإن كان بعد أكلها منه. و «من» في مِمَّا أَمْسَكْنَ قيل زائدة نحو كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ [الأنعام: 141] وقيل مفيدة وذلك أن بعض الصيد لا يؤكل كالعظم والدم والريش. وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني: يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب. والفرق أن تأديب الكلب بالضرب على الأكل ممكن وتأديب الطير غير ممكن. ولا خلاف أنه إذا كانت الجارحة معلمة ثم تصيد صيدا وجرحته وقتلته وأدركه الصائد ميتا فهو حلال، وجرح الجارحة كالذبح وإن قتلته بالفم من غير جرح ففي حله خلاف. أما قوله سبحانه: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فالضمير إما أن يعود إلى مِمَّا أَمْسَكْنَ أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاته، أو إلى ما عَلَّمْتُمْ أي سموا عليه عند إرساله أو إلى الأكل، وعلى هذا فلا كلام. وعلى الأول فالتسمية محمولة على الندب عند الشافعي، وعلى الوجوب عند أبي حنيفة وسيجيء تمام المسألة في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ فائدة الإعادة أن يعلم بقاء هذا الحكم عند إكمال الدين واستقراره وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ الأكثرون على أنّ المراد بالطعام الذبائح لأنّ ما قبل الآية في بيان الصيد والذبائح ولأنّ ما سوى الصيد والذبائح محللة قبل إن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة. وعن بعض أئمة الزيدية أن المراد هو الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة. وقيل: إنه جميع المطعومات. وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي يحل لكم أن تطعموهم من طعامكم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله تعالى إطعامهم من ذبائحنا. وأيضا فالفائدة في ذكره أن يعلم أن إباحة الذبائح حاصلة في الجانبين وليست كإباحة المناكحة فإنها غير حاصلة في الجانبين وَالْمُحْصَناتُ الحرائر أو العفائف من المؤمنات، وعلى الثاني يدخل فيه نكاح الإماء. وقد يرجح الأول بأنه تعالى قال: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ومهر الإماء لا يدفع إليهن بل إلى ساداتهن، وبأن نكاح المحصنات هاهنا مطلق ونكاح الأمة مشروط بعدم طول الحرة وخشية العنت، وبأن تخصيص العفائف بالحل يدل ظاهرا على تحريم نكاح الزانية، وقد ثبت أنه غير محرم. ولو حملنا المحصنات على الحرائر لزم تحريم نكاح الأمة ونحن نقول به على بعض التقديرات، وبأن وصف التحصين في حق الحرة أكثر ثبوتا منه في حق الأمة لأنّ الأمة لا تخلو من البروز للرجال وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ احتج بها كثير من الفقهاء في أنه لا يحل نكاح الكتابية إلّا إذا دانت بالتوراة والإنجيل قبل نزول الفرقان، لأنّ قوله: مِنْ قَبْلِكُمْ ينافي من دان بهما بعد نزوله. وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات أصلا متمسكا بقوله تعالى وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: 221] ويقول: لا أعلم شركا أعظم من قولها إن ربها عيسى. وأوّل الآية بأنّ المراد التي آمنت منهن. فمن المحتمل أن يخطر ببال أحد أن الكتابية، إذا آمنت هل يحل للمسلم التزوج بها أم لا؟ وعن عطاء أن الرخصة كانت مختصة بذلك الوقت لأنه كان في المسلمات قلة ولأن الاحتراز عن مخالطة الكفار واجب. لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران: 118] وأي خلطة أشد من الزوجية وقد يحدث ولد ويميل إلى دين الأم. وقال سعيد بن المسيب والحسن: الكتابيات تشمل الذميات والحربيات فيجوز التزوج بكلهن. وأكثر الفقهاء على أنّ ذلك مخصوص بالذمية فقط وهو مذهب ابن عباس فإنه قال: من أعطى الجزية حل ومن لم يعط لم يحل لقوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ [التوبة: 29] واتفقوا على أن المجوس قد سنّ بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فيه أن من تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقا كان كالزاني. والزنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 ضربان: سفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان، واتخاذ خدن وهو على سبيل الإسرار فحرمهما الله تعالى في الآية وأحلّ التمتع بهن على سبيل الإحصان وهو التزوج بالشروط والأركان. ثم حث على التزام التكاليف المذكورة بقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي بشرائع الله وتكاليفه التي هي من نتائج الإيمان بالله ورسوله. وقال ابن عباس ومجاهد: معناه ومن يكفر برب الإيمان أي بالله. وقال قتادة: ومن يكفر بالقرآن الذي أنزل فيه هذه التكاليف التي لا بد منها في الإيمان فقد خاب وخسر. وفيه أن أهل الكتاب وإن حصلت لهم فضيلة المناكحة وإباحة الذبائح في الدنيا إلّا أن ذلك لا يفيدهم في الآخرة لأنّ كل من كفر بالله فقد حبط عمله في الدنيا ولم يصل إلى شيء من السعادات في الآخرة البتة. واعلم أنّ القائلين بالإحباط فسروا قوله: فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ بأنّ عقاب كفره يزيل ما كان حاصلا له من ثواب أعماله. ومنكروا الإحباط قالوا: إنّ عمله الذي أتى به بعد ذلك الإيمان قد بان أنه لم يكن معتدا به وكان ضائعا في نفسه. ثم إنه سبحانه لما افتتح السورة بطلب الوفاء بالعقود فكأن قائلا قال: عهد الربوبية منك وعهد العبودية منا وأنت أولى بتقديم الوفاء بعهد الربوبية فأجاب الله تعالى نعم أنا أوفى بعهد الربوبية والكرم، ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين: لذات المطعم ولذات المنكح فبيّن الحلال والحرام من المطاعم والمناكح، وقدم المطعوم على المنكوح لأنه أهم. وعند تمام هذا البيان كأنه قال: قد وفيت بعهد الربوبية فاشتغل أيها العبد بوظائف العبودية ولا سيما بالصلاة التي هي أعظم الطاعات وبمقدماتها. ونبني تفسير الآية على مسائل: الأولى ليس المراد بقوله: إِذا قُمْتُمْ نفس القيام وإلّا لزم تأخير الوضوء عن الصلاة وهو بالإجماع باطل، وأيضا لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعدا أو مضطجعا لخرج عن العهدة بالإجماع، فالمراد إذا شمرتم للقيام إلى الصلاة وأردتم ذلك. ووجه هذا المجاز أنّ الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل وإطلاق اسم المسبب على السبب مجاز مستفيض. الثانية: ذهب قوم إلى أنّ الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة وليس تكليفا مستقلا لأنه شرط القيام إلى الصلاة. والأصح أنه عبادة برأسها لأن قوله: فَاغْسِلُوا أمر ظاهره الوجوب غاية ذلك أنه مقيد بوقت التهيّؤ للصلاة. وأيضا إنه طهارة وقد قال تعالى في آخر الآية: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وقال صلى الله عليه وسلم: «بني الدين على النظافة» وقال: «أمّتي غر محجلون من آثار الوضوء يوم القيامة» «1» والأخبار الواردة في كون الوضوء سببا لغفران   (1) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 3. مسلم في كتاب الطهارة حديث 34- 39. الترمذي في كتاب الجمعة باب 74. النسائي في كتاب الطهارة باب 109. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 6. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 28. أحمد في مسنده (1/ 282) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 الذنوب كثيرة. الثالثة: قال داود: يجب الوضوء لكل صلاة فإنه ليس المراد قياما واحدا في صلاة واحدة وإلّا لزم الإجمال إذ لا دليل على تعيين تلك المرة، والإجمال خلاف الأصل فوجب حمل الآية على العموم. وأيضا ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب مشعر بالعلية فيتكرر بتكرره فيجب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة. وأيضا إنه نظافة فلا يكون منها بدّ عند الاشتغال بخدمة المعبود. وقال سائر الفقهاء: إنّ كلمة «إذا» لا تفيد العموم ولهذا لو قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق لم تطلق مرة أخرى بالدخول ثانيا. ويروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة إلّا يوم الفتح فإنه صلى الله عليه وسلم صلّى الصلوات كلها بوضوء واحد. قال عمر: فقلت له في ذلك فقال: عمدا فعلت ذلك يا عمر. أجاب داود بأنّ خبر الواحد لا ينسخ القرآن. وأيضا في الخبر معنيان: أحدهما: وجوب التجديد لكل صلاة لا أقل من استحباب ذلك. الثاني أنه ترك ذلك يوم الفتح والأوّل يوجب المتابعة والثاني مرجوع لأنّ الفتح يقتضي زيادة الطاعة لا نقصانها. وأيضا التجديد أحوط، وأيضا دلالة ظاهر القرآن قولية ودلالة الخبر فعلية والقولية أقوى. ولناصر المذهب المشهور أن يقول: التيمم على المتغوّط والمجامع واجب إذا لم يجد الماء لقوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ الآية. وذلك يدل على أنّ وجوب الوضوء قد يكون بسبب آخر سوى القيام إلى الصلاة فلم يكن هو مؤثرا وحده، وإذا لم يكن مؤثرا مستقلا جاز تخلف الأثر عنه. نعم التجديد مستحب لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يتوضؤن لكل صلاة وقال صلى الله عليه وسلم: «من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات» وقيل: كان الوضوء لكل صلاة واجبا أوّل ما فرض ثم نسخ. الرابعة: الأصح أن في الآية دلالة على أنّ الوضوء شرط لصحة الصلاة لأنه علق فعل الصلاة بالطهور، ثم بيّن أنه متى عدم الماء لم تصح الصلاة إلّا بالتيمم، فلو لم يكن شرطا لم يكن كذلك. وأيضا إنه أمر بالصلاة مع الوضوء فالآتي بها بدون الوضوء تارك للمأمور به فيستحق العقاب وهذا معنى البقاء في عهدة التكليف. الخامسة: قال أبو حنيفة: النية ليست شرطا في الوضوء لأنها غير مذكورة في الآية والزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس غير جائز. وعند الشافعي هي شرط فيه لأنّ الوضوء مأمور به لقوله: فَاغْسِلُوا وَامْسَحُوا وكل مأمور به يجب أن يكون منويا لقوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ [البينة: 5] والإخلاص النية الخالصة، فأصل النية يجب أن يكون معتبرا. وغاية ما في الباب أنها مخصوصة في بعض الصور فتبقى حجة في غير محل التخصيص. السادسة: قال مالك وأبو حنيفة: الترتيب غير مشروط في الوضوء لأن الواو لا تفيد الترتيب، فلو قلنا بوجوبه كان من الزيادة على النص وهو نسخ غير جائز. وقال الشافعي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 إنه واجب لأن فاء التعقيب في قوله: فَاغْسِلُوا توجب تقديم غسل الوجه ثم سائر الأعضاء على الترتيب. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الصفا: «ابدءوا بما بدأ الله به» «1» . وأيضا الترتيب المعتبر في الحس هو الابتداء من الرأس إلى القدم أو بالعكس، والترتيب العقلي إفراد العضو المغسول عن الممسوح. ثم إنه تعالى أدرج الممسوح في المغسول فذل هذا على أن الترتيب المذكور في الآية واجب لأن إهمال الترتيب في الكلام مستقبح فوجب تنزيه كلام الله تعالى عنه. وأيضا إيجاب الوضوء غير معقول المعنى لأن الحدث يخرج من موضع والغسل يجب في موضع آخر ولأن أعضاء المحدث طاهرة لقوله: المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا «2» وتطهير الطاهر محال ولأن الشرع أقام التيمم مقام الوضوء وليس في التيمم نظافة، وأقام المسح على الخفين مقام الغسل ولا يفيد في نفس العضو نظافة والماء الكدر العفن يفيد الطهارة وماء الورد لا يفيدها فإذن الاعتماد على مورد النص. ولعل في الترتيب حكما خفية لا نعرفها أو هو محض التعبد. وقد أوجبنا رعاية الترتيب في الصلاة مع أن أركان الصلاة غير مذكورة في القرآن مرتبة فرعاية الترتيب في الوضوء مع أن القرآن ناطق به أولى. السابعة: قال الشافعي وأبو حنيفة: الموالاة في أفعال الوضوء غير واجبة لأن إيجاب هذه الأفعال قدر مشترك بين إيجابها على سبيل الموالاة وإيجابها على سبيل التراخي، وهذا القدر معلوم من الآية ومفيد للطهارة والزائد لا دليل عليه. وأيضا روي أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا توضأ وترك لمعة من عقبه فأمره بغسلها ولم يأمره بالاستئناف ولم يبحث عن المدة الفاصلة، وعند غيرهما شرط كيلا يتخلل بين أجزاء العبادة ما ليس منها. وحدّ التفريق المخل بالموالاة أن يمضي من الزمان ما يجف فيه المغسول مع اعتدال الهواء ومزاج الشخص. الثامنة: قال أبو حنيفة: الخارج من غير السبيلين ينقض الوضوء لأن ظاهر الآية يقتضي الإتيان بالوضوء لكل صلاة لما مر ترك العمل به عند ما لم يخرج الخارج النجس من البدن فيبقى معمولا به عند خروج الخارج النجس. وخالفه الشافعي تعويلا على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يزد على غسل أثر محاجمه. التاسعة: قال مالك: لا وضوء في الخارج من السبيلين إذا كان غير معتاد وسلم في دم الاستحاضة لنا التمسك بعموم الآية.   (1) رواه أبو داود في كتاب المناسك باب 56. الترمذي في كتاب الحج باب 38. النسائي في كتاب الحج باب 161. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 34، 84. الدارمي في كتاب المناسك باب 34. الموطأ في كتاب الحج حديث 126. (2) رواه البخاري في كتاب الغسل باب 23، 24. مسلم في كتاب الحيض حديث 115، 116. أبو داود في كتاب الطهارة باب 91. الترمذي في كتاب الطهارة باب 89. النسائي في كتاب الطهارة باب 171. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 80. أحمد في مسنده (2/ 235، 382) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 العاشرة: قال أبو حنيفة: القهقهة في الصلاة المشتملة على الركوع والسجود تنقض الوضوء. وقال الباقون: لا تنقض لأبي حنيفة أن يتمسك بعموم الآية. الحادي عشر: قال أبو حنيفة: لمس المرأة وكذا لمس الفرج لا ينقض الوضوء. وقال الشافعي: ينقض متمسكا بالعموم. الثانية عشرة: لو كان على وجهه وبدنه نجاسة فغسلها ونوى الطهارة من الحدث بذلك الغسل هل يصح وضوءا؟ قال في التفسير الكبير: ما رأيت هذه المسألة في كتب الأصحاب. قال: والذي أقوله أنه يكفي لأنه أمر بالغسل في قوله: فَاغْسِلُوا وقد أتى به، وأقول: الظاهر أنه لا يكفي لأنه لا يرتفع بغسلة واحدة نجاستان حكمية وعينية وهذا بخلاف ما لو نوى التبرد أو التنظف فإن النجاسة هناك حكمية فقط. الثالثة عشرة: لو وقف تحت ميزاب حتى سال عليه الماء ونوى رفع الحدث هل يصح وضوءه؟ يمكن أن يقال: لا لأنه لم يأت بعمل. وأن يقال: نعم لأنه أتى بما أفضى إلى المقصود وهو الانغسال. الرابعة عشرة: إذا غسل أعضاء الوضوء ثم كشط جلده فالأظهر وجوب غسله لتحصيل الامتثال فإن ذلك الوضع غير مغسول. الخامسة عشرة: لو رطب الأعضاء من غير سيلان الماء عليها لم يكف لأنه مأمور بالغسل وهذا ليس بغسل، وفي الجنابة يكفي لأنه هناك مأمور بالتطهير لقوله: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ والتطهير يحصل بالترطيب. السادسة عشرة: لو أمر الثلج على العضو فإن ذاب وسال جاز وإلّا فلا خلافا لمالك والأوزاعي لنا فاغسلوا وهذا ليس بغسل. السابعة عشرة: التثليث سنة لأن ماهية الغسل تحصل بالمرة. الثامنة عشرة: السواك سنة لا واجب لأن الآية ساكتة عنه وكذا القول في التسمية خلافا لأحمد وإسحاق، وكذا في تقديم غسل اليدين على الوضوء خلافا لبعضهم. التاسعة عشرة: قال الشافعي: لا تجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل، وأحمد وإسحاق يجب فيهما. أبو حنيفة: يجب في الغسل لا في الوضوء. حجة الشافعي أنه أوجب غسل الوجه والوجه هو الذي يكون مواجها وحده من مبتدأ تسطيح الجهة إلى منتهى الذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا، وداخل الفم والأنف غير مواجه. العشرون: ابن عباس: يجب إيصال الماء إلى داخل العين لأن العين جزء من الوجه. الباقون: لا يجب لقوله في آخر الآية: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وإدخال الماء في العين حرج. الحادية والعشرون: غسل البياض الذي بين العذار والأذن واجب عند الشافعي وأبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف. لنا أنه واجب قبل نبات الشعر بالإجماع فكذا بعده ولأنه من الوجه والوجه يجب غسله كله. الثانية والعشرون: أبو حنيفة: لا يجب إيصال الماء إلى ما تحت اللحية الخفيفة. الشافعي: يجب لقوله: فَاغْسِلُوا ترك العمل عند كثافة اللحية دفعا للحرج فيبقى عند كثافتها على الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 الثالثة والعشرون: الأصح عند الشافعي وجوب إمرار الماء على ظاهر اللحية النازلة طولا والخارجة إلى الأذنين عرضا لأنه مواجه. مالك وأبو حنيفة والمزني: لا يجب لأنه لا جلد تحتها حتى يغسل ظاهرها بتبعيتها. الرابعة والعشرون: لو نبت للمرأة لحية وجب إيصال الماء إلى جلدة الوجه وإن كانت لحيتها كثيفة لأنا تركنا العمل بظاهر الآية في اللحية الكثيفة للرجل دفعا للحرج ولحية المرأة نادرة وخصوصا الكثيفة فيبقى حكمها على الأصل. الخامسة والعشرون: يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف في خمسة مواضع: العنفقة والحاجب والشارب والعذار والهدب لأن قوله: فَاغْسِلُوا يدل على وجوب غسل كل جلدة الوجه، ترك العمل به في اللحية الكثيفة دفعا للحرج وهذه الشعور خفيفة غالبا فتبقى على الأصل. السادسة والعشرون: الشعبي: ما أقبل من الأذن فهو من الوجه فيغسل، وما أدبر فمن الرأس فيمسح وردّ بأن الأذن غير مواجه أصلا. السابعة والعشرون: الجمهور على أن المرفقين يجب غسلهما مع اليدين وخالف مالك وزفر وكذا، الخلاف في قوله: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ والتحقيق أن «إلى» تفيد معنى الغاية مطلقا، والمراد بالغاية جميع المسافة أو حقيقة النهاية. ثم إنّ حد الشيء قد يكون منفصلا عن المحدود حسا انفصال الظلمة عن النور في قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] فيكون الحد خارجا عن المحدود. وقد لا يكون كذلك نحو حفظت القرآن من أوّله إلى آخره وبعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف فيدخل الحد في المحدود. ولا شك أن المرفق وهو موصل الذراع في العضد سمي بذلك لارتفاق صاحبها بها غير متميزة في الحس عن محدودها فلا يكون إيجاب الغسل إلى جزء أولى من إيجابه إلى جزء آخر فوجب غسلها جميعا. وإن سلم أن المرفق لا يجب غسلها لكنها اسم لما جاوز طرف العظم، ولا نزاع في أن ما وراء طرف العظم لا يجب غسله. وهذا الجواب اختيار الزجاج. وعلى هذا فمقطوع اليد من المرفق يجب عليه إمساس الماء بطرف العظم وإن كان أقطع مما فوق المرفقين لم يجب عليه شيء لأن محل هذا التكليف لم يبق أصلا. الثامنة والعشرون: تقديم اليمنى على اليسرى مندوب وليس بواجب خلافا لأحمد. لنا أنه ذكر الأيدي والأرجل في الآية من غير تقديم لإحدى اليدين أو الرجلين. التاسعة والعشرون: ذهب بعضهم إلى أن مبتدأ الغسل يجب أن يكون الكف بحيث يسيل الماء من الكف إلى المرافق لأن المرافق جعلت في الآية نهاية الغسل. وجمهور الفقهاء على أن عكس هذا الترتيب لا يخل بصحة الوضوء لأن المراد في الآية بيان جملة الغسل لا بيان ترتيب أجزاء الغسل. الثلاثون: لو نبت من المرفق ساعدان وكفان وجب غسل الكل لعموم قوله: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ كما لو نبت على الكف أصبع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 زائدة. الحادية والثلاثون: المراد من تحديد الغسل بالمرفق بيان الواجب فقط لما ورد في الأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة. الثانية والثلاثون: مالك: يجب مسح كل الرأس. أبو حنيفة: يتقدر بالربع لأنه صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته وأنها ربع الرأس. الشافعي: الواجب أقل ما ينطلق عليه اسم المسح لأنه إذا قيل مسحت المنديل فهذا لا يصدق إلّا عند مسحه بالكلية، أما لو قال مسحت يدي بالمنديل كفى في صدقه مسح اليد بجزء من أجزاء المنديل فهكذا في الآية وإلّا احتيج في تعيين المقدّر إلى دليل منفصل وتصير الآية مجملة وهو خلاف الأصل. الثالثة والثلاثون: لا يجوز الاكتفاء بالمسح على العمامة لأن ذلك ليس مسحا للرأس. وقال الأوزاعي والثوري وأحمد: يجوز لما روي أنه صلى الله عليه وسلم مسح على العمامة. وأجيب بأنه لعله مسح قدر الفرض على الرأس والبقية على العمامة. الرابعة والثلاثون: اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله عنه أن الواجب فيهما المسح وهو مذهب الإمامية. وجمهور الفقهاء والمفسرين على أن فرضهما الغسل. وقال داود: يجب الجمع بينهما وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية. وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين المسح والغسل. حجة من أوجب المسح قراءة الجر في: وَأَرْجُلَكُمْ عطفا على: بِرُؤُسِكُمْ ولا يمكن أن يقال إنه كسر على الجوار كما في قوله: «حجر ضب خرب» لأن ذلك لم يجىء في كلام الفصحاء وفي السعة، وأيضا إنه جاء حيث لا لبس ولا عطف بخلاف الآية. وأما القراءة بالنصب فيكون للعطف على محل بِرُؤُسِكُمْ. حجة الجمهور أخبار وردت بالغسل وأن فرض الرجلين محدود إلى الكعبين والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح. والقوم أجابوا بأن أخبار الآحاد لا تعارض القرآن ولا تنسخه وبالمنع في محل النزاع فزعم الجمهور أن قراءة النصب ظاهرة في العطف على مفعول: فَاغْسِلُوا وإن كان أبعد من: امْسَحُوا وقراءة الجر تنبيه على وجوب الاقتصاد في صب الماء لأن الأرجل تغسل بالصب فكانت مظنة للإسراف. الخامسة والثلاثون: جمهور الفقهاء على أن الكعبين هما العظمان الناتئان من جانبي الساق. وقالت الإمامية وكل من قال بالمسح: إن الكعب عظم مستدير موضوع تحت عظم الساق حيث يكون مفصل الساق والقدم كما في أرجل جميع الحيوانات. والمفصل يسمى كعبا ومنه كعوب الرمح لمفاصله. حجة الجمهور أنه لو كان الكعب ما ذكره الإمامية لكان الحاصل في كل رجل كعبا واحدا وكان ينبغي أن يقال: وأرجلكم إلى الكعاب كما أنه لما كان الحاصل في كل يد مرفقا واحدا لا جرم قال: إِلَى الْمَرافِقِ. وأيضا العظم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 المستدير الموضوع في المفصل شيء خفي لا يعرفه إلّا أهل العلم بتشريح الأبدان، والعظمان الناتئان في طرفي الساق محسوسان لكل أحد ومناط التكليف ليس إلّا أمرا ظاهرا ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ألصقوا الكعاب بالكعاب» . السادسة والثلاثون: الجمهور على جواز مسح الخفين خلافا للشيعة والخوارج. حجة الجمهور الأحاديث، وحجة الشيعة الآية، وأن جواز المسح على الخفين حاجة عامة فلو كانت ثابتة لبلغت مبلغ التواتر. السابعة والثلاثون: رجل مقطوع اليدين والرجلين سقط عنه هذان الفرضان وبقي عليه غسل الوجه ومسح الرأس، فإن لم يكن معه من يوضئه أو ييممه سقط عنه ذلك أيضا لأن قوله: فَاغْسِلُوا وَامْسَحُوا مشروط بالقدرة عليه فإذا فاتت القدرة سقط التكليف. الثامنة والثلاثون: قوله سبحانه: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا الأصل «تطهروا» أدغم التاء في الطاء فاجتلبت همزة الوصل. وللجنابة سببان: نزول المني لقوله صلى الله عليه وسلم: «الماء من الماء» «1» والثاني التقاء الختانين خلافا لزيد بن ثابت ومعاذ وأبي سعيد الخدري لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا التقى الختانان وجب الغسل» «2» وختان الرجل هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلفة، وأما ختان المرأة فإن شفريها يحيطان بثلاثة أشياء: ثقبة في أسفل الفرج وهي مدخل الذكر ومخرج الحيض والولد، وثقبة أخرى فوق هذه مثل إحليل الذكر وهي مخرج البول لا غير، والثالث جلدة رقيقة قائمة مثل عرف الديك فوق ثقبة البول، وقطع هذه الجلدة هو ختانها فإذا غابت الحشفة حاذى ختانه ختانها. التاسعة والثلاثون: لا يجوز للجنب مس المصحف خلافا لداود. لنا قوله: فَاطَّهَّرُوا يدل على أن الطهارة غير حاصلة وإلّا لكان أمرا بتطهير الطاهر وحينئذ لا يجوز له مس المصحف لقوله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 79] ولإطلاق قوله: فَاطَّهَّرُوا علم أنه أمر بتحصيل الطهارة في كل البدن وإلّا خصت تلك الأعضاء بالذكر كما في الطهارة الصغرى، وعلم أنه لا يجب تقديم الوضوء على الغسل خلافا لأبي ثور وداود، وعلم أن الترتيب غير واجب خلافا إسحق فإنه أوجب البداءة بأعلى البدن، وعلم أن الدلك غير واجب خلافا لمالك.   (1) رواه مسلم في كتاب الحيض حديث 81. أبو داود في كتاب الطهارة باب 83. الترمذي في كتاب الطهارة باب 81. النسائي في كتاب الطهارة باب 131. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 110. الدارمي في كتاب الوضوء باب 74. أحمد في مسنده (3/ 29) ، (5/ 115) . (2) رواه مسلم في كتاب الحيض حديث 88. البخاري في كتاب الغسل باب 28. أبو داود في كتاب الطهارة باب 83. الترمذي في كتاب الطهارة باب 80. النسائي في كتاب الطهارة باب 128. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 111، الدارمي في كتاب الوضوء باب 75. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 71- 73. أحمد في مسنده. (2/ 178) ، (5/ 115) . [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 الأربعون: الشافعي: المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الغسل لقوله صلى الله عليه وسلم: «أما أنا فأحثى على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت» «1» أبو حنيفة: هما واجبان لقوله تعالى: فَاطَّهَّرُوا والتطهير لا يحصل إلّا بطهارة جميع الأعضاء. ترك العمل به في الأعضاء الباطنة للتعذر وداخل الفم والأنف يمكن تطهيرهما فيبقى داخلا في النص ولأن قوله صلى الله عليه وسلم: «بلوا الشعر» «2» يدخل فيه الأنف لأن في داخله شعرا: «وأنقوا البشرة» «3» يدخل فيه جلدة داخل الفم. الحادية والأربعون: لا يجب نقض الشعر إن لم يمنع عن وصول الماء إلى منابته لأن المقصود التطهير وإن منع وجب خلافا للنخعي. الثانية والأربعون: إن كان المرض المانع من استعمال الماء حاصلا في بعض جسده دون بعض فقال الشافعي: يغسل ما لا ضرر عليه ثم يتيمم للاحتياط. وقال أبو حنيفة: إن كان أكثر البدن صحيحا غسل الصحيح دون التيمم وإن كان أكثره جريحا يكفيه التيمم لأن المرض إذا كان حالا في بعض أعضائه فهو مريض. الثالثة والأربعون: لو ألصق على موضع التيمم لصوقا منع وصول الماء إلى البشرة ولا يخاف من نزع ذلك اللصوق التلف. قال الشافعي: يلزم نزع اللصوق حتى يصل التراب إليه أخذا بالأحوط. وقال الأكثرون: لا يجب دفعا للحرج. الرابعة والأربعون: قال الشافعي: الاستنجاء واجب إما بالماء أو بالأحجار لقوله صلى الله عليه وسلم: «فليستنج بثلاثة أحجار» «4» وقال أبو حنيفة: واجب عند المجيء من الغائط إما الوضوء أو التيمم ولم يوجب غسل موضع الحدث فدل على أنه غير واجب. الخامسة والأربعون: لمس المرأة ينقض الوضوء عند الشافعي ولا ينقضه عند أبي حنيفة وقد مرت المسألة في سورة النساء. السادسة والأربعون: لا يكره الوضوء بالماء المسخن لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً وهاهنا قد وجد ماء وخالف مجاهد. السابعة والأربعون: أبو حنيفة وأحمد: لا يكره المشمس لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً وهذا قد وجد ماء. الشافعي يكره للحديث. الثامنة والأربعون: لا يكره الوضوء بفضل ماء المشرك وبالماء في آنية المشرك لأنه واجد للماء فلا يتيمم، وقد توضأ النبي صلى الله عليه وسلم من مزادة مشرك وتوضأ عمر من ماء في جرة نصرانية. وقال أحمد وإسحق: لا يجوز. التاسعة والأربعون: يجوز الوضوء بماء البحر لأنه واجد الماء خلافا لعبد الله بن   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 95. (2، 3) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 97. الترمذي في كتاب الطهارة باب 78. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 106 بلفظ «فاغسلوا» بدل «بلّوا» . (4) رواه الترمذي في كتاب الطهارة باب 12. أبو داود في كتاب الطهارة باب 4. أحمد في مسنده (5/ 439) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 عمرو بن العاص. الخمسون: جوّز أبو حنيفة الوضوء بنبيذ التمر في السفر للحديث ولم يجوّزه الشافعي وقال: يتيمم لأنه غير واجد للماء. الحادية والخمسون: ذهب الأوزاعي والأصم إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة، والأكثرون لا يجوز. حجتهما: فَاغْسِلُوا أمر بمطلق الغسل وإمرار المائع على العضو غسل قال الشاعر: فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها. لنا: أنه عند عدم الماء أوجب التيمم. الثانية والخمسون: الشافعي: الماء المتغير بالزعفران تغيرا فاحشا لا يجوز الوضوء به لأن واجده يصدق عليه أنه غير واجد للماء. وخالف أبو حنيفة لأن أصل الماء موجود بصفة زائدة كما لو تغير وتعفن بطول المكث أو بتساقط الأوراق بالاتفاق. الثالثة والخمسون: مالك وداود: الماء المستعمل في الوضوء بقي طاهرا طهورا لأن واجده واجد للماء وهو قول قديم للشافعي. والقول الجديد إنه طاهر غير طهور، ووافقه محمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة في أكثر الروايات: إنه نجس لأن النجاسة الحكمية كالعينية. الرابعة والخمسون: مالك: إذا وقع في الماء نجاسة ولم يتغير بقي طاهرا طهورا قليلا كان أو كثيرا وهو قول أكثر الصحابة والتابعين. وقال الشافعي: إن كان أقل من القلتين ينجس. وقال أبو حنيفة: إن كان أقل من عشرة في عشرة ينجس. حجة مالك أنه واجد للماء ترك العمل بهذا العموم في الماء القليل المتغير فيبقى حجة في الباقي ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: «خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلّا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه» «1» حجة الشافعي مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا» «2» . الخامسة والخمسون: يجوز الوضوء بفضل ماء الجنب لأن واجده واجد للماء، وقال أحمد وإسحاق: لا يجوز الوضوء بفضل ماء المرأة إذا خلت به وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب. السادسة والخمسون: أسار السباع، طاهرة مطهرة وكذا سؤر الحمار لأنه واجد للماء. وقال أبو حنيفة: نجسة. السابعة والخمسون: قال الشافعي وأبو حنيفة والأكثرون: لا بد في التيمم من النية لأنه قال: فَتَيَمَّمُوا والتيمم عبارة عن القصد وهو النية. وقال زفر: لا يجب. الثامنة والخمسون: الشافعي: لا يجوز التيمم إلّا بعد دخول الصلاة لأنه طهارة ضرورة ولا ضرورة قبل الوقت. أبو حنيفة: يجوز قياسا على الوضوء ولظاهر قوله: إِذا قُمْتُمْ والقيام إلى الصلاة يكون بعد دخول وقتها. التاسعة والخمسون:   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 76. (2) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 33. الترمذي في كتاب الطهارة باب 50. النسائي في كتاب الطهارة باب 43. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 75. الدارمي في كتاب الوضوء باب 55. أحمد في مسنده (2/ 23، 27) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 لا يجوز التيمم بتراب نجس لقوله تعالى: صَعِيداً طَيِّباً. الستون: لا خلاف في جواز التيمم بدلا عن الوضوء، أما التيمم بدل غسل الجنابة فعن علي رضي الله عنه وابن عباس جوازه وهو قول أكثر الفقهاء، وعن عمر وابن مسعود أنه لا يجوز. لنا قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ إما يختص بالجماع أو يدخل الجماع فيه. الحادية والستون: الشافعي: لا يجوز أن يجمع بتيمم واحد بين صلاتي فرضين لأن ظاهر قوله: إِذا قُمْتُمْ يقتضي إعادة الوضوء لكل صلاة ترك العمل به في الوضوء لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبقى في التيمم على ظاهره. أبو حنيفة: يجوز أداء الفرائض به كالوضوء. أحمد: يجمع بين الفوائت ولا يجمع بين صلاتي وقتين. الثانية والستون: الشافعي: إذا لم يجد الماء في أول الوقت وتوقع في آخره جاز له التيمم لأن قوله: إِذا قُمْتُمْ يدل على أنه عند دخول الوقت إن لم يجد الماء جاز له التيمم. وقال أبو حنيفة: يؤخر الصلاة إلى آخره. الثالثة والستون: إذا وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة بطل تيممه لأنه وجد الماء فلا يجوز له الشروع في الصلاة بالتيمم. وخالف أبو موسى الأشعري والشعبي. الرابعة والستون: لو فرغ من الصلاة ثم وجد الماء لا يلزمه إعادة الصلاة لأنه خرج عن عهدة التكليف خلافا لطاوس. الخامسة والستون: ولو وجد الماء في أثناء الصلاة لا يلزمه الخروج منها- وبه قال مالك وأحمد-، لأنه انعقدت صلاته صحيحة بحكم التيمم فما لم تبطل صلاته لا يصير قادرا على استعمال الماء، وما لم يصر قادرا على استعمال الماء لم تبطل صلاته فيدور. وقال أبو حنيفة والثوري والمزني: يلزمه الخروج لأنه واجد للماء. السادسة والستون: لو نسي الماء في رحله وتيمم وصلى ثم علم وجود الماء لزمه الإعادة على أحد قولي الشافعي وهو قول أحمد وأبي يوسف. والثاني لا يلزمه وهو قول مالك وأبي حنيفة ومحمد لأن النسيان في حكم العجز وكذا إذا ضل رحله في الرحال بالطريق الأولى لأن مخيم الرفقة أوسع من رحله. ولو تيقن الماء في رحله واستقصى في الطلب فلم يجده وتيمم وصلى ثم وجد فالأكثرون على أنه يلزمه الإعادة لأن العذر ضعيف. وقيل: لا لأن حكمه حكم العاجز. السابعة والستون: لو صلى بالتيمم ثم وجد ماء في بئر بجنبه يمكنه استعمال ذلك الماء فإن كان قد علمه أوّلا ثم نسيه فهو كما لو نسي الماء في رحله، وإن لم يكن عالما فإن كان عليها علامة ظاهرة فالإعادة وإلّا فلا لأنه كالعاجز. الثامنة والستون: إذا لم يكن معه ماء ولا يمكنه أن يشتري إلّا بالغبن الفاحش جاز التيمم لقوله: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ولو وهب منه الماء لزمه القبول لأن المنة فيه سهل، ولو وهب منه ثمنه لم يلزمه القبول لثقل المنة ووجود الحرج، ولمثل هذا يجب قبول إعارة الدلو لاهبته فهذه جملة المسائل الفقهية المستنبطة من الآية سوى ما مرت في سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 واعلم أن قوله سبحانه وتعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أصل معتبر في علم الفقه لأنه يدل على أن الأصل في المضار الحرمة وفي المنافع الإباحة. وقد تمسك به نفاة القياس قالوا: إن كل حادثة فحكمها المفصل إن كان مذكورا في الكتاب والسنة فذاك وإلّا فإن كان من باب المضارّ فالأصل فيها الحرمة، وإن كان من باب المنافع فالأصل فيها الإباحة، والقياس المعارض لهذين الأصلين يكون قياسا واقعا في مقابلة النص فيكون مردودا. أما قوله: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ فله تفسيران: أحدهما وإليه ذهب أكثر أصحاب أبي حنيفة، أن عند خروج الحدث تنجس الأعضاء نجاسة حكمية، فالمقصود من هذا التطهير إزالة تلك النجاسة الحكمية، وزيف بأن أعضاء المؤمن لا تنجس لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] ولقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن لا ينجس لا حيا ولا ميتا» «1» وبأنه لو كان رطبا فأصابه ثوب لم ينجس، ولو حمله إنسان وصلى لم تفسد صلاته بالاتفاق، وبأن الحدث لو كان يوجب نجاسة الأعضاء ثم كان تطهير الأعضاء الأربعة يوجب طهارة كل عضو لوجب أن لا يختلف ذلك باختلاف الشرائع، وبأن خروج النجاسة من موضع كيف يوجب تنجس موضع آخر، وبأن التيمم زيادة في التكدير فكيف يوجب النظافة والتطهير، وبأن المسح على الخفين كيف يقوم مقام غسل الرجلين، وبأن الذي يراد إزالته ليس من الأجسام ولا كان محسوسا ولا من الأعراض لأن انتقال الأعراض محال. التفسير الثاني أن المراد طهارة القلب عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى لأن إيصال الماء أو التراب إلى هذه الأعضاء المخصوصة ليس فيه فائدة يعقلها المكلف، فالانقياد لمثل هذا التكليف تعبد محض يزيل آثار التمرد وتؤكده الأخبار في أن المؤمن إذا غسل وجهه خرت خطاياه من وجهه وكذا القول في يديه ورأسه ورجليه. وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بإباحة الطيبات الدنيوية من المطاعم والمناكح بهذه النعمة الدينية وهي كيفية فرض الوضوء، أو ليتم برخصه كالتيمم ونحوه إنعامه عليكم بعزائمه. ثم ذكر ما يوجب عليهم قبول تكاليفه وذلك من وجهين: الأول تذكر نعمته يعني التأمل في هذا النوع الذي لا يقدر عليه غيره لأن هذا النوع وهو إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى الخيرات في الدنيا والآخرة حيث إنه يمتاز عن نعمة غيره وأنه لا يقدر عليه غيره يجب تلقيه بالتشكر وهو الإذعان لأوامره والانقياد لنواهيه. فإن قيل: اذكروا مشعر بسبق النسيان وكيف يعقل   (1) رواه البخاري في كتاب الغسل باب 23، 24. مسلم في كتاب الحيض حديث 115. أبو داود في كتاب الطهارة باب 91. الترمذي في كتاب الطهارة باب 89. النسائي في كتاب الطهارة باب 171. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 80. أحمد في مسنده (2/ 225، 382) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 نسيانها مع تواترها وتواليها في كل لحظة ولمحة؟ فالجواب أنها صارت لتواليها كالأمر المعتاد فصار من غاية الظهور كالأمر المستور، أو المراد التوبيخ على عدم القيام بمواجبها فكأنها كالشيء المنسي. الثاني ذكر الميثاق ومعنى: واثَقَكُمْ بِهِ عاقدكم به عقدا وثيقا يعني ميثاق رسوله حين بايعهم تحت الشجرة وغيرها على السمع والطاعة في المحبوب والمكروه. وعن ابن عباس: هو الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل حين قالوا: آمنا بالتوراة وبما فيها من البشارة بنبي آخر الزمان ومن غيرها. وقال مجاهد والكلبي ومقاتل: إنه إشارة إلى قوله للذرية: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: 172] وقال السدي: هو ما ركز في العقول من حسن هذه الشريعة وهو اختيار أكثر المتكلمين. واعلم أن التكاليف وإن كثرت إلّا أنها منحصرة في نوعين: التعظيم لأمر الله وإليه الإشارة بقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ والشفقة على خلق الله وحث عليها بقوله: شُهَداءَ بِالْقِسْطِ قال عطاء: يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودّك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك. وقال الزجاج: بينوا دين الله لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه. ثم أمر جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحدا إلّا على سبيل العدل والإنصاف ويتركوا الظلم والاعتساف فقال وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنكم بغض قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا أي فيهم فحذف للعلم. ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيدا فقال: اعْدِلُوا ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل فقال: هُوَ أي العدل الذي دل عليه اعدلوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي إلى الاتقاء من عذاب الله أو من معاصيه. وقيل: المراد سلوك سبيل العدالة مع الكفار الذين صدوا المسلمين عن البيت بأن لا يقتلوهم إذا أظهروا الإسلام، أو لا يرتكبوا ما لا يحل من مثلة، أو قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نقض عهد أو نحو ذلك. وفي هذا تنبيه على أن العدل مع أعداء الله إذا كان بهذه المكانة فكيف يكون مع أوليائه وأحبائه؟ ثم ختم الكلام بوعد المؤمنين ووعيد الكافرين وقوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ بيان للوعد قدم لهم وعدا، ثم كأنه قيل: أي شيء ذلك؟ فقيل: لهم مغفرة أو يكون على إرادة القول أي وعدهم وقال لهم مغفرة، أو يكون وعد مضمنا معنى قال، أو يجعل وعد واقعا على هذا القول وإذا وعدهم هذا القول من هو قادر على كل المقدورات عالم بجميع المعلومات غني عن كل الحاجات فقد امتنع الخلف في وعده لأن سبب الخلف إما جهل أو عجز أو بخل أو حاجة وهو منزه عن الكل. وهذا الوعد يصل إليه قبل الموت فيفيده السرور عند سكرات الموت فيسهل عليه الشدائد وفي ظلمة القبر فيفيده نورا وفي عرصة القيامة فيزيده حبورا. والجحيم اسم من أسماء النار وهي كل نار عظيمة في مهواة كقوله: قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 [الصافات: 97] وأصحاب الجحيم ملازموها. بسط إليه لسانه إذا شتمه وبسط إليه اليد مدّها إلى المبطوش به. عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه على شجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله ثم أقبل عليه فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله- قالها ثلاثا- والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: الله. فأغمد الأعرابي السيف فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه. وقال مجاهد والكلبي وعكرمة: قتل رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من بني سليم- وبين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة- فجاء قومهما يطلبون الدية فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم فدخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستقرضهم في عقلهما فقالوا: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا. فجلس هو وأصحابه فخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب: أنا. فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله يده، فجاء جبريل عليه السلام وأخبره بذلك فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله هذه الآية. وقيل: نزلت في قصة عسفان حين هم الأعداء أن يواقعوهم فنزلت صلاة الخوف. وقيل: إنها لم تنزل في واقعة خاصة ولكن المراد أن الكفار أبدا كانوا يريدون إيقاع البلاء والنهب والقتل بالمسلمين فأعز الله المسلمين وفل شوكة الكفار وقوى دين الإسلام وأظهره على الأديان. التأويل: سماع اسم الله وهو من صفات الهيبة يوجب الفناء والغيبة، وسماع الرحمن الرحيم وهما من صفات اللطف يورث البقاء والقربة أَوْفُوا أيها العشاق بِالْعُقُودِ التي جرت بيننا يوم الميثاق ليوم التلاق. فمن صبر على عهوده فقد فاز بمقصوده عند بذل وجوده أُحِلَّتْ لَكُمْ ذبح بَهِيمَةُ النفس التي كالأنعام في طلب المرام إلا النفس المطمئنة التي تليت عليها ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] فتنفرت من الدنيا بما فيها فهي كالصيد في الحرم وَأَنْتُمْ حُرُمٌ بالتوجه إلى كعبة الوصال وإحرام الشوق إلى حضرة الجمال والجلال إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ لمن يريد فيأمر بذبح النفس إذا كانت متصفة بصفة البهيمية وبترك ذبحها إذا كانت مطمئنة بذكر الحق ومتسمة بسمات الملك. ثم أخبر عن تعظيم الشعائر من صدق الضمائر فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بشهود القلوب فقصدوا زيارة المحبوب وخرجوا عن أوطان الأوطار وسافروا عن ديار الأغيار لا تُحِلُّوا معالم الدين والشريعة ومراسم آداب الطريقة والحقيقة، وعظموا الزمان والمكان والإخوان والقاصدين كعبة الوصول إلى الرحمن الذين أهدوا للقربان نفوسهم وقلدوها بلحاء الشجرة الطيبة ليأمنوا عن مكر الأعداء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 الخبيثة وَإِذا حَلَلْتُمْ أتممتم مناسك الوصول فَاصْطادُوا أرباب الطلب بشبكة الدعوة إلى الله، ولا يحملنكم حسد الحساد الذين يريدون أن يصدّوكم عن الحق على أن تعتدوا على الطالبين فتكونوا قطاع الطريق عليهم في طلب الحق. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ يا أهل الحق الْمَيْتَةُ وهي الدنيا بأسرها وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ أي حلالها وحرامها قليلها وكثيرها لأن من الدم ما هو حلال والخنزير كله حرام والدم بالنسبة إلى اللحم قليل وَما أُهِلَّ بِهِ أي كل طاعة هي لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ يعني الذين يخنقون أنفسهم بالمجاهدات ويقذونها بالرياضات رياء وسمعة وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ الذين يتردون أنفسهم إلى أسفل سافلي الطبيعة بالتناطح مع الأقران والتفاخر بالعلم والزهد بين الإخوان وَما أَكَلَ السَّبُعُ الظلمة المتهارشون في جيفة الدنيا تهارش الكلاب إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ بالكسب الحلال ووجه صالح بقدر ضرورة الحال وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ما تذبح عليه النفوس من المطالب الفانية وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ أي أن تكونوا مترددين في طلب المرام، فإذا انتهيتم عن هذه المناهي وتخلصتم عن هذه الدواهي فقد عاد ليلكم نهارا وظلمتكم أنوارا. الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا من النفس وصفاتها والدنيا وشهواتها مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ فإن كيدي متين. الْيَوْمَ أي في الأزل أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ولكن ظهر الأمر في حجة الوداع يوم عرفة. وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وهي أسباب تحصيل الكمال ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم فَمَنِ اضْطُرَّ فمن ابتلى بالتفات لشيء من الدنيا والآخرة غير مائل إليه للإعراض عن الحق ولكن من فترة للطالبين أو وقفة للسالكين. يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لأرباب السلوك إذ الدنيا حرام على أهل الآخرة والآخرة حرام على أهل الدنيا وهما حرام على أهل الله الطيبات كل مأكول ومشروب وملبوس يكون سببا للقيام بأداء الحقوق. فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ تناولوا ما اصطادت النفوس المطمئنة المعلمة بعلوم الشريعة المؤدبة بآداب الطريقة المنوّرة بأنوار الحقيقة. وَاذْكُرُوا عند تناول كل ما ورد عليكم من الأمور الدنيوية والأخروية اسْمَ اللَّهِ أي لا تتصرفوا فيه إلّا لله بالله في الله الْيَوْمَ يعني الذي فيه ظهر كمالية الدين الأزلية وهو يوم عرفة. وهذه فائدة التكرار أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ التي تتعلق بسعادة الدارين بل أحل لكم التخلق بالأخلاق الطيبات وهي أخلاق الله المنزهات عن الكميات والكيفيات وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وهم الأنبياء حِلٌّ لَكُمْ أي غذيتم بلبان الولاية كما غذوا بلبان النبوة وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي منبع لبن النبوة والولاية واحد وإن كان الثدي اثنين قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة: 60] وللنبي وراء ذلك كله مشرب «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وهي أبكار حقائق القرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أبكار حقائق الكتب المنزلة على الأمم السالفة أي التي أدرجت في القرآن فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وهي بذل الوجود محصنين في هذا البذل ليكون على وجه الحق غَيْرَ مُسافِحِينَ على وجه الطبع وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ غير ملتفتين إلى شيء من الأكوان وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ بهذه المقامات فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ الذي عمل من دون المكاشفات. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا حقيقيا عند خطاب ألست بربكم إِذا قُمْتُمْ من نوم الغفلة إِلَى الصَّلاةِ وهي معراجكم للرجوع إلى مكامن قربكم فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ التي توجهتم بها إلى الدنيا ولطختموها بالنظر إلى الأغيار بماء التوبة والاستغفار وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ أي اغسلوا أيديكم من التمسك بالدارين حتى الصديق الموافق والرفيق المرافق وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ببذل نفوسكم وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ من طين طبيعتكم والقيام بأنانيتكم وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ ولا يحملنكم حسد الحساد وعداوة الأنذال عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا مع أنفسكم إِذْ هَمَّ قَوْمٌ من الشيطان والنفس والهوى أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ والله خير موفق ومعين. [سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 19] وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 القراآت: قاسِيَةً حمزة وعلي والمفضل. الباقون قاسِيَةً. الوقوف: بَنِي إِسْرائِيلَ ج للعدول عن الإخبار إلى الحكاية مع اتحاد القصة. نَقِيباً ج للعدول عن الحكاية إلى الإخبار. مَعَكُمْ ط لأن ما بعده ابتداء قسم محذوف جوابه لَأُكَفِّرَنَّ. الْأَنْهارُ ج السَّبِيلِ هـ قاسِيَةً ج لاحتمال الاستئناف والحال أي لعناهم محرفين. مَواضِعِهِ ط لأنا ما يتلوه حال أي وقد نسوا. ذُكِّرُوا بِهِ ج للعدول عن الماضي إلى المستقبل مع الواو. وَاصْفَحْ ط الْمُحْسِنِينَ هـ ذُكِّرُوا بِهِ ص لعطف المتفقتين. يَوْمِ الْقِيامَةِ ط يَصْنَعُونَ هـ عَنْ كَثِيرٍ هـ مُبِينٌ هـ لا لأن قوله: يَهْدِي وصف الكتاب إلى آخر الآية. مُسْتَقِيمٍ هـ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ الأول ط جَمِيعاً ط وَما بَيْنَهُما ط ما يَشاءُ ط قَدِيرٌ هـ وَأَحِبَّاؤُهُ ط بِذُنُوبِكُمْ ط لتناهي الاستفهام إلى الأخبار. مِمَّنْ خَلَقَ ط مَنْ يَشاءُ ط وَما بَيْنَهُما ز للفصل بين ذكر الحال والمال. الْمَصِيرُ هـ وَلا نَذِيرٍ ر للعطف مع وقوع العارض. وَنَذِيرٌ ط قَدِيرٌ هـ. التفسير: إنه سبحانه لما خاطب المؤمنين بذكر نعمته وميثاقه أردفه ذكر ميثاق بني إسرائيل ونقضهم إياه ثم لعنهم بسبب ذلك تحذيرا لهذه الأمة من مثل ما فعلوا وفعل بهم. وبوجه آخر لما ذكر غدر اليهود وأنهم أرادوا إيقاع الشر بالنبي صلى الله عليه وسلم لولا دفع الله تعالى، أردفه بذكر سائر فضائحهم ليعلم أن ذلك لم يزل هجيراهم. والنقيب العريف «فعيل» بمعنى «فاعل» لأنه ينقب عن أحوال القوم فيكون شاهدهم وضمينهم. وقال أبو مسلم: بمعنى «مفعول» يعني اختارهم على علم بهم. وأصل النقب الطريق في الجبل. ونقب البيطار سرة الدابة ليخرج منها ماء أصفر. والمناقب الفضائل لأنها لا تظهر إلّا بالنقب عنها. ويقال: كلب نقيب وهو أن ينقب حنجرته لئلا يرفع صوت نباحه، وإنما يفعل ذلك البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيف. قال مجاهد والكلبي والسدي: إن الله تعالى اختار من كل سبط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 من أسباط بني إسرائيل رجلا يكون نقيبا لهم وحاكما فيهم. ثم إنهم بعثوا إلى مدينة الجبارين لينقبوا عن أحوالهم فرأوا أجراما عظيمة فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم وقد نهاهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم فنكثوا الميثاق إلّا رجلين منهم. ومعنى إِنِّي مَعَكُمْ إني ناصركم ومعينكم والتقدير: وقال الله لهم. فحذف الرابط للعلم به. والخطاب للنقباء أو لكل بني إسرائيل. والحاصل إني معكم بالعلم والقدرة فأسمع كلامكم وأرى أفعالكم وأعلم ضمائركم وأقدر على إيصال الجزاء إليكم. فهذه مقدمة معتبرة جدا في الترغيب والترهيب. ثم ذكر بعدها جملة شرطية مقدمها مركب من خمسة أمور والجزاء هو قوله: لَأُكَفِّرَنَّ وهو إشارة إلى إزالة العقاب. وقوله: وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ وهو إشارة إلى إيصال الثواب. واللام في لَئِنْ أَقَمْتُمُ موطئة للقسم وفي لَأُكَفِّرَنَّ جواب له ولكنه سد مسد جواب الشرط أيضا. والعزر في اللغة الرد ومنه التعزير التأديب لأنه يرده عن القبيح ولهذا قال الأكثرون: معنى عَزَّرْتُمُوهُمْ نصرتموهم لأن نصر الإنسان رد أعدائه عنه. ولو كان التعزير هو التوقير لكان قوله: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9] تكرارا. وهاهنا أسئلة: لم أخر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أن الإيمان مقدم على الأعمال؟ وأجيب بعد تسليم أن الواو للترتيب بأن اليهود كانوا معترفين بأن النجاة مربوطة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلّا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل فذكر أنه لا بد بعد الصلاة والزكاة من الإيمان بجميع الرسل وإلّا لم يكن لتلك الأعمال أثر. قلت: يحتمل أن يكون التقدير وقد آمنتم أو أخر الإيمان عن العمل تنبيها على أن الإيمان إنما يقع معتدا به إذا اقترن به العمل كقوله وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه: 82] أو هو من القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس، أو لعل اليهود كانوا مقصرين في الصلاة والزكاة فكان ذكرهما أهم. سؤال آخر ما الفائدة في قوله: وَأَقْرَضْتُمُ بعد قوله: وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ؟ وأجيب بأن الإقراض أريد به الصدقات المندوبة. قال الفراء: ولو قال وأقرضتم الله إقراضا حسنا لكان صوابا أيضا إلّا أنه أقيم الاسم مقام المصدر مثل وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً [آل عمران: 37] . آخر لم قال: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ فإن من كفر قبل ذلك أيضا فقد أخطأ الطريق المستقيم الذي شرعه الله لهم؟ والجواب أجل، ولكن الضلال بعد الشرط المؤكد المعلق به الوعيد العظيم أشنع فلهذا خص بالذكر. فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ بتكذيب الرسل وقتلهم أو بكتمانهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم أو بإخلال جملة الشروط المذكورة لَعَنَّاهُمْ قال عطاء: أخرجناهم من رحمتنا. وقال الحسن ومقاتل: مسخناهم حتى صاروا قردة وخنازير. قال ابن عباس: ضربنا الجزية عليهم. وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً من قرأ قاسِيَةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 فبمعنى القاسية أيضا إلا أنها أبلغ كعليم وعالم ومنه قولهم «درهم قسي» أي رديء مغشوش لما فيه من اليبس الصلابة بخلاف الدرهم الخالص فإن فيه لينا وانقيادا. قالت المعتزلة: معنى الجعل هاهنا أنه أخبر عنها بأنها صارت قاسية كما يقال جعلت فلانا فاسقا أو عدلا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ بيان لقسوة قلوبهم لأنه لا قسوة أشد من الافتراء على الله وتغيير كلامه وَنَسُوا حَظًّا تركوا نصيبا وافرا أو قسطا وافيا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ من التوراة يريد أن تركهم التوراة وإعراضهم عن العمل بها إغفال حظ عظيم، أو فسدت نياتهم فحرفوا التوراة وزالت علوم منها عن حفظهم كما روي عن ابن مسعود: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية. وقال ابن عباس: تركوا نصيبا مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. ثم بيّن أن نكث العهود والغدر لم يزل عادتهم خلفا عن سلف فقال: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ أي خيانة كالعافية والحادثة أو صفة لمحذوف مؤنث أي على فعلة ذات خيانة أو على نفس أو فرقة خائنة أو التاء للمبالغة مثل «رجل راوية للشعر» إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام وأمثاله، أو هم الذين بقوا على الكفر من غير غدر ونقض لعهودهم فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ بعث على حسن العشرة معهم. فقيل منسوخ بآية الجهاد يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم: 9] وقيل: المراد فاعف عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم. وقيل: بناء على أن القليل هم الباقون على العهد منهم أن المراد لا تؤاخذهم بالصغائر ما داموا باقين على العهد وهذا قول أبي مسلم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس: معناه إذا عفوت فأنت محسن، وإذا كنت محسنا فقد أحبك الله. وعلى قول أبي مسلم فالمراد بهؤلاء المحسنين هم القليلون الذين ما نقضوا عهد الله وفي هذا التفسير بعد والله أعلم. ثم قال: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ولم يقل ومن النصارى لأنهم إنما سموا أنفسهم بهذا الاسم ادعاء لنصرة الله، وهم الذين قالوا لعيسى عليه السلام نحن أنصار الله وكانوا بالحقيقة أنصار الشيطان حيث اختلفوا وخالفوا الحق أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ إن كان الضمير عائدا إلى الذين قالوا فالمعنى ظاهر، وإن عاد إلى اليهود فالمعنى أخذنا منهم مثل ميثاق اليهود في أفعال الخير والإيمان بالرسل فَأَغْرَيْنا ألصقنا وألزمنا ومنه الغراء الذي يلصق به وغرى بالشيء لزمه ولصق به بَيْنَهُمُ بين فرق النصارى أو بينهم وبين اليهود. ثم دعا اليهود والنصارى إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ ووحد الكتاب لأنه أخرج مخرج الجنس مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ كصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكصفة الرجم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 وهذا معجز لأنه لم يقرأ كتابا وقد أخبرهم بأسرار كتابهم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ مما تخفونه فلا يبينه مما لا تمس إليه حاجة في هذا الدين. وعن الحسن: ويعفو عن كثير منكم لا يؤاخذه بجرمه قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ محمد أو الإسلام وَكِتابٌ مُبِينٌ هو القرآن لإبانته ما كان خافيا على الناس من الحق، أو لأنه ظاهر الإعجاز، ويحتمل أن يكون النور والكتاب هو القرآن والمغايرة اللفظية كافية بين المعطوفين. ولا شك أن القرآن نور معنوي تتقوى به البصيرة على إدراك الحقائق والمعقولات. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ أي بالكتاب مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ من كان مطلوبه اتباع الدين الذي يرتضيه الله لا الذي ألفه بحسب هواه سُبُلَ السَّلامِ طرق السلامة أو طرق دار السلام أو سبيل دين الله إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ بناء على جواز الحلول فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً من الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله ومنع شيء من مراده. وقوله: إِنْ أَرادَ شرط جزاء آخر محذوف يدل عليه ما تقدمه والمعنى إن أراد أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ المدعو إلها وغيره فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره؟؟؟ والمراد بعطف من في الأرض على المسيح وأمه أنهما من جنسهم وشكلهم في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وسائر الأعراض. فلما سلمتم كونه تعالى خالقا لغيرهما وجب أن يكون خالقا لهما ومتصرفا فيهما. وإنما قال: وَما بَيْنَهُما بعد ذكر السموات والأرض ولم يقل «بينهن» لأنه أراد الصنفين أو النوعين. وفي قوله: يَخْلُقُ ما يَشاءُ وجهان: أحدهما يخلق تارة من ذكر وأنثى، وتارة من أنثى فقط كما في حق عيسى، وتارة من غير ذكر وأنثى كآدم عليه السلام. وثانيهما أن عيسى إذا قدر صورة الطير من الطين فإن الله تعالى يخلق فيها اللحمية والحياة معجزة لعيسى، وكذا إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قيل: عليه أن اليهود لا يقولون ذلك فكيف يجوز نقل ذلك عنهم؟ وأما النصارى فلا يقولون ذلك في حق أنفسهم. وأجيب بأن المضاف محذوف أي نحن أبناء رسل الله أو أريد إن عناية الله تعالى بحالهم أكمل وأشد من اعتناء الأب بالابن، أو اليهود زعموا أن عزيرا ابن الله، والنصارى أن المسيح ابن الله. وقد يقول أقارب الملوك وحشمه نحن الملوك وغرضهم كونهم مختصين بذلك الشخص الذي هو الملك. عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوفهم بعقاب الله فقالوا: كيف تخوفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه؟ ومما يتلو النصارى في الإنجيل الذي لهم أن المسيح قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم. ثم إنه سبحانه أبطل عليهم دعواهم بقوله: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فسئل أن موضع الإلزام هو عذاب الدنيا فحينئذ تمكن المعارضة بوقعة أحد وبقتل أحباء الله كالحسن والحسين عليهما السلام أو عذاب الآخرة. فالقوم ينكرون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 ذلك ولو كان مجرد إخبار محمد صلى الله عليه وسلم كافيا لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادّعاء أنهم أحباء الله كافيا ويصير الاستدلال ضائعا. وأجيب بأن محل الإلزام عذاب عاجل، والمعارضة بيوم أحد ساقطة لأنهم وإن ادعوا أنهم الأحباء لكنهم لم يدعوا أنهم الأبناء. أو عذاب آجل واليهود والنصارى يعترفون بذلك وأنهم تمسهم النار أياما معدودة. ويمكن أن يقال: المراد مسخهم قردة وخنازير بل هذا الجواب أولى ليكون الاحتجاج عليهم بشيء قد دخل في الوجود فلا يمكنهم الإنكار. بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ جملة مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ليس لأحد عليه حق يوجب أن يغفر له ولا قدرة تمنعه من أن يعذبه، وباقي الآية تأكيد لهذا المعنى يُبَيِّنُ لَكُمْ في محل النصب على الحال وفيه وجهان: أن يقدر المبين وهو الدين والشرائع وحسن حذفه لأن كل أحد يعلم أن الرسول إنما أرسل لبيان الشرائع، أو هو ما كنتم تخفون وحسن حذفه لتقدم ذكره وأن لا يقدر المبين. والمعنى يبذل لكم البيان وحذف المفعول أعم فائدة. وقوله: عَلى فَتْرَةٍ متعلق ب جاءَكُمْ أو حال آخر. قال ابن عباس: أي على حين فتور من إرسال الرسل وفي زمان انقطاع الوحي. وسميت المدّة بين الرسولين من رسل الله فترة لفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع. وكان بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة وستون أو ستمائة سنة. وعن الكلبي: كان بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألف نبي، وبين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم أربعة أنبياء، ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي. وأما العنسي بالنون فهو المتنبئ الكاذب. والمقصود أن الرسول بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وتطرق التحريف والتغيير إلى الشرائع المتقدمة وكان ذلك عذرا ظاهرا في إعراض الخلق عن العبادات، لأن لهم أن يقولوا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادات ولكنا ما عرفنا كيف نعبدك، فمن الله تعالى عليهم بإزاحة هذه العلة وذلك قوله: أَنْ تَقُولُوا أي كراهة أن تقولوا: ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ أي لا تعتذروا فقد جاءكم. والحاصل أن الفترة توجب الاحتياج إلى بعثة الرسل والله قادر على ذلك لأنه قادر على كل شيء، فكان يجب في حكمته ورحمته إرسال الرسل في الفترات إلزاما للحجج وإقامة للبينات. التأويل: جعل في أمة موسى عليه السلام اثني عشر نقيبا، وجعل في هذه الأمة من النجباء البدلاء أربعين رجلا كما قال صلى الله عليه وسلم: «يكون في هذه الأمة أربعون على خلق إبراهيم وسبعة على خلق موسى وثلاثة على خلق عيسى عليه السلام وواحد على خلق محمد صلى الله عليه وسلم» وقال أبو عثمان المغربي: البدلاء أربعون، والأمناء سبعة، والخلفاء ثلاثة، والواحد هو القطب، والقطب عارف بهم جميعا ويشرف عليهم ولا يعرفه أحد ولا يشرف عليه وهو إمام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 الأولياء، وهكذا حال الثلاثة مع السبعة والسبعة مع الأربعين، فإذا نقص من الأربعين واحد بدل مكانه واحد من غيرهم، وإذا نقص من السبعة واحد جعل مكانه واحد من الأربعين، وإذا نقص من الثلاثة واحد جعل مكانه واحد من السبعة، وإذا مضى القطب الذي به قوام أعداد الخلق جعل بدله واحد من الثلاثة هكذا إلى أن يأذن الله تعالى في قيام الساعة. لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ بأن تجعلها معراجك إلى الحق في درجات القيام والركوع والسجود والتشهد. فبالقيام تتخلص عن حجب أوصاف الإنسانية وأعظمها الكبر وهو من خاصية النار، وبالركوع تتخلص عن حجب صفات الحيوانية وأعظمها الشهوة وهو من خاصية الهواء، وبالسجود تتخلص عن حجب طبيعة النبات وأعظمها الحرص على الجذب للنشو والنماء وهو من خاصية الماء، وبالتشهد تتخلص عن حجب طبع الجماد وأعظمها الجمود وهو خاصية التراب، فإذا تخلصت من هذه الحجب فقد أقمت الصلاة مناجيا ربك مشاهدا له كما قال صلى الله عليه وسلم: «اعبد الله كأنك تراه» . وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ بأن تصرف ما زاد من روحانيتك بتعلق القالب في سبيل الله وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي استسلمتم بالكلية لتصرفات النبوّة والرسالة وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ بالوجود كله قَرْضاً حَسَناً وهو أن يأخذ منكم وجودا مجازيا فانيا ويعطيكم وجودا حقيقيا باقيا كما يقول. لَأُكَفِّرَنَّ لأسترن بالوجود الحقيقي عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ الوجود المجازي وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ الوصلة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أنهار العناية وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ لأنّ العصيان يجر إلى العصيان فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ حيث نسوا حظ الميثاق وأبطلوا الاستعداد الفطري صاروا كالسباع يتهارشون ويتجاذبون يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يجعل أقواما مظهر لطفه وفضله وآخرين مظهر قهره وعدله وهو أعلم بعباده. [سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 26] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 القراآت: جَبَّارِينَ بالإمالة: قتيبة ونصير وأبو عمرو حيث كان. فَلا تَأْسَ بغير همزة حيث وقعت: أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف. الوقوف: مُلُوكاً ز جَبَّارِينَ ق قد قيل لشبهة الابتداء بأن ولكن كسر ألف «إن» بمجيئه بعد القول معطوفا على الأول. حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب. داخِلُونَ هـ الْبابَ ج لذلك. غالِبُونَ هـ مُؤْمِنِينَ هـ قاعِدُونَ هـ الْفاسِقِينَ هـ سَنَةً ج لأنها تصلح ظرفا للتيه بعده والتحريم قبله الْفاسِقِينَ هـ. التفسير: وجه النظم أنه سبحانه كأنه قال: أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وذكرهم موسى نعم الله وأمرهم بمحاربة الجبارين فخالفوا في الكل. منّ الله عليهم بأمور ثلاثة: أوّلها قوله: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وذلك أنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء. وثانيها قوله: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً قال السدي: أي جعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد ما استعبدكم القبط. وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة وفيها مياه جارية وكان لهم أموال كثيرة وخدم يقومون بأمرهم ومن كان كذلك كان ملكا. وقال الزجاج: الملك من لا يدخل عليه أحد إلّا بإذنه. وقيل: الملك هو الصحة والإسلام والأمن والفوز وقهر النفس. وقيل: من كان مستقلا بأمر نفسه ومعيشته ولم يكن محتاجا في مصالحه إلى أحد فهو ملك. وقيل: كان في أسلافهم وأخلافهم ملوك وعظماء، وقد يقال لمن حصل فيهم ملوك إنهم ملوك مجازا. وقيل: كل نبي ملك لأنه يملك أمر أمته ينفذ فيهم حكمه. وثالثها: وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر وإغراق العدوّ وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك من الخوارق والعظائم. وقيل: أراد عالمي زمانهم. روي أن إبراهيم عليه السلام لما صعد جبل لبنان قال الله تعالى له: انظر فما أدرك بصرك فهو مقدّس وميراث لذريتك. وقيل: لما خرج قوم موسى من مصر وعدهم الله إسكان أرض الشام، فكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام أرض المواعيد. ثم بعث موسى عليه السلام اثني عشر نقيبا من الأمناء ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأراضي، فلما دخلوا تلك البلاد رأوا أجساما عظيمة هائلة. قال المفسرون: لما بعث موسى النقباء لأجل التجسس رآهم واحد من أولئك الجبارين فأخذهم وجعلهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وأتى بهم الملك فنثرهم بين يديه وقال متعجبا للملك: هؤلاء يريدون قتالنا. فقال الملك: ارجعوا إلى صاحبكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 وأخبروه بما شاهدتم. فانصرف النقباء إلى موسى وأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه فلم يقبلوا قوله إلّا رجلان- هما كالب بن يوفنا من سبط يهودا، ويوشع بن نون من سبط افرائيم بن يوسف- فإنهما قالا هي بلاد طيبة كثيرة النعم وأجسامهم عظيمة إلّا أن قلوبهم ضعيفة، وأما العشرة الباقية فإنهم أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع من غزوهم. والأرض المقدسة هي المطهرة من الآفات، وقيل من الشرك. وزيف بأنها لم تكن وقت الجبارين كذلك. وأجيب بأنها كانت كذلك فيما قبل لأنها كانت مسكن الأنبياء. ثم إنها ما هي؟ فعن عكرمة والسدي وابن زيد هي أريحا. وقال الكلبي: دمشق وفلسطين وبعض الأردن. وقيل: الطور وما حوله. وقيل: بيت المقدس. وقيل: الشام. ومعنى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وهبها لكم أو خط في اللوح المحفوظ أنها لكم أو أمركم بدخولها. قال ابن عباس: كانت هبة ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم. وقيل: المراد خاص أي مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم. وقيل: إن الوعد كان مشروطا بالطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط. وقيل: حرمها عليهم أربعين سنة فلما مضى الأربعون حصل ما كتب. وفي قوله: كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ تقوية القلوب وأنّ الله سينصرهم مع ضعفهم على الجبارين مع قوّتهم. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوّة موسى عليه السلام وإخباره بهذه النصرة، أو لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها إلى التي خرجتم عنها. فقد روي أن القوم كانوا قد عزموا على الرجوع إلى مصر فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ في الآخرة بفوت الثواب ولحوق العقاب، أو فترجعوا إلى الذل أو تموتوا في التيه غير واصلين إلى شيء من مطالب الدنيا ومنافع الآخرة. والجبار «فعال» من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد وهو اختيار الفراء والزجاج. قال الفراء: لم أسمع «فعالا» من «أفعل» إلّا في حرفين: جبار من أجبر، ودراك من أدرك. ويقال: نخلة جبارة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها. والقوم كانوا في غاية القوّة ونهاية العظم فجبن قوم موسى عنهم حتى قالوا على سبيل المبالغة في الاستبعاد إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ كقوله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: 40] قالَ رَجُلانِ هما يوشع وكالب مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا أي بالهداية والثقة بقوله والاعتماد على نصره ومحل أَنْعَمَ اللَّهُ مرفوع صفة لرجلان. ويحتمل أن يكون جملة معترضة. قال القفال: يجوز أن يكون الضمير في يَخافُونَ لبني إسرائيل والعائد إلى الموصول محذوف تقديره من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون فعلى هذا الرجلان من الجبارين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ مبالغة في الوعد بالنصر والظفر كأنه قال: متى دخلتم باب بلدهم لم يبق منهم نافخ نار ولا ساكن دار فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ علموه ظنا أو يقينا من عادة الله في نصرة رسله عامة ومن صنعه لموسى عليه السلام؟؟؟ في قهر أعدائه خاصة وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا الفاء للإيذان بتلازم ما قبلها وما بعدها. والمعنى لما وعدكم الله النصر فلا ينبغي أن تصيروا خائفين من عظم أجسامهم بل توكلوا على الله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مقرين بوجود الإله القدير، موقنين بصحة نبوّة موسى قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها نفوا دخولهم في المستقبل على وجه التأكيد المؤيس وزادوا في التأكيد بقولهم: أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ قال العلماء: لعلهم كانوا مجسمة يجوّزون الذهاب والمجيء على الله تعالى أو أنهم لم يقصدوا حقيقة الذهاب كقولك: «كلمته فذهب يجيبني» يريد القصد والإرادة. وقيل: المراد بالرب أخوه هارون وسموه ربا لأنه أكبر من موسى. وقيل: التقدير اذهب وربك معين لك بزعمك ولكن لا يجاوبه. قوله فَقاتِلا ولا يبقى لقوله أنت فائدة واضحة. ولا يخفى أنّ هذا القول منهم كفر أو فسق فلهذا قال موسى على سبيل الشكوى والبث رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي قال الزجاج: في إعرابه وجهان: الرفع على موضع إني والمعنى أنا لا أملك إلّا نفسي وأخي كذلك، أو نسقا على الضمير في أَمْلِكُ أي لا أملك أنا وأخي إلّا أنفسنا. والنصب على أنه نسق على الياء أي إني وأخي لا نملك إلّا أنفسنا، أو على نفسي أي لا أملك إلّا نفسي ولا أملك إلّا أخي، لأنّ أخاه إذا كان مطيعا له فهو مالك طاعته، وكأنه لم يثق بالرجلين كل الوثوق فلهذا لم يذكرهما، أو لعله قال ذلك تقليلا لمن يوافقه، أو أراد من يؤاخيه في الدين. فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم كقوله: وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم: 11] أو المراد فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لكل منا بما يستحق وهو في معنى الدعاء عليهم بدليل فاء التسبيب في قوله: فَإِنَّها أي الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثم يفتحها الله لهم من غير محاربة. أو المراد أنهم يتيهون أربعين سنة ومعنى يتيهون يسيرون متحيرين. عن مقاتل أن موسى عليه السلام لما دعا عليهم فأخبره الله بأنهم يتيهون قالوا له: لم دعوت علينا وندم على ما عمل فأوحى الله إليه: فَلا تَأْسَ أي لا تحزن ولا تندم عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ فإنهم أحقاء بالعذاب لفسقهم. وجوّز بعضهم أن يكون ذلك خطابا لمحمد صلى الله عليه وسلم أي لا تحزن على قوم لم تزل مخالفة الرسل هجيراهم. واعلم أن المفسرين اختلفوا في أنّ موسى وهارون هل بقيا في التيه أم لا؟ فقال قوم: إنهما ما كانا في التيه لأنه دعا أن يفرق بينه وبينهم وكل نبي مجاب، ولأن التيه عذاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 والأنبياء لا يعذبون، ولأنّ سبب ذلك العذاب التمرد وهما لم يتمرّدا. وقال آخرون: إنهما كانا مع القوم إلّا أنّ الله تعالى سهل عليهم ذلك العذاب كما أن النار كانت على إبراهيم بردا وسلاما. ثم من هؤلاء من قال: إنّ هارون عليه السلام مات في التيه ومات موسى عليه السلام بعده فيه بسنة، ودخل يوشع عليه السلام أريحا بعد موته بثلاثة أشهر وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته، ومات النقباء في التيه بغتة بعقوبات غليظة إلّا كالب ويوشع. ومنهم من قال: بل بقي موسى عليه السلام بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة والله تعالى أعلم. واختلفوا أيضا في التيه وهي المفازة التي تاهوا فيها فقال الربيع: مقدار ستة فراسخ. وقيل: تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخا. وقيل: ستة في اثني عشر. وقيل: كانوا ستمائة ألف فارس. ثم الأكثرون على أنّ قوله: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ تحريم منع كانوا يسيرون كل يوم على الاستدارة جادّين حتى إذا سئموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا عنه، وكان مع ذلك نعمة الله عليهم من تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك متظاهرة كالوالد الشفيق يضرب ولده ويؤذيه ليتأدب ويتثقف ولكن لا يقطع عنه معروفه وإحسانه. ويشكل هذا القول بأنه كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في ذلك القدر الصغير من المفازة سنين متطاولة بحيث لا يتفق لأحد منهم أن يهتدي طريقا للتيه ولو بأمارات حركات النجوم؟ والجواب أنّ هذا من الخوارق التي يجب التصديق بها كسائر المعجزات التي يستبعد وقوعها. وقال بعضهم: إنّ هذا التحريم تعبّد وإنه تعالى أمرهم بالمكث في تلك المفازة أربعين سنة عقابا لهم على سوء صنيعهم وعلى هذا فلا إشكال. التأويل: أشار موسى الروح إلى القوى البدنية ادخلوا أرض القلب المقدسة التي كتبها الله تعالى للإنسان المستعد في الفطرة، فهابوا تحمل أعباء المجاهدات ولزوم المخالفات والرياضات فقال لهم رجلان- النفسان اللوّامة والمطمئنة- إنكم غالبون إذا دخلتم باب الجدّ والطلب تستبدل الراحة بالتعب، فلم يعتدّوا بقولهما فحرّم الله تعالى ذلك عليهم أربعين سنة هي مدة استيفاء حظوظ النفس الأمارة وانكسار سورة قواها في الأغلب كقوله: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف: 15] . وفي الآية نكتة هي أنّ موسى عليه السلام لما ظن أنه يملك نفسه ونفس أخيه ابتلاه الله في الحال بالدعاء على أمته لأنّ المرء إنما يملك نفسه إذا ملكها عند الغضب فشتان بينه وبين من قال حين شج رأسه وكسرت رباعيته «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» اللهم صلّ عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآل كل بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين. قول الله عزّ وجل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 [سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 40] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) القراآت: لَأَقْتُلَنَّكَ بالنون الخفيفة. روى المعدّل عن زيد يَدِيَ إِلَيْكَ بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع. مِنْ أَجْلِ بكسر النون: يزيد وقرأ ورش بفتح النون موصولة رُسُلُنا بسكون السين حيث كان: أبو عمرو. الوقوف: بِالْحَقِّ م على أن «إذ» معمول اذكر محذوفا ولو وصل لأوهم أنه معمول اتْلُ وهو محال مِنَ الْآخَرِ ط لَأَقْتُلَنَّكَ ط الْمُتَّقِينَ هـ لِأَقْتُلَكَ ج لاحتمال إضمار اللام أو الفاء. الْعالَمِينَ هـ النَّارِ ج لاختلاف الجملتين. الظَّالِمِينَ هـ ج لأجل الفاء. الْخاسِرِينَ هـ سَوْأَةَ أَخِيهِ ط أَخِي ج لطول ما اعترض من المعطوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 والمعطوف عليه. النَّادِمِينَ هـ ج مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ج كذلك لأنّ قوله: مِنْ أَجْلِ يصلح أن يتعلق ب فَأَصْبَحَ وب كَتَبْنا. جَمِيعاً في الموضعين ط. بِالْبَيِّناتِ ز لأنّ «ثم» لترتيب الأخبار. لَمُسْرِفُونَ هـ مِنَ الْأَرْضِ ط عَظِيمٌ هـ لا عَلَيْهِمْ ج لتناهي الاستثناء مع الجواب أي لا تعذب التائبين. أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ هـ تُفْلِحُونَ هـ مِنْهُمْ ج لتناهي الشرط مع اتحاد المقصود من الكلام. أَلِيمٌ هـ لاتحاد المقصود مع اختلاف الجملتين. مُقِيمٌ هـ مِنَ اللَّهِ ط حَكِيمٌ هـ يَتُوبُ عَلَيْهِ ط رَحِيمٌ هـ لِمَنْ يَشاءُ ط قَدِيرٌ هـ. التفسير: في النظم وجوه منها: أنه راجع إلى قوله: إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ [المائدة: 11] فكأنه تعالى ذكر لأجل تسلية نبيّه صلى الله عليه وسلم قصصا كثيرة كقصة النقباء وما انجرّ إليه الكلام من إصرار أهل الكتاب وتعنتهم بعد ظهور الدلائل القاطعة، ثم ختمها بقصة ابني آدم وأنّ أحدهما قتل الآخر حسدا وبغيا ليعلم أنّ الفضل كان محسودا بكل أوان. ومنها أنه عائد إلى قوله: يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ [المائدة: 15] فإنّ هذه القصة وكيفية إيجاب القصاص بسببها كانت من أسرار التوراة. ومنها أنه من تمام قوله: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] أي لا ينفعهم كونهم من أولاد الأنبياء مع كفرهم كما لم ينفع قابيل. والمراد اتل على الناس أو على أهل الكتاب خبر ابني آدم من صلبه- هابيل وقابيل- تلاوة ملتبسة بالحق والصحة من عند الله تعالى، أو ملتبسة بالصدق موافقة لما في التوراة والإنجيل أو بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد والتحذير من سوء عاقبة الحاسد. أو اتل عليهم وأنت محق صادق لا مبطل هازل كالأقاصيص التي لا غناء فيها إِذْ قَرَّبا قال في الكشاف: نصب بالنبا أي قصتهم في ذلك الوقت أو بدل من النبا أي نبأ ذلك الوقت على حذف المضاف، والمقصود إذ قرب كل واحد منهما قربانا إلّا أنه جمعهما في الفعل اتكالا على قرينة الحكاية، أو لأنّ القربان في الأصل مصدر، ثم سمي به ما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة. يروى أنّ آدم عليه السلام كان يولد له في كل سنة بطن غلام وجارية، فكان يزوّج البنت من بطن بالغلام من بطن آخر فولد قابيل وتوأمته إقليما وبعدهما هابيل وتوأمته لبودا. وكانت توأمة قابيل أحسن وأجمل فأراد آدم أن يزوّجها من هابيل فأبى قابيل وقال: أنا أحق بها وليس هذا من الله وإنما هو رأيك. فقال آدم لهما: قرّبا قربانا فمن أيكما قبل قربانه زوّجتها منه. فقبل الله قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل سخطا وقتل أخاه حسدا. هذا ما عليه أكثر المفسرين وأصحاب الأخبار. وقال الحسن والضحاك: إنهما ما كانا ابني آدم لصلبه وإنما كانا رجلين من بني إسرائيل لقوله عزّ من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 قائل: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ ومن البين أنّ صدور الذنب من أحد ابني آدم لا يصلح أن يكون سببا لإيجاب القصاص على بني إسرائيل، وزيف بأنّ الآية تدل على أنّ القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلم ذلك من عمل الغراب ولو كان من بني إسرائيل لم يخف عليه. قال مجاهد: أكل النار علامة الرد. وجمهور المفسرين على أنّ ذلك علامة القبول. وقيل: ما كان في ذلك الوقت فقير يدفع إليه ما يتقرّب به إلى الله فكانت النار تنزل من السماء فتأكله. وإنما صار أحد القربانين مقبولا والآخر مردودا لأنّ حصول التقوى شرط في قبول الأعمال ولهذا قال تعالى حكاية عن المحق في جواب المبطل: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وذلك لأنه لما كان الحسد هو الذي حمله على توعده بالقتل فكأنه قال له: ما لك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على طاعة الله تعالى التي هي السبب في القبول؟ قيل في هذه القصة: إنّ أحدهما جعل قربانه أحسن ما كان معه وكان صاحب غنم، والآخر جعله أردأ ما كان معه وكان صاحب زرع. وقيل: إنه أضمر حين قرب أنه لا يزوّج أخته من هابيل سواء قبل أو لم يقبل. وقيل: لم يكن قابيل من أهل التقوى وفي الكلام حذف فكأن هابيل قال في جواب المتوعد: لم تقتلني؟ قال: لأنّ قربانك صار مقبولا. فقال هابيل: وما ذنبي إنما يتقبل الله من المتقين. ثم حكى الله سبحانه عن المظلوم أنه قال: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ فذكر الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل مقرونا بالباء المزيدة لتأكيد النفي دلالة على أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع البتة. قال مجاهد: كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكنه تحرّج عن قتل أخيه واستسلم له خوفا من الله لأنّ الدفع لم يكن مباحا في ذلك الوقت وهذا وجه قوله: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ وقيل: المعنى لا أبسط يدي إليك لغرض قتلك وإنما أبسط يدي إليك لغرض الدفع. قال أهل العلم: الدافع عن نفسه يجب عليه أن يدفع بالأيسر فالأيسر وليس له أن يقصد القتل بل يجب عليه أن يقصد الدفع، ثم إن لم يندفع إلّا بالقتل جاز له ذلك. ثم قال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فسئل أنه كيف يعقل أن يرجع القاتل مع إثم المقتول وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] ؟ فقال ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة: أي تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي. وقال الزجاج: ترجع إلى الله بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك. وقال في الكشاف: إنه يتحمل مثل الإثم المقدر كأنه قال إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت إليك يدي. سؤال آخر: كيف جاز أن يريد معصية أخيه وكونه من أهل النار؟ والجواب أن هذا الكلام إنما دار بينهما عند ما غلب على ظن المقتول أنه يريد قتله وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل فكأنه لما وعظه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 ونصحه قال له: إن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلا بد أن تترصد لقتلي في وقت غفلة وحينئذ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلي إلّا إذا قتلتك ابتداء بمجرد الظن والحسبان وهذا مني كبيرة ومعصية، وإذا دار الأمر بين أن أكون فاعل هذه المعصية أنا وبين أن تكون أنت فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي، ومن البين أن إرادة صدور الذنب عن الغير في هذه الحالة لا يكون حراما بل هو عين الطاعة. أو المراد أريد أن تبوء بعقوبة قتلي، ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يريد من الله تعالى عقاب الظالم. وروي أنّ الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم، فعلى هذا يجوز أن يقال: إني أريد أن تبوء بإثمي الذي يحمل عليك يوم القيامة إذا لم تجد ما يرضيني، وبإثمك في قتلك إياي وهذا يصلح جوابا عن السؤال الأوّل أيضا. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ وسعته ورخصته وسهلت من طاع له المرتع وأطاع إذا اتسع وله لأجل زيادة الربط كقول القائل: حفظت لزيد ماله. ومنهم من قال: شجعته فقتله. والتحقيق أن الإنسان يعلم أن القتل العمد العدوان من أعظم الذنوب فهذا الاعتقاد يكون صارفا له عن فعله فلا يطاوع النفس الأمارة حتى إذا كثرت وساوسها انقاد لها وخضع. وإضافة التطويع والتمرين إلى النفس لا ينافي كون الكل مضافا إلى قضاء الله فتنبه. يحكى أنّ قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل فظهر له إبليس وأخذ طيرا وضرب رأسه بحجر فتعلّم قابيل ذلك منه. ثم إنه وجد هابيل يوما نائما فضرب رأسه بصخرة فمات. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها» «1» وذلك أنه أوّل من سن القتل فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ دنياه وآخرته لأنه أسخط والديه وبقي مذموما إلى يوم القيامة ثم يلقى في النار خالدا. قيل: لما قتل أخاه هرب من أرض اليمن إلى عدن فأتاه إبليس وقال له: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها. فبنى بيت نار وهو أوّل من عبد النار. وروي أن هابيل قتل وهو ابن عشرين سنة، وكان قتله عند عقبة حراء. وقيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم. وروي أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلا. فقال: بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك. ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك وإنه رثاه بشعر هو هذا: تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح   (1) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 33. كتاب الأنبياء باب 1. مسلم في كتاب القسامة حديث 27. الترمذي في كتاب العلم باب 14. النسائي في كتاب التحريم باب 1. ابن ماجه في كتاب الديات باب 1. أحمد في مسنده (1/ 383، 430) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليح. قال في الكشاف: إنه كذب بحت وقد صح أن الأنبياء معصومون عن الشعر وصدّقه في التفسير الكبير وقال: إنّ ذلك من غاية الركاكة بحيث لا يليق بالآحاد فضلا عن الأفراد وخصوصا من علمه حجة على الملائكة. وأقول: أما أن جميع الأنبياء معصومون عن الشعر فلعل دعوى العموم لا تمكن فيه وكأنه من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا أثنى الله تعالى عليه بقوله: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69] وأما أنه من الركاكة بالحيثية المذكورة فمكابرة مع أن مقام البث والشكوى لا يحتمل الشعر المصنوع والله أعلم بحقيقة الحال. قال المفسرون: إنه لما قتله تركه لا يدري ما يصنع به ثم خاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى تغيّر فبعث الله غرابا. روى الأكثرون أنه بعث غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فتعلم من الغراب. وقال: الأصم: لما قتله وتركه بعث الله غرابا يحثى على المقتول فلما رأى القاتل أنّ الله تعالى كيف يكرمه بعد موته ندم. وقال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئا فتعلم ذلك منه لِيُرِيَهُ أي الله أو الغراب أي ليعلمه وذلك أنه كان سبب تعليمه كَيْفَ يُوارِي محله نصب على الحال من ضمير يُوارِي والجملة منصوبة بيرى مفعولا ثانيا أي ليريه كيفية مواراة سوأة أخيه أي عورته وهو ما لا يجوز أن ينكشف من جسده. وقيل: أي جيفة أخيه. والسوأة السوء الخلة القبيحة يا وَيْلَتى كلمة عذاب. يقال: ويل له وويله ومعناه الدعاء بالإهلاك وقد يقال في معرض الترحم. وإنما طلب إقبال الويل هاهنا على سبيل التعجب والندبة أي احضر حتى يتعجب منك ومن فظاعتك أو احضر فهذا أوان حضورك. والألف بدل من ياء المتكلم. أَعَجَزْتُ استفهام بطريق الإنكار أَنْ أَكُونَ أي عن أن أكون مِثْلَ هذَا الْغُرابِ أي في الفعلة المذكورة ولهذا قال: فَأُوارِيَ بالنصب على جواب الاستفهام مِنَ النَّادِمِينَ الندم وضع للزوم ومنه النديم لملازمته المجلس. وإنما لم يكن ندمه توبة لأنه لما تعلم الدفن من الغراب صار من النادمين على أنّ حمله على ظهره سنة، أو ندم على قتل أخيه لأنه لم ينتفع بقتله بل سخط عليه أبواه وإخوته، أو ندم لأنه تركه بالعراء استخفافا وتهاونا وكان دون الغراب في الشفقة على مقتوله حتى صار الغراب دليلا وقد قيل: إذا كان الغراب دليل قوم مِنْ أَجْلِ ذلِكَ القتل قيل: هو من أجل شرا يأجله أجلا إذا جناه كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ إن كان القاتل والمقتول من بني إسرائيل فالمناسبة بين الواقعة وبين وجوب القصاص عليهم ظاهرة، وإن كانا ابني آدم من صلبه فالوجه أن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 ذلك إشارة إلى ما في القصة من أنواع المفاسد كخسران الدارين وكالندم على الأمور المذكورة، أي من أجل ما ذكرنا في أثناء القصة من المفاسد الناشئة من القتل العمد العدوان شرعنا القصاص في حق القاتل، ثم وجوب القصاص وإن كان عاما في جميع الأديان والملل إلّا أنّ التشديد المذكور في الآية- وهو أن قتل النفس الواحدة جار مجرى قتل جميع الناس- غير ثابت إلّا على بني إسرائيل. والغرض بيان قساوة قلوبهم فإنهم مع علمهم بهذا الحكم أقدموا على قتل الأنبياء والرسل فيكون فيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الواقعة التي عزموا فيها على قتله. ثم القائلون بالقياس استدلوا بالآية على أنّ أحكام الله تعالى قد تكون معللة بالعلل لأنه صرّح بأن الكتبة معللة بتلك المعاني المشار إليها بقوله: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ والمعتزلة أيضا قالوا: إنها دلّت على أنّ الأحكام معللة بمصالح العباد. ويعلم منه امتناع كونه تعالى خالقا للكفر والقبائح لأنّ ذلك ينافي مصلحة العبد. والأشاعرة شنعوا عليهم بلزوم الاستكمال. والتحقيق أنّ استتباع الفعل الغاية الصحيحة لا ينافي الكمال الذاتي وقد سبق مرارا. بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير قتل نفس وهو أن يقع لا على وجه الاقتصاص. أَوْ فَسادٍ قال الزجاج: إنه معطوف على نَفْسٍ بمعنى أو بغير فساد فِي الْأَرْضِ كالكفر بعد الإيمان وكقطع الطريق وغيره من المهدّدات فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وهاهنا نكتة وهي أنّ التشبيه لا يستدعي التسوية بين المشبه والمشبه به من كل الوجوه، فلا يكون قتل النفس الواحدة قتل جميع الناس فإنّ الجزء لا يعقل أنه مساو للكل. فالغرض استعظام أمر القتل العمد العدوان واشتراك القتلين في استحقاق الإثم كما قال مجاهد: قاتل النفس جزاؤه جهنم وغضب الله والعذاب العظيم ولو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك. والتحقيق فيه أنه إذا أقدم على القتل العمد العدوان فقد رجح داعية الشهوة والغضب على داعية الطاعة، وإذا ثبت الترجيح بالنسبة إلى واحد ثبت بالنسبة إلى كل واحد بل بالإضافة إلى الكل لأنّ كل إنسان يدلي من الكرامة والحرمة بما يدلي به الآخر. وفيه أن جد الناس واجتهادهم في دفع قاتل شخص واحد يجب أن يكون مثل جدّهم في دفعه لو علموا أنه يقصد قتلهم بأسرهم وَمَنْ أَحْياها استنقذها من مهلكة كحرق أو غرق أو جوع مفرط ونحو ذلك، والكلام في تشبيه إحياء البعض بإحياء الكل كما تقرر في القتل ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل بَعْدَ ذلِكَ بعد مجيء الرسل لَمُسْرِفُونَ في القتل لا يبالون بهتك حرمة. ومعنى «ثم» تراخي الرتبة. ثم إنه سبحانه بين أن الفساد في الأرض الموجب للقتل ما هو فقال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ استدل بالآية من جوز إرادة الحقيقة والمجاز معا من لفظ واحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 لأنّ محاربة الله عبارة عن المخالفة فقط ولا يمكن حملها على حقيقة المحاربة. ويحتمل أن يقال: إنا نحمل هذه المحاربة على مخالفة الأمر والتكليف. والتقدير إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله، أو المراد إنما جزاء الذين يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله كما جاء في الخبر «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» «1» . وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً نصب على الحال أي مفسدين، أو على العلة أي للفساد، أو على المصدر الخاص نحو: رجع القهقرى. لأنّ الفساد نوع من السعي. عن قتادة عن أنس أن الآية نزلت في العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم ثم سمل أعينهم وتركهم حتى ماتوا فكانت الآية ناسخة لتلك السنة. وعند الشافعي لما لم يجز نسخ السنة بالقرآن كان الناسخ لتلك السنة سنة أخرى ونزل هذا القرآن مطابقا للسنة الناسخة. وقيل: نزلت في قوم أبي برزة الأسلمي- وكان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد- فمرّ بهم قوم من كنانة يريدون الإسلام وأبو برزة غائب فقتلوهم وأخذوا أموالهم. وقيل: إنها في بني إسرائيل الذين حكى الله عنهم أنهم مسرفون في القتل. وقيل: في قطّاع الطريق من المسلمين وهذا قول أكثر الفقهاء. قالوا: ولا يجوز حمل الآية على المرتدين لأنّ قتل المرتد لا يتوقف على المحاربة وإظهار الفساد في الأرض، ولأنه لا يجوز الاقتصار في المرتد على قطع اليد أو النفي، ولأن حدّه يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه وبعدها، ولأنّ الصلب غير مشروع في حقه، ولأن اللفظ عام. وشرطوا في هذا المحارب بعد كونه مسلما مكلفا أن يكون معتمد القوة في المغالبة مع البعد عن الغوث فيخرج الكفار والمراهقون والمعتمد على الهرب، وكذا المتعرض للقادر على الاستعانة بمن يغيثه. واتفقوا على أنّ هذه الحالة إذا حصلت في الصحراء كان قاطع الطريق، فأما في نفس البلد فكذلك عند الشافعي لعموم النص. وخالف أبو حنيفة ومحمد لأنه يلحقه الغوث في الغالب فحكمه حكم السارق. وللعلماء في لفظ «أو» في الآية خلاف. فعن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وقول الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد أنها للتخيير إن شاء الإمام قتل وإن شاء صلب وإن شاء قطع الأيدي والأرجل وإن شاء نفى. وعنه في رواية عطاء أنّ الأحكام تختلف بحسب الجنايات، فمن اقتصر على القتل قتل، ومن قتل وأخذ المال قدر نصاب السرقة قتل وصلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطع يده ورجله من خلاف، ومن أخاف السبيل ولم يأخذ المال نفي من الأرض، وإليه ذهب الشافعي والأكثرون. والذي يدل على   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب 16. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 ضعف القول الأول أنه ليس للإمام الاقتصار على النفي بالإجماع ولأن هذا المحارب إذا لم يقتل ولم يأخذ المال فقد همّ بالمعصية ولم يفعل وهذا لا يوجب القتل كالعزم على سائر المعاصي. فتقدير الآية أن يقتلوا إن قتلوا، أو يصلبوا إن جمعوا بين القتل والأخذ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على الأخذ. والتشديد في هذه الأفعال للتكثير. أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إن أخافوا السبيل والقياس الجلي أيضا يؤيد هذا التفسير لأنّ القتل العمد العدوان يوجب القتل فغلظ ذلك في قاطع الطريق بالتحتم وعدم جواز العفو. وأخذ المال يتعلق به قطع اليد فغلظ في حقه بقطع الطرفين مِنْ خِلافٍ أي يده اليمنى ورجله اليسرى، فإن عاد فالباقيتان. قيل: وإنما قطع هكذا لئلّا يفوت جنس المنفعة. قلت: هذا أيضا من باب التغليظ لأنّ اليد اليمنى أعون في العمل والرجل اليسرى أعون في الركوب. وإن جمعوا بين القتل والأخذ يجمع بين القتل والصلب، لأنّ بقاءه مصلوبا في ممر الطريق أشهر وأزجر. وإن اقتصروا على مجرد الإخافة اقتصر الشرع على عقوبة خفيفة هي النفي. قال أبو حنيفة: إذا قتل وأخذ المال فالإمام مخيّر بين أن يقتل فقط أو يقطع ثم يقتل ويصلب. وعند الشافعي لا بد من الصلب لأجل النص. وكيفية الصلب أن يقتل ويصلّى عليه ثم يصلب مكفنا ثلاثة أيام. وقيل: يترك حتى يتهرى ويسيل صديده أي صليبه وهو الودك. وعند أبي حنيفة يصلب حيا ثم يمزق بطنه برمح حتى يموت أو يترك بلا طعام وشراب حتى يموت جوعا، ثم إن أنزل غسل وكفن وصلّي عليه ودفن، وإن ترك حتى يتهرى فلا غسل ولا صلاة. أما النفي فإنّ الشافعي حمله على معنيين: أحدهما أنهم إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن ظفر بهم أقام عليهم الحد، وإن لم يظفر بهم طلبهم أبدا. فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي. والثاني الذين يحضرون الواقعة ويعينونهم بتكثير السواد وإخافة المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال، فالإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم، فيكون المراد بنفيهم هو هذا الحبس. وقال أبو حنيفة وأحمد وإسحق: النفي هو الحبس لأنّ الطرد عن جميع الأرض غير ممكن، وإلى بلدة أخرى استضرار بالغير، وإلى دار الكفر تعريض للمسلم بالردة، فلم يبق إلّا أن يكون المراد الحبس لأنّ المحبوس لا ينتفع بشيء من طيبات الدنيا فكأنه خارج منها ولهذا قال صالح بن عبد القدوس حين حبسوه على تهمة الزندقة وطال لبثه: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا. ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ ذل وفضيحة فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ استدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 المعتزلة بها على القطع بوعيد الفساق وعلى الإحباط. وقالت الأشاعرة: بل بشرط عدم العفو إِلَّا الَّذِينَ تابُوا قال الشافعي: إن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه ما يختص بقطع الطريق من العقوبات لأنه متهم حينئذ بدفع العذاب عنه وفي سائر الحدود بعد القدرة عليه. قيل: يكفي في التوبة إظهارها كما يكفي إظهار الإسلام تحت ظلال السيوف. والأصح أنه لا بدّ مع التوبة من إصلاح العمل لقوله تعالى في الزنا فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما [النساء: 16] وفي السرقة فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ ولعل الفائدة في هذا الشرط أنه إن ظهر ما يخالف التوبة أقيم عليه الحد، وإنما يسقط بتوبة قاطع الطريق قبل القدرة عليه تحتم القتل. فالولي يقتص أو يعفو بناء على أن عقوبة قاطع الطريق لا تتمحض حدا بل يتعلق بها القصاص وهو الأظهر، أما إذا محضناه حدا فلا شيء عليه، وإن كان قد أخذ المال وقتل سقط الصلب وتحتم القتل. وفي القصاص وضمان المال ما ذكرنا وإن كان قد أخذ المال سقط عنه قطع الرجل. وفي قطع اليد وجهان: الأظهر السقوط أيضا بناء على أنه جزء من الحد الواجب فإذا لم يقم الكل لم يقم شيء من أجزائه بالاتفاق. والثاني أنه ليس من خواص قطع الطريق لأنه يجب بالسرقة ففي سقوطه الخلاف في سائر الحدود. ثم إنه سبحانه لما بيّن كمال جسارة اليهود على المعاصي وغاية بعدهم عن الوسائل إلى الله وآل الكلام إلى ما آل عاد إلى إرشاد المؤمنين ليكونوا بالضدّ منهم فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وأيضا فإنهم قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه أي نحن أبناء الأنبياء وكان افتخارهم بأعمال آبائهم فقيل للمؤمنين: لتكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بأسلافكم فقوله: اتَّقُوا اللَّهَ إشارة إلى ترك المنهيات وقوله: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ عبارة عن فعل المأمورات وإن كان ترك المناهي أيضا من جملة الوسائل إلّا أن هذا التقرير مناسب، والفعل والترك أيضا يعتبران في الأخلاق الفاضلة والذميمة وفي الأفكار الصائبة والخاطئة، وأهل التحقيق يسمون الترك والفعل بالتخلية والتحلية أو بالمحو والحضور أو بالنفي والإثبات أو بالفناء والبقاء، والأول مقدّم على الثاني، فما لم يفن عما سوى الله لم يرزق البقاء بالله. والوسيلة «فعيلة» وهي كل ما يتوسل به إلى المقصود ولهذا قد تسمى السرقة توسلا والواسل الراغب إلى الله قال لبيد: ألا كل ذي لب إلى الله واسل والتوسيل والتوسل واحد يقال: وسل إلى ربه وسيلة وتوسل إليه بوسيلة إذا تقرب إليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 بعمل قالت التعليمية: إنه تعالى أمر بابتغاء الوسيلة إليه فلا بد من معلم يعلمنا معرفته. وأجيب بأن الأمر بالابتغاء مؤخر عن الإيمان لقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فعلمنا أن المراد بالوسائل هي العبادات والطاعات. ثم إن ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي لما كان شاقا على النفس ثقيلا على الطبع لأن العقل يدعو إلى خدمة الله والنفس تدعو إلى اللذات الحسيات والجمع بينهما كالجمع بين الضرتين والضدّين أردف التكليف المذكور بقوله: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ والمراد بهذا القيد أن تكون العبادة لأجله لا لغرض سواه وهذه مرتبة السابقين. ثم قال: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ والفلاح اسم جامع للخلاص من المكروه والفوز بالمحبوب وهذه دون الأولى لأن غرضه الرغبة في الجنة أو الرهبة من النار وكلتا المرتبتين مرضية. ثم أشار إلى مرتبة الناقصين بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وخبر «إن» مجموع الجملة الشرطية وهي قوله: لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ أي بالمذكور أو الواو بمعنى «مع» والعامل في المفعول معه وهو المثل ما في «إن» من معنى الفعل أي لو ثبت: مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ والغرض التمثيل وأن العذاب لازم لهم وقد مر مثله في سورة آل عمران. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «يقال للكافر يوم القيامة أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك» «1» . يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا أي يتمنون الخروج من النار أو يقصدون ذلك. قيل: إذا رفعهم لهب النار إلى فوق فهناك يتمنون الخروج. وقيل: يكادون يخرجون منها لقوتها ورفعها إياهم. عمم المعتزلة هذا الوعيد في الكفار وفي الفساق، وخصصه الأشاعرة بالكفار لدلالة الآية المتقدمة. ثم إنه تعالى عاد إلى تتميم حكم أخذ المال من غير استحقاق وهو المأخوذ على سبيل الخفية لا المحاربة فقال: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ وهما مرفوعان على الابتداء والخبر محذوف عند سيبويه والأخفش والتقدير فيما فرض أو فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمها. وعند الفراء- وهو اختيار الزجاج- أن الألف واللام فيهما بمعنى الذي والتي وخبرهما: فَاقْطَعُوا ودخول الفاء لتضمنها معنى الشرط كأنه قيل: الذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما. وقراءة عيسى بن عمر بالنصب وفضلها سيبويه على القراءة المشهورة لأن الإنشاء لا يحسن أن يقع خبرا إلّا بتأويل وأما إذا نصبت فإنه يكون من باب الإضمار على شريطة التفسير والفاء يكون مؤذنا بتلازم ما قبلها وما بعدها مثل: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] وضعف قول سيبويه بأنه طعن في قراءة واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجيح للقراءة الشاذة   (1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 49. أحمد في مسنده (3/ 218) . مسلم في كتاب المنافقين حديث 52. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 وفيه ما فيه على أن الإضمار الذي ذهب إليه هو خلاف الأصل. والذي مال إليه الفراء أدل على العموم وأوفق لقوله سبحانه: جَزاءً بِما كَسَبا فإنه تصريح بأن المراد من الكلام الأول هو الشرط والجزاء. أما البحث المعنوي في الآية فإن كثيرا من الأصوليين زعموا أنها مجملة لأنه لم يبين نصاب السرقة وذكر الأيدي وبالإجماع لا يجب قطع اليدين، ولأن اليد تقع على الأصابع بدليل أن من حلف لا يلمس فلانا بيده فلمسه بأصابعه فإنه يحنث، وتقع على الأصابع مع الكف وعلى الأصابع والكف والساعدين إلى المرفقين وعلى كل ذلك إلى المنكبين. وأيضا الخطاب في: فَاقْطَعُوا إما لإمام الزمان كما هو مذهب الأكثرين أو لمجموع الأمة أو لطائفة مخصوصة فثبت بهذه الوجوه أن الآية مجملة. وقال المحققون: مقتضى الآية ولا سيما في تقدير الفراء عموم القطع بعموم السرقة إلّا أن السنة خصصته بالنصاب. أو نقول: إن أهل اللغة لا يقولون لمن أخذ حبة بر إنه سارق. والمراد بالأيدي اليدان مثل: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: 4] وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجب قطعهما معا ولا الابتداء باليسرى. واليد اسم موضوع لهذا العضو إلى المنكب ولهذا قيد في قوله: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: 6] وقد ذهب الخوارج إلى وجوب قطع اليدين إلى المنكبين لظاهر الآية إلّا أن السنة خصصته بالكوع. والحاصل أن الآية عامة لكنها خصصت بدلائل منفصلة فتبقى حجة في الباقي، وهذا أولى من جعلها مجملة غير مفيدة أصلا. ثم إن جمهور الصحابة والفقهاء ذهبوا إلى أن القطع لا يجب إلّا عند شروط كالنصاب والحرز، وخالف ابن عباس وابن الزبير والحسن وداود الأصفهاني والخوارج تمسكا بعموم الآية، ولأن مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة، فالذي يستقله الملك يستكثره الفقير. وقد قال الشافعي: لو قال لفلان عليّ مال عظيم ثم فسره بالحبة يقبل لاحتمال أن يريد أنه عظيم في الحل أو عظيم عنده لشدة فقره. ولما طعنت الملحدة في الشريعة بأن اليد كيف ينبغي أن تقطع في قليل مع أن قيمتها خمسمائة دينار من الذهب، أجيب عنه بأن ذلك عقوبة من الشارع له على دناءته. وإذا كان هذا الجواب مقبولا من الكل فليكن مقبولا منا في إيجاب القطع على القليل والكثير. وأيضا اختلاف المجتهدين في قدر النصاب كما يجيء يدل على أن الأخبار المخصصة عندهم متعارضة فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن. ودعوى الإجماع على أن القطع مخصوص بمقدار معين غير مسموعة لخلاف بعض الصحابة والتابعين كما قلنا. واعلم أن الكلام في السرقة يتعلق بأطراف المسروق ونفس السرقة والسارق. وأما المسروق فمن شروطه عند الأكثرين أن يكون نصابا. ثم قال الشافعي: إنه ربع دينار من الذهب الخالص وما سواه يقوم به وهو مذهب الإمامية لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 قطع إلّا في ربع دينار» «1» وقال أبو حنيفة: النصاب عشرة دراهم لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا قطع إلا في ثمن المجن» «2» والظاهر أن ثمن المجن لا يكون أقل من عشرة دراهم، وقال مالك: ربع دينار أو ثلاثة دراهم. وعن أحمد روايتان كالشافعي وكمالك. وقال ابن أبي ليلى: خمسة دراهم. وعن الحسن: درهم. وفي مواعظه: «احذر من قطع يدك في درهم» . ومنها أن يكون المسروق ملك غير السارق لدى الإخراج من الحرز. فلو سرق مال نفسه من يد غيره كيد المرتهن والمستأجر أو طرأ ملكه في المسروق قل إخراجه من الحرز بأن ورثه السارق أو اتهبه وهو فيه سقط القطع. ومنها أن يكون محترما لا كخمر وخنزير. ومنها أن يكون الملك تاما قويا. والمراد بالتمام أن لا يكون السارق فيه شركة أو حق كمال بيت المال، وبالقوّة أن لا يكون ضعيفا كالمستولدة والوقف. ومنها كون المال خارجا عن شبهة استحقاق السارق، فلو سرق رب الدين من مال المديون فإن أخذه لا على قصد استيفاء الحق أو على قصده والمديون غير جاحد ولا مماطل قطع، وإن أخذه على قصد استيفاء الحق وهو جاحد أو مماطل فلا يقطع سواء أخذ من جنس حقه أو لا من جنسه. وإذا سرق أحد الزوجين من مال الآخر وكان المال محرزا عنه فعند أبي حنيفة لا يجب القطع. وعند الشافعي ومالك وأحمد يجب. ومنها كون المال محرزا لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن» «3» وحرز كل شيء على حسب حاله. فالإصطبل حرز الدواب وإن كانت نفيسة وليس حرزا للثياب والنقود. والصفة في الدار وعرصتها حرزان للأواني وثياب البذلة دون الحلي والنقود فإن العادة فيها الإحراز في الصناديق والمخازن. وعن أبي حنيفة أن ما هو حرز لمال فهو حرز لكل مال. وأما السرقة فهي إخراج المال عن أن يكون محرزا ولا بد من شرط الخفية فلا قطع على المختلس والمنتهب والمعتمد على القوة، ولا على المودع إذا جحد خلافا لأحمد. وأما السارق فيشترط فيه التكليف والتزام الأحكام والاختيار فيقطع الذمي والمعاهد ولا يقطع المكره. وإنما تثبت السرقة بثلاث حجج: باليمين المردودة أو بالإقرار أو بشهادة رجلين. ويتعلق بها حكمان: الضمان والقطع. وقال أبو حنيفة: القطع والغرم لا   (1) رواه مسلم في كتاب الحدود الحديث 1- 5. النسائي في كتاب السارق باب 10. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 22. أحمد في مسنده (6/ 104، 249) . (2) رواه النسائي في كتاب السارق باب 9، 10. (3) رواه النسائي في كتاب السارق باب 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 يجتمعان. حجة الشافعي أن قوله صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» «1» يوجب الضمان. وقد اجتمع في هذه السرقة أمران، وحق الله لا يمنع حق العباد ولهذا يجتمع الجزاء والقيمة في الصيد المملوك، ولو كان المسروق باقيا وجب رده بالاتفاق. حجة أبي حنيفة قوله تعالى: جَزاءً بِما كَسَبا والجزاء هو الكافي، فهذا القطع كاف في جناية السرقة. ورد بلزوم رد المسروق عند كونه قائما. أما كيفية القطع فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقطع يمينه. قال الشافعي: فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثا فيده اليسرى، فإن سرق رابعا فرجله اليمنى، وبه قال مالك. وروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعند أبي حنيفة وأحمد لا يقطع في الثانية وما بعدها لما روي عن ابن مسعود أنه قرأ فاقطعوا أيمانهما، وضعفه الشافعي بأن القراءة الشاذة لا تعارض ظاهر القرآن المقتضي لتكرر القطع بتكرر السرقة. واتفقوا على أنه يقطع اليد من الكوع، والرجل من المفصل بين الساق والقدم. والسيد يملك إقامة الحد على مماليكه لعموم قوله: فَاقْطَعُوا ولم يجوّزه أبو حنيفة. واحتج المتكلمون بالآية في أنه يجب على الأمة نصب الإمام لأن هذا التكليف لا يتم إلّا به وما لا يتم الواجب إلّا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب. وانتصاب جَزاءً ونَكالًا على أنه مفعول لهما، والعامل فَاقْطَعُوا وإن شئت فعلى المصدر من الفعل الذي دل عليه: فَاقْطَعُوا أي جازوهم ونكلوا بهم جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ. فَمَنْ تابَ من السراق مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أي سرقته وَأَصْلَحَ أي يتوب بنية صالحة وعزيمة صحيحة خالية عن الأغراض الفاسدة فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ وعند بعض الأئمة تسقط العقوبة أيضا. وعند الجمهور لا تسقط. وباقي الآيات قد مر تفسيره. وإنما قدم التعذيب على المغفرة طباقا لتقدم السرقة على التوبة. التأويل: إن آدم الروح بازدواجه مع حواء القالب ولد قابيل النفس وتوأمته إقليما الهوى، ثم هابيل القلب وتوأمته ليوذا العقل، فكان الهوى في غاية الحسن في نظر النفس فبه تميل إلى الدنيا ولذاتها. وكان في نظر القلب أيضا في غاية الحسن فبه يميل إلى طلب المولى، وكان العقل في نظر النفس في غاية القبح لأنها به تنزجر عن طلب الدنيا، وكذا في نظر القلب لأنه بالعقل يمتنع عن طلب الحق والفناء في الله ولهذا قيل: العقل عقيله الرجال، فحرم الله تعالى الازدواج بين التوأمين لأن الهوى إذا كان قرين النفس أنزلها أسفل سافلين الطبيعة، وإذا كان قرين القلب كان عشقا فيوصله إلى أعلى فراديس القرب، وإذا   (1) رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 88. الترمذي في كتاب البيوع باب 39. ابن ماجه في كتاب الصدقات باب 5. الدارمي في كتاب البيوع باب 56. أحمد في مسنده (5/ 1، 13) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 كان العقل قرين القلب صار عقالا له، وإذا كان قرين النفس حرضها على العبودية فرضي هابيل القلب وسخط قابيل النفس وكان صاحب زرع أي مدبر النفس النامية وهي القوّة النباتية، فقرب طعاما من أردإ زرعه وهي القوّة الطبيعية، وكان هابيل القلب راعيا لمواشي الأخلاق الإنسانية والصفات الحيوانية فقرب الصفة البهيمية وهي أحب الصفات إليه لاحتياجه إليها لضرورة التغذي والبقاء ولسلامتها بالنسبة إلى الصفات السبعية والشيطانية. فوضعا قربانهما على جبل البشرية ثم دعا آدم الروح فنزلت نار المحبة من سماء الجبروت فحملت الصفة البهيمية لأنها حطب هذه النار ولم تأكل من قربان قابيل النفس شيئا لأنها ليست من حطبها بل هي حطب نار الحيوانية تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ أي إثم وجودي وإثم وجودك، فإن الوجود حجاب بيني وبين محبوبي. فقتل قابيل النفس هابيل القلب والنفس أعدى عدو القلب فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ أما في الدنيا فبالحرمان عن الواردات والكشوف، وأما في الآخرة فبالبعد عن جنات الوصول فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً هو الحرص في الدنيا ليشغل بذلك عن فعلتها. وفي تعليم الغراب إشارة إلى أنه تعالى قادر على تعليم العباد بأي طريق شاء فيزول تعجب الملائكة والرسل باختصاصهم بتعليم الخلق فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ أي في أرض البشرية إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ أولياء الله أَنْ يُقَتَّلُوا بسكين الخذلان أَوْ يُصَلَّبُوا بحبل الهجران على جذع الحرمان أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ عن أذيال الوصال وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ عن الاختلاف أَوْ يُنْفَوْا من أرض القربة والائتلاف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ جعل الفلاح الحقيقي في أربعة أشياء: في الإيمان وهو إصابة رشاش النور في بدو الخلقة وبه يخلص العبد من ظلمة الكفر، وفي التقوى وهو منشأ الأخلاق المرضية ومنبع الأعمال الشرعية وبه الخلاص عن ظلمة المعاصي، وفي ابتغاء الوسيلة وهو إفناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية وبه يخلص من ظلمه أوصاف الوجود، وفي الجهاد في سبيله وهو محو الأنانية في إثبات الهوية وبه يخلص من ظلمة أوصاف الوجود ويظفر بنور الشهود وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها لأنهم خلقوا مظاهر القهر السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ كانا مقطوعي الأيدي عن قبول رشاش النور فكان تطاول أيديهما اليوم إلى أسباب الشقاوة من نتائج قصر أيديهما عن قبول تلك السعادة. جَزاءً بِما كَسَبا الآن في عالم الصورة نَكالًا مِنَ اللَّهِ تقديرا منه في الأزل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 [سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 47] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) القراآت: لِلسُّحْتِ بضمتين: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد وعلي. الباقون بسكون العين. واخشوني بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل وَالْعَيْنَ وما بعده بالرفع علي وافق أبو عمرو وابن كثير وابن عامر ويزيد في وَالْجُرُوحَ بالرفع. وَالْأُذُنَ وبابه بسكون العين: نافع. وَلْيَحْكُمْ بالنصب: حمزة. الباقون بالجزم. الوقوف: قُلُوبُهُمْ ج أي ومن الذين هادوا قوم سماعون، وإن شئت عطفت وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا على مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا ووقفت على هادُوا واستأنفت بقوله سَمَّاعُونَ راجعا إلى الفئتين، والأول أجود لأن التحريف محكي عنهم وهو مختص باليهود آخَرِينَ لا لأن ما بعده صفة لهم. لَمْ يَأْتُوكَ ط مَواضِعِهِ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف. فَاحْذَرُوا ط شَيْئاً ط قُلُوبُهُمْ ط عَظِيمٌ هـ لِلسُّحْتِ ط لأن المشروط غير مخصوص بما يليه أَعْرِضْ عَنْهُمْ ج شَيْئاً ط بِالْقِسْطِ ط الْمُقْسِطِينَ هـ ذلِكَ ط لتناهي الاستفهام بِالْمُؤْمِنِينَ هـ وَنُورٌ ج لاحتمال ما بعده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 الحال والاستئناف شُهَداءَ ط لاختلاف النظم مع فاء التعقيب قَلِيلًا ط الْكافِرُونَ هـ بِالنَّفْسِ ط لمن قرأ وَالْعَيْنَ وما بعده بالرفع بِالسِّنِّ ط لمن قرأ وَالْجُرُوحَ بالرفع قِصاصٌ ط لابتداء الشرط كَفَّارَةٌ لَهُ ط الظَّالِمُونَ هـ مِنَ التَّوْراةِ الأولى ص لطول الكلام وَنُورٌ ط لأن الحال بعده معطوف على محل الجملة قبله الواقعة حالا. لِلْمُتَّقِينَ ط لمن قرأ وَلْيَحْكُمْ بالنصب فِيهِ ط الْفاسِقُونَ هـ. التفسير: خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ في مواضع ولم يخاطبه بقوله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ إلا هاهنا وفي قوله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [المائدة: 67] ولا شك أنه خطاب تشريف وتعظيم شرف به في هذه السورة التي هي آخر السور نزولا حيث تحققت رسالته في الواقع. أما وجه النظم فهو أنه سبحانه لما بين بعض التكاليف والشرائع وكان قد علم مسارعة بعض الناس إلى الكفر فلا جرم صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحمل ذلك ووعده أن ينصره عليهم ويكفيه شرهم. والمراد بمسارعتهم في الكفر تهافتهم فيه وحرصهم عليه حتى إذا وجدوا فرصة لم يخطؤها. آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ فيه تقديم وتأخير أي قالوا بأفواههم آمنا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ قابلون لما يفتعله أحبارهم من الكذب على الله وتحريف كتابه والطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من قولك: الملك يسمع كلام فلان أي يقبله سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي قابلون من الأحبار ومن الذين لم يصلوا إلى مجلسك من شدة البغضاء وإفراط العداوة، ويحتمل أن يراد نفس السماع. واللام في لِلْكَذِبِ لام التعليل أي يسمعون كلامك لكي يكذبوا عليك يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مبدلين ومغيرين سماعون لأجل قوم آخرين وجوههم عيونا وجواسيس مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي التي وضعها الله فيها من أمكنة الحل والحظر والفرض والندب وغير ذلك، أو من وجوه الترتيب والنظم فيهملوها بغير مواضع بعد أن كانت ذات موضع إِنْ أُوتِيتُمْ هذا المحرّف المزال عن موضعه فَخُذُوهُ واعلموا أنه الحق واعملوا به وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ وأفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بخلافه فَاحْذَرُوا فهو الباطل. عن البراء بن عازب قال: مرّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني لم أخبرك. نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحد فقلنا: تعالوا نجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه به فرجم فأنزل الله الآية إلى قوله: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 يقولون ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فحذوا به، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. وفي رواية أخرى أن شريفا من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان وحدهما الرجم في التوراة، فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطا منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقالوا: إن أمركم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد والتحميم فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا وأرسلوا الزانيين معهم، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل عليه السلام: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا فقال: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا. نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض ورضوا به حكما. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدك الله الذي لا إله إلّا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟ قال: نعم. فوثب عليه سفلة اليهود فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب. ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشر به المرسلون. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب مسجده. قال العلماء القائلون برجم الثيب الذمي ومنهم الشافعي: إن كان الأمر برجم الثيب الذمي من دين الرسول صلى الله عليه وسلم فهو المقصود، وإن كان مما ثبت في شريعة موسى عليه السلام فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ، ولم يوجد في شرعنا ما يدل على نسخه، وبهذا الطريق أجمع العلماء على أن قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ حكمه باق في شرعنا. وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ ظاهر الآية أن المراد بالفتنة أنواع الكفر التي حكاها عن اليهود وغيرهم. والمعنى ومن يرد الله كفره وضلالته فلن يقدر أحد على دفع ذلك. ثم أكد هذا بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ وفيه دليل على أنه تعالى لا يريد إسلام الكافر وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك ولو فعل لآمن. والمعتزلة فسروا الفتنة بالعذاب كقوله: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: 13] أو بالفضيحة أو بالإضلال أي تسميته ضالا، أو المراد ومن يرد الله اختباره فيما يبتليه من التكاليف ثم إنه يتركها ولا يقوم بأدائها فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ ثوابا ولا نفعا. ثم قال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ بالألطاف لأنه تعالى علم أنه لا فائدة في تلك الألطاف لأنها لا تنجع في قلوبهم، أو يطهر قلوبهم من الحرج والغم والوحشة الدالة على كفره، أو هو استعارة عن سقوط وقعه عند الله تعالى وأنه غير ملتفت إليه بسبب قبح أفعاله وسوء أعماله. ثم وصف اليهود بقوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وهو الحرام وكل ما لا يحل كسبه من سحته وأسحته أي استأصله لأنه مسحوت البركة، ومال مسحوت أي مذهب. قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 الليث: السحت حرام يحصل منه العار وذلك أنه يسحت فضيلة الإنسان ويستأصلها. ورجل مسحوت المعدة إذا كان أكولا لا يلفى إلّا جائعا أبدا كأنه يستأصل كل ما يصل إليه من الطعام. والسحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستكساب في المعصية روي ذلك عن علي رضي الله عنه وعمر وعثمان وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد، وزاد بعضهم ونقص بعضهم وكل ذلك يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة ويكون فيه عار بحيث يخفيه صاحبه لا محالة. قال الحسن: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة سمع كلامه ولا يلتفت إلى خصمه فكان يسمع الكذب ويأكل السحت. وقيل: كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية فكانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء ويأكلون السحت. وقيل: سماعون للأكاذيب التي كانوا ينسبونها إلى التوراة، أكالون للربا لقوله تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا [النساء: 161] . فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ خيره الله تعالى بين الحكم والإعراض. فقيل: إن هذا الخبر مختص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم. وقيل: إنه في أمر خاص وهو رجم المحصن قاله ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري. وقيل: في قتيل قتل من اليهود في بني قريظة والنضير وكان في بني النضير شرف وكانت ديتهم كاملة وفي قريظة نصف دية، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الدية سواء. وعن النخعي والشعبي وقتادة وعطاء وأبي بكر الأصم وأبي مسلم أن الآية عامة في كل ما جاء من الكفار، وأن الحكم ثابت في سائر الأحكام غير منسوخ. وعن ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وهو مذهب الشافعي أن هذا التخيير منسوخ في حق غير المعاهدين بقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: 49] فيجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارا لهم. وأهل الحجاز بعضهم لا يرون إقامة الحدود عليهم يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين قبل نزول الجزية، ثم إنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلّا لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم، فإذا أعرض صلى الله عليه وسلم عنهم وأبي الحكومة بينهم شق عليهم وعادوا فآمنه الله بقوله: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ بالعدل والاحتياط كما حكمت في الرجم. وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ تعجيب من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من تحكيمهم لوجوه منها: عدولهم عن حكم كتابهم، ومنها رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدونه مبطلا، ومنها إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه وهذا غاية الجهالة ونهاية العناد. والواو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 في قوله: وَعِنْدَهُمُ للحال من التحكيم والعامل ما في الاستفهام من التعجيب. أما قوله: فِيها حُكْمُ اللَّهِ فإما أن ينتصب حالا من التوراة على ضعف وهي مبتدأ خبره عِنْدَهُمُ وإما أن يرتفع خبرا عنها والتقدير وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله فيكون عِنْدَهُمُ متعلق بالخبر، وإما أن لا يكون له محل ويكون جملة مبينة لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كقولك: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره. وأنثت التوراة لما فيها من صورة تاء التأنيث. ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ عطف على يُحَكِّمُونَكَ و «ثم» لتراخي الرتبة أي ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم. وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إخبار بأنهم لا يؤمنون أبدا، أو المراد أنهم غير مؤمنين بكتابهم كما يدعون، أو المراد أنهم غير كاملين في الإيمان على سبيل التهكم بهم. ثم رغب اليهود في أن يكونوا كمتقدميهم من أنبيائهم ومسلمي أحبارهم فقال: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً ونور العطف يقتضي التغاير فقيل: الهدى بيان الأحكام والشرائع والنور بيان التوحيد والنبوة والمعاد. وقال الزجاج: الهدى بيان الحكم الذي جاؤوا يستفتون فيه، والنور بيان أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حق. وقيل: فيها هدى يهدي للحق والعدل، ونور يبين ما استبهم من الأحكام، فهما عبارتان عن معبر واحد، وقد يستدل بالآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا لأن الهدى والنور لا بد أن يكون أحدهما يتعلق بالفروع والآخر بالأصول وإلا كان تكرارا. وأيضا إنها نزلت في الرجم ومورد الآية لا بد أن يكون داخلا فيها سواء قلنا إن غيره داخل أو خارج. ويمكن أن يجاب بأن التكرار بعبارتين غير محذور أو بأن في الكلام تقديما وتأخيرا والمراد فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون. أما قوله: الَّذِينَ أَسْلَمُوا فأورد عليه أن كل نبي مسلم فما الفائدة في هذا الوصف؟ وأجيب بأنها صفة جارية على سبيل المدح لا التوضيح والكشف، وفيه تعريض باليهود أنهم بعداء عن ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء قديما وحديثا لأن غرض الأنبياء الانقياد لتكاليف الله وغرضكم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشا من العوام، فالفريقان متباينان ولهذا أردفه بقوله: لِلَّذِينَ هادُوا أي يحكمون لأجلهم. قال في الكشاف: قوله تعالى: الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا مناد على أن اليهود بمعزل عن الإسلام. قلت: هذا بناء على أن صفة الحاكمين يلزم أن تكون مغايرة لصفة المحكومين. ولقائل أن يقول: بعد تسليم ذلك إنه لم لا يكفي مغايرة العام للخاص؟ وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي: المراد بالنبيين هو محمد صلى الله عليه وسلم كقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] لأنه اجتمع فيه من الخصال ما كانت مفرقة في الأنبياء: وقيل: أسلموا أي انقادوا لحكم التوراة. فمن الأنبياء من لم تكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 شريعتهم شريعة موسى. والربانيون قد مر تفسيره في آل عمران. والأحبار عن ابن عباس هم الفقهاء، الواحد حبر بالفتح من قولهم: فلان حسن الحبر والسبر إذا كان جميلا حسن الهيئة، أو حبر بالكسر من ذلك أيضا لقولهم: حسن الحبر بالكسر أيضا. وفي الحديث: «يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره» أي جماله وبهاؤه. وتحبير الخط والشعر تحسينه أو من هذا الحبر الذي يكتب به لكون العالم صاحب كتب. قاله الفراء والكسائي وأبو عبيدة. ثم إن ذكر الربانيين بعد النبيين يدل على أنهم أعلى حالا من الأحبار فيشبه أن يكون الربانيون كالمجتهدين والأحبار كآحاد العلماء. وقوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا إما أن يكون من صلة يَحْكُمُ أي يحكم بها الربانيون والأحبار بسبب ما استحفظوا، أو يكون من صلة الأحبار أي العلماء بما استحفظوا بما سألهم أنبياؤهم حفظه. و «من» في مِنْ كِتابِ اللَّهِ للتبيين. وقد أخذ الله تعالى على العلماء أن يحفظوا كتابه من وجهين: أحدهما أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم، والثاني أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه. وكانوا أي هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار عليه على أن كل ما جاء في التوراة حق من عند الله شهداء رقباء لئلا يبدل، ويحتمل أن يعود ضمير اسْتُحْفِظُوا إلى النبيين وغيرهم جميعا. والاستحفاظ من الله أي كلفهم الله حفظه وأن يكونوا عليه شهداء. ثم نهى اليهود المعاصرين عن التحريف لرهبة فقال: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وعن التغيير لرغبة فقال: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وهو الرشوة وابتغاء الجاه. ثم عمم الحكم فقال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ احتجت الخوارج بالآية على أن كل من عصى الله فهو كافر. وللمفسرين في جوابهم وجوه: الأول أنها مختصة باليهود وردّ بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا ريب أن لفظ «من» في معرض الشرط للعموم فلا وجه لتقدير ومن لم يحكم من هؤلاء المذكورين الذين هم اليهود لأنه زيادة في النص. وقال عطاء: هو كفر دون كفر. وقال طاوس: ليس بكفر الملة ولا كمن يكفر بالله واليوم الآخر. فلعلهما أرادا كفران النعمة، وضعف بأن الكافر إذا أطلق يراد به الكافر في الدين. وقال ابن الأنباري: المراد أنه يضاهي الكافر لأنه فعل فعلا مثل فعل الكافر وزيف بأنه عدول عن الظاهر. وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: معناه من أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل فيخرج الفاسق لأنه في الاعتقاد والإقرار موافق وإن كان في العمل مخالفا. واعترض بأن سبب النزول يخرج حينئذ لأنه نزل في مخالفة اليهود في الرجم فقط، ويمكن أن يقال: المحرّف داخل في الكل. وقال عكرمة: إنما تتناول الآية من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما العارف المقر إذا أخل بالعمل فهو حاكم بما أنزل الله تعالى ولكنه تارك فلا تتناوله الآية. ثم إنه سبحانه لما بيّن أن حكم الزاني المحصن في التوراة هو الرجم واليهود غيروه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 أراد أن يبين أن نص التوراة هو قتل النفس بالنفس وأنهم بدّلوه حيث فضلوا بني النضير على بني قريظة فقال: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ من قرأ المعطوفات كلها بالنصب فظاهر، ومن قرأ ما سوى الأوّل بالرفع فللعطف على محل النفس إذ المعنى وكتبنا عليهم في التوراة النفس بالنفس إما لإجراء كَتَبْنا مجرى «قلنا» وإما بطريق الحكاية كقولك: كتبت الحمد لله وقرأت سورة «إن أنزلناه» . وإما على سبيل الاستئناف والمعنى على جميع التقادير. فرضنا عليهم فيها أن النفس مقتولة بالنفس إذا قتلتها بغير حق، والعين مفقوأة بالعين، والأنف مجدوع بالأنف، والأذن مصلومة بالأذن، والسن مقلوعة بالسن، والجروح ذات قصاص أي مقاصة. وهذا تعميم للحكم بعد ذكر بعض التفاصيل والمراد منه كل ما يمكن المساواة فيه من الأطراف كالذكر والأنثيين والإليتين والقدمين واليدين، ومن الجراحات المضبوطة كالموضحة مثلا وهي التي توضح العظم وتبدي وضحه وهو الضوء والبياض، وكذا منافع الأعضاء والأطراف كالسمع والبصر والبطش. فأما الذي لا يمكن القصاص فيه كرض في لحم أو كسر في عظم أو خدش وإدماء في جلد ففي ذلك أرش أو حكومة وتفاصيلها في كتب الفقه. فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ الضمير في بِهِ يعود إلى القصاص وفي فَهُوَ إلى التصدق الدال عليه الفعل. وفي لَهُ وجهان: أحدهما أنه يعود إلى العافي المتصدق لما روى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه» «1» وعن عبد الله بن عمرو «يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به» والثاني أنه يعود إلى الجاني المعفو عنه أي لا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو، وأما العافي فأجره على الله تعالى وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي على آثار النبيين بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي عقبناهم به، فتعديته إلى المفعول الثاني بالباء. وقوله: عَلى آثارِهِمْ يسدّ مسد الأول لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي مقرا بأن التوراة كتاب منزل من عند الله تعالى وأنه كان حقا واجب العمل به قبل ورود ناسخه وهو الإنجيل المصدق أيضا لكونه مبشرا بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم كالتوراة. وأما النور فبيان الأحكام الشرعية وتفاصيل التكاليف، والهدى الأول أصول الديانات كالتوحيد والنبوات والمعاد، والهدى الثاني اشتماله على البشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم لأن ذلك سبب اهتداء الناس إلى نبوته، واشتمال الإنجيل على المواعظ والنصائح والزواجر ظاهر وخص الجميع بالمتقين لأنهم هم المنتفعون بذلك. ومن قرأ وَلْيَحْكُمْ بالجزم فإما إخبار عما قيل لهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل أي قلنا لهم ليحكموا بما فيه، وإما أمر مستأنف للنصارى بالحكم   (1) رواه أحمد في مسنده (5/ 230) . [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 بما فيه كتابهم من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو مما لم يصر منسوخا بالقرآن. ومن قرأ بالنصب فلأنه علة فعل محذوف يدل عليه ما تقدمه أي ولأجل حكمهم بما فيه آتيناهم كتابهم، وعلى هذا يجوز أن يكون هدى وموعظة أيضا غرضين معطوفين للحكم والله أعلم. أما قوله: الْكافِرُونَ الظَّالِمُونَ الْفاسِقُونَ فللمفسرين فيه خلاف. قال القفال: هو كقولك من أطاع الله فهو المؤمن من أطاع الله فهو المتقي، لأن كل ذلك أوصاف مختلفة حاصلة لموصوف واحد، فهذه كلها نزلت في الكفار. وقال آخرون: الأول في الجاحد، والثاني والثالث في المقر التارك. وقال الأصم: الأول والثاني في اليهود، والثالث في النصارى. التأويل: سماعون لكذبات الشيطان في وساوسه والنفس في هواجسها سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ يسنون السنة السيئة لغيرهم يُحَرِّفُونَ يغيرون قوانين الشريعة بتمويهات الطبيعة وهذه حال مؤوّلي القرآن والأحاديث على وفق أهوائهم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ لأن الأخلاق الردية أورثتهم الأعمال الدنية. فالأخلاق نتائج الأعمال والأعمال نتائج الأخلاق وكلها من نتائج الاستعداد الفطري فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ مداويا لدائهم إن رأيت التداوي سببا لشفائهم أو أعرض عنهم إن تيقنت إعواز الشفاء لشقائهم وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ داوهم على ما يستحقون من دائهم بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ الفرق بين بني إسرائيل وبين هذه الأمة أنهم استحفظوا التوراة فضيعوها وحرفوها، وقال في حقنا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ كما أن في إهلاك النفس هلاك نفس المهلك ففي إحياء نفس الطالب بحياة الدين حياة نفس محييها، وفي معالجة عين قلبه وأنف قلبه وأذن قلبه وسن قلبه معالجة هذه الأعضاء بمزيد الإدراك. فَمَنْ تَصَدَّقَ بهذا الإحياء فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ فيما فرط من إحياء نفسه ومعالجة قلبه طرفة عين. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ على نفسه بِما أَنْزَلَ اللَّهُ في تزكيتها وتحليتها فأولئك الذين ظلموا أنفسهم بوضع الحظوظ مقام الحقوق والله أعلم. [سورة المائدة (5) : الآيات 48 الى 58] وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 القراآت: تبغون بتاء الخطاب: ابن عامر والخراز عن هبيرة. الباقون بالياء. وَيَقُولُ بالواو وبالرفع: عاصم وحمزة وعلي وخلف، وقرأ أبو عمرو وسهل ويعقوب بالنصب. عياش: مخير. الباقون يَقُولُ بدون واو العطف. مَنْ يَرْتَدَّ بالإظهار: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون بالإدغام. وَالْكُفَّارَ بالجر: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي. الباقون بالنصب عطفا على محل. الَّذِينَ اتَّخَذُوا وقرأ أبو عمرو وعلي غير ليث وأبي حمدون وحمدويه وابن رستم الطبري عن نصير طريق ابن مهران بالإمالة. الوقوف: بِالْحَقِّ ط وَمِنْهاجاً ط الْخَيْراتِ ط تَخْتَلِفُونَ هـ لا لعطف وَأَنِ احْكُمْ على ما قبله. ومن وقف فلأنه رأس آية. أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ط ذُنُوبِهِمْ ط لَفاسِقُونَ هـ يَبْغُونَ ط يُوقِنُونَ هـ أَوْلِياءَ هـ ليلزم النهي عن اتخاذ الأولياء مطلقا. أَوْلِياءُ بَعْضٍ ط مِنْهُمْ ط الظَّالِمِينَ هـ دائِرَةٌ ط لتمام المقول. نادِمِينَ هـ لا لمن قرأ وَيَقُولُ بالنصب عطفا على أَنْ يَأْتِيَ. جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا لأن قوله: إِنَّهُمْ جواب القسم. لَمَعَكُمْ ط خاسِرِينَ هـ وَيُحِبُّونَهُ لا لأن ما بعده صفة قوم الْكافِرِينَ هـ لشبه الآية. لائِمٍ ط مَنْ يَشاءُ ط عَلِيمٌ هـ راكِعُونَ هـ الْغالِبُونَ هـ أَوْلِياءَ ج للعطف ولطول الكلام. مُؤْمِنِينَ وَلَعِباً ط لا يَعْقِلُونَ هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 التفسير: منّ الله تعالى على نبينا صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن إليه مصدقا لما بين يديه من الكتاب أي جنسه وهو كل كتاب سوى القرآن نازل من السماء. وفي المهيمن قولان: قال الخليل وأبو عبيدة: هيمن على الشيء يهيمن إذا كان رقيبا على الشيء وشاهدا ومصدقا. وقال الجوهري: أصله أأمن بهمزتين قلبت الثانية ياء لكراهة اجتماع الهمزتين، ثم الأولى هاء كما في هرقت وهياك. والمعنى إنه أمين على الكتب التي قبله لأنه لا ينسخ البتة ولا يحرف لقوله: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] ومن هنا قرىء: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فتح الميم أي هو من عليه بأن حوفظ من التغيير والتبديل، والذي هيمن عليه عز وجل كما قلنا، أو الحفاظ في كل بلد والقراء المشهود لهم بالإجادة فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بين اليهود بالقرآن وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ منحرفا عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ أو ضمن لا تتبع معنى لا تحزن. قيل: لولا جواز المعصية على الأنبياء لم يجز هذا النهي. والجواب أن ذلك مقدور له ولكن لا يفعله لمكان النهي. أو الخطاب له والمراد غيره لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أيها الناس أو الأمم أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكر الثلاث شِرْعَةً وَمِنْهاجاً قال ابن السكيت: الشرع مصدر شرعت الإهاب إذا شققته وملحته. وقيل: إنه من الشروع في الشيء الدخول فيه، والشرعة مصدر للهيئة بمعنى الشريعة «فعلة» بمعنى «مفعولة» وهي الأمور التي أوجب الله تعالى على المكلفين أن يشرعوا فيها والمنهاج الطريق الواضح وهما عبارتان عن معبر واحد هو الدين والتكرير للتأكيد. ويحتمل أن يقال: الشريعة عامة والمنهاج مكارم الشريعة، فالأولى أقدم وهذه تتلوها وهي الطريقة. وقال المبرد: الشريعة ابتداء الطريق والطريقة المنهاج المستمر. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً جماعة متفقة على شريعة واحدة أو ذوي أمة واحدة أي دين واحد لا خلاف فيه. وفيه دليل على أن الكل بمشيئة الله تعالى. والمعتزلة حملوه على مشيئة الإلجاء وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ أي جعلكم مختلفين متخالفين ليعاملكم معاملة المختبر هل تعملون بالنواميس الإلهية وتذعنون للعقائد الحقة أم تقصرون في العمل وتتبعون الشبه ولذلك قال فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ سارعوا إليها وتسابقوا نحوها. ويعني بالخيرات هاهنا ما هو الحق من الاعتقادات والمحقق من التكاليف. ثم علّل الاستئناف بقوله: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين المحق والمبطل والعام والمقصر. والمراد أن الأمر سيؤل إلى ما يحصل معه اليقين من مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وَأَنِ احْكُمْ قيل معطوف على الْكِتابَ أي وأنزلنا إليك أن احكم على أن «أن» المصدرية وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال، أو على قوله: بِالْحَقِّ أي أنزلناه بالحق وبأن احكم. وأقول: يحتمل أن تكون «أن» مفسرة وفعل الأمر محذوف أي وأمرناك أن احكم. وتكرار الأمر بالحكم إما للتأكيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 وإما لأنهما حكمان لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصنين ثم احتكموا في قتل كان بينهم. وزعم بعض الأئمة أن هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ وعن ابن عباس أن جماعة من اليهود منهم كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشماس بن قيس من أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم لعلنا نفتنه عن دينه. فأتوه فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قوم خصومة ونحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل فيهم: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ محله نصب على أنه مفعول له أي مخافة أن يفتنوك، أو على أنه بدل اشتمال من مفعول احذر. والمراد بالفتنة رده إلى أهوائهم فكل من صرف من الحق إلى الباطل فقد فتن. قال بعض أهل العلم: في الآية دليل على أن الخطأ والنسيان جائزان على النبي صلى الله عليه وسلم، لأن التعمد في مثل هذا غير جائز فلم يبق إلّا الخطأ والنسيان فلو لم يكونا جائزين أيضا لم يكن للحذر فائدة، فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحكم المنزل أي فإن لم يقبلوا حكمك فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أما الإصابة فالمراد بها قتلهم وإجلاؤهم، وأما ذكر بعض الذنوب فلأن مجازاتهم ببعض الذنوب كافية في إهلاكهم وتدميرهم، أو أراد بالبعض ذنب التولي عن حكم الله. وفيه أن لهم ذنوبا جمة وأن هذا الذنب عظيم جدا كقول لبيد: تراك أمكنة إذا لم أرضها. ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها. أراد نفسه وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام فكأنه قال نفسا كبيرة لأن التنكير في معنى البعضية أيضا. لَفاسِقُونَ لمتمردون في الكفر. وفيه أن التولي عن حكم الله فسق مؤكد جدا. ثم استفهم منكرا لرأيهم فقال: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وفيه تعيير لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم ومع ذلك يطلبون حكم الملّة الجاهلية التي هي محض الجهل وصريح الهوى. وقال مقاتل: إن قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القتلى بواء أي سواء. فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك فنزلت. وعن الحسن هو عام في كل من يبتغي غير حكم الله. وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فتلا هذه الآية. واللام في قوله: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ للبيان كاللام في: هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] أي هذا لخطاب وهذا الاستفهام لهم لأنهم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكما ولا أحسن منه بيانا. قال عطية العوفي: جاء عبادة بن الصامت فقال: يا رسول الله إن لي موالي من اليهود كثيرا عددهم حاضرا نصرهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية اليهود، أو إلى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية اليهود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه. قال: قد قبلت فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ تعاشرونهم معاشرة المؤمنين. ثم علل النهي بقوله: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لأن الجنسية علة الضم. ثم أكد ذلك بقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ من جملتهم وحكمه حكمهم ولذلك قال ابن عباس: يريد أنه كافر مثلهم وفيه من التغليظ والتشديد ما فيه. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة فوضعوا الولاء في غير موضعه. عن أبي موسى الأشعري قال: قلت لعمر بن الخطاب: إن لي كاتبا نصرانيا فقال: ما لك قاتلك الله ألا اتخذت حنيفا؟ أما سمعت هذه الآية؟ قلت: له دينه ولي كتابته. فقال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله. قلت: لا قوام بالبصرة إلّا به. قال: مات النصراني والسلام يعني هب أنه قد مات فما كنت تكون صانعا حينئذ فاصنعه الآن. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني أمثال عبد الله بن أبي. يُسارِعُونَ فِيهِمْ في موالاة اليهود والنصارى يهود بني قينقاع ونصارى نجران لأنهم كانوا أهل ثروة وكانوا يعينونهم على مهامهم ويقرضونهم يَقُولُونَ يعتذرون عن الموالاة بقولهم: نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ قال الواحدي: هي الدولة ومثلها صروف الزمان ونوائبه. وقال الزجاج: نخشى أن لا يتم الأمر لمحمد فيدور الأمر كما كان قبل ذلك. ثم سلى رسوله والمؤمنين بقوله: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فعسى من الله الكريم إطماع واجب. والفتح إما فتح مكة أو مطلق دولة الإسلام وغلبة ذويه. وقوله: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ المراد به فعل لا يكون للناس فيه مدخل البتة كقذف الرعب في قلوب بني النضير وغيرهم من الكفار. وقيل: هو أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم. فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من النفاق والشك في أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم يتم نادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قال الواحدي: حذف الواو هاهنا كإثباتها فلهذا جاء في مصاحف أهل الحجاز والشام بغير واو، وفي مصاحف أهل العراق بالواو، وذلك أن في الجملة المعطوفة ذكرا من المعطوف عليها، فإن قوله: أَهؤُلاءِ إشارة إلى الذين يسارعون، فلما حصل في كل من الجملتين ذكر من الأخرى حسن الوجهان. ووجه العطف مع النصب ظاهر ووجه ذلك مع الرفع على أنه كلام مبتدأ أي ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت. ووجه الفصل هو أن يكون جواب سائل يسأل فماذا يقول المؤمنون حينئذ وإنما يقولون هذا القول فيما بينهم تعجبا من حالهم وفرحا بما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 منّ الله عليهم من التوفيق في الإخلاص، أو يقولونه لليهود الذين كانوا يحلفون لهم بالمعاضدة والنصرة كما حكى الله عنهم: وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [الحشر: 11] وقوله: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي بأغلاظ الأيمان نصب على الحال أي يجتهدون جهد أيمانهم أو على المصدر من غير لفظه. حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ من قول الله تعالى أو من جملة قول المؤمنين أي بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها رياء. وفيه معنى التعجب أي ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم حيث بقي عليهم التعب في الدنيا والعذاب في العقبى مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ أي من يتولّ الكفار منكم فيرتد فليعلم أن الله تعالى يأتي بقوم آخرين ينصرون هذا الدين على أبلغ الوجوه. وقال الحسن: علم الله تعالى أن قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم فأخبرهم أنه سبحانه سيأتي بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فتكون الآية إخبارا عن الغيب وقد وقع فيكون معجزا. روي في الكشاف أن أهل الردّة كانوا إحدى عشرة فرقة، ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار الأسود العنسي وكان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فأهلكه الله على يدي فيروز الديلمي، بيته فقتله وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل فسر المسلمون وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول. وبنو حنيفة قوم مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك. فأجاب صلى الله عليه وسلم: من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب. أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. فحاربه أبو بكر بجنود المسلمين وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة وكان يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام. أراد في جاهليتي وإسلامي. وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه. وسبع في عهد أبي بكر: فزارة قوم عيينة بن حصن وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوّجت نفسها مسيلمة الكذاب، وكندة قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وحاربهم أبو بكر وكفى الله أمرهم على يديه. وفرقة واحدة في عهد عمر غسان قوم جبلة بن الأيهم كان يطوف بالبيت ذات يوم بعد أن كان أسلم على يد عمر فرأى رجلا جارّا رداءه فلطمه فتظلم الرجل إلى عمر فقضى بالقصاص عليه. فقال: أنا أشتريها بألف فأبى الرجل فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف فأبى الرجل إلّا القصاص فاستنظره فأنظره عمر فهرب إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 الروم وتنصر. وتفسير المحبة قد مر في سورة البقرة في قوله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة: 165] وإنما قدم محبته على محبتهم لأن محبتهم إياه نتيجة محبته الأزلية إياهم فتلك أصل وهذه فرع. والراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن للشرط محذوف معناه فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم أَذِلَّةٍ جمع ذليل لأن ذلولا من الذل نقيض الصعوبة لا يجمع على أذلة وإنما يجمع على ذلل. وليس المراد أنهم مهانون عند المؤمنين بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب، فإن من كان ذليلا عند إنسان فإنه لا يظهر الكبر والترفع البتة. ولتضمين الذل معنى الحنو والعطف عدّي بعلى دون اللام كأنه قيل: عاطفين عليهم. أو المراد أنهم مع شرفهم واستعلاء حالهم واستيلائهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم ليضموا إلى منصبهم فضيلة التواضع أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يظهرون الغلظة والترفع عليهم من عزه يعزه إذا غلبه ونحو هذه الآية قوله: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] أما الواو في قوله: وَلا يَخافُونَ فإما أن تكون للحال أي يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين حيث يخافون لومة أوليائهم اليهود، وإما أن تكون للعطف كقوله: إلى الملك القرم وابن الهمام أي هم الجامعون بين المجاهدة لله وبين الصلابة في الدين إذا شرعوا في أمر من أمور الدين، لا يرعبهم اعتراض معترض. وفي وحدة اللوم وتنكير اللائم مبالغتان كأنه قيل: لا يخافون شيئا قط من لوم أحد من اللوام. ذلِكَ الذي ذكر من نعوت الكمال من المحبة والذلة وغيرها فَضْلُ اللَّهِ إحسانه وتوفيقه. قالت الأشاعرة: إنه صريح في أن الأعمال مخلوقة لله تعالى. والمعتزلة حملوه على فعل الألطاف. وضعف بأن اللطف عام في حق الكل فلا بد للتخصيص من فائدة وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ تام القدرة كامل العلم يعلم أهل الفضل فيؤتيهم الفضل. واعلم أن للمفسرين خلافا في أن القوم المذكورين في الآية من هم. قال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج: هم أبو بكر وأصحابه لأنهم الذين قاتلوا أهل الردة. وقال السدي: نزلت في الأنصار. وقال مجاهد: هم أهل اليمن لأنها لما نزلت أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري وقال: هم قوم هذا. وقال آخرون: هم الفرس لما روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فضرب يده على عاتق سلمان وقال: هذا وذووه ثم قال: لو كان الدين معلقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس. وقالت الشيعة: نزلت في علي رضي الله عنه وكرّم الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 وجهه لما روي أنه صلى الله عليه وسلم دفع الراية إلى علي يوم خيبر وكان قد قال: لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ولأن ما بعد هذه الآية نازلة فيه باتفاق أكثر المفسرين. قال الإمام فخر الدين الرازي: هذه الآية من أدل الدلائل على فساد مذهب الإمامية لأن الذين اتفقوا على إمامة أبي بكر، لو كانوا أنكروا نصا جليا على إمامة علي رضي الله عنه لكان كلهم مرتدين ثم لجاء الله بقوم تحاربهم وتردهم إلى الحق. ولما لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضد فإن فرقة الشيعة مقهورون أبدا حصل الجزم بعدم النص. ولناصر مذهب الشيعة أن يقول: ما يدريك أنه تعالى لا يجيء بقوم تحاربهم، ولعل المراد بخروج المهدي هو ذلك فإن محاربة من دان بدين الأوائل هي محاربة الأوائل وهذا إنما ذكرته بطريق المنع لا لأجل العصبية والميل فإن اعتقاد ارتداد الصحابة الكرام أمر فظيع والله أعلم. ثم إنه سبحانه لما نهى في الآي المتقدمة عن موالاة الكفار أمر بعد ذلك بموالاة من يحق موالاته فقال: إِنَّما وَلِيُّكُمُ ولم يقل أولياؤكم ليعلم أن ولاية الله أصل والباقي تبع اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وفيه قولان: الأول أن المراد عامة المؤمنين لأنّ الآية نزلت على وفق ما مر من قصة عبادة بن الصامت. وروي أيضا أن عبد الله بن سلام قال: يا رسول الله إن قومنا قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل فنزلت هذه الآية. فقالوا: رضينا بالله تعالى وبرسوله وبالمؤمنين أولياء. ثم قال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومحله رفع على البدل أو على هم الذين يقيمون، أو نصب بمعنى أخص أو أعني وفي الكل مدح والغرض تميز المؤمن المخلص عمن يدعي الإيمان نفاقا. ومعنى وَهُمْ راكِعُونَ قال أبو مسلم: أي منقادون خاضعون لأوامر الله تعالى ونواهيه. وقيل: المراد ومن شأنهم إقامة الصلاة وخص الركوع بالذكر لشرفه. وقيل: إنّ الصحابة كانوا عند نزول الآية مختلفين في هذه الصفات منهم من قد أتم الصلاة ومنهم من دفع المال إلى الفقير ومنهم من كان بعد الصلاة راكعا فنزلت الآية على وفق أحوالهم. القول الثاني أن المراد شخص معين وجيء به على لفظ الجمع ليرغب الناس في مثل فعله. ثم إن ذلك الشخص من هو؟ روى عكرمة أنه أبو بكر وروى عطاء عن ابن عباس أنه علي عليه السلام. روي أن عبد الله بن سلام قال: لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله أنا رأيت عليا تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه. وروي عن أبي ذر أنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم أشهد أني سألت في مسجد الرسول فما أعطاني أحد شيئا وعليّ عليه السلام كان راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم، فأقبل السائل حتى أخذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 الخاتم فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إن أخي موسى سألك فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي إلى قوله: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه: 25، 32] فأنزلت قرآنا ناطقا سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً [القصص: 35] اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به أزري. قال أبو ذر: فو الله ما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة حتى نزل جبريل فقال: يا محمد اقرأ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ الآية. فاستدلت الشيعة بها على أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب عليه السلام لأن الولي هو الوالي المتصرف في أمور الأمة، وأنه علي عليه السلام برواية أبي ذر وغيره. وأجيب بالمنع من أن الولي هاهنا هو المتصرف بل المراد به الناصر والمحب لأن الولاية المنهي عنها فيما قبل هذه الآية، وفيما بعدها هي بهذا المعنى فكذا الولاية المأمور بها. وأيضا إن عليا لم يكن نافذ التصرف حال نزول الآية وإنها تقتضي ظاهرا أن تكون الولاية حاصلة في الحال. وأيضا إطلاق لفظ الجمع على الواحد لأجل التعظيم مجاز والأصل في الإطلاق الحقيقة، فالمراد بالذين آمنوا عامة المؤمنين وأن بعضهم يجب أن يكون ناصرا لبعض كقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] وأيضا الآية المتقدمة نزلت في أبي بكر كما مر من أنه هو الذي حارب المرتدين فالمناسب أن تكون هذه أيضا فيه. ثم إن علي بن أبي طالب عليه السلام كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الإمامية فلو كانت الآية دالة على إمامة عليّ لاحتج بها كما احتج بما ينقلون عنه أنه تمسك يوم الشورى بخبر الغدير وخبر المباهلة وجميع مناقبه وفضائله. وهب أنها دالة على إمامته لكنه ما كان نافذ التصرف في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق إلا أنه سيصير إماما ونحن نقول بموجبه ولكنه بعد الشيوخ الثلاثة. ومن أين قلتم إنها تدل على إمامته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير فصل؟ وأيضا إنهم كانوا قاطعين بأن المتصرف فيهم هو الله ورسوله فلا حاجة بهم إلى ذكر ذلك. فالمراد بقوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أن من كان الله ورسوله ناصرين له فأي حاجة به إلى طلب النصرة والمحبة عن غيره، وإذا كان الولي مستعملا بمعنى النصرة مرة امتنع أن يراد به معنى المتصرف لأنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهومية معا فكأنه تعالى قسم المؤمنين قسمين وجعل أحدهما أنصارا للآخر. وأيضا الزكاة اسم للواجب لا للمندوب، ومن المشهور أن عليا عليه السلام ما كان يجب عليه الزكاة، ولو سلم فاللائق بحاله أن يكون في الصلاة مستغرق القلب بالله فلا يتفرغ لاستماع كلام السائل ولا إلى دفع الخاتم إليه لأنه عمل كثير، اللهم إلا أن يكون الخاتم سهل المأخذ أو كان قد أومأ به إلى السائل فأخذه السائل. والحق أنه إن صحت الرواية فللآية دلالة قوية على عظم شأن علي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 عليه السلام، والمناقشة في أمثال ذلك تطويل بلا طائل إلا أن أصحاب المذاهب لما تكلموا فيها أوردنا حاصل كلامهم على سبيل الاختصار. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ من إقامة المظهر مقام المضمر تشريفا. والمراد فإنهم هم الغالبون. وحزب الرجل أصحابه المجتمعون لأمر حزبهم. وقال الحسن: جند الله. أبو روق: أولياء الله. أبو العالية: شيعة الله. وقيل: أنصار الله. الأخفش: هم الذين يدينون بدينه ويطيعونه فينصرهم. صاحب الكشاف: يحتمل أن يراد بحزب الله الرسول والمؤمنون أي ومن يتولهم فقد تولى حزب الله واعتضد بمن لا يغالب. ثم عمم النهي عن موالاة جميع الكفار فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عن ابن عباس: كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا، فكان رجال من المسلمين يوادّونهما فنزلت، يعني أن اتخاذهم دينكم هزوا ولعبا ينافي اتخاذكم إياهم أولياء بل يجب أن يقابل ذلك بالشنئان والبغضاء. وإنما عطف الكفار على أهل الكتاب مع أن أهل الكتاب أيضا كفار والعطف يقتضي المغايرة، لأنه أراد بالكفار المشركين الوثنيين خاصة لما أن كفرهم أغلظ فكانوا أحق باسم الكفر. ومعنى تلاعبهم بالدين واستهزائهم به إظهارهم ذلك باللسان دون مواطأة الجنان. وَاتَّقُوا اللَّهَ في موالاة الكفار إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقا لأن الإيمان الحقيقي يأبى موالاة أعداء الدين. قال الكلبي: كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى إلى الصلاة فقام المسلمون إليها قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا صلوا لا صلوا ركعوا لا ركعوا على طريق الاستهزاء والضحك فنزل وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها أي الصلاة والمناداة. وهذا بعض ما اتخذوه من هذا الدين هزوا ولعبا، فلهذا أردفه بالآية المقدمة الكلية. وقال السدي: نزلت في رجل من النصارى بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله. قال: حرق الكاذب. فدخل خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم وأهله نيام فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت واحترق هو وأهله. وقال آخرون: إن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا رسول الله والمسلمين على ذلك فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد لقد أبدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية. فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت فيما أحدثت من هذا الأذان الأنبياء قبلك، ولو كان في هذا الأمر خير كان أولى الناس به الأنبياء والرسل قبلك، فمن أين لك صياح كصياح العنز؟ فما أقبح من صوت وما أسمج من أمر. فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ قال بعض العلماء: فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده. وأقول: لو قيل إن أصل الأذان بالمنام والتفرير بنص الكتاب كان أصوب ذلك الاتخاذ. بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما في الصلاة من المنافع لأنها التوجه إلى الخالق والاشتغال بخدمة المعبود، أو لا يفهمون ما في اللعب والهزء من السفه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 والجهل. قال بعض الحكماء: أشرف الحركات الصلاة وأنفع السكنات الصيام. التأويل: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي بالحقيقة لأنه أنزل على قلبه وأنزل سائر الكتب في الألواح والصحف فلهذا كان خلقه القرآن. وكان مهيمنا على جميع الكتب تصديقا عيانيا لا بيانيا بحيث يشاهد قلب المنزل عليه بنوره حقائق جميع الكتب وأسرارها بخلاف ما أنزل في الألواح فإن الألواح لا تشهد ولا تشاهد حقائق الكتب ومعانيها. لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ معاشر الأنبياء شِرْعَةً يشرع فيها بالبيان وَمِنْهاجاً يسلك فيه بالعيان وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ أيها الأمم فِي ما آتاكُمْ من البيان والتبيان والحجج والبرهان والعزة والسلطان، فابتلاكم بزينة الدنيا واتباع الهوى ونيل المنى والرفعة بين الورى والنجاة في العقبى ليهتدي التائبون بالبيان، ويستفيد العاملون بالبرهان، ويحكم العارفون بالسلطان بل يقصد الزاهدون برفض الدنيا ويقدم العابدون بنهي الهوى، ويسلك المشتاقون بنفي المنى، ويجذب العارفون بترك الورى، ويسلب الواصلون بالسلو عن الدنيا والعقبى فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ من هذه المقامات إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً اختيارا بقدم الصدق أو اضطرارا بحلول الأجل فَإِنْ تَوَلَّوْا عن قبول الحق فَاعْلَمْ بمطالعة القضاء أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ في حكم القدر أَنْ يُصِيبَهُمْ مصيبة الإعراض بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وهو الاعتراض، فإن الحق سبحانه يلزم بشرط التكاليف ويقدمهم ويؤخرهم بعين التصريف. فالتكليف فيما أوجب والتصريف فيما أوجدوا العبرة بالإيجاد لا بالإيجاب لَفاسِقُونَ لخارجون عن جذبات العناية أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ أيطلبون منك أن تحيد عن المحجة المثلى بعد ما طلعت شموس الدنيا وسطعت براهين اليقين وانهتكت أستار الريب واستنار القلب بأنوار الغيب يُسارِعُونَ فِيهِمْ لأن شبيه الشيء منجذب إليه أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ فتح عيون القلوب أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ وهو الجذبة التي توازي عمل الثقلين وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بأنوار الغيوب في أستار القلوب فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ بإبطال الاستعداد الفطري. بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ هم أرباب السلوك أفناهم عنهم بسطوات يحبهم ثم أبقاهم به عند هبوب نفحات يحبونه، فإن محبة الله للعبد إفناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية، ومحبة العبد لله إبقاء اللاهوتية في فناء الناسوتية. والشيخ نجم الدين الرازي المعروف بداية رضي الله عنه قد عكس القضية، فلعله فهم غير ما فهمنا. ثم قال إنه تعالى يحب العبد بصفته ذاته أزلا وهي الإرادة القديمة المخصوصة بالغاية، والعبد يحب الله بذات تلك الصفة أبدا أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لارتفاع الأنانية أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ببقاء اللاهوتية وإثبات الوحدانية يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طلب الحق في البداية ببذل الوجود وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ عند غلبات الوجد في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 الوسط لدوام الشهود ذلك يعني صدق الطلب في البداية وغلبات الوجد في الوسط والاختصاص بالمحبة في النهاية وَاللَّهُ واسِعٌ كرمه قادر على أن يتفضل على كل أحد لكنه عَلِيمٌ بحال كل أحد فلا يتفضل إلا على من يستأهله. يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يديمونها مراقبين حقوقها في الباطن بمراعاة السر وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ما زكى من وجودهم وهو الفناء في الله وَهُمْ راكِعُونَ راجعون إلى الله بانحطاط. فمن قيام البشرية إلى قيام القيومية هم الغالبون على أهوائهم وأنفسهم والدنيا والشيطان. الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ يعني أهل الغفلة والسلو المستهزئين بأهل المحبة والقرب مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي العلوم الظاهرة والكفار يعني الفلاسفة ومقلديهم لأنهم بمعزل عن العلوم اللدنية والكشفية وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ دعوتموهم إلى محل القرب والنجوى لا يعقلون بالوهم والخيال لذاذة شهود ذلك الجمال. [سورة المائدة (5) : الآيات 59 الى 69] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 القراآت: هَلْ تَنْقِمُونَ وبابه مدغما: حمزة وعلي وهشام. وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بضم الباء ونصب الدال وجر الطاغوت: حمزة. الباقون بنصب الطاغوت على أن. عَبَدَ فعل ماض عطفا على صلة من كأنه قيل: ومن عبد الطاغوت. مبصوطتان بالصاد مثل وزاده بصطة [البقرة: 247] وقد مر في البقرة. رِسالَتَهُ أبو عمرو وابن كثير وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون رِسالاتِهِ. الوقوف: مِنْ قَبْلُ لا لعطف وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ على أَنْ آمَنَّا. فاسِقُونَ هـ عِنْدَ اللَّهِ ط لتناهي الاستفهام والتقدير هو. مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ ط ومن جعل محله جرا على البدل من شَرٌّ لم يقف. الطَّاغُوتَ ط السَّبِيلِ ط خَرَجُوا بِهِ ط يَكْتُمُونَ هـ السُّحْتَ ط يَعْمَلُونَ هـ السُّحْتَ ط يَصْنَعُونَ هـ مَغْلُولَةٌ ط وقيل: لا وقف ليتصل قوله: غُلَّتْ وهو جزاء قولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. بِما قالُوا م لئلا يوهم أن قوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ مفعول قالُوا. مَبْسُوطَتانِ ط لأن قوله: يُنْفِقُ من مقصود الكلام فلا يستأنف. كَيْفَ يَشاءُ ط وَكُفْراً ط يَوْمِ الْقِيامَةِ ط أَطْفَأَهَا اللَّهُ لا قال السجاوندي: لأن الواو للحال أي وهم يسعون وفيه نظر. فَساداً ط الْمُفْسِدِينَ هـ النَّعِيمِ هـ أَرْجُلِهِمْ ط مُقْتَصِدَةٌ ط يَعْمَلُونَ هـ مِنْ رَبِّكَ ط رِسالَتَهُ ط مِنَ النَّاسِ ط الْكافِرِينَ هـ مِنْ رَبِّكُمْ ط وَكُفْراً ج لاختلاف النظم مع فاء التعقيب. الْكافِرِينَ هـ يَحْزَنُونَ هـ. التفسير: لما حكى عنهم أنهم اتخذوا دين الإسلام هزوا ولعبا قال لهم: ما الذي تنقمون من أهل هذا الدين. نقمت على الجل أنقم بالكسر، إذا عتبت عليه، ونقمت بالكسر لغة ونقمت الأمر أيضا إذا كرهته وأنكرته. وسمى العقاب نقمة لأنه يجب على ما ينكر من الفعل. والمعنى هل تعيبون منا وتنكرون إلّا الإيمان بالكتب المنزلة كلها؟ وليس هذا مما يوجب عتبا وعيبا لأن الإيمان بالله رأس جميع الطاعات، وأما الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء عليهم السلام فهو الحق الذي لا محيد عنه لأن الطريق إلى تصديق الأنبياء هو المعجز وأنه حاصل في الكل فلا وجه للإيمان ببعض والكفر ببعض. ثم عطف عليه: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ والمراد ما تنقمون منا إلّا الجمع بين إيماننا وبين تمرّدكم كأنه قيل: ما تنكرون منا إلّا مخالفتكم فآمنا وما فسقنا مثلكم. وفيه من حسن الازدواج والطباق ما فيه كقول القائل: هل تنقم مني إلّا أني عفيف وأنك فاجر. ويجوز أن يعطف على المجرور أي ما تنقمون منا إلّا الإيمان بالله وبما أنزل وبأن أكثركم خارجون عن الدين، ويجوز أن تكون الواو بمعنى «مع» أي ما تنكرون منا إلّا الإيمان مع فسقكم لأن أحد الخصمين إذا كان مكتسبا للصفات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 الحميدة مع اتصاف الآخر بالصفات الذميمة كان ذلك أشد تأثيرا في وقوع البغض والحسد في قلب الخصم. ويحتمل أن يكون تعليلا معطوفا على تعليل محذوف أي ما تنقمون منا إلّا الإيمان لقلة إنصافكم ولأجل فسقكم، ومن هنا قال الحسن في تفسيره: بفسقكم نقمتم ذلك علينا. ويجوز أن ينتصب بفعل محذوف يدل عليه ما قبله أي ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون، أو يرتفع بالابتداء والخبر محذوف أي وفسقكم ثابت محقق عندكم إلا أن حب الجاه والمال يدعوكم إلى عدم الإنصاف. وإنما خص الأكثر بالفسق مع أن اليهود كلهم فساق تعريضا بأحبارهم ورؤسائهم الطالبين للرياسة والمال والتقرب إلى الملوك. والمراد أن أكثرهم في دينهم فساق لا عدول، فإن الكافر والمبتدع قد يكون عدل دينه أو ذكر أكثرهم لئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك. قال ابن عباس: أتى نفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال: أؤمن بالله وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [البقرة: 136] إلى قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136] فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا شرا من دينكم، فأنزل الله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ يعني المتقدم وهو الإيمان، ولا بدّ من حذف مضاف قبله أو قبل من تقديره بشر من أهل ذلك أو دين من لعنه الله ومَثُوبَةً نصب على التمييز من شَرٌّ وهي من المصادر التي جاءت على «مفعول» كالميسور والمجلود ومثلها المشورة، وقرىء مثوبة كما يقال مشورة والمثوبة ضدّ العقوبة. واستعمال أحد الضدّين مكان الآخر مجاز رخصه إرادة التهكم مثل: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] وقد أخرج الكلام هاهنا على حسب قولهم واعتقادهم وإلّا فلا شركة بين المسلمين وبين اليهود في أصل العقوبة حتى يقال إن عقوبة أحد الفريقين شر، ولكنهم حكموا بأن دين الإسلام شر فقيل لهم: هب أن الأمر كذلك ولكن لعن الله وغضبه ومسخ الصور شر من ذلك. قال المفسرون: عنى بالقردة أصحاب السبت وبالخنازير كفار مائدة عيسى عليه السلام. ويروى أن كلا المسخين كان في أصحاب السبت لأن شبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير، ولهذا كان المسلمون يعيرون اليهود بعد نزول الآية ويقولون: يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رؤوسهم. أما قوله: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ فقد ذكر في الكشاف فيه أنواعا من القراءة لا مزيد فائدة في تعدادها لشذوذها إلّا قراءة حمزة، والوجه فيه أن العبد بمعنى العبد إلّا أنه بناء مبالغة كقولهم: رجل حذر وفطن البليغ في الحذر والفطنة. قال الشاعر: أبني لبيني إن أمكم ... أمة وإن أباكم عبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 أبني لبيني لستم بيد ... إلّا يدا ليست لها عضد وقيل: هما لغتان مثل سبع وسبع. وقيل: إن العبد جمعه عباد والعباد جمعه عبد كثمار وثمر إلا أنهم استثقلوا الضمتين فأبدلت الأولى فتحة. وقيل: أرادوا أعبد الطاغوت مثل: فلس وأفلس إلا أنه حذف الألف وضم الباء لئلا يشبه الفعل. والطاغوت هاهنا قيل: هو العجل. وقيل: هو الأحبار. والظاهر أنه كل ما عبد من دون الله، وكل من أطاع أحدا في معصية فقد عبده. احتجت الأشاعرة بالآية على أن الكفر بجعل الله تعالى. وقالت المعتزلة: معنى هذا الجعل أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقوله: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] أو أنه خذلهم حتى عبدوها. أُولئِكَ الملعونون الممسوخون شَرٌّ مَكاناً من المؤمنين. قال ابن عباس: إن مكانهم سقر ولا مكان شر منه. وقال علماء البيان: هو من باب الكناية لأنه ذكر المكان وأريد أهله الذي هو ملزوم المكان. وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ قصده ووسطه. كان ناس من اليهود يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهرون له الإيمان نفاقا فأخبره الله بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسه كما دخلوا لم يؤثر فيهم شيء من النصيحة والموعظة قط. وقوله: بِالْكُفْرِ وبه حالان أي ملتبسين بالكفر، وكذلك قوله: وَقَدْ دَخَلُوا وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا ولذلك دخلت «قد» تقريبا للماضي من الحال، وليفيد التوقع أيضا. وذلك أن أمارات النفاق كانت لائحة على صفحات أحوالهم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقعا لإظهار الله أسرارهم. والعامل في هذه الحال قالوا: وفي الأولى: دَخَلُوا وخَرَجُوا أي قالوا آمنا وحالهم أنهم دخلوا كافرين وخرجوا كافرين. وإنما ذكر عند الخروج كلمة «هم» لتأكيد إضافة الكفر إليهم. ونفى أن يكون من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فعل أي لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم ما يوجب كفرا فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر، بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم. وهاهنا استدل المعتزلي على صحة مذهبه أن الكفر من العبد لا من الله ولكنه معارض بالعلم والداعي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ فيه أن حسدهم وخبثهم لا يحيط به إلا الله فما أعظم ذلك وأبلغ. الإثم الكذب كقوله بعد: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ والعدوان الظلم وقيل: الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم. وقيل: الإثم كلمة الشرك قولهم عزير ابن الله. وفي الآية فوائد منها: ذكر كثير لأن كلهم كان لا يفعل ذلك إذ بعضهم يستحيي فيترك. ومنها أن المسارعة إنما تليق بالخيرات وإنهم كانوا يستعملونها في المنكرات. ومنها أن الإثم يتناول جميع المعاصي فذكر بعده العدوان وأكل السحت ليدل على أنهما أعظم أنواع الإثم والكلام في معنى السحت. وفي تفسير الربانيين والأحبار قد مر في السورة عن قريب. وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 الحسن: الربانيون علماء الإنجيل، والأحبار علماء التوراة. وإنما قال هاهنا: لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ وفي الأول يَعْمَلُونَ لأن الصنع أرسخ من العمل فلا يسمى العامل صانعا ولا العمل صناعة إلا إذا تمكن فيه وتدرب وينسب إليه فكان ذنب العلماء إذا تركوا النهي عن المنكر أشد وأعظم وأثبت وأرسخ. وتحقيقه أن المعصية مرض الروح وعلاجه العلم بالله وصفاته وأحكامه، فإذا حصل هذا العلم ولم تزل المعصية دل على أن مرض القلب في غاية القوة والشدة كالمرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال. وعن ابن عباس: هي أشد آية في القرآن. وعن الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها. وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ قيل: في هذه الآية إشكال لأن اليهود مطبقون على أنا لا نقول ذلك، كيف وبطلانه معلوم بالضرورة لأن الله اسم لموجود قديم قادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه، وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة وقدرته قاصرة. والجواب أن الله تعالى صادق في كل ما أخبر عنه فلا بد من تصحيح هذا النقل عنهم، فلعل القوم قالوا هذا على سبيل الإلزام فإنهم لما سمعوا قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قالوا من احتاج إلى القرض كان فقيرا عاجزا مغلول اليدين، أو لعلهم لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في غاية الفقر والضر قالوا: إن إله محمد كذلك. وقال الحسن: أرادوا أنه لا تمسهم النار إلا أياما معدودة إلا أنهم عبروا عن كونه تعالى غير معذب لهم إلا هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة فاستوجبوا اللعن لفساد العبارة وسوء الأدب. وقيل: لعلهم كانوا على مذهب بعض الفلاسفة أنه تعالى موجب لذاته، وأن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نسق واحد فعبروا عن عدم اقتداره على غير ذلك النسق بغل اليد. وقال المفسرون: كان اليهود أكثر الناس مالا وثروة، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وكذبوه ضيق الله عليهم المعيشة فعند ذلك قالوا: يد الله مغلولة أي مقبوضة عن العطاء على جهة النعت بالبخل، والجاهل إذا وقع في البلاء والشدة قد يقول مثل هذه الألفاظ. وغل اليد وبسطها مجاز مستفيض عن البخل والجود ومنه قوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: 29] وذلك أن اليد آلة لأكثر الأعمال لا سيما لأخذ المال وإعطائه، فأطلقوا اسم السبب على المسبب فقيل للجواد فياض الكف مبسوط اليد سبط البنان رطب الأنامل، وللبخيل أبتر الأصابع مقبوض الكف جعد الأنامل، ولا فرق عندهم بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه حتى إنه يستعمل في ملك لا يعطي ولا يمنع إلا بالإشارة بل يقال للأقطع: ما أبسط يده بالنوال. وقد يستعمل حيث لا يصح اليد كقول لبيد: قد أصبحت بيد الشمال زمامها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 فجازاهم الله تعالى بقوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وهو الدعاء عليهم بالبخل والنكد ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم، دعا به عليهم تعليما لعباده كما علمهم الاستثناء في قوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 29] وكما علمهم الدعاء على المنافقين في قوله: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة: 10] وعلى أبي لهب في قوله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة أو إخبارا. قال الحسن: يغللون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم فيكون الطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز. وإنما لم يقل فغلت أيديهم مع أن الجزاء يناسب فاء التعقيب ليكون قوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ كالكلام المبتدأ به فيزيده قوة ووثاقة لأن الابتداء بالشيء يدل على شدة الاهتمام به وقوة الاعتناء بتقريره. وَلُعِنُوا بِما قالُوا قال الحسن: عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار. ومما وقع في عصرنا من إعجاز القرآن ما حكي أن متغلب من اليهود مسمى بسعد الدولة وهو من أشقي الناس كان قد سمع بهذه الآية، فاتفق أن وصل إلى بغداد فنزل بالمدرسة المستنصرية ودعا بمصحف كان مكتوبا بأحسن خط وأشهره من خطوط الكتاب الماضين، وكان يعلم أن أهل هذا العصر لا يقدرون على كتابة مثله ثم قال: أين هذه الآية يعني قوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا فأروه إياها فمحاها، فلم يمض أسبوع إلّا وقد سخط السلطان عليه فبعث في طلبه وأمر بغل يديه فغلوه وحملوه إليه فأمر بقتله. ثم إنه سبحانه ردّ على اليهود بقوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ واليد في اللغة تطلق على الجارحة المخصوصة- وهو ظاهر- وعلى النعمة. يقال: لفلان عندي يد أشكرها له. وعلى القوة مثل: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ [ص: 45] فسر بذوي القوى والعقول ومنه لا يدين له بهذا. والمعنى سلب كمال القدرة. وعلى الملك تقول: هذا بيد فلان أي ملكه قال تعالى: بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [البقرة: 237] وقد يراد به شدة العناية قال: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] ويقال: يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمنت له شيئا. ولا شك أن اليد بمعنى الجارحة في حقه تعالى محال للدليل الدال على أنه ليس بجسم ولا ذي أجزاء خلافا للمجسمة، وأما سائر المعاني فلا بأس بها. وكان طريقة السلف الإيمان بها وأنها من عند الله ثم تفويض معرفتها إلى الله. وقد جاء في بعض أقوال أبي الحسن الأشعري أن اليد صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء لقوله: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] والمراد تخصيص آدم بهذا التشريف ونص القرآن ناطق بإثبات اليد تارة: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] . وبإثبات اليدين أخرى كما في الآية، وبإثبات الأيدي أخرى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: 71] ووجه التوحيد والجمع ظاهر. وأما وجه التثنية فذلك أن من أعطى بيديه فقد أعطى على أكمل الوجوه فكان أبلغ في رد كلام القوم خذلهم الله، أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 المراد نعمة الدين نعمة الدنيا، أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن، أو نعمة النفع ونعمة الدفع، أو نعمته على أهل اليمين ونعمته على أهل الشمال بل لطفه في حق أولئك وقهره في شأن هؤلاء، أو المراد المبالغة في وصف النعمة نحو: لبيك وسعديك معناه إقامة على طاعتك بعد إقامة وإسعادا بعد إسعاد. ثم أكد الوصف بالقدرة والسخاء فقال: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وفيه أنه لا ينفق إلّا على مقتضى الحكمة وقانون العدالة وعلى حسب المشيئة والإرادة، لا مانع له ولا مكره فمن أوجب عليه شيئا أو اعترض على فعل من أفعاله فقد نازعه في ملكه وحجر تصرفه وقيد وغل ونسبه إلى ما لا يليق به. وَلَيَزِيدَنَّ جواب قسم محذوف كَثِيراً مِنْهُمْ يعني علماء اليهود ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من القرآن والحجج طُغْياناً وَكُفْراً مجاوزة في الحد وغلوا في الإنكار لأن البدن غير النقي كلما غذوته زدته شرها وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ بين اليهود والنصارى- قاله مجاهد والحسن- أو فيما بين اليهود الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ لا تأتلف كلمتهم ولا تتساعد أفئدتهم، فمن اليهود جبرية وقدرية وموحدة ومشبهة، ومن النصارى ملكانية ونسطورية، وكل ذلك الاختلاف يوجب السخط واللعن بخلاف هذه الأمة فإن اختلافهم رحمة ولتفرق أهوائهم وتشعب آرائهم كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ فلا يهمون بأمر من الأمور إلّا وقد رجعوا بخفي حنين. وقيل: كلما حاربوا رسول الله غلبوا. وعن قتادة: لا تلقى اليهود ببلدة إلّا وجدتهم أذل الناس وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يستخفون كيدا للإسلام وذويه وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ فلا ينجح لهم كيد ولا ينتج لهم سعي. قيل: خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط عليهم بطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليم المسلمين إلى يوم القيامة. ثم لما بالغ في تهجين سيرتهم ذكر أنهم مع ما عدّد من مساويهم لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به واتقوا المنكرات التي كانوا يأتونها لتكون توبتهم نصوحا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ تلك السيئات سترناها عليهم وَلَأَدْخَلْناهُمْ مع المسلمين جَنَّاتِ النَّعِيمِ من النعم خلاف البؤس أي نعيم صاحبها فما أوسع رحمة الله تعالى وما أعظم عفوه وغفرانه وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ عملوا بما فيهما من الوفاء بعهود الله تعالى ومن الإقرار بنبوّة نبي آخر الزمان محمد صلى الله عليه وسلم، أو حافظوا على أحكامهما وحدودهما، أو أقاموهما نصب أعينهم لئلا ينسوا ما فيهما من التكاليف. وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ يعني القرآن أو سائر الكتب الإلهية كصحف إبراهيم وزبور داود وكتاب شعيا وحيقوق ودانيال فإن كلها مشحونة من البشارة بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وأنهم مكلفون بالإيمان بجميعها. لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي ينزل عليهم بركات السماء وبركات الأرض، أو يكثر لهم الأشجار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 المثمرة والزروع المغلة، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار يجنون ما تهدل منها من رؤوس الشجر ويلتقطون ما تناثر على وجه الأرض. ويحتمل أن يراد به المبالغة في شرح السعة والخصب لا أن هناك فوقا أو تحتا أي لأكلوا أكلا كثيرا متصلا، ويشبه أن يكون هذا إشارة إلى ما جرى على بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم. والحاصل أنه سبحانه وعدهم سعادة الدارين بشرط الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وقدم السعادة الأخروية بقسميها وهما دفع العذاب وإيصال الثواب لشرفها. ثم فصل حالهم فقال: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ طائفة متوسطة في الغلو والتقصير، وذلك أن من عرف مقصوده فإنه يكون قاصدا له على الطريق المستقيم من غير انحراف ولا اضطراب بخلاف من لا مقصد له فإنه يذهب متحيرا يمينا وشمالا، فجعل الاقتصاد عبارة عن العمل المؤدي إلى الغرض ومن هم فيه قولان: أحدهما الكفار من أهل الكتاب الذين يكونون عدولا في دينهم ولا يوجد فيهم عناد شديد ولا غلظة كاملة، والثاني هم المؤمنون منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعين من النصارى. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ فيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أسوأ عملهم لكونهم أجلافا متعصبين لا ينجع فيهم القول ولا يؤثر فيهم الدليل قيل: هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم. ثم أمر رسوله بأن لا ينظر إلى قلة المقتصدين وكثرة المعاندين ولا يتخوف مكروههم فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه يوم غدير خم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. فلقيه عمر وقال: هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي. وروي أنه صلى الله عليه وسلم نام في بعض أسفاره تحت شجرة وعلق سيفه عليها فأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال: يا محمد، من يمنعك مني؟ فقال: الله. فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ونزل: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وقيل: لما نزلت آية التخيير: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: 28] فلم يعرضها عليهن خوفا من اختيارهن الدنيا نزلت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ وقيل: نزلت في أمر زيد وزينب بنت جحش. وقيل: لما نزل وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام: 108] سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عيب آلهتهم فنزلت. أي بلغ معايب آلهتهم ولا تخفها. وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم لما بين الشرائع والمناسك في حجة الوداع. قال: هل بلغت؟ قالوا: نعم. فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد فنزلت. وقيل: نزلت في قصة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 الرجم والقصاص المذكورتين. وقال الحسن: إن نبي الله قال: لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعرفت أن من الناس من يكذبني واليهود والنصارى وقريش يخوفونني فنزلت الآية فزال الخوف. وقالت عائشة: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقلت: يا رسول الله ما شأنك؟ قال: ألا رجل صالح يحرسني الليلة. قالت: فبينما نحن في ذلك سمعت صوت السلاح فقال: من هذا؟ قال سعد وحذيفة: جئنا نحرسك. فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه فنزلت هذه الآية، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة أدم فقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس فكان يرسل معه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت هذه الآية. فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسونه فقال: يا عماه إن الله تعالى قد عصمني من الجن والإنس. ومعنى قوله: ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ جميع ما أنزل إليك وأي شيء أنزل إليك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ما أمرتك به كما أمرتك به فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ من قرأ على الوحدة فلأنّ القرآن كله رسالة واحدة، أو لأن الرسالة اسم المصدر فيقع على الواحد وعلى الجمع. ومن جمع فلأن كل آية أو حكم رسالة. فإن قيل: معنى قوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ إن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته فما وجه صحته؟ فالجواب أن هذا جار على طريق التهديد والمراد إن لم تبلغ منها أدنى شيء فأنت كمن لم يبلغ شيئا لأن أداء بعضها ليس أولى من أداء البعض الآخر كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها. أو المراد إن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: بعثني الله برسالاته وضقت بها ذرعا فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت. فإن قيل: أين ضمان العصمة وقد جرى عليه يوم أحد ما جرى؟ فالجواب أن الآية نزلت بعد يوم أحد. أو المراد أنه يعصمه من القتل وعليه أن يحتمل كل ما دون النفس والناس الكفار لقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي لا يمكنهم مما يريدون. ثم لما أمره بتبليغ أي شيء كان طاب للسامع أو ثقل عليه أمره أن يقول لأهل الكتاب: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي على دين يعتد به كما تقول: هذا ليس بشيء تريد تحقير شأنه، وباقي الآية مكرر للتأكيد. ومعنى فَلا تَأْسَ لا تأسف ولا تحزن عليهم بسبب زيادة طغيانهم فإن وبال ذلك عائد عليهم، أو لا تأسف بسبب نزول اللعن والعذاب عليهم فإنهم من الكافرين المستحقين لذلك. يقال: آسى على مصيبته يأسى أسى أي حزن. ثم لما بين أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا بيّن أن هذا الحكم عام في الكل وأنه لا يحصل لأحد منقبة ولا سعادة إلّا إذا آمن وعمل صالحا، وذلك أن كمال القوة النظرية لا يحصل إلّا بمعرفة المبدأ والمعاد- أعني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 الإيمان بالله واليوم الآخر- وكمال القوة العملية إنما يحصل بتعظيم المعبود والشفقة على المخلوق- أعني العمل الصالح- وغاية هذا الكمال الخلاص من الخوف مما يستقبل ومن الحزن على ما مضى من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أمورا أعظم وأشرف. وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة إلّا أنه بقي هاهنا بحث لفظيّ وهو أن قوله: وَالصَّابِئُونَ عطف على ماذا؟ فقال الكوفيون: إنه معطوف على محل الَّذِينَ لأن اسم «إن» إذا كان مبنيا جاز العطف على محله، وإن كان قبل ذكر الخبر فيجوز: إنك وزيد ذاهبان. وإن لم يجز إن زيدا وعمرو قائمان. وذهب البصريون إلى عدم جواز ذلك مطلقا لأنه يؤدي إلى إعمال «إنّ» وإعمال معنى الابتداء معا في «قائمان» فيجتمع على المرفوع الواحد رافعان مختلفان وإنه محال. فإذن الصَّابِئُونَ مرفوع بالابتداء على نية التأخير كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك، فتكون هذه جملة معطوفة على جملة قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلى آخره ولا محل لها كما لا محل للتي عطفت عليها، وفائدة هذا التقديم التنبيه على أن التوبة مقبولة البتة، وذلك أن الصابئين بين هؤلاء المعدودين ضلال لأنهم صبؤا عن الأديان كلها أي خرجوا فكأنه قال: كل هؤلاء الفرق إذا أتوا بالإيمان والعمل الصالح قبلت توبتهم حتى الصابئون ولو قيل: والصابئين لم يكن من التقديم في شيء لأنه ثابت في مركزه الأصلي وإنما تطلب فائدة التقديم للمزال عن موضعه والراجع إلى اسم «إن» محذوف والتقدير من آمن منهم كما في البقرة والله أعلم. التأويل: شر الفريقين من جعله الله مستعدا لقبول فيض القهر من اللعن والغضب، وجعل صفة الفردية والخنزيرية أعني الحيلة والحرص والشهوة من بعض خصائصهم. أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً من القردة والخنازير لأن القردة والخنازير لا استعداد لهم وهؤلاء قد أبطلوا استعدادهم الفطري ومثله: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: 179] ولهذا دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به. الربانيون مشايخ الطريقة والأحبار علماء الشريعة. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ كانت أيديهم من إصابة الخير مغلولة ومشامهم عن تنسم روائح الصدق مزكومة فلهذا قالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ وكل إناء يرشح بما فيه. ولكن الذي أدركته العناية الأزلية وسلبت عنه صفات الظلومية والجهولية صلى الله عليه وسلم قال: «يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ينفق كيف يشاء» «1» بيدي اللطف والقهر على المؤمنين من الهداية والإحسان، وعلى   (1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 11 باب 2. مسلم في كتاب الزكاة حديث 36، 37. الترمذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 الكافرين من الغواية والخذلان. وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ فلا يوجد أحد إلّا وبينه وبين صاحبه بغض إلى أن يتوارثوا بطنا بعد بطن. ولو أن أهل العلوم الظاهرة آمنوا بالعلوم الباطنة واتقوا الإنكار والاعتراض، ولو أنهم عملوا بمتفقات الكتب المنزلة ومستحسناتها لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ ورزقوا من الواردات الروحانية وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ إلى أعلى مقاماتهم. من العلماء الظاهريين أمة مقتصدة إن لم تكن سابقة بالخيرات، والمقتصد هو العالم المتقي والمريد الصادق دون السابق وهو الواصل الكامل العالم الرباني. بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يندرج تحته الوحي والإلهامات والمنامات والوقائع والواردات والمشاهدات والكشوف والأنوار والأسرار والأخلاق والمواهب والحقائق ومعاني النبوّة والرسالة. فالرسول إن لم يبلغ بعض هذه الحقائق إلى العباد لم يمكنهم الوصول إلى الله فلا يحصل مقصود ما أرسل به فلم يبلغ رسالته إلّا أن للتبليغ مراتب كما أنزل إليه. فتبليغ بالعبارة وتبليغ بالإشارة وتبليغ بالتأديب وتبليغ بالتعليم وتبليغ بالتزكية وتبليغ بالتحلية وتبليغ بالهمة وتبليغ بجذبات الولاية وتبليغ بقوة النبوة والرسالة وتبليغ بالشفاعة. وللخلق أيضا مراتب في قبول الدعوة بحسب الاستعدادات المختلفة أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرعد: 17] وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ بأوصاف لاهوتيته عن أوصاف ناسوتيتك لتتصرف في الخلق بقوة اللاهوتية فتوصلهم إلى الله ولا يتصرفون فيك فيقطعوك عن الله. يا أرباب العلوم الظاهرة لستم على شيء من حقيقة الدين حتى تزينوا ظاهركم وباطنكم بالأعمال والأحوال الواردة في الكتب الإلهية وذلك بمقدمتين وأربع نتائج. فالمقدمتان: الجذبة الإلهية ونتيجتها الإعراض عن الدنيا والتوجه إلى المولى، ثم تربية الشيخ ونتيجتها تزكية النفس عن الأخلاق الذميمة وتحلية القلب بالأخلاق الفاضلة والله حسبي ونعم الوكيل. [سورة المائدة (5) : الآيات 70 الى 81] لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)   - في كتاب تفسير سورة المائدة باب 3. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 242، 312) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 القراءات: أَلَّا تَكُونَ بالرفع: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف غير سهل وحفص وأبي بكر وحماد. الباقون بالنصب. الوقوف: رُسُلًا ط أَنْفُسُهُمْ لا لأن عامل كُلَّما قوله كَذَّبُوا يَقْتُلُونَ هـ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ط بِما يَعْمَلُونَ هـ ابْنُ مَرْيَمَ ط وَرَبَّكُمْ ط النَّارُ ط مِنْ أَنْصارٍ هـ ثَلاثَةٍ لا لئلا يوهم أن ما بعده من قول الكفار واحِدٌ ط أَلِيمٌ هـ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ط والوصل أيضا حسن بناء على أن الواو للحال أي هلا يستغفرونه وهو غفور رَحِيمٌ هـ رَسُولٌ ج لاحتمال ما بعده الصفة والاستئناف الرُّسُلُ ط لأن الواو للاستئناف لا للعطف صِدِّيقَةٌ ط لأن ما بعده لا يصلح للصفة لأن الضمير في كانا مثنى الطَّعامَ ط يُؤْفَكُونَ هـ وَلا نَفْعاً ط والوصل يحسن على أن الواو للحال أي يعبدون ما لا ينفع ولا يضر والحال أن الله يسمع دعاء المضطر ويعلم رجاء المعتر الْعَلِيمُ هـ السَّبِيلِ هـ ابْنِ مَرْيَمَ ط يَعْتَدُونَ هـ فَعَلُوهُ ط يَفْعَلُونَ هـ كَفَرُوا ط خالِدُونَ هـ فاسِقُونَ هـ أَشْرَكُوا ج لطول الكلام والفصل بين الوصفين المتضادين نَصارى ط لا يَسْتَكْبِرُونَ هـ مِنَ الْحَقِّ ج لاحتمال ما يتلوه الحال والاستئناف الشَّاهِدِينَ هـ مِنَ الْحَقِّ لا لأن الواو بعده للحال. الصَّالِحِينَ هـ خالِدِينَ فِيها ط الْمُحْسِنِينَ هـ الْجَحِيمِ هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 التفسير: افتتح الله تعالى السورة بقوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وانجر الكلام إلى ما انجرّ والآن عاد الى ما بدأ به والمقصود بيان عتوّ بني إسرائيل وشدة تمردهم أي أخذنا ميثاقهم بخلق الدلائل وخلق العقل الهادي إلى كيفية الاستدلال وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا لتعريف الشرائع والأحكام. قال في الكشاف كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ إلخ جملة شرطية وقعت صفة ل رُسُلًا والراجع الى الموصوف محذوف أي رسول منهم. وأقول: الأصوب جعلها جملة مستأنفة جوابا لسائل يسأل كيف فعلوا برسلهم؟ ولهذا كان الوقف على رُسُلًا مطلقا، أما جواب الشرط فاختار في الكشاف أنه محذوف لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ولأنه لا يحسن أن يقال: إن أكرمت أخي أخاك أكرمت فالتقدير: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه أو عادوه وقوله فَرِيقاً كَذَّبُوا جواب قائل: كيف فعلوا؟ وأقول أما أن التركيب المذكور غير مستحسن فعين النزاع، وأما أن الرسول الواحد لا يكون فريقين فتغليط لأن قوله كُلَّما يدل على كثرة مجيء الرسل فلهذا صح جعلهم فريقين ومعنى بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ بما يضاد شهواتهم لرغبتهم عن التكاليف، وفائدة تقديم المفعول وإيراد يَقْتُلُونَ مضارعا ذكرناها في سورة البقرة وزعم في التفسير الكبير أنه ذكر التكذيب بلفظ الماضي لأنه إشارة إلى معاملتهم مع موسى عليه السلام في البتة وتمردهم عن قبول قوله وقد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة، وذكر القتل بلفظ المستقبل لأنه رمز إلى ما فعلوا بزكريا ويحيى وعيسى على زعمهم وإن ذلك الزمان قريب فكان كالحاضر. وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال علماء الأدب: الأفعال على ثلاثة أضرب: فعل يدل على ثبات الشيء كالعلم والتيقن فيقع بعده أن المشددة الدالة على ثبات الشيء أيضا لتأكيد مقتضاه كقوله وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور: 25] فإن خففت ودخلت على الفعل لم يجز إلا أن يكون مع فعله «قد» أو «سوف» أو «السين» أو حرف نفي ليكون كالعوض من إحدى النونين وقيل: من حذف ضمير الشأن مثل عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ [المزمل: 20] وفعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار نحو «أطمع» و «أخاف» و «أرجو» فلا يجيء معه إلا الخفيفة الناصبة للفعل كقوله وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي [الشعراء: 82] وفعل يحتمل المعنيين فيجوز فيه كلا الوجهين كقوله وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ قرىء بالنصب على أن المصدرية، وكون الحسبان بمعنى الظن وبالرفع على أن المخففة أي أنه لا تكون فتنة فخففت أن وحذف ضمير الشأن، ونزل حسبانهم لقوته في صدورهم منزلة العلم، وما يشتمل عليه صلة «أن» و «أنّ» من المسند والمسند إليه سد مسد المفعولين و «كان» تامة. والمعنى: وحسب بنو إسرائيل أنه لا تقع فتنة وهي محصورة في عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. وعذاب الدنيا أقسام منها: القحط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 ومنها الوباء ومنها القتل ومنها العداوة والبغضاء فيما بينهم ومنها الإدبار والنحوسة وكل ذلك قد وقع بهم وقد فسرت الفتنة بكل ذلك، وحسبانهم أن لا تقع فتنة يحتمل وجهين: الأول أنهم كانوا يعتقدون أن لا نسخ لشريعة موسى، وأن كل رسول جاء بعده يجب تكذيبه، والثاني أنهم اعتقدوا كونهم مخطئين في التكذيب والقتل إلا أنهم كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه وأن نبوّة إسلافهم تدفع العقاب عنهم. ثم إن الآية تدل على أن عماهم عن الدين وصممهم عن الحق حصل مرتين، فقال بعض المفسرين: إنهم عموا وصموا في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ثم تاب الله على بعضهم حيث وفقهم للإيمان به ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ في زمان محمد صلى الله عليه وسلم فأنكروا نبوّته إلا بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. وقوله كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل عن الضمير كقولك: رأيت القوم أكثرهم، وقيل: إنه على لغة من يقول «أكلوني البراغيث» وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم، وقال بعضهم: عَمُوا وَصَمُّوا حين عبدوا العجل ثم تابوا منه فتاب الله عليهم ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ بالتعنت وهو طلب رؤية الله جهرة. وقال القفال: إنه يجوز أن يكون إشارة إلى ما في سورة بني إسرائيل فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما [الإسراء: 5] فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ [الإسراء: 7] وقرىء فَعَمُوا وَصَمُّوا بالضم أي رماهم الله وضربهم بالعمى والصمم كما يقال: ركبته إذا ضربته بالركبة. ثم إنه سبحانه لما استقصى الكلام مع اليهود شرع في حكاية كلام النصارى فحكى عن فريق منهم أنهم قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذا قول اليعقوبية القائلين إن مريم ولدت إلها، ولعل مرادهم أنه تعالى حل في ذات عيسى أو اتحد به. ثم حكى عن المسيح ما حكى ليكون حجة قاطعة على فساد ما اعتقدوا فيه وذلك أنه لم يفرق بين نفسه وبين غيره في المربوبية وفي ظهور دلائل الحدوث عليه، ثم أكد ذلك المعنى بقوله: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي في العبادة أو في تجويز الحلول أو الاتحاد أو في إجراء وصفه في المخلوقين أو بالعكس فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ التي هي دار الموحدين أي منعه منها وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ من كلام الله تعالى أو من حكاية قول عيسى عليه السلام لهم وقد مر تفسيره في آخر سورة آل عمران، وفيه تقريع لهم لأنهم كانوا يعتقدون أن لهم أنصارا كثيرة فيما يقولون ويعتقدون فنفى الله تعالى أو عيسى ذلك وإن كانوا يريدون بذلك تعظيمه. قال المفسرون ثالِثُ ثَلاثَةٍ معناه ثالث آلهة ثلاثة ليلزم الكفر وإلا فما من شيئين وإلا والله ثالثهما. يحكى أن النصارى يقولون أب وابن وروح قدس والثلاثة إله واحد كما أن الشمس تتناول القرص والشعاع والحرارة. وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة، قالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 بالخمر، وزعموا أن الأب إله واحد، والابن إله واحد، والروح إله واحد، والكل إله واحد. واعلم أن هذا معلوم البطلان بالبديهة لأن الثلاثة لا تكون واحدا والواحد لا يكون ثلاثة فلا جرم رد الله مقالتهم بقوله: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ فزاد من الاستغراقية. والمعنى ما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له ولا شريك. ثم زجرهم بقوله وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قال الزجاج: يعني الذين أقاموا على هذا الدين لأن كثيرا منهم تابوا عن النصرانية ف «من» في قوله مِنْهُمْ للتبعيض، ويجوز أن تكون للبيان والمراد ليمسنهم، ولكن أقيم الظاهر مقام المضمر تكريرا للشهادة عليهم بالكفر ورمزا إلى أنهم من الكفر بمكان حتى لو فسر الكفار المعذبون عنوا بذلك خاصة. ومعنى عَذابٌ أَلِيمٌ نوع شديد الألم من العذاب أَفَلا يَتُوبُونَ قال الفراء: إنه أمر بلفظ الاستفهام وفيه تعجيب من إصرارهم على الكفر بعد الوعيد الشديد. ثم احتج على إبطال معتقدهم بقوله مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ وهذا ترتيب في غاية الحسن لأنه منعهم من الكفر أوّلا، ثم حثهم على الإسلام ثانيا، ثم شرع في حل شبههم ثالثا، ومن هنا قيل: إن المرتد يستتاب بلا مهل ومناظرة إن عنت له شبهة بل يسلم أوّلا ثم تحل شبهته ثانيا، والمعنى ما هو إلا رسول من جنس الرسل الماضين لا يتخطى الرسالة الى الإلهية كما لم يتخطوا، فإن خلق من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وإن أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى فقد جعل موسى العصا حية تسعى إلى غير ذلك من آيات ربه الكبرى وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كبعض النساء المؤمنات بالأنبياء الصادقات في أقوالهن وأفعالهن وأحوالهن قال تعالى في وصفها: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التحريم: 12] أي من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وهم المجتهدون في إقامة مراسم العبودية. ففيه تكذيب للنصارى المفرطين فيها إذ جعلوها إلها، وفيه تكذيب لليهود المفرّطين في شأنها حيث نسبوها إلى الهنات، وإلى الكذب في أن عيسى خلق من غير أب. وفيه أن من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن فكان مخلوقا لا إلها. ثم أكد حدوثهما وعجزهما بقوله كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ فإن المحتاج الى الاغتذاء سيحتاج إلى ما يتبعه من الهضم والنفض، وكل هذه الافتقارات دليل ظاهر وبرهان باهر على حدوثهما وأفولهما في حيز الإمكان. ثم عجب من غاية غوايتهم فقال انْظُرْ يا محمد أو كل من له أهلية النظر كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم. والعامل في كَيْفَ قوله نُبَيِّنُ ومفعول انْظُرْ مجموع الجملة بل مضمونها أي تبصر هذه الحالة وتفكر فيها ومثله ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحق. أفكه بالفتح يأفكه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 بالكسر أفكا بالفتح والسكون صرفه عن الشيء. ومنه الإفك بالكسر للكذب لأنه مصروف عن الحق، وأرض مأفوكة صرف عنها المطر. ومعنى «ثم» التراخي والبون بين العجبين أي بينا لهم الآيات بيانا عجيبا ولكن إعراضهم عنها أعجب، ثم الصارف عن تأمل الحق هو الله أو العبد فيه خلاف مشهور بين الأشاعرة والمعتزلة، وأنت قد عرفت التحقيق في ذلك مرارا. ثم أقام حجة أخرى على فساد قول النصارى فقال قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ أي شيئا لا يستطيع أو الذي لا يقدر على مثل ما يضركم به الله من البليات والمصائب أو ينفعكم به من الصحة والخصب بواسطة أو بغير واسطة بل لم يملك شيئا من ذلك لنفسه، فإن اليهود كانوا يقصدونه بالسوء ولم يقدر على دفعهم. ومن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه ولما عطش وطلب الماء صبوا الخل في منخريه وكان عليه السلام مصروف الهمة إلى عبادة الله ولو كان إلها كان معبودا فقط لا عابدا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع أبا طيلهم ويعلم ضمائرهم ليجازيهم عليه وفيه من الوعيد ما فيه. ثم عاد إلى مخاطبة الفريقين فقال يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا والغلو مجاوزة حد الاعتدال وأنه شامل لطرفي الإفراط والتفريط وإن كان قد يخص بطرف الإفراط ويجعل مقابلا للتقصير. ولعل المراد هاهنا هو الأول فاليهود فرطوا فيه حيث نسبوه إلى الزنا والكذب، والنصارى أفرطوا فيه حيث ادعوا فيه الإلهية. قال في الكشاف: قوله غَيْرَ الْحَقِّ صفة للمصدر أي غلوا غير الحق، ولزمه القول بأن الغلو في الدين غلو، إن حق وهو أن يبالغ في تقرير الحق وتوضيحه واستكشاف حقائقه، وباطل وهو أن يتبع الشبهات على حسب الشهوات، والثاني منهي عنه دون الأوّل، وأقول: لما كان الغلو مجاوزة الحد وكل شيء جاوز حدّه شابه ضدّه فكيف يتصوّر غلو حق ولله در القائل: كلا طرفي قصد الأمور ذميم فالأصوب أن يقال: انتصب غَيْرَ الْحَقِّ على أنه صفة قائمة مقام المصدر أي لا تغلوا غلوا كقوله: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة: 60] أي إفسادا وكقولهم: تعال جائيا وقم قائما. ولو سلم أن المصدر محذوف كان غَيْرَ الْحَقِّ صفة مؤكدة مثل نَفْخَةٌ واحِدَةٌ [الحاقة: 13] و «أمس الدابر» لا صفة مميزة فافهم وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ هي المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة. قال الشعبي: ما ذكر الله تعالى لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ [ص: 26] وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: 23] قال أبو عبيد: لم نجد للهوى موضعا إلا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 الشر. لا يقال فلان يهوى الخير إنما يقال يريد الخير ويحبه. وقيل: سمي هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار. وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هواي على هواك. فقال ابن عباس: كل هوى ضلالة قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ يعني أئمتهم في النصرانية واليهودية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وَأَضَلُّوا كَثِيراً ممن شايعهم على التثليث أو التفريط في شأن مريم وابنها وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فكذبوه. والغرض بيان استمرارهم على الضلال قديما وحديثا. وقيل: الضلال الأوّل عن الدين، والضلال الثاني عن الجنة. وقيل: الضلال الثاني اعتقادهم في ذلك الإضلال أنه إرشاد إلى الحق. لَعَنَهُمُ اللَّهُ في الزبور على لسان داود وفي الإنجيل على لسان عيسى، وفيه تعيير لهم حيث ادعوا أنهم أولاد الأنبياء وقد لعنوا على ألسنتهم. وقال كثير من المفسرين: إن أصحاب أيلة كما سيجيء في الأعراف لما اعتدوا في السبت قال داود: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة. وإن أصحاب المائدة لما أكلوا منها ولم يؤمنوا قال عيسى: اللهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي. وعن الأصم أن داود وعيسى بشرا بمحمد صلى الله عليه وسلم ولعنا من يكذبه، وذلك اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم. ثم فسّر المعصية والاعتداء بقوله كانُوا لا يَتَناهَوْنَ وللتناهي معنيان: أحدهما وعليه الجمهور أنه تفاعل من النهي أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضا. عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من رضى عمل قوم فهو منهم ومن كثر سواد قوم فهو منهم» وذلك أن في التناهي المأمور به حسما للفساد فكان الإخلال به معصية وظلما. والثاني أنه بمعنى الانتهاء أي لا يمتنعون ولا ينتهون. والمراد لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه لأن النهي بعد الفعل لا يفيد، أو المراد لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله وأحضروا آلاته، أو لا ينتهون أو لا ينهون عن الإصرار على منكر فعلوه. ثم عجب من سوء فعلهم مؤكدا بالقسم المقدر فقال لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ثم لما وصف أسلافهم بما وصف شرع في نعت الحاضرين بأن كثيرا منهم يتولون المشركين والمراد كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مر في تفسير سورة النساء عند قوله هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء: 51] لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ من العمل لمعادهم. ومحل أَنْ سَخِطَ رفع على أنه مخصوص بالذم أي بئس الزاد إلى الآخرة سخط الله يعني موجب سخط الله وسببه، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وهو موسى وما أنزل إليه في التوراة كما يدّعون واتخذوا المشركين أولياء لأن تحريم ذلك متأكد في شريعة موسى وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ في دينهم لأن مرادهم تحصيل الرياسة والجاه بأي طريق قدروا عليه لا تقرير دين موسى. ويحتمل أن يراد ولو كان هؤلاء اليهود المنافقون مؤمنين بالله وبمحمد والقرآن إيمانا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 خالصا ما اتخذوا المشركين أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون متمردون في كفرهم ونفاقهم فلهذا يتولون المشركين. وقال القفال: ولو أن هؤلاء المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ما اتخذهم اليهود أولياء. تم الجزء السادس وبه يتم المجلد الثاني من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري، ويليه الجزء السابع، وهو أول المجلد الثالث، وأوله: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 الفهرس تتمة تفسير سورة البقرة الآيات: 252- 254 3 الآيات: 255- 257 11 الآيات: 258- 260 21 الآيات: 261- 266 35 الآيات: 267- 274 43 الآيات: 275- 281 59 الآيتان: 282 و 283 73 الآيات: 284- 286 83 تفسير سورة آل عمران الآيات: 1- 11 98 الآيات: 12- 25 118 الآيات: 26- 34 135 الآيات: 35- 41 148 الآيات: 42- 60 158 الآيات: 61- 71 177 الآيات: 72- 80 185 الآيات: 81- 91 197 الآيات: 92- 101 207 الآيات: 102- 111 223 الآيات: 112- 120 237 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 الآيات: 121- 129 246 الآيات: 130- 141 257 الآيات: 142- 150 268 الآيات: 151- 160 277 الآيات: 161- 175 298 الآيات: 176- 189 313 الآيات: 190- 200 327 تفسير سورة النساء الآيات: 1- 10 338 الآيات: 11- 23 360 الآيات: 24- 30 382 الآيات: 31- 40 403 الآيات: 41- 57 416 الآيات: 58- 70 432 الآيات: 71- 81 445 الآيات: 82- 91 455 الآيات: 92- 101 468 الآيات: 102- 113 486 الآيات: 114- 126 496 الآيات: 127- 141 507 الآيات: 142- 152 518 الآيات: 153- 169 524 الآيات: 170- 176 533 تفسير سورة المائدة الآيات: 1- 11 539 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 الآيات: 12- 19 567 الآيات: 20- 26 573 الآيات: 27- 40 577 الآيات: 41- 47 591 الآيات: 48- 58 599 الآيات: 59- 69 610 الآيات: 70- 81 620 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 [ المجلد الثالث ] بسم الله الرّحمن الرّحيم الجزء السابع من أجزاء القرآن الكريم [ تتمة سورة المائدة ] [سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86] لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) ثم وصف شدة شكيمة اليهود ولين عريكة النصارى فقال لَتَجِدَنَّ يا محمد أوكل من له أهلية الخطاب أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً وقد تعلقت بها اللام في قوله لِلَّذِينَ آمَنُوا كما تعلقت بالمودة فيما بعد. وظاهر الآية يدل على أن اليهود في غاية العداوة للمسلمين وكيف لا وقد نبه على تقدم قدمهم في العداوة بتقديمهم على الذين أشركوا وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله» لكنه روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي أن المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وآمنوا به ولم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين. وقال آخرون: مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر الى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان، بالقتل أو بغصب المال أو بوجوه المكايد والحيل، وليس النصارى مذهبهم ذلك بل الإيذاء في دينهم حرام وهذا هو وجه التفاوت بالعداوة والمودة، وقد أكد ذلك بوصف العداوة والمودّة بالأشد والأقرب. وفي الآية من الفائدة أن التمرد والمعصية عادة لهم ففرغ قلبك يا محمد ولا تبال بمكرهم ولا تحزن على كيدهم. ثم ذكر سبب ذلك التفاوت فقال ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً القس والقسيس اسم لرئيس النصارى في العلم والدين وكأنه من القس وهو تتبع الشيء وطلبه. قال قطرب: هو العالم بلغة الروم وهذا مما وقع فيه الوفاق بين اللغتين. وقال عروة بن الزبير: ضعيف النصارى الإنجيل وأدخلت فيه ما ليس منه وبقي واحد من علمائهم على الحق والدين يسمى قسيسا، فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس. والرهبان جمع راهب كركبان وفرسان في راكب وفارس. وقيل: إنه واحد وجمعه رهابين كقربان وقرابين ولكن النظم يأباه. وأصله من الرهبة بمعنى الخوف من الله تعالى، وإنما صارت الرهبانية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 ممدوحة في مقابلة قساوة اليهود وغلظتهم وإلا فهي مذمومة في نفسها لقوله تعالى وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها [الحديد: 27] ولقوله صلى الله عليه وسلم «لا رهبانية في الإسلام» «1» وهاهنا نكتة هي أن كفر النصارى حيث إنهم ينازعون في الإلهيات والنبوات جميعا أغلظ في الحقيقة من كفر اليهود لأنهم لا ينازعون إلا في النبوات إلا بعضهم القائلين بأن عزيرا ابن الله. ثم إن النصارى لما لم يشتد حرصهم على طلب الدنيا وعلى الحياة وأقبلوا على العلم والبراءة من الكبر خصهم الله تعالى بالمدح وذم اليهود حيث قال وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [البقرة: 96] غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة: 64] فتبين صحة قوله صلى الله عليه وسلم «حب الدنيا رأس كل خطيئة» قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود في رهط من أصحابه الى النجاشي وقال: إنه ملك صالح لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا اليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا. فلما وردوا عليه أكرمهم وقال لهم: هل تعرفون شيئا مما أنزل عليكم؟ قالوا: نعم. فقرؤا وحوله القسيسون والرهبان فكلما قرؤا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. وقال آخرون: قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة هو وأصحابه ومعهم سبعون رجلا بعثهم النجاشي وفدا الى الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ثياب الصوف اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيرا الراهب وأبرهة وغيرهما، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها فبكوا وآمنوا فنزلت والخطاب في تَرى لكل راء. وقد وضع الفيض الذي هو مسبب الامتلاء موضع الامتلاء وأصله تمتلىء من الدمع حتى تفيض لأن الفيض بعد الامتلاء، ويحتمل أن يكون الدمع مصدر دمعت عينه وقصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء كأنّ الأعين تفيض بأنفسها. ومعنى مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ أي مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو الحق ف «من» الأولى لابتداء الغاية على أن فيض الدمع نشأ من معرفة الحق، والثانية للبيان ويحتمل التبعيض يعني أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف لو عرفوا كله وأحاطوا بالسنة؟ رَبَّنا آمَنَّا المراد إنشاء الايمان لا الإخبار عنه فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد مر مثله في آل عمران. وَما لَنا إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع حصول موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بإدخالهم دار ثوابه مع الصالحين. قالوا ذلك في أنفسهم أو فيما بينهم أو في جواب قومهم حين رجعوا إليهم ولاموهم. ومحل لا نُؤْمِنُ نصب على الحال نحو: مالك قائما. والعامل فيه معنى الفعل أي ما نصنع غير مؤمنين. وهو العامل أيضا في وَنَطْمَعُ لكن مقيدا   (1) رواه الدارمي في كتاب النكاح باب 3. بلفظ «إني لم أؤمر بالرهبانية» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 بالحال الأولى لأنك لو حذفتها وقلت: وما لنا ونطمع لا حلت، ويحتمل أن يكون وَنَطْمَعُ حالا من لا نُؤْمِنُ كأنهم أنكروا أن لا يوحدوا الله وهم يطمعون في الثواب وأن يكون عطفا على لا نُؤْمِنُ أي ما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع، أو ما لنا لا نجمع بين الإيمان وبين الطمع فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا ظاهره يدل على أنهم إنما استحقوا الثواب بمجرد القول، ولكن فيما سبق من وصفهم بمعرفة الحق ما يدل على خلوص عقيدتهم فلا جرم لما انضاف إليه القول كل الإيمان. ويحتمل أن يكون مأخوذا من قولك: هذا قول فلان أي اعتقاده ومذهبه. وروى عطاء عن ابن عباس أن المراد بما سألوا من قولهم فاكتبنا مع الشاهدين. قال أهل السنة: فيه دليل على أن المعرفة مع الإقرار توجب حصول الثواب، وصاحب الكبيرة له المعرفة والإقرار فلا بد أن يؤل حاله إلى هذا الثواب. والمعتزلة سلموا أن الإقرار مع المعرفة يوجب الثواب ولكن بشرط عدم الإحباط. التأويل: لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل مع ذرات ذرّيات آدم عليه السلام وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا بالأجساد في عالم الشهادة، ومن الواردات الروحانية في عالم الغيب فَرِيقاً كَذَّبُوا يعنى الإلهامات والواردات وَفَرِيقاً يقتلون في عالم الحس لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا النصارى أرادوا أن يسلكوا طريق الحق بقدم العقل فتاهوا في أودية الشبهات، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سلكوا الطريق بأقدام جذبات الألوهية على وفق المتابعة الجبيبية فأسقط عنهم براهين الوصال كلفة الاستدلال، ولهذا كان الشبلي يغسل كتبه بالماء ويقول: نعم الدليل أنت. ولكن الاشتغال بالدليل بعد الوصول الى المدلول محال فتحقق لهم أن عيسى بعد التزكية والتحلية صار قابلا للفيض الإلهي فكان يخلق ما يخلق ويفعل ما يفعل بإذن الله، كما أن المرايا المحرقة تحرق بما قبلت من فيض الشمس إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ ظاهرا فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ومن يشرك به باطنا حرم عليه القربة على لسان داود وعيسى ابن مريم. هذا سر الخلافة فإن الإنسان الكامل المستحق للخلافة قبوله قبول الحق ورده رد الحق لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ سمى العصيان منكرا لأنه يوجب النكرة كما سمى الطاعة معروفا لأنها توجب المعرفة ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً. يعني أن تعارف الأرواح يوجب ائتلاف الأشباح، فالنصارى ببركة علمائهم وعبادهم وصفاء قلوبهم وخضوعهم ثبت لهم القرابة والمودة من أهل الإيمان وعرفوا الحق الذي سمعوه في الأزل يوم الميثاق، فآمنوا وذلك جزاء المحسنين الذين يعبدون الله ويشاهدونه بلوائح المعرفة وطوالع المحبة فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 [سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 100] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) القراآت: بِما عَقَّدْتُمُ بالتخفيف: حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل، وقرأ ابن ذكوان عاقدتم بالألف. الباقون عَقَّدْتُمُ بالتشديد مِنْ أَوْسَطِ مثل مَبْسُوطَتانِ [المائدة: 64] فَجَزاءٌ بالتنوين مِثْلُ بالرفع: يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم عن المفضل. كَفَّارَةٌ طَعامُ بالإضافة: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون كَفَّارَةٌ بالتنوين طَعامُ بالرفع فبما بغير ألف ابن عامر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 الوقوف: وَلا تَعْتَدُوا ط الْمُعْتَدِينَ هـ طَيِّباً ص لعطف المتفقتين مُؤْمِنُونَ هـ الْأَيْمانَ ج لاختلاف النظم مع اتحاد الكلام وفاء التعقيب. رَقَبَةٍ ط ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ط حَلَفْتُمْ ط للإضمار أي حلفتم وحنثتم أَيْمانِكُمْ ط تَشْكُرُونَ هـ تُفْلِحُونَ هـ وَعَنِ الصَّلاةِ ج لابتداء الاستفهام لأجل التحذير مع دخول الفاء فيه. مُنْتَهُونَ هـ وَاحْذَرُوا ط الْمُبِينُ هـ وَأَحْسَنُوا ط الْمُحْسِنِينَ هـ بِالْغَيْبِ ج أَلِيمٌ هـ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ط وَبالَ أَمْرِهِ ط سَلَفَ ط مِنْهُ ط انْتِقامٍ هـ وَلِلسَّيَّارَةِ ج لطول الكلام وتضاد المعنيين وإن اتفقت الجملتان لفظا. حُرُماً ط لإطلاق الأمر بالابتداء تُحْشَرُونَ هـ وَالْقَلائِدَ ط عَلِيمٌ هـ رَحِيمٌ هـ الْبَلاغُ ط تَكْتُمُونَ هـ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ج لاتفاق الجملتين مع وقوع العارض تُفْلِحُونَ هـ. التفسير: إنه سبحانه بعد استقصاء المناظرة مع أهل الكتابين عاد إلى بيان الأحكام فبدأ بحل المطاعم والمشارب واستيفاء اللذات كيلا يتوهم متوهم أن مدح القسيسين والرهبان يوجب إيثار طريقتهم في هذا الدين. قال المفسرون: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فذكر الناس ووصف القيامة ولم يزدهم على التخويف، فرق الناس وبكوا فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض ويترهبوا ويجبوا المذاكير، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ قالوا: يا رسول الله وما أردنا إلا الخير. فقال: إني لم أؤمر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم، من رغب عن سنتي فليس مني. ثم جمع الناس وخطبهم فقال: ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا! أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع، وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان، فإنما هلك من قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع، فأنزل الله هذه الآية، فقالوا: يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها- وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه- فنزلت هذه الآية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ فهذا وجه اتصال الآيات. فإن قيل: ما الحكمة في قوله لا تُحَرِّمُوا ومن المعلوم أن توسع الإنسان في اللذات والطيبات يمنعه عن الاستغراق في تحصيل السعادات الباقيات، ولهذا قالت الحكماء: إذا شبعت الأجسام صارت الأرواح أجسادا، وإذا جاعت الأجسام صارت الأجساد أرواحا؟ فالجواب أن الرهبانية المفرطة مما توقع الآفة في الأعضاء الرئيسة التي هي القلب والكبد والدماغ والأنثيان فيختل الفكر ويقل التأمل في الجواهر الروحانية ومباديها، على أن النفوس القوية لا يمنعها التصرف في الجسمانيات عن التأمل في الروحانيات. فالرهبانية دليل الضعف والقصور والكمال في الوفاء بالجهتين، وكيف والرهبانية توجب خراب الدنيا وانقطاع الحرث والنسل وترك الترهب مع رعاية وظائف الطاعة يفضي الى سعادة الدارين، قال القفال: إنه تعالى قال في أوّل السورة أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] فبين أنه كما لا يجوز تحليل المحرم لا يجوز تحريم المحلل، وذلك أنهم كانوا يحللون الميتة والدم ويحرمون البحائر والسوائب. ومعنى لا تُحَرِّمُوا لا تعتقدوا تحريم ما أَحَلَّ اللَّهُ ولا تظهروا باللسان تحريمه ولا تجتنبوه اجتنابا يشبه اجتناب المحرمات. فهذه الوجوه محمولة على الاعتقاد والقول والعمل، ويحتمل أن يراد لا تحرموا على غيركم بالفتوى، أو لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين كقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم: 1] أو لا تخلطوا المملوك بالمغصوب أو الطاهر بالنجس خلطا لا يبقى معه التمييز فإنه يحرم الكل. والطيبات المستلذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب. ثم نهى عن الاعتداء مطلقا ليدخل تحته النهي عن الإسراف كقوله كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: 31] وكُلُوا أمر إباحة وتحليل مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ في إدخال «من» التبعيضية إرشاد إلى الاقتصاد والاقتصار في الأكل على البعض وصرف الباقي إلى المحتاجين، وفيه أنه تعالى هو الذي يرزق عبيده وتكفل برزقهم. قال في التفسير الكبير: قوله حَلالًا طَيِّباً إن كان متعلقا بالأكل كان حجة للمعتزلة على أن الرزق لا يكون إلا حلالا لأنه يدل على الإذن في أكل كل ما رزق الله تعالى وإنما يأذن في أكل الحلال فيلزم أن يكون كل رزق حلالا، وإن كان متعلقا بالمأكول أي كلوا من الرزق الذي يكون حلالا كان حجة لأصحابنا لأن التقييد يؤذن بأن الرزق قد لا يكون حلالا. أقول: هذا فرق ضعيف ولهذا قال في الكشاف: حَلالًا حال مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مع أنه من المعتزلة. ثم أكد التوصية بقوله وَاتَّقُوا اللَّهَ وزاده تأكيدا بقوله الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لأن الإيمان به يوجب اتقاءه في أوامره ونواهيه. ثم قال لا يُؤاخِذُكُمُ وقد ذكرنا وجه النظم آنفا، وقد تقدم معنى يمين اللغو في سورة البقرة. أما قوله بِما عَقَّدْتُمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 الْأَيْمانَ فمن قرأ بالتخفيف فإنه صالح للقليل والكثير فلا إشكال، ومن قرأ بالتشديد فإن أبا عبيدة اعترض عليه بأن التشديد للتكثير فهذه القراءة توجب سقوط الكفارة عن اليمين الواحدة. وأجاب الواحدي بأن عقد بالتخفيف وعقد بالتشديد واحد في المعنى، ولو سلم فالتكرير يحصل بأن يعقدها بقلبه ولسانه، أما لو عقد اليمين بأحدهما دون الآخر فلا كفارة. ومن قرأ بالألف فمثل القراءة المخففة كقولك: عاقبت اللص وعافاه الله. والمعنى على القراآت: ولكن يؤاخذكم بعقد الأيمان أو بتعقيدها أو معاقدتها إذا حنثتم. فحذف الظرف للعلم به، أو المراد بنكث ما عقدتم بحذف المضاف فَكَفَّارَتُهُ أي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها أحد هذه الأمور ويسمى بالواجب المخير. وحاصله أنه لا يجب الإتيان بكل واحد منها، ولا يجوز الإخلال بجميعها، ولكنه إذا أتى بأيّ واحد منها فإنه يخرج عن العهدة، ومن هنا قال أكثر الفقهاء الواجب واحد لا بعينه من الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة فإن عجز عنها جميعا فالواجب شيء آخر وهو الصوم. أما مقدار الطعام فقد قال الشافعي: نصيب كل مسكين مد أي ثلثا منّ، وهو قول ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن والقاسم لأنه تعالى قال مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ فإن كان المراد ما كان متوسطا في العرف فثلثا منّ من الحنطة إذا جعل دقيقا وخبز فإنه يصير قريبا من المنّ وذلك كاف لواحد في يوم واحد، وإن كان المراد ما كان متوسطا في الشرع فليس له في الشرع مقدار إلا ما جاء في قصة الأعرابي المفطر في نهار رمضان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإطعام ستين مسكينا من غير ذكر مقدار. فقال الرجل: ما أجد. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه خمسة عشر صاعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطعم هذا. وذلك يدل على تقدير طعام المسكين بربع الصاع وهو مدّ. ولا تلزم كفارة الحلق لأنها شرعت بلفظ الصدقة مطلقة عن التقدير بإطعام الأهل فكان تكفيرها معتبرا بصدقة الفطر وقد ثبت بالنص تقديرها بالصاع لا بالمد. وقال أبو حنيفة: الواجب نصف صاع من الحنطة أو صاع من غيرها قال: لأن الأوسط هو الأعدل. وما ذكره الشافعي هو أدنى ما يكفي. وأما الأعدل فيكون بإدام وهكذا روي عن ابن عباس مدّ بإدامه والإدام تبلغ قيمته مدا آخر ويزيد في الأغلب. أجاب الشافعي أن الإدام غير واجب بالإجماع فلم يبق إلا حمل اللفظ على التوسط في قدر الطعام ومقداره ما ذكرنا، وجنس الطعام المخرج جنس الفطرة. ثم قال الشافعي: الواجب تمليك الطعام قياسا على الكسوة. وقال أبو حنيفة: إذا غدّى وعشى عشرة مساكين جاز لأن ذلك إطعام، ولأن إطعام الأهل يكون بالتمكين لا بالتمليك وقد قال مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ والقائل أن يقول: ذكر إطعام الأهل لتعيين مقدار المطعم لا لأجل كيفية الإطعام. وقال أبو حنيفة: لو أطعم مسكينا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 واحدا عشر مرات جاز. وقال الشافعي: لا يجزى إلا إطعام عشرة لأن مدار الباب على التعبد الذي لا يعقل معناه فيجب الوقوف على مورد النص. قال في الكشاف أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على محل مِنْ أَوْسَطِ ووجه بأن البدل هو المقصود فكأنه قيل: فكفارته من أوسط. وأقول: الأظهر أن يكون مِنْ أَوْسَطِ مفعولا آخر للإطعام سواء كان «من» للابتداء أو للتبعيض، ويكون كِسْوَتُهُمْ معطوفا على الإطعام. والكسوة معناها اللباس وهو كل ما يكتسى به. قال الشافعي: يجزىء في الكفارة أقل ما يقع عليه اسم الكسوة وهو ثوب يغطي العورة إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو مقنعة لكل مسكين ثوب واحد لما روي عن ابن عباس كانت العباءة تجزىء يومئذ. وعن مجاهد: ثوب جامع. وقال الحسن: ثوبان أبيضان. والمراد بالرقبة الجملة كان الأسير في العرب تجمع يداه الى رقبته فإذا أطلق حل ذلك الحبل فسمي الإطلاق من الحبل فك رقبة. ثم أجرى ذلك على العتق هكذا قيل في أصل هذا المجاز. ومذهب أهل الظاهر أن جميع الرقاب تجزئه. وقال الشافعي: لا يجزىء إلا كل سليمة من عيب يخل بالعمل صغيرة كانت أو كبيرة ذكرا أو أنثى بعد أن كانت مؤمنة قياسا على كفارة القتل، ولم يجوّز إعتاق المكاتب ولا شراء القريب. وفي تقديم الإطعام على العتق مع أن العتق أفضل تنبيه على التخيير وأن الأمر مبني على التخفيف. ويمكن أن يقال: الإطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام أو لا يكون هناك من يعطيه فيقع في الضر، أما العبد فيجب على مولاه طعامه وكسوته، فالعتق يحتمل التأخير والإطعام قد لا يحتمل ذلك. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أحد الأمور الثلاثة المذكورة فَصِيامُ فعليه صيام ثَلاثَةِ أَيَّامٍ قال الشافعي: إذا وجد قوت نفسه وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالإطعام، وإن لم يكن عنده ذلك القدر جاز له الصيام وذلك أنه علق جواز الصيام على عدم وجدان الخصال الثلاث فعند وجدانها وجب أن لا يجوز الصوم. تركنا العمل به عند وجدان قوت نفسه وقوت عياله يوما وليلة لأن ذلك ضروري، وتقديم حق النفس على حق الغير واجب شرعا فبقي الآية معمولا بها في غيره. وعند أبي حنيفة: يجوز الصيام إذا كان عنده من المال ما لا تجب فيه الزكاة. ثم صيام الأيام الثلاثة مشروط عند أبي حنيفة بالتتابع تمسكا بقراءة أبيّ وابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات فإن قراءتهما لا تتخلف عن روايتهما. وقال الشافعي في أصح قوليه: إن التفريق جائز والقراءة الشاذة لا يعتدّ بها لأنها لو كانت صحيحة لنقلت نقلا متوترا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له: عليّ أيام من رمضان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 أفأقضيها متفرقات؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم فالدرهم أما كان يجزيك؟ قال: بلى. قال: فالله أحق أن يعفو ويصفح. وإذا جاز هذا التفريق في صوم رمضان ففي غيره أولى، وأيضا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. مسألة: من صام ستة أيام عن يمينين أجزأته ولا حاجة الى تعيين إحدى الثلاثتين لإحدى اليمينين لأن الواجب عن كل منهما ثلاثة أيام وقد أتى بها فيخرج عن العهدة ذلِكَ المذكور كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وحنثتم فحذف ذكر الحنث للعلم بأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف، وللتنبيه على أن الكفارة لا يجوز تقديمها على اليمين، وأما بعد اليمين وقبل الحنث فيجوز وبه قال مالك والشافعي وأحمد موافقا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا فكفر عن يمينك ثم ائت بالذي هو خير» «1» . ولأن الكفارة حق ماليّ يتعلق بسببين فجاز تعجيله بعد وجود أحد السببين كتعجيل الزكاة بعد وجود النصاب. هذا إذا كان يكفر بغير الصوم، أما الصوم فلا يجوز تقديمه لأن العبادات البدنية لا تقدّم على وقتها إذا لم تمس إليه حاجة كالصلاة وصوم رمضان، ولأن الصوم إنما يجوز التكفير به عند العجز عن جميع الخصال المالية، وإنما يتحقق العجز بعد الوجوب وإن كان الحنث بارتكاب محظور كأن حلف أن لا يشرب الخمر أجزأه التكفير قبل الشرب أيضا لوجود أحد السببين. والتكفير لا يتعلق به استباحة ولا تحريم بل المحلوف عليه حرام قبل اليمين وبعدها وقبل التكفير وبعده لا أثر لهما فيه. جميع ما ذكرنا ظاهر مذهب الشافعي، أما عند أبي حنيفة وأصحابه فلا يجوز التكفير قبل الحنث مطلقا. وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ قللوها ولا تكثروا منها، أو احفظوها إذا حلفتم عن الحنث، وعلى هذا تكون الإيمان مختصة بالتي الحنث فيها معصية كمن حلف أن لا يشرب الخمر بخلاف ما لو حلف ليشربن فإنه لا يؤمر حينئذ بالحفظ عن الحنث. وقيل: احفظوها بأن تكفروها أو المراد لا تنسوها تهاونا بها كَذلِكَ مثل ذلك البيان الشافي يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أحكامه وأعلام شريعته لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة البيان وتسهيل المخرج من الحرج.   (1) رواه البخاري في كتاب الأيمان باب 1. مسلم في كتاب الأيمان حديث 7. أبو داود في كتاب الأيمان باب 14. النسائي في كتاب الأيمان باب 15. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب 7. أحمد في مسنده (4/ 398) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 ثم إنه سبحانه استثنى من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر- وقد تقدم معناهما وما يتعلق بهما في سورة البقرة، وسلك في سلك التحريم الأنصاب والأزلام وقد ذكرناهما في أول هذه السورة. واعلم أنه كانت تحدث قبل تحريم الخمر أشياء يكرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه مع عمه حمزة على ما روي في الصحيحين أنه قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا من الخمس، فلما أردت أن أبني بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعدت رجلا صوّاغا من بني قينقاع أن يرتحل معي لأذخر، أردت أن أبيعه من الصوّاغين فأستعين به في وليمة عرسي. فبينا أنا أجمع لشارفيّ متاعا من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاي مناختان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، أقبلت فإذا أنا بشارفيّ قد جبت أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر وقلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب وهو في البيت في شرب مع امرأة من الأنصار غنت أغنية فقالت في غنائها: ألا يا حمز للشرف النواء وهن معقلات بالفناء ضع السكين في اللبات منها فضرجهن حمزة بالدماء وأطعم من شرائحها كبابا ملهوجة على وهج الصلاء فأنت أبا عمارة المرجى لكشف الضر عنا والبلاء فوثب الى السيف فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما. قال علي رضي الله عنه: فانطلقت حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أتيت له فقال: ما لك؟ فقلت: يا رسول الله ما رأيت كاليوم! عدا حمزة على ناقتي فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما وها هوذا في بيت معه شرب. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه ثم انطلق يمشي واتبعت أثره، - أنا وزيد بن حارثة- حتى جاء البيت الذي فيه. فاستأذن فأذن له فإذا هم شرب، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه ثم قال: وهل أنتم إلا عبيد أبي؟ فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل فنكص على عقبيه القهقرى، فخرج وخرجنا فكانت هذه القصة من الأسباب الموجبة لنزول تحريم الخمر. قالت العلماء: هذه الآية تدل على تحريمها من وجوه منها: تصدير الجملة ب «إنما» الدالة على الحصر معناه ليست الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 الخمر إلا الرجس وعمل الشيطان. ومنها أنه قرنها بعبادة الأصنام ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «شارب الخمر كعابد الوثن» ومنها أنه جعلها رجسا كما قال في موضع آخر فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] وأصل الرجس العمل القبيح والقذر. قال الفراء: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس: 100] أي العقاب والغضب وكأنه إبدال الرجز والرجس بالفتح الصوت الشديد من الرعد ومن هدير البعير فلهذا سمي العمل القوي الدرجة في القبح رجسا. ومنها أنه جعلها من عمل الشيطان، ومن المعلوم أنه لا يصدر منه إلا الشر البحت. ومنها أنه أمر بالاجتناب وظاهر الأمر للوجوب. ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح فيكون القرب منها خيبة. والضمير في فَاجْتَنِبُوهُ عائد الى الرجس أو العمل أو إلى المضاف المحذوف أي إنما تعاطي الخمر ونحو ذلك. ومنها شرح أنواع المفاسد المنتجة منها من التعادي والتباغض والصد عن ذكر الله وعن الصلاة خصوصا وفيه أن غرض الشرب من الاجتماع تأكد الألفة والمودّة. ثم إنها تورث نقيض المقصود لأن العقل إذا زال استولت الشهوة والغضب ويؤدي الى التنازع واللجاج، وكذا القمار يفضي الى إفناء المال وإلى أن يقامر على حليلته وأهله وولده وكل ذلك يورث العداوة والفتن وهذان من مكايد الشيطان ومضادّان لمصالح الإنسان. وأيضا الخمر سبب تهييج اللذة الجسمية، والقمار يورث لذة الغلبة الحالية، وكلتاهما توجب الاشتغال عن اللذات الحقيقية الحاصلة من الاستغراق في طاعة المعبود. وإنما أفرد ذكر الخمر والميسر ثانيا لأن الخطاب مع المؤمنين فقرنهما أولا بذكر الأنصاب والأزلام تنبيها على أنها جميعا من أعمال الجاهلية وأهل الشرك، ثم أفردهما لأن الكلام مسوق لتحريمهما على المخاطبين حيث إنهم كانوا لا يتعاطون سوى هذين. ومنها سوق الكلام بطريق الاستفهام في قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ كأنه قيل: قد تلي عليكم ما هو كاف في باب المنع فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم تزجروا؟ ولهذا قالوا: قد انتهينا يا رب. إذ فهموا التحريم المؤكد. ومنها إنه قال عقيب ذلك وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا والظاهر أن المراد الطاعة فيما تقدم من الأمر بالاجتناب والحذر عن المخالفة في ذلك الباب. ومنها تهديد من خالف هذا التكليف بقوله فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ الآية. والمراد إن أعرضتم فالحجة قد قامت عليكم والرسول قد خرج عن عهدة البلاغ وقد أعذر من أنذر وجزاء المخالف الى الله المقتدر. عن أنس قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلا فضيخ البسر والتمر، فإذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فجزت في سكك المدينة فقال أبو طلحة: اخرج فأرقها. فقالوا: قتل فلان وفلان وهي في بطونهم فأنزل الله تعالى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الطعم خلاف الشرب في الأغلب وقد يقع على المشروب كقوله وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة: 249] فيجوز أن يكون المراد فيما شربوا من الخمر، ويحتمل أن يكون معنى الطعم راجعا إلى التلذذ بما يؤكل ويشرب جميعا، فقد تقول العرب: أطعم أي ذق. ونظير هذه الآية قوله في نسخ القبلة وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] والعامل في إِذا مَا اتَّقَوْا معنى الكلام المتقدم أي لا يأثمون في ذلك إذا اتقوا المحرمات لأنهم شربوها حين كانت محللة. والمراد أن أولئك كانوا على هذه الصفة وهو ثناء عليهم وحمد لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان. وزعم بعض الجهلة أن هذا الحكم متعلق بالمستقبل وإلا قيل: لم يكن أو ما كان جناح مثل وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ [البقرة: 143] والمعنى لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه العداوة والبغضاء وسائر المفاسد المذكورة بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق. والجواب أن صيغة طعموا وهي المضي تأباه، وأيضا إن سبب نزول الآية يكذبه. روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وأكلوا القمار، وكيف بالغائبين عنا في البلاد لا يشعرون بتحريم الخمر وهم يطعمونها؟ فنزلت. وعلى هذا فالحل قد ثبت فيما يستقبل لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص. ثم إنه سبحانه شرط في نفي الجناح حصول التقوى والإيمان مرتين، وفي الثالثة التقوى والإحسان. فقال الأكثرون: الأول فعل الاتقاء، والثاني دوامه والثبات عليه، والثالث اتقاء ظلم العباد مع الإحسان إليهم. وقيل: الأول اتقاء جميع المعاصي قبل نزول الآية، والثاني اتقاء الخمر والميسر وما في هذه الآية، والثالث اتقاء ما يحدث تحريمه بعد هذه الآية وهذا قول الأصم. وقيل: اتقوا الكفر ثم الكبائر ثم الصغائر. وقال القفال: الأول الاتقاء من القدح في صحة النسخ ليثبت تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة، والثاني الإتيان بالعمل المطابق للآية، والثالث المداومة على التقوى مع الإحسان إلى الخلق. ثم إنه سبحانه استثنى بعض الصيد من المحللات فقال على سبيل التوكيد القسمي لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ أي ليعاملنكم معاملة المختبر بِشَيْءٍ التنوين للتحقير وفيه أنه ليس من الفتن العظام التي تدحض عندها الأقدام كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال، فامتحن الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بصيد البر كما امتحن أصحاب أيلة بصيد البحر. قال مقاتل بن حيان: ابتلاهم بالصيد وهم محرمون عام الحديبية حتى إن الوحش والطير يغشاهم في رحالهم فيقدرون على أخذها بالأيدي وصيدها بالرماح وما رأوا مثل ذلك قط، فنهاهم الله عن ذلك ابتلاء. قال الواحدي: الذي تناله أيديهم من الصيد الفراخ والبيض وصغار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 الوحش، والذي تناله الرماح الكبار. و «من» في مِنَ الصَّيْدِ للبيان أو للتبعيض وهو صيد البر أو صيد الإحرام والمراد به العين لا الحدث بدليل عود الضمير في تَنالُهُ إليه لِيَعْلَمَ اللَّهُ ليظهر معلومه وهو خوف الخائف أو ليعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم أو ليعلم أولياء الله ومحل بِالْغَيْبِ النصب على الحال أي يخافه حال كونه غائبا عن رؤيته أو عن حضور الناس فَمَنِ اعْتَدى فصاد بَعْدَ ذلِكَ الابتلاء فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة وقيل في الدنيا. عن ابن عباس: هو أن يضرب بطنه وظهره ضربا وجيعا وينزع ثيابه. لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ قال الشافعي: إنه البري المتوحش المأكول اللحم. أما الأول فلقوله تعالى بعد ذلك أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وأما المتوحش فيدخل فيه نحو الظبي وإن صار مستأنسا ويخرج الإنسي وإن صار متوحشا إبقاء لحكم الأصل، وأما كونه مأكولا فلقوله تعالى وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً فيعلم منه أنه مما يحل أكله في غير الإحرام. وقال أبو حنيفة: المحرم إذا قتل سبعا لا يؤكل لحمه ضمن. وسلم أنه لا يجب الضمان في قتل الذئب وفي قتل الفواسق الخمس فقال الشافعي: لا معنى في قتلها إلا الإيذاء فيلزم جواز قتل جميع المؤذيات لا سيما وقد جاء «خمس يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والحية والعقرب والكلب العقور» «1» وفي رواية بزيادة السبع العادي واحتج لأبي حنيفة بقول علي رضي الله عنه: صيد الملوك أرانب وثعالب. فإذا ركبت فصيدي الأبطال. وزيف بأن الثعلب عندنا حلال. وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي محرمون بالحج والعمرة أيضا على الأصح. وقيل: وقد دخلتم الحرم. وقيل: هما مرادان بالآية وهو قول الشافعي. وقوله لا تَقْتُلُوا يفيد المنع ابتداء والمنع تسببا فليس له أن يتعرض للصيد ما دام محرما أو في الحرم بالسلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطيور سواء كان الصيد صيد الحل أو صيد الحرم وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ من قرأ فَجَزاءٌ بالتنوين ومِثْلُ بالرفع فالمعنى: فعليه جزاء صفته كذا. ومن قرأ بالإضافة فمن باب إضافة المصدر إلى المفعول أي فعليه أن يجزىء مثل ما قتل. قال بعض العلماء: المثل مقحم للتأكيد إذ الواجب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله فهو كقولهم: أنا أحب مثلك أي أحبك. وقيل: الإضافة بمعنى «من» أي جزاء من مثل ما قتل. قال سعيد بن جبير: المحرم إذا قتل الصيد خطأ لا يلزمه   (1) رواه النسائي في كتاب المناسك باب 83. أحمد في مسنده (6/ 203) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 شيء. وهو قول داود لأن النهي ورد عن التعمد وهو أن يقتله ذاكرا لإحرامه أو عالما أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله، فإن قتله وهو ناس لإحرامه أو رمى صيدا وهو يظن أنه ليس بصيد، أو رمى غير صيد فعدل السهم فأصاب صيدا فهو مخطئ لا شيء عليه لفقدان القيد المذكور. ويتأكد هذا الرأي بقوله لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ وبقوله وَمَنْ عادَ أي الى ما تقدم ذكره وهو القتل العمد، والانتقام أيضا يناسب العمد لا الخطأ 575 قال جمهور الفقهاء: يلزمه الضمان سواء قتل عمدا أو خطأ قياسا على سائر محظورات الإحرام كحلق الرأس وغيره وكما في ضمان مال المسلم، فإنه لما ثبتت الحرمة لحق المالك لم يختلف ذلك بكونه عمدا أو لا. وإنما وردت الآية بالتعمد لأن العمد أصل والخطأ ملحق به للتغليظ، ولما روي أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل له: إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت الآية على وفق القصة. وعن الزهري نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ. قال صلى الله عليه وسلم «في الضبع كبش إذا قتله المحرم» «1» وقالت الصحابة: في الظبي شاة. أطلقوا الضمان من غير فرق بين العمد والخطأ. ثم العلماء اختلفوا في المثل فقال الشافعي ومحمد بن الحسن: الصيد ضربان: منه ما له مثل ومنه ما لا مثل له فيضمن بالقيمة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: المثل الواجب هو القيمة قياسا على ما لا مثل له. حجة الشافعي قوله تعالى مِنَ النَّعَمِ فإنه بيان للمثل وكذا قوله هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حكم في الضبع بكبش. وعن علي وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر أنهم حكموا في أمكنة مختلفة وأزمان متعدّدة في جزاء الصيد بالمثل من النعم. فحكموا في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحش ببقرة، وفي الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الظبي بشاة، وفي الأرنب بحمل- وفي رواية بعناق- وفي الضب بسخلة، وفي اليربوع بجفرة، وفي الحمام بشاة، ويعني به كل ما عب وهدر كالقمري والدبسي الفاختة. والعب شرب الماء مرة، والهدير ترجيعه صوته وتغريده. وفيه دليل على أنهم نظروا إلى أقرب الأشياء شبها بالصيد من النعم، ولو نظروا إلى القيمة لاختلف باختلاف الأسعار. والظبي الذكر من هذا الجنس والغزال أنثاه، والجفرة من أولاد المعز إذا انفصلت من أمها، والعناق الأنثى من أولاد المعز. وأيضا المقصود من الضمان جبر الهلاك فكلما كانت المماثلة أتم كان الجبر أكمل. (وهاهنا مسائل) الأولى: جماعة محرومون قتلوا صيدا. فالشافعي وأحمد وإسحق: لا   (1) رواه ابن ماجة في كتاب المناسك باب 90. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 يجب عليهم إلا جزاء واحد لأن مثل الواحد واحد. وقال أبو حنيفة ومالك والثوري: على كل منهم جزاء واحد كما لو قتل جماعة واحدا يقتص منهم جميعا، وكذا لو حلف كل منهم أن لا يقتل صيدا فقتلوا صيدا واحدا لزم كلا منهم كفارة. وأجيب بأن قتل الجماعة بالواحد تعبدي وتعدد الكفارة لتعدد الإيمان. الثانية: قال الشافعي: المحرم إذا دل غيره على صيد فقتله لم يضمن كما لا يجب بالدلالة كفارة القتل ولا الدية، وكما لو دل على مال المسلم وذلك لأن الدلالة ليست بقتل ولا إتلاف. وقال أبو حنيفة: يضمن لما روي أن عمر وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس أوجبوا الجزاء على الدال. الثالثة: قال الشافعي: إذا جرح ظبيا فنقص من قيمته العشر فعليه عشر قيمة الشاة إرشادا إلى ما هو الأسهل لأنه قد لا يجد شريكا في ذبح شاة ويتعذر عليه إخراج قسط من الحيوان. وقال المزني: عليه شاة. وقال داود: لا ضمان إلا بالقتل لظاهر الآية حيث نيط الجزاء بالقتل فقط. الرابعة: إذا قتل المحرم صيدا وأدى جزاءه ثم قتل صيدا آخر لزمه جزاء آخر خلافا لداود، وينقل عن ابن عباس وشريح. حجة الجمهور أن الحكم يتكرر بتكرر العلة بخلاف ما لو قال لنسائه: من دخل منكن الدار فهي طالق فدخلت واحدة مرتين، فإنه لا يقع إلا طلاق واحد لأن تكرر الحكم بتكرر الشرط غير لازم. حجة داود وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فإنه جعل جزاء العائد الانتقام لا الكفارة. الخامسة: قال الشافعي: إذا أصاب صيدا أعور أو مكسور اليد أو الرجل فداه بمثله والصحيح أحب، وكذا الكبير لأجل الصغير. والذكر يفدى بالذكر والأنثى بالذكر والأنثى والأولى أن لا يغير تحقيقا للمثلية. فالأنثى أفضل لأنها تلد، والذكر أفضل من حيث إن لحمه أطيب وصورته أحسن. قوله سبحانه يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ قال ابن عباس: أي رجلان صالحان فقيهان من أهل دينكم ينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به. وبهذا احتج من نصر قول أبي حنيفة فقال: التقويم هو المحتاج إلى النظر والاجتهاد، وأما الخلقة والصورة فمشاهد لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 يفتقر إلى الاجتهاد. ورد بأن وجه المشابهة بين النعم والصيد أيضا يتوقف على الاجتهاد. عن قبيصة بن جابر أنه ضرب ظبيا في الإحرام فمات فسأل عمر- وكان إلى جانبه عبد الرحمن ابن عوف- فقال له: ما ترى؟ قال: عليه شاة. قال: وأنا أرى ذلك، فاذهب فأهد شاة. قال قبيصة: فخرجت إلى صاحبي وقلت: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره. قال: ففاجأني عمر وعلاني بالدرّة وقال: أتقتل في الحرم وتسفه الحكم؟ قال الله تعالى يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فأنا عمر وهذا عبد الرحمن. قال الشافعي: ما ورد فيه نص فهو متبع كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قضى في الضبع بكبش. وكل ما حكم به عدلان من الصحابة أو التابعين أو من أهل عصر آخر من النعم أنه مثل الصيد المقتول يتبع حكمهم ولا حاجة إلى تحكيم غيرهم لأن بحثهم أوفى ونظرهم أعلى. وقال مالك: يجب التحكيم فيما حكمت به الصحابة وفيما لم تحكم. وهل يجوز أن يكون قاتل الصيد حكما؟ إن كان القتل عمدا عدوانا فلا لأنه يورث الفسق والحكم موصوف بالعدالة، وإن كان خطأ أو كان مضطرا إليه فكذلك عند مالك كما في تقويم المتلفات. وجوّزه الشافعي لما روي أن بعض الصحابة أوطأ فرسه ظبيا فسأل عمر فقال: احكم فيه. فقال: أنت خير مني وأعلم يا أمير المؤمنين. فقال: إنما أمرتك أن تحكم فيه ولم آمرك أن تزكيني. فقال الرجل: أرى فيه جديا فقال عمر: فذلك فيه. وأيضا فإنه حق الله فيجوز أن يكون من عليه أمينا فيه كما أن رب المال أمين في الزكاة. ولو حكم عدلان بأن له مثلا وآخران بأنه لا مثل له فالأخذ بقول الأولين. ولو حكم عدلان بمثل وآخران بمثل آخر فأصح الوجهين أنه يتخير والآخر أنه يأخذ بالأغلظ. قيل: في الآية دلالة على أن العمل بالاجتهاد والقياس جائز. وأجيب بأنه لا نزاع في الصور الجزئية كالاجتهاد في القبلة وكالعمل بشهادة الشاهدين وبتقويم المقوّمين في قيم المتلفات وأروش الجنايات، وكعمل العامي بالفتوى، وكالعمل بالظن في مصالح الدنيا، إنما النزاع في إثبات شرع عام في حق جميع المكلفين باق على وجه الدهر والإنصاف أن تجويز الاجتهاد في القبلة وفي تعيين مثل الصيد المقتول أمر كلي أيضا. وانتصب هَدْياً على أنه حال من فَجَزاءٌ عند من وصفه بمثل لأنه حينئذ قريب من المعرفة أو بدل من محل مِثْلُ عند من أضاف، أو حال من الضمير في بِهِ ووصف هديا ببالغ الكعبة لأن إضافته غير حقيقية تقديره بالغا الكعبة. والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة ولا سيما إذا كان مرتفعا. ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح في الحرم لأن الذبح والنحر لا يقعان في نفس الكعبة ولا في غاية القرب والتلاصق منها فإن دفع مثل الصيد المقتول إلى الفقراء حيا لم يجز. قال الشافعي: يجب عليه أن يتصدق به في الحرم أيضا لأن نفس الذبح إيلام ولا قربة فيه وإنما القربة في التصدّق على فقراء الحرم. وقال أبو حنيفة: له أن يتصدق به حيث شاء لأنها لما وصلت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 إلى الكعبة فقد خرج عن العهدة. قوله أَوْ كَفَّارَةٌ عطف على قوله فَجَزاءٌ وطَعامُ مَساكِينَ بيان له. ومن أضاف فللبيان أيضا أي كفارة من طعام مساكين مثل: خاتم فضة أَوْ عَدْلُ ذلِكَ الطعام صِياماً نصب على التمييز كقولك: لي مثله رجلا. وعدل الشيء ما عادله من غير جنسه، والعدل بالكسر المثل تقول: عندي عدل غلامك إذا كان غلاما يعدل غلاما، فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت العين. ثم مذهب الشافعي أنه يصوم لكل مد يوما. ومذهب أبي حنيفة أنه يصوم لكل نصف صاع يوما وذلك بحسب الاختلاف في طعام مسكين واحد كما مر في كفارة اليمين. وبالجملة فحاصل مذهب أبي حنيفة أنه يوجب قيمة الصيد يقوّم حيث صيد، فإن بلغت قيمته ثمن هدي تخير بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد وبين أن يشتري بقيمته طعاما فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوما. وحاصل مذهب الشافعي أن الصيد قسمان: ما له مثل من النعم وما ليس كذلك. فالأوّل جزاؤه على التخيير والتعديل فيتخير بين أن يذبح مثله فيتصدق به على مساكين الحرم إما بأن يفرق اللحم أو يملك جملته إياهم مذبوحا، وبين أن يقوّم المثل بدراهم ولا يجوز أن يتصدق بالدراهم ولكن إن شاء اشترى بها طعاما وتصدق به على مساكين الحرم وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يوما حيث كان. والثاني وهو ما ليس بمثلي كالعصافير وغيرها. وبالجملة كل ما دون الحمام أو فوقه فيه قيمته ولا يتصدق بها بل يجعلها طعاما، ثم إن شاء تصدق بها وإن شاء صام عن كل مد يوما، فإن انكسر مد في القسمين صام يوما لأن الصوم لا يتبعض. فللجزاء في القسم الأوّل ثلاثة أركان: الحيوان والطعام والصيام. وفي القسم الثاني ركنان: الطعام والصيام وأَوْ هنا على التخيير في ظاهر المذهب لا على الترتيب. ووافق مالك وأبو حنيفة لأن «أو» للتخيير غالبا، وخالف أحمد وزفر فقالا إنها في الآية للترتيب لأن الواجب هنا شرع على سبيل التغليظ بدليل قوله لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ والتخيير ينافي التغليظ. ثم القائلون بالتخيير اتفقوا على أن الخيار في تعيين هذه الثلاثة إلى قاتل الصيد كما هو ظاهر الآية إلا محمد بن الحسن فإنه قال: الخيار إلى الحكمين قياسا على تعيين المثل. ثم إن لم يكن الصيد مثليا فالعبرة في القيمة بمحل الإتلاف قياسا على كل متلف متقوّم، والمعتبر في الصرف إلى الطعام سعر الطعام بمكة. وإن كان مثليا وأراد تقويم مثله من النعم ليرجع إلى الإطعام أو الصيام فالعبرة في قيمته بمكة يومئذ لأنها محل الذبح لو كان يذبح. ولا جزاء على المحرم بأكل الصيد سواء ذبحه بنفسه أو اصطيد له أو بدلالته لأنه ليس بنام بعد الذبح ولا يؤل إلى النماء فلا يتعلق بإتلافه الجزاء، كما لو أتلف بيضة مذرة هذا في الجديد من قولي الشافعي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 وفي قوله القديم- وبه قال مالك وأحمد- يلزمه القيمة بعد ما أكل. وإذا ذبح المحرم صيدا لم يحل له الأكل منه ولا لغيره في الجديد- وبه قال مالك وأحمد وأبو حنيفة- لأنه يكون ميتة كذبيحة المجوسي حتى لو كان مملوكا وجب مع الجزاء القيمة للمالك. وهل يحل له بعد زوال الإحرام؟ أظهر الوجهين لا، وكذا الكلام في صيد الحرم إذا ذبح. أما قوله لِيَذُوقَ فإنه متعلق بقوله فَجَزاءٌ أي فعليه أن يجازي أو يكفر ليذوق، ويحتمل أن يقال: يتعلق بمحذوف أي شرعنا ما شرعنا ليذوق سوء عاقبة فعله وهو هتك حرمة الحرم والإحرام. والتركيب يدور على الثقل يقال: مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة، وطعام وبيل تقيل على الطبع والمعدة. والأمور الثلاثة اثنان منها نقص في المال فيثقل على الطبع، والثالث وهو الصوم ثقيل على البدن أيضا، وكل منها نوع عقوبة عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ في الجاهلية لأنهم متعبدون بشرع من قبلهم، أو عما سلف قبل التحريم في الإسلام. وعلى مذهب داود عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ في المرة الأولى بسبب أداء الجزاء وَمَنْ عادَ فإنه أعظم من أن يعفى بالجزاء فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ أي فهو ينتقم الله منه وإلا لم يحتج إلى إدخال فاء الجزاء لارتباطه بنفسه. أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ أي مصيداته. ويعني بالبحر جميع هذه المياه والأنهار، وجملة ما يصاد منه ثلاثة أجناس: الحيتان وجميع أنواعها حلال، والضفادع وجميع أنواعها حرام، وفيما سوى هذين خلاف. فقال أبو حنيفة: حرام. وقال ابن أبي ليلى والأكثرون: حلال. قوله وَطَعامُهُ العطف يقتضي المغايرة وفيه وجوه: يروى عن أبي بكر الصديق أن الصيد ما صيد بالحيلة حال حياته، والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه. وقال جمع من العلماء: الاصطياد قد يكون للأكل وقد يكون لغيره كاصطياد الصدف لأجل اللؤلؤ واصطياد بعض الحيوانات البحرية لأجل عظامها وأسنانها. فالمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصطاد في البحر، وأحل لكم أكل المأكول منه. وعن سعيد بن جبير أن الصيد هو الطري، والطعام هو القديد منه وفي الفرق ضعف. قال الشافعي: السمكة الطافية في البحر محللة لأنه طعام البحر وقد قال تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ وقال صلى الله عليه وسلم في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» «1» مَتاعاً لَكُمْ في الحضر طريا ولِلسَّيَّارَةِ في السفر مالحا. وانتصب مَتاعاً على أنه مفعول له ولكنه   (1) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 41. الترمذي في كتاب الطهارة باب 52. النسائي في كتاب الطهارة باب 46. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 38. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 12. الدارمي في كتاب الوضوء باب 53. أحمد في مسنده (2/ 237) ، (3/ 373) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 مختص بالطعام. وقال الزجاج: انه مصدر مؤكد لأن قوله أُحِلَّ لَكُمْ في معنى التمتيع وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً قال العلماء: صيد البحر هو الذي لا يعيش إلا في الماء، أما الذي لا يعيش إلا في البر والذي يمكنه أن يعيش في البر تارة وفي البحر أخرى فذاك كله صيد البر، والسلحفاة والسرطان والضفدع وطير الماء كل ذلك من صيد البر، ويجب على قاتله الجزاء. واتفق المسلمون على أن المحرم يحرم عليه الصيد الذي صاده أما الذي صاده الحلال فعن علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وطاوس والثوري واسحق أن الحكم كذلك لإطلاق الآية، ولما روي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي إليه حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله. وقال مالك والشافعي وأحمد: إن لحم الصيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له لما روى أبو داود في سننه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم» «1» وعن أبي هريرة وعطاء ومجاهد أنهم أجازوا للمحرم ما صاده الحلال وإن صاده لأجله إذا لم يدل ولم يشر، وكذلك ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه لما روي عن أبي قتادة أنه اصطاد حمار وحش وهو حلال في أصحاب محرمين له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ فقالوا: لا فقال: هل بقي من لحمه شيء؟ قالوا معنا رجله. فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فأكلها. وهذان القولان مفرعان على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. وقال في الكشاف: أخذ أبو حنيفة بالمفهوم فكأنه قيل: وحرم عليكم أيها المحرمون ما صدتم في البر، فيخرج عنه مصيد غيرهم. ويرد عليه أن المفهوم ليس بحجة. ثم حث على الطاعة والاجتناب عن المعاصي بقوله وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وهو كلام جامع للوعد والوعيد. ثم ذكر سبب حرمة الصيد في الحرم وفي الإحرام فقال جَعَلَ اللَّهُ أي حكم وبين بالخطاب والتعريف، أو صير بخلق دواعي التعظيم في القلوب قِياماً لِلنَّاسِ وهم العرب ووجه المجاز أن أهل بلدة إذا قالوا «الناس فعلوا كذا» أرادوا أهل بلدتهم فنطق القرآن على مجرى عادتهم. وبيان القيام أن قوام المعيشة إما بكثرة المنافع وقد جعله بحيث يجبى إليه ثمرات كل شيء، وإما بدفع المضار وقد صيره حرما آمنا، وإما بحصول الجاه والرياسة وتوفر الدواعي والرغبات وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام. فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: 37] ثم المنافع الدينية الحاصلة من مناسكها وشعائرها أكثر من أن تحصى   (1) رواه ابو داود في كتاب المناسك باب 40. الترمذي في كتاب الحج باب 25. النسائي في كتاب المناسك باب 81. أحمد فى مسنده (3/ 362، 387) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 وأظهر من أن تخفى. وانتصب الْبَيْتَ الْحَرامَ على أنه عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح إذ الكعبة أوضح من أن توضح، ويحتمل أن يراد بالناس عامة الناس لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم وأنواع منافعهم الدينية والدنيوية. وعن عطاء بن أبي رباح: لو تركوه عاما واحدا لم ينظروا ولم يؤخروا. وتفسير الشهر الحرام والهدي والقلائد تقدم في أوّل السورة. وإنما كان الشهر الحرام سببا لقيام الناس وقوامهم لأنه إذا دخل الشهر الحرام كان يزول خوفهم ويقدرون على الأسفار وتحصيل الأقوات قدر ما يكفيهم طول السنة، فلولا حرمة ذلك لهلكوا من الجوع. وأيضا هو سبب لاكتساب الثواب من قبل مناسك الحج وإقامتها. وأما الهدي فإنه نسك للمهدي وقوام لمعايش الفقراء، وكذا القلائد فكان من قلد الهدي أو قلد نفسه من لحاء شجر الحرم لم يتعرض له أحد، وكل ذلك لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم الكعبة وما يتعلق بها ذلك الذي ذكر من جعل الكعبة قياما للناس أو من حفظ حرمة الإحرام والحرم مشروع لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وذلك أنه علم في الأزل أن مقتضى طباع العرب الحرص على القتل والغارة وكان ذلك مما يفضي إلى الفناء وانقطاع النسل، فدبر هذا التدبير المحكم والفعل المتقن كي يصير سببا للأمان في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمان فتستقيم مصالح الإنسان. ولا ريب أن مثل هذا التقدير والتدبير لا يصح إلا ممن يعلم الكائنات وأسبابها وغاياتها بل يعلم المعلومات بأسرها كلياتها وجزئياتها قديمها وحديثها، عللها ومعلولها، موجودها ومعدومها، وذلك قوله وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فما أحسن هذا الترتيب! ثم خوّفهم وأطمعهم بقوله اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن انتهك محارمه وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن حافظ عليها. وذكر الوصفين في جانب الرحمة دليل على أن جانب الرحمة أغلب كما قال «سبقت رحمتي غضبي» «1» . ثم قرر أن الرسول ما كان مكلفا إلا بالتبليغ فإذا بلغ خرج من العهدة وبقي الأمر من جانبكم وأنه تعالى يعلم جهركم وسركم، وفيه من الوعيد ما فيه، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الله عز وجل حرم عليكم عبادة الأوثان وشرب الخمر والطعن في الأنساب ألا وإن الخمر لعن الله شاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها» «2» . فقام إليه أعرابي فقال: يا رسول الله إني كنت رجلا كانت هذه تجارتي واستفدت   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 55. مسلم في كتاب التوبة حديث 14- 16. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 35. أحمد في مسنده (3/ 242، 258) . (2) رواه أبو داود في كتاب الأشربة باب 2. الترمذي في كتاب البيوع باب 58. ابن ماجه في كتاب الأشربة باب 6. أحمد في مسنده (2/ 25، 71) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 من بيع الخمر مالا فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل عند الله جناح بعوضة، إن الله لا يقبل إلا الطيب، وأنزل الله عز وجل تصديقا لقول رسوله قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ وهو عام في حرام الأموال وحلالها وفاسد الأعمال وصالحها وسقيم المذاهب وصحيحها ورديء النفوس وجيدها، وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية، وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعته، والبون بين الصنفين في العالم الروحاني أبعد منه في العالم الجسماني، لأن أثرهما في عالم الأرواح أبقى وأدوم وأجل وأعظم، فلا تستبدل الخبيث يا إنسان بالطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث، لأن كثرته في التحقيق قلة، ولذته في نفس الأمر ذلة، ونقده زيف وصرف العمر في طلبه حيف. التأويل: لا تُحَرِّمُوا على أنفسكم بالاستمتاعات النفسانية طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ دون سائر المخلوقات من المواهب الربانية وَلا تَعْتَدُوا ولا تجاوزوا عن حد العبودية وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ واجتهدوا في طلب ما خصكم به الله من تجلي جماله وجلاله حَلالًا طَيِّباً يحل فيكم بريئا من سمات النقائص. بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ أن تحلفوا بآلائه عن التبرم من ولائه لملالة النفوس وكلالة القوي واستيلاء النفس وغلبة سلطان الهوى في أثناء المجاهدات وإعواز المشاهدات وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ إذا عزمتم على الهجران وتعرضتم للخذلان فَكَفَّارَتُهُ حينئذ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ الحواس الظاهرة والباطنة. مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وهم القلب والسر والروح والخفاء، طعامهم الشوق والمحبة والصدق والإخلاص والتفويض والتسليم والرضا والأنس والهيبة والشهود والكشوف، وأوسطه الذكر والتذكر والفكر والتفكر والشوق والتوكل والتعبد والخوف والرجاء يشغل الحواس العشرة بهذه الأمور، أو يكسوهم لباس التقوى، أو يحرر رقبة النفس من عبودية الحرص والهوى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أمسك في اليوم الماضي عما عزم عليه وفي اليوم الحاضر عما لا يعنيه وفي اليوم المستقبل عن العود إليه. ومن لغو اليمين عند أرباب اليقين أن الطالب الصادق عند غلبات الشوق ووجدان الذوق يقسم عليه بجماله وحلاله أن يرزقه شيئا من إقباله ووصاله وذلك في شريعة الرضا لغو، وفي مذهب التسليم سهو ولكن يرجى له عفو فلا يؤاخذه بمقاله لعلمه بضعف حاله والكمال في الثبات والاستقامة. أريد وصاله ويريد هجري ... فأترك ما أريد لما يريد ومن اللغو في اليمين عندهم ما يجري على لسانهم في حال غلبات الوجد من تجديد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 العهد وتأكيد العقد كقول بعضهم: وحقنك ما نظرت إلى سواكا ... بعين مودّة حتى أراكا فإن هذا ينافي التوحيد وأين في الدار ديار كلا بل هو الله الواحد القهار لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بالتقليد وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الأعمال البدنية الشرعية جُناحٌ فِيما طَعِمُوا من المباحات إِذا مَا اتَّقَوْا الشبهة والإسراف وَآمَنُوا بالتحقيق بعد التقليد وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الأعمال القلبية الحقيقية من تخلية القلب عما سواه ومن تحليته بالأخلاق المضادة لهواه كالصدق والإخلاص والتوكل والتسليم وما عداه ثُمَّ اتَّقَوْا شرك الأنانية وَآمَنُوا بهويته ثُمَّ اتَّقَوْا هذا الشرك وهو الفناء في الفناء وَأَحْسَنُوا وهو البقاء به فافهم جعل الله البلاء لأهل الولاء كاللهب للذهب فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إيمان المحسنين الذين تجردوا عن ملاذ الدنيا وشهواتها الحلال وأحرموا بحج الوصول وعمرة الوصال لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ في أثناء السلوك بشيء من الصيد وهو المطالب النفسانية والمقاصد الدنيوية الدنية. تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ يعني اللذات البدنية ورماحكم يعني اللذات الخيالية فَلَهُ عَذابٌ الردّ والصد لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يعني من أحرم لزيارة كعبة الوصال فعليه حسم الأطماع من الحرام والحلال مُتَعَمِّداً أي عالما بما في الالتفات إلى غيره من المضار مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يجازي نفسه برياضة ومجاهدة يماثل ألمها تلك اللذة ذَوا عَدْلٍ هما القلب والروح يحكمان على مقدار الإسلام وعلى حسب قوّة السالك بتقليل الطعام والشراب، أو ببذل المال أو بترك الجاه أو بالعزلة وضبط الحواس هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ خالصا عن الخلق لأجل الحق طَعامُ مَساكِينَ هم العقل والقلب والسر والروح والخفاء كانوا محرومين عن أغذيتهم الروحانية فيطعمهم المعاملات الروحانية من صدق التوجه والصبر على المكاره والفطام عن المألوفات ومن الشكر والرضا وغير ذلك. أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً هو الإمساك عن الأغيار والركون إلى الواحد القهار لتذوق النفس الأمارة وبال أمرها، فإن كل هذه الأمور على خلاف طبعها ذُو انْتِقامٍ ينتقم من أحبائه بنقاب الدلال، ومن أعدائه بحجاب الملام والملال. أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ بحر المعارف والكشوف تنتفعون بالواردات وتطعمون منها السائرين إلى الله من أهل الإرادات صَيْدُ الْبَرِّ ما سنح للسائرين من مطالب الدنيا ما دُمْتُمْ حُرُماً أي في حال المحو لا في حال الصحو. جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ كعبة الظاهر قِياماً للعوام والخواص يستنجحون بها حاجاتهم الدنيوية والأخروية، وكعبة القلب قواما للخواص ولخواص الخواص يلوذون بها بدوام الذكر ونفي الخواطر حتى يعلموا أن لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 موجود إلا هو، ولا وجود إلا له الْبَيْتَ الْحَرامَ حرام أن يسكن في كعبة القلب غيره والشهر الحرام هو أيام الطلب حرام على الطالب فيها مخالطة الخلق وملاحظة ما سوى الحق. والهدي هو النفس البهيمية تساق إلى كعبة القلب مع قلائد أركان الشريعة فتذبح على عتبة القلب بسكين آداب الطريقة عن شهواتها، فإذا وصل العبد إلى كعبة القلب شاهد بأنواره أن لله ما في السموات وما في الأرض. شَدِيدُ الْعِقابِ يسدل الحجاب لغير الأحباء غفور رحيم للصادقين في الطلب بفتح الأبواب إِلَّا الْبَلاغُ بالقال يتلو عليهم آياته وبالحال ويزكيهم ما تُبْدُونَ بإقرار اللسان وَما تَكْتُمُونَ من تصديق الجنان الخبيث ما يشغلك عن الله والطيب ما يوصلك إلى الله بل الطيب هو الله والخبيث ما سوى الله وفي ذلك كثرة والله أعلم. قول الله عز وجل. [سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 120] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 القراآت: يُنَزَّلُ من الإنزال: أبو عمرو وابن كثير وسهل ويعقوب شَهادَةُ بالتنوين آلله بالمد: روح وزيد. الباقون بالإضافة. «استحق» على البناء للفاعل: حفص والأعشى في اختياره الباقون على البناء للمفعول. الْأَوْلَيانِ جمع الأول نقيض الآخر. سهل ويعقوب وحمزة وخلف وعاصم غير حفص والأعشى في اختياره الباقون الْأَوْلَيانِ تثنية الأولى الأحق الْغُيُوبِ بكسر الغين حيث كان: حمزة وحماد وأبو بكر غير الشموني والبرجمي والخزاعي عن ابن فليح في سِحْرٌ وكذلك في هود والصف: حمزة وعلي وخلف الباقون سِحْرٌ هل تستطيع بتاء الخطاب رَبُّكَ بالنصب: علي والأعشى في اختياره، الباقون بالياء وبالرفع أَنْ يُنَزِّلَ بالتخفيف من الإنزال: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون بالتشديد مُنَزِّلُها بالتشديد: عاصم وأبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون بالتخفيف فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع وَأُمِّي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص لِي أَنْ بالفتح: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو. الباقون بالسكون يَوْمُ يَنْفَعُ بفتح الميم: نافع. الباقون بالرفع. الوقوف: تَسُؤْكُمْ ج لابتداء شرط آخر مع واو العطف. تُبْدَ لَكُمْ ط عَنْها ط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 حَلِيمٌ هـ كافِرِينَ هـ وَلا حامٍ لا للاستدراك. الْكَذِبَ ط لا يَعْقِلُونَ هـ آباءَنا ط وَلا يَهْتَدُونَ هـ أَنْفُسَكُمْ ج لاحتمال الاستئناف أو الحال أي احفظوا أنفسكم غير مضرورين إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ط تَعْمَلُونَ هـ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ط قُرْبى ز لأن قوله وَلا نَكْتُمُ من جواب القسم. شَهادَةُ ط لمن قرأ آلله بالمد الْآثِمِينَ هـ وَمَا اعْتَدَيْنا ز لظاهر «إن» والوصل أجوز لتعلق «إذا» بقوله وَمَا اعْتَدَيْنا ز الظَّالِمِينَ هـ أَيْمانِهِمْ ط لابتداء الأمر وَاسْمَعُوا ط الْفاسِقِينَ هـ أُجِبْتُمْ ط لَنا ط الْغُيُوبِ هـ والِدَتِكَ لا لئلا يوهم أنه ظرف لا ذكر بل عامله محذوف والتقدير: واذكر إذ أيدتك وَكَهْلًا ج وَالْإِنْجِيلَ ج وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ج الْمَوْتى ج لأن «إذ» يجوز تعلقه تعلق به «إذ» الأول، ويمكن تعلق كل واحد بمحذوف آخر لتفصيل النعم سِحْرٌ مُبِينٌ هـ وَبِرَسُولِي ط لاحتمال أن قالوا مستأنف أو عامل في إِذْ أَوْحَيْتُ مُسْلِمُونَ مِنَ السَّماءِ الأولى ط مُؤْمِنِينَ هـ الشَّاهِدِينَ هـ وَآيَةً مِنْكَ ج لاتفاق الجملتين مع وقوع العارض الرَّازِقِينَ هـ عَلَيْكُمْ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب الْعالَمِينَ هـ مِنْ دُونِ اللَّهِ ط ما لَيْسَ لِي ط قد قيل وهو تعسف لأن المنكر لا يقسم به والقسم لا يجاب بالشرط بل الوقف على بِحَقٍّ عَلِمْتَهُ ط نَفْسِكَ ط الْغُيُوبِ هـ وَرَبَّكُمْ ج على أن الواو للاستئناف أو الحال أي وقد كنت فِيهِمْ ط لأن عامل «لما» متأخر وفاء التعقيب دخلتها عَلَيْهِمْ ط لأن الواو لا يحتمل الحال للتعميم في كل شيء شَهِيدٌ هـ عِبادُكَ ج لابتداء الشرط مع الواو الْحَكِيمُ هـ صِدْقُهُمْ ط لاختلاف الجملتين بلا عطف أَبَداً ط عَنْهُ ط الْعَظِيمُ هـ وَما فِيهِنَّ ط قَدِيرٌ هـ. التفسير: عن أنس أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكثروا المسألة فقام على المنبر فقال: فاسألوني فو الله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به. فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه فقال: يا نبي الله من أبي؟ فقال: أبوك حذافة بن قيس وقال سراقة بن مالك- ويروى عكاشة بن محصن- يا رسول الله الحج علينا في كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعاد مرتين أو ثلاثا فقال صلى الله عليه وسلم: ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم، والله إن قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لتركتم، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه. وقام آخر فقال: يا رسول الله أين أبي؟ فقال: في النار. ولما اشتد غضب الرسول صلى الله عليه وسلم قام عمر فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا. فأنزل الله هذه الآية. فهي عائدة إلى قوله ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ كأنه قال: ما آتاكم الرسول فخذوه ولا تخوضوا في غيره فلعله يجيبكم بما يشق عليكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 وأيضا كان المشركون يطالبونه بعد ظهور المعجزات بمعجزات أخر كقوله حاكيا عنهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 90] إلى تمام الآية. وكان لبعض المسلمين أيضا ميل إلى ظهورها فمنعوا ذلك لأن طلب الزيادة بعد ثبوت الرسالة من باب التحكم، ولعلها لو ظهرت ثم أنكرت استحق المنكر العقاب العاجل، ويحتمل أن يكون وجه النظم قوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ [النور: 29] فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أشياء مخفية إن تبد لكم تسؤكم. وللنحويين في منع صرف أشياء وجوه، فقال الخليل وسيبويه: أصلها «شياء» على وزن «حمراء» فهو اسم جمع لشيء استثقلوا الهمزتين في آخره فنقلوا الهمزة التي هي لام الفعل إلى أوّل الكلمة فصار وزنه «لفعاء» . وقال الفراء: أصلها «أفعلاء» بناء على أن «شيا» مخفف شيء كما يقال «هين» في «هين» وقد يجمع «فيعل» على «أفعلاء» كنبي وأنبياء، لكنهم استثقلوا اجتماع الياء والهمزتين فحذفوا اللام فبقي «أشياء» على وزن «أفعاء» . وقال الكسائي: وزنها «أفعال» ومنع الصرف تشبيها له بحمراء. ولا يلزم منه منع صرف «أبناء» و «أسماء» لأن ما ثبت على خلاف الدليل لا يلزم اطراده ولكنه يكون مقصورا على المسموع. والحاصل أن السؤال عن الأشياء ربما يؤدي إلى ظهور أحوال مكتومة يكره ظهورها وربما ترتب عليها تكاليف شاقة صعبة. فالذي سأل عن أبيه لم يأمن أن يلحق بغير أبيه فيفتضح، والسائل عن الحج كاد أن يوجبه في كل عام وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» «1» وكان عبيد بن عمير يقول: إن الله أحل وحرم، فما أحل فاستحلوه وما حرم فاجتنبوه، وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها فذلك عفو من الله تعالى فاقبلوه. وقال أبو ثعلبة: إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحدّ حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها. ثم لما رتب المساءة على السؤال ذكر أن الإبداء سيكون لأن الوحي غير منقطع فقال وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ أي في زمان الوحي لأن الرسول بين أظهركم تُبْدَ لَكُمْ تلك الأمور أو التكاليف. فالحاصل أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم وإن أبديت لهم ساءتهم فيلزم من المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ساءتهم. وقيل: السؤال قسمان: أحدهما السؤال عن شيء لم يجر ذكره في الكتاب والسنة فنهى عنه بقوله لا تَسْئَلُوا والثاني السؤال عن شيء نزل به القرآن. لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي وهذا السؤال غير مذموم فأشار إلى هذا القسم بقوله: وَإِنْ تَسْئَلُوا رفعا للحرج وتمييزا لهذا القسم من الأوّل. وإنما حسن عود الضمير   (1) رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 3. مسلم في كتاب الفضائل حديث 132- 133. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 في «عنها» إلى الأشياء وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين، لأن كلا منهما مسؤول عنه في الجملة. وقيل: المعنى وإن تسألوا عن تلك السؤالات هل هي جائزة أم لا تبد لكم. والمراد أن تطلب الرخصة في السؤال أوّلا ثم يسأل عَفَا اللَّهُ عَنْها أي عما سلف من مسألتكم وإغضابكم الرسول فلا تعودوا» إليها، أو المراد بالعفو أنه تعالى ما أظهر عند تلك المسائل ما يشق عليهم من التكاليف. وقيل: إن الجملة صفة أخرى للأشياء كما أن الجملة الشرطية والمعطوف عليها صفة لها. والمعنى لا تسألوا عن أشياء أمسك الله عنها وكف عن ذكرها كما جاء في الحديث «عفوت عن صدقة الخيل والرقيق» «1» أي خفف عنكم بإسقاطها قَدْ سَأَلَها يعني المسألة التي دل عليها لا تسألوا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ سأل الناقة قوم صالح فعقروها، وسأل الرؤية قوم موسى عليه السلام فصار وبالا عليهم، وسأل المائدة قوم عيسى عليه السلام فكفروا بها، ويحتمل أن يعود الضمير في سألها إلى الأشياء فكأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم سألوا عن أحوال الأشياء والمتقدمين سألوا نفس الأشياء كالناقة والمائدة والرؤية فلما اختلفت الأسئلة اختلفت العبارة إلا أن كل واحد من القسمين يشتركان في وصف هو الخوض في الفضول والشروع فيما لا يعني فتوجه الذم عليهما جميعا. ولما منعهم عن أمور تكلفوا البحث عنها ذم سيرة قوم تكلفوا التزام أمور لم يؤمروا بها. ومعنى ما جَعَلَ ما حكم بذلك ولا شرع. والبحيرة «فعلية» من البحر الشق. وبحر ناقته إذا شق أذنها وهي بمعنى المفعول. قال أبو عبيدة والزجاج: كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا شقوا أذن الناقة ومنعوا ركوبها وسيبوها لآلهتهم لا تنحر ولا يحمل على ظهرها ولا تطرد عن ماء ولا تردّ عن مرعى ولا ينتفع بها حتى لو لقيها المعي لا يركبها تحرجا. وأما السائبة فإنها فاعلة من «ساب» إذا جرى على وجه الأرض. يقال: ساب الماء وسابت الحية، فالسائبة هي التي تركت حتى تسيب إلى حيث شاءت، قال أبو عبيدة: كان الرجل إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذرا أو شكر نعمة سيب بعيره فكان بمنزلة البحيرة في أحكامها. وقيل: هي أم البحيرة كانت الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف حتى تموت، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء جميعا وبحرت أذن بنتها الأخيرة وكانت بمنزلة أمها في أنها سائبة. وقال ابن عباس: السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق لها وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل. وقيل: هي العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا   (1) رواه الترمذي في كتاب الزكاة باب 3. أبو داود في كتاب الزكاة باب 5. النسائي في كتاب الزكاة باب 18. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 4، 15. الدارمي في كتاب الزكاة باب 7. أحمد في مسنده (1/ 18، 92، 132، 146) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 ميراث. وأما الوصيلة فإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. فالوصيلة بمعنى الموصولة كأنها وصلت بغيرها أو بمعنى الواصلة لأنها وصلت أخاها. وأما الحامي فيقال: حماه يحميه إذا حفظه. قال السدي: هو الفحل الذي يضرب في الإبل عشر سنين فيخلى. وقيل: إن الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى إلى أن يموت. فإن قيل: إذا جاز إعتاق العبيد والإماء فلم لا يجوز إعتاق البهائم من الذبح والإيلام؟ فالجواب أن الإنسان خلق لعبادة الله تعالى فإذا أزيل الرق عنه كان ذلك معينا له على ما خلق لأجله، أما العجم من الحيوانات فإنما خلقت لمنافع المكلفين فتركها يقتضي تفويت كمالها عليها. وأيضا الإنسان إذا أعتق قدر على تحصيل المنافع ودفع المضار بخلاف البهائم فإنها عاجزة عن جذب الملائم ودفع المنافي في الأغلب، فإعناقها يفضي إلى ضياعها فظهر الفرق. وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ قال ابن عباس: يريد عمرو بن لحى وأصحابه كان قد ملك مكة شرفها الله وكان أوّل من غير دين إسماعيل فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه «لقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه» والقصب الأمعاء هذا حال رؤسائهم وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ يعني العوام والأتباع. ثم رد على أهل التقليد بقوله وَإِذا قِيلَ لَهُمْ الآية وقد مر تفسير مثله في سورة البقرة. فنفى العقل عنهم هناك والعلم هاهنا مع نفي الاهتداء في الموضعين وفيه دليل على أن الاقتداء لا يجوز إلا بالعاقل العالم المهتدي لابتناء قوله على الحجة والدليل لا على التقليد والأضاليل. قال أهل البرهان: العلم أبلغ درجة من العقل ولهذا يوصف الله تعالى بالعلم ولا يوصف بالعقل، وكان دعواهم هاهنا أبلغ لقولهم حَسْبُنا ما وَجَدْنا فناسب أن ينفي عنهم العلم الذي هو أبلغ. ثم ذكر أن هؤلاء الجهال مع ما تقدم من أنواع المبالغة في الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل أصروا على جهالتهم وضلالتهم فلا تبالوا بهم أيها المؤمنون، فإن جهلهم لا يضركم إذا كنتم منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ونواهيه. تقول العرب: عليك زيدا وعندك عمرا يعدّونهما إلى المفعول كأنه قيل: خذ زيدا فقد علاك أي أشرف عليك وحضرك عمرو فخذه. وليس المراد في عليك أنه حرف جر مع مجروره متعلق بمحذوف، بل الجار والمجرور معا منقول إلى معنى الفعل نقل الأعلام ولهذا سمي اسم فعل. فإن قيل: ظاهر الآية يوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بواجب، فالجواب المنع فإن الآية لا تدل إلا على أن المطيع لربه غير مؤاخذ بذنب العاصي وهذا خطب أبو بكر فقال: إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب. وعن عبد الله بن المبارك أن هذه الآية آكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن معنى عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ احفظوها والزموا صلاحها بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغبه في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات لا يَضُرُّكُمْ ضلال مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فإنكم خرجتم عن عهدة تكليفكم كما قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء: 84] وقيل: إن الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نفسه أو على عرضه أو على ماله. وكان ابن شبرمة يقول: من فرّ من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر. وقيل: إنها مختصة بالكفار الذين علم الله أنه لا ينفعهم الوعظ، يؤكده ما روي في سبب النزول عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقر مجوس هجر بالجزية قال منافقو العرب: عجبا من محمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ولا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب فلا نراه إلا قد قبل من مشركي أهل هجر ما رد على مشركي العرب فأنزل الله تعالى الآية أي لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على الهدى والحق. وقيل: كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العناد من الكفرة فنزلت تسلية لهم كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: 8] وعن ابن مسعود أن الآية قرئت عنده فقال: إن هذا في آخر الزمان. ومثله ما روي عن أبي ثعلبة الخشني أنه سئل عن ذلك فقال للسائل: سألت عنها خبيرا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا ما رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع أمر العوام، وإن من ورائكم أياما الصبر فيهن كقبض على الجمر للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله. وقيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفهت آباءك ولاموه فنزلت. ثم إنه سبحانه لما أمر بحفظ النفس في قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أمر بحفظ المال. عن ابن عباس أن تميما الداري وأخاه عديا- وكانا نصرانيين-، خرجا إلى الشام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص- وكان مسلما مهاجرا- خرجوا للتجارة. فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه نسخة جميع ما معه وأخفاه بين الأقمشة ولم يخبر صاحبيه بذلك، ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات. ففتشا متاعه فأخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما، فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فرفعوهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. ومعنى شَهادَةُ بَيْنِكُمْ شهادة ما بينكم أي من التنازع والتشاجر. وإنما أضيفت الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 يحتاج إليهم عند النزاع وَإِذا حَضَرَ ظرف للشهادة حِينَ الْوَصِيَّةِ بدل منه. وفي هذا دليل أن الوصية مما لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم عند ظهور أمارات الموت فكأنّ وقتيهما واحد وهما متلازمان. وارتفع اثْنانِ على أنه قام مقام الخبرية أي شهادة بينكم شهادة اثنين، أو على أنه فاعل فعل محذوف والتقدير شهادة ما بينكم أن يشهد اثنان. وفي قوله مِنْكُمْ ومِنْ غَيْرِكُمْ قولان: فعن الحسن والزهري وعليه جمهور الفقهاء أن مِنْكُمْ أي من أقاربكم ومِنْ غَيْرِكُمْ أي من الأجانب. والمعنى إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من أقاربكم فاستشهدوا على الوصية أجنبيين. وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بحال الميت وأرأف به. وعن ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح ومجاهد وابن جريج وابن سيرين أن مِنْكُمْ أي من أهل ملتكم ومِنْ غَيْرِكُمْ أي من كافر كان يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا أو عابد وثن. قال الشافعي: مرض رجل من المسلمين في الغربة فلم يجد أحد من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة وأتيا أبا موسى الأشعري وكان واليا عليها فأخبراه بالواقعة. فقال أبو موسى: هذا أمر لم يقع بعد النبي صلى الله عليه وسلم فحلفهما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر بالله العظيم أنهما ما كذبا وما بدلا وأجاز شهادتهما. والذاهبون إلى هذا القول احتجوا بأن الخطاب في مِنْكُمْ لجميع المؤمنين فيلزم أن يكون غيرهم كافرين، وبأن هذين الشاهدين لو كانا مسلمين لم يكن الاستشهاد بهما مشروطا بالسفر لجواز ذلك في الحضر أيضا بالاتفاق، وبأنه تعالى أوجب الحلف عليهما والشاهد المسلم لا يجب تحليفه البتة، وبأن الشاهدين في سبب النزول كانا نصرانيين وبأن أبا موسى قضى بذلك ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، وبأن الضرورات تبيح المحظورات كالتيمم والإفطار وأكل الميتة، والمسلم إذا قرب أجله ولم يجد مسلما ولا تقبل شهادة الكفار ضاع أكثر مهماته فقد يكون عليه زكوات وكفارات وديون ولديه ودائع وله مصالح ولمثل هذه الضرورة جوّزنا شهادة النساء فيما يتعلق بأحوال النساء كالحيض والحبل والولادة. وللأولين أن يجيبوا بأن حذف المضاف غير عزيز وبأن ذكر السفر ليس لأجل اشتراط قبول الشهادة ولكن لأجل أن الغالب في السفر فقدان الأقارب ووجود الأجانب، وبأن التحليف مشروط بالريبة وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما، وبأن سبب النزول لا يلزم أن ينطبق على الحكم حذو القذة بالقذة، وبأن قصة أبي موسى خبر الواحد، وبأن الضرورة كانت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذرهم في السفر غالبا. ومما يصلح أن يكون مؤكدا لهذه الآية وإن لم يجز أن يكون ناسخا لها عند من يرى أن المائدة من آخر القرآن نزولا قوله تعالى وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 2] وليس المراد من العدالة الاحتراز عن الكذب في النطق فقط بل في الدين والاعتقاد، ولا كذب أعظم من الفرية على الله تعالى وعلى رسله. وإنما تقبل شهادة أهل البدع والأهواء من هذه الأمة احتشاما لكلمة الإسلام. وموقع تَحْبِسُونَهُما أي توقفونهما وتصيرونهما استئناف كأنه قيل: فكيف نعمل إن ارتبنا؟ فقيل تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ قال ابن عباس: من بعد صلاة دينهما. وقال عامة المفسرين: من بعد صلاة العصر لأن هذا الوقت كان معروفا عندهم بالتحليف بعده، ولفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث دعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر بعد صلاة العصر، ولأن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله تعالى فيه ويحترزون عن الحلف الكاذب، وأهل الكتاب يصلون لطلوع الشمس وغروبها. وقال الحسن: المراد بعد الظهر وبعد العصر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما. وقيل: بعد أي صلاة كانت لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. قال الشافعي: الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزمان والمكان، فيحلف بعد العصر بمكة بين الركن والمقام وبالمدينة عند المنبر، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وفي سائر البلدان في أشرف المساجد. وقد تغلظ بالتكرير والتعديل كما في القسامة واللعان أو بزيادة الأسماء والصفات، وقال أبو حنيفة: يحلف من غير التغليظ بزمان أو مكان. ولا يخفى أن قول الشافعي أوفق للآية. والمقسم عليه قوله لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وقوله إِنِ ارْتَبْتُمْ اعتراض، والضمير في بِهِ، للقسم وفي كان للمقسم له يعني لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا ولو كان من يقسم له قريبا منا، أرادوا أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا كقوله شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ وخص ذا القربى بالذكر لأن الميل إليهم أتم والمداهنة بينهم أكمل وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ [النساء: 135] التي أمر بحفظها وتعظيمها وأدائها إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ أي إذا كتمناها كنا من الآثمين. ونقل عن الشعبي أنه وقف على قول الله عز وجل شَهادَةُ ثم ابتدأ اللَّهِ بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه. وروى عنه بغير مدّ على ما ذكره سيبويه أن منهم من يقول: الله لقد كان كذا والمعنى بالله فَإِنْ عُثِرَ قال الليث: عثر الرجل يعثر عثورا إذا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره وقريب منه العثار لأن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه. والمعنى فإن حصل الاطلاع على أنهما استحقا إثما- وهو كناية عن الخيانة والحنث في الحلف- فَآخَرانِ خبر مبتدأ محذوف، أو فاعل فعل محذوف، أو صفة مبتدأ محذوف أي فالشاهدان أو فليشهد أو فشاهدان آخران يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ قال في الكشاف: أي الإثم ومعناه من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته. وفي التفسير الكبير أنه المال. وإنما وصف موالي الميت بذلك لأنه أخذ مالهم وكل من أخذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 ماله غيره فقد حاول ذلك الغير أن يكون تعلقه بذلك المال مستعليا على تعلق مالكه به فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليه ذلك المال. وارتفع الْأَوْلَيانِ على أنهما خبر مبتدأ محذوف فكأنه قيل: ومن الآخران؟ فقيل: هما الأوليان، ويجوز أن يكون بدلا من الضمير في يَقُومانِ أو من فَآخَرانِ ويجوز أن يرتفع ب اسْتَحَقَّ أي من الذين استحق عليهم انتداب الأولين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال- قاله في الكشاف- ومعنى الأوليان الأقربان إلى الميت أو الأوليان الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما، أو الأحقان باليمين إما على تقدير الرد وذلك عند الشافعي وكل من يرى رد اليمين على المدعي، وإما لانقلاب القضية عند من يرى ذلك كأبي حنيفة وأصحابه، فإن من أقر لآخر بدين ثم ادعى أنه قضاه حكم برد اليمين إلى الذي ادّعى الدين أوّلا لأنه صار مدعى عليه أنه قد استوفاه. وفي هذه القصة ادعى الوصيان أن الميت باع منهما الإناء، والورثة أنكروا فكان اليمين حقا لهم. ومن قرأ الْأَوْلَيانِ على الجمع فعلى أنه نعت ل الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ أو منصوب على المدح. ومعنى الأوّلية التقدم على الأجانب في الشهادة أو التقدم في الذكر في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وكذلك اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ذكرا قبل قوله قرأ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ومن قرأ اسْتَحَقَّ على البناء للفاعل عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فقد قال في الكشاف: معناه من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين. وفي التفسير الكبير أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما بسبب أن الميت عينهما للوصية، ولما خانا في مال الوصية صح أن يقال: إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان. روي أنه لما نزلت الآية الأولى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو إنه لم يوجد منا خيانة في هذا المال فخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما وكتما الإناء مدة، ثم باعاه فوجد بمكة. وقيل: لما طالت المدة أظهراه فبلغ ذلك ورثته فطلبوه منهما فقالا: كنا قد اشتريناه. فقالوا: ألم نقل لكم هل باع صاحبنا شيئا فقلتم لا؟ فقالا: لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر وكتمنا. فرفعوا القصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب بن وداعة فحلفا بالله بعد العصر لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا في طلب هذا المال وفي نسبتهم إلى الكذب والخيانة، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الإناء إليهما وإلى أولياء الميت. وكان تميم الداري يقول بعد إسلامه: صدق الله وصدق رسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله تعالى. وعن ابن عباس أنه بقيت تلك الواقعة مخفية إلى أن أسلم تميم الداري فقال: حلفت كاذبا وقد بعت الإناء أنا وصاحبي بألف وقسمنا الثمن، ثم دفع خمسمائة من نفسه ونزع من صاحبه خمسمائة أخرى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 ودفع الألف إلى أولياء الميت ذلِكَ الحكم الذي شرعناه والطريق الذي نهجناه أقرب إلى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أي كما هو في الواقع أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ في مثل هذه القضية أَيْمانٌ على الورثة بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وهذا تفسير من يرى ردّ اليمين، وأما من لا يرى ذلك فالمعنى عنده أن تكرّ أيمان شهود آخرين لانقلاب المدعى عليه مدعيا وعلى التقديرين يظهر كذبهم. والحاصل أن هذا الحكم يصير باعثا للشهود على أداء حق الشهادة للداعي أو الصارف وَاتَّقُوا اللَّهَ في الأيمان وَاسْمَعُوا مواعظه سماع قبول وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مناهج شرائعه وأحكامه وفيه من الوعيد ما فيه. قال المفسرون: هذه الآية في غاية الصعوبة إعرابا ونظما وحكما. وروى الواحدي في البسيط عن عمر بن الخطاب أن هذه الاية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام، ولهذا ذهب أكثر الفقهاء إلى أن حكم هذه الآية منسوخ. ثم إنه سبحانه ختم الأحكام بوصف أحوال القيامة وذكر بعض ما سيجري هناك من الخطاب والعتاب جريا على عادته في هذا الكتاب من خلط التكاليف بالإلهيات والنبوّات وأحوال المعاد فقال يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ قال الزجاج: تقديره واتقوا الله يوم كذا لا على أنه ظرف لأنهم غير مأمورين بالتقوى في ذلك اليوم ولكن على أنه بدل اشتمال من اسم الله، ويجوز أن يكون ظرفا لقوله لا يَهْدِي أي لا يهديهم طريق الجنة يومئذ، أو منصوبا بإضمار «اذكر» ، أو ظرفا لما يجيء بعده وهو قالُوا وعلى هذين الوجهين تكون الآية منقطعة عما قبلها. و «ماذا» منصوب ب أُجِبْتُمْ ولكن انتصاب المصدر على معنى أيّ إجابة أجبتم، ولو أريد الجواب لقيل: بماذا أجبتم. وفائدة السؤال توبيخ قومهم كما كان سؤال الموؤدة توبيخا للوائد. ثم ظاهر قوله لا عِلْمَ لَنا يدل على أن الأنبياء لا يشهدون لأممهم، فالجمع بين هذا وبين قوله فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء: 41] الآية مشكل. فقال جمع من المفسرين: إن للقيامة زلازل وأهوالا تزيل العقول فالأنبياء عندها ينسون أكثر الأمور فهنالك يقولون: لا علم لنا، فإذا عادت إليهم عقولهم شهدوا للأمم. ولا يرد عليه قوله لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 31] أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] لأن مواقف القيامة مختلفة، ولأن عدم الخوف في العاقبة لا ينافي الحيرة والدهشة أوّلا. وقال آخرون المراد منه المبالغة في توبيخ الكفرة فإن ذلك هو المقصود من السؤال كما يقول الواحد لغيره: ما تقول في فلان؟ فيقول: أنت أعلم به مني فكأنك قلت: لا يحتاج فيه إلى الشهادة لظهوره. وفيه مع التوبيخ إظهار لتشكي الأنبياء ممن كذبوهم وعادوهم. وقال ابن عباس: نفوا العلم عن أنفسهم عند علام الغيوب ليعلم أن علمهم هناك كلا علم. وقيل: المراد نفي العلم بخاتمة أحوالهم وما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 كان منهم بعد وفاتهم وإنما الأمور بخواتيمها. وقال في التفسير الكبير: إن الذي عرفوه منهم في الدنيا كان مبنيا على ظاهر أحوالهم كما قال: نحن نحكم بالظاهر وكان ظنا غالبا والأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأمور وبواطنها فلهذا نفوا العلم فإن الظن لا عبرة به في القيامة مع أن السكوت وتفويض الأمر إلى الأعلم الأعدل أقرب إلى الأدب. وقرىء عَلَّامُ الْغُيُوبِ بالنصب على أن الكلام قد تم عند قوله أَنْتَ أي أنت الموصوف بالجلال والكبرياء، ثم نصب عَلَّامُ الْغُيُوبِ على الاختصاص أو على النداء. ثم عدّد أنواع نعمه على عيسى عليه السلام واحدة فواحدة تنبيها على أنه عبد وليس بإله وتوبيخا للمتمردين من الأمم، وأولى الأمم بذلك النصارى الطاعنون في ذات الله، سبحانه باتخاذ الصاحبة والولد. وموضع إِذْ قالَ رفع بالابتداء على معنى ذاك إذ قال الله أو نصب بإضمار «اذكر» ، أو هو بدل من يَوْمَ يَجْمَعُ وإنما ذكر القول بلفظ الماضي دلالة على قرب القيامة حتى كأنها قد قامت ووقعت كما يقال: الجيش قد أتى إذا قرب إتيانهم، أو ورد على الحكاية كقول الرجل لصاحبه: كأنك بنا وقد دخلنا بلدة كذا فصنعنا كذا. ومحل يا عِيسَى مضموم على أنه منادى مفرد معرفة، أو مفتوح لأنه وصف بابن مضاف إلى علم وهو المختار للتخفيف وكثرة الاستعمال نِعْمَتِي عَلَيْكَ أراد الجمع ووحدت لأنه مضاف يصلح للجنس. وإنما قال وَعَلى والِدَتِكَ لأن النعمة على الولد نعمة على أبويه، ولأن مكارم الأخلاق دليل على طيب الأعراق. إِذْ أَيَّدْتُكَ بدل من نِعْمَتِي أي قوّيتك بِرُوحِ الْقُدُسِ أي بجبريل والقدس هو الله كأنه أضافه إلى نفسه تعظيما له، أو بالروح الطاهرة المقدسة وقد تقدم في البقرة تُكَلِّمُ النَّاسَ حكاية حال ماضية فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا في هاتين الحالتين من غير تفاوت وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ الخط أو جنس الكتب وَالْحِكْمَةَ النظرية والعلمية وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ يعنى الإحاطة بالأسرار الإلهية بعد العلوم المتداولة فَتَنْفُخُ فِيها الضمير للكاف لا للهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء، وكذلك الضمير في فَتَكُونُ والكاف مؤنث بحسب المعنى لدلالتها على الهيئة التي هي كهيئة الطير ومذكر في الظاهر فلهذا عاد الضمير إليه مذكرا تارة كما في آل عمران، ومؤنثا أخرى كما في هذه السورة. وكرر بِإِذْنِي أي بتسهيلي ليعلم أن الكل بأقدار الله تعالى وتمكينه وإظهاره الخوارق على يديه وإلا فهو عبد كسائر عبيده. وَإِذْ كَفَفْتُ يروى أنه لما أظهر هذه المعجزات العجيبة قصد اليهود قتله فخلصه الله تعالى برفعه إلى السماء. إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ من قرأ بغير ألف أشار إلى ما جاء به أو أراد أنه ذو سحر فأطلق عليه الحدث مبالغة، ومن قرأ بالألف أشار إلى الرجل. واللام في بِالْبَيِّناتِ يحتمل أن تكون للجنس ويحتمل أن يراد بها المعجزات المذكورة. وذكر قول الكفار في حقه إِنْ هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يحتمل أن يكون من تمام القصة استطرادا، ويمكن أن يراد بذلك تعداد النعم أيضا لأن كل ذي نعمة محسود، فطعن الكفار فيه يدل على علو شأنه وسموّ مكانه. وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل ولابتهاجه بهذه النعم الجسام والمنن العظام كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئا لغد يقول مع كل يوم رزقه، لم يكن له بيت فيخرب، ولا ولد فيموت، أينما أمسى بات. وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا إن كانوا أنبياء فظاهر وإلا فالوحي بمعنى الإلهام كقوله وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [القصص: 7] وهذا أيضا من جملة النعم لأن كون الإنسان مقبول القول عند الناس محبوبا في قلوبهم من أعظم نعم الله تعالى. وقدم الإيمان على الإسلام ليعلم أنهم آمنوا بقلوبهم. وانقادوا بظواهرهم هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ من قرأ بالتاء وبالنصب فظاهر والمراد هل تستطيع سؤال ربك أي هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله؟ ومن قرأ بالياء وبالرفع فمشكل لأنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا آمنا فكيف يتصوّر مع الإيمان شك في اقتدار الله تعالى؟ وأجيب بوجوه منها: أن حكاية الإيمان عنهم لا يوجب كمالهم وإخلاصهم في ذلك ولهذا قال لهم عيسى اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ومنها أنهم طلبوا مزيد الإيقان والطمأنينة ولهذا قالوا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ومنها أنهم أرادوا هل هو جائز في الحكمة أم لا، وهذا على أصول المعتزلة من وجوب رعاية الأصلح، أو أرادوا هل قضي بذلك وعلم وقوعه أم لا، فإن خلاف معلومه غير مقدور وهذا عند الأشاعرة. ومنها قول السدّي إن السين زائدة وكذا التاء أي هل يطيع ربك؟ ومنها لعل المراد بالرب جبريل لأنه كان يربيه. ومنها أن المراد بالاستفهام التقرير كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول: هل يقدر السلطان على إشباع هذا؟ يريد أن ذلك أمر جلي لا يجوز للعاقل أن يشك فيه. قال الزجاج: المائدة فاعلة من ماد يميد إذا تحرك فكأنها تميد بما عليها. وذلك أنها لا تسمى مائدة إلا إذا كان عليها طعام فإذا لم يكن عليها طعام فهي خوان. وقال ابن الأنباري: هي من مادة إذا أعطاه كأنها تعطي من تقدم إليه. وقال أبو عبيدة: هي بمعنى «مفعولة» مثل عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21] أي مرضية كأن صاحبها أعطاها الحاضرين. قال عيسى اتَّقُوا اللَّهَ في تعيين المعجزة فإنه كالتحكم. وأيضا اقتراح معجزة بعد ظهور معجزات كثيرة تعنت، أو أمرهم بالتقوى ليتوسلوا بها إلى المطلوب وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3] فأجاب الحواريون بأنا لا نطلب هذه المعجزة بمجردها ولكنا نريد أن نأكل منها فإن الجوع قد غلب علينا ولا نجد طعاما آخر- يروى أنهم سألوها في مفازة على غير ماء ولا طعام- وأن نزداد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 يقينا وعرفانا وطمأنينة فإن التي شاهدناها منك معجزات أرضية وهذه سماوية فتكون أعجب وأغرب، وأن نعلم صدقك في دعوى النبوّة أو فيما وعدتنا وذلك أنه كان قال لهم: صوموا ثلاثين يوما، وإذا تم صومكم فكل ما سألتموه الله تعالى فإنه يعطيكم. وإذا شاهدنا المعجزة كنا عليها من الشاهدين للذين لم يحضروها من بني إسرائيل، أو نكون من الشاهدين لله تعالى بالقدرة ولك بالنبوّة تَكُونُ لَنا عِيداً صفة للمائدة أو استئناف. وقرىء بالجزم جوابا للأمر. كان نزولها يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيدا. والعيد ما يعود إليك في وقت معلوم ومنه العيد لأنه يعود كل سنة بفرح جديد لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا بدل من لنا بتكرير العامل أي لمن في زماننا من أهل ديننا ولمن يأتي بعدنا، أو يأكل منها آخر الناس كما يأكل أوّلهم، أو للمقدّمين منا والأتباع. وقرىء لأولانا وأخرانا بمعنى الأمة أو الجماعة. فقول عيسى رَبَّنا ابتداء بذكر الحق وأَنْزِلْ عَلَيْنا انتقال من الذات إلى الصفات، وقوله تَكُونُ لَنا عِيداً إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة بل من حيث إنها صادرة عن المنعم. وقوله وَآيَةً مِنْكَ إشارة إلى كون المائدة دليلا لأصحاب النظر والاستدلال وقوله وَارْزُقْنا إشارة إلى حصة النفس فالحواريون قدّموا غرض النفس وأخروا الأغراض الدينية، وأن عيسى بدأ بالأشرف حتى انتهى إلى الأخس ثم قال وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق، وعند هذا يظهر التفاوت بين النفوس الكاملة والناقصة والمشرقة والمظلمة. اللهم اجعلنا من أهل الكمال والإشراق بعميم فضلك وجسيم طولك مُنَزِّلُها بالتخفيف والتشديد بمعنى. وقيل: بالتشديد للتكثير وبالتخفيف مرة واحدة عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قال ابن عباس: يريد مسخهم خنازير. وقيل: قردة. وقيل: جنسا من العذاب لا يكون مؤخرا إلى الآخرة. وَعَذاباً نصب على المصدر أي تعذيبا والضمير في لا أُعَذِّبُهُ للمصدر، ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء في الموضعين، فقيل: أعذبه بعذاب لا أعذب به أحدا، وأراد بالعالمين عالمي زمانهم. واختلف في أن عيسى عليه السلام سأل المائدة لنفسه أو سألها لقومه وإن كان أضافها إلى نفسه في الظاهر وكلاهما محتمل. أما نزولها فقد قال مجاهد والحسن: إن المائدة ما نزلت بل القوم لما سمعوا العذاب استغفروا وقالوا: لا نريدها وأكدوا هذا القول بأنه وصف المائدة بكونها عيدا لأولهم وآخرهم، فلو نزلت لبقي العيد إلى يوم القيامة. وقال جمهور المفسرين: إنها نزلت لأنه سبحانه وعد إنزالها بقوله إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ ثم إن يوم نزولها كان عيدا لهم ولمن بعدهم ممن كان على شرعهم. روي أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس الصوف ثم قال: اللهم أنزل علينا فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة فوقها وأخرى تحتها، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه السلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة. ثم قال لهم: ليقم أحسنكم عملا يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها، فقال شمعون رأس الحواريين: أنت أولى بذلك. فقام عيسى عليه السلام فتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين. فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما، وعند رأسها ملح، وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد. فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ قال: ليس منهما ولكن شيء اخترعه الله بالقدرة العالية، كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله. فقال الحواريون: يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال: يا سمكة احيي بإذن الله فاضطربت ثم قال لها: عودي كما كنت فعادت مشوية. ثم طارت المائدة ثم عصوا بعدها فمسخوا قردة وخنازير. وقيل: إن عيسى عليه السلام كان شرط عليهم أن لا يسرفوا في الأكل ولا يدخروا فعصوا وادخروا فمسخوا، وَإِذْ قالَ اللَّهُ معطوف على مثله. والصحيح أن هذا القول أيضا يوم القيامة لقوله عقيب ذلك هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ وقيل: هذا عند رفع عيسى عليه السلام نظرا إلى أن «إذ» للماضي وقد مر توجيه ذلك. أَأَنْتَ قُلْتَ استفهام بطريق الإنكار والغرض منه توبيخ النصارى. قال بعض المشككين: إن أحدا من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهية عيسى عليه السلام وأمه مع القول بنفي إلهية الله تعالى. وأجيب بأن الإله هو الخالق وأنهم يعتقدون أن خالق المعجزات والكرامات التي ظهرت على يد عيسى ومريم هو عيسى ومريم وليس لقدرة الله سبحانه في ذلك مدخل، فبهذا التأويل صح ما حكي عنهم. وأقول: يشبه أن يكون المراد بقوله مِنْ دُونِ اللَّهِ أي بعد الله فيكون التوبيخ على التثليث. أو المراد أنه لما دل البرهان على نفي تعدد الإله فمن قال بإلهية عيسى أو أمه لزمه القول بنفي المعبود الحق تعالى عن ذلك ولهذا قال عيسى سُبْحانَكَ أي أنزهك تنزيها من أن يكون لك شريك. ثم لم يجب بأني قلت أو ما قلت لأن ذلك يجري مجرى الطهارة والتبرئة بل أجاب بقوله ما يَكُونُ أي ما ينبغي لي أن أقول قولا لا يحق لي أن أقوله إظهارا لغاية الخضوع والاستكانة. ثم فوّض الأمر إلى علمه المحيط بالكل فقال إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ثم علل ذلك بقوله تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك. وذكر النفس ثانيا لأجل المشاكلة وهو من فصيح الكلام، أو تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي، أو تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك، أو تعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل- عبارات للمفسرين- ثم أكد ما ذكر بقوله إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ «أن» في قوله أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ إن جعلتها مفسرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 فالمفسر إما فعل القول أو فعل الأمر ولا وجه لكليهما. أما فعل القول فيحكى بعده الكلام بلا «أن» فيقال: ما قلت لهم إلا اعبدوا الله اللهم إلا أن يقال: إن المضاف محذوف والتقدير ما أمرتني بقوله، فيكون التفسير الصريح القول المقدر، وصريح القول المقدّر كالفعل المؤوّل بالقول في عدم الظهور حتى يجوز توسيط «أن» . وأما فعل الأمر فمسند إلى ضمير الله، فلو فسرته ب اعْبُدُوا اللَّهَ لم يستقم لأن الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم، وإن جعلتها مصدرية عند من يجوّز دخولها على الطلبية، فإن كان بدلا من ما أَمَرْتَنِي والمبدل في حكم السقوط كان المعنى ما قلت لهم إلا عبادته ولا يستقيم، لأن العبادة لا تقال، وإن جعلته بدلا من الهاء في بِهِ لم يصح أيضا لأنه يؤل المعنى بعد طرح المبدل إلى قولك إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله فيبقى الموصول بلا عائد. فإذن الوجه أن يحمل فعل القول على معناه فيكون أصل المعنى ما أمرتهم إلا بما أمرتني به حتى يستقيم تفسيره بأن اعبدوا الله ربي وربكم إلا أنه وضع القول موضع الأمر رعاية للأدب كيلا يجعل نفسه وربه آمرين ودل على الأصل بذكر «أن» المفسرة. قال في الكشاف: ويجوز أن تكون «أن» مصدرية عطف بيان للهاء لا بدلا، وحينئذ يبقى العائد بحاله وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً كالشاهد على المشهود عليه أمنعهم من التدين بما يوجب التفكير ما دُمْتُ فِيهِمْ مدة دوامي فيما بينهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي بالرفع إلى السماء كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ الحافظ عَلَيْهِمْ المراقب لأحوالهم وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ من الشهادة أو من الشهود بمعنى الحضور. وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فيه سؤال وهو أنه كيف جاز لعيسى هذا القول والله تعالى لا يغفر الشرك؟ والجواب أن قوله لعيسى عليه السلام أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ مبني على أن قوما من النصارى حكوا عنه هذا الكلام، والحاكي لهذا الكفر عنه لا يكون كافرا بل يكون مذنبا فقط، ولو سلم أنه أشرك فغفران الشرك جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة لأن العقاب حق الله على المذنب وليس في إسقاطه على الله تعالى مضرة، بل كلما كان الجرم أعظم كان العفو أحسن، إلا أن الدليل السمعي في شرعنا دل على أنه لا يكون فلعل هذا الدليل السمعي لم يكن موجودا في شرع عيسى عليه السلام، أو لعل عيسى جوّز أن يكون بعضهم قد تاب عنه. أما من زعم أن هذه المناظرة والمحاورة إنما كانت عند رفعه إلى السماء فلا إشكال أصلا لأن المراد إن توفيتهم على هذا الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك، وإن أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان وغفرت لهم ما سلف منهم فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القادر على ما تريد الْحَكِيمُ في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك، وفى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 مصحف عبد الله فإنك أنت الغفور الرحيم وضعفه العلماء لأن ذلك يشعر بكونه شفيعا لهم لا على تفويض الأمر بالكلية إلى حكمه تعالى، والمقام مقام هذا لا ذاك، وعن بعضهم أن ذكر الغفور والرحيم يشبه الحالة الموجبة للمغفرة والرحمة، وأما العزة والحكمة فلا يوجبان إلا التعالي عن جميع جهات الاستحقاق، فحصول المغفرة بعد ثبوت هذا الاستغناء والعزة يكون أدل على كمال العفو والرحمة فإن العفو عند المقدرة. قال بعض العلماء: في الآية نوع شفاعة من عيسى عليه السلام لفساق أمته، فلأن يثبت ذلك من محمد صلى الله عليه وسلم لفساق أمته أولى هذا يَوْمُ يَنْفَعُ من قرأ بالرفع فظاهر وأنه في تقدير الإضافة أي هذا يوم منفعة الصادقين، ومن قرأ بالنصب فإما على أنه ظرف ل قالَ، وإما على أن هذا مبتدأ والظرف خبر أي هذا الذي ذكرنا من كلام عيسى واقع في هذا اليوم كقولك: القتال يوم السبت. وقال الفراء: يوم أضيف إلى ما ليس باسم فبني على الفتح كما في «يومئذ» وخطأه البصريون وقالوا: إنما يبنى الظرف إذا أضيف إلى المبنى كالماضي في قول النابغة: على حين عاتبت المشيب على الصبا أو مثل «لا» في قوله تعالى يَوْمَ لا تَمْلِكُ [الانفطار: 19] وأجمعوا على أن هذا اليوم يوم القيامة. والمراد أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في القيامة كما قال قتادة: متكلمان تكلما يوم القيامة: أما إبليس فقال إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ [إبراهيم: 22] فصدق وكان قبل ذلك كاذبا فلم ينفعه، وأما عيسى فكان صادقا في الدنيا وفي الآخرة فنفعه صدقه. وفي هذا الكلام تصديق من الله تعالى لعيسى في قوله ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ هما متلازمان لأن رضا الله عن العبد في رعاية وظائف العبودية وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] وإذا صحح الإنسان نسبة العبودية علم أن العبد لا يكون له إرادة واختيار فتكون إرادته مغمورة في إرادة ربه. ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إشارة إلى جميع المذكورات أو إلى الجزء الأشرف الأقرب وهو الرضوان ما فِيهِنَّ لم يقل «ومن فيهن» ليكون أدل على العموم، ولينبه على أن عقول ذوي العقول وعلوم أرباب العلوم بالنسبة إلى علمه كلا علم، وإنما هم وغيرهم تحت قهره وتسخيره سواء. واعلم أنه سبحانه افتتح السورة بقوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] وهو الشريعة والبداية وختم السورة بهذه الآية الدالة على فناء الكل في جنب جلاله وكبريائه وهو الحقيقة والنهاية، فما أحسن هذا النسق! وأيضا في السورة بيان الشرائع والأحكام الكثيرة والمناظرة مع اليهود والنصارى، فهذا الاختتام ذكر فيه أن سبحانه مالك لجميع الممكنات والكائنات موجد لجميع الأرواح والأجساد ليصح التكليف على أيّ وجه أراد، وليكون ردا على اليهود بحكم المالكية في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 نسخ شريعة موسى ووضع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وليكون ردا على النصارى في أن عيسى ومريم عليهما السلام داخلان في المخلوقات موجودان بإيجاد الله ولا معنى للعبودية إلا هذا. وأيضا لما أخبر عن فناء وجودهم المجازي لم يبق هناك مجيب فأجاب بنفسه لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] ولعل في هذه الخاتمة من الأسرار أضعاف ما عثرنا عليه والله تعالى أعلم بأسرار كتابه. التأويل: أخبر عن كثرة السؤال أنها تورث الملال وذلك أن علوم القال غير علوم الحال، والصنف الأول يحمد فيه السؤال والثاني يذم فيه ذلك إذ يحصل بالعيان لا بالبرهان كما كان حال الأنبياء عليهم السلام مع الله وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ [الأنعام: 75] لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18] وقال صلى الله عليه وسلم «أرنا الأشياء كما هى» . وقال الخضر لموسى عليه السلام فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ [الكهف: 76] وقال موسى في الثالثة إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي [الكهف: 76] فإن تعلم العلم اللدني بالحال في الصحبة والمتابعة والتسليم. وفي السؤال الانقطاع عن الصحبة وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ أي إن كان لا بد لكم من السؤال عن حقائق فاسألوا عنها بعد نزول القرآن ليخبركم عن حقائقها على قدر عقولكم. وَاللَّهُ غَفُورٌ لمن تاب من طلب علوم الحقائق بالقال حَلِيمٌ لمن يطلب بالحال فيصدر عنه في أثناء الطلب سؤال قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ كقدماء الفلاسفة أعرضوا عن متابعة الأنبياء وأقبلوا على مجرد القيل والقال، فوقعوا في أودية الشبهات والضلال ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ قال الشيخ المحقق نجم الدين: المعروف بداية هم الحيدرية والقلندرية يشقون آذانهم وذكورهم ويجعلون فيها حلق الحديد ويحلقون لحيتهم وَلا سائِبَةٍ هم الذين يضربون في الأرض خليعي العذار بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة ويدعون أنهم أهل الحقيقة وَلا وَصِيلَةٍ هم أهل الإباحة الذين يتصلون بالأجانب بطريق المؤاخاة والاتحاد ويرفضون صحبة الأقارب لأجل العصبية والعناد وَلا حامٍ وهو المغرور بالله يظن أنه بلغ مقام الحقيقة فلا يضره مخالفات الشريعة. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام وَإِلَى الرَّسُولِ لمتابعته قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي مشايخنا وأهل صحبتنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من الشريعة والطريقة وَلا يَهْتَدُونَ إلى الحقيقة. عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي اشتغلوا أوّلا بتزكية نفوسكم ثم بإرشاد الغير فإن الفريق الذي لم يتعلم السباحة إذا تشبث به مثله هلكا معا إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فللطالبين بجذبات العناية وللمضلين بسلاسل القهر والنكاية إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي النفس تموت عن صفاتها الذميمة بالرياضة والمجاهدة فتوصي بصفاتها لورثتها وهم القلب وأوصافه والوصيان اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هما العقل والسر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 من الروحانيات، أَوْ آخَرانِ من غير الروحانيات هما الوهم والخيال من النفسانيات. فالعقل والسر يشهدان الحق وإن كان على ذي قرابة من الروحانيات، والوهم والخيال شهادتهما الصدق والكذب. إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم في السفليات فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أي فتصيب النفس جذبة الحق فتموت تَحْبِسُونَهُما إن كنتم في بعد من الروحانيات مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ من بعد حضورهما مع الله وتوجيههما إلى الحق ومراقبة تامة، فيشدد على الشاهدين بالقسم والتخويف بالله أن يؤديا شهادة الحق ويدفعا تركة النفس وهي صفاتها إلى ورثتها وهم القلب وصفاته، ولا يصرفانها في شيء من السفليات فإن كل خلق إذا استعملته النفس كان صفة ذميمة، فإذا استعمله القلب صار وصفا محمودا كالحرص إذا استعملته النفس في طلب الدنيا ولذتها كان وصفا مذموما، وإذا استعمله القلب في طلب العلوم والكمالات صار ممدوحا. فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً بأن مالا إلى حظ من الحظوظ السفلية فَآخَرانِ من صفات القلب هما: التذكر والفكر الصائب ينظران في عواقب الأمور ويشهدان على أن الآخرة خير من الدنيا والباقي خير من الفاني لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما لأن الوهم والخيال مالا إلى الحظوظ بكتمان الحقوق، والتذكر والتفكر مالا إلى حفظ الحقوق بترك الحظوظ. أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أي العقل والسر يأتيان في بدو الأمر باستعمال صفات النفس في السعادات الأخروية، أو يخافان عواقب الأمور بأن يشددوا على أنفسهم بالاستمهال وتضييع الأعمال وإفساد الاستعداد، ثم بالتفكر والتذكر يردّ الأمر إلى وجوب رعاية الحقوق فيحتاجان إلى كثرة الرياضة. ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا وهم مستغرقون في بحر الشهود. لا عِلْمَ لَنا اي ببواطن الأمور وحقائقها. وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي في عالم الأرواح يوم الميثاق قالوا بسبب ذلك التعارف في عالم الأشباح آمنا. إن بعض الحواريين المقلدين في الإيمان قالوا يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ فما راعوا الأدب مع نبيهم حيث لم يقولوا يا رسول الله أو يا روح الله، ولا مع ربهم حيث تشككوا في كمال قدرته. ثم أظهروا دناءة همتهم حيث طلبوا بواسطة مثل عيسى من واهب المواهب مائدة جسمانية لا فائدة روحانية فقال عيسى اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً الأسرار والحقائق من سماء العناية عليها أطعمة الهداية تَكُونُ لَنا أي لأهل الحق والصدق عِيداً نفرح بها لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا أي لأول أنفاسنا وآخرها فإن أهل الحق يراقبون الأنفاس لتصعد مع الله وتهوي مع الله وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأن الذي ترزق رزق منك والذي يرزق ظاهرا من غيرك فهو أيضا منك بالواسطة، وما بالذات خير مما بالواسطة. فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ بأن لا يقوم بحقها ويجعلها شبكة يصطاد بها الدنيا فإني أرده من المراتب الروحانية إلى المهالك الحيوانية وهو المسخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 الحقيقي، ويوم القيامة أيضا بحيث يحشرون على صفاتهم التي ماتوا عليها كما قال صلى الله عليه وسلم «يموت المرء على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه» أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ الخطاب مع الأمة إلا أن من سنته سبحانه أن لا يكلم الكفار فكلم عيسى بدلا منهم، أو المراد بالقول أمر التكوين فالمعنى أأنت خلقت فيهم اتخاذك وأمك الهين أم أنا خلقت ذلك فيهم خذلانا لهم؟ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ الغيب ما غاب عن الخلق. ويحتمل أن سيعلمه الخلق، وغيب الغيب ما غاب عنهم ولا يمكنهم أن يعلموه، والله حسبي ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 (تفسير سورة الأنعام وهي مائة وخمس وستون آية وهي مكية إلا ثلاث آيات قل تعالوا إلى قوله ثم آتينا موسى الكتاب) [سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) القراآت: وَأَنْشَأْنا بغير همز حيث كان: أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش من طريق الأصفهاني وحمزة في الوقف. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ وبابه بالهمز: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم، وقرأ يزيد والشموني وحمزة في الوقف بغير همز الباقون بغير همز مطلقا فَحاقَ بالإمالة حيث كان حمزة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 الوقوف: وَالنُّورَ ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار يَعْدِلُونَ هـ أَجَلًا ط تَمْتَرُونَ هـ وَفِي الْأَرْضِ ج وقيل: لا وقف ليصير التقدير وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض وفيه بعد، بل المعنى وهو المستحق للعبودية في أهل السموات وأهل الأرض. تَكْسِبُونَ هـ مُعْرِضِينَ هـ لَمَّا جاءَهُمْ ط للابتداء بالتهديد يَسْتَهْزِؤُنَ هـ مِدْراراً ص لعطف المتفقين آخَرِينَ هـ سِحْرٌ مُبِينٌ هـ عَلَيْهِ مَلَكٌ ط لا يُنْظَرُونَ هـ يَلْبِسُونَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ الْمُكَذِّبِينَ هـ. التفسير: عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «نزلت الأنعام جملة واحدة وتنزلت، معها من الملائكة سبعون ألف ملك فملؤا ما بين الأخشبين» فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتبوها من ليلتهم سوى آيات معدودات. وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لقد بعث إليّ بها جبريل مع خمسين ملكا أو خمسين ألف ملك تحفها حتى أقروها في صدري كما يقرّ الماء في الحوض ولقد أعزني الله تعالى وإياكم بها عزا لا يذلنا بعدها أبدا فيها دحض حجج المشركين ووعد من الله لا يخلفه» ولاشتمال هذه السورة على دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد ولنزولها جملة ذهب علماء الكلام إلى أن علم الأصول مع جلالة قدره يجب تعلمه على الفور لا على التراخي بخلاف الأحكام فإنها نزلت كفاء المصالح وبحسب الحوادث والنوازل. واعلم أن قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ مذكور في أوائل سور خمس واختص كل منها بصفة، لكن أعمها صدر فاتحة الكتاب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 1] فإن العالم كل موجود سوى الله سبحانه فكان سائر السور تفاصيل لهذه الجملة. أثنى الله سبحانه على نفسه بقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ والثناء على النفس قبيح في الشاهد ففيه دليل على أنه لا يمكن قياس الحق على الخلق، فكما أنه واحد في ذاته فهو واحد في صفاته وأفعاله لا اعتراض لأحد عليه. والتحقيق فيه أن استحقاق المدح بحسب الفضيلة والكمال ولا يوجد في الممكن صفة كمال إلا وهي مشوبة بالنقص والاختلال أدناه الأفول في أفق الإمكان بخلاف واجب الوجود فإنه لا غاية لكماله ولا نهاية لعظمته وجلاله، فلا ينبغي أن يمدح إلا هو، ولا أن يثنى إلا عليه، ولا أن يشكر ويحمد إلا له. ثم الأوصاف الجارية عليه سبحانه إنما تذكر زيادة في المدح لا لأجل التوضيح والكشف. أساميا لم تزده معرفة ... وإنما لذة ذكرناها وقد تقدم في الأسماء أن معنى الخلق راجع إلى التقدير والتقدير عائد إلى العلم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 فالمراد أنه أوجد السموات والأرض على حسب علمه الأزلي. قال بعض العلماء: السماء كالدائرة والأرض كالمركز، وحصول الدائرة يوجب تعين المركز ولا ينعكس لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها فلهذا ذكر السماء قبل الأرض مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء. وجمع السموات حقيقة وكذا إفراد الأرض، وقد تجمع الأرض باعتبار الطبقات وسوف يجيء تقرير ذلك في قوله وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 12] والمقصود من هذا الوصف إلزام المشركين، وأن تخصيص حجم الفلك بمقدار معين وتخصيص كل من أجزائه بحيز معين وتخصيص الفلك بالحركة والأرض بالسكون مع اشتراكهما في الطبيعة الجسمية، وتخصيص كل حركة بحد معين من السرعة والبطء وبجهة معينة دلائل ظاهرة على وجود فاعل مختار واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله. وأيضا إن لحركة كل فلك أوّلا لأن حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة فتقتضي المسبوقية بالغير، وعدم الأولية ينافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال. وإذا ثبت أن لكل حركة أوّلا فاختصاص ابتداء حدوثه بوقت معين يدل على الفاعل المختار وكذا اتصاف بعض الأجسام بالفلكية وبعضها بالعنصرية مع تساوي الكل في تمام الماهية. وأيضا إن خارج العالم الجسماني خلاء لا نهاية له كما ثبت في الكلام، فحصول هذا العالم في حيزه الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر ممكن يحتاج إلى مرجح قادر مختار حكيم يفعل ما يشاء كما يشاء. هذا إذا نظرنا في ذوات هذه الأجرام، أما إن اعتبرنا منافعها وكيفية تأثير الأثيريات وهي- الآباء- في العنصريات- وهي الأمهات- لتحصيل المواليد الثلاثة: المعادن والنباتات والحيوانات، ارتقينا من ذلك أيضا إلى وجود صانع قدير وحكيم خبير رتبته أعلى وأجل من رتب الممكنات. أما قوله وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فمعناه أحدث وأنشأ، ولهذا اقتصر على مفعول واحد، ولو كان بمعنى «صير» اقتضى مفعولين. وإنما لم يقل «وخلق» لأنه أراد التضمين أعني إنشاء شيء من شيء كقوله وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [النساء: 1] فالنور والظلمة لما تعاقبا صار كأن كل واحد منهما تولد من الآخر. وقيل: لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار، ولهذا جمع الظلمات إذ لكل حرم ظل والظل ظلمة. ووحد النور لأن النار واحد وهو منها، والظلمة والنور هاهنا هما الأمران المحسوسان بالبصر، لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة والقرينة ذكر السموات والأرض. وعن ابن عباس أن الظلمة ظلمة الشرك والنفاق، والنور نور الإسلام واليقين، وعلى الأوّل فإنما جمع الظلمات ووحد النور لأن النور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية، ثم إنها تقبل التناقص قليلا قليلا وتلك المراتب كثيرة، أو لأنه قصد بالنور الجنس. وعلى الثاني فذلك لأن الحق واحد والباطل أكثر من أن يحصى. وإنما قدمت الظلمة على النور لأن عدم المحدثات سابق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 على وجودها، والظلمة عدمية عند من يجعلها عدم النور أو شبيهة بالعدم عند من يجعلها هيئة مضادة للنور. وقد ورد في الأخبار أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره. وقوله: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ معطوف على قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ والمعنى أنه حقيق بالحمد على ما خلق ثم الذين كفروا يعدلون عن طريق الإنصاف فيكفرون بربهم، أو على خَلَقَ السَّماواتِ معناه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون أي يسوّون به ما لا يقدر على شيء من ذلك. فعلى المعنى الأول يعدلون من العدول، وعلى الثاني هو من العدل. ومعنى «ثم» هاهنا وفي قوله ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ تراخي الرتبة واستبعاد مضموني الجملتين أحدهما عن الآخر. ثم ذكر دليلا آخر على إثبات الصانع وعلى صحة المعاد الجسماني فقال هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أي من آدم لأنه مخلوق من الطين، أو خلقكم من النطفة المتولدة من الأغذية المنتهية إلى العناصر، ولا ريب أن خلق الأغذية المتنوعة من العناصر المتشابهة الأجزاء، ثم توليد النطفة المتشابهة الأجزاء من تلك الأغذية المختلفة، ثم تخليق الأعضاء المختلفة في الصفة والصورة واللون والشكل كالقلب والدماغ والكبد والعظام والغضاريف والرباطات والأوتار وغيرها من المادة المتشابهة لا يمكن إلا بتقدير مقدر حكيم ومدبر رحيم. ثم إن تلك القدرة والحكمة باقية بعد موت الحيوان فيكون قادرا على إعادتها وإعادة الحياة فيها وذلك يدل على صحة القول بالمعاد. أما قوله ثُمَّ قَضى أَجَلًا فاعلم أن لفظ القضاء قد يرد بمعنى الحكم والأمر وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23] وبمعنى الخبر والإعلام وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ [الإسراء: 4] وبمعنى صفة الفعل إذا تم فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فصلت: 12] ومنه قولك: قضى فلان حاجة فلان. والأنسب هاهنا هو الأول. والأجل في اللغة بمعنى الوقت المضروب لانقضاء الأمد. وأصله من التأخير ومنه الآجل نقيض العاجل. ثم إن صريح الآية يدل على حصول أجلين لكل إنسان. فقال أبو مسلم: الأول آجال الماضين لأنهم لما ماتوا صارت آجالهم معلومة، والثاني آجال الباقين لأنها غير معلومة بعد وإنما هي مسماة عند الله تعالى. وقيل: الأول أجل الموت، والثاني أجل القيامة لأنه لا آخر له ولا يعلم أحد كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله تعالى. وقيل: الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني ما بين الموت والبعث وهو البرزخ. وقيل: الأول النوم، والثاني الموت. وقيل: الأول مقدار ما انقضى من عمر كل أحد، والثاني ما بقي من عمره. وقال حكماء الإسلام: الأول الأجل الطبيعي الذي يمكن بالنسبة إلى المزاج الأول لكل شخص لو بقي مصونا عن الآفات الخارجية، والثاني الأجل الاخترامي الذي يحصل بسبب من الأسباب الخارجية كالغرق والحرق والقتل واللدغ وغيرها من الأمور المنفصلة. ومعنى مُسَمًّى أي مذكور اسمه في اللوح المحفوظ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 ومعنى عِنْدَهُ أي في حكمه وعلمه كما تقول: هذه المسألة عند الشافعي كذا وعند أبي حنيفة كذا. وارتفع أَجَلٌ بالابتداء وجاز ذلك مع تنكيره لمكان وصفه فقارب المعرفة. وإنما لم يقل «وعنده أجل مسمى» تعظيما لشأن هذا الأجل فكأنه قيل: وأي أجل مسمى عنده؟ والمرية والامتراء الشك. ومعنى «ثم» تبعيد الامتراء عن مثل هذه الحجة الباهرة الموجبة للتيقن في أمر المبدأ والمعاد، ثم قرر أنه سبحانه عالم بجميع المعلومات ردّا على من زعم أنه غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز المطيع من العاصي ولا تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو فقال وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ وزعمت المجسمة بهذا وبنحو قوله أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الملك: 17] أنه سبحانه مستقر في السماء قالوا: ويؤكده وقف بعض القراء على السموات والابتداء بقوله وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ أي يعلم سرائركم الموجودة في الأرض. ولو سلم أن لا وقف فالإجماع حاصل على أنه ليس موجودا في الأرض، ولا يلزم من ترك العلم بأحد الظاهرين ترك العمل بالظاهر الآخر من غير دليل. ونوقض بأنه تعالى قال في مواضع لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ [البقرة: 284] فلو كان هو في السماء لزم أن يكون مالكا لنفسه، ولا يخفى ضعف هذا النقض لأنه مخصوص بالقرينة كقوله إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 20] وبأنه إما أن يراد كونه في سماء واحدة وهو ترك الظاهر، أو في جميع السموات وهو يقتضي كونه ذا أجزاء أو حصول المتحيز الواحد في مكانين وكلاهما محال. والحق أنه لا يلزم من استصحاب المكان الافتقار إليه ولا التجسيم والتجزئة وهو دقيق يفهمه من وفق له، وبأنه لو كان موجودا في السموات لكان محدودا متناهيا فيكون قابلا للزيادة والنقصان، فيكون اختصاصه بمقدار معين لمخصص فيكون محدثا. ويرد عليه أنه لم لا يجوز أن يكون في السموات وفوقها إلى ما لا يتناهى لا سيما عند من يقول إن وراء هذا العالم خلاء غير متناه، وبأنه لو كان في السموات فإن لم يقدر عل عالم آخر فوقها لزم تعجيزه، وإن قدر فلو فعل لحصل تحت ذلك العالم والقوم ينكرون كونه تحت العالم، والاعتراض أنه لا يلزم من القدرة الإيجاد، وقال غير المجسمة: المراد وهو الله في تدبير السموات والأرض كما يقال: فلان في أمر كذا أي في تدبيره وإصلاحه. وعلى هذا يكون فِي السَّماواتِ خبرا بعد خبر، ويوقف على اسم الله ثم يبتدأ بما بعد ذلك ويكون المعنى أنه يعلم في السموات والأرض سرائر الملائكة والإنس والجن، أو المراد وهو المعبود فيهما، أو المعروف بالإلهية أو المتوحد بها، أو هو الذي يقال له الله فيهما لا شريك له في هذا الاسم. والسر من صفات القلوب وهي الدواعي والصوارف، والجهر من أعمال الجوارح، ولأن الأول مقدم على الثاني طبعا فلا جرم قدم عليه وضعا. والجملة أعني قوله يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ مقررة لما قبلها أو خبر ثالث أو كلام مبتدأ. وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 الكسب أخص من الأعمال السرية والجهرية لأنه الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو اندفاع ضر ولهذا لا يوصف فعل الله تعالى بأنه كسب. وإفراد الأخص بالذكر بعد الأعم للتقرير والتأكيد، أو لكونه أهم حسن لا يلزم منه عطف الشيء على نفسه. والمراد أنه عالم بما يستحقه الإنسان على أفعاله من ثواب أو عقاب. ثم لما فرغ من دلائل التوحيد والمعاد شرع في النبوات فرتب أحوال الكفار مع الأنبياء في ثلاث مراتب: الأولى كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل وذلك قوله وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ «من» الأولى للاستغراق والثانية للتبعيض. والمراد وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار إلا وهم على حالة الإعراض لقلة تدبرهم وفرط غفلتهم. الثانية: كونهم مكذبين وهذه شر مما قبلها لأن الإعراض قد يكون للغفلة لا للتكذيب وإذا كذب فقد أعرض وزاد. قال علماء المعاني: هاهنا حذف كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية وهو الحق. قال أنس: هو انشقاق القمر بمكة انفلق فلقتين فذهبت فلقة وبقيت فلقة. وقيل: هو القرآن الذي تحدّوا به فعجزوا عنه. وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: شرعه. وقيل: وعده ووعيده وتبشيره وإنذاره. والأولى الحمل على الكل. المرتبة الثالثة: كونهم مستهزئين لأن التكذيب إذا انضم معه الاستهزاء كان غاية في الغواية وذلك قوله فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا أي أخبار الشيء الذي كانوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وهو القرآن وغيره من المعجزات. وليس المراد نفس الأنباء بل العذاب الذي أنبأ الله تعالى به كقوله وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص: 88] والحكيم إذا توعد فربما قال: ستعرف نبأ هذا إذا نزل بك ما تحذره. وذلك أن الغرض من الخبر حصول العلم بالمخبر عنه وذلك إنما يتحقق بعد المعاينة. ومعنى الآية سيعلمون بأي شيء استهزؤا وأنه لم يكن موضع استهزاء وذلك عند نزول العقاب بهم في الدنيا كيوم بدر وغيره أو في الآخرة. ثم لما زجرهم عن الإعراض والتكذيب والاستهزاء وأوعدهم على ذلك عاد إلى الموعظة والنصيحة بتذكير أحوال الأمم الماضية والقرون الخالية. والقرن القوم المقترنون في زمان من الدهر المفترقون بعد ذلك بالموت وذلك الزمان في الأغلب ستون سنة. وقيل: سبعون. وقيل: ثمانون. والأقرب أنه غير مقدر بزمان لا يقع فيه زيادة ولا نقصان، ولكنه إذا انقضى الأكثر من أهل كل عصر فقد انقضى القرن. وليس المراد أن يصدّق الكفار محمدا في هذه الأخيار لانهم بصدد التكذيب فسيكذبونه فيها أيضا، وإنما المراد أن ما يختص بالمتقدمين منهم مشهور بين الناس فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا تلك الحكايات ومجرّد سماعها يكفي في الاعتبار. ثم وصف تلك القرون بثلاثة أوصاف: الأول: تمكينهم في الأرض. مكن له في الأرض جعل له مكانا، ومكنه فيها أثبته، وهما متقاربان ولهذا جمع بينهما في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 الآية. والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما آتينا عادا وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال وأسباب الدنيا. الثاني: إرسال السماء عليهم مدرارا يعني الغيث أو السحاب أو الخضراء، لأن المطر ينزل من ذلك الصوب والمدرار كثير الدرّ درّ اللين إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير. ومدرارا نعت المطر ويقال أيضا سحاب مدرارا إذا تتابع أمطاره. ومفعال من أبنية المبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث. الثالث وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أي من تحت أمكنتهم والمراد أنهم أصحاب البساتين والقصور والمنتزهات. فإن قيل: الهلاك غير مختص بهم وإنما يجري ذلك على الأنبياء والمؤمنين أيضا، قلنا: لدفع هذا الإشكال كرر فقال فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فإن الإهلاك بسبب المعاصي والآثام لا يكون إلا بالعذاب والإيلام. ثم نبه بقوله وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ على كمال عزته واستغنائه ونهاية قدرته واستعلائه كقوله إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر: 16] فالبلاد بلاده والعباد عباده بيده التخريب والتعمير وإليه الإعدام والإيجاد. ثم ان الذين يتمردون عن قبول دعوة الأنبياء طوائف متعددة. منهم من بالغ في حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها على وفق هواه ومناه لا على قانون الخير والعدل فمنعه ذلك عن التزام التكاليف وهو المذكور في الآية، وفيه أن لذات الدنيا ذاهبة وعذاب الكفر باق، وليس من العقل تحمل العقاب الدائم لأجل اللذات الفانية. ومنهم من حملته العصبية والعناد على تكذيب معجزات الأنبياء وجعلها من قبيل السخر الذي لا أصل له وهم الذين عنوا بقوله وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ والمعنى أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة فرأوه ولمسوه وشاهدوه عيانا لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر. وهاهنا سؤال وهو أن نزول الكتاب من السماء جملة إن لم يكن من باب المعجزات لم يكن إنكاره منكرا، وإن كان من قبيل الإعجاز فالملك يقدر على إنزاله من السماء وقبل الإيمان بصدق الرسل لم تكن عصمة الملائكة معلومة، وحينئذ يجوز أن يكون نزول ذلك من قبل بعض الجن والشياطين، أو من بعض الملائكة الذين لم تثبت عصمتهم فلا يكون دليلا على الصدق. وأجيب بأن المقصود من الآية ليس بيان الإعجاز، ولكن المراد أنهم إذا لمسوه بأيديهم يقوى الإدراك البصري بالإدراك اللمسي وبلغ الغاية في القوة والظهور. ثم إن هؤلاء يبقون شاكين في أن ذلك الذي رأوه ولمسوه هل هو موجود أم لا، وذلك يدل على أنهم بلغوا في الجهالة إلى حد السفسطة. قال القاضي: في الآية دليل على وجوب اللطف لأنه بيّن أنه إنما لم ينزل هذا الكتاب من حيث إنه لو أنزله لقالوا هذا القول فيفهم منه أنهم لو قبلوه وآمنوا به لأنزله لا محالة، وزيف بأن المفهوم ليس بحجة، ولو سلم فوقوع اللطف لا يدل على وجوبه. ومن الكفرة من قابل النبوات بإيراد الشبهات والاقتراحات. قال الكلبي: إن مشركي مكة قالوا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 يا محمد والله لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله وذلك قوله وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فأجاب الله تعالى عن مقترحهم بقوله وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ومعنى القضاء الإتمام والإلزام كما مر. وتقرير الجواب أن إنزال الملك على البشر آية باهرة وحينئذ ربما لم يؤمنوا فيجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال، أو لعلهم إذا شاهدوا الملك زهقت أرواحهم. ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى جبرائيل على صورته الأصلية غشي عليه؟ وأن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم ولوط، وكالذين تسوّروا المحراب، وأن جبرائيل تمثل لمريم بشرا سويا؟ وفائدة ثمّ أن عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأة الشدة أفظع من نفس الشدة. ثم إنهم كانوا يطعنون في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى وهي أنه بشر مثلهم ويقولون: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان: 7] وتقرير الشبهة أن الرسل إذا كانوا من زمرة الملائكة كانت علومهم أكثر وقدرتهم أشد ومهابتهم أعظم وامتيازهم عن الخلق أكمل والاشتباه في نبوتهم ورسالتهم أقل، والحكيم إذا أراد تحصيل مهم اختار ما هو أسرع إفضاء إلى المطلوب، فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله وَلَوْ جَعَلْناهُ أي الرسول مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا لأن إنزال الملك آية ظاهرة جارية مجرى الإلجاء وإزالة الاختيار وذلك مناف لغرض التكليف، ولأن الجنس إلى الجنس أميل، ولأن البشر لا يطيق رؤية الملك، ولأن طاعات الملك كثيرة فيحقرون طاعات البشر ويستعظمون إقدامهم على المعاصي فلا يصبرون معهم، ولأن إنزال الملك يقوي الشبهة من وجه آخر وذلك أن أيّ معجزة ظهرت عليه قالوا هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك، ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القدرة والقوة لفعلنا مثل ما فعلت. ثم قال وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ لبست الأمر على القوم ألبسه لبسا إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلا ومنه لبس الثوب لأنه يفيد الستر. والمعنى إذا جعلنا الملك في صورة البشر كان فعلنا نظيرا لفعلهم في التلبيس، وإنما كان ذلك لبسا لأن الناس يظنونه ملكا مع أنه ليس بملك، أو يظنونه بشرا مع أنه ليس ببشر وإنما كان فعلهم لبسا لأنهم يخلطون على أنفسهم ويقولون إن البشر لا يصلح للرسالة فلا ينقطع السؤال أبدا ويبقى الأمر في حيز الاشتباه. وعلى هذا التفسير يكون قوله ما يَلْبِسُونَ مفعولا مطلقا. ويجوز أن يراد ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ فيكون مفعولا به يعني أن القوم إذا رأوا الملك في صورة الإنسان اشتبه الأمر عليهم، وإذا كنا قد فعلنا ذلك كان اللبس منسوبا إلينا. ثم إنه سبحانه وتعالى سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقى من قومه بقوله وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ أي نزل. وقال الفراء: عاد عليهم والتركيب يدور على الإحاطة ومنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 الحوق بالضم ما استدار بالكمرة ما كانُوا أي الشيء الذي كانوا يستهزؤن به وهو الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، أسند الحق إليه حيث أهلكوا لأجل الاستهزاء به. ويحتمل أن يراد بلفظة «ما» العذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله وهم يستهزؤن بذلك، ثم أمر رسوله بأن يقول لهم: لا تغتروا بما وجدتم من زخارف الدنيا وسيروا في الأرض لتشاهدوا آثار الأمم السالفة الذين كذبوا رسلهم ونزل بهم ما نزل فإن الأسفار تورث الاعتبار وتفيد الاستبصار. واعلم أنه سبحانه قال هاهنا ثُمَّ انْظُرُوا وفي موضع آخر فَانْظُروا [آل عمران: 137] فالفاء لمجرد اعتبار ترتيب النظر على السير. وثم لتباعد ما بين المباح والواجب فإن السير مباح والنظر واجب. وأيضا شتان بين السير الصوري بقدم الأشباح وبين السير المعنوي بقدم الأرواح والله أعلم. التأويل: حمد نفسه القديم الأزلي بكلامه القديم الأزلي على أن خلق سموات القلوب وأرض النفوس وجعل الظلمات. أي الصفات البهيمية والسبعية في النفوس والنور في القلوب وهو صفاتها الملكية والروحانية، فخص الجعل بالمعاني التي هي من عالم الأمر والخلق بالأعيان لأنها من عالم الصورة، ولهذا لما ذكر صورة آدم قال إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص: 71] وحيث أراد معناه قال إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] ثم بعد هذا الجعل والخلق مال نفوس الكفار بغلبات الظلمات إلى طاغوت الهوى فجعلوه عديلا لربهم ثُمَّ قَضى أَجَلًا للروح المفارق عن حضرته لأيام فراقه وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وهو أجل الوصال بعد الفراق بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ يا أهل الوصال كما يمتري أهل الفراق وهذا محال وَهُوَ اللَّهُ في سموات القلوب وفي أرض النفوس يعلم سر الخلافة الذي أودع فيكم وَجَهْرَكُمْ الذي يظهر عنكم وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ باستعمال الاستعداد السري والجهري في المأمورات والمنهيات في الخير أو الشر مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ في الآفاق وفي أنفسهم مكناهم في طلب الحق من قهر النفس وأسباب الخيرات والطاعات. وأرسلنا مطر الواردات من سماء القلوب عليهم مدرارا متواليا، وجعلنا أنهار الحكمة تجري من تحت نظرهم فأهلكنا مع هذه المقدمات أرواحهم بسموم ذنوب طلب الدنيا مالها وجاهها وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ من الطلاب الصادقين التائبين المستقيمين لَجَعَلْناهُ رَجُلًا ليفهموا خطابه ويكون واقفا على الأحوال البشرية فيعالجهم بما يرى فيه صلاح حالهم كما قال وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] قل سيروا في أرض النفوس بقدم التقوى ومخالفة الهوى إلى أن تبلغوا سواحل بحار القلوب فتشاهدوا بأنوار الله المودعة فيها عاقبة من هلكوا في بوادي القطيعة إذ ساروا بقدم الطبيعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 [سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 24] قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) القراآت: إِنِّي أُمِرْتُ بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع إِنِّي أَخافُ بفتح الياء: هما وابن كثير وأبو عمرو. الباقون: بالسكون. مَنْ يُصْرَفْ مبنيا للفاعل: سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل. الباقون: مبنيا للمفعول أَإِنَّكُمْ بهمزتين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام يدخل بينهما مدة أينكم بالياء بعد الهمز: ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد آينكم بالمد والياء: أبو عمرو ويزيد. وقالون بَرِيءٌ بغير همز حيث كان: يزيد وحمزة في الوقف يحشرهم ثم يقول بياء الغيبة فيهما: يعقوب. الباقون: بالنون ثُمَّ لَمْ تَكُنْ بتاء التأنيث: حمزة وعلي وحماد والمفضل وسهل ويعقوب الباقون: بالياء فِتْنَتُهُمْ بالرفع: ابن كثير وابن عامر وحفص والمفضل. الباقون: بالنصب وَاللَّهِ رَبِّنا بالنصب على النداء: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون: بالجر على البدل أو البيان. الوقوف: وَالْأَرْضِ ط قُلْ لِلَّهِ ط الرَّحْمَةَ ط لأن قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ جواب قسم محذوف. وقيل: لا وقف ولَيَجْمَعَنَّكُمْ جواب معنى القسم في كَتَبَ وفيه نظر لأن كَتَبَ وعد ناجز ولَيَجْمَعَنَّكُمْ وعد منتظر. لا رَيْبَ فِيهِ ط بناء على أن الذين مبتدأ فيه معنى الشرط لا يُؤْمِنُونَ هـ وَالنَّهارِ ط الْعَلِيمُ هـ وَلا يُطْعَمُ ط مِنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 الْمُشْرِكِينَ هـ عَظِيمٍ هـ رَحِمَهُ ط الْمُبِينُ هـ إِلَّا هُوَ ط قَدِيرٌ هـ عِبادِهِ ط الْخَبِيرُ هـ شَهادَةً ط وَمَنْ بَلَغَ ط أُخْرى ط لانتهاء الاستخبار إلى الإخبار. قُلْ لا أَشْهَدُ ج لاتساق الكلام بلا عطف يشركون هـ أَبْناءَهُمُ م لئلا يوهم أن ما بعده وصف لا يُؤْمِنُونَ هـ بِآياتِهِ ط الظَّالِمُونَ هـ يزعمون هـ مُشْرِكِينَ هـ يَفْتَرُونَ هـ. التفسير: إنه سبحانه لما برهن على إثبات الصانع وتحقيق النبوّات وتقرير المعاد، وانجر الكلام إلى الأمر باعتبار أحوال الغابرين، عاد إلى إثبات هذه المطالب بطريق الإلزام وأخذ الاعتراف، وذلك أن آثار الحدوث وسمات الإمكان لائحة على صفات السماويات والأرضيات حتى بلغ في ظهوره إلى حيث لا يقدر منكر على إنكاره، فكان في السؤال تبكيت وإفحام، وفي الجواب تقرير وإلزام، أي هو لله بلا مراء وشقاق ولن يتم الملك إلا إذا كان قادرا على الإعادة كما هو قادر على الإبداء، ولن تحصل حكمة الإعادة إلا بثواب المطيعين وعقاب العاصين، ولن يحسن إيصال الثواب والعقاب إلا بعد نصب الدلائل وإرسال الرسل فلأجل ذلك قال كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي بنصب الأدلة وإزاحة العلة إيجاب الفضل والكرم. وقيل: هذه الرحمة هي أنه يمهلهم مدّة عمرهم ولا يعاجلهم بالاستئصال، أو فرض على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل وتاب وأناب وصدّقهم وقبل شريعتهم، أو تلك الرحمة هي أنه يجمعهم إلى يوم القيامة فإنه لولا هذا التهديد لحصل الهرج والمرج وارتفع الضبط وكثر الخبط كأنه قيل: لما علمتم أن كل ما في السموات والأرض لله تعالى، وأنه مالك الكل فاعلموا أن الله الملك الحكيم لا يهمل أمور عبيده، ولا يجوز في حكمته التسوية بين المطيع والعاصي والعامل والساهي. ومعنى لَيَجْمَعَنَّكُمْ ليضمنكم. وقيل: فيه حذف أي ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة فإن الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان. وقيل: ليجمعنكم في الدنيا بخلقكم قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة. قال الأخفش: الَّذِينَ خَسِرُوا بدل من ضمير المخاطبين في لَيَجْمَعَنَّكُمْ. وقال الزجاج: إنه مبتدأ خبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وذلك لتضمنه معنى الشرط فكأنه قيل: ما للمشركين مع وضوح الدلائل الباهرة لا يؤمنون؟ فأجيب الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي في علم الله وسابق قضائه فهم لا يؤمنون في طرف الأبد، فكان امتناعهم الآن عن الإيمان مسببا عن سبق القضاء عليهم بالخسران والخذلان. وقال في الكشاف الَّذِينَ خَسِرُوا نصب أو رفع على الذم بمعنى أريد الذين، أو أنتم الذين. ثم لما بيّن أن له المكان والمكانيات ارتقى في البيان كما هو شأن الترتيب التعليمي إلى ما هو أخفى من ذلك عند الحس وهو الزمان والزمانيات فقال وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ عن ابن عباس أن كفار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد إنا قد علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعونا إليه الحاجة فنحن نجعل لك نصيبا من أموالنا حتى تكون من أغنانا رجلا وترجع عما أنت عليه فنزل وَلَهُ ما سَكَنَ الآية. قيل: اشتقاقه من السكون والتقدير كل ما سكن وتحرك كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] أي تقيكم الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر للقرينة. والأصوب أن يقال: اشتقاقه من السكنى كما يقال: فلان سكن ببلد كذا أي حل فيه. والمراد كل ما حل في الوقت والزمان سواء كان متحركا أو ساكنا، وذلك أن الدخول تحت الزمان يستلزم التغير والحدوث فلا بد له من محدث يتقدم عليه وعلى نفس الزمان وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ الذي يسمع نداء المحتاجين ويعلم حاجات المضطرين فيوصل كل ممكن إلى كمال يليق به ويستعدّ له. ثم لما كان لزاعم أن يزعم أن الذي يتعالى عن المكان وعن الزمان قد يكون ممكنا في نفسه كالمفارقات التي يثبتها الفلاسفة فلا جرم قال قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ منكر الاتخاذ غير الله وَلِيًّا ولذلك قدم المفعول لكونه أهم، ولو كان حرف الاستفهام داخلا على الفعل توجه الإنكار أوّلا إلى نفس اتخاذ الولي وأنه غير مهم فاطِرِ السَّماواتِ عطف بيان من اللَّهِ أو بدل. وقرىء بالرفع على إضمار هو، وبالنصب على المدح. وعن ابن عباس: ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدأتها. وقال ابن الأنباري: أصل الفطر الشق وقد يكون شق إصلاح كقوله فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فاطر: 1] أي خالقهما ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يحصل فيه الشق والتأليف عند ضمه بعض الأشياء إلى بعض. وقد يكون شق إفساد ومنه قوله تعالى هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: 3] إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد. والرزق والإطعام وإن كانا متغايرين وإلا لم يحسن العطف في قوله ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: 57] إلا أنهما متقاربان فحسن جعل أحدهما كناية عن الآخر. وقرىء وَهُوَ يُطْعِمُ مبنيا للمفعول على أن الضمير لغير الله وقرىء وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ كلاهما للفاعل. والمعنى هو يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ [البقرة: 245] أو الثاني بمعنى لا يستطعم. وحاصل الآية أنه يجب شغل القلب كله بالله وقطع العلائق بالكلية عما سواه لأنه الجواد المطلق الذي يهب لا لعوض ولا انتفاع. ثم بيّن أن النبي أيضا داخل في تكليف المعرفة بل هو أسبق قدما في ذلك فقال قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وقيل لي لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وفيه أن الواعظ يجب أن يتعظ أوّلا بما يقوله، فالمريض لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 يتصور منه العلاج. ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم مع جلالة قدره بصدد المؤاخذة على تقدير المخالفة فقال قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ولا يلزم من هذا جواز المعصية عنه لأن الفرض قد يتعلق بالمستحيل كقولك: إن كانت الخمسة زوجا فهي منقسمة بمتساويين. من قرأ مَنْ يُصْرَفْ مبنيا للفاعل فالضمير فيه عائد إلى الله والمفعول وهو العذاب محذوف لكونه معلوما أو مذكورا قبله. قال في الكشاف: ويجوز أن تنصب يومئذ على أنه مفعول به ل يُصْرَفْ أي من يصرف الله عنه ذلك اليوم أي هو له، ومن قرأ على بناء المفعول فهو مسند إلى ضمير العذاب، ولم يسم الفاعل وهو الله تعالى للعلم به فَقَدْ رَحِمَهُ أي الله الرحمة العظمى كقولك: إن أطعمت زيدا من جوعه فقد أحسنت إليه يعني كمال الإحسان. أو المراد فقد أدخله الجنة فإن من لم يعذب لم يكن له بد من الثواب تفضلا أو استيجابا. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على أن إيصال الثواب على الطاعة غير واجب وإنما هو ابتداء فضل وإحسان وإلا لم يحسن ذكر الرحمة هاهنا، ألا ترى أن الذي يقبح منه أن يضرب زيدا فإذا لم يضربه لا يقال أنه رحمه؟ وَذلِكَ أي صرف العذاب وإيصال الثواب على سبيل التفضل أو الاستيجاب الْفَوْزُ الْمُبِينُ لأنه المطلب الأعلى والمقصد الأسنى لكل مكلف. ثم أكد المعنى المذكور وهو أنه لا يجوز للعاقل أن يرغب في اتخاذ ولي غير الله بقوله وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ من مرض أو فقر أو غير ذلك من البليات فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ من غنى أو صحة فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عمم الحكم لندرج تحته كل خير والحاصل أن اندفاع جميع المضار بقدرته، وكذا حصول جميع الخيرات لأن كل ما عداه فإنما هو تحت قهره وتسخيره وقد حصل بإيجاده وتكوينه، فإن الممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته، ورأس المضارّ هو الكفر، وسنام الخيرات هو الإيمان، ولن يحصل نفرة الكفر وداعية الإيمان إلا بتوفيقه تعالى. وكل ما يتصور أنه قد نفع أو ضر من الجمادات أو المختارات فإن ذلك ينتهي إلى تخليق الله وجعله ذلك الشيء واسطة لذلك النفع أو الضر، فلا ضارّ ولا نافع بالحقيقة إلا هو سبحانه. ثم زاد لهذا المعنى بيانا فقال وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وهو إشارة إلى كمال القدرة وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ وإنه إشارة إلى كمال العلم. فالحكمة أعم من العلم لأنها عمل وعلم، وكونه خبيرا أخص من العلم لأنه العلم ببواطن الأمور وخباياها، فإذا اجتمعت هذه المعاني حصل العلم بكماله وغايته، وقد استدل بظاهر الآية من أثبت الفوقية لله تعالى وعورض بوجوه منها: أنه لو كان فوق العالم فإن كان في الصغر بحيث لا يتميز منه جانب من جانب كالجوهر الفرد مثلا فذلك لا يقوله عاقل، وإن كان ذاهبا في الأقطار كلها كان متجزئا. والجواب أنه لم لا يجوز أن يكون نورا قائما بذاته غير متناه لا متجزئا ولا متبعضا قاهرا لجميع الأنوار غالبا على جميع الأشياء، فلا غاية لجوده ولا نهاية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 لوجوده. وأما إنه كيف يتصور نور بلا نهاية مع أنه لا ينقسم ولا يتبعض فمجرد استبعاد فلا يصلح حجة وإدراك شيء من هذا النور محتاج إلى نور وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] ومنها أنه لو كان غير متناه من كل الجهات لزم اختلاطه بالقاذورات. والجواب أن هذا كلام مخيل فلا يستعمل في البرهان. ومنها أنه لو لم يكن خارج العالم خلاء ولا ملاء لم يمكن حصول ذات الله تعالى فيه، وإن كان خلاء فحصوله في جزء من أجزاء ذلك الخلاء دون سائر أجزائه محتاج إلى مخصص، فيكون الواجب مفتقرا فيكون محدثا هذا خلف. والجواب أنا ذكرنا أن نور الأنوار لا يتناهى وأنه وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى فيسقط هذا الاعتراض. ومنها أنه سبحانه موجود قبل الخلاء والحيز والجهة، فلا يكون بعد حصول هذه الأشياء موجودا فيها وإلا لزم التغير في ذاته. والجواب بالفرق بين المعية وبين الافتقار. ومنها أن العالم كرة فإما أن يكون الله تعالى فوق أقوام بأعيانهم وحينئذ يلزم أن يكون تحت أقدام من يقابلهم وإما أن يكون فوق الكل فيكون فلكا محيطا بسائر الأفلاك وهذا لا يقوله مسلم. والجواب الإلزامي بعد تسليم كون العالم كرة أنا نختار القسم الأول، ولا يلزم التحتية لأن التحت من جميع الجوانب هو ما يلي المركز، والفوق ما يلي السماء. أو القسم الثاني ولا يلزم من إحاطته بجميع الأشياء كونه فلكا كسائر الأفلاك، وأما التحقيق فقد مر. ومنها أن لفظ الفوق في الآية مسبوق بالقهر ويراد به القدرة والمكنة وملحوق بلفظ عباده، وأنه مشعر بالمملوكية والمقدورية. فالمناسب أن يراد بالفوق أيضا فوقية القدرة ولا يلزم التكرار لأن المراد أن القهر والقدرة عام في حق الكل. والجواب أن حمل الوسط على الطرفين أولى من العكس، بل لا نزاع في مفهوم العباد وإنما النزاع في مفهومي القاهرية والفوقية، وليس حمل أحدهما على الآخر أولى من غيره، ومنها أن الآية سيقت ردا على من اتخذ غير الله وليا وهذا إنما يحسن لو كان المراد بالفوقية القدرة لا الجهة. والجواب أن الفوقية بالوجه الذي قررناه في جواب الاعتراض الأول يفيد الاستعلاء المطلق وذلك يوجب أن يكون التعويل عليه في كل الأمور إذ لا وجود ولا ظهور لشيء من الأشياء إلا بفيضه ونوره. وقد يلوح للمتأمل في هذه الأجوبة بعد التنزيه عن التشبيه والتجسيم والحلول والاتحاد أسرار غامضة شريفة إن كان أهلا لها «وكل ميسر لما خلق له» . «1» قال الكلبي: إن رؤساء مكة قالوا: يا محمد ما نرى أحدا يصدقك بما تقول من أمر الرسالة. ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا   (1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 92 باب 3- 5، 7. مسلم في كتاب القدر حديث 6- 8. أبو داود في كتاب السنّة باب 16. الترمذي في كتاب القدر باب 3. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 10. أحمد في مسنده (1/ 6، 29، 133) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 من يشهد لك أنك رسول كما تزعم فنزلت قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً الآية. قال العلماء: إنها دلت على أن أكبر الشهادات وأعظمها شهادة الله. ثم بيّن أن شهادة الله حاصلة إلا أنها لم تدل على أن تلك الشهادة لإثبات أيّ المطالب فقيل: إنها لإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما ذكرنا من سبب النزول. والمعنى قل يا محمد أي شيء أكبر شهادة حتى يعترفوا بأن أكبر الأشياء شهادة هو الله تعالى، فإذا اعترفوا بذلك فقل إن الله شهد لي بالنبوة بأن أظهر على وفق دعواي معجزا هو القرآن الذي عجزتم معاشر الفصحاء والبلغاء عن معارضته. وقيل: إن حصول هذه الشهادة في وحدانية الله تعالى وذلك أن الوحدانية ليست مما يتوقف صحته على صحة السمع فلا يمتنع إثباتها بالسمع والمعنى قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ في إثبات الوحدانية والبراءة عن الأضداد والأنداد والأمثال والأشباه وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وأبلغكم أن الدين هو التوحيد والشرك مردود. واستدل الجمهور بالآية على أنه يصح إطلاق الشيء على الله تعالى وخالف جهم محتجا بقوله تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 102] إذ لا يمكن دعوى التخصيص فيه، فإن التخصيص إنما يجوز في صورة شاذة لا يلتفت إليها لقلة اعتبارها فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيها على أن البقية جارية مجرى العدم. فلو كان الباري تعالى شيئا لكان أعظم الأشياء وأشرفها فيكون إخراجه من هذا العموم محض الكذب. وأيضا احتج بأن الشيء يطلق على المعدوم لقوله تعالى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الكهف: 23] والشيء الذي سيفعله غدا معدوم في الحال، فالشيء لا يفيد صفة مدح فلا يطلق عليه. والجواب عن الأول أن إخراج الأكثر من العموم جائز عندنا. ولو سلم فإنه تعالى واحد من الأشياء، والمخرج بهذا الاعتبار أقل عددا من الباقي. وعن الثاني أن لفظ الشيء أعم الألفاظ، ومتى صدق الخاص كالذات، والحقيقة صدق العلم بالضرورة. قال جهم قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ جملة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها فلا يصح استدلالكم. قلنا قُلْ أَيُّ شَيْءٍ سؤال ولا بد له من جواب. وهو إما مذكور رأي قل الله أكبر الأشياء شهادة ثم ابتدئ فقيل شهيد أي وهو شهيد بيني وبينكم، أو محذوف والمعنى قل هو الله والله شهيد بيني وبينكم. وحسن الحذف لأنه إذا سأل عن أكبر الأشياء شهادة وذكر بعد ذلك أن الله شهيد علم جزما أن أكبر الأشياء شهادة هو الله أما قوله وَمَنْ بَلَغَ فمعطوف على ضمير المخاطبين والعائد إلى من محذوف أي لأنذركم يا أهل مكة وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم. وقيل: من الثقلين. وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلى الله عليه وسلم، وقيل: ومن بلغ أي من احتلم وبلغ أوان التكليف، وعلى هذا فلا حاجة إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 إضمار العائد. ثم استفهم مبكتا فقال أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى وصف الجمع بصفة الواحدة كما يقال: الرجال فعلت. ثم دل على إيجاب التوحيد بثلاث جمل: أولاها قُلْ لا أَشْهَدُ أي بما تذكرونه من إثبات الشركاء، وثانيتها قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وكلمة «إنما» تفيد الحصر. وثالثتها وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ومن هنا قالت العلماء: المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين ويضم إليهما التبري عن كل دين سوى دين الإسلام. ولما زعم مشركو مكة أنهم سألوا اليهود والنصارى عن نعت محمد صلى الله عليه وآله فقالوا: ليس عندنا ذكره كذّبهم الله تعالى بقوله الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون رسول الله بنعوته وحلاه الثابتة في الكتابين كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بالنعوت والحلي لا يخفون عليهم ولا يشتبهون بغير أبنائهم. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ إما بدل أو بيان من «الذين» الأولى، ويكون المقصود وعيد المعاندين منهم والجاحدين. وإما مبتدأ والكلام جملة مستأنفة شاملة لجميع الجاحدين من أهل الكتاب ومن المشركين. والمراد بخسران النفس الهلاك الدائم الذي يحصل لهم بسبب الكفر. وقيل: ما من أحد إلا وله منزلة في الجنة إلا أن من كفر صارت منزلته إلى من أسلم فيكون قد خسر نفسه وأهله بأن ورّث منزلته غيره. ثم بيّن سبب خسرانهم مستفهما على سبيل الإنكار فقال وَمَنْ أَظْلَمُ وذلك أنهم جمعوا بين أمرين متنافيين: إثبات الباطل وهو الافتراء على الله، وجحد الحق وهو التكذيب بآيات الله، فمن الأول أن المشركين كانوا يقولون للأصنام إنهم شركاء الله والله أمرهم بذلك، وكانوا يقولون: الملائكة بنات الله وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، واليهود والنصارى كانوا يزعمون أن التوراة والإنجيل ناطقان بعدم النسخ، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة إلى غير ذلك من مفترياتهم. ومن الثاني قدحهم في القرآن وفي صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الذين وضعوا الشيء في غير موضعه الباطل مكان الحق والحق بإزاء الباطل. ثم كشف عن حالهم يوم القيامة فقال وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ وناصبه محذوف أي ويوم كذا كان كيت وكيت فترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في الوعيد. ويحتمل أن يكون مفعول «واذكر» أو معطوفا على محذوف أي لا يفلح الظالمون في الدنيا ويوم الحشر. أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ آلهتكم التي جعلتموهم شركاء الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ هم شركاء فحذف المفعولان. والمقصود من هذا الاستفهام التقريع والتبكيت، ويجوز أن يشاهدوهم إلا أنهم حيث لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم، ويجوز أن يحال بينهم وبين آلهتهم وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها فتزداد حسرتهم، ويحتمل أن يقال: أين شفاعتهم لكم وانتفاعكم بهم؟ والغرض من جميع الوجوه أن يتقرر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 في نفوسهم أن الذي يظنونه مأيوس منه فيصير ذلك تنبيها لهم في الدنيا على فساد هذه الطريقة ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ من قرأ بالرفع على أنه اسم كان فالخبر إِلَّا أَنْ قالُوا والتقدير شيئا إلا أن قالوا ومن قرأ بالنصب مع تذكير يكن فبعكس ما قلنا. والتقدير شيء إلا أن قالوا، وأما مع تأنيث يكن فلوقوع الخبر مؤنثا كقولهم: من كانت أمك. أو بتأويل مقالتهم. قال الواحدي: الاختيار قراءة من قرأ بالنصب لأن «أن» إذا وصلت بالفعل لم توصف فأشبهت بامتناع وصفها المضمر. وكما أن المضمر والمظهر إذا اجتمعا كقولك: إن كنت القائم. كان جعل المضمر اسما أولى من جعله خبرا فكذلك هاهنا. قال الزجاج: تأويل هذه الآية حسن في اللغة لا يعرفه إلا من وقف على معاني كلام العرب، وذلك أنه تعالى بين كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين في حبه، فذكر أن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به وقالوا إنه دين آبائنا لم تكن إلا الجحود والتبرؤ منه والحلف على عدم التدين به. ومثاله أن ترى إنسانا يحب شخصا مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه فيقال له: ما كانت محبتك أي عاقبة محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه وتركته. فعلى هذا فتنتهم في شركهم في الدنيا كما فسرها ابن عباس. ولكن لا بد من تقدير مضاف وهو العاقبة، ويجوز أن يراد: ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا، فسمي فتنة لأنه كذب، قال القاضيان: الجبائي وأبو بكر: إن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب لأنهم يعرفون الله تعالى بالاضطرار فيكونون ملجئين إلى ترك القبيح وكيف لا وإنهم يعلمون أن ذلك لا يروج منهم حينئذ ولا يستفيدون بذلك إلا زيادة المقت والغضب من الله تعالى عليهم؟ ولا يجوز أن يقال: إنهم لما عاينوا القيامة اختلت عقولهم واضطربت فلهذا قالوا الكذب، أو أنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا لأنه لا يليق بحكمته تعالى أن يوبخهم ثم يحكى عنهم ما يجري مجرى الاعتذار عند اختلال عقولهم. ولأن تجويز نسيان أمر كان عليه الشخص مدة عمره نوع من السفسطة. وأيضا إنهم لو كذبوا في موقف القيامة ثم حلفوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقدموا على نوعين من القبيح فإن عوقبوا على ذلك صارت الآخرة دار التكليف وإن لم يعاقبوا كان إذنا من الله تعالى في ارتكاب الذنوب وكلاهما محال. فإذا الوجه في الآية أن يقال: إن القوم كانوا يعتقدون في أنفسهم وظنونهم أنهم موحدون فأجابوا بقولهم وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ أي في اعتقادنا وظنوننا، وعلى هذا فيكونون صادقين فيما أخبروا عنه لأنهم كانوا غير مشركين عند أنفسهم فيجيب تأويل قوله تعالى انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بأن المراد كذبهم في دار الدنيا كقولهم إنهم على صواب وإن ما هم عليه ليس بشرك وإن آلهتهم شفعاؤهم عند الله فلهذا قال وَضَلَّ عَنْهُمْ أي وانظر كيف غاب عنهم في الآخرة ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي يفتعلون إلهيته وشفاعته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 والحاصل أن الآية سيقت لبيان تضاد حاليهم في الدنيا وفي الآخرة بالكذب وبالصدق ولكن حيث لا ينفعهم الصدق لأن الصدق في الآخرة إنما يعتبر إذا كان مقرونا بالصدق في الدنيا، هذا جملة كلام القاضيين. قال جمهور المفسرين: إن قول القائل المراد ما كنا مشركين في اعتقادنا، وكيف كذبوا على أنفسهم في الدنيا مخالفة الظاهر وإن الكفار قد يكذبون في القيامة لقوله تعالى يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ إلى قوله أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [المجادلة: 18] ولو سلم أنهم لا يكذبون تعمدا إلا أن الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه حيرة ودهشا، ألا تراهم يقولون رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها [المؤمنون: 107] وقد أيقنوا بالخلود؟ وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزخرف: 77] وقد علموا أنه لا يقضى عليهم. واختلال عقولهم حال ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع كمال عقلهم في سائر الأوقات. التأويل: ما في الكون سوى الله، لا داع ولا مجيب فلهذا يسأل ويجيب قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ وله ما سكن في ليل البشرية إلى التمتعات الحيوانية، وفي نهار الروحانية إلى المواهب الربانية، وَهُوَ السَّمِيعُ أنين من سكن إليه الْعَلِيمُ بحنين من اشتاق إليه قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ اليوم وَلِيًّا وقد اتخذني الله في الأزل حبيبا فاطِرِ سموات القلوب على محبته وفاطر أرض النفوس على عبوديته وَهُوَ يُطْعِمُ أرواح العارفين طعام المشاهدات ويسقيهم كؤوس المكاشفات وَلا يُطْعَمُ لأنه لا يحتاج إلى قبول الفيض من غيره فالأنوار عنده كالذرّات أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ لأني خلصت من حبس الوجود بالكلية وحدي ولهذا يقول الأنبياء نفسي نفسي وأقول: أمتي أمتي إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي برؤية الغير عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو وقت الاستنزال عن مقام التوحيد. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ عذاب الشرك يوم قدّر الشرك لاقوام والتوحيد لاقوام وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ إن دائرة أزليته متصلة بدائرة أبديته، وكل نقطة من الدائرة تصلح للبداية والنهاية، فكل ما صدر منه فلن ينتهي إلا به وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ قهر الكفار بموت القلوب فضلوا في ظلمات الطبيعة، وقهر نفوس المؤمنين بأنوار الشريعة فخرجوا من ظلمات الطبيعة، وقهر قلوب المحبين بلذعات الأشواق إلى يوم التلاق، وقهر أرواح الصديقين بسطوات الجلال في أوقات الوصال. وَهُوَ الْحَكِيمُ فيما يقهره فلا يخلو من حكمة الْخَبِيرُ بمن يستأهل كل صنف من قهره فيقهره به فالله أكبر شهادة لأنه محيط بحقائق الأشياء ولا يحيط به شيء من الأشياء وَمَنْ بَلَغَ القرآن ووقف على حقائقه. ويقول للمشركين أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني العلماء بالقرآن يعرفون الله أو النبي. وفيه إشارة إلى أن الآباء قد تحقق عندهم أنهم مصادر الأبناء، فكذلك أهل المعرفة قد تحقق عندهم أن الله مصدر جميع الأشياء الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بإفساد الاستعداد الفطري ويوم يحشرهم جميعا يعني أهل المعرفة والنكرة أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ من الهوى والدنيا كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ في القيامة لأنهم كذبوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 في الدنيا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى. [سورة الأنعام (6) : الآيات 25 الى 37] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) القراآت: وَلا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ بالنصب فيهما: حمزة وحفص ويعقوب وافق ابن عامر في وَنَكُونَ الباقون: بالرفع ولدار الآخرة بالإضافة: ابن عامر بتأويل الساعة الآخرة، الباقون: بتعريف الدار ورفع الآخرة على الوصفية. تَعْقِلُونَ بتاء الخطاب: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب وحفص وكذلك في الأعراف يُكَذِّبُونَكَ بالتخفيف من أكذبه إذا وجده كاذبا: علي ونافع والأعشى في اختياره. الباقون: بالتشديد من كذبه إذا نسبه إلى الكذب. أَنْ يُنَزِّلَ بالتخفيف: ابن كثير. الوقوف: وَقْراً ط بِها ط الْأَوَّلِينَ هـ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ج لابتداء النفي مع واو العطف وَما يَشْعُرُونَ هـ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هـ مِنْ قَبْلُ ط لَكاذِبُونَ هـ بِمَبْعُوثِينَ هـ رَبِّهِمْ ط بِالْحَقِّ ط وَرَبِّنا ط تَكْفُرُونَ هـ بِلِقاءِ اللَّهِ ط لأن «حتى» للابتداء فيها لا لأن الواو للحال عَلى ظُهُورِهِمْ ط يَزِرُونَ هـ وَلَهْوٌ ط يَتَّقُونَ هـ تَعْقِلُونَ هـ يَجْحَدُونَ هـ نَصْرُنا ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقصود لكلمات الله كذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 الْمُرْسَلِينَ هـ بِآيَةٍ ط مِنَ الْجاهِلِينَ هـ يَسْمَعُونَ هـ يُرْجَعُونَ هـ مِنْ رَبِّهِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ. التفسير: لما بيّن أحوال الكفار في الآخرة أتبعه بعض أسباب ذلك فقال وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ قال ابن عباس: حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف واستمعوا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر: ما تقول في محمد؟ فقال: ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحريك. شفتيه يتكلم بشيء وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية. وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى، وكان يحدث قريشا فيستملحون حديثه فنزلت الآية. والأكنة جمع كنان وهو كل ما وقى شيئا وستره من الأغطية والقفل، ومنه أكننت وكننت. وأن يفقهوه مفعول لأجله أي كراهة فقههم. والوقر الثقل في الآذان. والتركيب يدور على الثقل ومنه الوقر بالكسر الحمل، والوقار الحلم. وفي الآية دلالة على أن الله تعالى هو الذي يصرف عن الإيمان ويحول بين المرء وبين قلبه. وقالت المعتزلة: لا يمكن إجراؤها على ظاهرها وإلا كأن فيها حجة الكفار، ولأنه يكون تكليفا للعاجز. ولم يتوجه ذمهم في قولهم وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [البقرة: 88] فلا بد من التأويل وذلك من وجوه الأول: قال الجبائي: إن القوم كانوا يسمعون لقراءة الرسول ليتوسلوا بسماع قراءته إلى مكانه بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه، فكان الله تعالى يلقي على قلوبهم النوم والغفلة، وعلى آذانهم الثقل. وزيف بأن المراد لو كان ذلك لقيل «أن يسمعوه» بدل «أن يفقهوه» . وبأن قوله وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ أي كل دليل وحجة لا يُؤْمِنُوا بِها لا يناسبه. الثاني: أن المكلف الذي علم الله تعالى أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر يسم قلبه بعلامة مخصوصة لتستدل الملائكة برؤيتها فلا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان مع انها في نفسها ليست بمانعة عن الإيمان. الثالث: يقال: إنه جبل على كذا إذا كان مصرا عليه وذلك على جهة التمثيل. الرابع: لما منعهم الألطاف التي تصلح أن تفعل بالمهتدين وفوّض أمورهم إلى أنفسهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه. الخامس: أن هذا حكاية قولهم فِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 5] وعورضت هذه الأدلة بالعلم والداعي، وذلك أن الله تعالى علم من الكافر أنه لا يؤمن وخلاف علمه محال، وأنه سبحانه هو الذي خلق فيهم داعية الكفر ومع وجود تلك الداعية يستحيل الإيمان فهو المعنى بالكنان. وتحقيق المسألة تقدم في أول سورة البقرة في قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7] والإفراد في يَسْتَمِعُ والجمع في قُلُوبِهِمْ اعتبار اللفظ من تارة ولمعناه أخرى حَتَّى إِذا جاؤُكَ هي حتى المبتدأة التي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 يقع بعدها الجمل كقوله: حتى ماء دجلة أشكل. والجملة هاهنا مجموع الشرط والجزاء أعني قوله إِذا جاؤُكَ يقول: ويُجادِلُونَكَ في موضع الحال. ويجوز أن تكون حتى جارّة أي حتى وقت مجيئهم ويُجادِلُونَكَ حال بحاله ويَقُولُ تفسير له. والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى حالة المجادلة. ثم فسر الجدل بأنهم يقولون إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وأصل السطر هو أن يجعل شيئا ممتدا مؤلفا في صف ومنه سطر الكتاب وسطر من نخيل وجمعه أسطار وجمع الجمع أساطير. وقال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة كأحاديث وأحدوثة. وقال أبو زيد: لا واحد له كعباديد. قال ابن عباس: معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها أي يكتبونها. ومن فسر الأساطير بالخرافات والترهات نظر، إلى أن الأغلب هو أن لا يكون فيها فائدة معتبرة كحديث رستم وغيره فذلك معنى وليس بتفسير. ثم إن غرض القوم من هذا القول هو القدح في كون القرآن معجزا كما أن الكتب المشتملة على الأخبار والقصص ليست بمعجزة، والجواب أن هذا مقرون بالتحدي وقد عجزوا عن آخرهم دون تلك فظهر الفرق. ثم أكد طعنهم في القرآن بقوله وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ قال محمد بن الحنفية وابن عباس في رواية والسدي والضحاك: عن القرآن وتدبره والاستماع له وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ والنأي البعد. نأيته ونأيت عنه وناء الرجل إذا بعد لغة في «نأى» وحملوه على القلب لأن المصدر لم يجيء إلا على النأي. وقيل: الضمير للرسول والمراد النهي عن اتباعه والتصديق بنبوّته، جمعوا بين قبيحين: النأي والنهي فضلوا وأضلوا. وعن عطاء ومقاتل عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتباعد عما جاء به. روي أن قريشا اجتمعوا إلى أبي طالب يريدون سوءا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو طالب: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وأبشر وقر بذاك منك عيونا وعرضت دينا لا محالة أنه من خير أديان البرية دينا ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثم أمينا لولا الملامة أو حذاري سبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا وضعفت هذه الرواية بقوله إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يعني بما تقدم ذكره، ولكن النهي عن أذيته حسن لا يوجب الهلاك. ويمكن أن يجاب بأن الذم توجه على الهيئة الاجتماعية الحاصلة من النهي مع النأي كقوله أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 44] ولو سلم فلم لا يجوز أن يرجع الذم إلى القسم الأخير فقط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 ثم بيّن أنه كيف يعود الضرر إليهم فقال وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ وجواب «لو» محذوف أي لرأيت سوء منقلبهم ونحو ذلك. وجاز حذفه للعلم به ولما في الحذف من تفخيم الشأن وهو ذهاب الوهم كل مذهب كما لو قلت لغلامك: والله لئن قمت إليك وسكت عن الجواب. ذهب فكره إلى أنواع المكاره من الضرب والقتل وغيرهما بخلاف ما لو قلت: لأضربنك. ولمثل هذا من إرادة المبالغة قال وُقِفُوا بلفظ الماضي مع «إذا» الدال على المضي كأن هذا الأمر وقع وتحقق فكان من حقه أن يخبر عنه بلفظ الماضي أي وقفوا على أن يدخلوا النار وهم يعاينونها، أو وقفوا عليها وهي تحتهم، أو هو من قولهم: وقفت على المسألة الفلانية وقوفا أي عرفوا حقيقتها تعريفا أو المراد أنهم في جوف النار غائصين فيها فتكون «على» بمعنى «في» وجاز لأن النار دركات بعضها فوق بعض فلا يخلو من معنى الاستعلاء يا لَيْتَنا نُرَدُّ هو داخل في حكم التمني. أما قوله وَلا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ فمن قرأ بالنصب فيهما فبإضمار «أن» على جواب التمني والمعنى إن رددنا إلى دار التكليف لم نكذب ونكن من المؤمنين. ومن قرأ بالرفع فيهما فوجهان: أحدهما أن التمني يتم عند قوله نُرَدُّ ثم ابتدءوا وَلا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ أي ونحن لا نكذب ونكون كأنهم ضمنوا أن لا يكذبوا ويكونوا من المؤمنين سواء حصل الرد أو لم يحصل. وشبهه سيبويه بقولهم: دعني ولا أعود بمعنى دعني وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني. وثانيهما أن يكونا معطوفين على نُرَدُّ أو حالين على معنى يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين فيدخل المجموع تحت حكم التمني. وأورد على هذا الوجه أن المتمني لا يكون كاذبا وقد قال تعالى وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وأجيب بأن هذا التمني قد تضمن معنى الوعد فجاز أن يتعلق به التكذيب كقول القائل: ليت الله يرزقني مالا فأحسن إليك فهذا متمن في حكم الواعد فلو رزق مالا ولم يحسن إلى صاحبه كذب لأنه كأنه قال: إن رزقني الله مالا أحسنت إليك. وأما قراءة ابن عامر فمعناه إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين ثم رد الله تعالى عليهم بأنهم ما تمنوا العود إلى الدنيا وترك التكذيب وتحصيل الإيمان لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأجل خوفهم من العذاب الذي شاهدوه وعاينوه فقال بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وما الذي كانوا يخفونه في الدنيا. قال أكثر المفسرين: إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] فينطق الله تعالى جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك معنى بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وقال المبرد: بدا لهم وبال عقائدهم وأعمالهم وسوء عاقبتها، وذلك أن كفرهم ما كان ظاهرا لهم وإنما ظهر لهم يوم القيامة. وقال الزجاج: بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء منهم من أمر البعث والنشور بدليل قوله بعد ذلك وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وهذا قول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 الحسن. وقيل: إنها في المنافقين كانوا يسرون الكفر فيظهر نفاقهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة. وقيل: هو في أهل الكتاب يظهر لهم ما كانوا يكتمونه من صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. والأولى حمل الآية على الكل لأنه يوم تبلى السرائر فلا جرم تظهر الفضائح والقبائح وتنكشف الأسرار وتنهتك الأستار اللهم كفر عنا سيآتنا في ذلك اليوم. ثم قال وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ قيل كيف يتصوّر هذا وإنهم قد عرفوا الله تعالى حينئذ بالضرورة وشاهدوا الأحوال والأهوال؟ وأجاب القاضي بأن المراد ولو ردّوا إلى حالة التكليف. وعلى هذا التقدير لا تبقى المعرفة ضرورية فلا يمتنع صدور الكفر عنهم. وضعف بأن المقصود من إيراد هذا الكلام المبالغة في غيهم وتماديهم وإصرارهم على الكفر. وإذا فرض عودهم إلى حالة التكليف زال التعجب كما هو الآن فإذن لا تنحل العقدة إلا بأن يقال: المراد توكيد جريان القضاء السابق فيهم بحيث لو شاهدوا العذاب والعقاب ثم سألوا الرجعة فردوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك ولم ينجع ذلك فيهم. وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما وعدوا في ضمن التمني أو في كل شيء ولهذا قالوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا «إن» نافية والضمير عائد إلى حقيقة الحياة المعلومة في الأذهان ولهذا أضيف إلى ضمير جمع المتكلم أي ما لنا حياة إلا هذه الحياة التي هي أقرب إلينا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعدها. وقيل: إن تقدير الآية ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولأنكروا البعث ولقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا. ثم لما قرر إنكارهم كشف عن حالهم يوم القيامة فقال وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ تمسك بعض المشبهة بهذا على أنه تعالى يحضر تارة ويغيب أخرى، ورد بأن استعلاء شيء على ذات الله تعالى محال بالاتفاق فوجب تأويل الآية بأنه مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي مولاه للعتاب، أو المضاف محذوف أي على جزاء ربهم أو وعده أو إخباره بثواب المؤمنين وعقاب الكافرين، أو هو من قولك: وقفته على كذا أي أطلعته عليه. ثم كان لسائل أن يقول: ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فأجيب قالَ أَلَيْسَ هذا الذي عاينتموه من حديث البعث والجزاء بِالْحَقِّ الذي حدثتموه؟ قالُوا بَلى وَرَبِّنا وفيه دليل على أن حالهم في الإنكار سيؤل إلى الإقرار، ثم كأنه سئل ماذا قيل لهم بعد الإقرار؟ فأجيب قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم وذلك ليعلم أن الإقرار في غير دار التكليف لا ينفع، وذلك أن جوهر النفس اللطيفة القدسية بعث إلى هذا العالم الجسماني الكثيف وأعطى الآلات الجسمانية لتحصيل المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة التي تعظم منافعها بعد الموت. فإذا استعملها الإنسان بناء على اعتقاد عدم المعاد في تحصيل اللذات الفانية والسعادات المنقطعة إلى أن ينقضي أجله فقد ضاع رأس المال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 ولا ربح وذلك قوله قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ أي ببلوغ الآخرة وثوابها وعقابها. عبر عن ذلك بلقاء الله لأنه لا حكم لأحد هناك إلا لله بخلاف الدنيا فإنه قد يظن أن للإنسان تصرفا واختيارا وملكا وملكا. وحمل اللقاء على الرؤية أيضا غير بعيد عند أهل السنة. و «حتى» غاية ل كَذَّبُوا لا ل خَسِرَ لأن خسرانهم لا غاية له أي لم يزل بهم التكذيب إلى تحسرهم وقت مجيء الساعة بل وقت موتهم، فإن أمارات السعادة والشقاوة تلوح على صفحات أحوال المكلف من وقتئذ وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم «من مات فقد قامت قيامته» وسمى يوم القيامة الساعة لسرعة الحساب فيه كأنه قيل: ما هو إلا ساعة الحساب، أو لأنها تفجأ الناس في ساعة لا يعلمها إلا الله تعالى ولهذا قال بَغْتَةً أي فجأة. وانتصابها على الحال أي باغتة من بغته إذا فاجأه، أو على المصدر العام أي بغتتهم الساعة بغتة أو الخاص لأن البغت نوع من المجيء قالُوا عامل «إذ» يا حَسْرَتَنا مثل يا وَيْلَتى [الفرقان: 28] وقد مر مثله في سورة المائدة أي احضري فهذا وقتك عَلى ما فَرَّطْنا أصله يدل على الترك والهمزة في الإفراط لإزالة ذلك. وقولهم فرطت القوم أي سبقتهم إلى الماء، معناه تركتهم من ورائي حتى حصل لي التقدم. أما الضمير في فِيها فقال ابن عباس: أي في الدنيا وإن لم يجر لها ذكر في الآية بدلالة العقل لأن موضع التقصير هو الدنيا. وقال الحسن: أي في وقت الساعة على معنى قصرنا في شأنها والإيمان بها وإعداد الزاد وتحصيل الأهبة لها. وقال محمد بن جرير الطبري: يعود إلى الصفقة والمبايعة بدلالة ذكر الخسران. وقيل: إلى ما فيما فرطنا أي يا حسرتنا على الأعمال والطاعات التي تركناها وقصرنا فيها. ثم بين تضاعف خسرانهم بأنهم لم يحصلوا لأنفسهم مواجب الثواب ولكن حصلوا مواجب العقاب فقال وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ هي الآثام والخطايا. وأصل الوزر الثقل ومنه الوزير لأنه يحمل ثقل صاحبه. والوزر الملجأ لأنه يدفع عنه ما أصابه فكأنه حمله. أما كيفية حملهم الأوزار فقال في الكشاف: إنه مجاز عن حصولها لهم كقوله فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور كما ألف الكسب بالأيدي. وقال الزجاج: الثقل قد يذكر في الحال والصفة. ثقل عليّ خطاب فلان أي كرهته، فالمعنى أنهم يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساة ثقل ذلك عليهم. وقيل: هو كقولك: شخصك نصب عيني أي ذكرك ملازم لي. وقال جمع من المفسرين: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أحسن الأشياء صورة وأطيبها ريحا فيقول: أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم فذلك قوله يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [مريم: 85] قالوا ركبانا وإن الكافر إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أقبح الأشياء صورة وأخبثها ريحا فيقول: أنا عملك الفاسد طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم قاله قتادة والسدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ بئس شيئا يزرون وزرهم. ثم رغب في الحياة الباقية وزهد في الحياة العاجلة فقال وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ قال ابن عباس: يريد حياة أهل الشرك والنفاق لأن حياة المؤمن تحصل فيها أعمال صالحة فلا تكون لعبا ولهوا. وقال آخرون: هو عام في حياة المؤمن والكافر وذلك أن مدة اللهو واللعب وكل شيء يلهيك ويشغلك مما لا أصل له قليلة سريعة الانقضاء والزوال، ومدة هذه الحياة كذلك. وأيضا اللعب واللهو لا بد أن يتناهيا في أكثر الأمر إلى شيء من المكاره ولذات الدنيا كذلك، ولهذا رفضها العلماء المحققون والحكماء المتألهون. وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ قال ابن عباس: هي الجنة وإنها خير لمن اتقى الكفر والمعاصي. وقال الأصم: التمسك بعمل الآخرة خير. وقال الآخرون: نعيم الآخرة خير من نعيم الدنيا من حيث إنها دائمة باقية مصونة عن شوائب الآفات والمخافات، آمنة من نقص الانقضاء والانقراض لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ فيه أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن اتقى الكفر والمعاصي، وأما الكافر والفاسق فالدنيا بالنسبة إليهما خير كما قال صلى الله عليه وسلم «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» «1» . أَفَلا تَعْقِلُونَ قال الواحدي: من قرأ بتاء الخطاب فالمعنى قل لهم أفلا تعقلون أيها المخاطبون، ومن قرأ بالياء فمعناه أفلا يعقل الذين يتقون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار؟ وذلك أن خيرات الدنيا ليست إلا قضاء الشهوات التي يشارك فيها سائر الحيوانات، بل ربما كان أمر تلك الحيوانات فيها أكمل، فالجمل أكثر أكلا، والديك والعصفور أكثر وقاعا، والذئب والنمر والحيات أقوى غضبا وقهرا، وكل من وقف عمره على هذه المطالب لم يكن له عند العقلاء وزن ولا عند الحكماء والعلماء قدر، وكل من صرف عمره في تحصيل الكمالات الدائمات والسعادات الباقيات كان له في العيون مهابة وفي القلوب قبول، وذلك دليل على شهادة الفطرة الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية وعلو مرتبة الكمالات الروحانية. وهب أن النوعين تشاركا في الفضل والمنقبة أليس المعلوم أفضل من المظنون وأن خيرات الآخرة معلومة قطعا والوصول إلى خيرات الدنيا في الغد غير معلوم ولا مظنون؟ فكم من سلطان قاهر بكرة صار تحت التراب عشية، وكم من متمول متغلب أصبح أميرا كبيرا ثم أمسى فقيرا حقيرا. وهب أنه وجد بعد هذا اليوم يوما آخر فلن يمكنه الانتفاع بكل ما جمع من الأسباب، ولو انتفع فقلما يخلص من شوائب المكاره   (1) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث 1. الترمذي في كتاب الزهد باب 16. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 3. أحمد في مسنده (2/ 197، 322، 389) [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 والآفات كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال «من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق. قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: سرور يوم بتمامه» وهب أن الدست له قد تم، أليس مآل كل ذلك إلى الزوال والانقراض؟ وكفى بذلك نقصا وكدرا كما قال: كمال الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قَدْ نَعْلَمُ والمراد كثرة العلم والمبالغة كما مر في قوله قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ [البقرة: 144] والهاء في إِنَّهُ ضمير الشأن وكسرت بعد العلم لمكان لام الابتداء في لَيَحْزُنُكَ وما ذلك المحزن؟ قال الحسن: هو قولهم ساحر شاعر كاهن مجنون. وقيل: تصريحهم بأنهم لا يؤمنون به ولا يقبلون دينه. وقيل: نسبتهم إياه إلى الكذب فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ قال أبو علي وثعلب: أكذبه وكذبه بمعنى. وقيل: أكذبت الرجل ألفيته كاذبا، وكذبته إذا قلت له كذبت. وقال الكسائي: أكذبته إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه وكذبته إذا أخبرت أنه كاذب. وقال الزجاج: معنى كذبته قلت له كذبت، ومعنى أكذبته أن الذي أتى به كذب في نفسه من غير ادعاء أن ذلك القائل تكلف ذلك الكذب وأتى به على سبيل الافتعال والقصد. فمن قرأ بالتخفيف نظر إلى أن القوم كانوا يعتقدون أن محمدا صلى الله عليه وسلم ما ذكر ذلك على سبيل الافتعال والترويج بل تخيل صحة ذلك وأنه نبي إلا أن تخيله باطل. ثم إن ظاهر الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمدا صلى الله عليه وسلم ولكنهم يجحدون بآيات الله، وفي الجمع بين الأمرين وجوه: الأول أن القوم ما كانوا يكذبونه في السر ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية ويجحدون القرآن ونبوته ويؤكده رواية السدي أن الأخنس بن شريق وأبا جهل بن هشام التقيا فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري. فقال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فنزلت. وقال أبو ميسرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بأبي جهل وأصحابه فقالوا يا محمد إنا والله ما نكذبك إنك عندنا لصادق ولكن نكذب ما جئت به فنزلت. وقال مقاتل: نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل كان يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقا فإذن هذه الآية نظير قوله تعالى في قصة موسى وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: 14] فانظر. الثاني في تأويل الآية أنهم لا يقولون إنك كذاب لأنهم جربوك الدهر الطويل وما وجدوا منك كذبا وسموك الصادق الأمين فلا يقولون بعد إنك كاذب، ولكن جحدوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 صحة نبوتك ورسالتك إما لأنهم اعتقدوا أن محمدا عرض له نوع خبل ونقصان فلأجل ذلك تخيل أنه رسول لا أنه كذب في نفسه، أو لأنهم زعموا أنه أمين في كل الأمور إلا في هذا الواحد. الثالث أنه لما ظهرت المعجزات على يده ثم إن القوم أصروا على التكذيب فقال له إن القوم ما كذبوك وإنما كذبوني، ونحوه قول السيد لغلامه إذا أهانه بعض الناس: إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني ومثله قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] فكأنه قيل له: إله عن حزنك لنفسك وليشغلك عن ذلك ما هو أهم وهو استعظامك لجحود آيات الله والاستهانة بكتابه. الرابع: قيل في التفسير الكبير: أي لا يخصونك بهذا التكذيب بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا ويكذبون جميع الأنبياء والرسل. وقوله وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ من إقامة المظهر مقام المضمر تسجيلا عليهم بالظلم في جحودهم، لأن من وضع التكذيب مقام التصديق فقد ظلم. ثم صبر رسوله على أذية القوم فقال وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ وأيّ رسل مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا فأنت أولى بهذه السيرة لأنك مبعوث إلى كافة الخلائق فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا. وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لمواعيده في نحو قوله كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] وقوله وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات: 171] وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ قال الأخفش «من» زائدة والأصح أنها للتبعيض لقلة مجيء زيادة «من» في الإثبات، ولأن الواصل إليه بعض قصص الأنبياء لقوله مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر: 78] فالتقدير: ولقد جاءك بعض أنبائهم. وكان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم عما جاء به فنزلت وَإِنْ كانَ كَبُرَ أي شق عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ عن الإيمان وصحة القرآن فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ فافعل. يعني أنك لا تستطيع ذلك والجواب محذوف وحسن للعلم به. والنفق سرب في الأرض له مخلص إلى مكان ومنه اشتقاق المنافق. والسلم واحد السلاليم التي يرتقي عليها وأصله من السلامة كأنه يسلمك إلى مصعدك. والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وأنه لو استطاع أن يأتي بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها وبكل ما اقترحوه رجاء إيمانهم، ويجوز أن يكون ابتغاء النفق أو السلم هو الآية كأنه قيل: لو استطعت ذلك لفعلت كل ذلك ليكون لك آية يؤمنون عندها، ثم قال وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى قال أهل السنة: فهو دليل على أنه تعالى لا يريد الإيمان من الكافر. وقالت المعتزلة: المراد مشيئة الإلجاء المنافي للتكليف. والإلجاء هو أن يعلمهم أنهم لو حاولوا غير الإيمان لمنعهم منه فيضطرون إلى الإيمان. مثاله: أن يحصل شخص بحضرة السلطان وهناك خدمه وحشمه فيعلم أنه لو هم بقتل ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 السلطان لقتلوه في الحال فيصير هذا العلم مانعا له من القتل. وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا. أما قوله فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أي من الذين يرومون خلاف مأمور الله. فهذا النهي لا يقتضي إقدامه على مثل هذه الحالة ولكنه يفيد التغليظ وتأكيد الامتناع عن الجزع والإضراب عن الحزن والأسف على إيمان من لم يشأ الله إيمانه. ثم بيّن السبب في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان فقال إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة. والمراد أنه تعالى هو الذي يقدر على إحياء قلوب هؤلاء الكفار بحياة الإيمان وأنت لا تقدر على ذلك، يعني أن الذين تحرص على حصول إيمانهم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون كقوله إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النمل: 80] أو المعنى أن هؤلاء الكفرة يبعثهم الله ثم إليه يرجعون فحينئذ يسمعون، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى إسماعهم. أما وجه تشبيه الكفرة بالموتى فلأن حياة الروح بالعلم ومعرفة الصانع كما أن حياة الجسد بالروح. ثم ذكر شبهة أخرى للطاعنين في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وهو أنه ما جاء بآية قاهرة ومعجزة باهرة فكأنهم طعنوا في كون هذا القرآن معجزا على سبيل العناد أو قياسا على سائر الكتب السماوية، أو طلبوا معجزات تقرب من حد الإلجاء كشق الجبل وفلق البحر، فإن معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم من تسبيح الحصا وانشقاق القمر وغير ذلك ليست بأقل منها. أو اقترحوا مزيد الآيات بطريق التعنت واللجاج كقولهم إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: 32] فأجابهم الله تعالى بقوله قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن فاعليته ليست إلا بحسب محض المشيئة عند أهل السنة، أو على وفق المصلحة عند المعتزلة، لا على موجب اقتراحات الناس ومطالباتهم. أو أنه لما ظهرت المعجزة الباهرة والدلالة الكافية من القرآن وغيره لم يبق لهم عذر ولا علة، فلو أجابهم إلى مقترحهم فلعلهم يقترحون اقتراحا ثانيا وثالثا وهلم جر أو ذلك يفضي إلى أن لا يستقر الدليل ولا تتم الحجة وهذا خلاف المقصود، أو لا يعلمون أنه لو أعطاهم سؤلهم ثم لم يؤمنوا لاستوجبوا الاستئصال، أو لا يعلمون أنهم لما طلبوا ذلك على سبيل العناد لا لأجل الفائدة- وقد علم الله ذلك- لم يعطهم مطلوبهم ولو كان غرضهم طلب الحق ونيله لأعطاهم مطلوبهم على أكمل الوجوه. التأويل: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ إنكارا واختبارا وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ من شؤم إنكارهم حجبا من غير الإنكار وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً من فساد الاستعداد الفطري. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ بعين الظاهر لا يُؤْمِنُوا بِها من عمى القلوب وإعواز نور الإيمان فيها وَهُمْ يَنْهَوْنَ الطلاب عن الحق. وَإِنْ يُهْلِكُونَ بتنفير الخلق عن الحق إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن التباعد من أهل الحق هو البعد عن الحق وهذا هو الهلاك الحقيقي. وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 النَّارِ أي أرواح الأشقياء بعد الخلاص عن حبس الطبيعة عرفوا ألم عذاب القطيعة فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ إلى عالم الصورة وإلى الاستعداد الفطري بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ أين يظهر عليهم آثار الشقاوة التي كتبت لهم وكانوا يتكلفون سترها في عالم الصورة بلباس البشرية وَلَوْ رُدُّوا إلى عالم الصورة لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من اتباع الهوى فيفسدون استعدادهم مرة أخرى وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما يدعون لأنهم خلقوا لأجل التكذيب لا لأجل التصديق، ولهذا نسوا ما شاهدوا يوم الميثاق من الألطاف والإعطاف، وقولهم «بلى» في جواب خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ عرفوا ربوبية ربهم ولو عرفوها في الدنيا لم يذوقوا عذاب البعد في العقبى حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً هي الساعة التي يجتذب العبد فيها عن أوصاف البشرية بجذبات المحبة فجأة وهي قيامة أخرى لأن فيها تبدل أرض البشرية غير الأرض وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [الزمر: 69] فينظر المحب الصادق بالنور الساطع إلى أيام ضاعت منه في طلب غير الحق فيتأسف عليها ويقول: أيها القانص ما أحسنت صيد الظبيات، فاتك السرب وما ازددت غير الحسرات وَهُمْ يَحْمِلُونَ أثقال التعلقات الزائدة على ظهور وجودهم، فإن الوجود على السالك ثقيل مانع عن السلوك فكيف ما زيد عليه؟ إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ كلعب الصبيان ولهو أهل العصيان وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ هي السير من البشرية إلى الروحانية والإقبال على الله والإعراض عما سواه خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ غير الله أَفَلا تَعْقِلُونَ أن الإنسان خلق لهذا الشأن لا لغيره كقوله وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: 41] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ من ضيق نطاق البشرية أثر في حبيب الله مقالة الجهلة ولا مبدل لكلمات الله لمقدّراته التي قدّرها ودبرها من الأزل إلى الأبد بكلمة «كن» وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ في عالم الأرواح عند رشاش النور على الهدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ الذين لا يعلمون الحكمة في جعل البعض في مظاهر اللطف والبعض بمظاهر القهر. والنهي في حقه صلى الله عليه وسلم هو نهي الامتناع عن الكينونة أي خلق في الأزل ممتنعا عن الجهل بواسطة كلمة لا تكن كما أنه خلق مستعدا للكمال بكلمة «كن» قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً في كل لحظة ولمحة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ دلالة الكائنات على المكوّن والممكنات على الواجب والمصنوعات على الصانع وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يوسف: 105] . وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد [سورة الأنعام (6) : الآيات 38 الى 50] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 القراآت: أَرَأَيْتَكُمْ وبابه بتليين الهمزة: أبو جعفر ونافع وحمزة في الوقف أريتكم وبابه بغير همز: عليّ. الباقون: أَرَأَيْتَكُمْ بالتحقيق فَتَحْنا بالتشديد: يزيد وابن عامر بِهِ انْظُرْ بضم الهاء روى الأصفهاني عن ورش. الوقوف: أَمْثالُكُمْ ط يُحْشَرُونَ هـ فِي الظُّلُماتِ ط يُضْلِلْهُ ط لابتداء شرط آخر مُسْتَقِيمٍ هـ تَدْعُونَ ج لأن جواب «إن» منتظر محذوف تقديره إن كنتم صادقين فأجيبوا مع اتحاد الكلام صادِقِينَ هـ تُشْرِكُونَ هـ يَتَضَرَّعُونَ هـ يَعْمَلُونَ هـ كُلِّ شَيْءٍ ط مُبْلِسُونَ هـ ظَلَمُوا ط الْعالَمِينَ هـ يَأْتِيكُمْ بِهِ ط يَصْدِفُونَ هـ الظَّالِمُونَ هـ وَمُنْذِرِينَ ج يَحْزَنُونَ هـ يَفْسُقُونَ هـ إِنِّي مَلَكٌ ج للابتداء بالنفي مع اتحاد القائل والمقول إِلَيَّ ط يتفكرون هـ. التفسير: لما بين أن إنزال سائر المعجزات لو كان مصلحة لهم لفعل ذلك، أكده بما يؤذن أن آثار فضله وإحسانه ولطفه وامتنانه واصلة إلى جميع الحيوانات، فلو كانت مصلحة المكلفين في إظهار تلك المعجزات القاهرة الملجئة لم يخل بذلك البتة، وفيه أيضا مزيد تقرير لأمر البعث وأنه حاصل لجميع الحيوان فضلا عن الإنسان. فإن الحيوان إما أن يكون بحيث يدب أو يكون بحيث يطير. وإنما خص من الدواب ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء أو في الماء، لأن رعاية مصالح الأدون تستلزم رعاية مصالح الأشرف، ويمكن أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 يقال: إن الماء أيضا من جملة الأرض لأنهما جميعا ككرة واحدة. قال علماء المعاني: إنما وصف الدابة بكونها في الأرض والطائر بأنه يطير بجناحيه ليعلم أنهما باقيان على عمومهما إذ بينهما بخواص الجنسين، ولولا ذلك لاحتمل أن يقدّر فيهما صفة نحو ترتع أو تصيد فيتخصصا، أو لأوهم أن المراد بهما غير الجنسين المتعارفين لقوله بعده إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ وقد يقول الرجل لعبده طر في حاجتي والمراد الإسراع. قال الحماسي: طاروا إليه زرافات ووحدانا وقيل: ذكر يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ليخرج عنه الملائكة ذوو الأجنحة، فإن المراد ذكر من هو أدون حالا. وقيل: إن الوصف للتأكيد كقولهم: نعجة أنثى. وكما يقال: مشيت إليه برجلي. وإنما جمع الأمم مع أنه أفرد الدابة والطائر، لأن النكرة المستغرقة في معنى الجمع. قال الفراء: كل صنف من البهائم أمة. وفي الحديث «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها» «1» . ثم ما وجه المماثلة بين البشر والدابة والطائر؟ نقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال: يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني كقوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور: 41] وعن أبي الدرداء: أبهمت عقول البهائم إلا عن معرفة الإله وطلب الرزق. ومعرفة الذكر والأنثى. وهذا قول طائفة عظيمة من المفسرين. وقيل: وجه المماثلة كونها جماعات وكونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضا ويأنس بعضها ببعض ويتوالد بعضها من بعض. وضعف بأن هذا أمر معلوم مشاهد لا فائدة في الإخبار عنه. وقيل: هو أنه دبرها وخلقها وتكفل برزقها وأحصى أحوالها وما يجري عليها من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة. دليله قوله عقيبه ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ. وقيل: هو أنها تحشر يوم القيامة ويوصل إليها حقوقها وقد جاء في الحديث «يقتص للجماء من القرناء» «2» . ولكن قوله بعد ذلك ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يصير كالمكرر. وعن سفيان بن عيينة: ما في الأرض من آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم. فمنهم من يقدم إقدام الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوّس كفعال الطاووس، ومنهم من يشبه الخنزير لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام عن رجيعه لعب فيه، وكذلك نجد من الآدميين من يسمع   (1) رواه أبو داود في كتاب الأضاحي باب 21. الترمذي في كتاب الصيد باب 16، 17. النسائي في كتاب الصيد باب 10. ابن ماجه في كتاب الصيد باب 2. أحمد في مسنده (4/ 85، 86) ، (5/ 54) . (2) رواه أحمد في مسنده (1/ 72) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 خمسين كلمة من الحكمة لا يحفظ واحدة وإن أخطأت مرة واحدة حفظها، ولم يجلس مجلسا إلا زاد فيه. واعلم يا أخي أنك تعاشر البهائم والسباع فبالغ في الحذر والاحتراز. وذهب أهل التناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة بالمعارف الحقة موسومة بالأخلاق الفاضلة فإنها بعد موتها تنتقل إلى أبدان الملوك، وربما قالوا إنها تصل إلى مخالطة عالم الملائكة. وإن كانت شقية جاهلة فإنها تنقل إلى أبدان الحيوانات، وكلما كانت أكثر شقاء فإنها تنتقل إلى بدن حيوان أخس وأكثر تعبا وعناء. قالوا: وذلك لأن لفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية. ثم زعموا أن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولا من جنسها لقوله وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] واستشهدوا بقصة النمل وحديث الهدهد ونحو ذلك. وفي تعداد مذاهب أرباب التناسخ طول والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «من» مزيدة للاستغراق أي ما تركنا وما أغفلنا شيئا قط. وقيل: للتبعيض أي ما أهملنا فيه بعض شيء يحتاج المكلف إلى معرفته. والكتاب اللوح المحفوظ المشتمل على جميع أحوال العالم على التفصيل. وقيل: القرآن لأنه هو الذي تسبق إليه الأذهان فيما بين أهل الإيمان، وأورد عليه أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب والحساب ولا تفاصيل كثير من العلوم ولا حاصل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع. وأجيب بأن لفظ التفريط لا يستعمل إلا فيما يجب أن يفعل، والمحتاج إليه إنما هو الأصول والقوانين لا الفروع التي لا تضبط ولا تتناهى. وما من علم إلا وفي القرآن أصله ومنه شرفه وفضله كقوله كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31] للطب. وقوله وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ [الأنعام: 62] للحساب. وكقوله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] للأخلاق. وأما تفاصيل علم الفروع فذكر العلماء أن السنة والإجماع والقياس كلها مستندة إلى الكتاب كقوله وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] وكقوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 115] وكقوله: فَاعْتَبِرُوا [الحشر: 2] وقيل: إن القرآن واف ببيان جميع الأحكام، لأن الأصل براءة الذمة عن التكاليف كلها وشغل الذمة لا بد فيه من دليل منفصل، وكل حكم لم يكن مذكورا في القرآن بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام لم يكن ذلك تكليفا أو يكون باقيا على أصل الإباحة والله تعالى أعلم. أما قوله ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فللعقلاء فيه قولان: الأوّل قول الأشاعرة إنه تعالى يحشر الدواب والطيور لا لأن إيصال العوض إليهن واجب بل مجرد الإرادة والمشيئة ومقتضى الإلهية. الثاني قول المعتزلة لن يحشر الطيور والبهائم إلا لإيصال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 الأعواض إليها، لأن إيصال الآلام إليها من غير سبق جناية لا يحسن إلا للعوض. وفرع القاضي على ذلك فقال: كل حيوان استحق العوض على الله تعالى بما لحقه من الآلام وكان ذلك العوض لم يصل إليه في الدنيا فإنه يجب على الله تعالى حشره في الآخرة ليوفر عليه ذلك العوض، والذي لا يكون كذلك فإنه لا يجب حشره عقلا إلا أن السمع ورد بحشر الكل فيقطع بذلك. فرع آخر: كل حيوان أذن الله تعالى في ذبحه فالعوض له على الله تعالى، وكذا الذي أذن في قتله في كونه مؤذيا أو ألمه بمرض أو سخره للإنسان لأجل حمل الأثقال، وأما إذا ظلمها الناس فالعوض على الظالم، وكذا إذا ظلم بعضها بعضا، ولو ذبح المأكول لغير مأكله. فالعوض على الذابح ولهذا ورد النهي عن ذبح الحيوان لغير مأكله والمراد من العوض منافع عظيمة بلغت في الجلالة إلى حيث لو كانت هذه البهيمة عاقلة وعلمت أنه لا سبيل إلى تحصيل تلك المنافع إلا بواسطة تحمل ذلك الذبح لرضيت به. فرع آخر: مذهب القاضي وأكثر المعتزلة أن العوض منقطع وبعد ذلك تصير ترابا وحينئذقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [النبأ: 40] وقال أبو القاسم البلخي: يجب دوام العوض لأنه لا يمكن قطع ذلك العوض إلا بإماتة تلك البهيمة، وإماتتها توجب الألم، وذلك الألم يوجب عوضا آخر وهلم جرا إلى ما لانهاية له. وأجيب بالمنع من أن الإماتة لا يمكن تحصيلها إلا بالإيلام. فرع آخر: البهيمة إذا استحقت عوضا على بهيمة أخرى: فإن كانت البهيمة الظالمة قد استحقت عوضا على الله تعالى فإنه تعالى يوصل ذلك العوض إلى المظلوم وإلا فإنه تعالى يتكفل بذلك العوض، وهذا القدر يكفي في أحكام الأعواض بحسب المقام وهو سبحانه أعلم. ولما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما ينادي على عظمته ويشهد لربوبيته وينبه على رحمته الكاملة وعنايته الشاملة قال وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ لا يسمعون كلام الله البتة وَبُكْمٌ لا ينطقون بالحق خابطون فِي الظُّلُماتِ ظلمة الكفر وظلمة الشكوك وظلمة الحيرة والضلالة. ثم بين أن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان كلها بمشيئته وإرادته وتسخيره وتدبيره فقال مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ والجبائي أوّل الآية بأن المراد أنهم كذلك في الآخرة كقوله وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الإسراء: 97] وأنهم شبهوا بمن حاله كذا، أو هو محمول على الشتم والإهانة، وأما قوله مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ أي عن طريق الجنة ولا يشاء الإضلال إلا لمن يستحق عقوبته كما أنه لا يشاء الهدي إلا للمؤمنين. أو المراد بالإضلال منع الألطاف لأنهم ليسوا من أهلها وبالهداية منحها لأنهم من أهلها. ثم بين غاية جهالة الكفار وأنهم مع جحودهم يفزعون إلى الله في البليات فقال قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ هو منقول من رأيت بمعنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 أبصرت أو عرفت كأنه قيل: أبصرته وشاهدت حاله العجيبة أو أعرفتها أخبرني عنها فلا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة بشيء. فهذا من باب إيقاع السبب على المسبب لأن الإخبار إنما يكون بعد المشاهدة أو العرفان. أما إعرابه فالتاء ضمير الفاعل، والكاف للخطاب. فالتاء يكون بلفظ واحد في التثنية والجمع والتأنيث. وتختلف هذه المعاني على الكاف نحو: أرأيتك أرأيتكما أرأيتكم أرأيتكن. والتاء في جميع ذلك مفتوحة والكاف حرف خطاب وليست اسما وإلا لكانت إما مجرورة ولا جار، وإما مرفوعة وليست الكاف من ضمائر المرفوع ولا رافع أيضا لأن التاء فاعل ولا يكون لفعل فاعلان، وإما منصوبة وهو باطل من وجوه: أحدها أن هذا الفعل قد يتعدى إلى مفعولين نحو أرأيتك زيدا ما شأنه. فلو جعلت الكاف مفعولا لكان ثالثا . وثانيها لو كان مفعولا لكان هو الثاني في المعنى وليس المعنى على ذلك إذ ليس الغرض أرأيت نفسك بل أرأيت غيرك ولذلك قلت: أرأيتك زيدا، وزيد غير المخاطب ولا هو بدل منه. وثالثها لو كان منصوبا على أنه مفعول لظهرت علامة التثنية والجمع والتأنيث في التاء نحو: أرأيتماكما وأ رأيتموكم وأ رأيتموكن. وقد ذهب الفراء إلى أنه اسم مضمر منصوب في معنى المرفوع ويجوز تصريف التاء. فأما مفعولا أرأيت في الآية فقيل: هما محذوفان تقديره أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعكم عند مجيء الساعة؟ ودل عليه قوله أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ وقيل: لا يحتاج هاهنا إلى المفعول لأن الشرط وجوابه قد حصلا معنى المفعول وأما جواب الشرط فما دل عليه الاستفهام في قوله أَغَيْرَ اللَّهِ تقديره أرأيتكم الساعة دعوتم الله وحاصل الآية قل يا محمد لهؤلاء الكفار أرأيتكم إن أتاكم العذاب في الدنيا أو عند قيام الساعة، أتخصون آلهتكم بالدعوة أم تدعون الله دونها بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة فيكشف ما تدعونه إلى كشفه إن شاء لأن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين. وعلى هذا يكون قوله ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] باقيا على إطلاقه لكن في الدنيا، ولو علقت المشيئة بكشف العذاب في الدنيا كان قوله ادْعُونِي أَسْتَجِبْ [غافر: 60] أيضا مقيدا بالمشيئة وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ قال ابن عباس: تتركون الأصنام ولا تدعونها لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع، ويجوز أن يراد لا تذكرون الأصنام في ذلك الوقت لأن أذهانكم مغمورة بذكر الله وحده، والمقصود من الآية تبكيت الكفار كأنه قيل: إذا كنتم ترجعون عند نزول الشدائد إلى الله تعالى لا إلى الأصنام فلم تقدمون عبادتها؟ وفيه أن مبنى الدين على الحجة والدليل لا على محض التقليد. ثم سلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن أعلمه أنه قد أرسل قبله إلى أقوام بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا وأصروا على كفرهم خلاف الأقوام المذكورين الذين يفزعون إلى الله في الشدائد، ويحتمل أن يقال: إن حكم الطائفتين واحد لأن التضرع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 واللجأ إلى الله لطلب إزالة البلية لا على سبيل الإخلاص غير معتبر. وفي الآية محذوف تقديره: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ رسلا فخالفوهم فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وحسن الحذف لكونه مفهوما. والبأساء والضراء البؤس والضر. أو البأساء القحط والجوع، والضراء الأمراض والأوجاع والرزايا لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ يتذللون ويتخشعون وأصله الانقياد وترك التمرد. ضرع الرجل ضراعة فهو ضارع أي ذليل ضعيف. احتج الجبائي بالآية على أنه تعالى إنما أرسل الرسل إليهم وسلط هذه البأساء والضراء عليهم إرادة أن يتضرعوا ويؤمنوا، فهو يريد الإيمان والطاعة من الكل. وأجيب بأن الترجي في حقه تعالى محال فإنهم يحملونه على الإرادة، ونحن نحمله على أنه تعالى يعاملهم معاملة المترجي. فالترجيح على أن الفسق وتزيين الشيطان وكل ما يفرضونه لا بد أن ينتهي إلى خلق الله وتكوينه. أما قوله فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا فمعناه نفي التضرع كأنه قيل: فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا. ولكنه جاء بلولا التحضيضية ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا العناد والقسوة والإعجاب، ثم بين أنه لما لم ينجع فيهم المواعظ والزواجر نقلهم من البأساء والضراء إلى الراحة والرخاء ففتح أبواب الخيرات عليهم وسهل موجبات المسرات لديهم كما يفعله الأب المشفق لولده، يخاشنه تارة ويلاينه أخرى. ومعنى كُلِّ شَيْءٍ أي كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أي ظنوا أن ذلك باستحقاقهم ولم يزيدوا إلا بطرا وترفها أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً قال الحسن: مكر بالقوم ورب الكعبة. وقال صلى الله عليه وسلم «إذا رأيت الله تعالى يعطي العاصي فإن ذلك استدراج من الله تعالى» «1» . قال العلماء: وإنما أخذوا في حال الراحة والرخاء ليكون أشد لتحسرهم على ما فات من السلامة والعطاء فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ آيسون من كل خير. وقال الفراء: المبلس الذي انقطع رجاؤه. ويقال للذي سكت عند انقطاع حجته قد أبلس. وقال الزجاج: المبلس الشديد الحسرة الحزين. «وإذا» هاهنا للمفاجأة وهي ظرف مكان «وهم» مبتدأ ومُبْلِسُونَ خبره وهو العامل في «إذا» فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الدابر للشيء من خلفه كالولد للوالد. دبر فلان القوم يدبرهم دبورا ودبرا إذا كان آخرهم. أبو عبيدة: دابر القوم آخرهم الذي يدبرهم. الأصمعي: الدابر الأصل قطع الله دابره أي أصله وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حمد نفسه على أن لم يترك منهم أحدا واستأصلهم لأن ذلك جار مجرى النعمة على أولئك الرسل، أو على أولئك الهالكين كيلا يزيدوا كفرا وعنادا فيزدادوا عذابا وعقابا، أو حمد على ما أنعم عليهم قبل   (1) رواه أحمد في مسنده (4/ 145) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 ذلك وهو أن كلفهم وأزال عنهم الأعذار والعلل وبعث الأنبياء والرسل وأخذهم بالبأساء والضراء ثم نقلهم إلى الآلاء والنعماء إلا أنهم لم يزدادوا إلا انهماكا في الغي والضلال فطهر وجه الأرض من شركهم. وفيه إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك كل ظالم فإن ذلك من جملة آلاء الله سبحانه، ثم عاد إلى الدلالة على وجود الصانع الحكيم المختار وبيان وحدته جل جلاله فقال قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ وتقرير ذلك أن أشرف أعضاء الإنسان هو السمع والبصر والقلب كما عدّدنا منافعها في أوائل الكتاب، ولا ريب أن القادر على تحصيل قواها فيه وصرفها عن الآفات والمخافات ليس إلا الله وحده، ومعنى أخذ السمع والبصر تعطيل منافعهما، ومعنى الختم على القلب إزالة العقل حتى يصير كالمجانين. قال ابن عباس: إنه الطبع أو الإماتة حتى لا يعقل الهدى والصلاح يَأْتِيكُمْ بِهِ أي بذلك الذي أخذ من السمع والبصر والقلب، فوضع الضمير موضع اسم الإشارة بناء على أن الضمير المذكور بحكم الاستعمال يلزم أن يكون لذي عقل ولو فرضا. والأحسن أن يقال: إنه ذكر أشياء متعددة فوجب أن يعود الضمير إلى جميعها مؤنثا إذ لا ترجيح، وحيث لم يكن الضمير مؤنثا علم أنه أراد المذكور مطلقا فتعين أن يشار إليه بذلك. ثم إنه أقام الضمير المذكور مقامه أو يعود إلى ما أخذ وختم عليه وصح من غير التكلف المذكور بحكم التغليب انْظُرْ يا محمدا وكل من له أهلية النظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نوردها على الوجوه المختلفة المتكاثرة بحيث يكون كل واحد منها يقوّي ما قبله في الإيصال إلى المطلوب. ومعنى «ثم» التفاوت بين الحالين. ويَصْدِفُونَ أي يعرضون. ويقال: امرأة صدوف للتي تعرض وجهها عليك ثم تصدف أي تعرض. والصدف ميل في الحافر إلى الشق الوحشي. وصدف الدرة غشاؤها لميل فيه، قال الكعبي: لو خلق الله فيهم الإعراض والصد لم ينكر ذلك عليهم. وقالت الأشاعرة: لولا منع الله تعالى لنجع فيهم الدلائل القاطعة للأعذار. ثم عمم الدليل بقوله قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ والمعنى أنه لا دافع لنوع من أنواع العذاب إلا الله سبحانه فوجب أن لا يكون معبودا إلا هو. ثم العذاب المفروض إما أن يجيء من غير سبق أمارة تدل على ذلك وهو البغتة وأكثر ما يكون ذلك بالليل، أو مع سبق أمارة وهو الجهرة وأكثره بالنهار ولهذا قال الحسن: معناه ليلا أو نهارا. أما قوله هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ أي لا يهلك مع قوله وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً فمعناه أن الهلاك بالحقيقة وهو هلاك التعذيب والسخط مختص بالظالمين الأشرار لأن الأخيار وإن عمهم العذاب إلا أنهم يستفيدون بذلك ثوابا جزيلا، فهو لهم بلاء في الظاهر وآلاء في الحقيقة خلاف الظلمة فإنهم يخسرون الدنيا والآخرة ومثله قوله صلى الله عليه وسلم «إن أمر المؤمن خير كله إن أصابته ضراء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 فصبر كان خيرا له وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له» «1» . واعلم أنه ذكر هاهنا أَرَأَيْتَكُمْ مرتين فزاد خطابا واحدا، لأن عذاب الاستئصال ما عليه من مزيد فناسب زيادة الخطاب لأجل التأكيد، وفيما بينهما قال أَرَأَيْتُمْ حيث لم يكن كذلك، وكذلك في يونس. ثم ذكر أن الأنبياء والرسل بعثوا للتبشير والإنذار فقط ولا قدرة لهم على إظهار الآيات وإنزال المعجزات التي اقترحوها في قوله وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وأن ذلك مفوّض إلى مشيئة الله وحكمته فقال وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ بالثواب على الطاعات وَمُنْذِرِينَ بالعقاب على المعاصي. فمن قبل قولهم وأتى بالإيمان الذي هو من أفعال القلب والعمل الصالح الذي هو من أفعال البدن فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ ومعنى المس التقاء الشيئين من غير فصل. قال في الكشاف: جعل العذاب ماسا كأنه حي يفعل بهم ما يريد من الآلام وفيه نظر، لأن المس ليس من خواص الأحياء، نعم إنه من خواص الأجسام، فلو ادعيت المبالغة من هذا الوجه لم يكن بعيدا. قال القاضي: إنه علل عذاب الكافرين بكونهم فاسقين فيكون كل فاسق كافرا. وأقول: هذا من باب إيهام العكس ولا يلزم العكس، فإن كل كافر فاسق ولا يلزم العكس. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينفي عن نفسه أمورا ثلاثة فقال قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وهي جمع خزانة للمكان الذي يخزن فيه الشيء، وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ قال في الكشاف: محله النصب عطفا على محل قوله عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ لأنه من جملة المقول أي لا أقول لكم ذاك ولا هذا. قلت: ويحتمل أن يكون عطفا على لا أَقُولُ أي قل لا أعلم الغيب فيكون فيه دلالة على أن الغيب بالاستقلال لا يعلمه إلا الله بخلاف كون خزائن الله عنده وكونه ملكا فإن النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون له هذه المقامات ولكن لا يظهرها. واختلف المفسرون في فائدة نفي هذه الأمور فقيل: المراد إظهار التواضع والخضوع لله تعالى والاعتراف بعبوديته حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح عليه السلام. وقيل: المقصود إبداء العجز والضعف وأنه لا يستقل بإيجاد المعجزات التي كانوا يقترحونها كقولهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى قوله هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 93] وقيل: أي لا أدّعي سوى النبوّة والرسالة ولا أدّعي الإلهية ولا الملكية وإنما زيد هاهنا لَكُمْ بخلاف سورة هود حيث قال وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [الآية: 31] لأنه تقدم ذكر لكم في قوله إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ [هود: 25] فاكتفى بذلك. قال الجبائي: في الآية دلالة على أن الملك أفضل إذ   (1) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث 64. أحمد في مسنده (4/ 332، 333) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 المراد لا أدّعي فوق منزلتي. قال القاضي: إن كان الغرض التواضع فالأقرب أن ذلك يدل على أن الملك أفضل، وإن كان المراد نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على أفضلية الملائكة. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قيل: هذا النص يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم من تلقاء نفسه بالاجتهاد في شيء من الأحكام، ولا يجوز لأحد من أمته أن يعمل إلا بالوحي النازل عليه لقوله تعالى فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] فلا يجوز العمل بالقياس، وأكد هذا الحكم بقوله قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وذلك أن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى، والعمل بمقتضى الوحي يقوم مقام عمل البصير. ثم قال أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ تنبيها على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين. وأجيب بأن أصل الاجتهاد والقياس إذا كان بالوحي لم يلزم الضلالة، والآية مثل للضال والمهتدي أو لمن ادعى المستقيم وهو النبوة والمحال وهو الإلهية والملكية أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فلا تكونوا ضالين كالعميان، أو فتعلموا أني ما ادعيت سوى ما يليق بالبشر والله تعالى أعلم وأحكم. التأويل: وَما مِنْ دَابَّةٍ تدب في أرض البشرية وتتحرك من الحواس والجوارح والنفس وصفاتها إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ في السؤال عن أقوالهم وأحوالهم كقوله إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء: 36] ما فَرَّطْنا ما تركنا في القرآن من شيء يحتاج إليه الإنسان ظاهره وباطنه، ذاته وصفاته في السير إلى الله من الأوامر والنواهي والندب والآداب. ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ هاهنا بالسير وجذبات العناية، أو هناك بالسلاسل والأغلال يسحبون في النار في نار القطيعة على وجوههم لأن من شأنهم التكذيب كما قال وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بدلائلنا الموصلة إلينا صُمٌّ آذان قلوبهم عن استماع الحق بُكْمٌ ألسنة أحوالهم عن إجابة دعوة الحق في ظلمات صفات البشرية والأخلاق الذميمة. بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ لأن رجوعه إلى ربه مركوز في روحانيته. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ أي أرسلنا إليهم نعمة الصحة والكفاف والأمن فشغلوا بها عنا، فأرسلنا إليهم بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة ندعوهم بها إلينا فلم يهتدوا فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ التي هي موجبة للإلجاء. فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وعلموا أن حقائق ألطافنا مدرجة في دقائق صور قهرنا، وتحققوا أن درر محبتنا مستودعة في أصداف شدائد بأسنا، فاستقبلوها بصدق الالتجاء وحسن التضرع في الدعاء. فَلَمَّا نَسُوا بسبب القساوة ما ذُكِّرُوا بِهِ من معارضة البأساء والضراء فإنها تذكر أيام الرخاء وتعرّف قدر الصحة والنعماء وتؤدي إلى رؤية المنعم فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من البلاء في صورة النعماء لأرباب الظاهر بالنعم الظاهرة من المال والجاه والقبول وأمثالها، ولأرباب الباطن بالنعم الباطنة من فتوحات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 الغيب وأشباهها حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا وظنوا أنهم قد استغنوا عن صحبة الشيخ وتعليم تصرفاته فشرعوا في الطلب على وفق هواهم أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً بفقد الأحوال والاشتغال بالقال فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ متحيرون في تيه الغرور. والحمد لله على إظهار اللطف لأربابه والقهر لأصحابه ليعلم أن الكل بقدر كما قال قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية إلا القوم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم بصرف استعداد عبودية المولى في عبادة الهوى. فأما من ابتلي بعذاب الله من الآفات والمخافات والأمراض ونحوها ابتلاء فتاب ورجع فهو غيرها لك على الحقيقة قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ لم يقل ليس عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ ليعلم أن خزائن الله وهي العلم بحقائق الأشياء وماهياتها عنده بإراءة سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] وباستجابة دعائه في قوله «أرنا الأشياء كما هي» ولكنه يكلم الناس على قدر عقولهم. وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي لا أقول لكم هذا مع أنه كان يخبرهم عما مضى وعما سيكون بإعلام الحق، وقد قال صلى الله عليه وسلم في قصة ليلة المعراج «نظرت خلفي نظرة علمت ما كان وما سيكون» وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وإن كنت قد عبرت عن مقام الملك حين قلت لجبريل: تقدم فقال: لو دنوت أنملة لاحترقت إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أن أخبرهم وقل معهم. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ فلا يستوي مع الأعمى كلام البصير فكيف أخبركم عما أعمى الله بصائركم عنه وأنا به بصير. قوله تعالى: [سورة الأنعام (6) : الآيات 51 الى 60] وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 القراآت: بِالْغَداةِ مضموم الغين ساكن الدال مفتوح الواو وكذا في الكهف: ابن عامر. الباقون: بفتح الغين والدال وبالألف أَنَّهُ بالفتح فَأَنَّهُ بالكسر: أبو جعفر ونافع. وقرأ ابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب جميعا بالفتح. الباقون: بالكسر فيهما وليستبين بياء الغيبة: زيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل. الباقون: بالتاء الفوقانية سَبِيلُ بالنصب: أبو جعفر ونافع وزيد. الباقون: بالرفع يَقُصُّ ابن كثير وأبو جعفر ونافع وعاصم. الباقون يقضي الحق. الوقوف: يَتَّقُونَ هـ وَجْهَهُ ط الظَّالِمِينَ هـ مِنْ بَيْنِنا ط بِالشَّاكِرِينَ هـ الرَّحْمَةَ ط لمن قرأ أَنَّهُ بكسر الألف رَحِيمٌ هـ الْمُجْرِمِينَ هـ مِنْ دُونِ اللَّهِ ط أَهْواءَكُمْ لا لتعيين «إذا» بما قبله أي قد ضللت «إذا» اتبعت الْمُهْتَدِينَ هـ وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ط تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ط لِلَّهِ ط الْفاصِلِينَ هـ وَبَيْنَكُمْ ط بِالظَّالِمِينَ هـ إِلَّا هُوَ ط وَالْبَحْرِ ط مُبِينٍ هـ مُسَمًّى ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار مع اتحاد المقصود. تَعْمَلُونَ هـ. التفسير: لما وصف الرسل بكونهم مبشرين ومنذرين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإنذار وهو الإعلام بموضع المخافة فقال له وَأَنْذِرْ بِهِ قال ابن عباس والزجاج: أي بالقرآن وهو المذكور هنا في قوله إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [الأنعام: 50] وقال الضحاك: أي بالله. قيل: والأول أولى لأن الإنذار والتخويف إنما يقع بالقول وفيه نظر، لأن الإنذار لا نزاع فيه أنه قول ولكن المنذر به قلما يكون قولا لقوله وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ [غافر: 18] فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى [الليل: 14] ولو زعم أن المراد وأنذرهم النار والعذاب بواسطة القرآن قلنا: فقدر مثله هاهنا، والمعنى أنذرهم العذاب بقول ينبىء عن شدة سخط الله وعقوبته. أما الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا فقيل: إنهم الكافرون الذين سبق ذكرهم، فلعل ناسا من المشركين من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقا فيهلكوا فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار فأمر أن ينذر هؤلاء دون المتمردين منهم. ثم قال هذا القائل ولا يجوز حمله على المؤمنين لأنهم يعلمون أنهم يحشرون، والعلم خلاف الخوف والظن. وضعف بأن الخوف شامل للناس كافة لعدم الجزم بالثواب وقبول الطاعة وإن كانوا مقرين بصحة الحشر والنشر فالظاهر أن الضمير يتناول الكل لأن العاقل لا بد أن يخاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 الحشر سواء كان جازما به أو شاكا فيه. وأيضا إنه مأمور بتبليغ الكل فلا وجه للتخصيص. وقيل: إنهم قوم مسلمون مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه لعلهم يدخلون في زمرة أهل التقوى من المسلمين. وقيل: هم أهل الكتاب لأنهم مقرون بالبعث. ومعنى إِلى رَبِّهِمْ إلى حكمه وقضائه فلا يلزم منه مكان ولا جهة. أما قوله لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ فقال الزجاج: إن الجملة في موضع الحال من ضمير يُحْشَرُوا أي يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعا لهم. فإن كان الضمير للكفار فظاهر، وإن كان للمؤمنين فشفاعة الملائكة والرسل إذا كانت بإذن الله تعالى فإنها تكون بالحقيقة من الله تعالى فصح أنه ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع، ولا بد من هذه الحال لأن الحشر مطلقا ليس مخوفا وإنما المخوف هو الحشر على هذه الحالة لأنهم اعتقدوا أن لا ناصر ولا شفيع إلا الله وإذا لم يكن الله ناصرا وشفيعا لزم أن لا يكون ناصرا أصلا. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ قال ابن عباس: لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي. قالت المعتزلة: فيه دلالة على أنه أراد من الكفار التقوى والطاعة. وأجيب بأن الترجي راجع إلى العباد. ولما أمر بإنذار عموم المكلفين ليتقوا أردفهم بذكر المتقين وأمر بتقريبهم وإكرامهم. روي عن ابن مسعود أن الملأ من قريش مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم- وعنده صهيب وبلال وخباب وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين- فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء أتريد أن نكون تبعا لهؤلاء؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك. فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنا بطارد المؤمنين. فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت. فقال: نعم طمعا في إيمانهم. وروي أن عمر قال له: لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون. ثم إنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: اكتب بذلك كتابا، فدعا بالصحيفة وبعلي ليكتب فنزلت وَلا تَطْرُدِ الآية. فرمى بالصحيفة واعتذر عمر عن مقالته. قال سلمان وخباب: فينا نزلت. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا وندنو منه حتى تمس ركبتنا ركبته، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الكهف: 28] فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه. وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات، أثنى الله عليهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي. قال ابن عباس والحسن ومجاهد: أي يصلون صلاة الصبح والعصر. وقيل: أي يذكرون ربهم طرفي النهار، والمراد بالغداة والعشي الدوام. والغداة لغة ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، والعشي ما بين الزوال إلى الغروب. قال الجوهري: غدوة بالتنوين نكرة وبدونه معرفة غير مصروفة كسحر. ومحل يُرِيدُونَ وَجْهَهُ نصب على الحال أو على الاستئناف كأنه قيل: ما أرادوا بالمواظبة على الدعاء؟ فأجيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 بقوله يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ولا يثبت به لله تعالى عضو كما زعمت المجسمة ولكن المراد به التعظيم، فقد يعبر به عن ذات الشيء أو حقيقته كما يقال: هذا وجه الرأي وذاك وجه الدليل. وأيضا المحبة تستلزم طلب رؤية الوجه فلهذا السبب جعل الوجه كناية عن المحبة وطلب الرضا. ثم علل النهي بقوله ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قيل: الضمير عائد إلى المشركين أي لا يؤاخذوا بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويدعوك ذلك إلى أن تطرد المؤمنين، والأولى أن يعود إلى الفقراء ليناسب قوله فَتَطْرُدَهُمْ كما في قصة نوح إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشعراء: 113] وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم وقالوا: يا محمد إنهم قبلوا دينك ولازموك لأجل المأكول والملبوس فقال الله تعالى: إن كان الأمر على ما زعموا فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر إن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم لا يتعدى إليك كما أن حسابك لا يتعدى إليهم، فالجملتان لهما مؤدى واحد وهو المفهوم من قوله وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه. وقيل: ما عليك من حساب رزقهم من شيء ولا من حساب رزقك عليهم من شيء، وإنما الرازق لك ولهم هو الله سبحانه فدعهم يكونوا عندك، أما قوله فَتَطْرُدَهُمْ فهو جواب النفي في ما عَلَيْكَ وفي انتصاب فَتَكُونَ وجهان: أحدهما أنه جواب النهي، والثاني أنه عطف على فَتَطْرُدَهُمْ على وجه التسبب، لأن كونه ظالما معلوم من طردهم ومسبب عنه، فإن طرد من يستوجب التقريب والترحيب وضع للشيء في غير موضعه ومن هنا طعن بعض الناس في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: كان يقول كلما دخل أولئك الفقراء عليه بعد هذه الواقعة مرحبا بمن عاتبني ربي فيهم أو لفظ هذا معناه. والجواب أنه ما طردهم لأجل الاستخفاف بهم والاستنكاف من فقرهم وإنما أفرد لهم مجلسا تألفا لقلوب المشركين وتكثيرا لسواد الإسلام مع علمه بأنه لا يفوت الفقراء بهذه المصالحة أمر مهم في الدنيا ولا في الدين، فغاية ذلك أنه يكون من باب تبرك الأولى والأفضل، وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الفتن العظيم فَتَنَّا ابتلينا بعض الناس ببعض، فأحد الفريقين وهم الكفار يرى الآخر مقدما عليه في المناصب الدينية فيقول أَهؤُلاءِ المسترذلون مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا كقوله: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [القمر: 25] والفريق الآخر يرى الأول مقدما عليه في الخيرات العاجلة والخصب والسعة الراحة والدعة فيقول: أهذا هو الذي فضله الله علينا. وأما المحققون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله فهو صواب، ولا اعتراض عليه بحكم المالكية وبحسب رعاية الأصلح. وبالجملة فصفات الكمال غير محصورة ولا تجتمع في إنسان واحد البتة بل هي موزعة على الخلائق وكلها محبوبة لذاتها. فكل إنسان يحسد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 صاحبه على ما آتاه الله تعالى من صفة الكمال، فمن عرف سر القدر رضي بنصيب نفسه وسكت عن التعرض لغيره وعاش عيشا طيبا في الدنيا والآخرة. قال هشام بن الحكم الافتتان الاختبار والامتحان، وفيه دليل على أنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند حدوثها. والجواب أنه يعامل المكلف معاملة المختبر وقد مر مرارا. وقالت الأشاعرة: في الآية دلالة على مسألة خلق الأعمال لأن تلك الفتنة التي ألقاها الله تعالى ليست إلا اعتراضهم على الله والاعتراض عليه كفر. فهو تعالى خالق للكفر. وأيضا منة الله عليهم ليست إلا بالإيمان ومتابعة الرسول، فلو كان الموجد للإيمان هو العبد كان العبد هو المان على نفسه. أجاب المعتزلة بأن معنى فتناهم ليقولوا خذلناهم حتى آل أمرهم إلى أن قالوا، فتكون اللام لام العاقبة، وزيف بأنه عدول عن الظاهر مع أنا ننقل الكلام إلى الخذلان فلا بد من الانتهاء إليه تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ بمن يصرف كل ما أنعم به عليه فيما أعطاه لأجله فيظهر أفعاله على حسب معلوم الله تعالى. وقال في الكشاف: أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان، وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق. وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا قال عكرمة: نزلت في الذين نهى الله نبيّه صلى الله عليه وسلم عن طردهم وكان إذا رآهم بدأهم بالسلام، وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام. وقال ماهان الحنفي: أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا عظاما، وأظهروا الندامة والأسف فما أخاله رد عليهم بشيء. فلما ذهبوا وتولوا نزلت الآية. قال في التفسير الكبير: الأقرب أن تحمل الآية على عمومها، فكل من آمن بآيات الله تعالى يدخل تحت هذا التشريف والإكرام ثم أيدى إشكالا وهو أن المفسرين اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يقال في كل واحدة من جميع آي هذه السورة إنها نزلت بسبب الأمر الفلاني؟ قلت: لا استبعاد في أن تنزل السورة دفعة وينزل الصحابة كل آية منها على واقعة تناسبها، كيف وهم أعرف بحقائق التنزيل وأعلم بدقائق التأويل لأنهم أهل مشاهدة الوحي وأرباب مزاولة الأمر والنهي؟! واعلم أن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله، وأنها لا تكاد تنحصر فيجب على المكلف أن يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار والسائح في هذه القفار ليكون دائما مترقيا في معارجها مترقبا أن تفيض عليه الأنوار من مدارجها فيستعد لبشارة سَلامٌ عَلَيْكُمْ ويستأهل لكرامة كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ إما أن يكون أمرا بتبليغ سلام الله إليهم، وإما أن يكون أمرا بأن يبدأهم بالسلام إكراما لهم. قال الزجاج: سَلامٌ إما مصدر «سلمت سلاما وتسليما» مثل: كلمت كلاما وتكليما. ومعناه الدعاء بأن يسلم من الآفات في نفسه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 ودينه، وإما أن يكون جمع سلامة. وقيل: السلام هو الله أي الله عليكم أي على حفظكم ولعل هذا الوجه إنما يتأتى في المعرف لا في المنكر. كَتَبَ رَبُّكُمْ من جملة المقول لهم تبشيرا بسعة رحمة الله وقبوله التوبة. ومعنى كتب على نفسه أوجب على ذاته إيجاب الكرم لا إيجابا يستحق بتركه الذم. وقالت المعتزلة: كونه عالما بقبح القبائح وباستغنائه عنها يمنعه عن الإقدام عليها ولو فعل كان ظلما، وإيجاب الرحمة ينافي القول بأنه منع الكافر من الإيمان ثم أمره حال ذلك المنع بالإيمان ثم يعذبه على ترك ذلك الإيمان، وأجيب بأنه فاعل لما يشاء ولا اعتراض عليه. أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ من قرأ بالفتح فعلى الإبدال من الرحمة، ومن قرأ بالكسر فعلى الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل: إنه من عمل مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ وهو في موضع الحال أي عمله وهو جاهل. والمراد أنه فاعل فعل الجهال لأن من عمل ما يضره في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل السفه لا من أهل الحكمة والتدبير، أو أنه جاهل بعاقبته ومن حق الحكيم أن لا يقدم على ما لا يعرف مآل حاله. ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ بأن يندم على ما فعله وَأَصْلَحَ العمل في المستقبل فَأَنَّهُ غَفُورٌ يزيل العقاب عنه رَحِيمٌ يوصل الثواب إليه من قرأ بالكسر فعلى: أن الجملة جزاء للشرط، ومن قرأ بالفتح فعلى أن الخبر أو المبتدأ محذوف أي فغفرانه كائن أو فأمره أنه غفور. قيل: إن الآية نزلت في عمر حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما طلبوا ولم يعلم أنها مفسدة. وَكَذلِكَ أي كما فصلنا في هذه السورة دلائلنا على التوحيد والنبوة والقضاء والقدر نُفَصِّلُ الْآياتِ ونميزها لك في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل وليستبين معطوف على محذوف كأنه قيل: ليظهر الحق وليستبين، أو معلق بمحذوف أي وليستبين سبيل المجرمين فصلنا ذلك التفصيل البين. من رفع «السبيل» قرأ ليستبين بالياء أو بالتاء لأن السبيل يذكر ويؤنث، ومن نصب السبيل قرأ لِتَسْتَبِينَ بتاء الخطاب مع الرسول يقال: استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته واستبانة سبيل المجرمين تستلزم استبانة طريق المحقين، فلذلك اقتصر على أحدهما كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] ولم يذكر البرد. وإنما ذكر المجرمين دون المحقين لأن طريق الحق واحد والمجرمون أصناف يشتبه أمرهم، فمنهم من هو مطبوع على قلبه، ومنهم من يرجى فيهم قبول الإسلام، ومنهم من دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده فينبغي أن يستوضح سبيلهم ليعامل كلا منهم بما يجب، ومن جملة ذلك أنه نهى عن عبادة معبوداتهم وذلك قوله قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أي صرفت بالدلائل العقلية والسمعية أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ لأن عبادة المصنوع والمخلوق محض التقليد وعين الهوى قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أثبت الضلال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 إذ ذاك ونفى الهدى مع أنهما متلازمان للتقرير والتأكيد، وفيه تعريض بهم أنهم كذلك. ثم نبه على ما يجب اتباعه بقوله قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي على حجة واضحة من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه وَكَذَّبْتُمْ أنتم به حيث أشركتم به غيره. يقال: أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه إذا كان ثابتا عنده بدليل. وقيل: أي على حجة من جهة ربي وهي القرآن وَكَذَّبْتُمْ بِهِ أي بالبينة وذكر الضمير على تأويل القرآن أو البيان. ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: 32] قال الكلبي: نزلت في النضر بن الحرث ورؤساء قريش كانوا يقولون: يا محمد آتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء منهم. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ مطلق يتناول الكل. فقال الأشاعرة: لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله تعالى فيمتنع منه فعل الكفر إلا بإرادة الله، واحتجت المعتزلة بقوله يقضي الحق أي كل ما قضى به فهو الحق، وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر ولا المعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق. ويمكن أن يقال: إن جميع أحكامه حق وصدق ولا اعتراض لأحد عليه بحكم المالكية. وانتصاب الْحَقَّ على أنه صفة مصدر أي يقضي القضاء الحق، أو مفعول به من قولهم: قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره. ومثله من قرأ يقصر الحق كقوله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 2] أي يقول الحق أو يتبعه من قص أثره وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أي القاضين، وإنما كتب يقض في المصاحف بغير ياء لأنها سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين، وليوافق قراءة يَقُصُّ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي أي في قدرتي وإمكاني ما تَسْتَعْجِلُونَ من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ أمر الإهلاك بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ عاجلا غضبا لربي وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ فيؤخر عقابهم إلى وقته وأنا لا أعلم ما يجب في الحكمة من وقت عقابهم ومقداره. فإن قلت: أما يناقض هذا قوله فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا [الكهف: 6] فإن استعجال الهلاك ينافي الحرص على الإيمان، لأن من حرص على إيمان أحد حرص على طول حياته طمعا في إيمانه. قلت: لا، بل يؤكده لاشتراك كل من الحكمين في الاستعجال اللازم للبشرية في قوله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [الإسراء: 11] ثم بين سبحانه أعلميته بقوله على سبيل الاستعارة وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ أراد أنه المتوصل إلى المغيبات وحده كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها ولم يمنعه من ذلك مانع، والمفاتح جمع مفتح وهو المفتاح، أو جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن، قال الحكيم في بيانه: إن العلم بالعلة التامة يوجب العلم بالمعلول وكل ما سوى الواجب فإنه موجود بإيجاده وتكوينه بواسطة أو بوسائط، فعلمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 بذاته يوجب العلم بجميع آثاره على ترتيبها المعتبر- كليات كانت أو جزئيات- وعلمه بذاته لم يحصل إلا لذاته فصح أن يقال: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو. وفيه أنه لا ضد له ولا ند إذ لو كان في الوجود واجب آخر لكانت مفاتح الغيب حاصلة أيضا عنده فيبطل هذا الحصر، ولا يمكن أن تكون هذه المفاتح عند شيء من الممكنات لأن المحاط لا يحيط بمحيطه فلا يحيط ما دون الواجب بالواجب، فلا يكون المفتاح الأوّل للعلم بجميع المعلومات إلا عنده. ثم إن قوله وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ قضية معقولة مجردة، والإنسان الذي يقوي على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جدا والقرآن إنما نزل لينتفع به جميع الناس فذكر من الأمور المحسوسة الداخلة تحت تلك القضية الكلية أمثالا لها ليعين الحس العقل فقال وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لأن ذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظيمة لذلك المعقول، وقدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر وكثرة ما فيه من المدن والقرى والجبال والتلال والمعادن والنبات والحيوان، وأما البحر فإحاطة الحس بأحواله أقل مع كثرة ما فيها من العجائب والغرائب أيضا. ثم أفرد من هذه المحسوسات قسما فقال وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها أي لا يتغير حال ورقة إلا والحق يعلمها. ثم عدل عن التعجيب من كثرة المدركات إلى التعجيب من صغر المدرك وخفائه فقال وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وفي تخصيص الحبة والورقة تنبيه للمكلفين على أمر الحساب لأنه إذا كان بحيث لا يهمل أمر الأشياء التي ليس لها ثواب ولا عقاب فلأن لا يهمل أمر المكلفين أولى. ثم عاد إلى ذكر القضية الكلية المجردة بعبارة أخرى فقال وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ قال في الكشاف: ولا حبة ولا رطب ولا يابس عطف على ورقة وداخل في حكمها كأنه قيل: وما يسقط شيء من هذه الأشياء إلا وهو يعلمه. وقوله إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كالتكرير لقوله إِلَّا يَعْلَمُها ومعنى إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ واحد. والكتاب المبين علم الله أو اللوح. قال علماء التفسير: يجوز أن يكون الله جل شأنه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق لتقف الملائكة على نفاذ علمه في المعلومات وأنه لا يغيب عنه شيء، فيكون في ذلك عبرة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في العالم فيجدونه موافقا له. أو لأنه إذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع تغيرها وإلا لزم الكذب أو الجهل فتصير كتبة جملة الأحوال في ذلك الكتاب سببا تاما في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم. ثم لما بين كمال علمه أردفه ببيان كمال قدرته بقوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ أي يتوفى أنفسكم التي بها تقدرون على الإدراك والتمييز. وذلك أن الأرواح الجسمانية تغور حالة النوم من الظاهر إلى الباطن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 فتتعطل الحواس عن بعض الأعمال، وأما عند الموت فتصير جملة البدن معطلة عن كل الأعمال فلهذا كان النوم أخا الموت فصح إطلاق لفظ الوفاة على النوم من هذا الوجه وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ أي ما كسبتم من العمل بالنهار ومنه الجوارح للأعضاء وللسباع ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي يردّ إليكم أرواحكم بالنهار لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أي أعماركم المكتوبة. وقضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت. ثم لما ذكر أنه يميتهم أولا ثم يوقظهم ثانيا كان ذلك جاريا مجرى الإحياء بعد الإماتة فلا جرم استدل بذلك على صحة البعث في القيامة فقال ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في ليلكم ونهاركم وجميع أحوالكم وأوقاتكم. واعلم أن في هذه الآية إشكالا لأن قوله وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ كان ينبغي أن يكون بعد قوله ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ فإن البعث في النهار مقدم على الكسب فيه بل على تعلق العلم بالكسب. ويمكن أن يجاب بأن المراد ويعلم ما جرحتم في النهار الماضي بدليل قوله جَرَحْتُمْ دون «تجرحون» ثم يبعثكم في النهار الآتي. والغرض بيان إحاطة علمه وقدرته بالزمانين المحيطين بالليل. ولعل صاحب الكشاف لمكان هذا الإشكال عدل عن هذا التفسير إلى أن قال: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ والخطاب للكفرة أي أنتم منسدحون الليل كالحيف. والانسداح الانبطاح أو الاستلقاء وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ما كسبتم من الآثام فيه ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ من القبور فِيهِ أي في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام في النهار ومن أجله كقولك: فيم دعوتني؟ فيقول: في أمر كذا لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وهو المرجع إلى موقف الحساب. والأصوب عندي أن يقال: الخطاب عام، وكذا الكسب في النهار فينبغي أن لا يقيد بالآثام. أما الضمير في فِيهِ فيكون جاريا مجرى اسم الإشارة إلى الكسب. والبعث هو البعث من القبور إلى آخر ما قال والله أعلم. التأويل: وَأَنْذِرْ بِهِ أي بهذه الحقائق والمعاني الَّذِينَ يَخافُونَ أي يرجون أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ بجذبات العناية ويتحقق لهم أن لَيْسَ لَهُمْ في الوصول إلى الله مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ من الأولياء وَلا شَفِيعٌ يعني من الأنبياء، لأن الوصول لا يمكن إلا بجذبات الحق. وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ أخبر عن الفقراء أنهم جلساؤه بالغداة والعشي كما قال «أنا جليس من ذكرني» فلا تطردهم عن مجالستك فإنهم يطلبوني في متابعتك لا يريدون الدنيا ولا الآخرة ولكن يريدون وجهه. وكل له سؤل ودين ومذهب ... ووصلكم سؤلي وديني رضاكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 قال المحققون: الإرادة اهتياج يحصل في القلب يسلب القرار من العبد حتى يصل إلى الله. فصاحب الإرادة لا يهدأ ليلا ولا نهارا، ولا يجد من دون الوصول إلى الله سبحانه سكونا ولا قرارا ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني الذي لنا معك في الحساب من المواصلة والتوحيد في الخلوة فإنهم ليسوا في شيء من ذلك ليكون عليك ثقلا وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي الذي لنا معهم في الحساب من التفرد للوصول والوصال ليس لك إلى ذلك حاجة ليثقل عليهم فَتَطْرُدَهُمْ فتكسر قلوبهم بالطرد فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ بوضع الكسر مقام الجبر فإنك بعثت لجبر قلوبهم لا لكسر قلوبهم كقوله وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر: 88] وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليشكر الفاضل وليصبر المفضول فيستويان في الفضل فلهذا قيل: لسليمان ولأيوب كليهما: نعم العبد. مع قدرة سليمان على أسباب الطاعة وعجز أيوب عنها. ومن فتنة الفاضل في المفضول رؤية فضله على المفضول أو تحقيره، ومنع حقه عنه في فضله، ومن فتنة المفضول في الفاضل حسده على فضله وسخطه عليه في منع حقه من فضله عنه، فإن المعطي والمانع هو الله. ومنها أن لا يرى الفاضل مستحقا للفضل ليقولوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ إنه سبحانه من كمال فضله على الفقراء حملهم محمل الأكابر والملوك في الدنيا فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: كن مبتدئا بالسلام عليهم وفي الآخرة فألهم الملائكة أن يسلموا عليهم في الجنة سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ [الزمر: 73] بل سلم بذاته عليهم سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] وكل ذلك نتيجة سلامتهم من ظلمة الخلقة بإصابة رشاش النور في الأزل فلهذا قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي الرحمة الخاصة كما خص الخضر في قوله آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا [الكهف: 65] والرحمة العامة كما في الحديث الرباني للجنة «إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي» أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ أي من المؤمنين سُوءاً بِجَهالَةٍ أي بجهالة الجهولية التي جبل الإنسان عليها لا بجهالة الضلالة التي هي نتيجة إخطاء النور فإن هذه لا توبة لها ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ أي رجع إلى الله بقدم السير من بعد إفساد الاستعداد الفطري وأصلح الاستعداد بالأعمال الصالحة لقبول الفيض. قُلْ إِنِّي نُهِيتُ في الأزل بإصابة النور المرشش. ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من عبادة الهوى لَقُضِيَ الْأَمْرُ يعني أمر القتال والخصومات ولاسترحت من أذيتكم لأن الشيء إنما ينفعل عن ضده لا عن شبيهه وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ يعني العلوم العقلية التي هي سبب فتح باب صور عالم الشهادة كالنقاش ينشيء الصور في ذهنه ثم يصوّرها في الخارج. وإنما وحد الغيب وجمع المفاتح لأن عالم الغيب عالم التكوين وهو واحد في جميع الأشياء وفي الملكوت كثرة يعلم التكوين وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وهو عالم الشهادة وَالْبَحْرِ وهو عالم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 الغيب وَبهذا العلم ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ عن شجرة الوجود إِلَّا يَعْلَمُها لأنه مكونها ومسقطها وَلا حَبَّةٍ هي حبة الروح فِي ظُلُماتِ صفات أرض النفس، أو حبة المحبة في ظلمات أرض القلب وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ الرطب المؤمن، واليابس ما سيصير موجودا وما قد صار. أو الرطب الروحانيات، واليابس الجمادات. أو الرطب المؤمن، واليابس الكافر. أو الرطب العالم، واليابس الجاهل. أو الرطب العارف، واليابس الزاهد. أو الرطب أهل المحبة، واليابس أهل السلوة. أو الرطب صاحب الشهود، واليابس صاحب الوجود. أو الرطب الباقي بالله واليابس الباقي بنصيبه وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ليل القضاء وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ نهار القدر أو الليل، ليل صفات البشرية والنهار نهار الشهود في عالم الوحدة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 61 الى 73] وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 القراآت: تَوَفَّتْهُ واسْتَهْوَتْهُ ممالة: حمزة الباقون: بتاء التأنيث قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ من الإنجاء: سهل ويعقوب وعباس. الباقون: بالتشديد وَخُفْيَةً بالكسر حيث كان: أبو بكر وحماد. الباقون: بالضم أَنْجانا ممالة: حمزة وعلي وخلف أَنْجانا بدون الإمالة: عاصم. الباقون أَنْجَيْتَنا قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ بالتشديد: يزيد وحمزة وخلف وعاصم وهشام. الباقون: بالتخفيف بَعْضٍ انْظُرْ وأشباه ذلك بكسر التنوين: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وابن شنبوذ عن أهل مكة، وابن ذكوان يُنْسِيَنَّكَ بالتشديد: ابن عامر. الوقوف: حَفَظَةً ط لا يُفَرِّطُونَ هـ الْحَقِّ ط الْحاسِبِينَ هـ وَخُفْيَةً ط لاحتمال الإضمار أي يقولون لئن أنجيتنا، وتعلق «لئن» بمعنى القول في تَدْعُونَهُ أصح الشَّاكِرِينَ هـ تُشْرِكُونَ هـ بَأْسَ بَعْضٍ ط يَفْقَهُونَ هـ وَهُوَ الْحَقُّ ط بِوَكِيلٍ هـ مُسْتَقَرٌّ ط للإبتداء ب «سوف» على التهديد مع شدة اتصال المعنى يعلمون هـ غَيْرِهِ ج الظَّالِمِينَ هـ يَتَّقُونَ هـ وَلا شَفِيعٌ ط للشرط مع العطف بِما كَسَبُوا لا لانقطاع النظم مع اتصال المعنى، أو لاحتمال أن يكون الَّذِينَ صفة أُولئِكَ وقوله لَهُمْ شَرابٌ خبر الْهُدَى ائْتِنا ج هُوَ الْهُدى ط الْعالَمِينَ لا لأن التقدير وأمرنا بأن أقيموا الصلاة وَاتَّقُوهُ ط تُحْشَرُونَ هـ بِالْحَقِّ ط فَيَكُونُ ط فِي الصُّورِ ط وَالشَّهادَةِ ط الْخَبِيرُ هـ. التفسير: من الدلائل الدالة على كمال قدرته وحكمته قوله وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ والمراد منه الفوقية بالقدرة والتسخير كما يقال: أمر فلان فوق أمر فلان أي أنه أعلى وأنفذ منه، ولا ريب أن الممكنات بأسرها تحت تصرف الواجب ينقلها من حيز العدم إلى حالة الوجود وبالعكس، ويتصرف فيها كيف يشاء، علويات كن أو سفليات، ذوات أو صفات، نفوسا أو أبدانا، أخلاطا وأركانا. ومن جملة قهره إرسال الحفظة- وهي جمع حافظ- على عبيده بضبط أعمالهم من الطاعات والمعاصي والمباحات لأنهم مطلعون على أقوال بني آدم لقوله ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] وعلى أفعالهم بقوله يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار: 12] وأما صفات القلوب كالجهل والعلم فليس في الآيات ما يدل على اطلاعهم عليها. وعن ابن عباس أن مع كل إنسان ملكين: أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين، وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار: انتظر لعله يتوب عنها فإن لم يتوب عنها فإن لم يتب كتب عليه. قالت العلماء: من فوائد هذه الكتبة أن المكلف إذا علم أن الملائكة الموكلين عليه يكتبون أعماله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة كان ذلك زجرا له عن القبائح. ومنها أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة فإن وزن الأعمال غير ممكن. ومنها التعبد فعلى المكلف أن يؤمن بكل ما ورد به الشرع وإن لم يعرف وجه الحكمة في بعض ذلك. وقال بعض الحكماء: الحفظة النفوس والقوى الجسمانية التي تحفظ الأركان مع طبائعها المتضادة على امتزاجها. وقال بعض القدماء: منهم النفوس البشرية والأرواح السفلية مختلفة بجواهرها متباينة بماهياتها، فبعضها خيرة وبعضها شريرة، وكذا القول في الذكاء والبلادة والحرية والنذالة والشرف والخساسة، ولكل طائفة من هذه الأرواح السفلية روح سماوي هو لها كالأب المشفق والسيد الرحيم يعينها على مهماتها في يقظتها ومنامها على سبيل الرؤيا تارة، وعلى سبيل الإلهامات أخرى. فالأرواح الخيرة لها مباد من عالم الأفلاك وكذا الأرواح الشريرة وتلك المبادئ في مصطلحهم تسمى بالطباع التام لأن تلك الأرواح في تلك الطبائع والأخلاق تامة كلها وهذه الأرواح السفلية المتولدة منها أضعف منها لأن المعلول في كل باب أضعف من علته، لأصحاب الطلسمات والعزائم في هذا الباب كلام كثير. وقيل: إن النفوس المفارقة تميل إلى ما يناسبها ويساويها في الطبيعة والماهية من النفوس المتعلقة بالأبدان فتحفظها وتعينها حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي وقته أو أماراته تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا أي بإذننا وتفويضنا فالمتوفى بالحقيقة هو الله تعالى كما قال الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر: 42] . وهؤلاء الرسل أتباع ملك الموت في قوله يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة: 11] وهل هم الحفظة بأعيانهم أم غيرهم فيه قولان: أشهرهما الثاني لكون ملائكة الروح والريحان وهم الريحانيون غير ملائكة الكرب والأحزان وهم الكروبيون. وعن مجاهد: جعلت الأرض مثل الطست لملك الموت يتناول من يتناوله، وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين. وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ لا يقصرون فيما أمرهم الله تعالى به وفيه مدح لهم بالعصمة ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ أي إلى حكمه وجزائه مَوْلاهُمُ الْحَقِّ صفتان والضمير في رُدُّوا إما للملائكة يعني كما يموت بنو آدم يموت أولئك الملائكة، أو إلى البشر أي أنهم بعد موتهم يردون إلى الله تعالى والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب، فإذا ماتوا انتقلوا إلى تصرف المولى الحق. وفيه إشعار بأن الإنسان شيء آخر وراء هذا الهيكل المحسوس فإن هذا الهيكل يبقى ميتا والإنسان مردود إليه تعالى. وفي لفظ الرد إشارة إلى أن الروح كان موجودا قبل البدن وقد تعلق به زمانا ثم ردّ إلى موضعه الأصلي وهو عالم الأرواح بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] أَلا لَهُ الْحُكْمُ كقوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام: 57] وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ حسابا قيل: إنه تعالى يحاسب الخلق بنفسه دفعة واحدة فلا يشغله كلام عن كلام. وقيل: يحاسب كل إنسان واحد من الملائكة بإذن الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 تعالى لأنه لو حاسب الكفار بذاته لتكلم معهم وهو محال لقوله وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [البقرة: 174] وقال الحكيم: معنى سرعة المحاسبة ظهور الملكات في الهيآت على النفس في آن قطع التعلق، قليلة كانت أو كثيرة، حميدة أو ذميمة، وبعد تعارض البعض بالبعض يبقى ما هو أغلب وبحسب ذلك يكون الثواب أو ضده. وذلك أنه لا يحصل للإنسان لحظة ولا لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويظهر منها في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة أو ضدها قل أو كثر وهو المراد بكتبة الأعمال. قال الجبائي- هاهنا: لو كان كلامه قديما لوجب أن يكون متكلما بالمحاسبة الآن وقبل خلقه وذلك محال لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدم. وعورض بالعلم فإنه كان قبل العالم عالما بأنه سيوجد وبعد وجوده صار عالما بأنه وجد ولا يلزم منه تغير العلم. ثم عدّد لطفه وإحسانه بقوله قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مجازا عن مخاوفهما وأهوالهما يقال ليوم الكربة: يوم مظلم وذو كواكب كأنه أظلم عليه وجه الخلاص، ويحتمل أن تكون الظلمات بالحقيقة. وظلمات البر ظلمة الليل وظلمة السحاب، وظلمات البحر هما مع ظلمة الماء. تَدْعُونَهُ في موضع الحال تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً مفعول لأجلهما أو تمييز أو مصدر خاص. والمراد أن الإنسان عند حصول هذه الشدائد يأتي بأمور: أحدها الدعاء. الثاني التضرع. والثالث: الإخلاص بالقلب وهو المعني بقوله وَخُفْيَةً ورابعها: التزام الشكر هو المراد من قوله لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ الظلم والشدة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فبين الله سبحانه أنه إذا شهدت الفطرة السليمة في هذه الحالة بأنه لا ملجأ الا إلى الله ولا معول إلا عليه وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات. ثم بين أنه ينجيهم من تلك المخاوف ومن سائر موجبات الحزن والكرب، ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك الجلي وهو عبادة الأوثان أو الخفي وهو اتباع الهوى. وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك إذا شاهدوا الخوف أخلصوا، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا. ثم ذكر نوعا آخر من دلائل التوحيد مقرونا بنوع من التخويف فقال قُلْ هُوَ الْقادِرُ واللام للعهد أو للجنس فيفيد أنه هو الذي عرفتموه قادر، وهو الكامل القدرة عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كالمطر أو الحجارة مثل ما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كما أغرق فرعون وخسف بقارون. وقيل: من قبل أكابركم وسلاطينكم أو من جهة سفلتكم وعبيدكم. وقيل: هو حبس المطر والنبات أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً هي جمع شيعة أي يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم أن يوقع القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «سألت الله أن لا يبعث على أمتي عذابا من فوقهم أو من تحت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 أرجلهم فأعطاني ذلك. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني» «1» «وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف» قالت الأشاعرة: في قوله أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً دلالة على أن الأهواء المختلفة والآراء الفاسدة والبدع كلها من الله تعالى وفي قوله وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ إشارة إلى أن المعاصي وأنواع الظلم مستندة إلى الله تعالى وقالت المعتزلة: الآية لا تدل إلا على أنه تعالى قادر على القبيح والنزاع في أنه هل يفعل ذلك أم لا؟ وأجيب بأن الآية دلت على أن القدرة على هذه الأمور تختص به، وهذه الأمور واقعة فيكون هو فاعلها بالضرورة انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نقرر الدلائل الواضحات. وقد قال مثل ذلك فيما قبل فالتقدير: انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون فلا نعرض عنهم بل نكررها لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ أي بالعذاب المذكور في الآية السابقة قَوْمُكَ يعني قريشا ومن دان بدينهم وَهُوَ الْحَقُّ أي لا بد أن ينزل بهم. وقيل: أي بالقرآن وهو الحق لأنه كتاب منزل من عند الله. وقيل: أي بتصريف الآيات لأنهم كذبوا كون هذه الأشياء دلالات. قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الدلائل إنما أنا منذر. لِكُلِّ نَبَإٍ لكل خبر يخبره الله تعالى مُسْتَقَرٌّ أي استقرار أو موضع استقرار. والمراد بالنبإ المنبأ به لأن النبأ قد حصل، والمقصود أن لعذاب الله تعالى أو لاستيلاء المسلمين على الكفار بالقتل والأسر والقهر وقتا ومكانا يحصل فيه من غير خلف ولا تأخير وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فيه من التهديد ما فيه. ثم بين أن أولئك المكذبين إن ضموا إلى كفرهم وتكذيبهم الاستهزاء بالدين والطعن في الرسول فإنه يجب الاحتراز عن مجالستهم فقال وَإِذا رَأَيْتَ أيها السامع الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا والخوض في اللغة عبارة عن المفاوضة على وجه اللغو والعبث، ويقرب منه قول المفسرين إنه في الآية الشروع في آيات الله على سبيل الطعن والاستهزاء، وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ بالقيام عنهم لقوله بعد ذلك فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى وقيل: المطلوب إظهار الإنكار وكل طريق أفاد هذا الغرض وإن كان غير القيام عن مجلسهم فإنه يجوز المصير إليه، هذا عند عدم الخوف، أما مع الخوف فهذا الفرض ساقط والتقية واجبة. نعم كل ما أوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم فعله وجب عليه، سواء ظهر أثر الخوف أو لم يظهر وإلا لم يبق الاعتماد على التكاليف التي يبلغها وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ أي يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى بعد أن تذكر النهي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي معهم فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا   (1) رواه مسلم في كتاب الفتن حديث 20. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 9. الموطأ في كتاب القرآن حديث 35. أحمد في مسنده (5/ 240، 243) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 عليهم بالظلم. قال الليث: الذكرى اسم للتذكرة. وقال الفراء: هي الذكر. قال في الكشاف بناء على مذهبه: يجوز أن يراد وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد الذكرى، بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم. قال الجبائي: إذا كان عدم العلم بالشيء يوجب سقوط التكليف، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف، وهذا يدل على أن تكليف ما لا يطاق لا يقع، ويدل على أن الاستطاعة حاصلة قبل الفعل لأنها لو لم تحصل إلا مع الفعل لم يكن الكافر قادرا على الإيمان فوجب أن لا يتوجه عليه الأمر بالإيمان. قال ابن عباس: قال المسلمون: لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزلت الرخصة أن يقعدوا معهم ويذكروهم ويفهموهم بقوله وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ أي الشرك والكبائر والفواحش مِنْ حِسابِهِمْ من ذنوبهم التي يحاسبون عليها مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى أي ولكن يذكرونهم تذكيرا، أو ولكن عليهم أن يذكروهم، أو ولكن الذي تأمرونهم به ذكرى. ولا يجوز أن يكون عطفا على محل مِنْ شَيْءٍ كقول القائل: ما في الدار من أحد ولكن زيد لأن قوله مِنْ حِسابِهِمْ يأبى ذلك فإن الذكرى ليس من حساب المشركين. ثم أكد الإعراض عنهم بقوله وَذَرِ الَّذِينَ والمراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم والمبالاة بهم لا ترك إنذارهم وتخويفهم كقوله فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ [النساء: 63] وصفهم بوصفين الأوّل أنهم اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وفيه وجوه: اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعبا ولهوا حيث سخروا به واستهزؤا، أو اتخذوا ما هو لعب ولهو يعني عبادة الأوثان وغيرها دينا لهم، أو المراد ما كانوا يحكمون به بمجرد التقليد والهوى كتحريم البحائر والسوائب، أو المراد أن المشركين وأهل الكتاب اتخذوا أعيادهم لعبا ولهوا لا كالمسلمين حيث اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى. قال ابن عباس: أو هو إشارة إلى من جعل دين الإسلام وسيلة إلى المناصب والرياسات والغلبة والجلال لا لأنه حق وصدق في نفسه، ويؤكد هذا الوجه الوصف الثاني وهو قوله وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا كأنهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوسلوا بها إلى حطام الدنيا وَذَكِّرْ بِهِ أي بالقرآن أو بالدين القويم مخافة أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ قال الحسن ومجاهد: أن تسلم إلى الهلاك والعذاب وترتهن بسوء فعلها وأصله المنع فالمسلم إليه وهو العذاب يمنع المسلم ومنه الباسل الشجاع لامتناعه من قرنه. وقال قتادة: تحبس في جهنم. وعن ابن عباس: تفتضح لَيْسَ لَها أي النفس مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ إن تفد كل فداء لأن الفادي يعدل المفدى بمثله لا يُؤْخَذْ مِنْها قال في الكشاف: فاعل يُؤْخَذْ قوله مِنْها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 لا ضمير العدل لأن العدل هاهنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ. وأما في قوله وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ فبمعنى المفدى به فصح إسناده. قلت: إن فسر الأخذ بالقبول كما في قوله وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ [التوبة: 104] ارتفع الفرق. أُولئِكَ المتخذون هم الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا ثم بين ما به صاروا مرتهنين وعليه محبوسين بقوله لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ ثم رد على عبدة الأصنام بقوله قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ النافع الضار ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا أي لا يقدر على النفع والضر وَنُرَدُّ داخل في الاستفهام أي أنرجع إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله تعالى منه وهدانا للإسلام، فإن الردة عود الى الحالة الأولى التي كان الإنسان عليها من الجهل كقوله وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النحل: 78] كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ محله النصب على الحال من الضمير في نُرَدُّ أي أننكص على العقبين مشبهين من استهوته وهو استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها كأن معناه طلبت هويه أي سقوطه من الموضع العالي إلى الوهدة العميقة كقوله: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ [الحج: 31] وقيل: اشتقاقه من اتباع الهوى وحَيْرانَ حال أخرى لكن من الضمير في اسْتَهْوَتْهُ وكذا الجملة بعده. ومعنى الحيرة التردد في الأمر بحيث لا يهتدي إلى مخرجه منه. ومنه تحيرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء. لَهُ أي لهذا المستهوي أَصْحابٌ رفقة يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى أي إن يهدوه الطريق المستوي فيكون مصدرا. وسمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له ائْتِنا أو الدعاء في معنى القول وهذا بناء على ما تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن والغيلان تستهوي الإنسان وتستولي عليه، فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان، والمسلمون يدعونه إلى الحق وقد اعتسف المهمة تابعا للجن غير ملتفت إليهم. وقيل: إن لذلك الكافر أصحابا يدعونه إلى ذلك الضلال ويسمونه بأنه هو الهدى. وروي أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فإنه كان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ وهو الإسلام هُوَ الذي يحق أن يسمى هدى وما وراءه غي وضلال وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا قال الزجاج: لا بد من تأويل ليستقيم العطف فالتقدير: وأمرنا لنسلم ولنقيم، أو أمرنا أن أسلموا وأن أقيموا. قيل: والسر في العدول عن الظاهر أن المكلف كالغائب ما لم يسلم فإذا أسلم صار كالحاضر. وتقرير الآية أن متعلق الأمر إما أن يكون من باب الأفعال أو من باب التروك. والأول إما أن يكون من أفعال القلوب أو من أفعال الجوارح، ورئيس أفعال القلوب الإيمان بالله والإسلام وهو قوله لِنُسْلِمَ ورئيس أعمال الجوارح الصلاة وهو قوله وَأَنْ أَقِيمُوا ثم أشار إلى جوامع التروك بقوله وَاتَّقُوهُ ثم قال وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ليعلم أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 ثم دل على وجود الحاشر بقوله وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قائما أو ملتبسا بِالْحَقِّ بالحكم اللطيفة والغايات الصحيحة والأغراض المطابقة، وذلك أنه أودع في هذه الأجرام قوى وخواص وآثارا تتضمن مصالح الأبدان ومباهج نوع الإنسان وهكذا خلق يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ فقوله فاعل فَيَكُونُ ويَوْمَ مفعول خَلَقَ والمعنى أنه تعالى خلق العالم من الأفلاك والطبائع والعناصر والمواليد، وخلق يوم القيامة لرد الأرواح إلى الأجساد بطريق «كن فيكون» وعلى هذا يجوز أن يكون قوله الْحَقُّ مبتدأ وخبرا مستأنفا، أو قوله الْحَقُّ مبتدأ ويَوْمَ يَقُولُ ظرف دال على الخبر مثل «يوم الجمعة القتال» أي القتال واقع يوم الجمعة. والمراد أن قضاءه في ذلك اليوم حق وصدق خال عن الجور والعبث وَيَوْمَ يُنْفَخُ ظرف لقوله وَلَهُ الْمُلْكُ كقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] والمقصود أنه لا ملك في ذلك اليوم إلا له من غير دافع ولا منازع. والصور باتفاق أكثر أهل الإسلام قرن ينفخ فيه ملك من الملائكة كما جاء في مواضع من القرآن وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ [الزمر: 68] ففزع فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [المدثر: 8] وقال أبو عبيدة: الصور جمع صورة مثل صوف وصوفة. وخطأه الأئمة فقالوا: كل جمع على لفظ الواحد سبق جمعه واحده فواحده بزيادة هاء فيه كالصوف، أما إذا سبق الواحد الجمع فليس كذلك كغرفة وغرف ولهذا يجمع صورة الإنسان على صور بالفتح كقوله فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر: 64] ومن أسكن فقد أخطأ، ومما يدل على أن الصور هو القرن لا جمع صورة الإنسان أنه تعالى لم يضف النفخ إلى نفسه كما قال وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: 72] فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [الأنبياء: 91] ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14] ثم لما بين كمال قدرته بقوله وله الملك ذكر كمال علمه بقوله عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي هو العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات وَهُوَ الْحَكِيمُ المصيب في أقواله وأفعاله الْخَبِيرُ النافذ علمه في بواطن الحقائق من غير اشتباه والتباس، فإن أمر البعث لا يتم إلا بقدرة كاملة وعلم تام كيلا يشتبه المطيع والعاصي والصديق والزنديق. التأويل: وَهُوَ الْقاهِرُ بوصف الجلال للأولياء، قهار بوصف الجبروت للأعداء. وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً من صفات قهره حتى لو أرادت نفسه الخروج عن قيد مجاهدتها قهرتها سطوات العتاب فردتها إلى بذل الجهد، وإن أراد قلبه فرجة عن مطالبات العزة قهرته صدمات الهيبة فردته إلى توديع البهجة، ولو أراد روحه استرواحا من الحرقات قهرته بوارق التجلي فردته إلى بذل المهجة حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ يعني الفناء عن أوصاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 الوجود تَوَفَّتْهُ رسل صفات قهرنا وهم لا يقصرون في إفناء الأوصاف ثُمَّ رُدُّوا إلى البقاء بالله قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ بر الأجسام وبحر الأرواح فإن عالم الأرواح بالنسبة إلى عالم الألوهية ظلمانية. تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً بالجسم وَخُفْيَةً بالروح وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ آفة وفتنة ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ حين يتجلى لكم نور من أنوار صفاته، فبعضكم يقول: أنا الحق وبعضكم يقول: سبحاني ما أعظم شأني عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ بسدل حجاب العزة والغيرة بينه وبينكم أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ حجابا من أوصاف بشريتكم باستيلاء الهوى عليكم أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً بجعل الخلق فيكم فرقا. فمن قائل هم الصديقون، ومن قائل هم الزنديقون وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بالقتل والصلب وقطع الأطراف انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ آيات المعارف للسائرين إلى الله لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ لشرائط السير ولا يفقهون في مقام دون الفناء عن كلية الوجود بالبقاء بشهود المعبود وَكَذَّبَ بهذا المقام قَوْمُكَ المنكرون وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لا أسلك طريق هذا المقام بوكالتكم لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى كما قال لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي لكل سائر وواقف مستقر من درجات القرب أو دركات البعد وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في أحوال الرجال ولا حظ لهم منها فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تجالسهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غير تلك الطامات التي هي ريح في شبح. وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً لأن همهم من لبس الخرقة والتزيي بزي الطالبين إنما هو الدنيا وقبول الحق أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ أي كراهة أن يبطل استعدادها بالكلية بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بمقامات الرجال من الوصول والوصال قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أنطلب غير الله الذي هو النافع الضار. والنفع الحقيقي هو الفوز بالوصول إليه، والضر الحقيقي هو الانقطاع عنه. وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا إلى مقام الاثنينية التي كنا فيها بعد أن هدانا الله إلى الوحدة كالذي أضلته شياطين الجن والإنس في أرض البشرية باتباع الهوى حَيْرانَ من إغوائهم. وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ بترك الوجود كالكرة في ميدان القدرة مستسلما لصولجان القضاء وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ بمحافظة الأسرار عن الأغيار والاتقاء به عن غيره ليحشر إليه لا إلى الجنة أو النار كما قال: ألا من طلبني وجدني. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي لإظهار صفاته، فجعل المخلوقات مرآة لجماله وجلاله وإذا أراد أن يرى عبدا من عباده تلك الصفات يقول له: كن رائيا فيكون، ولن يصير رائيا بمجرد سعيه لأن قوله في حق الإنسان كن رائيا هو الحق وله ملك الإراءة وملك الرؤية، ينفخ الإراءة في صور القلب وَهُوَ الْحَكِيمُ فيما اختص الإنسان بإراءة الآيات الْخَبِيرُ بمن يخصه من بين الناس بالإراءة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 83] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 القراآت: إِنِّي أَراكَ بفتح الياء: أبو عمرو وابن كثير وأبو جعفر ونافع لِأَبِيهِ آزَرَ بالضم على النداء: يعقوب رَأى كَوْكَباً بإمالة الهمزة: أبو عمرو غير عباس والنجاري عن ورش. وكذلك رَآهُ ورَآكَ وقرأ حمزة وعلي وخلف ويحيى وعباس وهبيرة من طريق الخراز بكسر الراء والهمزة. وافق ابن ذكوان في رَأى فقط وخالفهم فيما اتصلت بالكاف والهاء في سورة النجم. وافق ابن مجاهد والنقاش بالإمالة وكسر الراء في سورة «اقرأ باسم» رَأَى الْقَمَرَ ورَأَى الشَّمْسَ ونحوهما بكسر الراء وفتح الهمزة: حمزة وخلف ونصر وعباس ويحي والخراز. وروى خلف عن يحي بكسر الراء والهمزة أَتُحاجُّونِّي بتخفيف النون: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان. الباقون: بإدغام نون الإعراب في نون الوقاية وَقَدْ هَدانِ بالإمالة: علي. وقرأ سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل بالياء في الحالين، وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل. دَرَجاتٍ بالتنوين: عاصم وحمزة وعلي وخلف ويعقوب. الوقوف: آلِهَةً ج للابتداء بأن مع اتحاد القول. مُبِينٍ هـ الْمُوقِنِينَ هـ رَأى كَوْكَباً ج لأن جواب «لما» قوله «رأى» مع اتحاد الكلام بلا عطف رَبِّي ج لأن جواب «لما» منتظر مع فاء التعقيب فيها. الْآفِلِينَ هـ هذا رَبِّي ج لذلك الضَّالِّينَ هـ هذا أَكْبَرُ ج لذلك يشركون هـ الْمُشْرِكِينَ ج لاحتمال الواو الحال أي وقد حاجه. قَوْمُهُ ط هَدانِ ط لانتهاء الاستفهام شَيْئاً ط عِلْماً ط تَتَذَكَّرُونَ هـ سُلْطاناً ط للاستفهام بعد تمام الاستفهام بِالْأَمْنِ ج لأن جواب «إن» منتظر محذوف التقدير: إن كنتم تعلمون فأجيبوا مع اتحاد الكلام الْمُشْرِكِينَ هـ لتناهي الاستفهام وابتداء إخبار، ولو وصل اتصل بما قبله يهتدون هـ عَلى قَوْمِهِ ط مَنْ نَشاءُ ط عَلِيمٌ هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 التفسير: إنه سبحانه كثيرا ما يحتج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم صلوات الرحمن عليه لأنه يعرف بالفضل والتقدم عند جميع الطوائف، وذلك أنه سلم قلبه للرحمن ولسانه للبرهان وبدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان. ثم إن بظاهر الآية يدل على أن اسم والد ابراهيم هو آزر، ومنهم من قال: اسمه تارح. قال الزجاج: لا خلاف بين النسابين أن اسمه تارح، فمن الملحدة من طعن في هذا النسب لهذا السبب. والجواب أن إجماع النسابة لا عبرة به لأن ذلك ينتهي إلى قول الواحد أو الأثنين- مثل وهب وكعب- أو غيرهما. سلمنا أن اسمه كان «تارح» لكنه من المحتمل أن يكون أحدهما لقبا والآخر اسما أصليا، أو يكون آزر صفة مخصوصة في لغتهم كالمخطىء والمخذول. وقيل: إن آزر هو الشيخ الهرم بالخوارزمية وهذا عند من يجوز اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة من غير لغة العرب. وقيل: إن آزر اسم صنم يجوز أن ينبز به للزومه عبادته، فإن من بالغ في محبة واحد فقد يجعل اسم المحبوب اسما للمحب قال تعالى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: 71] وقال الشاعر: أدعى بأسماء نبزا في قبائلها ... كأن أسماء أضحت بعض أسمائي. أو أريد عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: إن والد إبراهيم كان تارح وكان آزر عما له والعم قد يطلق عليه اسم الأب بدليل قوله نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة: 133] ومعلوم أن إسماعيل كان عما ليعقوب. ومما يدل على صحة ظاهر الآية أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا حراصا متهالكين على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإظهار نقصه، فلو كان النسب كذبا لامتنع في العادة سكوتهم عن تكذيبه، وحيث لم يكذبوه علمنا أن النسب صحيح، قالت المعتزلة ومن يجري مجراهم: إن أحدا من آباء الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان كافرا وفسروا قوله وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: 219] بانتقاله من ساجد إلى ساجد وأكدوه بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لم أزل أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» وإن آزر كان عم إبراهيم وما كان والدا له لأن إبراهيم شافهه بالغلظة والجفاء في قوله: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وقد قال تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما [الإسراء: 23] ولأنه ناداه بالاسم في قراءة من قرأ «آزر» بالضم. والنداء بالاسم دليل الاستخفاف ولهذا لم يقرأ بالضم في قوله وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي [الأعراف: 142] وأجيب بأن قوله وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: 219] يحتمل وجوها أخرى سوف يجيء ذكرها، وبأن قوله «لم أزل أنتقل» محمول على أنه لم يقع في نسبه ما كان سفاحا. والتغليظ من إبراهيم إنما كان لأجل إصرار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 أبيه على الكفر كما قال فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة: 114] لا لأجل السفه والجفاء لقوله إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود: 75] ثم إن إبراهيم احتج على فساد اعتقاد عبدة الأصنام بقوله منكرا على آزر وقومه أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً أي معبودين. وذلك أن الأصنام لو كان لها قدرة على الخير والشر لكان الصنم الواحد كافيا فلما لم يكن الواحد كافيا دل ذلك على عجزها وإن كثرت، واحتج بعضهم بالآية على وجوب معرفة الله تعالى، وعلى أن وجوب الاشتغال بشكره معلوم بالعقل لا بالسمع لأن إبراهيم حكم عليهم بالضلال من حيث النظر والاستدلال، وأجيب بأنه لعله عرف ضلالهم بحكم شرع الأنبياء المتقدمين عليه وَكَذلِكَ أي مثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام والاشتغال بغير الله نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والنكتة فيه أن التخلي عن غير الله يوجب رفع الحجاب وبقدر ذلك يكون حصول التجلي والتحلي بالله وإنما لم يقل «أريناه» بلفظ الماضي لأنه أراد الحكاية كأنه قيل: كيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ في قوة الدين والذب عنه؟ فأجيب أنا كنا نريه الملكوت وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه، أو المقصود بيان ارتفاعه في معارج الكمال وازدياده في ذلك على سبيل الدوام والاستمرار فإن مخلوقاته تعالى وإن كانت متناهية في الذات وفي الصفات إلا أن جهات دلالاتها على ذاته وصفاته سبحانه غير متناهية كما قال إمام الحرمين: معلومات الله غير متناهية، ومعلوماته في تلك المعلومات أيضا غير متناهية. فإن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل، ويمكن اتصافه بصفات لا نهاية لها على البدل، فكل تلك الأحوال التقديرية معلومة لله تعالى، وكل تلك الأحوال دالة على حكمة الله تعالى وعظمة قدرته، وإذا كان الجوهر الفرد كذلك فكيف كل الملكوت! ولهذا قيل: السفر إلى الله تعالى له نهاية، فأما السفر في الله سبحانه فإنه بلا نهاية. والملكوت هو الملك والتاء للمبالغة كالرغبوت من الرغبة والرهبوت ومن الرهبة. قال بعضهم: إنه سبحانه أراه الملكوت بالعين. قالوا: شق له السموات حتى رأى العرش والكرسي إلى منتهى الأجرام العلوية، وشق له الأرض إلى ما تحت الثرى فرأى ما فيها من البدائع والعجائب. عن ابن عباس أنه قال: لما أري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وأري ما فيها وما في الأرض من العجائب رأى عبدا على فاحشة فدعا عليه وعلى آخر بالهلاك، فقال الله تعالى له: كف عن عبادي فهم بين خلال ثلاث: إما أن أجعل منهم ذرية طيبة، أو يتوبون فأغفر لهم، أو النار من ورائهم. وقال الأكثرون: إن هذه الإراءة كانت بعين البصيرة، لأن ملك السموات والأرض لا يرى وإنما يعرف بالعقل ولو أريد نفس السموات والأرض صار لفظ الملكوت ضائعا. وأيضا قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ جار مجرى الشرح والتفسير لتلك الإراءة فثبت أنه استدل بتغير الأجرام وإمكانها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 وحدوثها على وجود الإله الواجب الحكيم. ثم قال بالآخرة وَتِلْكَ حُجَّتُنا والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه. وأيضا الإراءة بالعين تفيد العلم الضروري بالإله القادر ومثل هذه المعرفة لا توجب المدح والثواب كما للكفار في الآخرة. وأيضا اليقين عبارة عن تحصيل علم بالتأمل إذا كان مسبوقا بالشك، فالمراد نري إبراهيم ليستدل بها وليكون من الموقنين، أو ليكون من الموقنين نريه، أو فعلنا ذلك وذلك أن الإراءة قد تصير سببا للجحود لا الإيقان كما في حق فرعون وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى [طه: 56] وأيضا الإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال، وبتقدير الإمكان لا يكون لها دوام وبقاء، وبتقدير البقاء تكون شاغلة للرائي عن الله. أما إذا نظر بعين البصيرة في المخلوقات وعرف حدوثها وإمكانها، وعرف أن كل ممكن يحتاج إلى الصانع الحق الواجب فكأنه بهاتين المقدمتين قد طالع صفحة الملكوت بعين عقله وسمع بأذن قلبه شهادتها بالاحتياج والانقياد لله، وهذه الرؤية باقية غير زائلة ولا شاغلة عن الله بل هي شاغلة للقلب والروح بالله. وهذه الرؤية وإن كانت حاصلة لجميع الموحدين لقوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] إلا أن الاطلاع على تفاصيل آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذه العوالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وعوارضها ولواحقها كما هي، لا تحصل إلا لأكابر الأنبياء ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في دعائه «أرني الأشياء كما هي» ثم إن الإنسان في أول استدلاله لا ينفك قلبه عن اختلاج شبهة فيه، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت كان لكل واحد منها نوع تأثير وقوة، ويكون جاريا مجرى تكرار الدرس الواحد وتزداد النفس بكل منها نورا وإشراقا وانبساطا إلى أن يحصل الجزم ويكمل الإيقان وتطلع شمس العلم والعرفان إلى حيث أتيح لها من الارتقاء والتصاعد وذلك قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ قال في الكشاف: إنه معطوف على قوله وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ وقوله وَكَذلِكَ نُرِي جملة وقعت اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه. يقال: جن عليه الليل وأجنه الليل. والتركيب يدور على الستر ومنه الجنة والجن والمجنون والجنين. وقيل: جن عليه الليل أي أظلم عليه ولأجل هذا التضمين عدي ب «على» . وأما «أجنة» فمعناه ستره من غير تضمين معنى أظلم. واعلم أن كثيرا من المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه، فأمر بذبح كل غلام يولد فحملت أم إبراهيم عليه السلام به وما أظهرت حملها للناس، فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر فجاء جبريل عليه السلام فوضع أصبعه في فيه فمصه فخرج منه رزقه، وكان يتعهده جبريل عليه السلام وكانت الأم تأتيه أحيانا وترضعه. وبقي في الغار حتى كبر وعرف أن له ربا فسأل الأم فقال لها: من ربي؟ فقالت: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 أنا. فقال: من ربك؟ فقالت: أبوك. فقال لأبيه: من ربك؟ فقال: ملك البلد. فعرف إبراهيم جهلهما بربهما. فنظر من باب ذلك الغار ليرى ما يستدل به على وجود الرب سبحانه فرأى النجم الذي كان أصغر النجوم في السماء فقال: هذا ربي إلى آخر القصة. ثم منهم من قال: كان هذا بعد البلوغ وأوان التكليف، ومنهم من قال: كان هذا قبل البلوغ. وأكثر المحققين على فساد هذا القول لوجوه منها: أن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر لا يجوز على الأنبياء بالاتفاق. ومنها أن إبراهيم كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة لأن الله تعالى أخبر عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد بالرفق مرارا بقوله يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ [مريم: 42] الآيات. وفي هذا الموضع دعا أباه إلى التوحيد بالكلام الخشن، والدعوة بالرفق مقدمة على الدعوة بالخشونة والغلظة. ومنها أن هذه الواقعة كانت بعد أن أراه ملكوت السموات والأرض بدليل فاء التعقيب في قوله فَلَمَّا جَنَّ ومنها أنه تعالى وصفه بقوله إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات: 84] ومدحه بقوله وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [الأنبياء: 5] أي من أول زمان الفطرة. ومنها قوله عقيب هذه القصة وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ ولم يقل «على نفسه» . ومنها أنه قال بعد القصة يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مع أنه ما كان في الغار لا قوم ولا صنم. ومنها قوله وَحاجَّهُ قَوْمُهُ وفيه دليل على أنه إنما اشتغل بالنظر في الكواكب بعد أن خالط قومه ورآهم يعبدون الأصنام ودعوه إلى عبادتها فقال لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ردا عليهم وتنبيها على فساد قولهم، ويؤكده قوله كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ لأنه يدل على أنهم كانوا قد خوفوه بالأصنام كما في قصة هود إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: 54] ومنها أن تلك الليلة كانت مسبوقة بالنهار، وكان ينبغي أن يستدل أوّلا بغروب الشمس على عدم إلهيتها ثم يبطل إلهية القمر وسائر الكواكب بالطريق الأولى، ولما لم يكن كذلك علمنا أن المقصود إلزام القوم وإفحامهم. والابتداء بأفول الكوكب لأنه اتفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم، ثم امتدت المناظرة الى أن طلعت الشمس. ثم هاهنا احتمالان: الأول أن يقال إن هذا كلام إبراهيم بعد البلوغ ولكنه ذكره بلفظهم حتى يرجع إليه فيبطله، مثاله: أن يقول في مناظرة من يزعم قدم الجسم: الجسم قديم فإن كان كذلك فلم نشاهده ونراه متركبا متغيرا. فقولك «الجسم قديم» إعادة لكلام الخصم لإلزام الحجة عليه، أو المراد هذا ربي في زعمكم واعتقادكم كقول الموحد للجسم: الإله جسم محدود أي في زعمه واعتقاده. قال تعالى وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ [القصص: 62] وقال ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] أي عند نفسك. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: يا إله الآلهة في زعمهم. أو المراد منه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 لاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط حرف الاستفهام لدلالة الكلام، أو أضمر القول أي يقولون هذا ربي وإضمار القول كثير وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا [البقرة: 127] أي يقولان ربنا وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ [الزمر: 3] أي يقولون: ما نعبدهم إِلَّا لِيُقَرِّبُونا [الزمر: 3] أو ذكر هذا الكلام على سبيل الاستهزاء، أو أنه عليه السلام قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة لم يقبلوا قوله فمال إلى الاستدراج وذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم مع أن إبراهيم كان مطمئنا بالإيمان فكان بمنزلة المكره على كلمة الكفر حيث لم يجد إلى الدعوة المأمور بها طريقا سوى ذلك. وإذا جاز ذكر كلمة الكفر لمصلحة تعود إلى شخص واحد لقوله تعالى إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: 106] فلأن يجوز ذكرها لتخليص جم غفير من الكفر والعقاب الأبدي أولى. قالت العلماء: إن المكره على ترك الصلاة لو صلى حتى قتل استحق الأجر. ثم إذا جاء وقت القتال مع الكفار وعلم أنه لو اشتغل بالصلاة انهزم عسكر الإسلام فههنا يجب عليه ترك الصلاة والاشتغال بالقتال حتى لو صلى وترك القتال أثم. وإن من كان في الصلاة فرأى طفلا أو أعمى أشرف على غرق أو حرق وجب عليه قطع الصلاة لإنقاذهما ومثل هذه الواقعة قوله فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 88] وذلك أنهم كانوا يستدلون بعلم النجوم على الحوادث المستقبلة فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظاهر مع إنه كان بريئا عنه في الباطن ليتوصل بذلك إلى كسر الأصنام. قال المتكلمون: إنه يصح من الله تعالى إظهار خوارق العادات على يد من يدعي الإلهية، لأن صورة هذا المدعي وشكله يدل على كذبه فلا يروج التلبيس ولكنه لا يجوز إظهارها على يد من يدعي النبوّة كاذبا لأن التلبيس يروج حينئذ فكذا هاهنا قوله هذا رَبِّي لا يوجب الضلال لأن دلائل بطلانه جلية وفي ذلك استدراج لهم لقبول الدليل فكان جائزا. الاحتمال الثاني: أنه ذكر ذلك قبل البلوغ فلعله خطر بباله لشدة ذكائه قبل بلوغه إثبات الصانع سبحانه فتفكر فرأى النجم فقال هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ثم إنه تعالى أكمل بلوغه في أثناء هذا الفكر فقال عند أفول الشمس إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ واعلم أن القصة التي ذكرناها من أن إبراهيم عليه السلام ولد في الغار وتركته أمه وكان جبريل يربيه محتملة في الجملة، لأن الإرهاص- وهو تقديم المعجز على وقت الدعوى- جائز عندنا. ولم يجوّزه القاضي إلا إذا حضر في ذلك الزمان رسول من الله تعالى فتكون تلك الخوارق معجزة لذلك الرسول. قال في الكشاف: فإن قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب. وأنا أقول: الاحتجاج بالبزوغ في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 الآية لا يصح لأنه تعالى بين أنه نظر إلى الكوكب وقت كونه طالعا لا حين بزوغه ليلزم مشاهدة التغير والانتقال، وكذا إلى القمر وإلى الشمس دليله أنه لم يقل رأى القمر يبزغ بل بازغا. ولو سلم فإن أحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص والأوساط والعوام، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان فكل ممكن محتاج والمحتاج لا يجوز أن يكون منقطع الحاجات فلا بد من الانتهاء إلى الواجب بالذات. وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة، فكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج إلى القديم. وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب، فكل كوكب يغرب فإنه يزول نوره ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن كان كذلك فإنه لا يصلح للإلهية، أقصى ما في الباب أن يقال: إن لها تأثيرات في أحوال العالم السفلى، ولكن تلك التأثيرات لما لم تكن لها بذاتها لزم استناد الكل إلى الواجب سبحانه وهو الإله الأعظم القادر على خلق السموات والنجوم النيرات، فيجب ان يكون قادرا على خلق البشر وعلى تدبير السفليات بالطريق الأولى فلا يلزم من وضع الواسطة رفع المبدإ بحال، ويعلم من قوله لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أنه تعالى ليس بجسم وإلا كان غائبا عنا فكان آفلا، وإنه لا يصح عليه المجيء والذهاب والنزول والصعود ولا الصفات المحدثة. وفيه أن معارف الأنبياء استدلالية لا ضرورية وأنه لا سبيل إلى معرفته تعالى إلا النظر والاستدلال. أما قوله فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً يقال بزغ القمر أو الشمس إذا ابتدأ بالطلوع. وأصل البزغ الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقا قاله الأزهري. وفي قوله لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي إشارة إلى أن الهداية ليست إلا من الله تعالى. والمعتزلة حملوها على التمكين وإزاحة الأعذار ونصب الدلائل، وزيف بأن كل ذلك كان حاصلا فالهداية التي كان يطلبها بعد ذلك لا بد أن تكون زائدة عليها فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي أراد هذا الطالع أو هذا المرئي، أو ذكر بتأويل الضياء والنور، أو باعتبار الخبر وهو رب مع رعاية الأدب وهو ترك التأنيث عند اللفظ الدال على الربوبية كما لم يقولوا في صفة الله علامة وإن كانت بتاء مبالغة هذا أَكْبَرُ أي أكبر الكواكب جرما ونورا، وقد برهن في الهيئة على أنها مائة وستة وستون مثلا لكرة الأرض كلها. وإنما لم يقتصر على ذكر الشمس أوّلا مع أنه يلزم منه عدم ربوبية ما دونها من القمر والكواكب، لأنه أراد الأخذ من الأدون إلى الأعلى لمزيد التقرير والتصوير يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ قيل: لا يلزم من نفي ربوبية النجوم نفي الشريك مطلقا. والجواب أن القوم لم ينازعوه إلا في الصور المذكورة، فلما أثبت أنها ليست أربابا ثبت بالاتفاق نفي الشركاء على الإطلاق. ومعنى وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ وجهت عبادتي لأجله فإن من كان مطيعا لغيره منقادا لأمره فإنه يوجه وجهه إليه، فجعل توجيه الوجه إليه كناية عن الطاعة. وأصل الفطر الشق يقال: تفطر الشجر بالورق والورد إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 أظهرهما، والحنيف المائل عن كل معبود سوى الله تعالى. قال أبو العالية: الذي يستقبل البيت في صلاته. ثم إن قومه حاجوه متمسكين بالتقليد تارة كقولهم إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: 22] وكقولهم للرسول صلى الله عليه وسلم «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] ومخوّفين إياه بالأصنام أخرى فأجابهم بقوله أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ أي لما ثبت بالدليل الموجب للهداية صحة قولي فكيف ألتفت إلى حجتكم الواهية؟ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر إِلَّا أَنْ يَشاءَ إلا وقت مشيئة رَبِّي شيئا يخاف. فحذف المضاف أي إلا إن أذنبت فيشاء إنزال العقوبة بي، أو إلا أن يريد ابتلائي بمحنة، أو إلا أن يمكن بعض تلك الأصنام من ضري مثل أن يرجمني بكوكب، أو كان قد أودع فيها طلسم فيصيبني مكروه من جهته بإذن الله تعالى، وفائدة الاستثناء أنه لو حدث به شيء من المكاره في الأيام المستقبلة لم يحمله الحمقى والجهلة على قدرة الأصنام وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فلا يفعل إلا الخير والصلاح أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أن نفي الأنداد عن رب الأرباب لا يوجب حلول العقاب ونزول العذاب، وأن الصحيح لا يساوي الفاسد، والعاجز لا يساوي القادر؟ ثم أكد ذلك بقوله وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً إذ لا سلطان فينزل. وقيل: إنه لا يمتنع عقلا أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للصلاة والدعاء، ولكنه لم يؤمر به. والمعنى ما لكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم إلا من في موضع الخوف؟ ثم قال فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ يعني فريقي المشركين والموحدين. ولم يقل «فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم» اجتنابا عن تزكية نفسه. والغرض إني أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله الَّذِينَ آمَنُوا الآية، والمعنى أن الذي حصل لهم الأمن المطلق هم المستجمعون لكمال القوة النظرية وسنامه الإيمان، ولكمال القوة العلمية وهو وضع الأشياء في موضعها وإليه الإشارة بقوله وَلَمْ يَلْبِسُوا أي لم يخلطوا إيمانهم بِظُلْمٍ. قالت الأشاعرة: شرط في الإيمان الموجب للأمن عدم الظلم، ولو كان ترك الظلم داخلا في الإيمان لم يكن لهذا التقييد فائدة فثبت أن الفاسق مؤمن. وقالت المعتزلة: شرط في حصول الأمن حصول الأمرين: الإيمان وعدم الظلم. فوجب أن لا يحصل إلا من للفاسق وذلك يوجب حصول الوعيد له أبدا. وأجيب بأن الظلم هاهنا الشرك لقوله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] واجتماعه مع الإقرار بالصانع ممكن وحينئذ يصح إطلاق اللبس بمعنى الخلط ويكون المراد: الذين آمنوا بالله ولم يثبتوا له شريكا في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 المعبودية، ويؤيده أن القصة وردت في نفي الأضداد والأنداد. وأيضا لا يلزم من عدم الأمن المطلق حصول القطع بالعذاب الأبدي. واعلم أن المحاجة في الله تارة تكون موجبة للذم والإنكار كمحاجة قوم إبراهيم، وتارة تكون موجبة للمدح وذلك إذا كان الغرض تقريرا لدين الحق والمذهب الصدق كمحاجة إبراهيم من قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إلى هاهنا وإليها الإشارة بقوله وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ أرشدناه إليها ووفقناه لها نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ من قرأ بالإضافة فظاهر لأنه رفع يتعدى إلى واحد، ومن قرأ بالتنوين فيكون كقوله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة: 253] وقد تقدم في البقرة، واختلف في تلك الدرجات فقيل: أعماله في الآخرة، وقيل: تلك الحجج درجات رفيعة لأنها تقتضي ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعلى العالم الروحاني، وقيل: نرفع من نشاء في الدنيا بالنبوة والحكمة، وفي الآخرة بالجنة والثواب. أو نرفع درجات من نشاء بالحكمة والعلم إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ فيرفع الدرجات بمقتضى الحكمة والعلم لا لموجب التشهي والشهوة. التأويل: رأى إبراهيم ملكوت الأشياء أي بواطنها ليكون من الموقنين عند كشفها كما كان موقنا عند كشف الضلال المودع في آزر وقومه فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ظلمة ليل البشرية أمطر سحاب العناية غيث الهداية على أرض قلبه فأنبت بذر الخلة المودعة في ملكوت قلبه، فرأى نور الرشد في صورة الكوكب طالعا من أفق سماء روحانيته فقال: هذا رَبِّي أراد به سره المكوكب لا الكوكب وإن لم يشعر به نفسه كما قيل: هوى فؤادي ولم يعلم به بدني ... فالجسم في غربة والروح في وطن فإن كذبت النفس فيما قالت للكوكب «هذا ربي» ما كذب الفؤاد ما رأى من الكوكب. فقال هذا رَبِّي فلما احتجب كوكب نور الرشد بغلبات صفات الخلقية عند رجوعه إلى أوصافه ووافقه كوكب السماء بالغروب قال سره لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فلما اتسع انفتاح روزنة القلب إلى الملكوت بقدر القمر تجلى له نور الربوبية في مرآة القمر قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ عند رجوعه إلى أوصافه ازداد الشوق قال إن لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي برفع حجب الأوصاف ويبقني على وجود الخليقة لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ عن الحق كآزر وقومه. فلما انخرقت حجب الأوصاف وخرجت شمس الهداية من غيم البشرية، وأشرقت أرض القلب بنور ربها قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ شمس الهداية تعززا وتعظما ليغرب إبراهيم عليه السلام عن شرك الأنانية. إن شمس النهار تغرب بالليل ... وشمس القلوب ليست تغيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 تبرأ عن الأضداد والأنداد ونزعته همة الخلة عن الجهات وخلصه تجلي صفة الجمال عن شبكة الوهم والخيال. فقال يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ وقد يدور في الخلد أن إبراهيم صلوات الله الرحمن عليه جن عليه ظلمة الشبهة فنظر أولا في عالم الأجسام فوجدها آفلة في أفق التغير فلم يرها تصلح للإلهية، فارتقى منها إلى عالم النفوس المدبرة للأجسام فرآها آفلة في أفق الاستكمال فكان حكمها حكم ما دونها فصعد منها إلى عالم العقول المجردة، فصادفها آفلة في أفق الإمكان فلم يبق إلا الواجب الحق. ومن الناس من حمل الكوكب على الحس، والقمر على الخيال، والشمس على الوهم والعقل، ومراده أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية القوة، ومدبر العالم قاهر لها مستول عليها وَحاجَّهُ قَوْمُهُ ليسبلوا ستور شبههم على شموس عرفانه، وقد هداني إليه بالعيان بعد توالي البرهان إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً من الخذلان وهذا محال لأنه وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فهو أعلم بأهل العرفان وبأصحاب الخذلان وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ بشرك الالتفات إلى غيره من الأكوان حتى قال لجبريل: أما إليك فلا وَتِلْكَ يعني إراءة الملكوت وشواهد الربوبية في مرآة الكواكب وصدق التوجه إلى الحق والتبري عما سواه والخلاص عن شرك الأنانية والإيمان الحقيقي بالعيان حتى ارتقى من الأفعال إلى الصفات ثم إلى الذات آتَيْناها إِبْراهِيمَ بذاتنا من غير واسطة حتى جعلها حجة على قومه نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بجذبات الألوهية عن حضيض الأنانية الله حسبي. [سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 90] وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) القراآت: وَالْيَسَعَ بتشديد اللام: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بالتخفيف، اقْتَدِهْ بإشباع الهاء: ابن عامر الحلواني عن هشام مختلسة، وبحذف الهاء في الوصل: سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بسكون هاء السكت على الأصل. الوقوف: وَيَعْقُوبَ ط كُلًّا هَدَيْنا ج لأن وَنُوحاً مفعول ما بعده، ولو وصل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 التبس بأنه مفعول ما قبله مع اتفاق الجملتين وَهارُونَ ط الْمُحْسِنِينَ هـ لا للعطف وَإِلْياسَ ط مِنَ الصَّالِحِينَ هـ لا للعطف وَلُوطاً ط الْعالَمِينَ هـ لا للعطف. وَإِخْوانِهِمْ ج لبيان أن قوله وَاجْتَبَيْناهُمْ يعود إلى قوله كُلًّا هَدَيْنا كقوله وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا [مريم: 58] ولاحتمال الواو الحال أي وقد اجتبيناهم وذكر هديناهم بعده مُسْتَقِيمٍ هـ مِنْ عِبادِهِ ط يَعْمَلُونَ هـ وَالنُّبُوَّةَ ج بِكافِرِينَ هـ اقْتَدِهْ ط أَجْراً ط لِلْعالَمِينَ هـ. التفسير: لما حكى حجج إبراهيم صلوات الرحمن عليه في التوحيد والذب عن الدين الحنيفي عدّد وجوه نعمه وإحسانه عليه بعد نعمة إيتاء الحجة ورفع الدرجة فقال وَوَهَبْنا لَهُ باللفظ الدال على العظمة كما يقوله عظماء الملوك ليدل بذلك على عظم العطية، وذلك أنه جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله وعقبه. قيل: وإنما لم يذكر إسماعيل مع إسحق وإن كان هو أيضا ابنه لصلبه، لأن المقصود بالذكر هاهنا أنبياء بني إسرائيل وهم بأسرهم أولاد إسحق ويعقوب، وأما إسماعيل فإنه ما خرج من صلبه أحد من الأنبياء إلا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المقام لأنه أمر محمدا أن يحتج على العرب بأن إبراهيم لما ترك الشرك وأصر على التوحيد شرفه الله بالنعم الجسام في الدين والدنيا، ومن جملة ذلك أن آتاه أولادا كانوا ملوكا وأنبياء، فإذا كان المحتج بهذه الحجة هو محمد امتنع أن يذكر نفسه في هذا المعرض، فلهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحق. أما قوله وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ فالمقصود منه بيان كرامة إبراهيم بحسب الآباء أيضا مثل نوح وإدريس وشيث، وأما الضمير في قوله وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ فقد قيل: إنه يعود إلى «نوح» لأنه أقرب ولأنه تعالى ذكر في جملتهم لوطا وهو كان ابن أخي إبراهيم وما كان من ذريته، بل كان من ذرية نوح، ولأن ولد الإنسان لا يقال إنه ذريته فعلى هذا إسماعيل ما كان من ذرية إبراهيم وكان من ذرية نوح، ولأن يونس عليه السلام لم يكن من ذرية إبراهيم على قول بعضهم. وقيل: الضمير عائد إلى إبراهيم لأنه هو المقصود بالذكر في هذا المقام. واعلم أن الله تعالى ذكر أربعة من الأنبياء وهم: نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب. ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر نبيا: داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى والياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا. فالمجموع ثمانية عشر. وأنه لم يراع الترتيب بينهم في الآية لا بحسب الفضل والشرف ولا بحسب الزمان والمدة، فاستدل العلماء بذلك على أن الواو لا تفيد الترتيب. وقال في التفسير الكبير: إن وجه الترتيب أنه تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الكرامة. فمن المراتب المعتبرة عند الجمهور الملك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 والسلطنة وقد أعطى داود وسليمان من ذلك نصيبا عظيما، والمرتبة الثانية البلاء والمحنة وقد خص أيوب بذلك، والثالثة استجماع الحالتين وذلك في حق يوسف فإنه ابتلي أوّلا ثم أوتي الملك ثانيا. الرابعة قوّة المعجزات وكثرة البراهين والبينات وذلك حال موسى وهارون الخامسة الزهد الكامل كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ولهذا وصفهم بأنهم من الصالحين. السادسة الأنبياء الذين ليس لهم في الخلق أتباع ولا أشياع وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط. وأما المراد بقوله كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا قيل: المراد الهداية إلى طريق الجنة بدليل قوله وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ فإن جزاء المحسن على إحسانه لا يكون إلا الثواب. وقيل: لا يبعد أن يقال: المراد الهداية إلى الدين والمعرفة لأنهم اجتهدوا في طلب الحق فجازاهم الله بالوصال والوصول كما قال وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69] وقيل: إنها الإرشاد إلى النبوّة والرسالة لأن الهداية المخصوصة بالأنبياء ليست إلا ذلك، وهذا إنما يصح عند من جوز أن تكون الرسالة جزاء على عمل. واستدل بعضهم بقوله وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ على أن الأنبياء أفضل من الملائكة، وذلك أن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى فيدخل فيه الملائكة وكذا الأولياء. وقيل: فضلناهم على عالمي زمانهم فلا يتم الاستدلال. قال القاضي: ويمكن أن يقال: المراد وكل من الأنبياء يفضلون على كل من سواهم من العالمين. ثم الكلام في أن أي الأنبياء أفضل من بعض كلام آخر لا تعلق له بالأول. ثم قال وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ معطوف على كلًّا أي فضلنا بعض آبائهم. فالآباء هم الأصول، والذريات هم الفروع، والإخوان فروع الأصول. وفيه دليل على أنه تعالى خص كل من تعلق بهؤلاء بنوع من الشرف والكرامة. ثم إن قلنا المراد من الهداية الهداية إلى الثواب والجنة فقوله مِنْ آبائِهِمْ وكلمة «من» للتبعيض يدل على أنه قد كان في آباء هؤلاء الأنبياء من كان غير مؤمن ولا واصل إلى الجنة، وإن فسرنا الهداية بالنبوة لم يفد ذلك إلا أنه يفيد أن لا تكون المرأة رسولا ولا نبيا وَاجْتَبَيْناهُمْ أي اصطفيناهم من جبيت الماء في الحوض وجبوته أي جمعته، ذلِكَ هُدَى اللَّهِ إشارة إلى معرفة التوحيد والتنزيه بدليل قوله وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ وفيه دليل على أن الهداية من الله تعالى وليس للعبد فيها اختيار. وفيه تهديد عظيم كقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] والغرض من ذلك زجر الأمة. أُولئِكَ يعني الأنبياء الثمانية عشر. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ولا بد بحكم العطف من تغاير الأمور الثلاثة. ووجه بأن الحكام على الخلق ثلاث طوائف: الحكام على بواطن الناس وهم العلماء، والحكام على ظواهر الخلق وهم السلاطين، والجامعون بين الأمرين وهم الأنبياء. فالأمور الثلاثة إشارة إلى هذه الأصناف الثلاثة. ومعنى إيتاء الكتاب الفهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 التام بما في هذا الجنس والعلم المحيط بحقائقه وأسراره. ولو قيل: المراد بالإيتاء الابتداء بالوحي والتنزيل كصحف إبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى لم يشمل كل المذكورين لأنه تعالى ما أنزل على كل واحد منهم كتابا على التعيين. فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أي بالأمور الثلاثة أو بالنبوة هؤُلاءِ يعني أهل مكة فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ أي ليسوا كافرين بها ومن توكيلهم بها أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه. ومن القوم؟ قيل: كل مؤمن وقيل: أهل المدينة وهم الأنصار. وقيل: هم والمهاجرون. وقال الحسن: هم الأنبياء الذين تقدم ذكرهم واختاره الزجاج لقوله عقيب ذلك أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وقال أبو رجاء: يعني الملائكة وضعف بأن اسم القوم قلما يقع على غير بني آدم. وفي الآية دلالة على أنه تعالى سينصر نبيه ويظاهر دين الإسلام على كل الأديان وقد وقع ما وعد وكان إخبارا بالغيب فصح إعجاز القرآن. وفيها استدلال للأشاعرة على أنه تعالى خلق قوما للإيمان ولو كان خلق الكل للإيمان والبيان والتمكين وفعل الألطاف مشتركا بين الكل لم يصح هذا التخصيص. أجاب الكعبي بأنه زاد المؤمنين من الألطاف ما لا يحصيه إلا الله، وبتقدير أن يستوي فإذا لم ينتفع به الكافر صح بحسب الظاهر أن يقال إنه لم يحصل له تلك الألطاف. ورد بأن الألطاف الداعية إلى الإيمان مشترك فيها بين الكافر والمؤمن، وبأن الوالد لما سوّى بين الولدين في العطية ثم إن أحدهما ضيع نصيبه فأي عاقل يجوّز أن يقول أحد إن الأب ما أنعم عليه وما أعطاه شيئا فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ من حذف الهاء في الوصل فعلى الأصل، ومن أثبتها في الوصل كما في الوقف أراد موافقة المصحف فإن الهاء ثابتة في الخط فكره مخالفة الخط في الحالين. وأما قراءة ابن عامر بكسر الهاء بغير إشباع فقال أبو بكر بن مجاهد: إنها غلط. وقال أبو علي الفارسي: ليست بغلط ووجهها أن يجعل الهاء كناية عن المصدر الدال عليه الفعل. والتقدير: فبهداهم اقتد الاقتداء. وتقديم المفعول للاختصاص أي لا تقتد إلا بهم. ولا خلاف في أنه أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالأنبياء المذكورين. إنما الكلام في تفسير الهدى. فمن الناس من قال: المراد الذي أجمعوا عليه وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال. وقال آخرون: المراد به الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل، وعلى هذا فيلزمنا شرع من قبلنا، وقيل: اللفظ مطلق فيحمل على الكل إلا ما خصه الدليل المفصل. وقال القاضي: هذا بعيد لأن شرائعهم مختلفة متناقضة ولا يمكن الإتيان بالأمور المتناقضة معا، ولأن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العمل، ودليل إثبات شرعهم كان مخصوصا بتلك الأوقات، ولأن منصبهم يلزم أن يكون أجل من منصبه وأنه باطل بالإجماع، وأجيب بأن العام يجب تخصيصه في الصورة المتناقضة فيبقى فيما عداها حجة، وبأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 المستدل بالدليل فصل في ذلك الحكم فلا معنى للاقتداء بالدليل إلا إذا كان فعل الأول سببا لوجوب الفعل على الثاني، وبأنه يلزم أن يكون منصبه أجل من منصبهم لأنه أمر باستجماع خصال الكمال وصفات الشرف التي كانت متفرقة فيها كالشكر في داود وسليمان، والصبر في أيوب، والزهد في زكريا ويحيى وعيسى، والصدق في إسماعيل، والتضرع في يونس، والمعجزات الباهرة في موسى وهارون، ولهذا قال «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» . ولما أمره بالاقتداء بالأنبياء وكان من جملة هداهم أن لا يطلبوا الأجر أي المال والجعل في إيصال الدين وإبلاغ الشريعة قيل له: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ أيها الأمة عَلَيْهِ على البلاغ أَجْراً إِنْ هُوَ يعني القرآن إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ يريد كونه مشتملا على كل ما يحتاجون إليه في المعاش والمعاد. وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى الناس كافة لا إلى قوم دون قوم. التأويل: ومما رفعنا به درجات إبراهيم أنا وهبنا له إسحق ويعقوب. ولعله أفرد ذكر إسماعيل لمكان محمد صلى الله عليه وسلم وآله كيلا يقع ذكره تبعا لموهبة إبراهيم، فإن الكائنات تبيع لوجود محمد صلى الله عليه وسلم وآله، ومن آبائهم إلى آدم ومن ذرياتهم إلى محمد وَاجْتَبَيْناهُمْ في الأزل لهذا الشأن وَهَدَيْناهُمْ إلى الأبد وَلَوْ أَشْرَكُوا بأن لاحظوا غيرنا فأثبتوا شيئا من دوننا ونسبوا شيئا من الحوادث إلى غير قدرتنا، أو لم يبدلوا أنانيتهم في هويتنا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لتلاشي عرفانهم وتلف ما سلف من إحسانهم فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ لأنهم سلكوا حتى انتهى مسير كل منهم إلى ما قدر له: آدم في السماء الدنيا، ويحيى وعيسى في الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، وجميع الملائكة المقربين إلى سدرة المنتهى، وأنت محمد إلى مقام قاب قوسين أو أدنى قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ أيها الأنبياء على الاقتداء أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ ليعلموا أن الطريق إلى الله لا يسلك إلا بالاقتداء، أو لا أَسْئَلُكُمْ أيها الأمة على دعوتكم إلى الحق أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ من الله وبه وإليه وهو المستعان. [سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 100] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 القراآت: يجعلونه يبدونها ويخفون بياءات الغيبة: أبو عمرو وابن كثير، الباقون: على الخطاب ولينذر بياء الغيبة: أبو بكر وحماد. الباقون: بتاء الخطاب بَيْنَكُمْ بفتح النون: أبو جعفر ونافع وعلي وحفص والمفضل. الباقون: بالرفع وَجَعَلَ اللَّيْلَ على لفظ المضي ونصب الليل عاصم وحمزة وعلي وخلف الباقون وجاعل الليل على لفظ اسم الفاعل وبالإضافة وَجَنَّاتٍ بالرفع: الأعشى والبرجمي الباقون: بالنصب فَمُسْتَقَرٌّ بكسر القاف: أبو عمرو وابن كثير وسهل ويعقوب. الباقون: بالفتح ثَمَرِهِ بضمتين: حمزة وعلي وخلف وكذلك في آخر السورة ويس. الباقون: بفتحتين وَخَرَقُوا بالتشديد: أبو جعفر ونافع. الباقون: بالتخفيف. الوقوف: مِنْ شَيْءٍ ط كَثِيراً ط لمن قرأ يجعلونه بياء الغيبة. ومن قرأ بالتاء فوقفه حائز لانتهاء الاستفهام مع اتفاق الخطاب على تقدير وقد علمتم آباؤُكُمْ ط قُلِ اللَّهُ ط لأن قوله ذَرْهُمْ معطوف على قُلْ يَلْعَبُونَ هـ وَمَنْ حَوْلَها ط يُحافِظُونَ هـ أَنْزَلَ اللَّهُ ط أَيْدِيهِمْ ج لاتساق الكلام معنى مع تقدير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 حذف أي يقولون أخرجوا أَنْفُسَكُمُ ط لأن المراد من اليوم يوم القيامة تَسْتَكْبِرُونَ هـ ظُهُورِكُمْ ج لاتحاد القول. والوقف أوضح لابتداء النفي وانقطاع النظم شُرَكاءُ ط تَزْعُمُونَ هـ وَالنَّوى ط مِنَ الْحَيِّ ط تُؤْفَكُونَ هـ فالِقُ الْإِصْباحِ ج لمن قرأ وَجَعَلَ لانقطاع النظم واتصال المعنى على تقدير فلق وجعل، أو وقد جعل وعامل الحال معنى الفعل في فالق حُسْباناً ط الْعَلِيمِ هـ وَالْبَحْرِ ط يَعْلَمُونَ هـ وَمُسْتَوْدَعٌ ط يَفْقَهُونَ هـ ماءً ج للعدول مع اتحاد المقصود مُتَراكِباً ط ومن قرأ وَجَنَّاتٍ بالرفع فللعطف على قِنْوانٌ لفظا فيلزمه وقفه على دانِيَةٌ وإلا فليعطف ويفهم أن جَنَّاتٍ من جملة النخل، ومن خفض فوقفه على مُتَراكِباً جائز للعطف على قوله خَضِراً مع وقوع العارض وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ط وَيَنْعِهِ ط يُؤْمِنُونَ هـ بِغَيْرِ عِلْمٍ ط يَصِفُونَ هـ. التفسير: اعلم أن مدار القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد. فبعد ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك شرع في تقرير أمر النبوة فقال وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ قال ابن عباس: أي ما عظموا الله حق تعظيمه حيث أنكروا النبوة والرسالة. وقال أيضا في رواية: ما آمنوا بأن الله على كل شيء قدير. وقال أبو العالية: ما وصفوه حق صفته. وقال الأخفش: ما عرفوه حق معرفته أي في اللطف بأوليائه أو في القهر لأعدائه، وقال الجوهري: قدر الشيء مبلغه وقدرت الشيء أقدره وأقدره قدرا من التقدير أي حرره وعرف مقداره. ثم بيّن سبب عدم عرفانه بقوله إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وإنما كان منكر البعث والرسالة غير عارف بالله تعالى، لأنه إما أن يدعي أنه تعالى ما كلف أحدا من الخلائق تكليفا أصلا وهو باطل لأنه فتح باب المنكرات والقبائح بأسرها، وإما أن يسلم أنه تعالى كلف الخلق بالأوامر والنواهي ولكن لا على ألسنة الرسل وهذا أيضا جهل. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون العقل كافيا في إيجاب الواجبات وحظر المنكرات؟ فالجواب هب أن الأمر كذلك إلا أنه لا يمتنع تأكيد التصريف العقلي بل يجب تفصيل ذلك المجمل بالتعريفات المشروحة على ألسنة الرسل، لأن أكثر العقول قاصرة عن إدراك مدارك الأحكام الشرعية كما أن نور البصر قاصر عن إدراك المبصرات إلا إذا أعين بنور من خارج كنور الشمس أو السراج. وأيضا تفويض مصالح العباد إلى مقتضى عقولهم يؤدي إلى التنازع والتشاجر لتصادم الأهواء وتناقض الآراء فلا بد من أن يتفقوا على واحد يصدرون عن رأيه، وتعيين ذلك الواحد من الخلق ترجيح بلا مرجح وإشراف على الضلال لاحتمال الخطأ في اجتهادهم، فلعل الخير في نظرهم يكون شرا في نفس الأمر فلزم أن يكون التعيين من الله سبحانه بكونه أعرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 بالبواطن كقوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] وإنما يعرف ذلك المعين بظهور المعجزة على وفق دعواه تصديقا له، ومن أنكر ذلك ولم يجوّز خرق العادة فقد وصف الله تعالى بالعجز ونقصان القدرة. وقد طعن بعض الملحدة في الآية بأن هؤلاء القائلين إن كانوا كفار قريش أو البراهمة فهم ينكرون رسالة كل الأنبياء كما ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى على أن قوله تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ بتاء الخطاب إنما يليق باليهود وإن كانوا أهل الكتاب فهم لا يقولون ما أنزل الله على بشر من شيء، بل يقرّون بنزول التوراة على موسى والإنجيل على عيسى. وأيضا الأكثرون اتفقوا على أن السورة مكية وأنها نزلت دفعة واحدة ومناظرات اليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله كانت مدنية، فكيف يمكن حمل الآية على تلك المناظرة؟ والجواب أنهم إن كانوا كفار قريش فإنهم كانوا مختلطين باليهود والنصارى وكانوا قد سمعوا من الفريقين على سبيل التواتر ظهور المعجزات على يد موسى كالعصا وفلق البحر وإظلال الجبل وغيرها وكان جاريا مجرى ما يوجب عليهم الاعتراف بنبوة موسى، وعلى هذا لا يبعد إيراد نبوة موسى إلزاما لهم في قولهم ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ولما كان كفار قريش مع اليهود والنصارى متشاركين في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآله لم يبعد أن يكون الكلام الواحد خطأ بالكفار قريش أوّلا ولأهل الكتاب آخرا وأما إن كانوا أهل الكتاب- وهو المشهور عند الجمهور- فالوجه ما روي عن ابن عباس أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رجلا سمينا دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود. فضحك القوم فغضب ثم التفت إلى عمر فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له قومه: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ فقال: إنه أغضبني. ثم إن اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف. فلعل مالك بن الصيف لما تأذى من الكلام المذكور طعن في نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإنه ما أنزل عليه من شيء البتة فأمر بأن يقول في جوابه مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى أي لما سلمت أن الله تعالى أنزل الوحي والتنزيل على بشر وهو موسى فكيف يمكنك أن تقطع بأنه ما أنزل عليّ شيئا غاية ما في الباب أن تطالبني بالمعجز. والحاصل أنهم قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى، وأدرج تحت الإلزام توبيخهم بالتحريف وإبداء بعض وإخفاء بعض. وقيل: اللفظ وإن كان مطلقا بحسب اللغة إلا أنه مقيد بحسب العرف بتلك الواقعة، فكأنه قال: ما أنزل الله على بشر من شيء في أنه يبغض الحبر السمين، وهذا كما إذا أرادت المرأة أن تخرج من الدار فغضب الزوج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 وقال: إن خرجت من الدار فأنت طالق، فإن كثيرا من الفقهاء قالوا: التعليق مقيد بتلك المرة حتى لو خرجت مرة أخرى لم تطلق. ويرد على هذا التوجيه أن قوله مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى لا يكون مبطلا لكلام الخصم. أما قوله «إن السورة مكية والمناظرات مدنية» فأجيب عنه بأن السورة مكية إلا هذه الآية فإنها نزلت بالمدينة في هذه الواقعة والله أعلم. ومن الأحكام المستنبطة من الآية أن قوله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يفيد أن عقول الخلق قاصرة عن كنه معرفة الله تعالى وإن كانوا مقرين بالنبوة والرسالة لإطلاق قوله في موضع آخر وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ [الزمر: 67] ومنها أن النكرة في سياق النفي تعم وإلا لم يكن قوله مَنْ أَنْزَلَ مبطلا لقوله ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ومنها أن النقض يقدح في صحة الكلام وإلا لم يكن في قوله مَنْ أَنْزَلَ حجة. ويعلم منه أن قول من يقول إبداء الفارق بين الصورتين يمنع من كون النقض مبطلا ضعيف وإلا بطلت حجة الله تعالى في هذه الآية، فإن لليهود حينئذ أن تقول: معجزات موسى كانت أظهر وأبهر من معجزاتك فلا يلزم نبوتك. ومنها أن الغزالي رحمه الله تكلف وقال: حاصل الآية يرجع إلى أن موسى أنزل الله عليه شيئا، وأحد من البر ما أنزل الله عليه شيئا فينتج من الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال، وليس هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فوجب القول بكونها كاذبة فثبت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني، وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف. ثم اعلم أنه سبحانه وصف كتاب موسى بكونه نورا وهدى للناس والعطف يقتضي المغايرة. فالمراد بالنور ظهوره في نفسه، وبالهدى كونه سببا لظهور غيره كقوله في وصف القرآن وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى: 52] قال أبو علي الفارسي تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ أي ذات قراطيس أي يودعونه إياها. فإن قيل: إذا كان جميع الكتب كذلك فلم ذكر في معرض الذم؟ قلنا: لأنهم جعلوه قراطيس مفرقة مبعضة ليتوسلوا بذلك إلى إبداء بعض وإخفاء بعض مما فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم، أو شيء من الأحكام التي لا توافق هواهم كالرجم وغيره وَعُلِّمْتُمْ أيها اليهود على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم أن هذا القرآن يقص على بنى إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وقيل: كانوا يقرؤن الآيات المشتملة على نعت محمد صلى الله عليه وسلم وما كانوا يفقهون معانيها إلى أن بعث الله محمدا، فظهر أن المراد منها هو البشارة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 بمقدمه، وقيل: الخطاب لمن آمن من قريش كقوله لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس: 6] قُلِ اللَّهُ أي أنزله الله فإنهم لا يقدرون على أن ينكروا ذلك فإن العقل السليم والطبع المستقيم يشهد بأن الكتاب الموصوف المؤيد قول صاحبه بالمعجزات الباهرة لا يكون إلا من الله سبحانه. ونظيره قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام: 19] والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة إلى حيث يجب على كل عاقل أن يعترف بها، فسواء أقر الخصم به أو لم يقر فالغرض حاصل. ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ يقال لمن كان في عمل لا يجدي عليه إنما أنت لاعب ويَلْعَبُونَ حال من ذَرْهُمْ أو من خَوْضِهِمْ ويحتمل أن يكون فِي خَوْضِهِمْ حالا من يَلْعَبُونَ وأن يكون صلة له أو ل ذَرْهُمْ. والمعنى أنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والإنذار هذا المبلغ العظيم فقد قضيت ما عليك كقوله إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: 48] قيل: إنها منسوخة بآية السيف وفيه نظر لأنه مذكور لأجل التهديد فلم يكن نزول آية القتال رافعا لشيء من مدلولات هذه الآية. ثم لما ذكر حال التوراة أعقبه بذكر القرآن فقال وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ وفائدة هذا الوصف أنه كان من الممكن أن يظن أن محمدا مخصوص من الله بعلوم كثيرة يتمكن بسببها من تركيب القرآن على هذا النسق من الفصاحة، فنفى ذلك الوهم وبين أن الله هو الذي تولى إنزاله بالوحي على لسان جبريل عليه السلام مُبارَكٌ كثير خيره دائم نفعه باعث على الخيرات زاجر عن المنكرات لما فيه من أصول العلوم النظرية والعملية. وقد جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه والمتمسك به يفوز بعز في الدنيا وسعادة في الآخرة وقد جرب فوجد كذلك. مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي موافق لما قبله من الكتب الإلهية. أما في الأصول فلأنه يمتنع وقوع التفاوت فيها بحسب الأزمنة والأمكنة، وأما في الفروع فلأنها مشتملة على التبشير بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم. ويحصل منه أن التكاليف الموجودة فيها إنما تبقى إلى وقت ظهوره ثم تصير منسوخة وَلِتُنْذِرَ من قرأ بتاء الخطاب فظاهر، ومن قرأ على الغيبة فلأنه أسند الإنذار إلى الكتاب مجازا لأنه سبب الإنذار إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء: 45] وهو معطوف على ما دل عليه سائر الأوصاف كأنه قيل: أنزلناه للبركة ولتصديق ما تقدمه من الكتب وللإنذار، قال ابن عباس: سميت مكة أم القرى لأن الأرضين دحيت من تحتها. وقال أبو بكر الأصم: لأنها قبلة أهل الدنيا فصارت هي كالأصل وسائر البلاد تبعا، وأيضا الناس يجتمعون إليها للحج وللتجارة كما يجتمع الأولاد إلى الأم. وقيل: لأن الكعبة أول بيت وضع للناس. وقيل: إن مكة أول بلدة في الأرض ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي أهل أم القرى ومن حولها. قيل: المراد أهل جزيرة العرب فاستدل اليهود بذلك على أنه مبعوث إلى العرب فقط. وأجيب بأن تخصيص هذه المواضع بالذكر لا يدل على نفي ما عداها لا سيما وقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 ثبت بالتواتر أنه كان يدعي أنه رسول إلى العالمين. ويحتمل أن يقال: ما حوالي مكة يتناول جميع البلاد وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بهذا الكتاب لأن أصل الدين خوف العاقبة فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن. وليس لأحد من الأنبياء مبالغة في تقرير قاعدة البعث والقيامة مثل محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه أن كفار مكة يبعد منهم قبول هذا الدين لأنهم كانوا لا يعتقدون البعث والحشر وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ يعني أن الإيمان بالآخرة كما أنه يحمل المكلف على الإيمان بالنبي وبالكتاب كذلك يحمله على محافظة الصلوات. وخص الصلاة بالذكر لأنها عماد الدين وسنام الطاعات كاد المحافظ عليها أن يأتي بأخواتها كلها ويجتنب المنكرات بأسرها. ثم ذكر ما يدل على وعيد من ادّعى النبوّة وإنزال الكتاب عليه فرية وامتراء فقال وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً قال المفسرون: نزلت في الكذابين مسيلمة الحنفي والأسود العنسي. عن النبي صلى الله عليه وسلم «رأيت فيما يرى النائم كأن في يدي سوارين من ذهب فكبرا علي وأهماني. فأوحى الله إلي أن انفخهما فنفختهما فطارا عني فأوّلتهما الكذابين اللذين أنا بينهما كذاب اليمامة مسيلمة وكذاب صنعاء الأسود العنسي «1» » . أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ كان مسيلمة يقول: محمد صلى الله عليه وسلم وآله رسول الله في بني قريش، وأنا رسول الله في بني حنيفة. واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من نسب إلى الله تعالى ما هو بريء منه إما في الذات وإما في الصفات وإما في الأفعال كان داخلا تحت هذا الوعيد وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ قال المفسرون: هو النضر بن الحرث كان يدعي معارضة القرآن وهو قوله لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: 31] وروي أيضا أن عبد الله بن سعد أبي سرح القرشي كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا تلا عليه «سميعا عليما» كتب هو «عليما حكيما» وإذا قال «عليما حكيما» كتب «غفورا رحيما» فلما نزل وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] أملاه الرسول صلى الله عليه وسلم. فلما وصل إلى قوله أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال: تبارك الله أحسن الخالقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتبها فكذلك نزلت، فشك عبد الله وقال: لئن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، وإن كان كاذبا لقد قلت كما قال فارتد عن الإسلام ولحق بمكة. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فر إلى عثمان- وكان أخاه من الرضاعة- فغيبه عنده حتى اطمأن أهل   (1) رواه البخاري في كتاب المناقب باب 25. كتاب المغازي باب 70. مسلم في كتاب الرؤيا حديث 21. ابن ماجه في كتاب الرؤيا باب 10. أحمد في مسنده (1/ 263) ، (2/ 319) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 مكة، ثم أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمن له. ثم فصل ما أجمل من الوعيد فقال وَلَوْ تَرى الآية. وجوابه محذوف أي لرأي يا إنسان أمرا عظيما إِذِ الظَّالِمُونَ يعني الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة. فاللام للعهد، ويحتمل أن تكون للجنس فيندرج هؤلاء فيه. وغمرات الموت شدائده وسكراته. وأصل الغمرة ما يغمر من الماء فاستعيرت للشدة الغالبة وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ قيل: إنه لا قدرة لهم على إخراج أرواحهم من أجسادهم فما الفائدة في هذا الخطاب؟ وأجيب بوجوه منها: أن المراد ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى غمرات الموت في الآخرة إذا ما دخلوا جهنم، وغمرات الموت عبارة عما يصيبهم هناك من أنواع الشدائد والتعذيبات وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ بالعذاب يكلمونهم يقولون لهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ من هذا العذاب الشديد إن قدرتم. ومنها وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ عند نزول الموت بهم في الدنيا وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ لقبض أرواحهم يقولون لهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ من هذه الشدائد وخلصوها من هذه الآفات والآلام، ومنها هاتوا أرواحكم وأخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير تنفيس وإمهال، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم الملازم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويقول: أخرج إليّ مالي عليك ولا أريم مكاني حتى أنزعه من أحداقك. ومنها أنه ليس بأمر وإنما هو وعيد وتقريع كقول القائل: امض الآن لترى ما يحل بك، والتحقيق أن نفس المؤمن حال النزع تنبسط في الخروج إلى لقاء ربه، ونفس الكافر تكره ذلك ويشق عليها الخروج، وقطع التعلق لأنها تصير إلى العذاب وإليه الإشارة في الحديث «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» «1» فهؤلاء الكفار يكرههم الملائكة على نزع الروح وعلى فراق المألوف. وفي الآية دلالة على أن النفس الإنسانية شيء غير هذا الهيكل المحسوس، لأن المخرج يجب أن يكون مغايرا للمخرج منه الْيَوْمَ يريد وقت الإماتة أو الوقت الممتد الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ كقولك «رجل سوء» بالإضافة لأن العقاب شرطه أن يكون مضرة مقرونة بالإهانة كما أن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم، والتركيب يدور على قلة المبالاة بالشيء ومنه الهون بالفتح السكينة والوقار، وهان عليه الشيء أي حقر، وأهانه استخف به، والاسم الهون بالضم والهوان والمهانة.   (1) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث 14- 18. الترمذي في كتاب الجنائز باب 67. النسائي في كتاب الجنائز باب 10. الدارمي في كتاب الرقاق باب 43. الموطأ في كتاب الجنائز حديث 51. أحمد في مسنده (2/ 313، 346) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 والحاصل أنه جمع لهم بين الأمرين الإيلام والإهانة بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ يعني أن هذا العذاب الشديد إنما حصل بمجموع الأمرين: الافتراء على الله والتكبر على آيات الله وهو عدم الإيمان بها. قال الواحدي وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ أي لا تصلون له لقوله صلى الله عليه وسلم «من سجد لله سجدة واحدة بنية صادقة فقد برىء من الكبر» . وَلَقَدْ جِئْتُمُونا يحتمل أن يكون معطوفا على قول الملائكة أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ثم الملائكة إما الملائكة الموكلون بقبض أرواحهم، وإما الملائكة الموكلون بعذابهم، ويحتمل أن يكون القائل هو الله تعالى إن جوزنا أنه يتكلم مع الكفار فُرادى جمع ينون ولا ينوّن واحده. قيل: فرد على غير قياس. وقيل: فردان كسكارى وسكران قاله ابن قتيبة. وقيل: فريد كرديف وردا في وهم الحداة والأعوان لأنه إذا أعيا أحدهم خلفه الآخر كَما خَلَقْناكُمْ أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد، أو مجيئا مثل خلقنا لكم. أَوَّلَ مَرَّةٍ والمراد التوبيخ والتقريع لأنهم بذلوا جهدهم وصرفوا كدهم في الدنيا إلى تحصيل أمرين: أحدهما المال والجاه، والثاني أنهم عبدوا الأصنام وجعلوها شركاء لله فيهم فقلبوا القضية وتركوا الحقيقة، وذلك أن النفس الإنسانية إنما تعلقت بالجسد ليكون البدن آلة لها في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة، فإذا فارقت البدن ولم يحصل لها هذان المطلبان عظم خسرانها وطال حرمانها فاستحق التوبيخ بقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى أي منفردين عما يجب من الأعمال والعقائد. ثم إنها مع ذلك اكتسبت أشياء قد علق الرجاء بها لأنه أفنى العمر في تحصيلها وأنها ليست مما يبقى معها فلا جرم استحق التقريع بقوله وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ أي أعطينا وتفضلنا به عليكم وَراءَ ظُهُورِكُمْ يعني أنها كالشيء الذي يبقى وراء ظهر الإنسان فلن يمكنه الانتفاع به وربما بقي معوج الرأس بسبب التفاته إليه وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ أي ليسوا معكم حتى يروا، أو ليسوا معكم بالشفاعة والنصرة كما زعمتم بدليل قوله لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ الآية. من قرأ بالنصب على الظرف فمعناه وقع التقطع بينكم كقوله وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ [البقرة: 166] يقال: جمع بين الشيئين أي وقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره. وقيل: المراد لقد تقطع وصلكم بينكم كقولهم إذا كان غدا فأتني أي إذا كان الرجاء أو البلاء غدا فأتني فأضمر لدلالة الحال، ومن قرأ بالرفع فلأنه أسند الفعل إلى الظرف اتساعا كما تقول: قوتل خلفكم وأمامكم، أو لأن المراد بالبين الوصل وإنما حسن استعماله في معنى الوصلة مع أن أصله الافتراق والتباين لأنه يستعمل في الشيئين اللذين بينهما مشاركة ومواصلة من بعض الوجوه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 كقولهم: بيني وبينه مشاركة وبيني وبينه رحم. والمعنى لقد تقطع وصلكم. قلت: ويحتمل أن يكون البين بمعنى الافتراق ويفيد المبالغة كقولهم: جد جده. فإذن العاقل من يكسب الزاد ليوم المعاد حتى لا يوبخ بقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ويصرف المال في وجوه التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله حتى لا يخاطب بقوله وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ بل يكون من زمرة وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [المزمل: 20] كيلا تطول حسرته يوم ينقطع بين النفس والجسد وصله. ثم إنه سبحانه لما فرغ من تقرير التوحيد والنبوّة والمعاد عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال قدرته لتعلم أن حاصل المباحث العقلية والنقلية إنما هو معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله فقال إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى أي بالنبات والشجر. وعن مجاهد أراد الشقين اللذين في الحنطة والنواة، والفلق هو الشق. وعن ابن عباس والضحاك: الفلق هو الخلق. ووجه بأن العقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انشقاق، فإخراج الشيء من العدم إلى الوجود شق لذلك العدم وفلق بحسب التخيل والتعقل. واعلم أنه إذا وقعت الحبة والنواة في الأرض الرطبة ثم مر بها قدر من المدة أظهر الله في أعلاها شقا ومن أسفلها شقا، أما العالي فيخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء، وأما السافل فإنه يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض وهي المسماة بعروق الشجرة، وهاهنا عجائب منها: أن طبيعة الشجرة إن كانت تقتضي الهويّ في الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة إلى الهواء وبالعكس. فاتصال الشجرتين على التبادل ليس بمقتضى الطبع والخاصية بل بمقتضى إرادة الموجد المختار. ومنها أن باطن الأرض جسم صلب كثيف لا تنفذ فيه المسلة ولا السكين، ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق مع غاية نعومتها تقوى على النفوذ والغوص في جرم الأرض، فحصول هذه القوّة الشديدة للجرم الضعيف ليس إلا بتقدير العزيز العليم. ومنها أنه يتولد من النواة شجرة ويحصل من الشجرة أغصان وأوراق وأزهار وأثمار، وللثمر قشر أعلى وقشر أسفل وفيه اللب، وفي اللب الدهن الذي هو المقصود الأصلي فتولد هذه الأجرام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وطعومها وأشكالها مع تساوي تأثيرات النجوم والطبائع في المادة الواحدة يدل على وجود الفاعل المختار. ومنها أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة، فالأترج قشره حار يابس ولحمه بارد رطب، وحماضه بارد يابس وبزره حار يابس، وكذلك العنب قشره وعجمه بارد يابس وماؤه ولحمه حار رطب. ومنها أنك تجد أحوال الفواكه مختلفة، فبعضها يكون لبه في الداخل وقشره في الخارج كالجوز واللوز، وبعضها يكون فاكهته المطلوبة في الخارج والخشبة في الداخل كالخوخ والمشمش، وبعضها يكون لنواها لب كالخوخ وقد لا يكون كالتمر، وبعض الفواكه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 يكون كله مطلوبا كالتين. فهذه الأحوال المختلفة والأشكال المتخالفة. تتضمن حكما وفوائد لا يعلمها إلا مبدعها. ومنها أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة وجدت في وسطها خطا واحدا مستقيما يشبه النخاع في بدن الإنسان ولا يزال يستدق حتى يخرج عن إدراك الحس، ثم ينفصل عن ذلك الخط خطوط دقاق أصغر من الأول، فكأنه سبحانه أوجد ذلك لتقوى به الجاذبة المركوزة في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة. فإذا وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة علمت أن عنايته في إيجاد جملة تلك الشجرة أكثر، وعلمت أن عنايته بتخليق الحيوان الذي خلق النبات لأجله يكون أكمل، وكذا عنايته بحال الإنسان الذي خلق لأجله النبات والحيوان ويصير ذلك مرقاة لك إلى وجود الصانع الخبير الحكيم القدير. ثم بين كونه فالق الحب والنوى بقوله يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت، لأن النامي في حكم الحيوان ولهذا قال يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الحديد: 17] ثم عطف على قوله فالِقُ الْحَبِّ قوله وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ قال ابن عباس: أخرج من النطفة بشرا حيا ثم يخرج من البشر الحي نطفة، أو يخرج من البيض دجاجة ومن الدجاجة بيضا، أو يخرج المؤمن من الكافر كما في حق إبراهيم، والكافر من المؤمن كنوح وابنه، أو المطيع من العاصي والعاصي من المطيع، أو العالم من الجاهل والجاهل من العالم، أو الكامل من الناقص والناقص من الكامل، وقد يجعل الضار نافعا وبالعكس. يحكى أن إنسانا سقى الأفيون في الشراب ليموت فلما تناوله ظن القوم أنه سيموت فرفعوه وجعلوه في بيت مظلم فلدغته حية وصارت تلك اللدغة لقوّة حرارة سم الحية سببا لدفع ضرر برد الأفيون. ونقل عن عبد القاهر الجرجاني أن قوله وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ معطوف على قوله يُخْرِجُ وإنما حسن عطف الاسم على الفعل هاهنا، لأن لفظ الفعل يدل على اعتناء الفاعل بذلك الفعل في كل وقت بخلاف لفظ الاسم ولهذا قال هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ [فاطر: 3] ليفيد أنه يرزقهم حالا فحالا وساعة فساعة إذا ثبت هذا فنقول الحي أشرف من الميت، فذكره بلفظ الفعل فيدل على أن الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من العكس ذلِكُمُ اللَّهُ المدبر الخالق النافع الضار المحيي المميت فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره، أم كيف تستبعدون البعث والنشور لأن الإعادة أهون من الإبداء؟ ثم عدل عن الأحوال الأرضية إلى الاستدلال بما فوقها وهي الأحوال الفلكية فقال فالِقُ الْإِصْباحِ وهو مصدر سمي به الصبح، المراد فالق ظلمة الإصباح وهو الغبش في آخر الليل وكأن الأفق كان بحرا مملوءا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 من الظلمة. ثم إنه سبحانه شق ذلك البحر المظلم بأن أجرى فيه جدولا من النور. فالمعنى فالق ظلمة الإصباح بنور الإصباح، وحسن الحذف للعلم به. أو المراد فالق الإصباح ببياض النهار وإسفاره ومنه قولهم «انشق عمود الفجر وانصدع الفجر» أو المراد مظهر الإصباح بواسطة فلق الظلمة، فذكر السبب وأراد المسبب، أو الفالق بمعنى الخالق كما مر وقد سلف لنا تقرير الصبح في البقرة في تفسير قوله عز من قائل إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [البقرة: 164] ثم إن كون الصبح بسبب وقوع ضوء الشمس على ضلع مخروط ظل الأرض في جانبه الشرقي لا ينافي كون الله سبحانه فالق الإصباح بالحقيقة، كما أن وجود النهار بسبب طلوع جرم الشمس عن الأفق لا ينافي ذلك، والإمام فخر الدين الرازي أراد أن يبين أن ذلك بقدرة الفاعل المختار فنفى كونه بسبب ضوء الشمس بحجج اخترعها من عنده وكلها خلاف المعقول والمنقول من علم الرياضة فلذلك أسقطناها عن درجة الاعتبار. النوع الثاني من الدلائل الفلكية الدالة على التوحيد قوله وجاعل الليل سكنا حجة من قرأ باسم الفاعل أن المعطوف عليه اسم فاعل، وحجة من قرأ بصيغة الفعل أن قوله بعد ذلك وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ منصوبان ولا بد من عامل وما ذلك إلا أن يقدر «جاعل» بمعنى «جعل» . والسكن ما يسكن إليه الرجل ويطمئن إليه من زوج أو حبيب ومنه قيل للنار: سكن كما سموها المؤنسة لأنها يستأنس بها، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه. ويحتمل أن يراد: وجعل الليل مسكونا فيه كما قال لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس: 67] فالليل والنهار من ضروريات مصالح هذا العالم، فهما نعمتان من الله تعالى وآيتان على وحدته وقدرته. النوع الثالث قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً أي سببي حسبان لأن حساب الأوقات يعلم بسيرهما ودورهما. والحسبان بالضم مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب بالكسر. وقيل: إنه جمع حساب مثل «شهاب» «وشهبان» . قال في الكشاف: الشمس والقمر قرئا بالحركات الثلاث. فالنصب على إضمار فعل دل عليه جاعل الليل أو يعطفان على محل الليل لأن اسم الفاعل أريد به هاهنا الاستمرار كما تقول: الله عالم قادر. فلا تقصد زمانا دون زمان فتكون الإضافة غير حقيقية ويكون لليل محل. قلت: وهذا مناقض لما ذكره في مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 3] من أنه يجوز أن يراد به زمان مستمر حتى تكون الإضافة حقيقية، ويصح وقوعه صفة للمعرفة. وأما وجه الجر فظاهر. ووجه الرفع كونهما مبتدأين محذوفي الخبر أي والشمس والقمر مجعولان أو محسوبان حسبانا وذلِكَ الجعل تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الذي قهرهما الْعَلِيمِ الذي دبرهما. وذلك أن تقدير أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيآتها المحدودة وأوضاعها المعينة لا يتم إلا بقدرة شاملة لجميع الممكنات وعلم نافذ في الكليات والجزئيات. النوع الرابع قوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ عد هاهنا من منافع النجوم كونها سببا للاهتداء إلى الطرق والمسالك فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حيث لا يرون شمسا ولا قمرا. والتقدير في ظلمات الليل بالبر والبحر فأضافها إليهما لملابستها لهما. وقيل: المراد ظلمات بر التعطيل وبحر التشبيه فإن اختصاص كل من هذه الكواكب بحال وصفة أخرى مع تشاركها في الجسمية دليل ظاهر على مختار قادر. وأيضا اتصافها بالأعضاء والأبعاض والحدود والأحياز مع أنها لا تصلح للإلهية بالاتفاق دليل على تنزيه الله سبحانه من هذه السمات ولهذا قال قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيستدلون بالمحسوس على المعقول وينتقلون من الشاهد إلى الغائب. ثم عدل عن الآيات الآفاقية إلى آيات الأنفس فقال وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أي خلقكم بطريق النشؤ والنماء مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي آدم وحوّاء مخلوقة من ضلع من أضلاعه، وكذا عيسى لأنه من مريم وإن كان يتوسط كلمة «كن» أو بالنفخ وهي من آدم فَمُسْتَقَرٌّ من قرأ بكسر القاف فالتقدير فمنكم مستقر وَمنكم مُسْتَوْدَعٌ الأول اسم فاعل والثاني اسم مفعول. ومن قرأ بفتح القاف فالتقدير: فلكم مستقر ولكم مستودع. فيكون كلاهما اسمي مكان أو مصدرا. وذلك أن استقر لازم فلا يجيء منه المفعول به بلا واسطة فينبغي تفسير مستودع أيضا بما يشاكله استحسانا. وعن ابن عباس: أن المستودع الصلب والمستقر الرحم لقوله وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ [الحج: 5] ولأن اللبث في الرحم أكثر فيكون لفظ القرار بذلك أنسب بخلاف المستودع فإنه في معرض الاسترداد ساعة فساعة، وهذا شأن المني في الأصلاب فإنه بصدد الإراقة في كل حين وأوان. وقيل: المستقر صلب الأب والمستودع الرحم، لأن النطفة قد حصلت في صلب الأب أوّلا واستقرت هناك، ثم حصلت في الرحم على سبيل الوديعة، ولأن هذا الترتيب يناسب تقديم المستقر على المستودع. وعن الحسن: المستقر حاله بعد الموت لأن سعادته وشقاوته تبقى وتستقر على حالة واحدة والمستودع حاله قبل الموت، لأن الكافر قد ينقلب مؤمنا والفاسق صالحا والوديعة على شرف الزوال والذهاب. وقال الأصم: المستقر الذي خلق من النفس الأولى وحصل في الوجود والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق. وعنه أيضا المستقر من في قرار الدنيا، والمستودع من في القبور إلى يوم البعث. وعن قتادة بالعكس. وعن أبي مسلم الأصفهاني: المستقر الذكر لأن النطفة إنما تستقر في صلبه، والمستودع الأنثى لأنها تستودع النطفة. وحاصل الكلام أن الإنسان خلق من نفس واحدة ثم إنه يتقلب في الأطوار ويتردد في الأحوال، وليس هذا بمقتضى الطبع والخاصية وإلا لتساوى الكل في الأخلاق والأمزجة فذلك إذن بتدبير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 فاعل قدير مختار خبير. ولهذا قال قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ ميزنا بعضها عن بعض لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ لأن الفائدة تعود إليهم وإن كان الإرشاد عاما، ولأن آيات الأنفس أقرب إلى الاعتبار وأهون لدى الاستبصار ختم هذه الآية بالفقه، وخصص خاتمة الآية الأولى بالعلم ليعلم أن الغافل عن هذه لا فطنة له ولا ذكاء أصلا فضلا عن العلم. ثم عدد ما كونه نعمة أبين فيه من كونه آية فقال وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً قيل: أي من جانب السماء وقيل: أي من السحاب لأن العرب تسمي كل ما فوقك سماء كسماء البيت. وقال أكثر أهل الظاهر: أي من السماء نفسها لأنه تعالى فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد. ونحن قد حكينا في أول سورة البقرة مذهب الحكماء في هذا الباب والله تعالى أعلم. قال ابن عباس: يريد بالماء هاهنا المطر، ولا تنزل قطرة من السماء إلا ومعها ملك. والفلاسفة يحملون ذلك على الطبيعة الحالة فيها الموجبة للنزول إلى مركزها. فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بواسطة ذلك الماء وذلك يوجب الطبع والمتكلمون ينكرونه نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ قال الفراء: أي نبات كل شيء له نبات فيخصص بنبت كل صنف من أصناف النامي ويخرج ما عدا ذلك. وفي الآية التفاتان: الأول من الحكاية إلى الغيبة حيث لم يقل «نحن الذين أنزلنا» والثاني من الغيبة إلى الحكاية وأنت خبير أن نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب باب من أبواب البلاغة، وصيغة الجمع لأجل التعظيم كما هو ديدن الملوك. ثم لما بين أن السبب وهو الماء واحد والمسببات صنوف كثيرة فصل ذلك بعض التفصيل حسب ما ذكر في قوله إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى فقال فَأَخْرَجْنا مِنْهُ أي من النبات خَضِراً شيئا أخضر طريا وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة. نُخْرِجُ مِنْهُ أي من ذلك الخضر حَبًّا مُتَراكِباً بعضه على بعض. قال ابن عباس: يريد القمح والشعير والسلت والذرة، فأصل ذلك هو العود الأخضر وتكون السنبلة راكبة عليه من فوقه والحبات متراكبة وفوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كالإبر. والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة. ولما ذكر ما نبت من الحب أتبعه ذكر ما ينبت من النوى فقال وَمِنَ النَّخْلِ وهو خبر وقوله مِنْ طَلْعِها بدل منه كأنه قيل: وحاصلة من طلع النخل قِنْوانٌ أو الخبر محذوف لدلالة أخرجنا عليه. والتقدير: ومخرجة من طلع النخل قنوان وهو جمع قنو كصنوان وصنو. والقنو العذق وهو من التمر بمنزلة العنقود من العنب، والطلع أول ما يبدو من غذق النخلة. قال ابن عباس: يريد العراجين التي قد تدلت من الطلع دانية من تحتها. وعنه أيضا أنه أراد عذوق النخلة اللاصقة بالأرض. قال الزجاج: ولم يقل ومنها قنوان بعيدة لأن أحد القسمين يغني عن الآخر كما قال سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] ويحتمل أن يقال: ترك البعيدة لأن النعمة في القريبة أكمل وأتم. وقيل: أراد بكونها دانية أنها سهلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 المجتنى متعرضة للقاطف كالشيء الداني القريب المتناول، وأن النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها تأتي بالثمر لا تنتظر الطول وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ بالنصب عطفا على خَضِراً أي وأخرجنا به جنات من أعناب. ومن قرأ بالرفع فعلى أنها مبتدأ محذوف الخبر أي وثم جنات من أعناب، أو وجنات من أعناب مخرجة، ولا يجوز أن يكون عطفا على قنوان وإن جوّزه في الكشاف، إذ يصير المعنى وحاصلة أو مخرجة من النخل من طلعها جنات حصلت من أعناب. أما قوله وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ بالنصب فللعطف على منصوبات قبلها أو للاختصاص لفضل هذين الصنفين. قال الفراء: أراد شجر الزيتون وشجر الرمان فحذف المضاف. واعلم أنه سبحانه قدم الزرع على الأشجار لأنه غذاء وثمار الأشجار فواكه والغذاء مقدم على الفواكه، ثم قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يقوم مقام الغذاء ولا سيما للعرب. ومن فضائلها أن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوانات مشابهات كثيرة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من بقية طينة آدم» ثم ذكر العنب عقيب النخل لأنه أشرف أنواع الفواكه وأنه ينتفع به من أوّل ظهوره إلى آخر حاله. فأوّله خيوط دقيقة حامضة الطعم لذيذة وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه، ثم يظهر الحصرم وهو طعام شريف للأصحاء وللمرضى من أصحاب الصفراء، ثم يتم العنب فيؤكل كما هو ويدخر ويتخذ منه الزبيب والدبس والخمر والخل ومنافع كل منها لا تحصى، إلا أن الخمر حرمها الشرع لإسكارها. وأخس ما في العنب عجمه والأطباء يتخذون منه جوارشنات نافعة للمعدة الضعيفة الرطبة. ويتلو العنب في المنفعة الزيتون لأنه يمكن تناوله كما هو، وينفصل منه الزيت الذي يعظم غناؤه، وأما الرمان فحاله عجيبة جدا لأنه قشر وشحم وعجم وماء. والثلاثة الأول باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة، وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات وأنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة، وفيه تقوية للمزاج الضعيف وهو غذاء من وجه ودواء من وجه، وكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين فيكون دلالة القدرة والرحمة والحكمة فيه أكمل وأنواع النبات أكثر من أن يفي بشرحها المجلدات فاكتفي بذكر هذه الأنواع الخمسة تنبيها على البواقي. وأما قوله مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ففي تفسيره وجوه الأوّل أن هذه الفواكه تكون متشابهة في اللون والشكل مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذّة، فإن الأعناب والرمان قد تكون متشابهة في الصورة واللون والشكل ثم إنها تكون مختلفة في الحلاوة والحموضة وبالعكس. الثاني أن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القشر والعجم متشابها في الطعم والخاصية، وأما ما فيها من اللحم والرطوبة فإنها تكون مختلفة، ومنهم من يقول: الأشجار متشابهة والثمار مختلفة. ومنهم من قال: بعض حبات العنقود متشابهة وبعضها غير متشابه وذلك أنك قد تأخذ العنقود من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 العنب فترى جميع حباته مدركة نضيجة حلوة طيبة إلا حبات مخصوصة فإنها بقيت على أوّل حالها من الخضرة والحموضة والعفوصة، ومعنى اشتبه وتشابه واحد يقال: اشتبه الشيئان وتشابها كقولك: استويا وتساويا. وإنما قال مُشْتَبِهاً ولم يقل «مشتبهين» إما اكتفاء بوصف أحدهما، أو على تقدير والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك كقوله: رماني بأمر كنت ووالدي ... بريئا ومن أجل الطويّ رماني انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ من قرأ بفتحتين فلأنه جمع ثمرة مثل: بقر وبقرة، وشجر وشجرة. ومن قرأ بضمتين فعلى أنه جمع ثمرة أيضا مثل: خشبة وخشب. قال تعالى كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون: 4] أو على أن ثمرة جمعت على ثمار ثم جمع ثمار على ثمر إِذا أَثْمَرَ إذا أخرج ثمره وَيَنْعِهِ يقال: ينعت الثمرة ينعا وينعا بالفتح والضم إذا أدركت ونضجت. أمر بالنظر في حال ثمر كل شجرة أوّل حدوثها وفي آخر حالها فإنها قد تكون موصوفة بالخضرة والحموضة ثم تصير إلى السواد والحلاوة، وربما كانت أوّل الأمر باردة بحسب الطبيعة ثم تصير حارة الطبع وقد يخرج ضئيلا ضعيفا لا يكاد ينتفع به، ثم يؤل إلى كمال اللذة والمنفعة فحصول هذه الانتقالات والتغيرات لا بد له من سبب مستقل في التأثير سوى الطبائع والفصول والأفلاك والنجوم وما ذاك إلا السبب الأوّل ومبدع الكل، ولهذا ختم الآية بقوله إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قال القاضي: المراد لمن يطلب الإيمان بالله لأنه آية لمن آمن ولمن لم يؤمن، ويحتمل أن يقال: خص المؤمنين لأنهم المنتفعون بذلك دون غيرهم، أو المراد أن هذه الدلالة على قوّتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله تعالى في حقه بالإيمان وإلا فلا ينتفع به البتة ويكون من زمرة من قال في حقهم وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ قال الكلبي: عن ابن عباس نزلت في الزنادقة قالوا: إن الله تعالى وإبليس أخوان، فالله خالق الناس والدواب والأنعام، وإبليس خالق الحيات والسباع والعقارب. قال في التفسير الكبير: هذا مذهب المجوس فإنما قال ابن عباس هذا قول الزنادقة لأن المجوس يلقبون بالزنادقة لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله يسمى بالزند والمنسوب إليه زندي، ثم عرّب فقيل زنديق، ثم جمع فقيل زنادقة، ثم إنهم قالوا كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان، وجميع ما فيه من الشرور فهو من أهرمن وهو المسمى بإبليس في شرعنا، ثم اختلفوا فالأكثرون منهم على أن أهرمن محدث ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة كقولهم إنه تعالى فكر في مملكة نفسه واستعظمها ففعل نوعا من العجب فتولد الشيطان من ذلك العجب، وكقولهم شك في قدرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 نفسه فتولد من شكه الشيطان. والأقلون منهم قالوا إنه قديم أزلي والحاصل أنهم يقولون: عسكر الله تعالى هم الملائكة، وعسكر إبليس هم الشياطين والملائكة فيهم كثرة عظيمة وهم أرواح طاهرة مقدسة تلهم الأرواح البشرية الطاعات، والشياطين فيهم أيضا كثرة عظيمة يلقون الوساوس إلى الأرواح البشرية، والله تعالى مع عسكره يحاربون إبليس مع عسكره فلهذا السبب حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء من الجن بلفظ الجمع وإن كان شريكه عندهم بالحقيقة واحدا وهو أهرمن. وانتصاب الْجِنَّ على أنه بدل أو بيان لشركاء أو على أنه مفعول أول ل جَعَلُوا وشُرَكاءَ ثانيه ويكون لِلَّهِ طرفا لغوا. وفائدة تقديم المفعول الثاني على هذا القول استعظام أن يتخذ لله شريك كائنا من كان، ملكا أو جنيا أو إنسيا، ولذلك قدم اسم الله على الشركاء. وقرىء الْجِنَّ بالرفع كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الجن. وبالجر على الإضافة التي للتبيين. وقيل: إن الآية نزلت في الكفار الذين جعلوا الملائكة بنات الله. وحسن إطلاق الجن على الملائكة لاستتارهم عن العيون. ومعنى كونها شركاء أنها مدبرة لأحوال هذا العالم ومعينة لله إعانة الولد للوالد. وعن الحسن وطائفة من المفسرين: أن المراد أن الجن دعوا الكفار إلى عبادة الأصنام وإلى القول بالشركة فأطاعوهم كما يطاع الله. أما قوله وَخَلَقَهُمْ فإشارة إلى الدليل القاطع على إبطال الشريك. والضمير فيه إما أن يعود إلى الجن أو إلى الجاعلين فإن عاد إلى الجن فإن قلنا إن الآية نزلت في المجوس فتقريره أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس محدث ولو لم يعترفوا بذلك والبرهان العقلي قائم على أن ما سوى الحق الواحد ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو محدث، فنقول حينئذ، كل محدث مخلوق وله خالق وما ذاك إلا الله سبحانه، وحينئذ يلزمهم نقض قولهم لأنه ثبت أن إله الخير قد فعل أعظم الشرور وهو خلق إبليس الذي هو مادة كل شر. وإن قلنا: إنها نزلت في كفار العرب القائلين الملائكة بنات الله، فظاهر لأنهم يسلمون أن الملائكة مخلوقون وأنهم تولدوا منه تولد الولد من الوالد. وإن عاد الضمير إلى الجاعلين فالمعنى: وعلموا أن الله خالقهم دون الجن كقوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] ولم يمنعهم علمهم أن يتّخذوا من لا يخلق شريكا للخالق. والجملة في موضع الحال أي وقد خلقهم. وقرىء وَخَلَقَهُمْ بسكون اللام أي اختلاقهم للإفك يعني جعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف: 28] ثم حكي عن قوم آخرين نوعا آخر من الإشراك فقال وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ وذلك قول أهل الكتابين في المسيح وعزير، وقول قريش في الملائكة، ومن هنا يعلم ضعف قول من قال وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ نزل في كفار قريش لأنه يلزم التكرار من غير فائدة ظاهرة، يقال: خرق الإفك وخلقه واخترقه واختلقه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 بمعنى. قال الحسن: كلمة عربية كان الرجل، إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله أعلم. ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا له بنين وبنات. أما قوله بِغَيْرِ عِلْمٍ فكالتنبيه على إبطال قولهم، فإن من عرف الإله حق معرفته استحال أن يثبت له ولدا لأن ذلك الولد إن كان واجب الوجود لذاته كان مستقلا بنفسه قائما بذاته لا تعلق له في وجوده بالآخر تعلق الفرعية، وإن كان ممكن الوجود لذاته كان موجودا بإيجاد الواجب وكان عبدا له لا ولدا. وأيضا الولد إنما يحتاج إليه ليقوم مقام الوالد بعد فنائه ومن تقدس عن الفناء لم يحتج إلى الولد. وأيضا الولد جزء من أجزاء الوالد ومن لم يكن مركبا استحال أن ينفصل منه جزء يتولد منه الولد. ثم نزه نفسه عما لا يليق به فقال سُبْحانَهُ وهذا على لسان المسبحين وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ وهذا له في نفسه سواء سبحه مسبح أم لا. والمراد بالتعالي العلو بالشرف والرفعة بدليل قوله عما يصفون. التأويل: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حين أنكروا إنزال الكتب والبعثة على أنهم لو اعترفوا بذلك أيضا لم يعرفوه حق معرفته لأن المحاط لا يحيط بالمحيط. نعم تزداد معرفته بازدياد معرفة أوصافه تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ أي في القراطيس، وما يجعلونه في قلوبهم بالتخلق بأخلاقه وَعُلِّمْتُمْ بتعليم محمد صلى الله عليه وسلم ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ كقوله وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة: 151] ومن الحكمة ما هو سره الذي يكون تعليمه بسر المتابعة سرا بسر وإضمارا بإضمار، والذي علم النبي هو الله في خلوة ما سوى الله ولهذا قال قُلِ اللَّهُ مُبارَكٌ على العوام بأن يدعوهم إلى ربهم، وعلى الخواص بأن يهديهم إلى ربهم، وعلى خواص الخواص بأن يوصلهم إلى ربهم ويخلقهم بأخلاقه، وفي كتاب المحبوب شفاء لما في القلوب مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ لأنه يصدق حقائق جميع ما في الكتب وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وهي الذرة المودعة في القلب التي هي المخاطب في الميثاق وقد دحيت جميع أرض القلب من تحتها وَمَنْ حَوْلَها من الجوارح والأعضاء والسمع والبصر والفؤاد والصفات والأخلاق بأن يتنوّروا بأنواره وينتفعوا بأسراره ويتخلقوا بأخلاقه. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فيستعملون الأدوات والآلات في أمور الدنيا والآخرة لا في الدنيا الفانية وشهوات النفس وهواها يُؤْمِنُونَ بالقرآن وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ بالترقي من صفاتهم إلى التخلق بأخلاق القرآن يداومون، فإن الصلاة معراج المؤمن وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بإظهار المواجد والحالات رياء ومراء من غير أن يكون له منها نصيب، أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ الإشارات ولم يلهم نفسه شيئا منها، ومن قال متشدّقا متفيهقا سأتكلم بمثل كلام الله من الحقائق والأسرار فتظهر مضرة ظلمه وافترائه عند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 سكرات الموت، وانقطاع تعلق الروح عن البدن، وإخراج النفس عن القالب كرها لتعلقها بالشهوات واللذات وطلب الرياسات، ويكون شدة النزع والهوان بحسب التعلقات وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى عن الدنيا وما يتعلق بها، أو فرادى عن تعلقات الكونين كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ في أوّل خلقة الروح قبل تعلقه بالقالب. وَتَرَكْتُمْ بالتجريد عن الدنيا وبالتفريد عن الدنيا والآخرة ما خَوَّلْناكُمْ من تعلق الكونين وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ الأعمال والأحوال التي ظننتم أنها توصلكم إلى الله لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وبينها عند انتهاء سيركم كما انتهى سير جبريل عند سدرة المنتهى، وحينئذ لا يصل إلى الوحدة إلا بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] ولو لم تدركه الجذبة المسندة إلى العناية لانقطع عن السير في الله بالله ونفى السدرة وهو يقول وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ حبة الذرة التي أخذ منها الميثاق المودعة في حبة القلب عن نبات المحبة، وفالق النوى ذكر لا إله إلا الله في أرض القلب عن شجرة الإيمان، كلمة طيبة كشجرة طيبة يخرج نبات المحبة التي هي من صفات الحي القيوم من الذرة الميتة الإنسانية، ومخرج الأفعال الطبيعية التي هي من صفات الكفار الموتى من المؤمن الحق في الدارين. وأيضا يخرج نخل الإيمان الحق من نوى الحروف الميتة في كلمة لا إله إلا الله، ومخرج ميت النفاق من الكلمة الحية وهي لا إله إلا الله فالِقُ الْإِصْباحِ فالق ظلمة الجمادية بصباح العقل والحياة والرشاد، وفالق ظلمة الجهالة بصباح الفهم والإدراك، وفالق ظلمات العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى صحبة عالم الأفلاك، وفالق ظلمات الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات. وبالجملة فالق أنوار الروح عن ظلمة ليل البشرية، وجاعل ليل البشرية سترا عن ضياء شمس الروح ليسكن فيه النفس الحيوانية والأوصاف البشرية وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً يعني تجلي شمس الروحانية وطلوع قمر القلب بالحساب لئلا يفسد أمر القلب والقالب. وأيضا تجلى شمس الربوبية وطلوع قمر الروحانية لليل البشرية بالحساب لئلا يفسد أمر الدين والدنيا على العبد بالتفريط والإفراط، فإن إفراط طلوع شموس المعارف والشهود آفة «أنا الحق وسبحاني» وفي تفريطه آفة أنا ربكم الأعلى وعبادة الهوى. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الذي لا يهتدى إليه إلا به الْعَلِيمِ بمن يستحق الاهتداء إليه وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ نجوم أنوار الغيوب في سموات القلوب لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ بر البشرية وبحر الروحانية إلى عالم الربوبية. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أرواحكم من روح واحد هو روح محمد صلى الله عليه وسلم «أول ما خلق الله روحي كما خلق أجسادكم من جسد واحد هو جسد آدم أبي البشر» فمن الأرواح ما تعلق بالأجساد واستقر وما هو بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 مستودع في عالم الأرواح. وأيضا من الأرواح ما هو مستقر فيه نور صفة الإيمان وما هو مستودع فيه جذبات الحق، ومنها ما هو مستقر في أنانيته مع علو رتبته بالبقاء وما هو مستودع أنانيته بالفناء، وما هو مستقر ببقاء الحق باق وما هو مستودع في بقاء البقاء عن الفناء قَدْ فَصَّلْنَا دلالات الوصول في الوصال لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ إشارات القلوب وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ من سماء العناية ماءً الهداية فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ من أنواع المعارف فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً طريا من المعاني والأسرار يُخْرِجُ بِهِ من الحقائق ما تركب بعضها بعضها فترتب بعضها على بعض وَمِنَ النَّخْلِ يعني أصحاب الولايات مِنْ طَلْعِها من ثمرات ولايتهم ما هو متدان للطالبين أي منهم من يكون مرئيا فينتفع بثمرات ولايته، ومنهم من يختار العزلة والانقطاع عن المريدين. وَجَنَّاتٍ يريد أرباب الزهد والتقوى والفتوّة الذين لم يبلغوا رتبة الولاية من أعناب الاجتهاد وزيتون الأصول ورمان الفروع مُشْتَبِهاً أي متفقا في الأصول والفروع وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ أي مختلفا فيما بين العلماء انْظُرُوا إلى ثمر الولايات كيف ينتفع به الخواص والعوام وَيَنْعِهِ أي الكامل منها. إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بأحوالهم وينتفعون بأموالهم وأحوالهم. وَجَعَلُوا لِلَّهِ إشارة إلى أنه كما يخرج بماء اللطف من أرض القلوب لأربابها أنواع الكمالات كذلك يخرج بماء القهر من أرض النفوس لأصحابها أنواع الضلالات. [سورة الأنعام (6) : الآيات 101 الى 110] بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) القراآت: ولم يكن بياء الغيبة: قتيبة دَرَسْتَ بتاء التأنيث: ابن عامر وسهل ويعقوب دارست بتاء الخطاب من المدارسة: ابن كثير وابو عمرو. والباقون بتاء الخطاب دَرَسْتَ من الدرس. عَدْواً على فعول بالضم: يعقوب. الباقون عَدْواً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 على فعل. أَنَّها إِذا جاءَتْ بالكسر: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وخلف وقتيبة ونصير وأبو بكر وحماد. الباقون: بالفتح. لا تُؤْمِنُونَ بتاء الخطاب: ابن عامر وحمزة. الباقون: على الغيبة. الوقوف: وَالْأَرْضِ ط صاحِبَةٌ ط كُلِّ شَيْءٍ ط لاحتمال الواو الحال والاستئناف عَلَيْهِمْ ط رَبِّكُمْ ط لاحتمال الجملة الاستئناف والحال والعامل معنى الإشارة إِلَّا هُوَ ط لأن قوله خالِقُ بدل من الضمير المستثنى أو خبر ضمير محذوف فَاعْبُدُوهُ ط لاحتمال الواو الحال والاستئناف وَكِيلٌ هـ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ج لاختلاف الجملتين مع أن الثانية من تمام المقصود يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ط لاحتمال الواو الاستئناف والحال أي يدرك الأبصار لطيفا خبيرا. الْخَبِيرُ هـ مِنْ رَبِّكُمْ ط لابتداء الشرط مع فاء التعقيب فَلِنَفْسِهِ ط كذلك مع الواو. فَعَلَيْها ط بِحَفِيظٍ هـ يَعْلَمُونَ هـ مِنْ رَبِّكَ ط لاحتمال الجملة الحال والاستئناف على أنها جملة معترضة إِلَّا هُوَ ط للعطف مع العارض الْمُشْرِكِينَ هـ ما أَشْرَكُوا ط حَفِيظاً ط للابتداء بالنفي مع اتحاد المعنى بِوَكِيلٍ هـ بِغَيْرِ عِلْمٍ ط يَعْمَلُونَ هـ لَيُؤْمِنُنَّ بِها ط وَما يُشْعِرُكُمْ ط لمن قرأ أَنَّها بكسر الألف. لا يُؤْمِنُونَ هـ يَعْمَهُونَ هـ. التفسير: لما نبه إجمالا بقوله بغير علم على الدليل الدال على إبطال قول من خرق له بنين وبنات، فصل ذلك بقوله بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية. والمراد هو بديع السموات، ويجوز أن يكون بَدِيعُ مبتدأ والجملة بعده خبره. وتقرير الدليل أنكم إما أن تريدوا بكون عيسى ولدا له أنه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة ولا أب وحينئذ يلزمكم القول بأنه والد السموات والأرض بكونه مبدعا لهما وهذا باطل بالاتفاق، وإما أن تريدوا به الولادة كما هو المألوف في الحيوانات وهذا أيضا محال لأن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة من جنسه وينفصل منه جزء يحتبس في رحمها، وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والحد والنهاية والشهوة واللذة، وكل ذلك على الله محال وأشار الى هذا بقوله أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وأيضا الولد بهذا الطريق إنما يتصور في حق من لا يقدر على خلق الأشياء دفعة واحدة، أما الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون فذلك في حقه مستحيل، وإلى هذا أشار بقوله خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وأيضا هذا الولد لا يكون أزليا وإلا كان واجبا لذاته غنيا عن غيره فبقي أن يكون حادثا فنقول: إنه تعالى عالم بكل المعلومات أزلا وأبدا كما قال وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فإن كان قد علم أن له في تحصيل ذلك الولد كمالا أو نفعا أو لذة لتعلقت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 إرادته بإيجاده في الأزل دفعا لذلك الاحتياج والنقصان، فيكون الولد أزليا على تقدير كونه حادثا هذا خلف، فتبين أن إله العالم فرد واحد صمد منزه عن الشريك والنظير والأضداد والأنداد والأولاد، فلهذا صرح بالنتيجة فقال ذلِكُمُ اللَّهُ فاسم الإشارة مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة أي ذلكم الموصوف الجامع لتلك الصفات المقدسة هو الله إلى آخره. وإنما قال هاهنا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وفي «المؤمن» بالعكس لأنه وقع هاهنا بعد ذكر الشركاء والبنين والبنات فكان رفع الشرك أهم، وهنالك وقع بعد ذكر خلق السموات والأرض فكان تقديم الخالقية أهم. ثم قال فَاعْبُدُوهُ وهو مسبب عن مضمون الجملة المتقدمة يعني أن من استجمعت له هذه الكمالات كان حقيقا بالعبادة وَهُوَ مع تلك الصفات عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يحفظه ويرزقه ويراقبه. قال في التفسير الكبير: إنه سبحانه أقام الدليل على وجود الخالق، ثم زيف طريق من أثبت له شريكا وهذا القدر لا يوجب التوحيد المحض لكن للعلماء في إثبات التوحيد طرق منها: أن الدليل قد دل على وجود صانع، والزائد على الواحد لم يدل دليل على ثبوته فليس عدد أولي من عدد آخر فيلزم آلهة لا نهاية لها، أو القول بعدد معين بلا ترجيح وكلاهما محال فلم يبق إلا الاكتفاء بواحد وهو المطلوب. ومنها أنا لو قدّرنا إلهين قادرين على كل المقدورات عالمين بكل المعلومات، فكل فعل يفعله أحدهما صار كونه فاعلا لذلك الفعل مانعا للآخر من تحصيل مقدوره وذلك يوجب أن يكون كل واحد يعجز الآخر وهو محال، وإن كان في أحدهما عجز ونقص لم يصلح للإلهية. ومنها أنا لو فرضنا إلها ثانيا فكان إما أن يكون الثاني مشاركا للأوّل في جميع صفات الكمال أو لا. وعلى الأول لا بد أن يحصل الامتياز بأمر وإلا لم يحصل التعدد، فذلك المميز إن كان من صفات الكمال لم يكن جميع صفات الكمال مشتركة بينهما، وإن كان من صفات النقص فالموصوف به لا يصلح للإلهية وكذا إن لم يكن الثاني مشاركا للأوّل في جميع صفات الكمال فثبت التوحيد بهذه الدلائل، مع أن الدليل النقلي في التوحيد كاف والله أعلم. قالت الأشاعرة: عموم قوله خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يدل على أنه خالق أفعال العباد. وقالت المعتزلة: إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح ولكنه لا يتمدح بخلق الزنا والكفر واللواط، وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا. وأيضا احتج كثير من المعتزلة به على نفي الصفات وعلى أن القرآن مخلوق. أما الثاني فلأن القرآن شيء فيدخل تحت العموم. وأما الأوّل فلأن الصفات لو كانت موجودة له تعالى لزم أن تكون مخلوقة له. وأجيب بأنكم تخصصون هذا العام بحسب ذاته ضرورة أنه يمتنع أن يكون خالقا لنفسه وبحسب أفعال العباد، فنحن أيضا نخصصه بحسب الصفات وبحسب القرآن. وأما الفرق بين قوله وَخَلَقَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 كُلَّ شَيْءٍ وقوله خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فذلك لأن الأول يتعلق بالزمان الماضي، والثاني يتناول الأوقات كلها على سبيل الاستمرار. ثم بين أن شيئا من القوى المدركة لا يحيط بحقيقته وأن عقلا من العقول لا يقف على كنه صمديته فقال لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ هذه الآية من مشهورات استدلالات المعتزلة على نفي رؤيته تعالى. قالوا: الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية بدليل أن قول القائل: أدركته ببصري وما رأيته متناقضان. ثم إن قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال بدليل صحة الاستثناء. وأيضا أنه ذكر الآية في معرض المدح والثناء، وكل ما كان عدمه مدحا ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصا كقوله لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255] لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الصمد: 3] فوجب كون الرؤية نقصا في حقه تعالى. وإنما قيدوا بما لا يكون من باب الفعل لأنه تعالى يمتدح بنفي الظلم عن نفسه في قوله وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] مع أنه تعالى قادر على الظلم عندهم. وأجيب بالمنع من أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لأنه في أصل اللغة موضوع للوصول واللحوق ومنه قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61] أي لملحقون وقوله تعالى حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ [يونس: 90] أي لحقه. وأدرك الغلام أي بلغ، وأدركت الثمرة إذا نضجت. وإذ قد ثبت ذلك فنقول: الرؤية جنس والإدراك أي إدراك البصر رؤية مع الإحاطة. ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام، فلا يلزم من نفي إدراك البصر نفي الرؤية. سلمنا أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لكن قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لا يفيد إلا نفي العموم وأنتم تدعون عموم النفي فأين ذاك من هذا. وإنما قلنا إنه لا يفيد إلا نفي العموم لأن صيغة الجمع كما تحمل على الاستغراق فقد تحمل على المعهود السابق أيضا. فقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يفيد أنها لا تدركه في الدنيا وأنها تدركه إذا تبدلت صفاتها وتغيرت أحوالها في الآخرة، أو نقول قول القائل: لا يدركه جميع الأبصار يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب، فلم لا يجوز أن يفيد أنه يدركه بعض الأبصار كما لو قيل إن محمدا ما آمن به كل الناس فإنه يفيد أنه آمن به بعض الناس، سلمنا أن الأبصار لا تدركه البتة فلم لا يجوز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة كما هو مذهب ضرار بن عمرو الكوفي. أو نقول: سلمنا أن الأبصار لا تدركه فلم قلتم إن المبصرين لا يدركونه، أما قولهم إن الآية مذكورة في معرض المدح فنقول: لو لم يكن الله تعالى جائز الرؤية لما حصل المدح بقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وإنما يحصل التمدح لو كان بحيث نصح رؤيته. ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته لغاية جلاله ونهاية جماله. والتحقيق فيه أن النفي المحض والعدم الصرف لا يكون موجبا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 للمدح والعلم به ضروري، بل إذا كان النفي دليلا على حصول صفة ثابتة من صفات المدح قيل: إن ذلك النفي يوجب التمدح كقوله لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255] فإنه لا يفيد المدح نظرا إلى هذا النفي، فإن الجماد أيضا لا تأخذه سنة ولا نوم إلا أن هذا النفي في حق الباري تعالى يدل على كونه عالما بجميع المعلومات من غير تبدل ولا زوال. فقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يمتنع أن يفيد المدح إلا إذا دل على معنى موجود وذلك ما قلناه من كونه قادرا على حجب الأبصار ومنعها عن الإحاطة به، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية عليكم لا لكم لأنها أفادت أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته. ثم نقول: إذا ثبت ذلك يجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة لأن القائل قائلان: قائل بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه، وقائل لا يرونه ولا تجوز رؤيته، وإذا بطل هذا القول يبقى الأول حقا لأن القول بجواز رؤيته مع أنه لا يراه أحد قول لم يقل به أحد وهذا استدلال لطيف. ثم إن القاضي استدل هاهنا على نفي الرؤية بوجوه أخر خارجة عن التفسير لائقة بالأصول. فأولها أن الحاسة إذا كانت سليمة وكان المرئي حاضرا وكانت الشرائط المعتبرة حاصلة- وهو أن لا يحصل القرب القريب والبعد البعيد وارتفع الحجاب وكان المرئي مقابلا أو في حكم المقابل- فإنه يجب حصول الرؤية وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبول ونحن لا نسمعها ولا نراها، وهذا يوجب السفسطة إذا ثبت هذا فنقول: القرب القريب والبعد البعيد والحجاب والمقابلة في حقه تعالى ممتنع، فلو صحت رؤيته كان المقتضي لحصول تلك الرؤية سلامة الحاسة وكون المرئي بحيث يصح رؤيته، وهذان المعنيان حاصلان في هذا الوقت فوجب أن تحصل رؤيته، وحيث لم تحصل علمنا أن رؤيته ممتنعة في نفسها. وأجيب بأن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ولا يلزم من ثبوت حكم لشيء ثبوت مثله فيما يخالفه. وثانيها لو صحت رؤيته لأهل الجنة لرآه أهل النار أيضا لأن القرب والبعد والحجاب ممتنع في حقه تعالى. وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يخلق الله تعالى الرؤية في عيون أهل الجنة ولا يخلقها في عيون أهل النار؟ وثالثها أن كل ما كان مرئيا كان مقابلا أو في حكم المقابل، والله تعالى منزه عن ذلك. وأجيب بمنع الكلية وبأنه إعادة لعين الدعوى لأن النزاع واقع في أن الموجود الذي لا يكون مختصا بمكان وجهة هل يجوز رؤيته أم لا. ورابعها أن أهل الجنة يلزم أن يروه في كل حال حتى عند الجماع لأن القرب والبعد عليه تعالى محال، ولأن رؤيته أعظم اللذات وفوات ذلك يوجب الغم والحزن وذلك لا يليق بحال أهل الجنة. وأجيب بأنهم لعلهم يشتهون الرؤية في حال دون حال كسائر الملاذ والمنافع. (في تعديد الوجوه الدالة على جواز الرؤية) : منها هذه الآية كما بينا. ومنها أن موسى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 عليه السلام طلب الرؤية فدل ذلك على جوازها. ومنها أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز. ومنها قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [الكهف: 110] قد اتفق الجمهور على أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله فسر الحسنى بالجنة والزيادة بالرؤية، ومنها قوله فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ [الكهف: 11] ونحو ذلك من الآيات الدالة على اللقاء، ومنها قوله كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف: 107] والاقتصار على النزل لا يجوز فالزائد على جنات الفردوس لا يكون إلا اللقاء. ومنها قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: 13] وسوف يأتي في سورة النجم إن شاء الله تعالى. ومنها قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] ومنها قوله كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] فيكون المؤمنون غير محجوبين. ومنها قوله فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ [الزخرف: 71] ولا شك أن القلوب الصافية مجبولة على حب معرفة الله على أكمل الوجوه وأكمل طرق المعرفة هو العيان. ومنها قوله وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الدهر: 20] فيمن قرأ بفتح الميم وكسر اللام. وأما الأخبار فكثيرة منها: الحديث المشهور «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» «1» والمراد تشبيه الرؤية بالرؤية في الجلاء والوضوح لا تشبيه المرئي بالمرئي. ومنها أن الصحابة اختلفوا في أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله هل رأى الله تعالى ليلة المعراج ولم يكفر بعضهم بعضا بهذا السبب فدل ذلك على أنهم كانوا يجمعون على إمكان الرؤية. أما قوله تعالى وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ففيه دليل على أنه سبحانه مبصر للمبصرات، راء للمرئيات، مطلع على ماهياتها، عليم بعوارضها وذاتياتها. ثم قال وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ وليس المراد باللطافة ضد الكثافة وهو رقة القوام فإن ذلك من صفات الأجسام، بل المراد لطف صنعه في تركيب أبدان الحيوانات من الأجزاء الدقيقة والأغشية الرقيقة والمنافذ الضيقة التي لا يعلمها إلا مبدعها. أو المراد أنه لطيف في الإنعام والرحمة لا يأمرهم فوق طاقتهم وينعم عليهم فوق استحقاقهم. أو الغرض أنه يثني عليهم بالطاعة ولا يقطع موادّ إحسانه عنهم بالمعصية. أو المراد أنه يلطف عن أن يدركه الأبصار الخبير بكل لطيف ولا يلطف شيء عن إدراكه، ثم عاد إلى تقرير أمر الدعوة والرسالة فقال قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ أي موجباتها والبصيرة للقلب بمنزلة البصر للعين. فَمَنْ أَبْصَرَ الحق وآمن فَلِنَفْسِهِ أبصر   (1) رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 16، 26. كتاب تفسير سورة 50 باب 2. كتاب الرقاق باب 52. أبو داود في كتاب السنة باب 19. الترمذي في كتاب الجنة باب 16. أحمد في مسنده (3/ 16، 17، 27) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 وإياها نفع. وَمَنْ عَمِيَ عنه فعلى نفسه عمي وإياها ضر. قالت المعتزلة: فيه تصريح بأن العبد يتمكن من الأمرين: الفعل والترك. وعورض بالعلم والداعي وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم. ثم حكى شبه المنكرين بقوله وَكَذلِكَ أي مثل ذلك التقرير البليغ نُصَرِّفُ الْآياتِ نأتي بها متواترة حالا بعد حال وَلِيَقُولُوا عطف على محذوف أي لتلزمهم الحجة وليقولوا أو متعلق بما بعده أي وليقولوا درست نصرفها. ومعنى دَرَسْتَ قرأت وتعلمت من الدرس، ومن قرأ دارست أي قرأت على اليهود وقرؤا عليك وجرت بينك وبينهم مدارسة ومذاكرة. وأما قراءة ابن عامر دَرَسْتَ فهي من الدروس بمعنى أن هذه الآيات قد درست وعفت أي هذه الأخبار التي تلوتها علينا من جملة أساطير القرون الخالية، قالت العلماء: التركيب يدل على التذليل والتليين لأن من درس الكتاب فقد ذلله بكثرة القراءة، ومنه قيل للثوب الخلق «دريس» ، لأنه قد لان فكأنه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله صرف الآيات وهو أمران: أحدهما قوله وليقولوا دارست والثاني قوله وَلِنُبَيِّنَهُ أما الثاني فلا إشكال فيه لأنه بيّن أن الحكمة في هذا التصريف أن يظهر منه البيان والعلم والضمير في لِنُبَيِّنَهُ للآيات لأنها في معنى القرآن، أو يعود إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر للعلم به، أو إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل نحو: ضربته زيدا أي ضربت الضرب زيدا. وأما الأول فقد أورد عليه أن قولهم للرسول دارست كفر منهم بالقرآن والرسول، وعلى هذا فتعود مسألة الجبر والقدر، أما الأشاعرة فأجروا الكلام على ظاهره وقالوا: معناه أنا ذكرنا هذه الدلائل حالا بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزدادوا كفرا على كفر، ونبينه لبعض فيزدادوا إيمانا على إيمان كقوله يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة: 26] وأما المعتزلة فقال الجبائي منهم والقاضي: إن هذا الإثبات محمول على النفي والتقدير: نصرف الآيات لئلا يقولوا كقوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] أي لئلا تضلوا. أو المراد لام العاقبة، وزيف بأن حمل الإثبات على النفي تحريف لكلام الله وفتح هذا الباب يخرج الكتاب عن أن يكون حجة. وأيضا إنه مناف للمقصود لأن إنزال الآيات نجما فنجما هو الذي أوقع الشبهة للقوم في أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما أتى بالقرآن على سبيل المدارسة والمذاكرة مع أقوام آخرين، ولهذا كانوا يقولون لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة. فالجواب الذي ذكره إنما يصح لو كان التصريف علة لأن يمتنعوا من هذا القول لكنه موجب له فسقط كلامهم، وأيضا حمل اللام على لام العاقبة مجاز، وحمل الكلام على الحقيقة أولى. ثم إنه لما حكى عن الكفار أنهم نسبوه في شأن القرآن إلى الافتراء وإلى أنه دارس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 أقواما واستفاد هذه العلوم منهم ثم نظمها قرآنا وادّعى أنه نزل عليه من الله أتبعه قوله اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لئلا يصير ذلك القول سببا لفتوره في تبليغ الدعوة والرسالة والمقصود تقوية قلبه وإزالة الحزن الذي يعتريه بسماع تلك الشبهة، ونبه بالجملة المعترضة أو الحال المؤكدة وهي قوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ على أنه سبحانه لما كان واحدا في الإلهية فإنه يجب طاعته ولا يجوز الإعراض عن تكاليفه بسبب جهل الجاهلين وزيغ الزائغين. ثم ختم الآية بقوله وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وحمله بعضهم على أنها منسوخة بآية القتال. وضعف بأن المراد واترك مقابلتهم فيما يأتونه من سفه، وأن يعدل صلوات الله عليه إلى الطريق الذي يكون أقرب إلى القبول وأبعد عن التنفير والتغيظ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا مذهب الأشاعرة فيه ظاهر. وحمله المعتزلة على مشيئة الإلجاء والقسر. وأجيب بعد المعارضة بالعلم والداعي بأن الإيمان الاختياري هب أنه أنفع وأفضل من الإيمان القهري إلا أنه تعالى لما علم أن ذلك لا يقع ولا يحصل فقد كان يجب في حكمته أن يخلق الله فيه الإيمان القهري كي يخلص من العقاب، وإن لم يجب له الثواب كما أن الأب المشفق إذا علم أن ابنه لا يحسن الغوص يقول له: اترك الغوص في البحر ولا تطلب اللآلئ فإنك لا تجدها واكتف بالرزق القليل مع السلامة، فأما أن يأمره بالغوص في البحر مع اليقين التام بأنه لا يستفيد منه إلا الهلاك فإن ذلك من الرحمة والشفقة بمعزل. ثم ختم الكلام بما يكمل به بصيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وآله، وذلك أنه بيّن له قدر ما جعل إليه فذكر أنه ما جعله حفيظا ولا وكيلا عليهم وإنما فوض إليه الإبلاغ والإنذار. ثم إنهم لما نسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنه جمع القرآن بطريق المداومة وكان لا يبعد أن يغضب له المسلمون لسبب ذلك فيسبوا آلهتهم نهى الله تعالى عن ذلك فقال وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وذلك أن المسلمين إذا شتموا آلهتهم فربما غضبوا وذكروا الله بما لا ينبغي من القول. وفيه تنبيه على أن خصمك إذا شافهك بجهل وسفاهة لم يجز لك أن تقدم على مشافهته بما يجري مجرى كلامه فإن ذلك يوجب فتح باب المشاتمة والمسافهة وإنه لا يليق بالعقلاء. قال ابن عباس: لما نزل إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] قال المشركون: لئن لم تنته عن سب آلهتنا وعيبها لنهجونّ إلهك فنزلت. وقال السدي: لما حضر أبا طالب الوفاة قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهي عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان يمنعه فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحرث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة ابن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن البختري إلى أبي طالب فقالوا: أنت كبيرنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 وسيدنا، وأن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه. فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وآله فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك. فقال أبو طالب: قد أنصفك قومك وبنو عمك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم؟ قال أبو جهل: نعم وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها فما هي؟ قال: قولوا لا إله إلا الله فأبوا واشمأزوا فقال أبو طالب: قل غيرها يا ابن أخي فإن قومك قد فزعوا منها. فقال: يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها. فقالوا: لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك فأنزل الله تعالى هذه الآية. قالت العلماء: إن القوم كانوا مقرين بوجود الإله تعالى فكيف يتصور إقدامهم على شتم الله؟ وأجيب بأنه ربما كان بعضهم قائلا بالدهر ونفي الصانع فما كان يبالي هذا النوع من السفاهة، أو لعل مرادهم شتم الرسول صلى الله عليه وسلم وآله فأجرى الله تعالى شتمه مجرى شتم الله كما في قوله إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] أو لعلهم من جهالتهم اعتقدوا أن الشيطان يحمله على ادعاء الرسالة ثم إنهم سموا ذلك الشيطان بأنه إله محمد صلى الله عليه وسلم وآله. وهاهنا سؤال وهو أن شتم الأصنام من أصول الطاعات فكيف يحسن من الله تعالى أن ينهى عنه؟ والجواب أن هذا الشتم وإن كان طاعة إلا أنه إذا وقع على وجه يستلزم منكرا وجب الاحتراز عنه، لأن هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم الله سبحانه وشتم رسول وفتح باب السفاهة ويقتضي تنفيرهم عن قبول الدين وإدخال الغيظ والغضب في قلوبهم. وفيه أن الأمر بالمعروف قد يقبح إذا أدى إلى ارتكاب منكر، والنهي عن المنكر يقبح إذا أدى إلى زيادة منكر وغلبة الظن قائمة مقام اليقين في هذا الباب. وفيه تأديب لمن يدعو إلى الدين كيلا يتشاغل بما لا يفيد في المطلوب، فإن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر يكفي في القدح في إلهيتها فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها، يقال: عدا فلان عدوا وعدوانا وعداء إذا ظلم ظلما يتجاوز القدر. قال الزجاج عَدْواً منصوب على المصدر لأن المعنى فيعدو عدوا وقرىء عَدْواً بفتح العين والتشديد أي في حال كونهم أعداء. ومعنى بِغَيْرِ عِلْمٍ على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به وكَذلِكَ أي مثل ذلك التزيين زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ قالت الأشاعرة: فيه دلالة على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر وللمؤمن الإيمان وللعاصي المعصية، وزيفه الكعبي بقوله تعالى وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل: 24] [العنكبوت: 38] وبقوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة: 257] فإذا المراد أنه تعالى زين لهم ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 لهم أن يعملوا وهم لا يفقهون، أو المراد زينا لكل أمة من أمم الكفار عملهم أي خليناهم وشأنهم وأمهلناهم حتى حسن عندهم سوء عملهم، أو أمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زينا في زعمهم وقولهم إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا، وضعف بعد المعارضة بالعلم وخلق الداعي بأن قوله تعالى كَذلِكَ زَيَّنَّا بعد قوله فَيَسُبُّوا اللَّهَ مشعر بأن إقدامهم على ذلك المنكر إنما كان بتزيين الله تعالى. وأيضا الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم بكونه كفرا وجهلا والعلم بذلك ضروري، بل إنما يختاره لأنه اعتقد كونه إيمانا وعلما وحقا وصدقا، ولولا سابقة الجهل الأول لما اختار الجهل الثاني ولا تذهب الجهالات إلى غير النهاية، فلا بد أن ينتهي إلى جهل أول يخلقه الله تعالى فيه وهو بسبب ذلك الجهل ظن الكفر إيمانا والجهل علما. قال: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ والغرض حكاية شبهة أخرى لهم وهي أن هذا القرآن كيفما كان أمره فليس من جنس المعجزات البتة، ولو أنك يا محمد جئتنا بمعجزة باهرة وبينة قاهرة لآمنا بك وأكدوا هذا المعنى بالأيمان والأقسام. قال الواحدي: إنما سمى اليمين بالقسم لأن اليمين موضوعة لتوكيد الخبر وكانت الحاجة إلى ذكر الحلف عند انقسام الناس وقت سماع الخبر إلى مصدق ومكذب، فمعنى الأقسام إزالة القسمة وجعل الناس كلهم مصدقين بواسطة الحلف واليمين. عن محمد بن كعب قال: كلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله قريش فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كانت معه عصا فضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن صالحا كانت له ناقة، فأتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا. قال: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال: إن شئت أصبح الصفا ذهبا ولكن لم أرسل بآية فلم يصدق بها إلا أنزلت العذاب، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتركهم حتى يتوب تائبهم وأنزل الله الآيات إلى قوله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ قال الكلبي ومقاتل: إذا حلف الرجل بالله فهو جهد يمينه. وقال الزجاج: معناه بالغوا في الأيمان. والمراد بقوله لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ ما روينا من جعل الصفا ذهبا. وقيل: هي الأشياء المذكورة في قوله وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا [الإسراء: 90] الآيات. وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم وآله يخبرهم بأن عذاب الاستئصال كان ينزل بالأمم المتقدمين المكذبين فالمشركون طلبوا مثلها. قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي هو مختص بالقدرة على أمثال هذه الآيات لأن المعجزات لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى، أو المراد بالعندية هو العلم بأن إحداث هذه المعجزات هل يقتضي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 إيمانهم أم لا كقوله وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام: 59] أو المراد أنها وإن كانت معدومة في الحال إلا أنه تعالى متى شاء أحدثها وليس لكم أن تتحكموا في طلبها كقوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [الحجر: 21] وَما يُشْعِرُكُمْ ما استفهام والجملة خبره، ثم من قرأ أَنَّها بكسر الهمزة على الابتداء- وهي القراءة الجيدة- فالتقدير وما يشعركم ما يكون منهم ثم ابتدأ فقال أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وأما قراءة الفتح فقال سيبويه: سألت الخليل عن ذلك فقال: لا تحسن لأنها تصير عذرا للكفار، لأن معنى قول القائل: ما يدريك أنه لا يفعل هو أنه يفعل. فمعنى الآية أنها إذا جاءت آمنوا وذلك يوجب مجيء هذه الآيات ويصير هذا الكلام عذرا لهم في طلبها، لكن القراءة لما كانت متواترة فلا جرم ذكر العلماء فيه وجوها: قال الخليل: «أن» بمعنى «لعل» تقول العرب: ائت السوق أنك تشتري لنا شيأ أي لعلك. ويقوي هذا الوجه قراءة أبي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون وثانيها «أن» تجعل «لا» صلة كما في قوله ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء: 95] وثالثها أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها فقال الله: وما يدريكم أيها المؤمنون أنهم لا يؤمنون على معنى أنكم لا تدرون ما سبق به على من أنهم لا يؤمنون. وأما من قرأ لا تُؤْمِنُونَ بتاء الخطاب فالمراد وما يشعركم أيها الكفار. قال القاضي والجبائي: في الآية دلالة على أنه تعالى يجب أن يفعل كل ما في مقدوره من الألطاف إذ لو كان في المعلوم لطف يؤمنون عنده، ثم إنه لا يفعل ذلك لم يكن لتعليل ترك الإجابة بأنهم لا يؤمنون وجه. وأيضا لو كان الإيمان بخلق الله تعالى ولم يكن لفعل الألطاف أثر في حمل المكلف على الطاعات لم يكن لإظهار تلك المعجزات أثر. وأجيب بأن تأثير المعجزات عندهم مبني على وجوب اللطف، فلو أثبت اللطف به لزم الدور، وبأن الآية التي بعد هذه وهي قوله وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ تدل على أن الكفر والإيمان بقضاء الله وقدره. ومعنى تقليب الأفئدة والأبصار هو أنهم إذا جاءتهم الآيات القاهرة التي اقترحوها عرفوا كيفية دلالتها على صدق الرسول إلا أنه تعالى إذا قلب قلوبهم وأبصارهم عن ذلك الوجه الصحيح بقوا على الكفر ولم ينتفعوا بتلك الآيات. والتقليب تحريك الشيء عن وجهه، وكان صلى الله عليه وسلم وآله يقول «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك» «1» والمراد أنه تعالى يقلب القلوب تارة من داعي الخير إلى داعي الشر وبالعكس. وإنما قدم ذكر تقليب الأفئدة على تقليب الأبصار، لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر عنه، والحاصل   (1) رواه الترمذي في كتاب القدر باب 7. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب 2. أحمد في مسنده (4/ 182) ، (6/ 91) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 أن السمع والبصر آلتان للقلب فلهذا السبب وقع الابتداء بتقليب القلب. قال الجبائي: المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وحرها لتعذيبهم. وزيف بأن قوله وَنَذَرُهُمْ إنما يحصل في الدنيا وهذا يستلزم سوء النظم. وقال الكعبي: المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم بأنا لا نفعل بهم ما نفعل بالمؤمنين من الفوائد والألطاف حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم. وضعف بأنه إنما استحق الحرمان من تلك الألطاف والفوائد بسبب إقدامه على الكفر وهو الذي أوقع نفسه في ذلك الحرمان فكيف يحسن إضافته إلى الله تعالى في قوله وَنُقَلِّبُ وقال القاضي: القلب باق على حالة واحدة إلا أنه تعالى أدخل التقليب والتبديل في الدلائل. واعترض بأن تقليب القلب نقله من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة. أما قوله كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فقال الواحدي: فيه حذف والتقدير ولا يؤمنون بهذه الآيات كما لم يؤمنوا بظهور الآيات أول مرة يعني أول مرة أتتهم الآيات مثل انشقاق القمر وغيره. والكناية في بِهِ إما عائدة إلى القرآن، أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم وآله، أو إلى ما طلبوا من الآيات وقيل: الكاف للجزاء أي كما لم يؤمنوا أول مرة فكذلك نقلب أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم. قال الجبائي: وَنَذَرُهُمْ أي لا نحول بينهم وبين اختيارهم ولا نمنعهم بمعاجلة الهلاك وغيره لكنا نمهلهم، فإن أقاموا على طغيانهم فذلك من قبلهم وأنه يوجب تأكيد الحجة عليهم. وقالت الأشاعرة: نقلب أفئدتهم من الحق إلى الباطل ونتركهم في ذلك الطغيان والضلال والعمى. التأويل: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ دلالات السعادات الباقية، فمن أبصرها بنظر البصيرة فاشتغل بتحصيلها وأقبل على الله لسلوك سبيلها فذلك تحصيل لنفسه فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وَمَنْ عَمِيَ فبالعكس. وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ لا تخاطبوا أهل الضلال على مواجب نوازع النفس والطبيعة فيحملهم ذلك على ترك الإجلال وإظهار الضلال، بل خاطبوهم بلسان الحجة والتزام الحجة ونفي الشبهة. وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ حسبوا أن البرهان يوجب الإيمان ولم يعلموا أنهم مقهورون تحت حكم السلطان، وما يغني وضوح الأدلة لمن لم تدركه سوابق الرحمة وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ عن الآخرة إلى الدنيا وَأَبْصارَهُمْ عن شواهد المولى إلى مشاهدة النفس والهوى كأنهم لم يؤمنوا يوم الميثاق إذ قلت ألست بربكم؟ قالوا بلى. تم الجزء السابع ويليه الجزء الثامن وأوله وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 بسم الله الرحمن الجزء الثامن من أجزاء القرآن الكريم [سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 121] وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) القراآت: قُبُلًا بكسر القاف وفتح الباء: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون: بضمتين. مُنَزَّلٌ بالتشديد: ابن عامر وحفص والمفضل. كَلِمَةُ رَبِّكَ عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب. الباقون كلمات مَنْ يَضِلُّ من الإضلال: الأصبهاني عن نصير، فصل على البناء للفاعل وحَرَّمَ على البناء للمفعول: حمزة وخلف وعاصم غير حفص والمفضل، وقرأ أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب وحفص جميعا بالفتح، الباقون: على البناء للمفعول فيهما لَيُضِلُّونَ بضم الياء: عاصم وحمزة وعلي وخلف، الباقون: بالفتح. الوقوف: يَجْهَلُونَ هـ غُرُوراً ط يَفْتَرُونَ هـ مُفَصَّلًا ط الْمُمْتَرِينَ هـ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 وَعَدْلًا ط لِكَلِماتِهِ ج لابتداء الضمير المنفصل مع احتمال الواو الحال أي لا تبديل لكلماته وهو يسمع ويعلم، الْعَلِيمُ هـ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ط يَخْرُصُونَ هـ عَنْ سَبِيلِهِ ج بِالْمُهْتَدِينَ هـ مُؤْمِنِينَ هـ إِلَيْهِ ط بِغَيْرِ عِلْمٍ ط بِالْمُعْتَدِينَ هـ وَباطِنَهُ ط يَقْتَرِفُونَ هـ لَفِسْقٌ ط لِيُجادِلُوكُمْ ج لَمُشْرِكُونَ هـ. التفسير: هذا شروع في تفصيل ما أجمله قوله أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 109] وكان المستهزءون بالقرآن خمسة: الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحرث بن حنظلة، أتوا الرسول صلى الله عليه وآله في رهط من أهل مكة فقالوا: أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقول أم باطل، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا أي كفيلا على ما تدعيه، فنفى الله تعالى عنهم الإيمان وإن أوتوا هذه المقترحات. قال أبو زيد: يقال لقيت فلانا قبلا وقبلا ومقابلة كلها بمعنى واحد وهو المواجهة رواه الواحدي، وقال أبو عبيدة والفراء والزجاج: قبلا بكسر القاف معناه معاينة. روي عن أبي ذر قال: قلت للنبي صلى الله عليه وآله: أكان آدم نبيا؟ قال: نعم، كان نبيا كلمه الله تعالى قبلا، وأما قبلا بضمتين فقيل: إنه جمع قبيل ومعناه الجماعة تكون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتى مثل الروم والزنج والعرب ولهذا قال الأخفش في تفسيره أي قبيلا قبيلا. أو معناه الكفيل والعريف من قبل به يقبل قبالة، والمعنى لو حشرنا عليهم كل شيء فكفلوا بصحة ما يقول ما آمنوا، وموضع الإعجاز فيه أن الأشياء المحشورة منها ما ينطق ومنها ما لا ينطق، ومنها حي ومنها ميت، فإذا حشرها الله تعالى على اختلاف طبائعها مجتمعة في موقف واحد ثم أنطقها وأطبقوا على قبول هذه الكفالة كان ذلك من أعظم المعجزات، أما قوله تعالى: ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إيمانهم، فقد قالت الأشاعرة: فلما لم يؤمنوا دل على أنه تعالى ما شاء إيمانهم، وقالت المعتزلة: لو لم يرد منهم الإيمان لما وجب عليهم الإيمان كما لو لم يأمرهم به لم يجب، ولو أراد الكفر من الكافر لكان الكافر في كفره مطيعا لله لأنه لا معنى للطاعة إلا فعل المراد، ولو جاز من الله تعالى أن يريد الكفر لجاز أن يأمر به، ولجاز أن يأمرنا بأن نريد الكفر. فالمراد من الآية أنه شاء من الكل الإيمان الاختياري وما شاء الإيمان القهري. والمعنى: ما كانوا ليؤمنوا إيمانا اختياريا إلا أن يشاء الله مشيئة إكراه واضطرار فحينئذ يؤمنون، وزيف بأن الاختيار لا بد معه من حصول داعية يترجح بها أحد طرفي الممكن، ولا تحصل تلك الداعية إلا بتخليق الله تعالى فكأنه لا اختيار. قال الجبائي: قوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يدل على حدوث المشيئة إذ لو كانت قديمة وهي الشرط لزم من حصولها حصول المشروط. وأجيب بأنها قديمة إلا أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 تعلقها بأحداث المحدث في الحال إضافة حادثة. ثم ختم الآية بقوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ قالت الأشاعرة: أي لا يعلمون أن الكل بقضاء الله وبقدره. وقالت المعتزلة: إنهم لا يدرون أنهم يبقون كفارا عند ظهور الآية التي طلبوها والمعجزات التي اقترحوها فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرهم فيطمعون في إيمانهم الاختياري بمجيء الآيات المقترحات. ثم قال: وَكَذلِكَ قيل: إنه منسوق على قوله: كَذلِكَ زَيَّنَّا [الأنعام: 108] أي وكما زينا لكل أمة عملهم جَعَلْنا وقيل: إن المشار إليه محذوف أي وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم، لم نمنعهم من العداوة لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر. قالت الأشاعرة: لا شك أن تلك العداوة معصية وكفر، وأن جعلها شرفا لآية تدل على أن خالق الخير والشر والطاعة والمعصية والإيمان والكفر هو الله. قال الجبائي: المراد بهذا الجعل أنه حكم وبين فإن الرجل إذا حكم بكفر إنسان قيل إنه كفره، وإذا أخبر عن عدالته قيل عدله. وقال الكعبي: إنه أمر الأنبياء بعداوتهم وأعلمهم بكونهم أعداء لهم فاقتضى ذلك أنهم صاروا أعداء للأنبياء. لأن العداوة تكون من الجانبين. أجاب أبو بكر الأصم بأنه لما أرسل محمدا إلى العالمين وخصه بتلك المعجزات صار ذلك التخصيص سببا للحسد والعداوة أو للبغضاء فهذا هو المراد بجعلهم أعداء له. وزيف بأن الأفعال مستندة إلى الدواعي وهي من الله تعالى، وبأن العداوة والمحبة متعلقة بالطبع لا بالإرادة والتكلف فلا يقدر عليها إلا الله تعالى. وانتصاب ال شَياطِينَ كما مر في قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام: 100] قال الزجاج وابن الأنباري: عَدْواً في معنى الجمع، ولقائل أن يقول: لا حاجة إلى هذا التكلف لصحة قولنا: وكذلك جعلنا لكل واحد من الأنبياء عدوّا واحدا. إذ ليس يجب أن يحصل لكل واحد من الأنبياء أكثر من عدو واحد. عن ابن عباس: كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان. وقال مجاهد وقتادة والحسن: إن من الجن شياطين ومن الإنس شياطين، وإن شيطان الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليعينه عليه. روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال لأبي ذر: هل تعوّذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ قال: قلت: وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم، هم شر من شياطين الجن. وقيل: إن الجميع من ولد إبليس إلا أن الذي يوسوس للإنس يسمى شيطان الإنس، والذي يوسوس للجن يسمى شيطان الجن. وزيف بأن المقصود من الآية الشكاية من سفاهة الكفار الذين هم الأعداء وهم الشياطين. وعن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 مالك بن دينار أن شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجن لأني إذا تعوّذت بالله ذهب شيطان الجن عني وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا. ومعنى الإيحاء الإيماء أو القول السريع أي يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس، وكذلك بعض الجن إلى بعض، وبعض الإنس إلى بعض، وكأنه لا يتصوّر وسوسة الإنس إلى الجن إلا على تقدير القول بالتسخير. وزُخْرُفَ الْقَوْلِ ما يزينه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي، والتحقيق فيه أن الإنسان ما لم يعتقد في أمر من الأمور خيرية أو نفعا لم يرغب فيه. ثم إن كان هذا الاعتقاد مطابقا للواقع فهو الحق والصدق والإلهام وكان صادرا من الملك وإلا كان مزخرفا أي يكون باطنه فاسدا وظاهره مزينا، قال الواحدي: غُرُوراً نصب على المصدر لأن إيحاء الزخرف من القول في معنى الغرور. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ استدلال الأشاعرة به ظاهر والمعتزلة يحملونه على مشيئة الإلجاء. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ منصوب على أنه مفعول معه أو مفعول به أي وافتراءهم أو ما يفترونه. قال ابن عباس: يريد ما زين لهم إبليس وغرهم به، وفيه تحذير من الكفر وترغيب في الإيمان وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وتنبيه له على ما أعد للكفرة من العقاب وله من الثواب بسبب صبره على سفاهتهم وتلطفه بهم. الصغو في اللغة الميل. يقال في المستمع إنه مصغ إذا مال بحاسته إلى ناحية الصوت. وأصغى الإناء إذا أماله حتى انصب بعضه في بعض. ويقال للقمر إذا مال إلى الغروب صغا وأصغى. قال الجوهري: صغا يصغو ويصغي صغوا أي مال، وكذلك صغى بالكسر يصغي بالفتح صغى وصغيا، واللام في وَلِتَصْغى لا بد لها من متعلق فقالت الأشاعرة: التقدير وإنما جعلنا مثل ذلك الشخص عدوّا للنبي لتميل إِلَيْهِ أو إلى قوله المزخرف أَفْئِدَةُ الكفار فيبعدوا بذلك السبب عن قبول دعوة النبي وَلِيَرْضَوْهُ وليختاروه على أنفسهم وَلِيَقْتَرِفُوا وليكتسبوا من الآثام ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ وقال الجبائي: إن هذا الكلام خرج مخرج الأمر ومعناه الزجر كقوله: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء: 14] . وزيف بأن حمل لام كي على لام الأمر تحريف. وقال الكعبي: هي لام العاقبة تقديره: ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين أفئدة الكفار جعلنا لكل نبي عدوا. وعن أبي مسلم أنها معطوفة على موضع غُرُوراً والتقدير: يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغتروا بذلك ولتميل قلوب الكفار إلى المذاهب الباطلة. وأورد عليه أن ميل القلوب إلى الآراء الفاسدة هو عين الاغترار فيلزم عطف الشيء على نفسه. وهاهنا بحث وهو أن الأشاعرة قالوا: البنية ليست شرطا للحياة، فالحي هو الجزء الذي قامت الحياة به، والعالم هو الجزء الذي قام العلم به. وقالت المعتزلة: الحي والعالم هو الجملة لا ذلك الجزء. حجة الأشاعرة أنه جعل الموصوف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 بالميل والرغبة في الآية هو القلب لا جملة الحي، وبمثله استدل من جعل المتعلق الأول للنفس هو القلب لا مجموع البدن. ثم إنه سبحانه لما ذكر أنه لا فائدة لهم في إظهار الآيات التي اقترحوها بين بقوله: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً الآية أن الدليل الدال على نبوته قد حصل وكمل والزائد على ذلك لا يجب الالتفات إليه، وإنما قلنا إن الدليل الدال على نبوته قد حصل لوجهين: الأول: أن الله تعالى قد حكم بنبوته من حيث إنه أنزل عليه الكتاب المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته وأشار إلى هذا الوجه بقوله: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً يعني قل يا محمد إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات، فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله حكما فإن كل أحد يقول إن ذلك غير جائز. الوجه الثاني: اشتمال التوراة والإنجيل على أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله حقا، وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله وأشار إليه بقوله: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ثم قال: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ والخطاب لكل أحد أي إذا ظهرت الدلائل فلا ينبغي أن يمتري فيه أحد. وقيل: الخطاب للرسول في الظاهر والمراد به الأمة. وقيل: الخطاب للرسول في الحقيقة والمراد التهييج والإلهاب كقوله: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 14] والمراد فلا تكونن من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق، ولا يريبك جحود أكثرهم. قال الواحدي: الحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة. وقال بعض أهل التأويل: الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم كل من يحكم والحكم هو الذي لا يحكم إلا بالحق. ثم لما بين أن القرآن معجز قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي القرآن. وقوله: صِدْقاً وَعَدْلًا مصدران منتصبان على الحال من الكلمة، ومعنى تمامها أنها وافية كافية في كونها معجزة دالة على صدق محمد، أو كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى القيامة علما وعملا، أو المراد بالتمام أنها أزلية ولا يحدث بعد ذلك شيء. واعلم أن كل ما حصل في القرآن نوعان: الخبر والتكليف فالخبر كل ما أخبر الله تعالى عن وجوده أو عن عدمه كالخبر عن وجود ذاته وحصول صفاته أعني كونه تعالى قادرا سميعا بصيرا ويدخل فيه الخبر عن صفات التقديس والتنزيه كقوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص: 3] لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255] ويدخل فيه الخبر عن أقسام أفعال الله تعالى وكيفية تدبيره لملكوته في السموات والأرض وفي عالم الأرواح والأجسام، ويدخل فيه الخبر عن أحكام الله تعالى في الوعد والوعيد والثواب والعقاب، ويدخل فيه الخبر عن أقسام أسماء الله تعالى والخبر عن النبوات وأقسام المعجزات، والخبر عن أحوال النشر والقيامة وصفات أهل الجنة والنار، والخبر عن أحوال المتقدمين والخبر عن المغيبات. وأما التكليف فيدخل فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 كل أمر ونهي توجه منه سبحانه على عبيده سواء كان ملكا أو بشرا أو شيطانا، وسواء كان ذلك في شرعنا أو في شرائع الأنبياء المتقدمين أو في مراسيم الملائكة المقربين الذين هم سكان السموات والجنة والنار والعرش وما وراءه مما لا يعلم أحوالهم إلا الله تعالى. فإذن المراد وتمت كلمات ربك صدقا إن كان من باب الخبر وعدلا إن كان من باب التكاليف وهذا ضبط حسن. وقيل: إن كل ما أخبر الله تعالى عنه من وعد ووعيد وثواب وعقاب فهو صدق لأنه لا بد أن يكون واقعا، وهو بعد وقوعه عدل لأن أفعاله منزهة عن أن تكون بصفة الظلم. ثم قال: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ والمعنى أن هؤلاء الكفار يلقون الشبه في كون القرآن دالا على صدق محمد إلا أن تلك الشبهات لا تأثير لها في هذه الدلالة البتة لجلاء الدلالة ووضوحها. أو المراد أن كلماته تبقى موصوفة بصفتها مصونة عن التحريف والتغيير كما قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] أو الغرض أنها بريئة عن التناقض كما قال: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] أو المعنى أن أحكام الله تعالى لا تتغير ولا تتبدل لأنها أزلية والأزلي لا يزول، وهذا الوجه أحد الأصول القوية في إثبات الجبر إذ يلزم منه أن لا ينقلب السعيد شقيا وبالضد. ثم لما أجاب عن شبه الكفار بيّن أن عند ظهور الحجة وتبين المحجة لا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى كلمات الجهال فقال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ والمضل لا بد أن يكون ضالا ويعني بهم الذين ينازعون النبي في الدين غير قاطعين بصحة مذاهبهم كالزنادقة وعبدة الكواكب والأصنام، وكالذين يحرمون البحائر والسوائب والوصائل ويحللون الميتة فيحكمون على الحق بأنه باطل وعلى الباطل بأنه حق. ثم قال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يقدرون على أنهم على شيء أو يكذبون في أن الله أحل كذا وحرم كذا. وأصل الخرص حزر ما على النخل من الرطب تمرا. وليس لنفاة القياس تمسك بالآية من قبل توجه الذم على متبع الظن، لأن المذموم من اتباع الظن هو الذي لا يستند إلى أمارة كظن الكفار المستند إلى تقليد أسلافهم فقط، أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا إلى أمارة فلم يتم أنه كذلك. ثم قال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ والمراد أنك بعد ما عرفت أن الحق ما هو والباطل ما هو فلا تكن في قيدهم بل فوض أمرهم إلى خالقهم لأن الله تعالى عالم بأن المهتدي من هو والضال من هو فيجازي كل أحد بما يليق بعمله، أو المراد أن هؤلاء الكفار وإن أظهروا من أنفسهم ادعاء الجزم واليقين فهم كاذبون والله تعالى عالم بأحوال قلوبهم وبواطنهم، ومطلع على تحيرهم في أودية الجهالة وتيه الضلال، قال النحويون: إن أفعل التفضيل لا يعمل في مظهر، ففي الكلام محذوف أي يعلم من يضل عن سبيله، فإن لم يقدر محذوف قوي بالباء كما في القلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القلم: 7] وهذا هو الأصل، وإنما خص هذه السورة بالحذف موافقة لقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] وعدل إلى لفظ المستقبل تنبيها على قطع الإضافة لأن أكثر ما يستعمل «أفعل من» يستعمل مع الماضي نحو «أعلم من دب ودرج» و «أحسن من قام وقعد» و «أفضل من حج واعتمر» . فلو لم يعدل إلى لفظ المستقبل التبس بالإضافة تعالى الله عن ذلك. وجوّز بعضهم أن يكون «من» للاستفهام كقوله: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى [الكهف: 12] ثم قال: فَكُلُوا والفاء مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرّمون الحلال، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم. فقال الله سبحانه للمسلمين: إن كنتم محققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وهو المذكى ببسم الله. فإن قيل: إن القوم كانوا يبيحون ما ذبح على اسم الله تعالى ولا ينازعون فيه. وإنما النزاع في أكل الميتة فإنهم كانوا يبيحونها والمسلمون يحرمونها، فما الحكمة في إثبات الحكم في المتفق عليه وترك الحكم في المختلف فيه؟ فالجواب لعل القوم كانوا يحرمون أكل المذكاة ويبيحون أكل الميتة فرد الله تعالى عليهم في الأمرين بقوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وبقوله: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 145] أو نقول: المراد اجعلوا أكلكم مقصورا على ما ذكر اسم الله عليه، وعلى هذا فيكون المراد تحريم الميتة فقط والله أعلم. أما قوله: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ فأكثر المفسرين قالوا: المراد به ما فصل في أول المائدة من قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] إلى آخر الآية، واعترض عليه بأن سورة الأنعام مكية والمائدة من آخر ما نزل بالمدينة، والآية تقتضي أن يكون المفصل مقدما على هذا المجمل بل الأولى أن يقال: المراد قوله تعالى بعد هذه الآية: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الأنعام: 145] إلى آخرها. فإن هذا القدر من التأخر غير ضائر. وقوله: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدّة المجاعة وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ المبالغة في قراءة ضم الياء أكثر لأن كل مضل فإنه يكون ضالا، وقد يكون الضال غير مضل، قيل: إنه عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أول من غير دين إسماعيل واتخذ البحائر والسوائب وأكل الميتة. وقوله: بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ يريد أن عمرو بن لحي أقدم على هذه المذاهب عن الجهالة الصرفة، وقال الزجاج: المراد منه الذين يحللون الميتة ويناظرون في إحلالها، أو يحتجون عليها بقولهم إذ حل ما تذبحونه أنتم فلأن يحل ما يذبحه الله تعالى أولى، وكذلك كل ما يضلون فيه من عبادة الأوثان والطعن في نبوّة محمد صلى الله عليه وآله. وفي الآية دلالة على أن النزاع في الدين بمجرد التقليد حرام إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ فيجازيهم عليها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 وفيه من التهديد ما فيه. ثم ذكر آية جامعة فقال: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ فقيل: ظاهره الزنا في الحوانيت وباطنه الصديقة في السر. قال الضحاك: كان أهل الجاهلية يرون الزنا حلالا ما كان سرا. والأصح أن النهي عام إذ لا دليل على تخصيصه. ثم قيل: المراد ما أعلنتم وما أسررتم. وقيل: ما عملتم وما نويتم. وقال ابن الأنباري: يريد وذروا الإثم من جميع جهاته كما تقول: ما أخذت من هذا المال قليلا ولا كثيرا أي ما أخذته بوجه من الوجوه. وقريب منه قول من قال: المراد النهي عن الإثم مع بيان أنه لا يخرج عن كونه إنما بسبب إخفائه وكتمانه. وقيل: المراد النهي عن الإقدام على الإثم. ثم قال: وَباطِنَهُ ليظهر بذلك أن الداعي له إلى ترك ذلك الإثم خوف الله لا خوف الناس. وقيل: ظاهر الإثم أفعال الجوارح، وباطنه أفعال القلوب من الكبر والحسد والعجب وإرادة الشر للمسلمين، ويدخل فيه الاعتقاد والعزم والنظر والظن والتمني والندم على أفعال الخيرات، ومنه يعلم أن ما يوجد في القلب قد يؤاخذ به وإن لم يقترن به عمل إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أي يكتسبون من الآثام ومنه الاعتراف يمحو الاقتراف كما يقال: التوبة تمحو الحوبة. وظاهر النص يدل على أنه يعاقب المذنب البتة إلا أن المسلمين أجمعوا على أنه إذا تاب لم يعاقب. وأهل السنة على أنه إذا لم يتب احتمل العفو وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ نقل عن عطاء أنه قال: كل ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من طعام أو شراب فهو حرام تمسكا بعموم الآية. وأجمع سائر الفقهاء على تخصيص هذا العموم بالذبح، ثم اختلفوا فمالك: كل ذبح لم يذكر اسم الله تعالى عليه فهو حرام، ترك الذكر عمدا أو نسيانا وهو قول ابن سيرين وطائفة من المتكلمين. أبو حنيفة: إن ترك عمدا حرام وإن ترك نسيانا حل. الشافعي: متروك التسمية عمدا وسهوا حلال إذا كان الذابح مسلما لقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ والضمير عائد إلى الأكل الذي دل عليه الفعل أو إلى الموصول على أنه في نفسه فسق مثل «رجل عدل» أو على تقدير حذف المضاف أي وإن أكله لفسق. وقد أجمع المسلمون على أنه لا يفسق بأكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية ولقوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وهذه المناظرة كانت في مسألة الميتة وذلك أن المشركين قالوا: يا محمد أخبرنا عن الشاة من قتلها إذا ماتت؟ قال: الله قتلها، قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتل الكلب والصقر حلال، وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله الآية، فالمراد من الشياطين هاهنا إبليس وجنوده وسوسوا إلى أوليائهم من المشركين ليخاصموا محمدا وأصحابه في أكل الميتة. وقال عكرمة: وإن الشياطين- يعني مردة المجوس- ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش. وذلك أنه لما نزل تحريم الميتة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 سمعه المجوس من أهل فارس فكتبوا إلى قريش وكانت بينهم مكاتبة أن محمدا وأصحابه يزعمون أن ما يذبحونه حلال وأن ما يذبحه الله حرام، فوقع في أنفس ناس من المسلمين شيء فنزلت الآية. ثم قال: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ يعني في استحلال الميتة إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ قال الزجاج: وفيه دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم الله تعالى أو حرم شيئا مما أحل الله فهو مشرك لأنه أثبت حاكما سوى الله تعالى. ثم قال الشافعي: الفسق في آية أخرى وهي، قوله: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الأنعام: 145] إلى قوله: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ مفسر بما أهل به لغير الله فعلمنا أن الفسق في هذه الآية أيضا مفسر به نزلنا عن هذا المقام وهو التمسك بالمخصصات، فلم قلتم إنه لم يوجد ذكر الله هاهنا لما روي أنه صلى الله عليه وآله قال: «ذكر الله مع المسلم سواء قال أو لم يقل» فيحمل هذا الذكر على ذكر القلب. أو نقول: هب أن هذا الدليل يوجب الحرمة إلا أن معنا ما يدل على الحل، وإذا تعارض الحل والحرمة فالحل راجح لأن الأصل في الأشياء الإباحة وللعمومات الدالة على الحل كقوله: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] كُلُوا وَاشْرَبُوا [الطور: 19] ولأنه مستطاب وقد قال: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة: 4] ، ولأن الطبع يميل إليه وقد نهى عن إضاعة المال، هذا تقرير مذهب الشافعي ومع ذلك فالأولى بالمسلم أن يحترز عنه لقوة ظاهر النص. قال الكعبي: في الآية دلالة على أن الإيمان اسم لجميع الطاعات لأنه تعالى سمى مخالفته شركا. وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يراد بالشرك هاهنا اعتقاد أن لله شريكا في الحكم. التأويل: وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى أي: قلوبهم الميتة وَحَشَرْنا أي أريناهم جميع الآيات المودعة في المكونات إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فإن المشيئة تغير السجية والعناية الأزلية كفاية الأبدية وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ أن الهدى ليس بالمنى وأنه بمشيئة المولى، ثم أخبر أن البلايا للسائرين إلى الله هي المطايا فقال: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ هي النفس الأمارة التي هي أعدى الأعداء. وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هديناهم بنور الكتاب إلى حضرة الجلال فَلا تَكُونَنَّ نهى التكوين في الأزل وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ كلامه وقضاؤه في الأزل صِدْقاً فيما قال وَعَدْلًا فيما حكم بالوجود والعدم والسعادة والشقاوة والرد والقبول والخير والشر والحسن والقبح والإيمان والكفر، وأحسن شيء خلقه هو الإنسان لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4] وكذلك شر شيء هو الإنسان عند فساد استعداده ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التين: 5] ولأهل الكمال نرق في كمال الحسن إلى الأبد، ولأهل النقصان تسفل في القبح إلى الأبد أيضا إظهارا للقدرة الكاملة غير المتناهية وَهُوَ السَّمِيعُ لحاجة كل ذي حاجة الْعَلِيمُ بما يستأهله كل موجود وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 فِي الْأَرْضِ وهم أهل الأهواء وأقلهم أهل الحق وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ في دعوى طلب الحق. فإن سبيل الحق لا يسلك بالهوى وإنما يسلك بالصدق والهدى. فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فمن أمارات الإيمان أن يأكلوا الطعام بحكم الشرع لا على وفق الطبع ويذيبوه بذكر الله كما قال صلى الله عليه وآله «أذيبوا طعامكم بذكر الله» فالأكل على الغفلة والنسيان والاستعانة به على العصيان يورث موت الجنان والحرمان من الجنان. وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ يا أهل الله ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وهو الدنيا وما فيها والآخرة ونعيمها إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ من ضروريات البشر في الدارين بأمر المولى لا بالطبع والهوى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ الذين جاوزوا المولى وركنوا إلى الدنيا والعقبى وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ يعني الأعمال الطبيعية وَباطِنَهُ يعني الأخلاق، الذميمة الردية سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ لأن الأخلاق الظلمانية توجب صدأ مرآة القلب وتزيدها رينا إلى أن يصير حجابا بين العبد وبين الله تعالى: ولا تأكلوا طعاما إلا بأمر الله وعلى ذكر الله وفي طلب الله ليندفع بنور الذكر ظلمة الطعام وشهوته، وَإِنَّهُ يعني ظلام الطعام يؤدي إلى الفسق الذي هو الخروج من النور الروحاني إلى الكلمة النّفسانية. وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ فإن للشيطان مجالا في الوسوسة إذا كانت النفوس في المجادلة مع القلوب لتدعوها إلى متابعة الهوى الله حسبي. [سورة الأنعام (6) : الآيات 122 الى 130] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 القراآت: مَيْتاً بالتشديد: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب رِسالَتَهُ بالنصب والتوحيد: ابن كثير وحفص والمفضل. الباقون: رِسالاتِهِ على الجمع وبالكسر في موضع النصب ضَيِّقاً وبابه بالتخفيف: ابن كثير حَرَجاً بكسر الراء: أبو جعفر ونافع وسهل وأبو بكر وحماد. الباقون: بالفتح يَصَّعَّدُ من الصعود: ابن كثير يصاعد من التصاعد بإدغام التاء في الصاد: أبو بكر وحماد. الباقون: يَصَّعَّدُ بالإدغام من التصعد. يَحْشُرُهُمْ بياء الغيبة: حفص. الآخرون بالنون. الوقوف: بِخارِجٍ مِنْها ط يَعْمَلُونَ هـ فِيها ط وَما يَشْعُرُونَ هـ رُسُلُ اللَّهِ ط رِسالاتِهِ ط يَمْكُرُونَ هـ لِلْإِسْلامِ ج لابتداء شرط آخر مع العطف. فِي السَّماءِ ج لا يُؤْمِنُونَ هـ مُسْتَقِيماً ط يَذَّكَّرُونَ هـ يَعْمَلُونَ هـ جَمِيعاً ج للحذف أي يحشرهم ويقول لهم مع اتحاد المقصود مِنَ الْإِنْسِ الأول ج لتبدل القائل مع اتفاق الجملتين أَجَّلْتَ لَنا ط قال النار يغلظ الصوت على النار إشارة إلى أن النار مبتدأ بعد القول وليست فاعله شاءَ اللَّهُ ط عَلِيمٌ هـ يَكْسِبُونَ هـ وْمِكُمْ هذا طافِرِينَ هـ. التفسير: إنه سبحانه بعد أن ذكر أن المشركين يجادلون المؤمنين ضرب مثلا للفريقين فبيّن أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتا فجعله الله حيا وأعطاه نورا يهتدي به في مصالحه، وأن الكافر بمنزلة من هو في الظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها فيكون متحيرا على الدوام، وهل هما خاصان أو عامان فيه قولان: الأول قال ابن عباس: يريد حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وآله بفرث وحمزة لم يؤمن بعد، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ويقول: يا أبا يعلى أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا؟ فقال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فأنزلت الآية. وعن مقاتل: نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وأبي جهل وذلك أنه قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه. والله لا نؤمن به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت، وعن عكرمة أنها نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل، وعن الضحاك هي في عمر بن الخطاب وأبي جهل. والقول الثاني أنها عامة في كل مؤمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 وكافر لحصول المعنى في الكل. وإنما جعل الكفر موتا لأنه جهل والجهل يوجب الحيرة والوقفة فهو كالموت الذي يوجب السكون. وأيضا الميت لا يهتدي إلى شيء وكذلك الجاهل، والهدى علم وبصيرة وهما يوجبان الفوز بالمطالب كالحياة والنور، قال بعض العلماء: قوله: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً إشارة إلى أول مراتب النفس الإنسانية وهي الاستعداد المحض المسماة بالعقل الهيولاني عند الحكيم. وقوله: فَأَحْيَيْناهُ إشارة إلى ثانية مراتبها المسماة بالعقل بالملكة وهي أن يحصل لها العلوم الكلية الأولية. وقوله وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً إشارة إلى ثالثة المراتب وهي التي قد حصلت لها المعقولات المكتسبة ولكنها لا تكون حاضرة بالفعل بل تكون بحيث متى شاء صاحبها استرجاعها واستحضارها قدر عليه ولهذا يسمى عقلا بالفعل أي الفعل القريب، وقوله: يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ إشارة إلى رابعة المراتب وهي النهاية المسماة بالعقل المستفاد، وقد حصلت المعارف القدسية والجلايا الروحانية للنفس حاضرة بالفعل وصار جوهر الروح مشرقا بتلك المعارف مستضيئا بها. ويمكن أن يقال: الحياة عبارة عن الاستعداد القائم بجوهر الروح، والنور عبارة عن اتصال نور الوحي والتنزيل فإنه لا بد في الإبصار من أمرين: سلامة الحاسة والنور الخارجي من الشمس والسراج، فكذلك البصيرة لا بد لها في الإدراك من سلامة حاسة العقل ومن طلوع نور الوحي فلهذا قال جمع من المفسرين: المراد بهذا النور القرآن، ومنهم من قال: نور الدين أو نور الحكمة. والأقوال متقاربة، وأما مثل الكافر فهو كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها وفيه أن ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت كالصفة اللازمة له لا تكاد تزول عنه فيبقى متحيرا خائفا فزعا نعوذ بالله من هذه الحالة. ومعنى المثل هاهنا الصفة الغريبة أي كمن صفته هذه والمراد كمن هو في الظلمات. ثم قال: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ والمزين هو الله بالتحقيق عند الأشاعرة. والشيطان بالحقيقة أو الله مجازا عند المعتزلة، والإضافة إلى الله بالحقيقة أو المجاز أولى بدليل قوله: وَكَذلِكَ جَعَلْنا أي وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها كذلك جعلنا، أو وكما زينا للكافرين أعمالهم كذلك جعلنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ وهي جمع الأكبر ومُجْرِمِيها مضاف إليه والظرف مفعول ثان قدم ليعود الضمير إلى القرية. وقيل: التقدير جعلنا مجرميها أكابر. قال الزجاج: إنما جعل المجرمين أكابر لأنهم لأجل رياستهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الأباطيل على الناس من غيرهم، ولأن كثرة المال وقوّة الجاه تحمل الناس على المبالغة في حفظهما وذلك لا يتم إلا باستعمال بعض الأخلاق الذميمة من المكر والغدر والكذب والغيبة والنميمة والشح والأيمان الكاذبة وكفى بهذه الأمور دليلا على خساسة المال والجاه. واللام في لِيَمْكُرُوا على أصله عند الأشاعرة، واستدلوا به على أن الشر بإرادة الله تعالى. وحمله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 المعتزلة على لام العاقبة مجازا كما حملوا الجعل في قوله: وَكَذلِكَ جَعَلْنا على التخلية والخذلان. ثم قال في معرض التهديد وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ لأن وباله يعود عليهم وَما يَشْعُرُونَ وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وتقديم موعد بالنصرة، ثم إنه سبحانه حكى قول أبي جهل وأضرابه «زاحمنا بني عبد مناف في الشرف إلى آخره» وقول الوليد بن المغيرة «لو كانت النبوّة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا» فقال: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ أي معجزة قاهرة أو وحي. قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ قال الضحاك: أراد كل واحد منهم ذلك كما في الآية الأخرى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر: 52] ويشبه أن يكون هذا الكلام الخبيث هو المراد بالمكر المذكور في الآية المتقدمة، وللمفسرين في مقترحهم قولان: أحدهما- وهو الأشهر- أنهم أرادوا أن تحصل لهم النبوّة والرسالة كما حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأن يكونوا متبوعين لا تابعين ومخدومين لا خادمين. وثانيهما عن ابن عباس والحسن أن المعنى وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع محمد صلى الله عليه وآله قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 90] إلى قوله: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الإسراء: 93] من الله تعالى إلى أبي جهل وفلان وفلان فالقوم ما طلبوا النبوّة وإنما طلبوا آيات قاهرة ومعجزات ظاهرة مثل معجزات الأنبياء المتقدمين تدل على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم. فقوله سبحانه في جوابهم على سبيل الاستئناف اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ على القول الأول ظاهر، وأما على القول الثاني فوجهه أن القوم إذا اقترحوا تلك الآيات فلو أظهر الله تعالى تلك المعجزات على وفق التماسهم لكانوا قد قربوا من منصب الرسالة. قال بعض العقلاء: الأرواح متساوية في تمام الماهية فحصول النبوّة والرسالة لبعضها دون بعض تشريف من الله تعالى وإحسان وتفضل. وقال آخرون: بل النفوس مختلفة بجواهرها وماهياتها فبعضها خيرة طاهرة من علائق الجسمانيات مشرقة بالأنوار الإلهية مستعلية منورة، وبعضها خبيثة كدرة محبة للجسمانيات، فالنفس ما لم تكن من القسم الأول لم تصلح لقبول الوحي والرسالة. ومراتب الرسل مختلفة فمنهم ذو معجزة واحدة وذو معجزتين أو أكثر، ومنهم من له تبع قليل ومنهم من آمن به جم غفير، ومنهم من كان الرفق غالبا عليه ومنهم من كان مدار أمره على التغليظ والتشديد. وفي الآية تعريض بأن حصول النبوّة والرسالة لا بد فيه من قلب سليم، والمقترحون فيهم من المكر والحسد ما فيهم فكيف يعقل حصول الرسالة لهم وإنما يحصل لهم ما يناسب أخلاقهم وأحوالهم ولهذا قال تعالى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ ذل وهوان عِنْدَ اللَّهِ أي في الآخرة أو في الدنيا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 بحكم الله وإيجابه من الأسر والقتل. أو المراد من عند الله فحذف «من» . أو قوله: عِنْدَ اللَّهِ مستأنف أي معدّ لهم ذلك، واعلم أن كمال العقاب لا بد فيه من أمرين: الضرر، والإهانة. ثم إن القوم لما تردوا عن طاعة محمد صلى الله عليه وآله طلبا للعز والكرامة فالله تعالى بيّن أنه يقابلهم بضد مقصودهم، فأول ما يوصل إليهم الذل والهوان وبعده عذاب شديد جميع ذلك بسبب مكرهم ونكرهم فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ يقال: شرح فلان أمره، إذا أظهره وأوضحه ومنه شرح المسألة إذا بينها. وقال الليث: شرح الله صدره فانشرح أي وسعه لقبول ذلك الأثر. ولا شك أن توسيع الصدر غير ممكن على سبيل الحقيقة ولكن هاهنا معنى وهو أنه إذا اعتقد الإنسان في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح مال طبعه إليه وقوي طلبه ورغبته في حصوله وظهر في القلب استعداد شديد لتحصيله فسميت هذه الحالة سعة الصدر، وإن حصل في القلب علم أو اعتقاد أو ظن يكون ذلك العمل مشتملا على ضرر زائد ومفسدة راجحة دعاه ذلك إلى تركه وحصل في النفس نبوّة عن قبوله فيقال لهذه الحال ضيق الصدر، لأن المكان إذا كان ضيقا لم يتمكن الداخل من الدخول فيه، وإذا كان واسعا قدر على الدخول فيه. وأكثر استعمال شرح الصدر في جانب الحق والإسلام وقد ورد في الكفر أيضا قال تعالى: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النحل: 106] . قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: كيف يشرح الله صدره؟ فقال صلى الله عليه وآله: يقذف الله تعالى فيه نورا حتى ينفسخ وينشرح، فقيل له: وهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله» وهذا البيان مناسب لما ذكرنا فإن الإنابة إلى دار الخلود لا بد أن تترتب على اعتقاد أن عمل الآخرة زائد النفع والخير، والتجافي عن دار الغرور إنما ينبعث عن اعتقاد كون عمل الدنيا زائد الضر والضير، والاستعداد للموت قبل نزوله نتيجة مجموع الأمرين الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة. أما قوله: حَرَجاً فمن قرأ بكسر الراء فعلى النعت، ومن قرأ بالفتح فعلى الوصف بالمصدر للمبالغة. قال الزجاج: الحرج في اللغة أضيق الضيق. وقيل: الحرج بالفتح جمع حرجة وهو الموضع الكثير الأشجار الذي لا تناله الراعية. حكى الواحدي بإسناده عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وقال: هل هاهنا أحد من بني بكر؟ قال رجل: نعم. قال: ما الحرجة فيكم؟ قال: الوادي الكثير الأشجار المشتبك الذي لا طريق فيه. فقال: كذلك قلب الكافر. ومعنى: يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كأنما يزاول أمرا غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد عن الاستطاعة فكأن الكافر في نفوره من الإسلام وثقله عليه بمنزلة من يتكلف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 الصعود إلى السماء. وقيل: المراد أن قلبه يتباعد عن الإسلام وقبوله تباعد ما بين الأرض والسماء. كَذلِكَ يَجْعَلُ أي كما جعل ضيق الصدر في قلوبهم كذلك يجعل الرجس عليهم. وقال الزجاج: أي مثل ما قصصنا عليك يجعل الله الرجس. عن ابن عباس هو الشيطان يسلطه الله عليهم. وقال مجاهد: الرجس ما لا خير فيه. وعن عطاء: الرجس هو العذاب. وقال الزجاج: هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على أن الهداية والضلال من الله تعالى بيانه أن العبد قادر على الإيمان وعلى الكفر وقدرته بالنسبة إلى الأمرين سواء ولا يترجح إلا لداعية، ولا معنى للداعية إلا علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملا على مصلحة زائدة، ومجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل، ولا بد أن تنتهي تلك الداعية إلى تخليق الله وتكوينه دفعا للتسلسل فإذا خلق الله تعالى في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة- وهو المراد بشرح الصدر- مال القلب إليه، وإذا خلق في قلبه اعتقاد أن الإيمان بمحمد سبب للمفسدة الدينية والدنيوية نبا طبعه عنه وبقي على الكفر. فحاصل الآية أن من أراد الله منه الإيمان قوى دواعيه إليه، ومن أراد منه الكفر قوى صوارفه عن الإيمان. وقالت المعتزلة: إنه لا دلالة في الآية على قولكم لأنه ليس فيها أكثر من أنه إذا أراد أن يهدي إنسانا أو يضله فعل به كيت وكيت، وليس فيها أنه أراد ذلك أو لم يرده نظيره قوله: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا [الأنبياء: 17] فبيّن أنه كيف يفعل اللهو لو أراده، ثمّ إنه لم يرد ذلك بالاتفاق وأيضا لم قلتم إنه أراد ومن يرد أن يضله عن الإيمان بل المراد من يرد الله أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنة يشرح صدره للإسلام حتى يثبت عليه، وتفسير الشرح هو أنه يفعل به ألطافا تدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه. ومن يرد أن يضله عن طريق الجنة فعند ذلك يلقي في صدره الضيق والحرج لا في كل الأوقات بل في بعضها كيلا يمكن دفعه وخصوصا عند ظهور نصرة المؤمنين وبدوّ الذل والصغار في الكافرين. وأيضا لم لا يجوز أن يقال: المعنى فمن يرد الله أن يهديه إلى الجنة يشرح صدره للإسلام في ذلك الوقت الذي يهديه فيه إلى الجنة لما رأى من فوائد الإيمان ونتائجه من الدرجات العالية والمراتب الشريفة فتزداد رغبته فيه، ومن يرد أن يضله يوم القيامة عن طريق الجنة ففي ذلك الوقت يضيق صدره للحزن الشديد الذي ناله عند الحرمان من الجنّة والدخول في النار؟ وقال في الكشاف: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحب الدخول فيه وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أي يخذله ويخليه وشأنه وهو الذي لا لطف له يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً يمنعه ألطافه حتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 يقسو قلبه وينبو عن قبول الحق وينسد فلا يدخله الإيمان. وأجيب عن قولهم «ليس في الآية أنه أراد ذلك أو لم يرده» بأن قوله في آخر الآية: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ تصريح بأنه فعل به ذلك الإضلال لأن الكاف للتشبيه والتقدير: كما جعلنا ذلك الضيق والحرج في صدره كذلك يجعل. وفيه أيضا دلالة على أن المراد من قوله: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ هو أنه يضله عن الدين، وتفسير الضيق والحرج باستيلاء الغم والحزن على قلب الكافر بعيد لأن أكثر من يعتريه الحزن في الدنيا هو المؤمن ولهذا قال صلى الله عليه وعلى آله: «خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل» «1» ولو خص ذلك بالآخرة كان من إيضاح الواضحات. فمن المعلوم لكل أحد أن من يضله الله عن طريق الجنة فإنه يضيق قلبه في ذلك الوقت. والجواب على قول صاحب الكشاف مما مر من أن فعل الإيمان يتوقف على أن تحصل في القلب داعية جازمة إلى الإيمان، وفاعل تلك الداعية هو الله تعالى وكذا القول في جانب الكفر، فإن سمى الداعيتين أحد باللطف والخذلان فلا مشاحة في الأسامي. قال القاضي في تفسيره: روي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: تذاكرنا أمر القدرية عند ابن عمر فقال: لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا فإذا كان يوم القيامة نادى مناد وقد جمع الناس بحيث يسمع الكل أين خصماء الله؟ فتقوم القدرية. قال: ولا يخفى أنهم الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله قضاء وقدرا وخلقا لأنهم يقولون الذنب لله فأي ذنب لنا حتى تعاقبنا أنت الذي خلقته فينا وأردته منا وقضيته علينا ولم تخلقنا إلا له ولا يسرت لنا غيره، فهؤلاء لا بد أن يكونوا خصماء الله. أما الذين قالوا إن الله تعالى مكن وأزاح العلة وإنما أتى العبد من قبل نفسه فكلامه موافق لما يعامل به من إنزال العقوبة، فهؤلاء منقادون لله تعالى لا خصماؤه. هذا كلام القاضي وتعجب منه الأشاعرة فقالوا: كيف يكون خصم الله من يقول ليس للعبد على الله حجة ولا استحقاق بوجه من الوجوه وأن كل ما يفعله الرب في العبد فهو حكمة وصواب وليس للعبد على ربه اعتراض ولا مناظرة وكل ما يصل منه إلى عباده حتى الملائكة والأنبياء فهو تفضل منه وإحسان، لكن الخصم من يدعي عليه وجوب الثواب والعوض ويقول لو لم تعطني ذلك لخرجت عن الإلهية وصرت معزولا عن الربوبية وكنت من السفهاء وأن من واظب على الكفر سبعين سنة ثم إنه في آخر زمن حياته قال لا إله إلا الله محمد رسول الله عن القلب ثم مات، فإن رب العالمين أعطاه النعم الفائقة سنين غير محصورة، ثم إنه لو ترك ذلك لحظة واحدة قال العبد له إنك معزول عن الإلهية. يحكى أن   (1) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب 7. البخاري في كتاب المرضى باب 3. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 23. الدارمي في كتاب الرقاق باب 67. أحمد في مسنده (1/ 172، 174) ، (6/ 369) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 الشيخ أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس أستاذه أبي علي الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله، عظمت الوحشة بينهما فاتفق أن أبا علي عقد مجلس التذكير وحضر عنده جم غفير، فذهب الشيخ أبو الحسن إلى ذلك المجلس مختفيا عن الجبائي وقال لبعض من حضر هناك من العجائز: إني أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ. قولي له كان لي ثلاثة من البنين واحد في غاية الزهد، وآخر في غاية الفسق، والثالث كان صبيا لم يبلغ فماتوا على هذه الصفات فأخبرني أيها الشيخ عن أحوالهم. فقال الجبائي: أما الزاهد ففي درجات الجنة، وأما الكافر ففي دركات النار، وأما الصبي فمن أهل السلامة. فقال: قولي له إن الصبي لو أراد أن يذهب إلى تلك الدرجات العالية التي حصل فيها أخوه الزاهد فهل يمكن منه؟ قال الجبائي: لا لأن الله تعالى يقول له إنما أخوك وصل إلى تلك الدرجات لأنه أتعب نفسه في العلم والعمل وأنت فليس معك ذلك. فقال أبو الحسن: قولي له لو أن الصبي يقول: يا رب العالمين ليس الذنب لي لأنك أمتني قبل بلوغي، ولو أبلغتني فربما زدت على أخي الزاهد في الزهد، فقال الجبائي: يقول الله تعالى له علمت أنك لو عشت لطغيت وكفرت وكنت تستوجب النار فراعيت مصلحتك. فقال لها أبو الحسن: قولي له لو أن الأخ الكافر الفاسق رفع رأسه من الدرك الأسفل من النار وقال: يا رب العالمين ويا أحكم الحاكمين ويا أرحم الراحمين، لم راعيت حال الأخ الصغير وما راعيت حالي ومصلحتي؟ قال الراوي: فانقطع الجبائي فنظر فرأى أبا الحسن فعلم أن المسألة منه لا من العجوز. ثم إن أبا الحسين البصري جاء بعد أربعة أدوار وأكثر مجيبا عن الجبائي قائلا: نحن لا نرضى بهذا الجواب وإنما نقول: الجواب مبني على مسألة اختلف شيوخنا فيها، وهي أنه هل يجب على الله تعالى أن يكلف العبد أم لا؟ فقال البصريون: إنه غير واجب ولكنه تفضل وإحسان. وقال البغداديون: إنه واجب وعلى الأول لله تعالى أن يقول لذلك الصبي إني طولت عمر الأخ الزاهد وكلفته على سبيل التفضل ولم يلزم من كوني متفضلا على أحد بشيء أن أتفضل على غيره بمثله، وعلى قول البغداديين فلله أن يقول: إن إطالة عمر أخيك وتوجيه التكليف في حقه لم يستلزم مفسدة الغير فلا جرم فعلته، أما إطالة عمرك وتوجيه التكليف عليك فكان يلزم منه عود مفسدة إلى غيرك فلهذا ما فعلته وظهر الفرق. وأورد على القسم الأول أنه تعالى لما أوصل التفضل إلى أحدهما فالامتناع من إيصاله إلى الثاني قبيح منه عقلا لأنه ليس فعلا شاقا عليه ولا ينقص بذلك شيء من ملكه، والصبي محتاج إلى الإحسان إليه ومثل هذا الامتناع قبيح في الشاهد كمن منع غيره من النظر في مرآته المنصوبة على الجواد لعامة الناس. فإن كان حكم العقل في التحسين والتقبيح مقبولا فليكن هاهنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 أيضا مقبولا وإلا فلا يقبل في شيء من الصور وتبطل كلية مذهبكم. وأورد على الشق الثاني أن قولنا: «تكليفه يتضمن مفسدة» ليس معناه أن ذات التكليف تتضمن المفسدة وإلا لم ينفك تكليف عن المفسدة وأنه باطل بالاتفاق، فمعناه إذا أنه تعالى علم أنه إذا كلف هذا الشخص فإن إنسانا آخر يختار من قبل نفسه فعلا قبيحا، فإن اقتضى هذا القدر أن يترك الله تعالى تكليفه وجب أن يقبح تكليف كل من علم الله من حاله أنه يكفر وإلا لزم محض التحكم. هذا تمام مناظرة الفريقين، ولعلك قد عرفت التحقيق هنا فيما سلف فتذكر. ثم قال: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ في المشار إليه وجوه منها: أنه المذكور في الآية المتقدمة. أما على مذهب الأشاعرة وهو أن الفعل يتوقف على الداعي وحصول تلك الداعية من الله تعالى فيكون الفعل من الله، ويلزم استناد الكل إلى قضائه وقدره. وأما على مذهب المعتزلة فالمراد هذا الذي قررنا طريقته التي اقتضتها الحكمة وعادته الجارية في عباده من التوفيق والخذلان. ومعنى مُسْتَقِيماً عادلا مطردا. وانتصابه على الحال المؤكدة والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل. أو هو محذوف أي أحقه. وعن ابن عباس: يريد هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربك. وقال ابن مسعود: يعني القرآن. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ ذكرناها فصلا فصلا بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر. قال في التفسير الكبير: قد بيّن الله تعالى صحة القول بالقضاء والقدر في آيات من هذه السورة متوالية متعاقبة بطرق كثيرة ووجوه مختلفة. وختم الآية بقوله: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لأنه تقرر في عقل كل واحد أن أحد طرفي الممكن لا يترجح عن الآخر إلا لمرجح فكأنه يقول للمعتزلي: تذكر ما تقرر في عقلك أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا لمرجح حتى تزول الشبهة عن قلبك فإن حصول الفعل عن القادر لو لم يتوقف على الداعي مع تساوي طرفيه وجب أن يحصل هذا الاستغناء في كل الممكنات والمحدثات وحينئذ يلزم نفي الصانع وإبطال القول والفعل والفاعل والتأثير والمؤثر. ثم لما بيّن عظمة نعمته في الصراط المستقيم بيّن ما أعد وهيىء للمتذكرين فقال: لَهُمْ دارُ السَّلامِ أي دار الله يعني الجنة، والإضافة للتشريف والتعظيم كما قيل: الكعبة بيت الله: أو دار السلامة من كل آفة وكرب والسلام والسلامة مثل: الضلال والضلالة والرضاع والرضاعة كلاهما مصدر. وقيل: السلام جمع السلامة لأن أنواع السلامة حاصلة في الجنة. ومعنى عِنْدَ رَبِّهِمْ أنها معدة عنده وفي ضمانه كما يقال لفلان عندي حق لا ينسى وذلك نهاية في بيان وصولهم إليها وكونهم على ثقة من حصولها وَهُوَ وَلِيُّهُمْ أي قريب منهم بالرحمة والرضوان أو مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم، وذلك أن القوم قد عرفوا أن المدبر والمقدر ليس إلا هو جل جلاله، وأن النافع والضار ليس إلا هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 سبحانه، فانقطعوا عن كل ما سواه فما كان رجوعهم إلا إليه، وما كان توكلهم إلا عليه، ولم يكن أنسهم إلا به، فلما صاروا بالكلية له لا جرم قال سبحانه: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ على أنه متكفل لجميع مصالحهم دينا ودنيا. ثم قال: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بسبب أعمالهم، أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون لئلا يقطعوا العمل ولا يتكلوا، وذلك أن بين النفس والبدن تعلقا شديدا وكما أن الهيآت النفسانية قد تؤثر في البدن كحمرة الخجل وصفرة الوجل فالهيآت البدنية قد تصعد من البدن إلى النفس، فإذا واظب الإنسان على أعمال الخير ظهرت الآثار المناسبة لها في جوهر النفس فلا بد للسالك من العمل بعد كمال العلم والمعرفة. ثم لما بين حال من تمسك بالصراط المستقيم أردفها بذكر من تعلق بضده فقال: ويوم نحشرهم والمراد واذكر يوم كذا، أو يوم نحشرهم قلنا، أو متعلقة محذوف والتقدير: ويوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن كان ما لا يوصف لفظاعته، والضمير إما أن يعود إلى الشياطين الذين تقدم ذكرهم في قوله: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أو يعود إلى جميع المكلفين الذين علموا أن الله تعالى يبعثهم من الثقلين وغيرهم، ويكون القائل على تقدير حذف القول هو الله تعالى كما أنه الحاشر لجميعهم. وهذا القول منه تعالى بعد الحشر لا يكون إلا للتبكيت وإنهم وإن تمردوا في الدنيا انتهى حالهم في الآخرة إلى الاستسلام والانقياد والاعتراف. وقال الزجاج: التقدير فيقال لهم: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ لأنه يبعد أن يتكلم الله تعالى بنفسه مع الكفار لقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [البقرة: 174] قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ لا بد فيه من إضمار لأن الجن أي الشياطين لا يقدرون على الاستكثار من نفس الإنس، فالمراد قد استكثرتم من إضلال الإنس واستتباعهم فحشر معكم منهم الجم الغفير كما يقال استكثر الأمير من الجنود. أما قوله: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ فالأقرب عند بعضهم أن فيه حذفا فكما قال للجن تبكيتا ناسب أن يقول للإنس أيضا مثل ذلك توبيخا لأنه حصل من الجن الدعاء ومن الإنس القبول. ولما بكت الله كلا الفريقين حكى جواب الإنس وهو قوله: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وفيه قولان: الأول أن المراد استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن وعلى هذا ففي الاستمتاع وجهان: أحدهما أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض منفردا وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه. فيبيت آمنا في نفسه. فهذا استمتاع الإنس بالجن، وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أن الإنسي إذا عاذ بالجني كان ذلك تعظيما منهم للجن وذلك الجني يقول: قد سدت الجن والإنس لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه. وهذا قول الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج ويعضده قوله سبحانه: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 6] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 وثاني الوجهين أن الإنس كانوا ينقادون للجن ويطيعون حكمهم فصار الجن كالرؤساء والإنس كالأتباع فانتفعوا بالإنس انتفاع الرئيس بالخادم، وأما انتفاع الإنس بالجن فهو أن دلوهم على الشهوات واللذات إلى أن بلغوا هذا المبلغ الذي أيقنوا أنه يسوء عاقبتهم وهذا اختيار الزجاج. والقول الثاني أن البعضين كليهما من الإنس لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر قليل نادر وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أي ذلك الاستمتاع كان حاصلا إلى وقت محدود ثم جاءت الحسرة والندامة من حيث لا ينفع. وما ذلك الأجل؟ قيل: هو وقت الموت وعلى هذا فكل من مات من مقتول وغيره فإنه يموت بأجله لأنهم أقروا بأنهم بلغوا أجلهم وفيهم المقتول وغير المقتول. وقيل: هو وقت التخلية والتمكين وقيل: وقت المحاسبة في القيامة قالَ الله تعالى في جوابهم النَّارُ مَثْواكُمْ مقامكم ومقرّكم من ثوى بالمكان يثوي ثويا إذا أقام به. قال أبو علي الفارسي: المثوى اسم للمصدر دون المكان لأن قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها حال واسم الموضع لا يعمل عمل الفعل فالمعنى النار أهل أن يقيموا فيها خالدين. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ قيل: المراد منه أوقات المحاسبة ووقت كونهم في المحشر كأنه قيل: خالدين فيها منذ يبعثون إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم. وقال ابن عباس: استثنى الله قوما سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وآله. وعلى هذا يلزم أن يكون «ما» بمعنى «من» وفيه خلل آخر وهو أن الاستثناء إنما هو من يوم القيامة الذي يحشرون فيه، وقيل: المراد الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير. روي أنهم يدخلون واديا فيه برد شديد فهم يطلبون الرد من ذلك البرد الشديد إلى حر الجحيم. وقال في الكشاف: أو يكون هذا من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه أهلكني الله، إن نفست عنك إلا إذا شئت، فيكون قوله: «إلا إذا شئت» من أشد الوعيد مع تهكم لأنه إطماع محض ويأس كلي. وقال أبو مسلم: هذا الاستثناء غير راجع إلى الخلود وإنما هو راجع إلى الأجل المؤجل لهم كأنهم قالوا: وبلغنا أجلنا الذي سميته لنا إلا من أهلكته قبل الأجل المسمى يعني الآجال الاخترامية إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجازاة. عَلِيمٌ بما يستأهله كل طائفة فكأنه تعالى يقول: إنما حكمت لهؤلاء بعذاب الأبد لعلمي أنهم يستحقون ذلك. ثم لما حكى عن الجن أن بعضهم يتولى بعضا بين أن ذلك إنما حصل بتقديره وقضائه فقال: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً وذلك أن القدرة صالحة للعداوة والصداقة فترجيح أحد الجانبين لا يكون إلا بداعية خلقها الله قطعا للتسلسل، وأيضا لما بين أنه سبحانه ولي أهل الجنة بقوله: هُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 وَلِيُّهُمْ ذكر أن أولياء أهل النار من يشبههم في الظلم والخزي والنكال وأشار إليه بقوله: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بسبب كون ذلك البعض مكتسبا للظلم وهذه مناسبة في غاية اللطف لأن الجنسية علة الضم فالطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين. وفي الآية دلالة على أن الرعية متى كانوا ظلمة فإن الله تعالى يسلط عليهم ظالما مثلهم، فإن أرادوا الخلاص منه فليتركوا الظلم وعن مالك بن دينار قال: جاء في بعض الكتب السماوية «أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليهم رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليهم نقمة، لا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك لكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم» . ثم بيّن أن كفار الثقلين لا يكون لهم إلى الجحود يوم القيامة سبيل وأنهم لا يعذبون إلا بالحجة فقال: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قال أهل اللغة: المعشر كل جماعة مختلطة يجمعهم أمير واحد لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ استفهام على سبيل التقدير فلا جرم استدل الضحاك بالآية وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] على أن من الجن رسلا كالإنس، ولأن استئناس الجنس بالجنس أكمل ولهذا قال سبحانه: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الأنعام: 9] والأكثرون على أنه ما كان من الجن رسول البتة إنما كانت الرسل من بني آدم وزعموا أن ذلك مجمع عليه. ورد بأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف؟ واستدل بعضهم على المطلوب بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آل عمران: 33] والمراد بالاصطفاء هاهنا النبوّة بالإجماع. وأجيب عن قول الضحاك بأن الآية تقتضي أن رسل الجن والإنس تكون بعضا من أبعاض هذا المجموع فكان هذا القدر كافيا في حمل اللفظ على ظاهره فلا يلزم إثبات رسول من الجن. وأيضا لا يبعد أن يقال: إن الرسل كانوا من الإنس، ثم كان من الجن نفر يستمعون من رسول الإنس وينذرون قومهم بذلك قال: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف: 29] الآية. وقد يسمى رسول الرسول رسولا كما أنه تعالى سمى رسل عيسى رسل نفسه فقال: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [يس: 14] ثم إنه سبحانه يكون قد بكت كفار الثقلين بهذه الآية لأنه أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه أرسل الرسل إليهم فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل المقصود. وقال الواحدي: أراد رسل من أحدكم وهو الإنس كقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ [الرحمن: 22] أي من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب. وعن الكلبي كانت الرسل قبل أن يبعث محمد يبعثون إلى الإنس ورسول الله صلى الله عليه وآله بعث إلى الجن والإنس. أما قوله: قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فالمراد منه التنبيه على الأدلة بالتأويل وبالتلاوة يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا يخوفونكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 عذاب هذا اليوم فلم يجدوا بدا من الاعتراف فلذلك الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا والسبب في أنهم أقروا في هذه الآية وجحدوا في قوله: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] هو أنهم مختلفو الأحوال في يوم القيامة مضطربون فتارة يقرّون وأخرى يجحدون. ومنهم من حمل هذه الشهادة على شهادة الجوارح عليهم. ثم أخبر الله تعالى عن حالهم في الدنيا بقوله: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وعن حالهم في الآخرة بقوله: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ والمقصود من شرح أحوالهم في القيامة زجر أمثالهم في الدنيا عن الكفر والمعصية. وقد يستدل بالآية على أن لا وجوب قبل ورود الشرع وإلا لم يكن لهذا التوبيخ والتبكيت فائدة. التأويل: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً في حالة العدم فَأَحْيَيْناهُ بالحياة الحقيقية أي بالحي الذي لا يموت وَجَعَلْنا لَهُ نور الوجود الحقيقي الذي يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ وبه يسمع وبه يبصر كَمَنْ هو محبوس فِي الظُّلُماتِ الطبيعة وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أي كل قالب أَكابِرَ مُجْرِمِيها من النفس والهوى والشيطان لِيَمْكُرُوا فِيها بمخالفات الشرع وموافقات الطبع. ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ من القلب والسر والروح. يَشْرَحْ صَدْرَهُ أي ينظر إلى قلبه بنظر العناية فينوّره بنور جماله وهو نور الإيمان، فيشرح الصدر بضوء النور الواقع في القلب وهذا الضوء هو المسمى بنور الإسلام. وهذا النور يقبل الزيادة والاشتداد إلى أن يصير الإيمان إيقانا والإيقان عيانا والعيان عينا. ضَيِّقاً لتزاحم ظلمات صفات البشرية حَرَجاً لتعلقاته بالدنيا وشهواتها كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ لأنه سفلي بالطبع لا يصعد إلا بالتصعيد والقسر. وَهذا الذي بينا من الهداية والضلالة صِراطُ رَبِّكَ باللطف والقهر فبجذبات اللطف يهدي السعيد وبسطوات القهر يضل الشقي. لَهُمْ دارُ السَّلامِ أي السلامة عن القطيعة في مقام العندية بالوصول إلى الوحدة بعد الخروج عن ظلمات الاثنينية. وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ في موقف القالب البشري بالحكمة البالغة والقدرة الكاملة يا مَعْشَرَ الْجِنِّ أي الصفات الشيطانية قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي غلبتم على الصفات الإنسانية وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ يعني النفس الأمارة رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ واستمتاع النفس الأمارة بالشيطان هو أن يستعين بصفات مكره على تحصيل شهواتها ولذاتها العاجلة وحظوظها، واستمتاع الشيطان بالإنس هو أن يستعين به على إضلال الحق وإغوائهم كما استعان بحواء على إغواء آدم. وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا يعني أن مدة الاستمتاع وما جرى بيننا إنما كان بمقتضى قضائك وقدرك فأجابهم بأن الثوى في النار أيضا بقضاء الله إلا أن يشاء الله فيتوب عليهم إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في تقدير الاستمتاع عَلِيمٌ بأهل الجنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 وبأهل النار، وَكَذلِكَ أي كما جعلنا مردة الجن والإنس بعضهم أولياء بعض فكذلك نجعل بعض الظالمين أولياء بعض بما كانوا يكسبون من إفساد الاستعداد الفطري لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يعني الإلهامات الربانية. وشهدوا على أنفسهم أقروا عند الحرمان عن السعادة العظمى أنهم بذواتهم كانوا صدأ مرآة قلوبهم وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النجم: 39، 40] وما التوفيق إلا منه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 131 الى 140] ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) القراآت: عما تعملون بتاء الخطاب: ابن عامر مكاناتكم بالجمع حيث كان: أبو بكر وحماد. الباقون مَكانَتِكُمْ على التوحيد. من يكون بالياء التحتانية: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بتاء التأنيث. بِزَعْمِهِمْ بضم الزاي علي وكذلك ما بعده الباقون: بالفتح زَيَّنَ على البناء للمفعول قَتْلَ بالرفع أَوْلادِهِمْ بالنصب شركائهم بالجر: ابن عامر. الآخرون زَيَّنَ على البناء للفاعل قَتْلَ بالنصب أَوْلادِهِمْ بالجر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 شُرَكاؤُهُمْ بالرفع وإن تكن بتاء التأنيث: ابن عامر ويزيد وأبو بكر وحماد مَيْتَةً بالرفع: ابن كثير وابن عامر ويزيد، وقرأ مَيْتَةً بالتشديد ابن كثير وابن عامر. الباقون: بالتخفيف. الوقوف: غافِلُونَ هـ مِمَّا عَمِلُوا ط يَعْمَلُونَ هـ ذُو الرَّحْمَةِ ط آخَرِينَ هـ لَآتٍ لا لأن الواو بعده للحال بِمُعْجِزِينَ هـ عامِلٌ ج لابتداء التقرير مع فاء التعقب تَعْلَمُونَ هـ لا لأن ما بعده مفعول سواء كان من استفهامية أو موصولة عاقِبَةُ الدَّارِ ط الظَّالِمُونَ هـ لِشُرَكائِنا ج للشرط مع الفاء إِلَى اللَّهِ ج للفصل بين المتضادين معنى مع الاتفاق حكما شُرَكائِهِمْ ط يَحْكُمُونَ هـ دِينَهُمْ ط يَفْتَرُونَ هـ افْتِراءً عَلَيْهِ ط يَفْتَرُونَ هـ أَزْواجِنا ج للشرط مع العطف. شُرَكاءُ ط وَصْفَهُمْ ط عَلِيمٌ هـ عَلَى اللَّهِ ط مُهْتَدِينَ هـ. التفسير: ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك ويحتمل أن يكون مبتدأ خبره أَنْ لَمْ يَكُنْ وهو للتعليل والمعنى الأمر ما قصصنا عليك، أو ذلك الذي ذكر لانتفاء كون ربك مهلك القرى و «أن» هي الناصبة للأفعال أو مخففة من الثقيلة، وعلى هذا يكون ضمير الشأن محذوفا أي أن الحديث كذا، ويجوز أن يكون، أَنْ لَمْ يَكُنْ بدلا من ذلِكَ كقوله: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ [الحجر: 66] ومعنى قوله: بِظُلْمٍ أي بسبب ظلم أقدموا عليه وهذا أليق بأصول الأشاعرة. أو المراد ظالما لكم فيكون من فعل الله وهذا أنسب بأصول المعتزلة. ومعناه أنه تعالى لو أهلكهم قبل بعثة الرسل ولم ينبهوا برسول ولا كتاب كان ظالما. وعلى هذا التفسير يمكن للأشاعرة أن يقولوا إنه لو فعل ذلك لم يكن ظلما ولكنه يكون في صورة الظلم فأطلق الظلم على نفسه مجازا وإلا فهو تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا اعتراض عليه لأحد في شيء من أفعاله. وأما قوله: وَأَهْلُها غافِلُونَ فليس المراد من هذه الغفلة أن يتغافل المرء عما يوعظ به وإنما معناه أنه لا يبين لهم كيفية الحال وأن لا يزيل عذرهم وعلتهم. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على أنه لا يحصل الوجوب قبل الشرع، وأن العقل المحض لا يدل على الوجوب البتة لأنها تدل على أنه تعالى ما يعذب أحدا على أمر من الأمور قبل بعثة الرسل لكن بعدها. والمعتزلة قالوا: إنها تدل من وجه آخر على تقرير الوجوب قبل الشرع لأن قوله: بِظُلْمٍ إن كان عائدا إلى العبد دل على أنه يمكن أن يصدر منه الظلم والقبيح قبل البعثة، وإن كان عائدا إلى الله تعالى فقد تم الاعتراف بتحسين العقل وتقبيحه. ثم لما شرح أحوال أهل الثواب والعقاب ذكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 كلاما كليا فقال: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ أي ولكل عامل في عمله درجات، وعلى حسب تلك الدرجات يكون الجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ومعنى مِمَّا عَمِلُوا أي من جزاء أعمالهم. وقيل: إن أول الآية مختصة بأهل الطاعات لأن لفظ الدرجة يليق بهم ولأهل المعصية تكون الدركات وإليه الإشارة بقوله وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ قالت الأشاعرة: في الآية دليل على مسألة الجبر والقدر فإنه تعالى حكم لكل واحد بدرجة معينة في وقت معين وبحسب فعل معين، وأثبت تلك الدرجة في اللوح المحفوظ وأشهد عليها الملائكة وخلاف علمه وإثباته وإشهاده محال. ثم بين أنه ليس يحتاج إلى طاعة المطيعين ولا يدخل عليه نقص بمعصية العاصين فقال: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ أما أنه غني في ذاته وصفاته وأفعاله وفي أحكامه عن كل ما سواه فلوجوب وجوده، وأن ما سواه ممكن لذاته مفتقر في الوجود وفي الأمور التابعة للوجود إليه فلا غنيّ إلا هو، وأما أنه ذو الرحمة فلأن كل ما دخل في الوجود من الخيرات والراحات والكرامات والسعادات من الروحانيات ومن الجسمانيات فهو من الحق وبإيجاده وتخليقه، والاستقراء دل على أن الخير غالب كالصحة والشبع والسمع والبصر وما ذلك إلا لرحمته الكاملة ورأفته الشاملة. والذي يتصوّر من رحمة الوالدين وغيرهما فإنما ذلك بإيجاد داعية ذلك فيهم ومع ذلك فتمكن الشخص من الانتفاع بها ليس إلا منه تعالى. ومن هذا يعلم تنزهه تعالى عن الظلم والسفه والكذب والعبث. ومن رحمته تكليف الخلائق ليعرضهم للمنافع الباقيات الدائمات. ثم لما وصف نفسه بأنه ذو الرحمة كان لظانّ أن يظن أن للرحمة معدنا مخصوصا وموضعا معينا فبين تعالى بقوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أنه قادر على وضع الرحمة في هذا الخلق وقادر على أن يخلق قوما آخرين ويضع رحمته فيهم، وعلى هذا الوجه يكون الاستغناء عن العالمين أكمل وأتم. ومعنى الإذهاب الإهلاك وأن لا يبلغهم مبلغ التكليف وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ أي: من بعد ذهابكم لأن الاستخلاف لا يكون، إلا على طريق البدل من فائت، وقوله: ما يَشاءُ أي خلق ثالث ورابع. ثم اختلفوا فقال بعضهم: خلقا آخرين من أمثال الجن والإنس لكن أطوع، وقال أبو مسلم: يعني خلقا ثالثا مخالفا للثقلين ليكون أقوى في دلالة القدرة. ثم بيّن سبب قدرته على ذلك فقال كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ لأن من قدر على تصوير النطفة المتشابهة الأجزاء بهذه الصور المخصومة قدر على تصويرها بصور أخرى مخالفة لها. وقال في الكشاف: المعنى كما أنشأكم من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام، ثم ذكر حال المعاد فقال: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ قال الحسن: أي من مجيء الساعة لأنهم كانوا ينكرون القيامة، ويحتمل أن يقال: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ إشارة إلى لطفه أي ما يتعلق بالوعد والثواب فهو آت لا محالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 وقوله: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي خارجين عن قدرتتا وحكمنا إشارة إلى قهره، يقال: أعجزه الشيء أي فاته. فالجزم في جانب الوعد والتعريض في جانب الوعيد دليل على أن جانب الرحمة والإحسان أغلب. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وآله بتهديد منكري البعث فقال: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ قال الواحدي: قراءة الإفراد أوجه لأن المصدر لا يجمع في أغلب الأحوال، وقال في الكشاف: المكانة تكون مصدرا. يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكين. وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة، فمعنى الآية اعملوا على نمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها. يقال للرجل: على مكانتك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه إِنِّي عامِلٌ على مكانتي التي أنا عليها. والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم، والغرض تفويض الأمر إليهم على سبيل التهديد كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 40] فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أينا تكون له العاقبة المحمودة، والفاء لتعقيب الجزاء ألا يعادي أي قل اعملوا فستجزون وهكذا في سورة الزمر بخلاف سورة هود حيث لم يقل هناك «قل» فصار استئنافا ومحل «من» نصب إن كان بمعنى «الذي» أو رفع والجملة مفعول تعلمون إن كان بمعنى أيّ وعاقِبَةُ الدَّارِ العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها وهي مصدر كالعافية. وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف وأدب ووثوق بأن المنذر محق ولهذا قيل له فإن الكافر تكون العاقبة عليه لا له. ثم حكى أنواعا من جهالاتهم وركاكات أقوالهم تنبيها على ضعف عقولهم وقلة محصولهم وتنفيرا للعقلاء عن الالتفات إلى أقوال أمثالهم فقال: وَجَعَلُوا لِلَّهِ قال الزجاج: وجعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا بدليل قوله: فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا وجعل الأوثان شركاء لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونها عليها. ثم قال: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ وفي تفسيره وجوه: قال ابن عباس: كان المشركون يجعلون لله تعالى من حروثهم وأنعامهم نصيبا وللأوثان نصيبا، فما كان للصنم أنفقوه عليه وما كان لله أطعموه الضيفان والمساكين ولا يأكلون منه البتة. ثم إن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا إن الله غنيّ عن هذا، وإن سقط شيء مما جعلوا للأوثان في نصيب الله تعالى أخذوه وردّوه إلى نصيب الصنم وقالوا: إنه فقير. وإنما ذلك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها. وعن الحسن والسدي: كان إذا هلك لأوثانهم شيء أخذوا بدله مما لله ولا يفعلون مثل ذلك فيما لله تعالى. وقال مجاهد: إنه إذا انفجر من سقى ما جعلوه للشيطان في نصيب الله عز وجل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 سدوه وإن كان على ضد ذلك تركوه، وقال قتادة: إذا أصابهم شدة استعانوا بالله وإذا أصابتهم حسنة نسبوها إلى شركائهم. وقال مقاتل: إن زكا ونما نصيب الآلهة ولم يزك نصيب الله تركوا نصيب الآلهة. وقالوا: لو شاء زكى نصيب نفسه. وأما إن زكا نصيب الله ولم يزك نصيب الآلهة قالوا لا بدّ لآلهتنا من نفقة وأخذوا نصيب الإله تعالى فأعطوه السدنة. فمعنى فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أنه لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين، ومعنى الوصول إلى شركائهم أنهم ينفقونه عليها بذبح نسائك عندها والأجراء على سدنتها ونحو ذلك. وقوله: مِمَّا ذَرَأَ فيه أن الله تعالى كان أولى بأن يجعل له الزاكي لأنه هو الذي ذرأه أي خلقه. ثم إنه سبحانه ذم فعلهم فقال: ساءَ ما يَحْكُمُونَ وذكر العلماء فيه وجوها: الأول أنهم رجحوا جانب الأصنام في الرعاية والحفظ على جانبه وهو سفه. الثاني جعلوا بعض الحرث لله وبعضه لغيره مع أنه تعالى هو الخالق للجميع. الثالث أن ذلك حكم أحدثوه من قبل أنفسهم ولم يشهد بصحته عقل ولا شرع وأشار إليه بقوله بِزَعْمِهِمْ الرابع لو حسن إفراز نصيب الأصنام لحسن إفراز نصيب لكل حجر ومدر. الخامس لا تأثير للأصنام في حصول الحرث والأنعام ولا قدرة لها على الانتفاع بذلك النصيب، فإفراز النصيب لها عبث. النوع الثاني من أحكامهم الفاسدة قوله: وَكَذلِكَ زَيَّنَ كان أهل الجاهلية يدفنون بناتهم أحياء خوفا من الفقر أو من التزويج، وكان الرجل يحلف بالله إن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم كما فعل عبد المطلب على ابنه عبد الله، والشركاء على الوجه الأول الشياطين الذين أطاعوهم في معصية الله تعالى، وعلى الثاني هم السدنة والخدام، والأول قول مجاهد، والثاني للكلبي. وتقدير الكلام ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربان بين الله والآلهة، أو مثل ذلك التزيين البليغ الذي علم من الشياطين زين لهم شركاؤهم من الشياطين أو من سدنة الأصنام قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بالوأد أو بالنحر. ثم إن وجه القراءة الأكثري ظاهر وليس فيها إلا تقديم المفعول وذلك لشدة الاعتناء به، وأما قراءة ابن عامر فخطأها الزمخشري من جهة الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف فإن ذلك قد جوز بالظرف كقوله: لله در اليوم من لامها وضعف بغير الظرف كقوله: فزججتها بمزجة ... زج القلوص أبي مزاده وحملوه على ضرورة الشعر مع الاستكراه، والحق عندي في هذا المقام أن القرآن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 حجة على غيره وليس غيره حجة عليه، والقراآت السبع كلها متواترة فكيف يمكن تخطئة بعضها؟ فإذا ورد في القرآن المعجز مثل هذا التركيب لزم القول بصحته وفصاحته وأن لا يلتفت إلى أنه هل ورد له نظير في أشعار العرب وتراكيبهم أم لا، وإن ورد فكثير أم لا؟ ومع ذلك فقد وجهه بعض الفضلاء بأن المضاف إليه من الأول محذوف على نحو قوله: بين ذراعي وجبهة الأسد والمضاف مضمر مع الثاني كقراءة من قرأ وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [الأنفال: 67] بالجر على تقدير عرض الآخرة، فتقدير الآية: قتل شركائهم أولادهم قتل شركائهم. ومعنى لِيُرْدُوهُمْ ليهلكوهم بالإغواء. قال ابن عباس: ليردوهم في النار. واللام محمول على العاقبة إن كان التزيين من السدنة، وعلى حقيقة التعليل إن كان من الشيطان وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ليخلطوه عليهم ويشبهوه ودينهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق. وقيل: دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه، وقيل: وليوقعوهم في دين ملتبس وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ لما فعل المشركون ما زين لهم، أو لما فعل الشياطين والسدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس أو جميع ما ذكر إن جعل الضمير جاريا مجرى اسم الإشارة. والمعتزلة حملوا هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر. ثم قال: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ على قانون قوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 40] وفيه مع التهديد التسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر والشرك. قيل: إنما قال في هذه الآية وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ ليكون مناسبا لقوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ وقال فيما قبل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ [الأنعام: 112] لأنه وقع عقيب آيات فيها ذكر الرب كقوله: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ [الأنعام: 104] الآيات. النوع الثالث من أحكامهم الباطلة أنهم قسموا أنعامهم أقساما فأوّلها أن قالوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ وحجر «فعل» بمعنى «مفعول» كالذبح والطحن ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات، وأصل الحجر المنع وسمي العقل الحجر لمنعه من القبائح، وفلان في حجر القاضي أي في منعه. كانوا إذا عينوا شيئا من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا: لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء وَثانيها أن قالوا: هذه أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وهي البحائر والسوائب والحوامي وقد سبق في المائدة. وَثالثها: أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا في الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام. وقيل: هي أنعام لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها وإنما فعلوا ذلك كله من غير حكم من الله وشرع منه بل افْتِراءً عَلَيْهِ وانتصابه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 على أنه مفعول له أو حال أو مصدر مؤكد لأن قولهم ذلك في معنى الافتراء. ثم قال: سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ والمقصود منه الوعيد، وَالنوع الرابع من قضاياهم الفاسدة أن قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يعنون أجنة البحائر والسوائب خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا هذا إن ولد حيا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ أي اشترك فيه الذكور والإناث، من قرأ بنصب ميتة فتقديره وإن يكن ما في بطونها ميتة، ومن قرأ بالرفع فعلى أن «كان تامة» ، أو لأن التقدير: وإن يكن لهم أو هناك ميتة. وإنما جاز تذكير الفعل وتأنيثه لأن تأنيث الميتة غير حقيقي، أو لأن الميتة لكل ميت ذكر أو أنثى فكأنه قيل: ميت ولهذا جاز عود الضمير إليه مذكرا في قوله: فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ وتذكير الضمير في قوله: فَهُمْ للتغليب سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أي جزاء وصفهم على الله الكذب في التحليل والتحريم إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ليكون الزجر واقعا على حد الحكمة وبحسب الاستحقاق. فإن قيل: كيف أنث خالِصَةٌ وذكر محرما؟ قلنا: الأول حمل على المعنى لأن ما في بطون الأنعام في معنى الأجنة، والثاني حمل على اللفظ، وفي الأول وجهان آخران: أن تكون التاء للمبالغة مثل راوية الشعر وأن يكون مصدرا كالعاقبة والعاقبة أي ذو خالصة. ثم إنه سبحانه جمع قبائح أحكامهم وأفعالهم وحكم عليهم بالخسران والسفاهة وعدم العلم والضلال وعدم الاهتداء فقال قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ الآية. وذلك أن الولد نعمة عظيمة من الله تبقي ذكره ونسله فالسعي في إبطال مثل هذه النعمة لضرر مظنون هو الفقر أو نحوه، أو لفائدة موهومة هي القربة إلى الأصنام دليل خفة العقل وعدم العلم وأنه موجب لخسران الدارين. وكذا تحريم ما أحل الله من الطيبات بالهوى والتقليد بل لمحض الافتراء على الله وإن ذلك من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، ولهذا سجل عليهم آخرا بالضلال ثم بعدم الاهتداء ليحصل كلا الأمرين لهم بالمطابقة كما حصل بالتضمن والله أعلم. التأويل: مُهْلِكَ الْقُرى أي قرى أشخاص الإنسان بِظُلْمٍ وهو صرف الاستعداد الفطري في استيفاء اللذات الفانية وَأَهْلُها غافِلُونَ لم يبلغوا مبلغ التكليف بعد. وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ عن كل مخلوق عامة وعن الإنسان خاصة ذُو الرَّحْمَةِ خلقهم ليربحوا عليه لا ليربح عليهم. واعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على ما جبلتم عليه إِنِّي عامِلٌ على ما جبلت عليه قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ من الشياطين والنفس والهوى والدنيا سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ لأنهم ذهبوا مذهب الطبع لا مذهب الشرع، والعمل بالطبع وإن كان فيه نوع مجاهدة النفس لا يكون له نور إذا لم يكن لامتثال الشرع قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 أَوْلادَهُمْ لأن ذلك نتيجة انتزاع الرحمة عن قلوبهم وحرموا ما رزقهم الله صورة وهو ظاهر، ومعنى وهو استعداد حصول مراتب أهل القرب وَما كانُوا مُهْتَدِينَ لأن خشية الفقر حملتهم على قتل الأولاد. وقال أهل التحقيق: من أمارات اليقين وحقائقه كثرة العيال على بساط التوكل. [سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 150] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) القراآت: حَصادِهِ بفتح الحاء: أبو عمرو وعاصم وابن عامر وسهل ويعقوب، الباقون: بالكسر وكلاهما مصدر مِنَ الضَّأْنِ بغير همزة: أبو عمرو غير شجاع وأوقية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 والأعشى والأصبهاني عن ورش ويزيد وحمزة في الوقف. وَمِنَ الْمَعْزِ ساكن العين: عاصم وحمزة وعلي وخلف ونافع وأبو جعفر وابن فليح وزمعة والخزاعي عن البزي والقواس غير ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل عنه، الباقون: بفتحها إلا أن تكون بتاء التأنيث: ابن كثير وابن عامر ويزيد وحمزة وعباس من طريق ابن رومي عنه. مَيْتَةً بالتخفيف والرفع: ابن عامر وزاد يزيد التشديد. الباقون: بالياء وبالنصب. الْحَوايا ممالة: علي وحمزة وخلف. فَقُلْ رَبُّكُمْ وبابه مظهرا: الحلواني عن قالون والبرجمي. الوقوف . مُتَشابِهٍ ط. وَلا تُسْرِفُوا ط الْمُسْرِفِينَ هـ لا لأن قوله: حَمُولَةً منصوب ب أَنْشَأَ وَفَرْشاً ط الشيطان ط مُبِينٌ هـ لا لأن ثَمانِيَةَ منصوب ب أَنْشَأَ جَنَّاتٍ أَزْواجٍ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ط أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ ط لانتهاء الاستفهام صادِقِينَ هـ لا لأن اثْنَيْنِ منصوب ب أَنْشَأَ أيضا وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ط أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ ط لأن «أم» في قوله: أَمْ كُنْتُمْ بمعنى ألف استفهام توبيخ. بِهذا ج للاستفهام مع الفاء ولانقطاع النظم مع اتحاد المعنى عِلْمٍ ط الظَّالِمِينَ هـ. لِغَيْرِ اللَّهِ ج رَحِيمٌ هـ ظُفُرٍ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى. بِعَظْمٍ ط بِبَغْيِهِمْ ز للابتداء بأن وإثبات وصف الصدق مطلقا. وللوصل وجه لأن المعنى وإنا لصادقون فيما أخبرنا عن التحريم ببغيهم. واسِعَةٍ ط لاختلاف الجملتين الْمُجْرِمِينَ هـ مِنْ شَيْءٍ ط بَأْسَنا ط لَنا ط تَخْرُصُونَ هـ الْبالِغَةُ ج للشرط مع الفاء أَجْمَعِينَ هـ حَرَّمَ هذا ج لذلك مَعَهُمْ ج لتناهي جزاء الشرط مع العطف يَعْدِلُونَ هـ. التفسير: إنه سبحانه جعل مدار هذا الكتاب الكريم على تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر وإنه بالغ في تقرير هذه الأصول وانتهى الكلام إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء، ثم انتقل منه إلى تهجين طريقة منكري البعث والقيامة، ثم أتبعه حكاية أقوالهم الركيكة تنبيها على ضعف عقولهم، فلما تمم هذه المقاصد عاد إلى ما هو المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على إثبات ذاته ووجوب توحيده فقال: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ الآية نشأ الشيء ينشأ نشأ إذا ظهر وارتفع، وأنشأه الله ينشئه إنشاء أظهره ورفعه جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ يقال: عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكا تعطف عليه القبضان. وقيل: كلاهما الكرم فإن بعض الأعناب تعرش وبعضها يبقى على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 وجه الأرض منبسطا كالقرع والبطيخ. وقيل: المعروشات ما يحتاج إلى أن يتخذ له عروش يحمل عليها فتمسكه وهو الكرم وما يجري مجراه، وغير معروشات هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وقوة ساقه عن التعريش. وقيل: المعروشات ما في البساتين والعمارات مما غرسه الناس واهتموا به فعرشوه، وغير معروشات ما أنبته الله وحشيا في البراري والجبال فيبقى غير معروش. وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ فسر ابن عباس الزرع بجميع الحبوب التي تقتات مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ والأكل كل ما يؤكل والمراد هاهنا ثمر النخل والزرع فاكتفى بإعادة الذكر على أحدهما كقوله: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: 11] أي إليهما. والمراد أن لكل شيء منهما طعما غير طعم الآخر ومُخْتَلِفاً حال مقدّرة أي أنشأه مقدّرا اختلاف أكله لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ في القدر واللون والطعم. ثم قال كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وقد قال في الآية المتقدمة أعني نظير هذه الآية وذلك قوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ الآية إلى قوله انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ [الأنعام: 99] تنبيها على أن الأمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم متقدم على الإذن في الانتفاع بها لأن الحاصل من الأول سعادة روحانية أبدية، والحاصل من الانتفاع سعادة جسمانية زائلة. وفائدة هذا الأمر الإباحة، وقدم إباحة الأكل على إخراج الحق كيلا يظن أنه يحرم على المالك تناوله لمكان شركة المتشاركين فيه. وفي الآية إشارة إلى أن خلق هذه النعم إما للأكل وإما للتصدق، والأول لكونه حق النفس مقدم على الثاني لأنه حق الغير. وفيه أن الأصل في المنافع الإباحة والإطلاق لأن قوله: كُلُوا خطاب عام يتناول الكل، ويمكن أن يستدل به على أن الأصل عدم وجوب الصوم وأن من ادعى إيجابه فهو المحتاج إلى الدليل، وأن المجنون إذا أفاق في أثناء النهار لا يلزمه قضاء ما مضى، وأن الشارع في صوم النفل لا يجب عليه الإتمام. قال علماء الأصول: من المعلوم من لغة العرب أن صيغة الأمر تفيد ترجيح جانب الفعل فحملها على الإباحة أو الوجوب لا يصار إليه إلا بدليل منفصل، وفائدة قوله: إِذا أَثْمَرَ وقد علم أنه إذا لم يثمر لم يؤكل منه هي أن يعلم أن أول وقت الإباحة وقت اطلاع الشجر الثمر ولا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك وأينع، أما قوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فعن ابن عباس في رواية عطاء وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاوس والضحاك، أن الآية مدنية والحق هو الزكاة المفروضة وعلى هذا فكيف يؤدى الزكاة يوم الحصاد والحب في السنبل. والجواب أن المراد فاعزموا على إيتاء الحق يوم الحصاد واهتموا به حتى لا تؤخروه عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء، وقال مجاهد: الآية مكية وإن هذا حق في المال سوى الزكاة وكان يقول: إذا حصدت فحضرك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 المساكين فاطرح لهم منه، وكذا إذا دسته وإذا عرفت كيله فاعزل زكاته وزيف بقوله صلى الله عليه وآله: «ليس في المال حق سوى الزكاة» «1» وبأن قوله: وَآتُوا حَقَّهُ إنما يحسن ذكره لو كان ذلك الحق معلوما قبل ورود هذه الآية والإلزام الإجمال. وعن سعيد بن جبير أن هذا كان قبل وجوب الزكاة فلما فرض العشر أو نصف العشر فيما سقي بالسواقي نسخ، والقول الأول أصح. ثم إن أبا حنيفة احتج بالآية على وجوب الزكاة في الثمار لأنه قال: وَآتُوا حَقَّهُ بعد ذكر الأنواع الخمسة وهي العنب والنخل والزرع والزيتون والرمان. واعترض عليه بأن لفظ الحصاد مخصوص بالزرع. وأجيب بأن الحصد في اللغة عبارة عن القطع وذلك يتناول الكل. واحتج هو أيضا بها على أن العشر واجب في القليل والكثير للإطلاق، والجواب أن بيانه في الحديث «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» «2» . ثم قال تعالى: وَلا تُسْرِفُوا ولأهل اللغة فيه تفسيران: فعن ابن الأعرابي: السرف تجاوز ما حد لك. فعلى هذا إذا أعطى الكل ولم يوصل إلى عياله شيئا فقد أسرف كما جاء في الخبر «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» «3» وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فخذها فقسمها في يوم واحد ولم يدخل منها إلى منزله شيئا فنزلت الآية وَلا تُسْرِفُوا أي لا تعطوا كله وإذا منع الصدقة فقد أسرف وبه فسر الآية سعيد بن المسيب، فإن مجاوزة الحد تكون إلى طرف الإفراط وإلى طرف التفريط. وقال عمر: سرف المال ما ذهب منه في غير منفعة. وعلى هذا فقد قال مقاتل: معناه لا تشركوا الأصنام في الأنعام والحرث. وقال الزهري: ولا تنفقوا في معصية الله تعالى. وعن مجاهد: لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفا، ولو أنفق درهما في معصية الله كان مسرفا، وهذا المعنى أراد حاتم الطائي حين قيل له لا خير في السرف فقال: لا سرف في الخير. ثم ختم الآية بقوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ والمقصود منه الزجر فإن كل مكلف لا يحبه الله فإنه من أهل النار لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادة إيصال الثواب إليه. قوله: حَمُولَةً وَفَرْشاً معطوف على جنات أي وأنشأ من الأنعام هذين الجنسين. فالحمولة ما يحمل الأثقال   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 3. (2) رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 6. البخاري في كتاب الزكاة باب 32، 42. مسلم في كتاب الزكاة حديث 7. الموطأ في كتاب الزكاة حديث 1، 2. أحمد مسنده (2/ 92) . (3) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 18. الترمذي في كتاب الزكاة باب 38. النسائي في كتاب الزكاة باب 518- 53. الدارمي في كتاب الزكاة باب 21، 22. أحمد في مسنده (2/ 4، 152) . (3/ 330، 346) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 «فعولة» بمعنى «فاعلة» والفرش ما يفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش مصدر بمعنى «مفعول» . وقيل: الحمولة الكبار التي تصلح للحمل، والفرش الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها مثل الفرش المفروش عليها. كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالت المعتزلة: أي مما أحلها لكم وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ لا تسلكوا طريقه الذي يدعوكم إليه في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ بين العداوة. وفي انتصاب ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ وجهان: قال الفراء: هو بدل من قوله: حَمُولَةً وَفَرْشاً. وجوز غيره أن يكون مفعول كُلُوا والعرب تسمي الواحد فردا إذا كان وحده فإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحد منهما زوجا وهما زوجان، قال عز من قائل: خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [النجم: 45] وقال: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ثم فسرها بقوله: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ أي زوجين اثنين وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وفي الآية الثانية: وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قال الجوهري: الضائن خلاف الماعز والجمع يعني اسم الجمع الضأن والمعز مثل راكب وركب وسافر وسفر. وضأن أيضا مثل حارس وحرس. وقال في الكشاف: إنه قرىء بفتح العين. والضأن ذوات الصوف من الغنم والمعز ذوات الشعر منها قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ نصب بقوله: حَرَّمَ والاستفهام يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله. ويريد بالذكرين الذكر من الضأن وهو الكبش، والذكر من المعز وهو التيس، وبالأنثيين الأنثى من الضأن وهي النعجة، والأنثى من المعز وهي العنز، وذلك على طريق الجنسية والمشاكلة. ومعنى الاستفهام إنكار أن يحرم الله من جنسي الغنم ضأنها ومعزها شيئا من نوعي ذكورها وإناثها ولا مما يشتمل عليه أرحام الأنثيين أي مما يحمل إناث الجنسين، وكذلك الذكر من جنسي الإبل والبقر يعني الجمل والثور والأنثيان منهما الناقة والبقرة وما يحمل إناثهما وذلك أنهم كانوا يحرّمون ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى وأولادها كيفما كانت ذكورا أو إناثا، أو من خلط تارة وكانوا يقولون: قد حرمها الله فقيل لهم: إنكم لا تقرون بنبوّة نبي ولا شريعة شارع فكيف تحكمون بأن هذا يحل وهذا يحرم؟ وأكد ذلك بقوله: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ أخبروني بأمر معلوم من جهة الله يدل على تحريم ما حرمتم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الله حرمه. واعلم أنه سبحانه منّ على عباده بإنشاء الأزواج الثمانية من الأنعام لمنافعهم وإباحتها لهم إلا أنه فصل بين بعض المعدود وبعضه بالاحتجاج على من حرمها وليس ذلك بأجنبي وإنما هي جملة معترضة جيء بها تأكيدا وتشديدا للتحليل، فالاعتراضات في الكلام لاتساق إلا للتوكيد، أما قوله: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ ف «أم» منقطعة أي بل أكنتم شهداء ومعناه الإنكار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 وفحواه أعرفتم التوصية به مشاهدين لأنكم لا تؤمنون بالرسل وتقولون إن الله حرم هذا فلم يبق إلا المشاهدة فتهكم بهم بذلك وسجل عليهم وعلى أمثالهم بالظلم بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فنسب إليه تحريم ما لم يحرم. قال المفسرون: يريد عمرو بن لحي بن قمعة الذي غيّر شريعة إسماعيل عليه السلام وبحّر البحائر وسيّب السوائب. والأقرب أن اللفظ عام فيتناول كل مفتر وإذا استحق هذا الوعيد على افتراء الكذب في تحريم مباح فكيف إذا كذب على الله تعالى في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والملائكة وفي النبوّات وفي المعاد؟! قال القاضي: في الآية دلالة على أن الإضلال عن الدين مذموم فلا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى. وأجيب بأنه ليس كل ما كان مذموما منا كان مذموما من الله تعالى فإن تمكين العبيد من أسباب الفجور وتسليط الشهوة عليهم مذموم منّا دونه إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قال القاضي: لا يهديهم إلى ثوابه وإلى زيادات الهدى التي يختص المهتدى بها. وقالت الأشاعرة: معناه أنه لا ينقل المشركين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ثم لما بيّن فساد طريقة الجاهلية فيما يحل ويحرم من المطاعم أتبعه البيان الصحيح في الباب فقال: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً أي طعاما محرما عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ على آكل يأكله إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذلك المأكول أو الموجود أو الطعام مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً مصبوبا سائلا. قال ابن عباس: يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء وما خرج من الأوداج عند الذبح فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما، وما يختلط باللحم من الدم فإنه غير سائل. وسئل أبو مجلز عما يتلطّخ باللحم من الدم وعن القدر التي ترى فيها حمرة الدم فقال: لا بأس به إنما النهي عن الدم المسفوح. وباقي الآية ظاهر مما سلف في أمثالها، وانتصاب فِسْقاً على أنه معطوف على المنصوبات قبله، وأُهِلَّ صفة له منصوبة المحل سمي ما أهل به لغير الله فسقا لتوغله في باب الفسق كما يقال: فلان كرم وجود. وجوز أن يكون فِسْقاً مفعولا له من أُهِلَّ وعلى هذا فقد عطف أُهِلَّ على يَكُونَ والضمير في بِهِ يعود إلى ما يرجع إليه المستكن في يَكُونَ قالت العلماء: إن هذه السورة مكية وقد بيّن في الآية أنه لم يجد فيما أوحي إليه قرآنا أو غيره محرما سوى هذه الأربعة، وقد أكد هذا بما في النحل وفي البقرة مصدرة بكلمة «إنما» الدالة على الحصر فصارت المدنية مطابقة للمكية، والذي جاء في المائدة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ إلى قوله: وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ [الآية: 3] من أقسام الميتة ولكنه خص بالذكر لأنهم كانوا يحكمون على تلك الأشياء بالتحليل فثبت أن الشريعة من أولها إلى آخرها كانت مستقرة على هذا الحكم. وعلى هذا الحصر بقي الكلام في الخمر وفي سائر النجاسات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 والمستقذرات فنقول: إنه سبحانه قد وصف الخمر بأنه رجس وهاهنا علل تحريم لحم الخنزير بكونه رجسا فعلمنا أن النجاسة علة لتحريم الأكل وكل نجس فإنه يحرم أكله، هذا بعد إجماع الأمة على تحريم الخبائث والنجاسات. وإن جوزنا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد كما روي أنه صلى الله عليه وآله نهى عن كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور. فلا إشكال. وقيل: المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن محرم غير هذه الأربعة وزيف بأن تحريم شيء خامس نسخ والأصل عدمه. ثم بين سبحانه أنه حرم على اليهود أشياء أخر سوى هذه الأربعة فقال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا وذلك نوعان: الأول أنه حرم عليهم كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وفيه لغات: ضم الفاء والعين وهي الفصحى، وكسرهما وهي قراءة ابن السماك، والضم مع السكون والكسر مع السكون وهي قراءة الحسن، واختلف في ذي الظفر فعن ابن عباس في رواية عطاء أنه الإبل فقط، وعنه في رواية أخرى وهو قول مجاهد أنه الإبل والنعام، وقيل: كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب، وسمي الحافر ظفرا على الاستعارة، وزيف بأن الحافر لا يكاد يسمى ظفرا وبأن البقر والغنم مباحان لهم كما يجيء مع أن لهما حافرا فإذن يجب حمل الظفر على المخلب والبراثن من الجوارح والسباع بل على كل ما له إصبع من دابة وطائر. وكان بعض ذوات الظفر حلالا لهم فلما ظلموا عمم التحريم. فعموم التحريم خاص بهم ولهذا قدم الجار في قوله وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا فيستدل بذلك على حل بعض هذه الحيوانات على المسلمين وهو ما سوى ذات المخلب والناب فيكون الخبر مبينا للآية لا مخالفا كما ظن صاحب التفسير الكبير. النوع الثاني قوله وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما قال في الكشاف: هو كقولك: «من زيد أخذت ماله» تريد بالإضافة يعني إضافة الأخذ إلى زيد بواسطة من زيادة الربط. والمعنى أنه حرم عليهم من كل ذي ظفر كله ومن البقر والغنم بعضهما وذلك شحومهما فقط، هذا أيضا ليس على الإطلاق لقوله: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما قال ابن عباس: إلا ما علق بالظهر من الشحم فإني لم أحرمه. وقال قتادة: إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونها. وقيل: إلا ما اشتمل على الظهور والجنوب من السحفة وهي الشحمة التي على الظهر الملتزقة بالجلد فيما بين الكتفين إلى الوركين. وهي بالحقيقة لحم سمين لأنه يحمر عند الهزال ولهذا لو حلف لا يأكل الشحم فأكل من ذلك اللحم السمين لم يحنث على الأصح. والاستثناء الثاني قوله: أَوِ الْحَوايا قال الجوهري: الحوايا الأمعاء واحدها حوية وفي معناها حاوية البطن وحاوياء البطن. وقال الواحدي: هي المباعر والمصارين والفحوى، أو ما اشتمل على الأمعاء يعني أن الشحوم الملتصقة بالمباعر والمصارين غير محرمة، والاستثناء الثالث: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ قال جمهور المفسرين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 يعني شحم الألية. وقال ابن جريج: كل شحم في القوائم والجنب والرأس وفي العينين والأذنين فإنه مخلوط بعظم فهو حلال لهم. والحاصل أن الشحم الذي حرم الله عليهم هو الثرب وشحم الكلية. وقيل: إن الحوايا غير معطوف على المستثنى وإنما هو معطوف على المستثنى منه والتقدير: حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت الظهور فإنه غير محرم. ودخوله كلمة «أو» كدخولها في قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الدهر: 24] والمعنى كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا واعص هذا فكذا هاهنا المعنى حرمنا عليهم هذا وهذا ذلِكَ الجزاء وهو تحريم الطيبات جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ بسبب قتلهم الأنبياء وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل وغير ذلك من قبائح أفعالهم وَإِنَّا لَصادِقُونَ في هذه الأخبار أو فيما يوعد به العصاة. قال القاضي: نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر عنهم لأن التكليف تعريض للثواب والتعريض للثواب إحسان. وأجيب بأن المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لمزيد الثواب ويمكن أن يكون بشؤم الجرم المتقدم فَإِنْ كَذَّبُوكَ في ادعاء النبوّة والرسالة أو في تبليغ الأحكام، وعلى أصول المعتزلة فإن كذبوك في إنجاز إيعاد العصاة وزعموا أن الله واسع الرحمة وأنه يخلف الوعيد جودا وكرما. فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ فلذلك لا يعجل بالعقوبة وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ إذا جاء وقت عذابه عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ يعني المكذبين. وعلى أصولهم رحمته واسعة لأهل طاعته ولا يرد بأسه مع ذلك عن الذين ارتكبوا الكبائر فماتوا قبل التوبة. ثم حكى أعذار الكفار الواهية فقال: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وإنما جاز العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير أن أكد بالمنفصل لمكان الفصل بعد حرف العطف بلا الزائدة لتأكيد النفي. أخبر الله تعالى بما سوف يقولونه ولما قالوه. قال في سورة النحل: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل: 35] وإنما قال في سورة النحل بزيادة «نحن» و «من دونه» مرتين لأن الإشراك مستنكر مطلقا. فلفظ الإشراك يدل على إثبات شريك لا يجوز إثباته، وعلى تحليل أشياء وتحريم أشياء من دون الله فلم يحتج إلى لفظ من دونه، وأما العبادة فإنها غير مستنكرة على الإطلاق وإنما المستنكر عبادة شيء مع الله سبحانه، ولا تدل على تحريم شيء فلم يكن بد من تقييده بقوله: من دونه ولما حذف من الآية لفظة من دونه مرتين حذف معه نَحْنُ لتطرد الآية في حكم التخفيف. أما تفسير الآية فزعمت المعتزلة أنها تدل على قولهم في مسألة إرادة الكائنات من سبعة أوجه: الأول أن الذي حكى عن الكفار في معرض الذم والتقبيح وذلك قولهم: «لو شاء الله منا أن لا نشرك لم نشرك» هو صريح قول المجبرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 فيكون هذا المذهب مذموما. الثاني قوله: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فلم يذكر المكذب به تنبيها على أنهم جاؤا بالتكذيب المطلق لأن الله عز وعلا ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئته القبائح وإرادتها، والرسل أخبروا بذلك فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله وهو تكذيب الله ورسله وكتبه ونبذ أدلة السمع والعقل وراء ظهره. والحاصل أن هذا طريق متعين لكل الكفار المتقدمين منهم والمتأخرين في تكذيب الأنبياء وفي دفع دعوتهم عن أنفسهم لأنهم يقولون الكل بمشيئة الله تعالى. الثالث قوله: حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا وذلك يدل على أنهم استوجبوا الوعيد من الله تعالى في هذا المذهب. الرابع قوله: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا وإنه استفهام على سبيل الإنكار أي لا علم لهؤلاء القائلين ولا حجة. الخامس: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ السادس: وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ السابع: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ لأنه أزال الأعذار بالتمكين والإقدار فلم يبق لكم على الله حجة وإنما الحجة البالغة له عليكم وذلك أنكم تقولون: لو أتينا بعمل على خلاف مشيئة الله لزم أن يكون الإله عاجزا مغلوبا. وهذا الكلام غير لازم لأن الله قادر على أن يحملكم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء إلا أن ذلك يبطل الحكمة المطلوبة من التكليف وهذا هو المراد من قوله: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ وبوجه آخر إن كان الأمر كما زعمتم أن ما أنتم عليه بمشيئة الله فلله الحجة الكاملة عليكم فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقتضي أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضا بمشيئته فتوالوا جميع أهل الأديان ولا تعادوهم. أجابت الأشاعرة بأنا قد بينا بالدلائل القاطعة من أول القرآن إلى هاهنا صحة مذهبنا فوجب تأويل هذه الآية دفعا للتناقض فنقول: إن القوم كانوا يتمسكون بمشيئة الله تعالى في إبطال دعوة الأنبياء، وفي أن التكليف عبث فبين الله تعالى أن ذلك من تكاذيبهم وأكاذيبهم، وأن التشبث بهذا العذر لا يفيدهم لأنه إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه، شاء الكفر من الكافر ومع ذلك بعث الأنبياء وأمر بالإيمان، وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس: أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب القدر فجرى بما يكون إلى قيام الساعة. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله «المكذبون بالقدر مجوس هذه الأمة» «1» ثم إن ظاهر آخر الآية معناه وهو قوله: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ وحمل المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر تعسف والله أعلم. ثم لما أبطل جميع حجج الكفار بين أنه ليس   (1) رواه ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 10. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 لهم على قولهم شهود فقال: قُلْ هَلُمَّ ومعناه إذا كان لازما أقبل وإذا كان متعديا أحضر. قال الخليل: أصله «هالم» من قولهم لمّ الله شعثه أي جمعه كأنه قال: لمّ نفسك إلينا أي أقرب والهاء للتنبيه واستعطاف المأمور، ثم حذفت ألفها لكثرة الاستعمال وجعلا اسما واحدا يستوي فيه الواحد والجمع والتذكير والتأنيث في لغة أهل الحجاز، وأهل نجد يصرفونها «هلما هلموا هلمي هلممن» والأول أفصح وقد يوصل بإلى كقوله تعالى: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا [الأحزاب: 18] وقال الفراء: أصلها «هل أم» أرادوا بهل حرف الاستفهام ومعنى أم اقصد. وقيل: إن أصل استعماله أن قالوا هل لك في الطعام أم أي اقصد. ثم شاع في الكل. أمر الله تعالى نبيه باستدعاء إقامة الشهداء من الكافرين ليظهر أن لا شاهد لهم على تحريم ما حرموه. وإنما لم يقل شهداء يشهدون لأنه ليس الغرض إحضار أناس يشهدون بالتحريم وإنما المراد إحضار شهدائهم الموسومين بالشهادة لهم المعروفين بنصرة مذهبهم ولهذا قال: فَإِنْ شَهِدُوا أي فإن وقعت شهادتهم فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي لا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم لأن شهادتهم محض الهوى والتعصب ولأجل ذلك قال أيضا: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالتكذيب وليرتب عليه باقي الآية فيعلم أن المتصف بهذه الصفات لا تكون شهادتهم عند العقلاء مقبولة. التأويل: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ في القلوب مَعْرُوشاتٍ من شجرة الإسلام والإيمان والإحسان وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ هي الصفات الروحانية التي جبلت القلوب عليها كالسخاء والحياء والوفاء والمودة والفتوة والشفقة والعفة والعلم والحلم والعقل والشجاعة والقناعة ونخل الإيمان وزرع الأعمال الصالحة وزيتون الأخلاق الحميدة ورمان الإخلاص بالشواهد والأحوال مُتَشابِهاً أعمالها وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ أحوالها كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ انتفعوا من ثمار الإيمان والأعمال والإخلاص بالشواهد والأحوال لا بالدعاوى والقيل والقال. وَآتُوا حَقَّهُ وحقه دعوة الخلق وتربيتهم بالحكمة والموعظة الحسنة ويَوْمَ حَصادِهِ أوان بلوغ السالك مبلغ الرجال البالغين عند إدراك ثمرة الكمال للواصلين دون السالك الذي يتردد بعد بين المنازل والمراحل. وَلا تُسْرِفُوا بالشروع في الكلام في غير وقته والحرص على الدعوة قبل أوانها. وَمِنَ الْأَنْعامِ أي ومن الصفات الحيوانية التي هي مركوزة في الإنسان ما هو مستعد لحمل الأمانة وتكاليف الشرع، ومنها ما هو مستعد للأكل والشرب لصلاح القالب وقيام البشرية. كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فرزق القلب هو التحقيق من حيث البرهان، ورزق الروح هو المحبة بصدق التحرز عن الأكوان، ورزق السر هو شهود العرفان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 يلحظ العيان، فانتفعوا من هذه الأرزاق بقدر ما ينبغي. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ يخرجكم بالتفريط والإفراط إلى ضد المقصود. ثم إن الصفات الحيوانية ثمان بعضها ذكور وبعضها إناث يتولد منها صفات أخر كلها محمودة إذا استعملت في محالها، وبمقدار ما ينبغي مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ والضأن والمعز من جنس الفرشية كما أن الإبل والبقر من جنس الحمولية. والذكر من الضأن والمعز هما صفة شهوة البطن والفرج والأنثى منهما صفة حسن الخلق عند الاستمتاع بها وصفة التسليم عند تحمل الأذى، والذكر من الإبل والبقر صفتا الظلومية والجهولية، وأنثاهما الحمولية والاستسلام للاستعمال. فبهذه الصفات الإنسانية صار الإنسان حامل أعباء الأمانة التي أبت المكونات عن حملها وهن أيضا حملة عرش القلب فافهم. وقد أحل الله تعالى استعمالها واستعمال المتولد منها على قانون الشريعة والطريقة، ومن زعم أنه يجب تركها وفصلها بالكلية فقد افترى لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا الكلام في نفسه حق وصدق إلا أنهم لما ذكروه في معرض الإلزام دفعا للأذية والآلام كذبوا فيما قالوا والله سبحانه أعلم بالصواب. [سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 165] قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 القراآت: تَذَكَّرُونَ بتخفيف الذال حيث كان: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد فحذفوا إحدى التاءين. الباقون: بالتشديد لأجل إدغام تاء التفعل في الذال وَأَنَّ هذا بسكون النون: ابن عامر ويعقوب وَأَنَّ هذا بكسر الهمزة وتشديد النون: حمزة وعلي وخلف، الباقون: وَأَنَّ بالفتح والتشديد صِراطِي بفتح الياء: ابن عامر والأعشى والبرجمي فَتَفَرَّقَ بتشديد التاء: البزي وابن فليح أن يأتيهم بالياء التحتانية وكذلك في النحل: علي وحمزة وخلف. الباقون: بالتاء الفوقانية. فارقوا وكذلك في الروم: حمزة وعلي الباقون فَرَّقُوا بالتشديد عَشْرُ بالتنوين أَمْثالِها بالرفع: يعقوب. الباقون بالإضافة رَبِّي إِلى بفتح ياء المتكلم: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع، قِيَماً بكسر القاف وفتح الياء: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل. الباقون: بالعكس مع تشديد الباء. مَحْيايَ بالسكون مَماتِي بالفتح: أبو جعفر ونافع. الباقون: بالعكس. وَأَنَا أَوَّلُ بالمد: نافع وأبو جعفر. الوقوف: شَيْئاً ط للحذف أي وأحسنوا بالوالدين إِحْساناً ج لابتداء النهي مع احتمال العطف أي وأن لا تقتلوا، مِنْ إِمْلاقٍ ط. وَإِيَّاهُمْ ج للعطف مع العارض. وَما بَطَنَ ط للفصل بين الحكمين المعظمين مع اتفاق الجملتين بِالْحَقِّ ط لانتهاء بيان الأحكام إلى توكيد الإيصاء للأحكام تَعْقِلُونَ هـ أَشُدَّهُ ج للفصل بين الحكمين بِالْقِسْطِ ط لاحتمال ما بعده الحال أو الاستئناف ذا قُرْبى ج لتناهي جواب «إذا» وتقدّم مفعول أَوْفُوا تَذَكَّرُونَ هـ لمن قرأ وَأَنَّ هذا بالكسر. فَاتَّبِعُوهُ ج للفصل بين النقيضين معنى مع الاتفاق نظما. عَنْ سَبِيلِهِ ط تَتَّقُونَ هـ يُؤْمِنُونَ هـ تُرْحَمُونَ هـ لا لأن التقدير فاتبعوه لئلا تقولوا مِنْ قَبْلِنا ص. لَغافِلِينَ هـ لا للعطف أَهْدى مِنْهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 ج للفاء مع أن «قد» لتوكيد الابتداء. وَرَحْمَةٌ ج للاستفهام مع الفاء وَصَدَفَ عَنْها ط يَصْدِفُونَ هـ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ط خَيْراً ط مُنْتَظِرُونَ هـ فِي شَيْءٍ ط يَفْعَلُونَ هـ أَمْثالِها ج لابتداء شرط آخر مع العطف لا يُظْلَمُونَ هـ مُسْتَقِيمٍ ج لاحتمال أن دِيناً نصب على البدل من محل إِلى صِراطٍ أو على الإغراء أي الزموا. حَنِيفاً ج لابتداء النفي مع اتحاد المعنى الْمُشْرِكِينَ هـ الْعالَمِينَ هـ لا. لا شَرِيكَ لَهُ ج الْمُسْلِمِينَ هـ كُلِّ شَيْءٍ ط لانتهاء الاستفهام إلى الإخبار إِلَّا عَلَيْها ج لتفصيل الأمرين على التهويل مع اتفاق الجملتين أُخْرى ج لأنّ «ثم» لترتيب الإخبار مع اتحاد المقصود تَخْتَلِفُونَ هـ آتاكُمْ ط الْعِقابِ ز للتفصيل بين تحذير وتبشير والوصل للعطف أوضح رَحِيمٌ هـ. التفسير: لما بين فساد ما يقوله الكفار في باب التحليل والتحريم أتبعه البيان الشافي في الباب فقال: قُلْ تَعالَوْا وهو من الخاص الذي صار عاما لأن أصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه. و «ما» في قوله: ما حَرَّمَ إما منصوب بفعل التلاوة أي أتل الذي حرمه ربكم فالعائد محذوف. وقوله: عَلَيْكُمْ يكون متعلقا ب أَتْلُ أو ب حَرَّمَ وإما منصوب ب حَرَّمَ على أن «ما» استفهامية فلا راجع. والمعنى أقل أي شيء حرم لأن التلاوة نوع من القول وتقديم المفعول للتخصيص. فإن قيل: قوله أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً كالتفصيل لما أجمله في قوله: ما حَرَّمَ فيلزم أن يكون ترك الشرك والإحسان إلى الوالدين محرما. فالجواب أن المراد من التحريم البيان المضبوط، أو الكلام تم عند قوله: ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ ثم ابتدأ فقال: عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا أو «أن» مفسرة أي ذلك التحريم هو قوله: أَلَّا تُشْرِكُوا وهذا في النواهي واضح، وأما الأوامر فيعلم بالقرينة أن التحريم راجع إلى أضدادها وهي الإساءة إلى الوالدين وبخس الكيل والميزان وترك العدل في القول ونكث عهد الله. ولا يجوز أن يجعل «أن» ناصبة وإلا لزم عطف الطلب أعني الأمر على الخبر. واعلم أنه سبحانه بيّن فرق المشركين في هذه السورة أحسن بيان، وذلك أن منهم من يجعل الأصنام شركاء لله تعالى فأشار إليهم بقوله: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً [الأنعام: 74] ومنهم عبدة الكواكب الذين أبطل قولهم بقوله: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام: 76] ومنهم القائلون بيزدان وأهرمن ومنهم الذين يقولون الملائكة بنات الله والمسيح ابن الله وزيف معتقدهم بقوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 100] ثم عمم النهي بقوله: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ثم حث على إحسان الوالدين وكفى به خصلة شريفة أن جعله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 تاليا لتوحيده. ثم أوجب رعاية حقوق الأولاد بعد رعاية حقوق الوالدين. ومعنى مِنْ إِمْلاقٍ أي من خوف الفقر كما صرح بذلك في الآية الأخرى وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء: 31] كانوا يدفنون البنات أحياء بعضهم للغيرة وبعضهم لخوف الإملاق وهو السبب الغالب فلذلك أزيل ذلك الوهم بقوله: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فكما يجب على الوالد الاتكال في رزق نفسه على الله فكذا القول في حال الولد، قال شمر: أملق لازم ومتعد. أملق الرجل إذا افتقر، وأملق الدهر ما عنده إذا أفسده. وإنما قال هاهنا: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وقال في سبحان بالعكس لأن التقدير في الآية من إملاق بكم نحن نرزقكم وإياهم، وهناك زيدت الخشية التي تتعلق بالمستقبل فالتقدير خشية إملاق يقع بهم نحن نرزقهم وإياكم، ثم نهى عن قربان الفواحش كلها. ومعنى ما ظهر منها وما بطن كما مر في قوله: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ [الأنعام: 120] وفيه أن الإنسان إذا احترز عن المعصية في الظاهر ولم يحترز عنها في الباطن دل على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله تعالى وامتثال أمره ولكن لأجل الخوف من مذمة الناس. ثم أفرز من جملة الفواحش قتل النفس المحرمة تنبيها على فظاعتها ولما نيط بها من الاستثناء وهو قوله إِلَّا بِالْحَقِّ وذلك أن قتل النفس المحرمة قد يكون حقا لجرم صدر عنها كما جاء في الحديث «لا يحل دم امرئ مسلم إلا لإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق» «1» وينخرط في سلكه جزاء قاطع الطريق. والحاصل أن الأصل في قتل النفس هو الحرمة وحله لا يثبت إلا لأمر منفصل. ثم لما بيّن النواهي الخمسة أتبعه الكلام الذي يقرب إلى القلوب القبول فقال: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ لما في لفظ التوصية من الرأفة والاستعطاف. ومعنى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا. ثم ذكر أربعة أنواع أخر من التكاليف وذلك قوله: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي أي بالخصلة أو الطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ وهي السعي في تثميره وإنمائه ورعاية وجوه الغبطة لأجله كما مر في أول سورة النساء حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ أي احفظوا ماله إلى هذه الغاية أي أوان الاحتلام ولكن بشرط أن يؤنس منه الرشد. قال الفراء: واحد الأشد شدته في القياس ولم يسمع. وقال أبو الهيثم: الواحد شدّة كأنعم في نعمة، والشدّة القوّة ومنه قولهم: «بلغ الغلام شدّته» . وقيل: إنه واحد جاء على بناء الجمع كآنك ولا نظير لهما وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ بالعدل   (1) رواه الترمذي في كتاب الديات باب 10. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. النسائي في كتاب القسامة باب 6، 14. الدارمي في كتاب السير باب 11. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 والسوية. وإيفاء الكيل إتمامه خلاف البخس. وقوله: وَالْمِيزانَ أي الوزن بالميزان. فإن قيل: إيفاء الكيل والوزن هو عين القسط فما فائدة التكرار؟ قلنا: أمر الله المعطى بإيفاء إيتاء ذي الحق حقه من غير نقصان وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة. ثم قال: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ليعلم أن الواجب هو القدر الممكن من العدالة والسوية لا التحقيق المؤدي إلى الحرج والعسر. فزعمت المعتزلة هاهنا أن هذا القدر من التضييق حيث لم يجوزه الله تعالى فكيف يكلف الكافر الإيمان مع أنه لا قدرة له عليه أو يخلق القدرة الموجبة للكفر والداعية المقتضية له ثم ينهاه عنه وعورض بالعلم والداعي كما تقدّم مرارا وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ المقول له أو عليه ذا قُرْبى حمله المفسرون على أداء الشهادة وعلى الأمر والنهي والأولى أن يحمل على الأقوال كلها ويدخل فيه قول الرجل في الدعاء إلى الدين. وتقرير الدلائل عليه بأن يذكر الدليل مخلصا عن الحشو ومبرأ عن النقص ومجردا عن العصبية والجدال على مقتضى الهوى والتشهي، وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذا الحكاية والرواية والرسالة. وحكم الحاكم بحيث يستوي فيه بين القريب والبعيد ولا ينظر إلا إلى رضا الله، وختم الأوامر بقوله: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا كما قال: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] ويندرج في هذه الخاتمة بالحقيقة جميع الأنواع المذكورة وَأَنَّ هذا صِراطِي من قرأ بالفتح والتخفيف فبإعماله في ضمير الشأن والتقدير: تعالوا أتل ما حرم وأتل أنه هذا صراطي، وكذا فيمن قرأ بالتشديد وبالفتح إلا أن ضمير الشأن لا يقدر. وإن شئت جعلتها خفضا متعلقا بما قبله أي ذلكم وصاكم به وبأن هذا، أو بما بعده والتقدير وبأن هذا صراطي مستقيما فَاتَّبِعُوهُ ومن كسر فلأن التلاوة في معنى القول أو على الاستئناف والمعنى اتبعوا صراطي أنه مستقيم وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلالات فَتَفَرَّقَ بِكُمْ الباء للتعدية أي فيفرقكم ذلك الأتباع عَنْ سَبِيلِهِ المستقيم وهو دين الإسلام. وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله أنه خط خطا ثم قال: هذا سبيل الرشد. ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطا ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا هذه الآية. فهذه الآية بالحقيقة إجمال لما في الآيتين المتقدمتين ولهذا ختمها بالتقوى التي هي ملاك العمل وخير الزاد وختم الأولى بقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لأنها أمور ظاهرة جلية يكفي في تعقلها أدنى مسكة وعقل، وختم الثانية بقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لأن المذكور فيها أمور خفية تحتاج إلى التدبر والتذكر حتى يقف فيها على موضع الاعتدال. أو نقول: الأمور الخمسة المذكورة في الآية الأولى كلها عظام جسام وكانت الوصية بها من أبلغ الوصايا فختم الآية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 بما في الإنسان من أشرف السجايا وهو العقل الذي امتاز به الإنسان عن سائر الحيوان، وأما المذكورة في الثانية فأشياء يقبح تعاطيها وارتكابها وكانت الوصية بها تجري مجرى الزجر والوعظ فختمها بقوله: تَذَكَّرُونَ أي تتعظون بمواعظ الله تعالى. قوله: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ معطوف على وَصَّاكُمْ فسئل كيف صح عطفه عليه بثم والإيتاء قبل الوصية بدهر طويل؟ وأجيب بأن التكاليف التسعة المذكورة تكاليف لا تختلف بحسب اختلاف الشرائع كما روي عن ابن عباس أن هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب، وقيل: إنهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار، وعن كعب الأحبار: والذي نفس كعب بيده إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة. وأما الشرائع التي كانت التوراة مختصة بها فهي إنما حدثت بعد تلك التكاليف التسعة فكأنه قيل: ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديما وحديثا، ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى الكتاب وأنزلنا هذا الكتاب المبارك. وقيل: إن في الآية حذفا تقديره: ثم قل يا محمد صلى الله عليه وآله إنا آتينا. والمعنى اتل ما أوحي إليك ثم اتل عليهم خبر ما آتينا موسى. وقيل: هو معطوف على ما تقدم قبل شطر السورة من قوله: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [الأنعام: 84] وقوله: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ مفعول له أي لتتم نعمتنا على الذي أحسن أي على من كان محسنا صالحا، أو المراد إتماما للنعمة والكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وكل ما أمر به، أو تماما على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته أي زيادة على علمه. وقرىء أَحْسَنَ بالرفع أي على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فيدخل في ذلك بيان نبوة رسولنا صلى الله عليه وآله وصحة دينه وشرعه وَهُدىً دلالة وَرَحْمَةً لكي يؤمنوا بلقاء ما وعدهم ربهم به من ثواب وعقاب وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ لا شك أنه القرآن مُبارَكٌ كثير الخير والنفع أو ثابت لا يتطرق إليه النسخ كما في الكتابين فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لكي ترحموا لأن الغرض من التقوى رحمة الله تعالى، أو اتقوا لترحموا جزاء على التقوى، أو اتقوا مخالفته على رجاء الرحمة. قال الفراء قوله: أَنْ تَقُولُوا مفعول وَاتَّقُوا وقال الكسائي: التقدير: إنا أنزلناه لئلا تقولوا. وقال البصريون: إنا أنزلناه كراهة أن تقولوا والخطاب لأهل مكة إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ أي التوراة والإنجيل عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا اليهود والنصارى وَإِنْ كُنَّا هي المخففة من الثقيلة واللام في لَغافِلِينَ هي الفارقة بينها وبين النافية والأصل وإنه كنا ومعنى الدراسة القراءة. وإنما قالوا: لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ لحدة أذهانهم وكثرة حفظهم لأيام العرب ووقائعها وخطبها وأشعارها وأمثالها مع كونهم أميين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 قطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم. ثم قال: فَقَدْ جاءَكُمْ أي إن صدقتم أن عدم إنزال الكتاب يصلح للعذر وأنه لو أنزل عليكم الكتاب لكنتم أهدى منهم فقد جاءكم بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فيما يعلم سمعا وَهُدىً فيما يعلم سمعا وعقلا وَرَحْمَةٌ من الله في إصلاح المعاش والمعاد فَمَنْ أَظْلَمُ بعد هذه المعجزات والبينات مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها أي منع غيره منها لأن الأول ضلال والثاني إضلال، ثم ختم الآية بأشد الوعيد وأبلغ التهديد ثم ذكر أنهم بعد نصب الأدلة وإزاحة العذر لا يؤمنون البتة، وشرح أحوالا توجب المبادرة إلى الإيمان والتوبة فقال: هَلْ يَنْظُرُونَ أي ينتظرون ومعنى الاستفهام النفي وتقدير الآية إنهم لا يؤمنون بك إلا عند مجيء أحد هذه الأمور: مجيء الملائكة، أو مجيء الرب ويعني به عذابه وبأسه كما سلف في البقرة، أو مجيء المعجزات القاهرة. قال في الكشاف: الملائكة ملائكة الموت أو ملائكة العذاب ومجيء الرب مجيء كل آية، ثم قال: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وأجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علامات القيامة. عن البراء بن عازب قال: كنا نتذاكر أمر الساعة إذ أشرف النبي صلى الله عليه وآله فقال: «أتتذاكرون الساعة؟ إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان ودابة الأرض وخسفا بالمشرق وخسفا بالمغرب وخسفا بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى ونارا تخرج من عدن» «1» والمراد أنه إذا بدت أشراط الساعة ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، ولا نفسا ما كسبت في إيمانها خيرا. ثم أوعدهم بقوله قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله: إن الذين فارقوا دينهم أو فرقوا ومعنى القراءتين في الحقيقة واحد لأن الذي فرق دينه بمعنى أنه أقر ببعض وكفر ببعض فقد فارقه أي تركه. قال ابن عباس: يريد أن المشركين بعضهم يعبدون الملائكة ويقولون إنهم بنات الله، وبعضهم يعبدون الأصنام ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فصاروا شيعا أي فرقا وإخوانا في الضلالة. والشيعة كل فرقة تشيع إماما لها. وقال مجاهد وقتادة: هم اليهود والنصارى تفرقوا فرقا وكفر بعضهم بعضا وأخذوا بعضا وتركوا بعضا كقوله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: 85] وعن مجاهد أيضا أنهم من هذه الأمة وهم أهل البدع والشبهات وفي الحديث «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة- كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية- وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة- كلها في الهاوية إلا واحدة. وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين كلها في الهاوية   (1) رواه أبو داود في كتاب الملاحم باب 12. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 28. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 إلا واحدة» «1» لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي إنك بعيد من أقوالهم ومذاهبهم والعقاب اللازم على تلك الأباطيل مقصور عليهم لا يتعداهم إليك. وقال السدي: معناه لم تؤمر بقتالهم فلما أمر بقتالهم نسخ. ويحتمل أن يقال: إن النهي عن القتال في وقت لا ينافي الأمر في وقت آخر فلا نسخ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ بالاستئصال والإهلاك ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ وفيه من الوعيد ما فيه. وفي الآية حث على أن كلمة المسلمين يجب أن تكون واحدة ليستأهلوا الثواب الجزيل كما قال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ هي لا إله إلا الله والسيئة الشرك. والأولى حملها على العموم فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها أقام صفة الجنس المميز مقام الموصوف تقديره: عشر حسنات أمثالها كقراءة من قرأ عَشْرُ أَمْثالِها بالرفع والتنوين، قيل: هذا أقل الموعود وقد وعد سبعمائة وبغير حساب. وقيل: ليس المراد التحديد بل أراد الأضعاف مطلقا كقول القائل: لئن أسديت إليّ معروفا لأكافئنك بعشرة أمثاله. وفي الوعيد لئن كلمتني واحدة لأكلمنك عشرا. روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وآله قال عن الله تعالى: «الحسنة عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو أغفر فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره» وقال صلى الله عليه وآله يقول الله تعالى: «إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة وإن لم يعملها فإن عملها فعشر أمثالها وإن هم بسيئة فلا تكتبوها فإن عملها فسيئة» «2» وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا ينقص من ثواب طاعاتهم ولا يزاد على عقاب سيآتهم. أسئلة: ما الحكمة في الأضعاف؟ جوابه كان للأمم أعمار طويلة وطاعات كثيرة فوضع الله لهذه الأمة ليلة القدر حيرا من ألف شهر وأضعاف الأعمال مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة: 261] إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] وأيضا لو أن الخصماء يتعلقون بهم يوم القيامة فيذهبون بأعمالهم إلى أن تبقى الأضعاف فيقول الله أضعافهم ليست من فعلهم هي من رحمتي فلا أقتص منهم أبدا. آخر: كيف يوجب الكفر عقاب الأبد؟ جوابه أن الكافر كان على عزم الكفر لو عاش أبدا فاستحق العقاب الأبدي بناء على ذلك الاعتقاد بخلاف المسلم المذنب فإنه يكون على عزم الإقلاع فلا جرم تكون عقوبته منقطعة، وأيضا الذي جهله الكافر وهو ذات القديم سبحانه وصفاته شيء لا نهاية له فيكون جهله لا يتناهى فكذا عقابه.   (1) رواه أبو داود في كتاب السنّة باب 1. الترمذي في كتاب الإيمان باب 18. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 17. أحمد في مسنده (2/ 332) (3/ 120، 145) . (2) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 203، 204. الترمذي في كتاب تفسير سورة 6 باب 10. أحمد في مسنده (1/ 227، 242) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 آخر: إعتاق الرقبة الواحدة تارة جعل بدلا عن صيام ستين يوما وهو في كفارة الظهار وتارة بدلا عن صيام أيام قلائل. آخر: أحدث في رأس إنسان موضحتين فوجب أرشان فإن عاد ورفع الحاجر بينهما صار الواجب أرش موضحة واحدة فههنا ازدادت الجناية وقل العقاب. آخر: قد يجتمع بسبب أطراف تبان ولطائف تزال ديات متعددة إذا حصل الاندمال، وقد ترتقي إلى نيف وعشرين. الأذنان أو إبطال حسهما، العينان أو البصر، الأجفان، المارن، الشفتان، اللسان أو النطق، الأسنان، اللحيان، اليدان، الذكر والأنثيان، الحلمتان، الشفران، الإليتان، الرجلان، العقل، السمع، الشم، الصوت، الذوق، الإمناء أو الإحبال، إبطال لذة الجماع، إبطال لذة الطعام، الإفضاء، البطش، المشي. وقد تضاف إليها موجبات الجوائف والمواضح وسائر الشجات. فإن عاد الجاني قبل الاندمال وحز الرقبة أوقده بنصفين لم يجب إلّا دية النفس، وكل ذلك يدل على أن رعاية المماثلة غير معتبرة في الشرع. والجواب عن الأسئلة الثلاثة أن هذه الأمور من تعبدات الشرع المطهر وتحكماته فلا سبيل بعقولنا إليها. ويمكن أن يجاب عن الثالث بأن بدل الأطراف لما لم يستقر بالاندمال دخل في دية النفس لعسر ضبط ذلك والجزاء الحقيقي موكول إلى يوم الجزاء والله أعلم. قال أهل السنة: كل الثواب تفضل من الله تعالى فلا إشكال. وقالت المعتزلة: إن بين الثواب والتفضل فرقا لأن الثواب هو المنفعة المستحقة والتفضل هو المنفعة التي لا تكون مستحقة. ثم اختلفوا فقال الجبائي: العشرة تفضل والثواب غيرها إذ لو كان الواحد ثوابا والتسعة تفضلا لزم أن يكون الثواب دون التفضل فلا يكون للتكليف فائدة. وقال آخرون: لا يبعد أن يكون الواحد ثوابا إلا أنه يكون أعلى شأنا من التسعة الباقية. ثم لما علم رسوله صلى الله عليه وآله أنواع الدلائل والرد على أصناف المشركين وبالغ في تقرير إثبات القضاء والقدر وردّ على أهل الجاهلية أباطيلهم أمره بأن يقول: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي ليعلم أن الهداية لا تحصل إلا بالله عز وجل. وقيما «فيعل» من قام كسيد من ساد. ومن قرأ قيما فعلى أنه مصدر بمعنى القيام كالصغر والكبر وصف به للمبالغة ومِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان وحَنِيفاً حال من إبراهيم أو من الملة، والمعنى هداني وعرفني ملة إبراهيم حال كونه أو كونها موصوفا بالحنيفية. ثم قال في صفة إبراهيم: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ردا على من زعم عليه شيئا من ذلك. ثم كما عرفه الدين القويم والطريق المستقيم علمه كيف يصنع به ويؤديه فقال: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي أي عبادتي وتقربي إليه كما روى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال: النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة. وقيل: للمتعبد ناسك لأنه خلص نفسه من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث. وقيل: المراد بالنسك هاهنا الذبائح جمع بين الصلاة والذبح كما في قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 2] وقيل: صلاتي وحجي أخذا من مناسك الحج. وَمَحْيايَ وَمَماتِي أي حياتي وموتي مصدران ميميان. وقال في الكشاف: المراد وما آتيه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح. وفيه أنه لا يكفي في العبادات أن يؤتى بها كيف كانت بل لا بد أن يكون جميع حركات المرء وسكناته لله رب العالمين وَبِذلِكَ من الإخلاص أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته. وقال في التفسير الكبير: إنه تعالى أمر رسوله أن يبين أن صلاته وسائر عباداته وحياته ومماته كلها واقعة بخلق الله تعالى وتقديره وقضائه، وحكمه وذلك أن المحيا والممات بخلق الله فكذا الصلاة والنسك وبذلك من التوحيد أمرت، ثم لما أمر نبيه بالتوحيد المحض أمره أن يذكر ما يجري مجرى الدليل عليه فقال: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وتقريره أن طوائف المشركين من عبدة الأصنام والكواكب ومن اليهود والنصارى والثنوية كلهم معترفون بأن الله تعالى خالق الكل فكأنه سبحانه قال: قل يا محمد منكرا أغير الله أطلب ربا مع أن هؤلاء الذين اتخذوا من دونه آلهة مقرون بأنه خالق تلك الأشياء ولا يدخل في العقل جعل المربوب والعبد شريكا للرب والمولى. وبوجه آخر الموجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته، وقد ثبت أن الواجب لذاته واحد وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته فهو إذن رب كل شيء، وصريح العقل شاهد بأن المربوب لا يكون شريكا للرب فلا يختص إذن بالربوبية غيره. ثم لما بين الدليل القاطع على التوحيد ذكر أنه لا يرجع إليه من كفرهم وشركهم ذم ولا عقاب فقال وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ومعناه أن إثم الجاني عليه لا على غيره وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم نفس أخرى وهذا كالرد لقولهم: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] ثم بين أن رجوع هؤلاء المشركين إلى موضع لا حاكم هناك إلا الله تعالى فقال: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ثم ختم السورة ببيان حال المبدإ والوسط والمعاد على سبيل الإجمال فقال وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ قيل: الخطاب لبني آدم لأنه جعلهم بحيث يخلف بعضهم بعضا. وقيل: لأمة محمد صلى الله عليه وآله لأنه خاتم النبيين فخلفت أمته سائر الأمم، وقيل: لخواص الأمة الذين هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها بالحق كقوله: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ [ص: 26] وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ في الشرف والعقل والجاه والمال والرزق لا للعجز والبخل ولكن لأجل شبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 الابتلاء والامتحان، ولظهور الموفر من المقصر وتميز المطيع من العاصي حسب ما تقتضيه الحكمة والعدالة والتدبير والتقدير. ثم وصف نفسه بالقدرة الكاملة على إيصال العقاب وإيفاء الثواب فقال إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فأدخل اللام في قرينة الترغيب وأسقطها عن قرينة الترهيب ترجيحا لجانب الرحمة والغفران فإن اللطف والرحمة تفيض عنه بالذات والقهر والتعذيب يصدر عنه بالعرض لأن ذلك من ضروريات الملك ولهذا قال «سبقت رحمتي غضبي» وإنما وصف العقاب بالسرعة لأن كل ما هو آت قريب. وإنما لم يسقط اللام عن قرينة العقاب في سورة الأعراف في قصة أصحاب السبت لأن ذلك قد ورد عقيب ذكر المسخ فناسب التأكيد باللام، وإنما أخر قرينة الرحمة في الموضعين ليقع ختم الكلام على المغفرة والرحمة فيكون أدل على كمال رأفته ووفور إحسانه. التأويل: مِنْ إِمْلاقٍ فيه ترك التوكل على الله وعدم الثقة بالله وَأَوْفُوا الْكَيْلَ أوفوا بكيل العمر وميزان الشرع حقوق الربوبية واستوفوا بكيل الاجتهاد وميزان الاقتصاد حظوظ العبودية من الألوهية. وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا بأن لا تعبدوا ولا تحبوا ولا تروا إلا إياه وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً إشارة إلى أن الصراط المستقيم الحقيقي إلى الله تعالى هو صراط محمد صلى الله عليه وسلم تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أي على من أحسن من أمتك إسلامه. وفيه أن الكتب المنزلة كلها وشرائع الأنبياء كانت تتمة للدين الحنيفي الذي هو الإسلام، ولهذا أمر بأن يقتدى بالأنبياء ليجمع بين هداه وهداهم. ويحتمل أن يراد بالذي أحسن النبي صلى الله عليه وآله والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ وبركته أنه أنزل على قلبه فكان خلقه القرآن فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ ما يبين لكم طريق السير إلى الله ومهدي ما يهديكم إلى الله أتم وأكمل مما جاء في الكتابين وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ عيانا وتسوقيهم إلى الله قهرا والجاء أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ إليهم إذ لم يأتوا إليه في متابعتك قُلِ انْتَظِرُوا للمستحيلات إِنَّا مُنْتَظِرُونَ للميعاد في المعاد إن الذين فارقوا الدين الحقيقي الذي فيه كمالية الإنسان وَكانُوا شِيَعاً فرقا مختلفة من المبتدعة والزنادقة والمتزيدة رياء وسمعة وعلماء السوء وملحدة المتفلسفة لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ لأنك على الحق وهم على الباطل وبينهما تضاد إنما أمرهم إلى الله في بدء الخلقة وقسم الاستعداد كما شاء ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ يوم الجزاء بما يستحقه كل منهم مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها قبل ذلك حتى يقدر على الإتيان بتلك الحسنة وهي حسنة الإيجاد من العدم، وحسنة الاستعداد حيث خلقه في أحسن تقويم، وحسنة التربية وحسنة الرزق وحسنة بعثة الرسل وحسنة إنزال الكتب، وحسنة تبيين الحسنات من السيئات، وحسنة التوفيق للحسنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 وحسنة الإخلاص في الإحسان، وحسنة قبول الحسنات وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها لأن السيئة بذر يزرع في أرض النفس والنفس خبيثة لأنها أمارة بالسوء، والحسنة بذر يزرع في أرض القلب والقلب طيب وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: 58] والتحقيق أنه كما للأعداد ثلاث مراتب الآحاد والعشرات والمئات وبعد ذلك تكون الألوف إلى حيث لا يتناهى، فكذلك للإنسان أربع مراتب: النفس والقلب والروح والسر. فالعمل الواحد في مرتبة النفس أي إذا صدر عنها يكون واحدا، وفي مرتبة القلب يكون بعشر أمثالها، وفي مرتبة الروح يكون بمائة، وفي مرتبة السر يكون بألف إلى أضعاف كثيرة بقدر صفاء السر وخلوص النية إلى ما لا يتناهى، وهذا سر ما جاء في القرآن والحديث من تفاوت جزاء الحسنات والله تعالى أعلم ورسوله. قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي من أسفل سافلين القالب بجذبة العناية الأزلية وَنُسُكِي أي سيري على منهاج «الصلاة معراج المؤمن» وَمَحْيايَ أي حياة قلبي وروحي وَمَماتِي أي موت نفسي لطلب رَبِّ الْعالَمِينَ والوصول إليه وَأَنَا أَوَّلُ المستسلمين عند الإيجاد لأمر «كن» كما قال: «أول ما خلق الله نوري» . قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ كيف أطلب غير الله وهو حبيبي والمحب لا يطلب إلا الحبيب وإذا هو رب كل شيء فيكون ما له لي، وإن طلبت غيره دونه يكون ذلك الغير علي لا لي كما قال وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها لأن النفس أمارة بالسوء والسوء عليها لا لها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فإن كان القلب سليما من كدورات صفات النفس باقيا على ما جبل عليه من حب الله تعالى وطلبه لا يؤاخذ بمعاملة النفس ولا يتألم بعذابها وإنما تكون النفس فقط مأخوذة بوزرها معاقبة بما هي أهله، وإن كان القلب منقلب الحال وأزاغه الله تعالى بإصبع القهر إلى محاذاة النفس فتصدأ مرآة القلب بصفات النفس وأخلاقها فيتبع النفس وهواها فيزول عنه الصفاء والطهارة والسلامة والذكر والفكر والتوحيد والإيمان والتوكل والصدق والإخلاص ورعاية وظائف العبودية فيكون مأخوذا بوزره لا بوزر غيره وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ كل واحد من بني آدم وقته خليفة ربه في الأرض. وسر الخلافة أن صوره على صفات نفسه حيا قيوما سميعا بصيرا عالما قادرا مريدا متكلما وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ في استعداد الخلافة لِيَبْلُوَكُمْ ليظهر من المتخلق بأخلاقه منكم القائم به وبأوامره في العباد والبلاد، ومن الذي رجع القهقرى إلى صفات البهائم وأبطل الاستعداد للخلافة بالختم والطبع والحبس في سجين الطبيعة لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن وفقه لمرضاته ورفع درجاته الله حسبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 (سورة الأعراف) (مكية إلا خمس آيات) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ إلى قوله: وَقَطَّعْناهُمُ حروفها 14210 كلماتها 3325، آياتها مائتان وست. تفسير سورة الأعراف [سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) القراآت: يتذكرون بياء الغيبة ثم تاء التفعل: ابن عامر. والباقون كما مر في آخر الأنعام. الوقوف: المص هـ كوفي لِلْمُؤْمِنِينَ هـ أَوْلِياءَ ط تَذَكَّرُونَ هـ قائِلُونَ هـ ظالِمِينَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ لا للعطف غائِبِينَ هـ الْحَقُّ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب الْمُفْلِحُونَ هـ يَظْلِمُونَ هـ مَعايِشَ ط تَشْكُرُونَ هـ. التفسير: قد تقدم في أول الكتاب مباحث هذه المقطعة على سبيل العموم. وعن ابن عباس معنى المص أنا الله أعلم وأفصل. وقال السدي: معناه أنا المصوّر. وقيل: معناه ألم نشرح لك صدرك بدليل فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ كما زاد في الرعد راء لقوله بعده رَفَعَ السَّماواتِ [الآية: 2] ثم إن جعلنا هذه الحروف بدل جملة فلا محل لها من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 الإعراب، وإن كانت اسما للسورة جاز أن يكون المص مبتدأ وكِتابٌ يعني به السورة خبره والجملة بعده صفة له، وجاز أن يكون المص خبر مبتدأ محذوف وكذا كِتابٌ أي هذه المص هو كتاب أنزل إليك. والدليل على أنه منزل من الله تعالى هو أنه ما تلمذ لأستاذ ولا تعلم من معلم ولا طالع كتابا ولم يخالط أهل الأخبار والأشعار وقد مضى على ذلك أربعون سنة ثم ظهر عليه هذا الكتاب المشتمل على علوم الأولين والآخرين فلن تبقى شبهة في أنه مستفاد بطريق الوحي. القائلون بخلق القرآن زعموا أن الإنزال يقتضي الانتقال من حال إلى حال وهذا من سمات المحدثات. وأجيب بأن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز هو الحروف والألفاظ ولا نزاع في كونها محدثة مخلوقة. فإن قيل: الحروف أعراض غير باقية بدليل أنه لا يمكن الإتيان بها إلا على سبيل التوالي وعدم الاستقرار فكيف يعقل وصفها بالنزول؟ أجيب بأنه تعالى أحدث هذه الرقوم في اللوح المحفوظ ثم إن الملك طالع تلك النقوش وحفظها ونزل فعلمها محمدا صلى الله عليه وآله. ثم قال: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ أي شك. وسمي الشك حرجا لأن الشاك ضيق الصدر حرج كما أن المتيقن منفسح الصدر منشرح، ومعنى مِنْهُ أي من شأن الكتاب أي لا تشك في أنه منزل من عند الله أو من تبليغه أي لا يضق صدرك من الأداء وتوجه النهي إلى الحرج كقولهم لا أرينك هاهنا والمراد نهيه عن الكون بحضرته فإن ذلك سبب رؤيته ومثله قوله تعالى وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة: 123] ظاهره أمر للمشركين وإنه في الحقيقة أمر للمؤمنين بأن يغلظوا على المشركين. وفي متعلق قوله لِتُنْذِرَ أقوال. قال الفراء: إنه متعلق ب أُنْزِلَ وفي الكلام تقديم وتأخير أي أنزل إليك لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج. وفائدة التقديم والتأخير أن الإقدام على الإنذار والتبليغ لا يتم ولا يكمل إلا عند زوال الحرج عن الصدر. وقال ابن الأنباري: إنه متعلق بالنهي واللام بمعنى كي والتقدير: فلا يكن في صدرك شك كي تقدر على إنذار غيرك لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم وكذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار لأن صاحب اليقين جسور لتوكله على ربه وثقته بعصمته. وقال صاحب النظم: اللام بمعنى «أن» كقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا [التوبة: 32] وفي موضع آخر لِيُطْفِؤُا [الصف: 8] والتقدير لا يضق صدرك ولا تضعف عن أن تنذر به. وقيل: إن تقدير الكلام هذا الكتاب أنزله الله عليك وإذا علمت أنه تنزيل الله تعالى فاعلم أن عناية الله معك وإذا علمت هذا فلا يكن في صدرك حرج لأن من كان الله له حافظا وناصرا لم يخف أحدا، وإذا زال الخوف والضيق عن القلب فاشتغل بالإبلاغ والإنذار اشتغال الرجال الأبطال ولا تبال بأحد من أهل الضلال والإبطال. ثم قال: وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 يريد مواعظ للمصدقين. وقال الزجاج: هو اسم في موضع المصدر. قال الليث: الذكرى اسم للتذكرة. وقال صاحب الكشاف: محل ذكرى يحتمل النصب بإضمار فعلها كأنه قيل لتنذر به وتذكر تذكيرا، والرفع عطفا على كتاب، أو بأنه خبر مبتدأ محذوف والجر للعطف على محل أن تنذر أي للإنذار وللذكرى. وإنما لم نقل على محل لتنذر لأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل الفعل المعلل واحدا ولو صح ذلك لكان محله النصب لا الجر. وخص الذكرى بالمؤمنين كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] والتحقيق فيه أن النفوس البشرية منها بليدة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في بحر اللذات الجسمانية فتحتاج إلى زاجر قويّ، ومنها مشرقة بالأنوار الإلهية مستعدة للإنجذاب إلى عالم القدس إلا أنها غشيتها غواش من عالم الجسم فعرض لها نوع ذهول وغفلة، فالصنف الأول يحتاج إلى إنذار وتخويف وأما الصنف الثاني فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصل بها أنوار أرواح رسل الله تعالى تذكرت معدنها وأبصرت مركزها واشتاقت إلى ما هنالك من الروح والراحة والريحان فلم تحتج إلا إلى تذكرة وتنبيه، فثبت أنه سبحانه أنزل هذا الكتاب على رسوله ليكون إنذارا في حق طائفة وذكرى في شأن طائفة. ثم كما أمر الرسول بالتبليغ والإنذار مع قلب قوي وعزم صحيح أمر المرسل إليهم وهم الأمة بالمتابعة فقال: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ومعنى كونه منزلا إليهم أنهم مخاطبون بذلك مكلفون به وإلا فهو بالحقيقة منزل على الرسول، قالت العلماء: المنزل متناول للقرآن والسنة جميعا. عن الحسن: يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة رسوله. وفي الآية دلالة على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس غير جائز لأن متابعة المنزل واجبة فلو عمل بالقياس لزم التناقض. فإن قيل: العمل بالقياس لكونه مستفادا من القرآن وهو قوله: فَاعْتَبِرُوا [الحشر: 2] عمل بالقرآن أيضا. قلنا: بعد التسليم إن الترجيح معنا لأن العمل بالمنزل ابتداء أولى من العمل بالمنزل بواسطة، ثم أكد الأمر المذكور بقوله: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أي لا تتخذوا من دون الله أَوْلِياءَ من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع. ويجوز أن يكون الضمير في مِنْ دُونِهِ لما أنزل أي لا تتبعوا من دون دين الله أولياء. احتج نفاة القياس بأن الآية دلت على أنه لا يجوز متابعة غير ما أنزل الله تعالى والعمل بالقياس متابعة غير ما أنزل فلا يجوز. لا يقال العمل بالقياس عمل بالمنزل لقوله: فَاعْتَبِرُوا [الحشر: 2] لأنا نقول: لو كان الأمر كذلك لكان تارك العمل بمقتضى القياس كافرا لقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: 44] وقد أجمعت الأمة على عدم تكفيره. أجاب مثبتو القياس بأن كون القياس حجة ثبت بإجماع الصحابة والإجماع دليل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 قاطع وظاهر العموم دليل مظنون فلا يعارض القاطع. وزيف بأنكم أثبتم أن الإجماع حجة بعموم قوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 115] تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 110] وبعموم قوله صلى الله عليه وآله «لا تجتمع أمتي على الضلالة» «1» والفرع لا يكون أقوى من الأصل. أجاب المثبتون بأن الآيات والأحاديث والإجماع لما تعاضدت في إثبات القياس قوي الظن وحصل الترجيح. ومن الحشوية من أنكر النظر في البراهين العقلية تمسكا بالآية. وأجيب بأن العلم بكون القرآن لحجة موقوف على صحة التمسك بالدلائل العقلية فكيف تنكر. ثم ختم المخاطبة بنوع معاتبة فقال: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تذكرون تذكرا قليلا. و «ما» مزيدة لتوكيد القلة. ثم ذكر ما في ترك المتابعة من الوعيد فقال: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ فموضع «كم» رفع بالابتداء و «من» مزيدة للتأكيد والبيان أي كثير من القرى أَهْلَكْناها مثل زيد ضربته وتقدم النصب أيضا عربي جيد وفي الآية حذف لا لقرينة الإهلاك فقط فإن القرية تهلك بالهدم والخسف كما يهلك أهلها ولكنه يقال التقدير: وكم من أهل قرية لقوله فَجاءَها بَأْسُنا والبأس بالأهل أنسب ولقوله: أَوْ هُمْ قائِلُونَ ولأن الزجر والتحذير لا يقع للمكلفين إلا بهلاكهم ولأن معنى البيات والقيلولة لا يصح إلا فيهم. وإنما قال: فَجاءَها ردا بالكلام على اللفظ أو كما يقال الرجال فعلت. وهنا سؤال وهو أن قوله: فَجاءَها بَأْسُنا يقتضي أن يكون الهلاك مقدما على مجيء البأس ولكن الأمر بالعكس. والعلماء أجابوا بوجوه منها: أن المراد حكمنا بهلاكها أو أردنا إهلاكها فجاءها كقوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة: 6] ومنها أن معنى الإهلاك ومعنى مجيء البأس واحد فكأنه قيل: وكم من قرية أهلكناها فجاءهم إهلاكنا وهذا كلام صحيح. فإن قيل: كيف يصح والعطف يوجب المغايرة؟ فالجواب أن الفاء قد تجيء للتفسير كقوله صلى الله عليه وآله «لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه» فإن غسل الوجه واليدين كالتفسير لوضع الطهور مواضعه فكذا هاهنا مجيء البأس جار مجرى التفسير للإهلاك لأن الإهلاك قد يكون بالموت المعتاد وقد يكون بتسليط البأس والبلاء عليهم وقريب منه قول الفراء: لا يبعد أن يقال البأس والهلاك يقعان معا كما يقال: أعطيتني فأحسنت. وما كان الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله وإنما وقعا معا. ومنها أن ذلك محمول على حذف المعطوف والتقدير: أهلكناهم فحكم بمجيء البأس لأن الإهلاك أمارة للحكم بوصول مجيء البأس. ومنها أنه من باب القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس كقولهم: عرضت الناقة على الحوض. وقوله بَياتاً   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب 8 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 قال الجوهري: بيت العدوّ أي أوقع بهم ليلا والاسم البيات. وفي الكشاف أنه مصدر بات الرجل بياتا حسنا. وعلى القولين فإنه وقع موقع الحال بمعنى بائتين أو مبيتين. ثم قال: أَوْ هُمْ قائِلُونَ والجملة حال معطوفة على بَياتاً كأنه قيل: فجاءها بأسنا مبيتين أو بائتين أو قائلين. وإنما حسن ترك الواو هاهنا من الجملة الاسمية الواقعة حالا لأن واو الحال قريب من واو العطف لأنها استعيرت منها للوصل فالجمع بين حرف العطف وبينه جمع بين المثلين وذلك مستثقل. فقولك: جائني زيد راجلا أو هو فارس. كلام فصيح، ولو قلت: جاءني زيد هو فارس كان ضعيفا. وقال بعض النحويين: الواو محذوفة مقدرة ورده الزجاج لما قلنا. أما معنى القيلولة فالمشهور أنها نومة الظهيرة. وقال الأزهري: هي الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن نوم لقوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان: 24] والجنة لا نوم فيها وإنما خص وقتا البيات والقيلولة لأنهما وقتا الغفلة والدعة فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع. وكأنه قيل للكفار لا تغتروا بالفراغ والرفاه والأمن والسكون فإن عذاب الله إنما يجيء دفعة من غير سبق أمارة. أيا راقد الليل مسرورا بأوّله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا فقوم لوط أهلكوا وقت السحر، وقوم شعيب وقت القيلولة. ثم قرر حالهم عند مجيء البأس فقال: فَما كانَ دَعْواهُمْ أي ما كانوا يدعونه من قبل دينهم وينتحلونه من مذهبهم إلا اعترافهم ببطلانه وفساده والإقرار بالإساءة والظلم على أنفسهم. وقال ابن عباس: فما كان تضرعهم واستغاثتهم إلا قولهم هذا وذلك إقرار منهم على أنفسهم بالشرك. وقال أهل اللغة: الدعوى اسم يقوم مقام الدعاء. حكى سيبويه اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين ودعوى المسلمين أي فما كان دعاؤهم ربهم إلا اعترافهم بعلمهم أن الدعاء لا ينفعهم فلا يزيدون على ذم أنفسهم وتحسرهم على ما فرط منهم وفرطوا فيه. ومحل دَعْواهُمْ وعلى عكسه محل أَنْ قالُوا يجوز أن يكون نصبا أو رفعا كما سبق في إعراب قوله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الأنعام: 23] ثم ذكر على ترك القبول والمتابعة وعيدا آجلا فقال: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ نسأل المرسل إليهم عما أجابوا به رسلهم كقوله: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ عما أجيبوا به كما قال: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] ثم قال: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أي على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم بِعِلْمٍ عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم وَما كُنَّا غائِبِينَ عنهم وعما وجد منهم. فإن قيل: ما الفائدة في سؤال المرسل إليهم بعد ما أخبر عنهم أنهم اعترفوا بذنوبهم؟ فالجواب أنهم لما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين سئلوا بعد ذلك عن سبب الظلم أو التقصير تقريعا وتوبيخا. فإن قيل: ما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير البتة؟ قلنا: ليلتحق كل التقصير بالأمة فيتضاعف إكرام الله تعالى في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع مواجب التقصير، ويتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار. فإن قلت: كيف الجمع بين قوله: فَلَنَسْئَلَنَّ وبين قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 39] فالجواب بعد تسليم اتحاد الزمان والمكان أن القوم لعلهم لا يسألون عن الأعمال لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إليها وعن الصوارف التي صرفتهم عنها. أو المراد نفي سؤال الاستفادة والاسترشاد وإثبات سؤال التوبيخ والإهانة فلا تناقض. وفي الآية إبطال قول من زعم أنه لا حساب على الأنبياء ولا على الكفار، وفيها أنه سبحانه عالم بالكليات وبالجزئيات ولا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السموات، فالإلهية لا تكمل إلا بذلك. وفيها أنه غير مختص بشيء من الأحياز والجهات وإلا كان غائبا عن غيره. ثم بيّن أن من جملة أحوال يوم القيامة وزن الأعمال فقال: وَالْوَزْنُ وهو مبتدأ خبره يَوْمَئِذٍ وقوله الْحَقُّ صفة المبتدأ أي الوزن العدل يوم يسأل الله الأمم ورسلهم. وقيل: لا يجوز الإخبار عن شيء وقد بقيت منه بقية فيجب على هذا أن يكون الْحَقُّ خبرا ويَوْمَئِذٍ ظرفا للوزن ومعنى الحق أنه كائن لا محالة. وفي كيفية الميزان قولان: الأول ما جاء في الخبر «إنه تعالى ينصب ميزانا له لسان وكفتان يوم القيامة يوزن به أعمال العباد خيرها وشرها» . وكيف توزن فيه وجهان: أحدهما أن المؤمن تتصوّر أعماله بصور حسنة وأعمال الكافر بصور قبيحة فتوزن تلك الصور ذكره ابن عباس. وثانيهما أن الوزن يعود إلى الصحف التي تكون فيها أعمال العباد. يروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله سئل عما يوزن يوم القيامة فقال: الصحف. وعن عبد الله بن سلام أن ميزان رب العالمين ينصب بين الجن والإنس يستقبل به العرش إحدى كفتي الميزان على الجنة والأخرى على جهنم ولو وضعت السموات والأرض في أحدهما لوسعتهن، وجبريل آخذ بعموده ناظر إلى لسانه، وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى برجل يوم القيامة إلى الميزان ويؤتى له بتسعة وتسعين سجلا كل سجل مد البصر فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفة الميزان ثم يخرج له قرطاس كالأنملة فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا صلى الله عليه وآله عبده ورسوله فيوضع في الآخرة فترجح» «1»   (1) رواه الترمذي في كتاب الإيمان باب 17. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 35. أحمد في مسنده (2/ 213) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 قال القاضي: يجب أن يحمل هذا على أنه يأتي بالشهادتين بحقهما من العبادات وإلا كان إغراء على المعصية. ورد بأنه خلاف الظاهر وبأنه لا يبعد أن يكون ثواب كلمة الشهادة أوفى وأوفر من سائر الأعمال لأن معرفة الله تعالى أشرف العقائد والأعمال. وروى الواحدي في البسيط أنه إذا خف حسنات المؤمن أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجزته بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وخلقك فمن أنت؟ فيقول: أنا نبيك وهذه صلواتك التي كنت تصليها عليّ قد وافتك أحوج ما تكون إليها القول الثاني قول مجاهد والضحاك والأعمش وكثير من المتأخرين أن المراد من الميزان العدل لأن العدل في الأخذ والإعطاء لا يظهر إلا بالوزن والكيل فلا يبعد جعل الوزن مجازا عن العدل. ومما يؤكد ذلك أن أعمال العباد أعراض وأنها قد فنيت وعدمت ووزن المعدوم محال وكذا لو قدر بقاؤها. وأما قولهم الموزون صحائف الأعمال أو صور مخلوقة على حسب مقادير الأعمال فنقول: المكلف يوم القيامة إما أن يكون مقرا بأنه تعالى عادل حكيم وحينئذ يكفيه حكم الله تعالى بمقادير الثواب والعقاب في علمه بأنه عدل وصواب، وإما أن لا يكون مقرا فلا نعرف من رجحات الحسنات على السيئات وبالعكس حقية الرجحان. أجاب الأولون بأن جميع المكلفين يعترفون يوم القيامة أنه تعالى منزه عن الظلم والجور لكن الفائدة في وضع الميزان ظهور الرجحان لأهل الموقف وازدياد الفرح والسرور للمؤمن وبالضدّ للكافر. واختلف العلماء أيضا في كيفية الرجحان فقال بعضهم: يظهر هناك نور في رجحان الحسنات وظلمة في رجحان السيئات. وقال آخرون: بل يظهر الرجحان في الكفة. واختلف أيضا في الموازين فقيل: إنها جمع موزون وأراد الأعمال الموزونة والميزان المنصوب واحد. ولئن سلم أنها جمع الميزان فالعرب قد توقع لفظا لجمع على الواحد فتقول: خرج فلان إلى مكة على الأفراس والبغال. قاله الزجاج. وقال الأكثرون: كما لا يمتنع إثبات ميزان له لسان وكفتان فكذلك لا يمتنع إثبات موازين بهذه الصفة فما الموجب لترك الظاهر والمصير إلى التأويل قال عز من قائل: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الأنبياء: 47] وأيضا لا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزان ولأفعال الجوارح ميزان ولما يتعلق بالقول ميزان آخر. ثم إن المرجئة الذين يقولون المعصية لا تضر مع الإيمان قالوا: إن الله حصر أهل الموقف في قسمين منهم من تزيد حسناته على سيئاته ومنهم على العكس ولا ريب أن هذا القسم أهل الكفر لأنه حكم عليهم بأنهم الذين خسروا أنفسهم بسبب الظلم بآيات الله أي التكذيب بها وهذا لا يليق إلا بالكافر. ولئن سلم أن العاصي معاقب لكنه يعاقب أياما ثم يعفى عنه ويتخلص إلى رحمة الله تعالى فهو بالحقيقة ما خسر نفسه بل فاز برحمة الله أبد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 الآباد من غير زوال ولا انقطاع. قيل: في الآية دلالة على أن الذي تكون حسنات وسيئاته متعادلتين متساويتين غير موجود والله أعلم. ثم لما فرغ من التخويف بالعذاب الآجل رغب الخلائق في قبول دعوة الأنبياء بطريق آخر وهو تذكير النعم فإن ذلك يوجب الطاعة فقال: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ أقدرناكم على التصرف فيها وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ هي جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها، أو ما يتوصل به إلى ذلك وبالجملة وجوه المنافع التي تحصل بتخليق الله تعالى ابتداء كالأثمار، أو بواسطة كالاكتساب والوجه في معايش تصريح الياء لأنها أصلية لا زائدة كصحائف بالهمز في صحيفة. وعن ابن عامر أو نافع في بعض الروايات الهمز تشبيها بصحائف واستبعده النحويون البصريون. ثم عاتب المكلفين بأنهم لا يقومون بشكر نعمه كما ينبغي فقال: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ وفيه إشارة إلى أنهم قد يشكرون وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] . التأويل: المص هو إله من لطفه أفرد عباده للمحبة وللمعرفة وأنعم عليهم بالصدق والصبر لقبول كمالية المعرفة والمحبة بواسطة كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فانفسح له صدرك وانشرح فلم يبق فيه ضيق وحرج بخلاف ما أنزل من الكتب في الألواح والصحف فقد عرض لبعضهم ضيق عطن فألقى الألواح. وكما شرف نبيه بالكتاب المنزل على قلبه حتى صار خلقه القرآن شرف أمته بأن أمرهم باتباع ما أنزل إليهم ليتخلقوا بأخلاق الله. وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ قبل أفسدنا استعدادها فَجاءَها بَأْسُنا أي إزاغة قلوبهم بإصبع القهارية وأهلها نائمون على فراش الحسبان قائِلُونَ في نهار الخذلان فما كان ادّعاؤهم إلا أن قالوا من قصر نظرهم لا من طريق الأدب إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فنسبوا التصرف إلى أنفسهم ولم يعلموا أن الله تعالى مقلب أفئدتهم وأبصارهم فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وهم عامة الخلائق هل قبلتم الدعوة وعملتم بما أمرتم أم لا فيكون السؤال سؤال تعنيف وتعذيب أو هم الذين قبلوا الدعوة فيكون السؤال سؤال تشريف وتقريب وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ سؤال إنعام وإكرام هل بلغتم وهل وجدتم أمما قابلي الدعوة فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ فليعلمن أنا ما أرسلنا الرسل إليهم عبثا وإنما أرسلناهم لأمر عظيم وخطب جسيم وَما كُنَّا غائِبِينَ عن الرسل بالنصر والمعونة وعن المرسل إليهم بالتوفيق والعناية وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ لأهل الحق لا الباطل لا نقيم لهم يوم القيامة وزنا. روي أنه يوم القيامة يؤتى بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن جناح بعوضة. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والأحوال الكاملة فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ من شر أنانيتهم وإنما جمع الموازين لأن لبدن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 كل مكلف ميزانا يوزن به أعماله ولنفسه ميزانا يوزن به صفاتها ولقلبه ميزانا يوزن به أوصافه ولروحه ميزانا يوزن به نعوته ولسره ميزانا يوزن به أحواله ولخفيه ميزانا يوزن به أخلاقه. والخفي لطيفة روحانيّة قابلة لفيض الأخلاق الربانية ولهذا قال صلى الله عليه وآله: «ما وضع في الميزان شيء أقل من حسن الخلق» وذلك أنه ليس من نعوت المخلوقين وإنما هو خلق رب العالمين والعباد مأمورون بالتخلق بأخلاقه خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أفسدوا استعدادها وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ هيأنا لكم خلافة الأرض دون غيركم من الحيوانات والملك وَجَعَلْنا لَكُمْ خاصة مَعايِشَ ولكل صنف من الملك والحيوانات معيشة واحدة وذلك أن الإنسان مجموع من الملكية والحيوانية والشيطانية والإنسانية. فمعيشة الملك هي معيشة روحه، ومعيشة الحيوان هي معيشة بدنه، ومعيشة الشيطان هي معيشة نفسه الأمارة بالسوء، وقد حصل للإنسان بهذا التركيب مراتب الإنسانية وإنها لم تكن لكل واحد من الملك والحيوان والشيطان وهي القلب والسر والخفي، فمعيشة قلبه هي الشهود، ومعيشة سره هي الكشوف، ومعيشة خفيه هي الوصال والوصول. [سورة الأعراف (7) : الآيات 11 الى 25] وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) القراآت: لَأَمْلَأَنَّ بتليين الهمزة الثانية حيث كان: الأصبهاني عن ورش وحمزة في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 الوقف. تُخْرَجُونَ من الخروج: حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وابن ذكوان الباقون: مبنيا للمفعول من الإخراج والله أعلم. الوقوف: إِلَّا إِبْلِيسَ ط لأنه معرفة فلا تصلح الجملة صفة له. السَّاجِدِينَ هـ إِذْ أَمَرْتُكَ ط مِنْهُ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول. طِينٍ هـ الصَّاغِرِينَ هـ. يُبْعَثُونَ هـ الْمُنْظَرِينَ هـ الْمُسْتَقِيمَ هـ لا للعطف شَمائِلِهِمْ ط شاكِرِينَ هـ مَدْحُوراً ط لأن ما بعده ابتداء قسم محذوف. أَجْمَعِينَ هـ الظَّالِمِينَ هـ الْخالِدِينَ هـ النَّاصِحِينَ هـ بِغُرُورٍ ج لأن جواب «لما» منتظر مع الفاء وَرَقِ الْجَنَّةِ ط لأن الواو للاستئناف مُبِينٌ هـ أَنْفُسَنا سكتة للأدب إعلاما بانقطاع الحجة قبل ابتداء الحاجة. الْخاسِرِينَ هـ عَدُوٌّ ط لعطف المختلفين إِلى حِينٍ هـ تُخْرَجُونَ هـ. التفسير: من جملة نعم الله تعالى علينا أن خلق أبانا آدم فجعله مسجودا للملائكة فلذلك ذكر تلك القصة عقيب تذكير النعم، ونظير هذه الآيات ما سبق في سورة البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: 28] منع من المعصية بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ ثم علل ذلك المنع بكثرة نعمه على المكلفين وهو أنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم خلق لهم ما في الأرض جميعا من المنافع، ثم ختم ذلك بقصة جعل آدم خليفة في الأرض مسجودا للملائكة، والغرض من الكل أن التمرد والجحود لا يليق بإزاء هذه النعم الجسام. وقصة آدم وما جرى له مع إبليس ذكرها الله في سبعة مواضع: في «البقرة» وهاهنا وفي «الحجر» وفي «سبحان» وفي «الكهف» وفي «طه» وفي «ص» وسنبين بعض حكمة اختلاف العبارات بقدر الفهم إن شاء الله تعالى. وهاهنا سؤال وهو أن قوله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلقنا وتصويرنا والأمر في الواقع بالعكس. وأجاب المفسرون بوجوه منها: أن المضاف محذوف أي خلقنا أباكم آدم طينا غير مصوّر ثم صورنا أباكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا. وإنما حسن هذه الكناية لأن آدم عليه السلام أصل البشر نظير قوله لبني إسرائيل المعاصرين وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة: 63] أي ميثاق أسلافكم. وقال صلى الله عليه وسلم: ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل. وإنما قتله أحدهم. ومنها أن المراد من خلقناكم آدم ثم صورناكم أي صورنا ذرية آدم في ظهره في صورة الذر ثم قلنا للملائكة وهذا قول مجاهد. ومنها خلقناكم ثم صورناكم ثم نخبركم أنا قلنا للملائكة. ومنها أن الخلق في اللغة التقدير وتقدير الله تعالى عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته بتخصيص كل شيء بمقداره المعين له. فقوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 خَلَقْناكُمْ إشارة إلى حكم الله وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم. وقوله: صَوَّرْناكُمْ إشارة إلى أنه تعالى أثبت في اللوح المحفوظ صورهم كما أنه أثبت صور كل كائن كما جاء في الخبر «اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة» . ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له. قال الإمام فخر الدين رضي الله عنه: وهذا التأويل عندي أقرب الوجوه في تأويل هذه الآية، وأما أن إبليس هل هو من الملائكة أم لا فقد تقدم في أوائل سورة البقرة فلا وجه لإعادته. أما قوله سبحانه: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ فظاهره يقتضي أنه تعالى طلب من إبليس ما منعه من ترك السجود وليس الأمر كذلك فإن المقصود طلب ما منعه من السجود كما قال في سورة ص ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] فلهذا الإشكال حصل للمفسرين رضي الله عنهم أقوال أوّلها وهو الأشهر: أن «لا صلة» زائدة كما في لا أُقْسِمُ [القيامة: 1] وكما في قوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: 29] أي ليعلم وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج والأكثرين. قال في الكشاف: وفائدة زيادتها توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل في لِئَلَّا يَعْلَمَ ليتحقق علم أهل الكتاب، وفي ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ ما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك. قلت: لعله أراد أن زيادة «لا» إشارة إلى نفي ما عدا المذكور ليلزم منه تحقق المذكور. وثانيها أن إثبات الزيادة في كلام الله تعالى خارج عن الأدب وأن الاستفهام للإنكار أي لم يمنعك من ترك السجود شيء كقول القائل لمن ضربه ظلما: ما الذي منعك من ضربي أدينك أم عقلك أم حياؤك؟ والمعنى أنه لم يوجد أحد هذه فما امتنعت من ضربي. وثالثها قال القاضي: ذكر الله تعالى المنع وأراد الداعي فكأنه قال: ما دعاك إلى أن لا تسجد لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها. وقيل: الممنوع من الشيء مضطر إلى خلاف ما منع منه. وقيل: معناه ما الذي جعلك في منعة من عذابي؟ وقيل: معناه من قال لك لا تسجد. وأقول: يمكن أن لا يعلق قوله: أَلَّا تَسْجُدَ بقوله: ما مَنَعَكَ وإنما يكون متعلقه محذوفا التقدير: ما منعك من السجود أن لا تسجد أي لئلا تسجد توجه عليك هذا السؤال. والحاصل أن عدم سجودك ما سببه؟ إِذْ أَمَرْتُكَ أمر إيجاب. وفائدة هذا السؤال من علام الغيوب توبيخه وإفشاء معاندته وجحوده. واستدل العلماء بالآية على أن مجرد الأمر يقتضي الوجوب وإلا لم يترتب الذم عليه، وأن الأمر يقتضي الفور وإلا لم يستوجب الذم بترك السجود في الحال. ثم استأنف اللعين قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم زعما منه أن مثله مستبعد أن يؤمر بما أمر به وتلك الخيرية هي التي منعته عن السجود فقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ثم بين هذه المقدمة بقوله خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ والنار أفضل من الطين لأن النار جوهر مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السموات ملاصق لها، والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن الأجرام اللطيفة كلها، وأيضا النار قوية التأثير والفعل، والأرض ليس فيها إلا القبول والانفعال والفعل أشرف من الانفعال. وأيضا النار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة والنضج وأما الأرضية فللبرد واليبس تناسب الموت والحياة أشرف من الموت. وأيضا فما بين التمييز والشباب لما كان وقت كمال الحرارة كانت أفضل أوقات عمر الحيوان بخلاف وقت الشيخوخة لغلبة البرد واليبس المناسب للأرضية والمخلوق من الأفضل أفضل لأن شرف الأصل يوجب شرف الفرع. وأما أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون فما قد تقرر في العقول فهذه شبهة إبليس والمقدمات بأسرها ممنوعة، أما أن النار أفضل من الأرض فممنوع لأن كل عنصر من العناصر الأربعة يختص بفوائد ليست لغيره، وكل منها ضروري في الوجود وفي التركيب فلكل فضيلة في مقامه وحاله فترجيح بعضها على البعض تطويل بلا طائل. ومن تأمل ما ذكرناه في تفسير قوله سبحانه وتعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: 22] وقف على بعض منافعها وعلم أن طعن اللعين مردود جدا، ولو لم يكن في النار إلا الخفة المقتضية للطيش والاستكبار والترفع وفي الأرض إلا الرزانة الموجبة للحلم والوقار والتواضع لكفى به ردا لكلامه، وأما أن المخلوق من الأفضل أفضل فهو محل البحث والنزاع لأن الفضيلة عطية من الله تعالى ابتداء ولا يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة، فقد يخرج الكافر من المؤمن ويحصل الدخان من النار والتكليف يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل. فالاعتبار بما انتهى إليه لا بما خلق منه وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ائتوني بأعمالكم ولا تأتوني بأنسابكم» إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] وفي كلام الحكماء: العاقل من يفتخر بالهمم العالية لا بالرمم البالية. فثبت أن دعوى اللعين في قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ باطلة. ولئن سلم فلم لا يجوز خدمة الفاضل للمفضول تواضعا وإسقاطا لحق النفس؟ ولم لا يجوز الأمر بذلك لغرض الطاعة والامتثال أو لتشريف المفضول والرفع من مقداره؟ قالت العلماء هاهنا: إن قوله تعالى للملائكة: اسْجُدُوا لِآدَمَ خطاب عام يتناول جميع الملائكة: ثم إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس فاستوجب الذم والتعنيف والدخول في جملة المتكبرين على الله فدل ذلك على أنه لا يجوز تخصيص عموم النص بالقياس ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس أنه كانت الطاعة بإبليس أولى من القياس فعصى ربه وقاس. وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله تعالى مع إبليس. ويمكن أن يجاب بأنه إنما استحق الذم لأن قياسه كان مبطلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 للنص بالكلية لا مخصصا. وتقريره أنه لو قبح أمر من كان مخلوقا من النار بسجوده لمن كان مخلوقا من الأرض لكان قبح أمر من كان مخلوقا من النور المحض بسجوده لمن هو مخلوق من الأرض أولى. ويحتمل أن يزيد هذا الجواب بأن الشريف إذا رضي بتلك الخدمة فلا اعتراض عليه وحينئذ لا يقبح أمره بذلك. ثم إن الملائكة رضوا بذلك فلا بأس، وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق فقبح أمره بالسجود، فقياسه يوجب تخصيص النص لا رفعه بالكلية فعلمنا أن استحقاق الذم إنما كان لتخصيص النص بالقياس كما ادعينا. قالَ أي الله تعالى كلام تعنيف وتعذيب لا إكرام وتشريف أو قال على لسان بعض ملائكته فَاهْبِطْ يعني إذ لم تمتثل أمري فاهبط مِنْها. قال ابن عباس: يريد من الجنة وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم. وقال بعض المعتزلة: أمر بالهبوط من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة إلى الأرض التي هي مقر العاصين المتكبرين من الثقلين فَما يَكُونُ فما يصح لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها وتعصي فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ من أهل الصغار والهوان. يقال للرجل قم صاغرا إذا أهين. وفي ضده قم راشدا، قال الزجاج: إن إبليس طلب التكبر فابتلاه الله بالذلة والصغار كما قال النبي صلى الله عليه وآله: «من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله» «1» قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ طلب الإنظار من الله تعالى إلى وقت البعث وهو وقت النفخة الثانية حين يقوم الناس لرب العالمين، ومقصوده أنه لا يذوق الموت فلم يعطه الله تعالى ذلك بل قالَ مطلقا إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قيل: إن هذا المطلق مقيد بقوله في موضع آخر إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ص: 81] أي اليوم الذي يموت الأحياء كلهم فيه وهو وقت النفخة الأولى، وقال آخرون: لم يوقت الله تعالى له أجلا. والمراد الوقت المعلوم في علم الله تعالى والدليل على ذلك أن إبليس كان مكلفا والمكلف لا يجوز أن يعلم أجله لأنه يقدم على المعصية بقلب فارغ حتى إذا قرب أجله تاب فيقبل توبته وهذا كالإغراء على المعاصي فيكون قبيحا. أجاب الأولون بأن من علم الله تعالى من حاله أنه يموت على الطهارة والعصمة كالأنبياء أو على الكفر والمعاصي كإبليس فإن إعلامه بوقت أجله لا يكون إغراء على المعصية لأنه لا يتفاوت حاله بسبب ذلك التعريف والإعلام قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي الإغواء ضد الإرشاد وأصل الغي الفساد ومنه غوى الفصيل إذا بشم والبشم فساد يعرض في جوفه من كثرة شرب اللبن. ولا يمكن أن يتعلق   (1) رواه مسلم في كتاب البر حديث 69. الترمذي في كتاب البر باب 82. الدارمي في كتاب الزكاة باب 34. الموطأ في كتاب الصدقة حديث 12. أحمد في مسنده (2/ 386) بدون لفظ «ومن تكبّر ... » . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 الباء بقوله: لَأَقْعُدَنَّ لأن لام القسم تأبى ذلك. لا يقال: والله يريد لأمرنّ. لأن حكم القسم وما يتلوه حكم همزة الاستفهام وحرف النفي الذي هو ما وهي تعمل من حيث المعنى لا من حيث اللفظ فكأنها عوامل ضعيفة فلم يتقدم عليها شيء من معمولاتها لضعفها. وإنما يتعلق بفعل القسم المحذوف و «ما» مصدرية تقديره: فبما أغويتني أي فبسبب إغوائك إياي أقسم. ويجوز أن تكون الباء للقسم أي فأقسم بإغوائك لأقعدن. ومعنى القسم بالإغواء أنه من جملة آثار القدرة أي بقدرتك عليّ ونفاذ سلطانك في لأقعدن. وقال في الكشاف: إن الأمر بالسجود كان سبب إغوائه وهو تكليف والتكليف من أحسن أفعال الله لكونه تعريضا لسعادة الأبد فكان جديرا بأن يقسم به وهذا يناسب أصول الاعتزال. قال مشايخ العراق: الحلف بصفات الذات كالقدرة والعظمة والجلال والعزة يمين، والحلف بصفات الفعل كالرحمة والغضب لا يكون يمينا. ويعني بصفات الفعل ما يجوز أن يوصف بضده فيقال: رحم فلانا ولم يرحم فلانا وغضب ولم يغضب. وقال بعضهم: ما للاستفهام كأنه قيل: بأي شيء أغويتني ثم ابتدأ فقال: لَأَقْعُدَنَّ ويرد على هذا القول أن إثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على «ما» استفهامية قليل. قيل: إن إبليس أضاف الإغواء هاهنا إلى الله وفي قوله: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ [ص: 82] أضاف الإغواء إلى نفسه والأول يدل على الجبر والثاني على القدر، وهذا دليل على أنه كان متحيرا في هذه المسألة. أجابت المعتزلة عن قوله: فَبِما أَغْوَيْتَنِي بأن قول إبليس واعتقاده ليس بحجة أو المراد أنه تعالى لما أمره بالسجود لآدم فعند ذلك ظهر منه كفر فلهذا المعنى أضاف الغي إلى الله. وقد يقال: لا تحملني على ضربك أي لا تفعل ما أضربك عنده، أو المراد بالإغواء الإهلاك واللعن. وقالت الأشاعرة: نحن لا نبالغ في أن المراد بالإغواء هاهنا هو الإضلال لأن حاصله كيفما كان يرجع إلى حكاية قول إبليس وهو ليس بحجة إلا أنا نقطع بأن الغاوي لا بد له من مغو وليس ذلك نفسه لأن العاقل لا يختار الغواية مع العلم بكونها غواية والدور أو التسلسل محال فلا بد أن ينتهي إلى خالق الكل وهو المقصود. أما قوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فانتصابه على الظرف كقوله: لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب قال الزجاج: هو كقولهم ضرب زيدا الظهر والبطن أي على الظهر والبطن. والمراد لأعترضن لهم أي لبني آدم المذكورين في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ على طريق الإسلام كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة، والحاصل أنه يواظب على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 الإفساد بالوسوسة مواظبة لا يفتر عنه ولهذا ذكر القعود لأن من أراد المبالغة في تكميل أمر من الأمور قعد حتى يصير فارغ البال فيمكنه إتمام المقصود. واعلم أن العلماء اختلفوا في أن كفر إبليس كفر عناد أو كفر جهل. فمن قائل بالأول لقوله: صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ وصراط الله المستقيم هو دينه الحق. ومن قائل بالثاني لقوله: فَبِما أَغْوَيْتَنِي فدل ذلك على أنه اعتقد أن الذي هو عليه محض الغواية، وإنما وصف الصراط بالمستقيم بناء على زعم الخصم واعتقاده ورد بأنه متى علم أن مذهبه ضلال وغواية فقد علم أن ضدّه هو الحق فكان إنكاره إنكار اللسان لا القلب وهو المعنى بكفر العناد، ويمكن أن يجاب بأنه أراد بالإغواء أيضا الإغواء بزعم الخصم، قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على أنه لا يجب على الله رعاية مصالح العبد في دينه ولا في دنياه وإلا لم يمهل إبليس حين استمهله مع علمه بالمفاسد والغوائل المترتبة على ذلك، ومما يؤيد ذلك أنه بعث الأنبياء دعاة للخلق إلى الحق وعلم من حال إبليس أنه لا يدعو إلا إلى الكفر والضلال، ثم إنه أمات الأنبياء وأبقى إبليس ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك. قال الجبائي في دفع هذا الاعتراض: إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه ولا يضل بقوله أحد بل إنما يضل من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضل أيضا بدليل قوله تعالى: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصافات: 162] ولأنه لو ضل به أحد لكان بقاؤه مفسدة. وقال أبو هاشم: يجوز أن يضل به قوم ويكون خلقه جاريا مجرى زيادة الشهوة فإن هذه الزيادة من المشقة توجب الزيادة في الثواب. وضعف قول الجبائي بأنا نعلم بالضرورة أن الإنسان إذا جلس عنده جلساء السوء وحسنوا في عينه أمرا من الأمور مرة بعد أخرى فإنه لا يكون حاله في الإقدام على ذلك الفعل كحاله إذا لم يوجد هذا التحسين فكذا الشيطان المزين للقبائح في قلوب الكفار والفساق. وزيف قول أبي هاشم بأن خلق الزيادة في الشهوة حجة أخرى لنا في أنه تعالى لا يراعي المصلحة، وتقرير الحجة أن خلق تلك الزيادة يوقع في الكفر وعقاب الأبد ولو احترز عن تلك الشهوة فغايته أن يزداد ثوابه وحصول هذه الزيادة شيء لا حاجة إليه والأهم رفع العقاب لا تحصيل زيادة الثواب. فلو كان إله العالم مراعيا لمصالح العباد لم يهمل الأهم لطلب الزيادة التي لا ضرورة إليها. أما ذكر الجهات الأربع ففيه وجوه أحدها مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أي أشككهم في صحة البعث والقيامة وَمِنْ خَلْفِهِمْ ألقي إليهم أن الدنيا قديمة أزلية. وثانيها من بين أيديهم أنفرهم عن الرغبة في سعادات الآخرة، من خلفهم أقوي رغبتهم في لذات الدنيا وطيباتها فالآخرة بين أيديهم لأنهم يردون عليها ويصلون إليها، والدنيا خلفهم لأنهم يخلفونها، وثالثها قول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 الحكم والسدي مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني الدنيا لأنها بين يدي الإنسان وإنه يشاهدها وَمِنْ خَلْفِهِمْ الآخرة لأنها تأتي بعد ذلك. وأما قوله: وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ فقيل: عَنْ أَيْمانِهِمْ في الكفر والبدعة وَعَنْ شَمائِلِهِمْ في أنواع المعاصي. وقيل: عَنْ أَيْمانِهِمْ في الصرف عن الحق وَعَنْ شَمائِلِهِمْ في الترغيب في الباطل. وقيل: عَنْ أَيْمانِهِمْ افترهم عن الحسنات وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أقوي دواعيهم إلى السيئات قال ابن الأنباري: وهذا قول حسن لأن العرب تقول اجعلني عن يمينك أي من المقدمين ولا تجعلني عن شمالك أي من المؤخرين. وعن الأصمعي هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وبالشمال للعكس. وقال حكماء الإسلام: إن في البدن قوى أربعا هي الموجبة لفوات السعادات الروحانية: إحداها القوة الخيالية التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وثانيتها القوّة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وهو قوله: وَمِنْ خَلْفِهِمْ وثالثتها الشهوة ومحلها الكبد التي عن يمين البدن. ورابعتها الغضب ومنشؤه القلب الذي هو في الشق الأيسر. فالشياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة. وقيل: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الشبهات المبنية على التشبيه إما في الذات أو في الصفات كشبه المجسمة وإما في الأفعال كشبه المعتزلة في التعديل والتجويز والتحسين والتقبيح لأن الإنسان يشاهد هذه الجسمانيات فهي بين يديه وبمحضر منه فيعتقد أن الغائب مثل الشاهد وَمِنْ خَلْفِهِمْ شبهات أهل التعطيل لأن هذه بإزاء الأولى، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ الترغيب في ترك المأمورات وَعَنْ شَمائِلِهِمْ الترغيب في فعل المنهيات. وعن شقيق رضي الله عنه ما من صباح إلّا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع إما من بين يدي فيقول لا تخف إن الله غفور رحيم فأقرأ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [طه: 82] وإما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] وإما من يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] وإما من شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ [سبأ: 54] وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه قعد له بطريق الإسلام. فقال له: تدع دين آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له تدع ديارك وتتغرب فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك فعصاه فقاتل» «1» وعلى هذا فالقعود في   (1) رواه النسائي في كتاب الجهاد باب 19. أحمد في مسنده (3/ 483) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 الطريق والرصد من الجهات مثل الوسوسة إليهم وتسويله بكل ما يمكنه ويتيسر له كقوله: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الإسراء: 64] وبقي هاهنا بحث وهو أنه تعالى كيف قال: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ بحرف الابتداء وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ بحرف المجاوزة؟ قال في الكشاف: وقد تختلف حروف الظروف كما تختلف حروف التعدية على حسب السماع. يقال: جلس عن يمينه وعلى يمينه، فمعنى «على» أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه، ومعنى «عن» أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ونظيره في المفعول به «رميت السهم عن القوس وعلى القوس ومن القوس» لأن السهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدىء الرمي منها، وكذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل، ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول: جئته من الليل تريد بعض الليل. وقال بعض المفسرين: خص اليمين والشمال بكلمة «عن» لأنها تفيد البعد والمباينة وعلى جهتي اليمين والشمال ملكان لقوله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: 17] والشيطان لا بد أن يتباعد عن الملك ولا كذلك حال القدام والخلف. وقالت الحكماء مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ هما الوهم والخيال كما مر والناشئ منهما العقائد الباطلة والكفر وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ الشهوة والغضب والناشئ منهما الأفعال الشهوية والغضبية. وضرر الكفر لازم لأن عقابه دائم وضرر المعاصي مفارق لأن عذابها منقطع فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة «عن» تنبيها على أنهما في اللزوم والاتصال دون القسم الأول. وإنما اقتصر على الجهات الأربع ولم يذكر الفوق والتحت لأن القوى التي منها يتولد ما يوجب تفويت السعادات الروحانية هي هذه الموصوعة في الجوانب الأربعة من البدن، وأما في الظاهر فقد روي أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا: يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع استيلائه عليه من الجهات؟ فأوحى الله تعالى إليهم أنه قد بقي للإنسان جهتا الفوق والتحت فإذا رفع يديه إلى فوق بالدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبهته على الأرض بطريق الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة. قال القاضي: هذا القول من إبليس كالدلالة على أنه لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المغالبة أحق. قلت: هذا مناف لما في الحديث «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» «1» . أما قوله: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ فسئل أنه من   (1) رواه البخاري في كتاب الأحكام باب 81. كتاب بدء الخلق باب 11. أبو داود في كتاب الصوم- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 باب الغيب فكيف عرف؟ وأجاب بعضهم بأنه كان قد رآه في اللوح المحفوظ فقال على سبيل القطع واليقين. وقال آخرون: إنه قال على سبيل الظن لأنه كان عازما على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات فغلب على ظنه أنهم يقبلون قوله، ولقد صدقه الله تعالى في ذلك الظن حيث قال: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ: 20] وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] . وقيل: إن للنفس تسع عشرة قوة: الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب والقوى السبع الكامنة وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم. وأما التي تدعوها إلى عالم الأرواح فقوة واحدة وهي العقل، ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكثر من استيلاء واحدة لا سيما وهي في أول الخلقة تكون قوية، والعقل يكون ضعيفا وهي بعد قوتها يعسر جعلها ضعيفة مرجوحة فلذلك قطع بقوله: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ قالَ الله تعالى في جوابه إذا كان هذا عزمك اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً الذام العيب والذأم يهمز ولا يهمز، والدحر الطرد والإبعاد وفي المثل: لا تعدم الحسناء ذاما. واللام في لَمَنْ تَبِعَكَ موطئة للقسم ولَأَمْلَأَنَّ جوابه وهو ساد مسد جواب الشرط. وعن عاصم لَمَنْ تَبِعَكَ بكسر اللام بمعنى لمن تبعك منهم هذا الوعيد وهو قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ فغلب ضمير المخاطب كما في قوله: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138] أي إنكم وإنهم على هذا. فقوله: لَأَمْلَأَنَّ في محل الابتداء ولَمَنْ تَبِعَكَ خبره. قال القاضي: كما أن الكافر يتبعه كذلك الفاسق يتبعه فلذلك يجب القطع بدخول الفاسق النار. وأجيب بشرط عدم العفو. قوله: وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ الآية. فيها من المسائل أن قوله: اسْكُنْ أمر تعبد أو أمر إباحة من حيث إنه لا مشقة فيه فلا يتعلق به التكليف. وأن زوج آدم هي حواء وأن تلك الجنة كانت جنة الخلد أو جنة من جنان السماء أو جنة من جنان الأرض. وأن قوله وفَكُلا أمر إباحة لا أمر تكليف. وأن قوله: وَلا تَقْرَبا نهي تنزيه أو نهي تحريم. وأن الشجرة المشار إليها شجرة واحدة بالشخص أو بالنوع وإنها أيّ شجرة كانت. وأن ذلك الذنب كان صغيرا أو كبيرا. وأن الظلم في قوله: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ بأي معنى هو؟ وأن هذه الواقعة وقعت قبل نبوة آدم أو بعدها؟ ونحن قد قضينا الوطر عن جميعها في سورة البقرة فلا حاجة إلى الإعادة فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ الوسوسة حديث النفس وهو فعل غير متعد كولولت المرأة ووعوع الذئب والمصدر الوسواس أيضا بكسر الواو والوسواس بالفتح الاسم   - باب 78. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 65. الدارمي في كتاب الرقاق باب 16. أحمد في مسنده (3/ 156، 285) ، (6/ 337) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 كالزلزال. ويوصل إلى المفعول باللام وبإلى. فمعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ومعنى وسوس إليه ألقاها إليه أي تكلم معه كلاما خفيا يكرره لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما قيل: اللام لام العاقبة لأن الشيطان لم يقصد بالوسوسة ظهور عورتهما وإنما آل أمرهما إلى ذلك، وقيل: لام الغرض وبدو العورة كناية عن زوال الحرمة وسقوط الجاه الذي كان غرضه، أو لعله رأى في اللوح المحفوظ أو سمع من الملائكة أنه إذا أكل من الشجرة بدت عورته وفي ذلك سقوط حشمته. وقوله: وُورِيَ مجهول وارى أي ستر والسوءة فرج الرجل والمرأة. ثم بيّن وسوسة إبليس بأنه قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أي إلا كراهة أن تكونا ملكين إلى قوله: إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ. سؤال: كيف يطمع إبليس آدم في أن يكون ملكا عند الأكل من الشجرة مع أنه شاهد الملائكة ساجدين معترفين بفضله؟ والجواب بعد تسليم أن هذه الواقعة كانت بعد النبوة وبعد سجود الملائكة له، أن هذا أحد ما يدل على أن الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الأرض أما ملائكة السموات وملائكة العرش والكرسي والملائكة المقربون فما سجدوا البتة لآدم وإلا كان هذا التطميع فاسدا. وربما يجاب بأنه أراد أنه يصير مثل الملك في البقاء والدوام وزيف بلزوم التكرار من قوله: أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ. قال الواحدي: كان ابن عباس يقرأ مَلَكَيْنِ بكسر اللام كأن الملعون أتاهما من جهة الملك كقوله: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه: 120] واعترض بأنه لا نزاع في هذه القراءة الشاذة وإنما النزاع في القراءة المشهورة. ويمكن أن يجاب بأن آدم لعله رغب في أن يصير من الملائكة في القدرة والقوة والبطش والخلقة بأن يصير جوهرا نورانيا مقره العرش والكرسي. نقل أن عمرو بن عبيد قال للحسن: إن آدم وحواء هل صدّقاه في قوله؟ فقال الحسن: معاذ الله لو صدّقاه لكانا من الكافرين. أراد الحسن أن تصديق الخلود يوجب إنكار البعث والقيامة وإنه كفر. ويمكن أن يقال: لو أراد بالخلود طول المكث لم يلزم التكفير، ولو سلم أن الخلود مفسر بالدوام فلا نسلم أن اعتقاد الدوام من آدم يوجب الكفر لأن العلم بالموت ثم البعث يتوقف على السمع ولعل ذلك الدليل السمعي لم يصل إلى آدم وقتئذ. ثم إن المحققين اتفقوا على أن التصديق لم يوجد من آدم لا قطعا ولا ظنا وإنما أقدما على الأكل لغلبة الشهوة كما نجد من أنفسنا عند الشهوة أن نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال. ثم إن بعضهم زعم أن الترغيب كان في مجموع الأمرين كونهما ملكين وكونهما خالدين والظاهر أنه على طريقة التخيير. سؤال: المقاسمة من الجانبين فكيف يتصور التقاسم بين آدم وإبليس؟ والجواب كأنه قال لهما: أقسم بالله إني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 لكما ناصح وقالا له: نقسم بالله إنك إن صدقت ناصح. أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها، أو أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة لأنه اجتهد فيها اجتهاد المقاسم فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ أي أوقعهما فيما أراد من تغرير، وأصله أن الرجل العطشان يدلي رجليه في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه. وقيل: أي جرأهما على أكل الشجرة من قولهم: فلان يدل على أقرانه في الحرب كالبازي يدل على صيده. قال ابن عباس: غرهما باليمين. وكان آدم يظن أن لا يحلف أحد بالله كاذبا. وعن ابن عمر أنه كان إذا رأى من بعض عبيده طاعة وحسن صلاة أعتقه فكان عبيده يفعلون ذلك طلبا للعتق، فقيل له: إنهم يخدعونك فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له. فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ فيه دلالة على أنهما تناولا اليسير قصدا إلى معرفة طعمه ولولا أنه ذكر في آية أخرى فَأَكَلا مِنْها [طه: 121] لم يدل على الأكل لأن الذوق قد يكون من غير أكل. بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما ظهرت عوراتهما أي عورتاهما مثل صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: 4] مكان قلباكما وَطَفِقا يَخْصِفانِ أخذا في الفعل وهو الخصف، ويستعمل طفق بمعنى كاد. قال الزجاج: أي يجعلان ورقة على ورقة ليستترا بهما كما تخصف النعل طرقة على طرقة وتوثق بالسيور. والورق ورق التين وفيه دليل على أن كشف العورة قبيح من لدن آدم ألا ترى أنهما كيف بادرا إلى الستر لما تقرر في عقلهما من قبح كشف العورة؟ أَلَمْ أَنْهَكُما عتاب من الله وتوبيخ وباقي الآيات مفسر في سورة البقرة. عن ثابت البناني: لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة فجعلت حواء تدور حولهم فقال لها: خلي ملائكة ربي فإنما أصابني الذي أصابني فيك. فلما توفي غسلته الملائكة بماء وسدر وترا وحنطته وكفنته في وتر من الثياب وحفروا له ولحدوا ودفنوه بسرنديب بأرض الهند وقالوا لبنيه: هذه سنتكم بعده. وقد بقي علينا من التفسير أسرار المتشابهات الواقعة في هذه القصة فلنفرغ لها. قوله: ما مَنَعَكَ وفي ص يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ [الآية: 75] وفي الحجر يا إِبْلِيسُ ما لَكَ [الآية 32] حذف المنادى في هذه السورة لأن مضي ذكره هنا أقرب فلم يحتج إلى إعادة اسم اللعين بالنداء. قوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ وفي ص ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [الآية: 75] جمع بين لفظ المنع ولفظ «لا» في هذه السورة لأنه لما حذف النداء زاد لفظة «لا» زيادة في النفي وإعلاما بأن المخاطب به إبليس. وإن شئت قلت: جمع في السورة بين ما في «ص» وما في «الحجر» فقال: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ وما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ وحذف أَنْ تَسْجُدَ وحذف ما مَنَعَكَ لدلالة الحال ودلالة السورتين عليه فبقي ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ الآية في ص مثله كلاهما في جواب ما مَنَعَكَ ظاهر إلا أنه زاد في الحجر لفط الكون فقال: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ [الآية: 33] ليكون مطابقا للسؤال حيث قيل: ما لك أن لا تكون مع الساجدين. قوله: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وفي ص وفي الحجر رَبِّ فَأَنْظِرْنِي [الآية: 36] لأنه لما اقتصر في السؤال على الخطاب دون صريح الاسم اقتصر هاهنا أيضا على الخطاب دون ذكر المنادى بخلاف السورتين. وأما زيادة الفاء في السورتين دون هذه السورة فلأن داعية الفاء ما تضمنه النداء من أدعو وأنادي نحو قوله: رَبَّنا فَاغْفِرْ [آل عمران: 193] أي أدعوك فاغفر. فلما حذف النداء في هذه السورة تركت الفاء. وكذلك من قوله: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ليطابق الجواب السؤال. قوله: فَبِما أَغْوَيْتَنِي وفي الحجر رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي [الآية: 39] بزيادة النداء ليوافق ما قبله. وزاد في هذه السورة الفاء وكذا في «ص» فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ [الآية: 82] لزيادة الربط. ولم يمكن دخول الفاء في «رب» لامتناع النداء منه لأن ذلك يقع مع السؤال والطلب. قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً ليس في القرآن غيره وإنما اختص هذا الموضع بذلك لأن اللعين بالغ في العزم على الإغواء فقال: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ إلى آخره فبالغ الله جل وعلا في ذمه إذ الذام أشد الذم. قوله: فَكُلا بالفاء وفي البقرة وَكُلا [الآية: 35] لأن اسكن هاهنا من السكنى التي معناها اتخاذ الموضع مسكنا وهذا لا يستدعي زمانا ممتدا يمكن الجمع بين الاتخاذ والأكل فيه بل يقع الأكل عقيبه، وفي البقرة من السكون الذي يراد به الإقامة فلم يصلح إلا بالواو فإن المعنى أجمعا بين الإقامة فيها والأكل من ثمارها ولو كان بالفاء لوجب تأخير الأكل إلى الفراغ من الإقامة. وإنما زاد في البقرة رَغَداً لما زاد في الخبر تعظيما بقوله: وَقُلْنا قال بعض الأفاضل في الجواب عن هذه المسائل: إن اقتصاص ما مضى إذا لم يقصد به أداء الألفاظ بأعيانها كان اختلافها واتفاقها سواء إذا أدى المعنى المقصود. وهذا جواب حسن إن رضيت به كفيت مؤنة السهر إلى السحر والله أعلم. التأويل: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ أرواحكم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي خلقنا لأرواحكم أجسادا كما جاء في الحديث «إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام» ولتصوير الأجساد بداية وهي قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف: 172] فإن لفظ الذرية يقع على المصورين ووسط يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [آل عمران: 6] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 ونهاية هي حالة الكهولية في الأغلب ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وأنتم في صلبه وهذا من التمكين أيضا فَسَجَدُوا لاستعدادهم الفطري للسجود ولائتمارهم لأمر الله إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ من المستعدين للسجود لما فيه من الاستكبار الناري قالَ ما مَنَعَكَ خطاب الامتحان لجرم إبليس ليظهر به استحقاقه اللعن فإنه لو كان ذا بصيرة لقال في الجواب منعني تقديرك وقضاؤك ولكنه كان أعور العين اليمنى بصيرا بالعين التي رأى بها أنانيته فقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أي منعني خيريتي منه أن أسجد لمن هو دوني، واستدل على خيريته بأنه خلق من نار وهي علوية نورانية لطيفة وآدم خلق من طين وهو سفلي ظلماني كثيف. وهذا القياس معارض بأن النار من خاصيتها الإحراق والفناء والطين من خواصه النشوء والإنماء والاستمساك الذي بقوته يصير الإنسان مستمسكا للفيض الإلهي ونفخ الروح فيه فاستحق سجود الملائكة لأنه صار كعبة حقيقية. فلما ابتلي إبليس بالصغار وطرد من الجوار أخذ في النوح وأيس من الروح ورضي بالعباد واطمأن بالحياة فقال: أَنْظِرْنِي فأجيب إلى ما سأل ليكون وبالا عليه ويزيد في شقوته، ولكن لم يجبه بأن لا يذيقه ألم الموت لقوله في موضع آخر إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ص: 81] قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لم تكن حوالته الإغواء إلى الله منه من نظر التوحيد وإنما كان للمعارضة والمعاندة لقوله: لَأُغْوِيَنَّهُمْ [الحجر: 39] لَأَقْعُدَنَّ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ من الجهات التي فيها حظوظ النفس مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من قبل الحسد على الأكابر من المشايخ والعلماء المعاصرين وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قبل الطعن في الأكابر الأقدمين والسلف الصالحين. وَعَنْ أَيْمانِهِمْ من قبل إفساد ذات البين وإلقاء العداوة والبغضاء بين الإخوان وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من جهة ترك النصيحة مع أهاليهم وأقاربهم وترك الأمر بالمعروف مع عامة المسلمين. أو المراد مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من قبل الرياء والعجب وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قبل الصلف والفخر وَعَنْ أَيْمانِهِمْ من قبل الادعاء وإظهار المواعيد والمواجيد وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من قبل الافتراء على أنفسهم ما ليس فيها من الكشوف والأحوال. أو مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من قبل الاعتراض على الشيخ وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قبل التفريق والإخراج عن صحبة الشيخ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ من قبل ترك حشمة المشايخ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من قبل مخالفة الشيخ والرد بعد القبول. أو مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أثوّر عليهم أهاليهم وأولادهم ليمنعوهم عن طلب الحق وَمِنْ خَلْفِهِمْ أثور عليهم آباءهم وأمهاتهم وَعَنْ أَيْمانِهِمْ أثور عليهم أحباءهم وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أثور عليهم أعداءهم وحسادهم. وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ يعني شجرة المحبة فإن المحبة مطية المحنة فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ على أنفسكما لأن للمحبة نارا ونورا فمن لم يرد نارها لم يجد نورها ومن يرد نارها احترقت أنانيته فيبقى بلا هوية نفسه مع هوية ربه فههنا يجد نور المحبة ويتنور به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 كقوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] فشجرة المحبة شجرة غرسها الرحمن بيده لأجل آدم كما خمر طينة آدم بيده لأجل هذه الشجرة، وإنّ منعه منها كان تحريضا له على تناولها فإن الإنسان حريص على ما منع. ولم تكن الشجرة طعمة لغير آدم وأولاده إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أي من أهل السلو كملكين في زوايا الجنة أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ في الجنة كالحور والرضوان فسقاهما إبليس في كأس القسم شراب ذكر الحبيب وَقاسَمَهُما فلما غرقا في لجّة المحنة وذاقا شجرة المحبة بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي سوآت نار المحبة قبل نورها وهي نار فرقة الأحبة في البداية وَطَفِقا لاشتعال نائرة المحبة يجعلان كل نعيم الجنة على نارهما، فلما التهبت احترقت بلظى نارها حبة الوصلة ونعب غراب البين بالفرقة. فبينما نحن في لهو وفي طرب ... بدا سحاب فراق صوبه هطل وإن من كنت مشغوفا بطلعته ... مضى وأقفر منه الرسم والطلل فالصبر مرتحل والوجد متصل ... والدمع منهمل والقلب مشتعل وَناداهُما رَبُّهُما نداء العزة والكبرياء أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ فإنها تذل العزيز وتزيل النعيم وتذهب الطرب وتورث التعب والنصب إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ ولكن في عداوته صداقة مخفية تظهر ولو بعد حين. واخجلتا من وقوفي باب دارهم ... لو قيل لي مغضبا من أنت يا رجل فانغسل بماء الخجل منهما رعونات البشرية ولوث العجب والأنانية فرجعا عما طمعا فيه ووقفا لديه وعلما أن لا منجا ولا ملجأ منه إلا إليه فقالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا بأن أوقعناها في شبكة المحبة لا المحبة تبقينا بالوصال ولا المحنة تفنينا بالزوال وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا بنوال الوصال وَتَرْحَمْنا بتجلي الجمال لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا الدنيا والعقبى ولم يظفروا بالمولى. فأمرا بالصبر على الهجر وقيل: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ النفس عدو القلب والروح، والقلب عدو لما سوى الله وَلَكُمْ للنفس والقلب والرفع في أرض البدن مقام وتمتع في الشريعة باستعمال الطريقة للوصول إلى الحقيقة إلى حين تصير النفس مطمئنة تستحق الخطاب، ارجعي من الهبوط وارفعي بعد السقوط. إن الأمور إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا. قالَ فِيها أي في المحبة تَحْيَوْنَ بصدق الهمة وقرع باب العزيمة وَفِيها تَمُوتُونَ بطلب الحق على جادة الشريعة بإقدام الطريقة وَمِنْها تُخْرَجُونَ إلى عالم الحقيقة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 26 الى 34] يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) القراآت: ورياشا أبو زيد عن المفضل. الباقون رِيشاً وَلِباسُ بالنصب: أبو جعفر ونافع وابن عامر وعليّ. الباقون بالرفع. خالِصَةً بالرفع: نافع. الآخرون بالنصب رَبِّيَ الْفَواحِشَ مرسلة الباء: حمزة. الوقوف: وَرِيشاً ط لمن قرأ وَلِباسُ مرفوعا ومن قرأ بالنصب وقف على التَّقْوى خَيْرٌ ط يَذَّكَّرُونَ هـ سَوْآتِهِما ط لا يُؤْمِنُونَ هـ أَمَرَنا بِها ط بِالْفَحْشاءِ ط ما لا تَعْلَمُونَ هـ الدِّينَ ط تَعُودُونَ هـ على جواز الوصل لرد النهاية إلى البداية الضَّلالَةُ ج مُهْتَدُونَ هـ وَلا تُسْرِفُوا ج لاحتمال الفاء أو اللام. الْمُسْرِفِينَ هـ مِنَ الرِّزْقِ ط يَوْمَ الْقِيامَةِ ط يَعْلَمُونَ هـ ما لا تَعْلَمُونَ هـ أَجَلٌ ج لأن جواب «إذا» منتظر مع دخول الفاء فيها وَلا يَسْتَقْدِمُونَ هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 التفسير: لما ذكر أن الأرض مستقر لبني آدم ذكر أنه أنزل كل ما يحتاجون إليه في الدين والدنيا فقال: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا وأيضا لما ذكر واقعة آدم في انكشاف العورة وأنه كان يخصف عليها أتبعه ذكر اللباس الساتر للعورة إظهارا للمنّة وإشعارا بأن التستر باب من أبواب التقوى. ومعنى إنزال اللباس أنه قضى ثمة وكتب أو أنه حاصل بالمطر المنزل من السماء ومثله وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: 6] وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الحديد: 25] والريش لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته أي أنزلنا عليكم لباسين لباسا يواري سوآتكم ولباسا لزينتكم لأن الزينة غرض صحيح كما قال: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ [النحل: 6] ومن قرأ رياشا فقد قيل: إنه جمع ريش كشعب وشعاب. وقال الجوهري: الريش والرياش بمعنى كاللبس واللباس وهو لباس الفاخر. ويقال: الريش والرياش المال والخصب والمعاش. وبالجملة كل شيء يعيش به الإنسان ومنه قولهم رشت فلانا أصلحت حاله، وقال ابن السكيت: الرياش مختص بالثياب والأثاث، والريش قد يطلق على سائر الأموال. أما قوله: وَلِباسُ التَّقْوى فمن قرأ بالنصب فعلى المنصوب قبله عطف، ومن رفع فعلى الابتداء وخبره إما الجملة التي هي ذلِكَ خَيْرٌ كأنه قيل: ولباس التقوى هو خير لأن أسماء الإشارة كالضمائر في صلاح العود بسببها، وإما المفرد الذي هو خَيْرٌ وذلِكَ بدل أو عطف بيان أو صفة بتأويل ولباس التقوى المشار إليه خير. والعدول إلى الإشارة إما لتعظيم لباس التقوى وإما أن يكون المراد بلباس التقوى هو اللباس المواري للسوأة لأن مواراة السوأة من التقوى تفضيلا له على لباس الزينة. ثم من المفسرين من حمل لباس التقوى على نفس الملبوس أي اللباس الذي أنزله الله تعالى ليواري به السوأة هو لباس التقوى لأن قوما من أهل الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب ويطوفون بالبيت عراة فيكون كقول القائل: قد عرفتك الصدق في أبواب البر والصدق خير لك من غيره فيعيده. أو المراد به ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها في الحروب. أو يراد الملبوسات المعدة لأجل إقامة الصلاة. ومنهم من حمله على لباس التقوى مجازا فقال قتادة والسدي وابن جريج: إنه الإيمان. وقال ابن عباس: هو العمل الصالح. وقيل: هو السمت الحسن. وقيل: هو العفاف والتوحيد لأن المؤمن لا تبدو عورته وإن كان عاريا عن الثياب، والفاجر لا تزال عورته مكشوفة وإن كان كاسيا. وقال معبد: هو الحياء. وقيل: هو ما يظهر على الإنسان من السكينة والإخباث والأعمال الصالحات. وعلى هذا فمعنى الآية إن لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به وأقرب إلى الله تعالى مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به فأضاف اللباس إلى التقوى كما أضيف إلى الجوع والخوف في قوله: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل: 112] ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على فضله ورحمته على عباده لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفون عظيم النعمة فيه. ثم حذر أولاد آدم من قبول وسوسة الشيطان لأن المقصود من قصص الأنبياء عليهم السلام أن تكون عبرة لمن يسمعها فقال: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ الفتنة الامتحان، تقول: فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته. وقال الخليل: الفتن الإحراق. وورق فتين أي فضة محرقة، قال الله تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: 13] من قدر على إخراج الأب من الجنة مع كمال قوته وقرب عهده من فيضان ربه فهو على منع أولاده عن أن يدخلوا الجنة أقدر. ومحل كَما أَخْرَجَ نصب على المصدر أي فتنة مثل إخراج أبويكم لأن هذا الإخراج نوع من الفتنة. ومحل يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما حال أي أخرجهما نازعا لباسهما بأن كان سببا في أن نزع عنهما. واللام في لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما لام العاقبة أو لام الغرض كما تقدم في قوله: لِيُبْدِيَ لَهُما [الأعراف: 20] قال ابن عباس: يرى آدم سوأة حواء ويرى حواء سوأة آدم وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر. وعن عائشة رضي الله عنها ما رأيت منه ولا رأى مني. وحمله العلماء على الكراهية لا على التحريم. واختلفوا في اللباس الذي نزع عنهما فقيل: الثوب الحائل بينهما وبين النظر. وعن سعيد بن جبير: كان لباسهما من جنس الأظفار. وقيل: اللباس الذي هو ثياب الجنة، قال الكعبي: في الآية دلالة على أن المعاصي والفتن كلها منسوبة إلى الشيطان. وأجيب بأنه لا بد من الانتهاء إلى خالق الكل وموجد القدر والدواعي. ثم علل النهي وأكد التحذير بقوله: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ أي جماعته من الثلاثة فصاعدا. والقبيل بنو أب واحد. وقال ابن قتيبة: أي أصحابه وجنده. وقال الليث: هو وقبيله أي وجماعته. مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ أي يكيدون ويغتالون من حيث لا تشعرون. قال بعض المتكلمين ومنهم المعتزلة: الوجه في أن الإنس لا يرون الجن رقة أجسام الجن ولطافتها، والوجه في رؤية الجن الإنس كثافة أجسام الإنس، والوجه في رؤية الجن بعضهم بعضا أن الله تعالى يقوي شعاع أبصار الجن ويزيد فيه ولو زاد الله في قوة أبصارنا لرأيناهم كما يرى بعضنا بعضا، ولو أنه تعالى كثف أجسامهم وبقيت أبصارنا على هذه الحالة لرأيناهم. وقال أهل السنة: إنهم يرون الإنسان لأنه تعالى خلق في عيونهم إدراكا، والإنس لا يرونهم لأنه تعالى لم يخلق هذا الإدراك في عيون الإنس. قال بعض العلماء: مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص ففيه دليل على أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأن زعم من يدعي رؤيتهم فزور ومخرقة. ولو قدر الجن على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شاؤا لارتفع الوثوق عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 الناس حتى الزوجة والولد، ولو كانوا قادرين على تخبيط الناس، وإزالة العقل عنهم لكان أولى الناس بذلك العلماء والمشايخ لأن العداوة بينهم وبين خواص الإنس أشد. وعن مجاهد قال إبليس: أعطينا أربع خصال: نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى. وعن مالك بن دينار أن عدوّا يراك ولا تراه لشديد المئونة إلا من عصمه الله. والضمير في إِنَّهُ للشأن وهو تأكيد ليصح العطف على المرفوع المتصل، ثم قال إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ الآية. واحتج أهل السنة على أنه تعالى هو الذي سلط الشيطان عليهم حتى أضلهم وأغواهم ويتأكد هذا النص بقوله: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83] اعتذر القاضي بأن المراد من الجعل الحكم بأن الشيطان ولي لمن لا يؤمن أو المراد التخلية بينهم وبينهم كمن يربط الكلب في داره ولا يمنعه من التوثب على الداخل وأجيب بأن حمل الجعل على الحكم خلاف الظاهر، وهب أنه حكم بذلك فهل يمكن مخالفة حكم الله؟ وبأن الإرسال إنما يصدق على التسليط لا على التخلية المجردة قوله: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قال بعضهم: نزلت في اتخاذهم البحائر والسوائب. وقيل: في الطواف بالبيت عراة والأولى التعميم والفحشاء الخصلة المتزايدة في القبح أعني الكبيرة والمراد أنهم كانوا يفعلون أشياء هي في أنفسها فواحش ويعتقدون أنها طاعات فوبخوا على ذلك لينتهوا عنها. ثم إنه حكى عنهم حجتين: الأولى التقليد ولم يذكر جوابها لظهور بطلانها عند كل عاقل، والثانية أن الله أمرهم بذلك فأجاب عنها بقوله: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ فللمعتزلة أن يحتجوا به على أن الشيء إنما يقبح لوجه عائد إليه وأن كونه في نفسه من الفحشاء مغاير لتعلق الأمر والنهي ولهذا أكد هذا المعنى بقوله: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ والجواب أن عدم الأمر بالفحشاء لا ينافي إرادة الفحشاء ومشيئتها ونحن لا ندعي إلا أنه تعالى مريد لجميع الكائنات وأن شيئا منها لا يخرج عن حكمه وأرادته وتقديره مع أنه لا يأمر إلا بالعدل والصواب كما قال: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ قال عطاء والسدي: أي بالعدل وبما ظهر في العقول كونه حسنا. وعن ابن عباس هو قول لا إله إلا الله ويندرج فيه معرفة الله تعالى بذاته وأفعاله وأحكامه. أما قوله: وَأَقِيمُوا فليس من باب عطف الطلب على الخبر وإنما التقدير: وقل أقيموا وُجُوهَكُمْ أي استقبلوا القبلة واستقيموا وأخلصوا عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ في كل وقت سجود أو في مكان سجود كأن المعنى وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة. وقال ابن عباس: المراد أنه إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحد إني لا أصلي إلا في مسجد قومي. ثم لما أمر بالتوجه إلى القبلة أمر بعده بالدعاء والأظهر أن المراد به أعمال الصلاة سميت دعاء لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 أشرف أجزاء الصلاة هو الدعاء والذكر، ويمكن أن يقال: الدعاء بمعنى العبادة فيكون كقوله: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5] ثم برهن على المعاد ليتحقق الجزاء فقال: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ قال الحسن ومجاهد: كما بدأ خلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئا كذلك تعودون أحياء. وعن ابن عباس: المراد كما بدأ خلقكم مؤمنا أو كافرا تعودون فيبعث المؤمن مؤمنا والكافر كافرا، فإن من خلقه الله تعالى في أول الأمر للشقاوة يعمل بعمل أهل الشقاوة وكانت عاقبته ذلك، ومن خلقه للسعادة فإنه يعمل عمل أهل السعادة وكانت عاقبته السعادة. ويؤيد هذا التفسير قوله عقيب ذلك فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ وانتصاب فَرِيقاً الثاني بفعل مضمر يفسره ما بعده أي وخذل أو أضل فريقا حق عليهم الضلالة كقولك زيدا مررت به. قال القاضي: المعنى فريقا هدى إلى الجنة والثواب وفريقا حق عليهم الضلالة أي العذاب والصرف عن طريق الثواب لأن هذا هو الذي يحق عليهم دون غيره إذ العبد لا يستحق أن يضل عن الدين إذ لو استحق ذلك لجاز أن يأمر أنبياءه بإضلالهم عن الدين كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة. وأجيب بأن قوله: هَدى وحَقَّ ماض وحمله على المستقبل خلاف الظاهر، وبأن الهدى إلى الجنة أو الضلال عنها لا بد أن يكون محكوما به في الأزل وخلاف حكمه محال. ثم بيّن ما لأجله حقت على هذه الفرقة الضلالة أعني السبب القريب وإلا فانتهاء الكل إلى مسبب الأسباب فقال: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فقبلوا دعوتهم دون دعوته ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل. ثم بين أن جهلهم مركب لا بسيط فقال: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ وفيه أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في أصول الدين بل لا بد فيه من القطع واليقين. ثم لما أمر بالقسط وكان من جملته أمر اللباس والمأكول والمشروب وأيضا أمر بإقامة الصلاة وكان ستر العورة شرطا لصحتها فلا جرم قال: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عن ابن عباس قال: كان أناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراة حتى إن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة فتعلق على سفليها سيورا مثل هذه السيور التي تكون على وجه الحمر تقيها من الذباب وهي تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله. وعن طاوس: لم يأمرهم بالحرير والديباج وإنما كان أحدهم يطوف عريانا ويدع ثيابه وراء المسجد، وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 أذنبنا فيها: وقيل: كانوا يفعلون ذلك تفاؤلا ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب. وقال الكلبي: كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما في أيام حجهم يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون: يا رسول الله نحن أحق بذلك فأنزل الله الآية. قال أكثر المفسرين: المراد من الزينة لبس الثياب لقوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور: 31] يعني الثياب. وأيضا الزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات ولأنه يناسب ما تقدم من ذكر اللباس والرياش، ولأن ظاهر الأمر الوجوب وكل ما سوى اللبس غير واجب فوجب حمل الزينة على اللبس عملا بالنص بقدر الإمكان. والسنة فيه أن يأخذ الرجل أحسن هيئة للصلاة. وقيل: الزينة المشط. وقيل: الطيب. ثم إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالآية تقتضي وجوب اللبس التام عند كل صلاة ترك العمل به في القدر الذي لا يجب ستره من الأعضاء إجماعا بقي الباقي داخلا تحت اللفظ. فإذن ستر العورة واجب في الصلاة وإلا فسدت صلاته. قال أصحاب أبي حنيفة: لبس الثوب المغسول بماء الورد على أقصى وجوه النظافة أخذ للزينة فيكفي في صحة الصلاة. وأجيب بأن اللام في قوله: وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ [البينة: 5] تنصرف إلى المعهود السابق وهو صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم قلتم إنه يصلي في الثوب المغسول بماء الورد؟ أما قوله: وَكُلُوا أي اللحم والدسم. وَاشْرَبُوا فقد قيل إنهما أمر إباحة بالاتفاق فوجب أن يكون أخذ الزينة أيضا على الإباحة. وأجيب بأنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف تركه في المعطوف عليه مع أن الأكل والشرب قد يكونان واجبين. أيضا في الجملة وهما يشملان جميع المطعومات والمشروبات ويتناولان الأحوال والأوقات إلا ما خصه الدليل المنفصل. والعقل أيضا مؤكد لهذا المعنى لأن الأصل في المنافع الحل والإباحة. وفي قوله: وَلا تُسْرِفُوا وجهان: الأول أنه يأكل ويشرب بحيث لا يتعدى إلى الحرام ولا يكثر الإنفاق المستقبح ولا يتناول مقدارا كثيرا يضره ولا يحتاج إليه. الثاني- وهو قول أبي بكر الأصم- أن المراد من الإسراف قولهم بتحريم البحيرة والسائبة فإنهم أخرجوها عن ملكهم وتركوا الانتفاع بها. وأيضا إنهم حرموا على أنفسهم في وقت الحج ما أحله الله تعالى لهم، قال بعض العلماء: إن حمل الإسراف على الاستكثار مما لا ينبغي أولى من حمله على المنع مما يجوز وينبغي. وعن ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة، ويحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين بن واقد صاحب المغازي: ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم أبدان وعلم أديان. فقال له: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه. قال: وما هي؟ قال: قوله كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا فقال النصراني: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 ولا يؤثر عن رسولكم شيء في الطب فقال: قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: وما هي؟ قال: قوله: «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته» فقال: النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا. قيل: كانوا إذا أحرموا حرموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها فأنكر ذلك عليهم بقوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ قال ابن عباس وأكثر المفسرين: هي اللباس الساتر للعورة. وقال آخرون: إنها تتناول جميع أنواع الزينة من الملابس والمراكب والحلي وكذا كل ما يستطاب ويستلذ من المآكل والمشارب والنساء والطيب. عن عثمان بن مظعون أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: غلبني حديث النّفس عزمت على أن اختصي فقال: مهلا يا عثمان فإن خصاء أمتي الصيام. قال: فإن نفسي تحدثني بالترهب فقال: إن ترهب أمتي القعود في المساجد لانتظار الصلوات. فقال: تحدثني نفسي بالسياحة قال: سياحة أمتي الغزو والحج والعمرة. فقال: إن نفسي تحدثني أن أخرج مما أملك. فقال: الأولى أن تكفي نفسك وعيالك وأن ترحم المسكين واليتيم وتعطيه ما فضل من ذلك. فقال: نفسي تحدثني أن أطلق خولة. فقال: إن الهجرة في أمتي هجرة ما حرم الله تعالى. قال: فإن نفسي تحدثني أن لا أغشاها فقال: إن المسلم إذا غشى أهله وما ملكت يمينه فإن لم يصب من وقعته تلك ولدا كان له وصيف في الجنة وإن كان له ولد مات قبله أو بعده كان له قرة عين وفرح يوم القيامة، وإن مات قبل أن يبلغ الحنث كان له شفيعا ورحمة يوم القيامة. قال: فإن نفسي تحدثني أن لا آكل اللحم. قال: مهلا إني آكل اللحم إذا وجدته ولو سألت الله أن يطعمنيه كل يوم فعله. قال: فإن نفسي تحدثني أن لا أمس الطيب. قال: مهلا فإن جبريل يأمرني بالطيب غبا وقال: لا تتركه يوم الجمعة. ثم قال: يا عثمان لا ترغب عن سنتي فإنه من رغب عن سنتي ومات فليس مني، ولو مات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي. واعلم أن كل واقعة تقع فإما أن لا يكون فيها نفع ولا ضر أو يتساوى ضرها ونفعها فوجب الحكم في القسمين ببقاء ما كان على ما كان، وإن كان النفع خالصا وجب لإطلاق الآية، وإن كان الضرر خالصا وكان تركه خالص النفع فيلتحق بالقسم المتقدم، وإن كان النفع راجحا والضرر مرجوحا تقابل المثل بالمثل وبقي القدر الزائد نفعا خالصا، وإن كان الضرر راجحا بقي القدر الزائد ضررا خالصا وكان تركه نفعا خالصا، فبهذا الطريق صارت هذه الآية دالة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحل والحرمة إلا أن نجد نصا خاصا في الواقعة فنقضي به تقديما للخاص على العام. قال نفاة القياس: لو تعبدنا الله تعالى بالقياس لكان حكم ذلك القياس إما أن يكون موافقا لحكم هذا النص العام وحينئذ يكون ضائعا لأن هذا النص مستقل به، وإن كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 مخالفا كان ذلك القياس تخصيصا لعموم هذا النص فيكون مردودا لأن العمل بالنص أولى من العمل بالقياس، فإذن القرآن واف بجميع الأحكام الشرعية والله تعالى أعلم. ثم بيّن أن الزينة والطيبات خلقت في الحياة الدنيا لأجل المؤمنين بالأصالة وللكفرة بالتبعية كقوله: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [البقرة: 126] وأما في الآخرة فإنها خالصة لهم فقال: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً من قرأ بالرفع فلأنه خبر بعد خبر. قال أبو علي: أو على الخبر ولِلَّذِينَ آمَنُوا متعلق به والتقدير: هي خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا يَوْمَ الْقِيامَةِ وعلى هذا يكون فِي الْحَياةِ ظرفا ل آمَنُوا ويَوْمَ الْقِيامَةِ ظرفا ل خالِصَةً فيفهم من ذلك أنها في غير يوم القيامة غير خالصة لهم بل تكون مشوبة برحمة الكفار. وعلى الأول يكون فِي الْحَياةِ ظرفا لمحذوف أي هي للذين آمنوا غير خالصة في الحياة الدنيا وهي لهم خالصة يوم القيامة. ومن قرأ بالنصب فعلى الحال وباقي التقدير كما ذكرنا آنفا كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لقوم يمكنهم النظر والاستدلال حتى يتوصلوا به إلى تحصيل العلوم النظرية. ثم بين أصول الأفعال المحرمة وحصرها في ستة أنواع لأن الجناية إما على الفروج وأشار إليها بقوله: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وإما أن تكون على العقول وهي شرب الخمر وإليها الإشارة بقوله: وَالْإِثْمَ وقيل: الفواحش الكبائر والإثم الصغائر. وقيل: الفواحش كل ما تزايد قبحه وتبالغ، والإثم عام لكل ذنب كأنه خصص أوّلا ثم عمم. وإما أن تكون الجناية على النفوس والأموال والأعراض وإليهن الإشارة بقوله: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ومعنى بغير الحق أن لا يقدموا على إيذاء الناس بالقتل والقهر إلا أن يكون لهم فيه حق فحينئذ يخرج عن أن يكون بغيا، وإما أن تكون الجناية على الأديان إما بالطعن في التوحيد وإليه أشار بقوله: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي لا سلطان حتى ينزل وإما بالافتراء على الله وذلك قوله: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فإن قيل: الفاحشة وغيرها هي التي نهى الله تعالى عنها فيصير تقدير الآية إنما حرم ربي المحرمات وهذا كلام خال عن الفائدة. فالجواب أن كون الفعل فاحشة عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النهي عنه فيزول الإشكال. ثم شدد أمر التكاليف بالآجال المحدودة والأنفاس المعدودة فقال: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ عن ابن عباس والحسن ومقاتل: معناه أنه تعالى أمهل كل أمة كذبت رسولها إلى وقت معين لا يعذبهم قبل ذلك ولا يؤخرهم عنه والمقصود وعيد أهل مكة. وقيل: معناه أن أجل العمر لا يتقدم ولا يتأخر سواء الهالك والمقتول. وأورد على القول الأول أنه ليس لكل أمة من الأمم وقت معين في نزول عذاب الاستئصال. وعلى الثاني أنه كان ينبغي أن يقال: ولكل إنسان أو أحد أجل. ويمكن أن يقال: الأمة هي الجماعة في كل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 زمان والمعلوم من حالها التفاوت في الآجال فزال السؤال. وليس المراد أنه تعالى لا يقدر على تبقيته أزيد من ذلك ولا أنقص ولا يقدر على أن يميته إلا في ذلك الوقت لأن هذا يقتضي خروجه سبحانه وتعالى عن كونه قادرا مختارا أو صيرورته كالموجب لذاته، بل المراد أنه تعالى اختار أن الأمر يقع على هذا الوجه وإنما ذكر الساعة لأن هذا الجزء من الزمان أقل ما يستعمل في تقليل الأوقات عرفا. والساعة في اصطلاح أهل النجوم جزء من أربعة وعشرين جزءا من يوم بليلته. قيل: إن عند حضور الأجل يمتنع عقلا وقوع ذلك الأجل في الوقت المتقدم فما معنى قوله: وَلا يَسْتَقْدِمُونَ؟ وأجيب بأن مجيء الأجل محمول على قرب حضور الأجل كقول العرب: جاء الشتاء إذا قارب وقته ومع مقاربة الأجل يصح التقدم على ذلك الوقت تارة والتأخر عنه أخرى. التأويل: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً هو لباس الشريعة يُوارِي سوآت الأفعال القبيحة في الظاهر وسوآت الصفات الذميمة النفسانية والحيوانية بآداب الطريقة في الباطن وَرِيشاً زينة وجمالا في الظاهر والباطن وَلِباسُ التَّقْوى وهو لباس القلب والروح والسر والخفي. فلباس القلب من التقوى هو الصدق في طلب المولى فيواري به سوآت الطمع في الدنيا وما فيها، ولباس الروح من التقوى هو محبة المولى فيواري به سوآت التعلق بغير المولى، ولباس السر من التقوى هو رؤية المولى فيواري بها رؤية غير المولى، ولباس الخفي من التقوى بقاؤه بهوية المولى فيواري بها هوية غير المولى ذلِكَ خَيْرٌ لأن لباس البدن بالفتوى هو الشريعة ولباس القلب بالتقوى هو الحقيقة ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي إنزال الشريعة والحقيقة مما يدل على المولى. لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ بالدنيا وما فيها ومتابعة الهوى فيخرجكم عن جنة الصدق في طلب الحق كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وجوار الحق يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما من الشرع وذلك نهيهما عن شجرة المحبة لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما من مخالفة الحق وما علما أن فيها هذه الصفة، ومن جملة سوآتهما كل كمال ونقصان كان مستورا فيهما فأراهما بعد تناول الشجرة إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ يعني من الروحانيين الذين لا صورة لهم في الظاهر فإنهم يرون بنظر الملكوت الروحاني من الإنساني بعض الأفعال التي تتولد عن الأوصاف البشرية كما رأوا في آدم قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ أي إنما يرونكم من حيث البشرية التي منشؤها الصفات الحيوانية فإنكم محجوبون بهذه الصفات عن رؤيتهم لا من حيث الروحانية التي هي منشأ علوم الأسماء والمعرفة فإنهم لا يرونكم في هذا المقام، وأنتم ترونهم بالنظر الروحاني بل بالنور الرباني. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ خلقناهم مستعدين لتولية أمور أهل الغفلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 والطبيعة. وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً هي طلب الدنيا وحبها قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا على محبة الدنيا وشهواتها وَاللَّهُ أَمَرَنا بطلب الكسب الحلال قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وإنما يأمر بالكسب الحلال بقدر الحاجة الضرورية لقوام القالب بالقوت واللباس ليقوم بأداء حق العبودية وذلك قوله: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ كَما بَدَأَكُمْ لطفا أو قهرا تَعُودُونَ إليه. فأهل اللطف يعودون إليه بالإخلاص والطاعة وأهل القهر الذين حقت عليهم الضلالة يعودون إليه جبرا واضطرارا فيسحبون في النار على وجوههم خُذُوا زِينَتَكُمْ فزينة الظاهر التواضع والخضوع، وزينة الباطن الانكسار والخشوع، وزينة نفوس العابدين آثار السجود، وزينة قلوب العارفين أنوار الوجود فالعابد على الباب بنعت العبودية والعارف على البساط بحكم الحرية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا في مقام العندية كما قال: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «1» وَلا تُسْرِفُوا بالإفراط فوق الحاجة الضرورية والتفريط في حفظ القوة بحيث تضيع حقوق العبودية. زِينَةَ اللَّهِ فزين الأبدان بالشرائع وآثارها، وزين النفوس بالآداب وأقدارها، وزين القلوب بالشواهد وأنوارها، وزين الأرواح بالمعارف وأسرارها، وزين الأسرار بالطوالع وآثارها، فمن تصدّى لطلب هذه المقامات فهي مباحة له من غير تأخير وقصور وحظر ومنع وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ما لم يكن مشوبا بحظوظ النفس، فهذه الكرامات والمقامات لهؤلاء السادة في الدنيا مشوبة بشواهد الآفات النفسانية وكدورات الصفات الحيوانية خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ من هذه الآفات والكدورات كما قال: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الحجر: 47] الْفَواحِشَ ما يقطع على العبد طريق السلوك إلى الرب ففاحشة العوام ما ظَهَرَ مِنْها ارتكاب المناهي وَما بَطَنَ خطورها بالبال، وفاحشة الخواص ما ظَهَرَ مِنْها تتبع ما لأنفسهم نصيب منه ولو بذرة وَما بَطَنَ الصبر على المحبوب ولو بلحظة، وفاحشة الأخص ما ظَهَرَ مِنْها ترك أدب من الآداب أو التعلق بسبب من الأسباب وَما بَطَنَ الركون إلى شيء في الدارين والالتفات إلى غير الله من العالمين. وَالْإِثْمَ الإعراض عن الله ولو طرفة عين وَالْبَغْيَ وهو حب غير الله فإنه وضع في غير موضعه. وأن يستغيثوا بغير الله ما لم يكن فيه رخصة وحجة من الشريعة وَأَنْ تَقُولُوا بفتوى النفس وهواها أو بنظر العقل عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ حقيقتها أو تقولوا في معرفة الله وبيان أحوال السائرين ما لستم به عارفين وَلِكُلِّ أُمَّةٍ من السائرين إلى الله أو إلى   (1) رواه البخاري في كتاب الصوم باب 20، 48، 49. مسلم في كتاب الصيام حديث 57، 58. الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده (3/ 8) ، (6/ 126) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 الجنة مدة مضروبة في الأزل، وفيه وعد للأولياء واستمالة لقلوبهم ووعيد للأعداء وسياسة لنفوسهم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 43] يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) القراآت: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا كان يعقوب: إذا وقف على «إذا» يبتدىء تداركوا بالتاء. سهل: مخير، وكذلك قوله تعالى: قُلْتُمْ قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا وافق الكسائي في تثاقلتم أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ بالإمالة الشديدة: إبراهيم بن حماد وحمزة وعلي وخلف. وقرأ أبو عمر وغير إبراهيم بن حماد لِأُولاهُمْ بالإمالة اللطيفة أُخْراهُمْ بالإمالة الشديدة، وافق ورش من طريق النجاري والخزاز عن هبيرة في أُخْراهُمْ بالإمالة الشديدة فَآتِهِمْ بضم الهاء: رويس وكذلك كل كلمة سقطت الياء لعلة. إلا قوله: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ [الأنفال: 6] لا يعلمون بياء الغيبة: أبو بكر وحماد لا تُفَتَّحُ لَهُمْ بتاء التأنيث والتخفيف: أبو عمرو. وقرأ حمزة وعلي وخلف بفتح ياء تحتانية وبالتخفيف. الباقون بتاء التأنيث والتشديد. غواشي بالياء في الوقف: يعقوب وكذلك كل كلمة سقطت الياء لأجل التنوين أو لاجتماع الساكنين وهو مذهب سهل من طريق ابن دريد، ما كُنَّا بغير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 واو العطف: ابن عامر. الآخرون بالواو. أُورِثْتُمُوها وبابه بإدغام الثاء: أبو عمرو وحمزة وعلي وهشام. الوقوف: آياتِي لا لأن الفاء بعده لجواب الشرط وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ هـ النَّارِ ط خالِدُونَ هـ بِآياتِهِ ط مِنَ الْكِتابِ ط يَتَوَفَّوْنَهُمْ لا لأن ما بعده جواب «إذا» . مِنْ دُونِ اللَّهِ ط كافِرِينَ هـ فِي النَّارِ ط أُخْتَها ط جَمِيعاً لا لما قلنا. مِنَ النَّارِ ط لا يعلمون هـ يكسبون هـ الْخِياطِ ط الْمُجْرِمِينَ هـ غَواشٍ ج الظَّالِمِينَ هـ وُسْعَها ط وجعل أُولئِكَ خبرا للموصول أوجه بناء على أن قوله: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها معترضة الْجَنَّةِ ط خالِدُونَ هـ الْأَنْهارُ ط للعطف مع العارض. هَدانَا اللَّهُ ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى بِالْحَقِّ ط لابتداء النداء بأنها جزاء بعد انتهاء الحمد والثناء على أنها عطاء تَعْمَلُونَ هـ. التفسير: لما بيّن أحوال التكليف وأن لكل أحد أجلا معينا لا يتقدم ولا يتأخر بيّن أنهم بعد الموت إن كانوا قد قبلوا الشرائع الحقة فلا خوف عليهم ولا حزن، وإن كانوا متمردين وقعوا في أشد العذاب فقال: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ وإعرابه مثل ما مر في سورة البقرة فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً [الآية: 38] والراجع محذوف أي فمن اتقى وأصلح منكم والذين كذبوا منكم. وإنما قال: رُسُلٌ مِنْكُمْ لأن ذلك يكون أقطع لعذرهم وأقرب إلى الفهم والأنس. ومعنى آياتي أحكامي وشرائعي الدالة على صحة المبدأ والمعاد. ثم قطع شأن الجاحدين بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ والأول الحكم بوجود ما لم يوجد كأقوال أصناف المشركين وطوائف المبتدعة. والثاني إنكار حكم وجد من نبي أو كتاب. ثم أخبر عن عاقبة أمرهم فقال أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ قيل: أي العذاب المعين من سواد الوجه وزرقة العين. وقال الزجاج: أي أنواع البلايا المعدة لكل صنف منهم من السلاسل والأغلال وغيرها على مقدار ذنوبهم، وقيل: هم اليهود والنصارى يجب علينا إذا كانوا في ذمتنا أن ننصفهم ولا نتعدى عليهم وأن نذب عنهم فذلك معنى النصيب. وعن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير أن النصيب هو ما سبق لهم في حكم الله تعالى ومشيئته من الشقاوة والسعادة والختم على الكفر والشرك، أو على الإيمان والتوحيد. وقال الربيع وابن زيد: يعني ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار كأنه سبحانه بيّن أنهم وإن بلغوا في الكفر ذلك المبلغ العظيم إلا أن ذلك ليس بمانع من أن ينالهم ما قدر لهم من رزق وعمر تفضلا من الله تعالى لكي يصلحوا ويتوبوا ويؤكد هذا التفسير قوله عقيب ذلك حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ وذلك أن «حتى» هي التي يبتدأ بعدها الكلام وأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 هاهنا جملة شرطية فدل على أن مجيء الرسل المتوفين كالغاية، فحصول ذلك النصيب يكون مقدما على حصول الوفاة وليس ذلك إلا العمر والرزق. ومحل يَتَوَفَّوْنَهُمْ نصب على الحال من الرسل. قال ابن عباس: هم ملك الموت وأعوانه وإنهم يطالبون الكفار بهذه الأشياء عند الموت على سبيل الزجر والتوبيخ. وقال الحسن والزجاج: إن هذا يكون في الآخرة والرسل ملائكة العذاب يتوفون عدّتهم عند حشرهم إلى النار أي يستكملون عدّتهم حتى لا ينفلت منهم أحد. قال في الكشاف: «ما» وقعت موصولة بأين في خط المصحف قلت: وإني رأيت النقل على العكس كما ذكرته في المقدمة السابقة من مقدمات الكتاب، ومعنى الآية أين الآلهة التي تدعون أي تعبدونهم وتدعونهم في الشدائد قالُوا على سبيل الاعتراف والعود إلى الإنصاف ضَلُّوا عَنَّا أي غابوا وذهبوا ولم ننتفع بهم وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بالاعتراف أو بشهادة الجوارح عند معاينة الموت أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ثم شرح بقية أحوال الكفار وذلك قوله: قالَ أي الله. وعن مقاتل هو من كلام خازن النار. وهذا مبني على أنه سبحانه لا يجوز أن يكلم الكفار وإن كان كلام سخط ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قيل: أي ادخلوا في النار مع أمم والأولى أن لا يلتزم الإضمار والمجاز. والمعنى ادخلوا كائنين في جملة أمم تقدم زمانهم زمانكم في النار. وفيه دليل على أن أصحاب النار لا يدخلون النار دفعة واحدة ولكن فيهم سابق ومسبوق كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها في الدين والعقيدة. فالمشرك يلعن المشرك، واليهودي يلعن اليهودي، والنصراني يلعن النصراني، وكذا المجوس وسائر أديان الضلالة وإذا لعنت نظيرها فلأن تلعن غيرها أولى حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها أي تداركوا بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار وأدرك بعضهم بعضا واستقر معه قالَتْ أُخْراهُمْ أي آخرتهم دخولا في النار لِأُولاهُمْ دخولا فيها أو أتباعهم وسفلتهم لرؤسائهم وقادتهم والمعنيان متلازمان عندي لأن المضل لا بد وأن يكون مقدما على الضال في دخول النار. واللام بمعنى التعليل أي لأجل أولاهم وذلك لأن خطابهم مع الله لا معهم رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ الفاء للجزاء عَذاباً ضِعْفاً أي مضاعفا وذلك عذاب الضلال وعذاب الإضلال بالدعوة إلى الباطل وتزيينه في أعينهم والسعي في إخفاء الدلائل. قال أبو عبيدة: الضعف مثل الشيء مرة واحدة وهو قول الشافعي في رجل أوصى فقال: أعطوا فلانا ضعف نصيب ولدي يعطى مثل نصيبه مرتين. وقال الأزهري: العرب تريد بالضعف المثل إلى ما زاد وليس بمقصور على المثلين بدليل قوله عز من قائل: فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا [سبأ: 37] وأقل ذلك عشرة لقوله: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: 160] وإنما قال الشافعي ما قال لأن ذلك متقن وما فوقه مشكوك قالَ أي الله أو خازن النار لِكُلٍّ من القادة والأتباع ضِعْفٌ أما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 للقادة فلما قلنا، وأما للأتباع فلأنهم عظموهم وقلدوهم وروّجوا أمرهم. سئل هاهنا إن تضعيف العذاب للشخص الذي يستحق العذاب ظلم وأجيب في التفسير الكبير بأن عذاب الكفار مؤبد فكل ألم يحصل فإنه يعقبه حصول ألم آخر إلى غير النهاية. قلت: وهذا لا يختص بصنف من الكفار دون صنف ولا بشخص دون شخص فلا يصلح للجواب. والصواب أن يقال: معنى تضعيف عذاب التابع والمتبوع أن ذلك العذاب زائد على مقدار ما تستحقه تلك العقيدة لو حصلت لا من حيثية التابعية والمتبوعية والله أعلم وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ من قرأه على الغيبة فمعناه لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر لأن الاسم الظاهر يعود الضمير إليه على الغيبة، ومن قرأ على الخطاب فالمعنى لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل منكم من العذاب أو لا تعلمون يا أهل الدنيا ما مقدار ذلك. وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ إذ قد حكم الله بأن لكل منا ضعفا فَما كانَ أي فما ثبت لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ لأنكم مؤاخذون بالاتباع كما نحن مؤاخذون بالاستتباع فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يحتمل أن يكون من قول القادة وأن يكون من قول الله تعالى فيهم. قال في التفسير الكبير: قول القادة ليس لكم علينا فضل كذب لأن الرؤساء لهم عذاب الضلال وعذاب الإضلال والاتباع لهم عذاب الضلال فقط لكنه حكاية قول الكفار يوم القيامة والكذب عليهم جائز عندنا كقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] قلت: إن سلمنا أن الكذب يجوز أن يصدر عنهم يوم القيامة إلا أن هذا الكلام لا يجوز أن يكون كاذبا لأنهم بنوا كلامهم على حكم الله سبحانه بأن لكل ضعفا. ثم ذكر ما يدل على خلودهم في النار فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وهي الدلائل الدالة على الذات والصفات والنبوات والمعاد وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي ترفعوا عن قبولها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ قال ابن عباس: أي لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله تعالى من قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] ومن قوله: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18] وقال السدي وغيره: لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء التي هي موضع بهجة الأرواح وأماكن سعاداتها كما جاء في الحديث «إن روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال مرحبا بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب ويقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة. ويستفتح لروح الكافر فيقال لها ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء» «1» وقيل: بناء على أن الجنة في السماء معناه ولا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء ولا تطرّق لهم إليها حتى يدخلوا   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الزهد باب 31. أحمد في مسنده (2/ 364) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 الجنة. وقيل: أي لا تنزل عليهم البركة والخير من قوله تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ [القمر: 11] وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ الولوج الدخول. وسئل ابن مسعود عن الجمل فقال: زوج الناقة استجهالا للسائل وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف. والسم بالحركات الثلاثة وقد قرىء بها ثقب الإبرة وكل ثقب في البدن لطيف ومنه السم القاتل لنفوذه بلطفه في مسام البدن حتى يصل إلى القلب. والخياط ما يخاط به قال الفراء: خياط ومخيط كإزار ومئزر ولحاف وملحف وقناع ومقنع. ولما كان جسم الجمل من أعظم الأجسام المشهورة عند العرب كما قال: لا عيب بالقوم من طول ومن عظم ... جسم الجمال وأحلام العصافير وكان سم الإبرة مثلا في ضيق المسلك حتى قيل: أضيق من خرت الإبرة. وقالوا للدليل الماهر خريت لاهتدائه في المضايق المشبهة بأخرات الإبر، وقف الله تعالى دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط المحال ليلزم يأسهم من دخول الجنة قطعا فإن الموقوف على المحال محال ومثله قول العرب: «لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ويبيض القار» ، وقرىء الجمل بوزن القمل وكذا الجمل بوزن الحبل وبمعناه لأنه حبل ضخم من ليف أو خوص من آلات السفن. واختار ابن عباس هذا التفسير قائلا: إن الله تعالى أحسن تشبيها من أن يشبه بالجمل يعني أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة والبعير لا يناسبه. وأهل التناسخ أوّلوا الآية بأن الأرواح التي كانت في الأبدان البشرية لمّا عصت وأذنبت فإنها بعد موت الأبدان ترد من بدن إلى بدن ولا تزال تبقى في التعذيب حتى تنتقل من بدن الجمل إلى بدن الذرة فتنفذ في سم الخياط، وحينئذ تصير مطهرة عن تلك الذنوب فتدخل الجنة وتصل إلى السعادة وَكَذلِكَ ومثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ قيل: هم الكافرون المكذبون المستكبرون المار ذكرهم، وقيل: يدخل فيه الفساق بشرط عدم التوبة عند المعتزلة، وبشرط عدم العفو عند الأشاعرة. ثم لما بين أنهم لا يدخلون الجنة ذكر أنهم يدخلون النار فقال: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ أي فراش وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ هي جمع غاشية وهي كل ما يغشاك أي يجللك، والمراد الإخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب فلهم منها غطاء ووطاء وفراش ولحاف. والتنوين في غَواشٍ مثله في «جوار» أعني أنه للتمكن عند بعض لأنه بعد حذف يائه لم يبق على زنة مساجد، وللعوض عند بعض، إما عن الياء أو عن إسكان الياء وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ هم المشركون أو الفسقة الذين ظلموا أنفسهم. ثم عقب الوعيد بالوعد فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية. وقوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وقد مر تفسيره في آخر سورة البقرة اعتراض بين المبتدأ وخبره وليس بأجنبي وإلا لم يحسن. وفيه تنبيه للمقصرين على أن الجنة مع عظم قدرها تحصل بالعمل السهل من غير ما حرج وصعوبة فبعدا لمن فاتته وسحقا لمن فارقته. ومن جعله خبرا فالعائد محذوف أي لا نكلف نفسا منهم. ثم وصف أخلاق أهل الجنة فقال: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ نزع الشيء قلعه من مكانه، والغل الحقد والتركيب يدور على الإخفاء ومنه الغلول كما مر في تفسير قوله: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران: 161] وللآية تفسيران: الأول أزلنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا بتصفية الطباع وإسقاط الوسواس ومنعه من أن يرد على القلوب فإن الشيطان مشغول بالعذاب فلا يتفرغ لإلقاء الوسواس فلم يكن بينهم إلا التوادد والتعاطف. عن علي كرم الله وجهه أني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم. الثاني: أن درجات أهل الجنة متفاوتة بحسب الكمال والنقص، فالله تعالى أزال الحسد عن قلوبهم حتى إن صاحب الدرجة الناقصة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة فيكون هذا في مقابلة ما ذكره الله تعالى من تبري بعض أهل النار من بعض ولعن بعضهم بعضا وليس هذا ببديع ولا بعيد من حال أهل الجنة، فإن أولياء الله تعالى في دار الدنيا أيضا بهذه المثابة بحسن توفيق الله تعالى ونور عنايته وهدايته كل منهم قد قنع بما حصل له من نعيم الدنيا وطيباتها لا يميل طبعه إلى زوجة لغيره أحسن من زوجته ولا إلى مشتهى ألذ مما رزقه الله، وكل هذا نتيجة ملكة الرضا بالقضاء والتسليم لأمر رب الأرض والسماء، فيموتون كذلك ويحشرون على ذلك وفقنا الله لنيل هذا المقام ببركة أولئك الكرام تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وهذه من جملة أسباب التنزه والترفه أن أجرى على ظاهره، ومن جملة السعادات الروحانية أن أريد بها أنواع المكاشفات وأصناف التجليات وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا النعيم المقيم والفوز العظيم بأن يسر الأسباب وخلق الدواعي ومنع الصوارف، أو بأن أعطى العقل ونصب الأدلة وأزاح العلة وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ من قرأ بواو العطف فظاهر، ومن خذف الواو فلأنها جملة يقرب معناها من معنى الأولى وكأنها تفسرها فلا حاجة إلى العطف المؤذن بالتغاير. ثم حكى عنهم سبب الاهتداء وذلك قوله: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فجعله واسطة لهدايتنا أو لطفا وتنبيها يقولون ذلك فيما بينهم سرورا واغتباطا بما نالوا وتلذذا بالتكلم به لا تقربا وتعبدا فإن الجنة ليست دار التكليف وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ بأنه تلكم الْجَنَّةُ والضمير للشأن والحديث ويجوز كونه بمعنى أي لأن النداء في معنى القول. وإنما قيل: تِلْكُمُ لأنهم وعدوا بها في الدنيا وكأنه قيل لهم هذه تلكم التي وعدتم بها، ويجوز أن يكون التبعيد للتعظيم. ومعنى أُورِثْتُمُوها صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله. قد يستعمل الإرث ولا يراد به زوال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 الملك عن الميت إلى الحي كما يقال هذا الفعل يورثك الشرف أو العار. وقيل: أعطوا تلك المنازل من غير تعب في الحال فصار شبيها بالميراث. وقيل: إن أهل الجنة يرثون منازل أهل النار لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: «ليس من مؤمن ولا كافر إلا له في الجنة والنار منزل فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ثم يقال يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنة منازلهم» قالت المعتزلة قوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يدل على أن الموجب للجزاء هو العمل لا التفضل. وقال غيرهم: لما كان الموفق للعمل الصالح هو الله تعالى كان دخول الجنة بفضله. وجعل العمل أمارة على ذلك والمنادي هو الله جل وعلا أو الملك الموكل بذلك والله تعالى أعلم. التأويل: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ الهامات من أنفسكم من طريق قلوبكم وأسراركم وفيه أن بني آدم كلهم مستعدون لإشارات الحق وإلهاماته. افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن يقول أكرمني الله بالكرامات والمقامات ولم يعط أَوْ كَذَّبَ بمقامات أعطاها بعض أوليائه أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ من الشقاء الذي كتب لهم حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رسل الإلهامات الإلهية والواردات الربانية بعد أن كان هائما في تيه البشرية يَتَوَفَّوْنَهُمْ بجذبات الألطاف الإلهية عن الأوصاف البشرية قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الدنيا وشهواتها وَشَهِدُوا هؤلاء المجرمون المحرومون أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ساترين الحق بالباطل فهداهم الله تعالى. ثم قال لأهل الخذلان ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ وقدم الجن لأن الله تعالى خلق أولا بني الجان منهم مؤمن ومنهم كافر، فلما استولى أهل الكفر منهم بعث إليهم جندا من الملائكة- وقيل رئيسهم إبليس- فاستأصلوهم ثم خلق آدم وذريته منهم مؤمن ومنهم كافر. كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ في أعمال أهل النار لَعَنَتْ أُخْتَها المتقدمة في تلك الأعمال لأنهم سنوها حَتَّى إِذَا تدارك الكل في الأعمال الموجبة للنار. عَذاباً ضِعْفاً لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لِكُلٍّ ضِعْفٌ لأن المتأخر أيضا متقدم الذي يتلوه ويستن بسنته وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ أنكم متقدمون لمتأخريكم فما كان لكم علينا من فضل لأنكم سننتم لمتأخريكم كما سننا لكم لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ سماء القلوب إلى الحضرة وَلا يَدْخُلُونَ جنة القربة والوصلة حتى يدخل جمل النفس المتكبرة في سم خياط أحكام الشريعة وآداب الطريقة، وحتى تصير بالتربية في إزالة الصفات الذميمة وقطع تعلقات ما سوى الله أدق من الشعرة بألف مرة فيلج في سم خياط الفناء فيدخل جنة البقاء وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ الذين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 صارت أنفسهم في حمل الأوزار كالجمل لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ المجاهدة والرياضة فراش ومن فوقهم من مخالفات النفس قمع الهوى لحاف فتذهبهم وتحرق أنانيتهم. لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فيرفع عن ظاهرهم وباطنهم كلفة الإيمان والعمل حتى تيسر عليهم العبودية بحسن التوفيق. [سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 53] وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) القراآت: نَعَمْ بكسر العين حيث كان: علي. الباقون بالفتح مُؤَذِّنٌ بغير همز: النجاري عن روش ويزيد والشموني وحمزة في الوقف. أَنْ مخففة لَعْنَةُ اللَّهِ بالرفع: عاصم وأبو عمرو وأبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل. الباقون: مشددة وبالنصب. الوقوف: حَقًّا ج لانتهاء الاستفهام. نَعَمْ ج للعطف مع الابتداء بالتأذين. عَلَى الظَّالِمِينَ هـ لا لأن «الذين» صفتهم عِوَجاً ج لاحتمال الواو الاستئناف أو الحال كافِرُونَ هـ لأن ما بعده لم يدخل في التأذين ولم يجز أن يكون حالا حِجابٌ ج لتناهي حال الفئتين واتفاق الجملتين بِسِيماهُمْ ط يَطْمَعُونَ هـ أَصْحابِ النَّارِ لا لأن ما بعده جواب «إذا» الظَّالِمِينَ هـ تَسْتَكْبِرُونَ هـ بِرَحْمَةٍ ط لتناهي الاستفهام والأقسام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 تَحْزَنُونَ هـ رَزَقَكُمُ اللَّهُ ط الْكافِرِينَ هـ الْحَياةُ الدُّنْيا ج للابتداء مع فاء التعقيب هذا لا «وما» مصدرية كما في كَما نَسُوا والتقدير ننساهم كنسيانهم وجحودهم يَجْحَدُونَ هـ يُؤْمِنُونَ هـ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ط بِالْحَقِّ ج لابتداء الاستفهام مع الفاء للتعقيب كُنَّا نَعْمَلُ ط يَفْتَرُونَ هـ. التفسير: ولما شرح وعيد الكفار وثواب الأبرار أتبعه المناظرات التي تدور بين الفريقين فقال: وَنادى وإنما ذكره بلفظ الماضي لأن المستقبل الذي يخبر الله تعالى عنه من حيث تحقق وقوعه كالماضي. والظاهر أن هذا النداء إنما يكون بعد الاستقرار في الجنة لأنه ورد بعد قوله: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها قيل: الجنة في أعلى السموات والنار في أسفل الأرض. ومع هذا البعد الشديد كيف يصح هذا النداء؟ وأجيب بأن البعد الشديد والقرب القريب عندنا ليس من موانع الإدراك، ولو سلم المنع في الشاهد فلا يسلم في الغائب. وهذا النداء يقع من كل أهل الجنة لكل أهل النار لأن أصحاب الجنة وأصحاب النار يفيد العموم لكن الجمع إذا قرن بالجمع يوزع الفرد على الفرد، فكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار. و «أن» في أَنْ قَدْ وَجَدْنا مفسرة أو مخففة من الثقيلة كما مر في قوله: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ [الأعراف: 43] وكذا قوله: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ لأن النداء والتأذين في معنى القول. قال ابن عباس: وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا في الدنيا من الثواب حَقًّا صحيحا مطابقا للواقع فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العقاب حَقًّا والغرض من هذا الاستفهام إظهار الشاشة والاغتباط وإيقاع الحزن في قلب العدو، وفي هذه الحكاية لطف للمؤمنين وترغيب كما في سائر الأخبار. وإنما حذف المفعول في وَعَدَ رَبُّكُمْ لدلالة المفعول في وَعَدَنا عليه، ولأن كونهم مخاطبين من قبل الله تعالى بهذا الوعد يوجب مزيد التشريف وأنه لا يليق إلا بحال المؤمنين ويحتمل أن يكون الإطلاق ليتناول كل ما وعد الله من البعث والحساب والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة قالُوا نَعَمْ قال سيبويه: نعم عدة وتصديق أي تستعمل تارة عدة وتارة تصديقا. فإذا قال: أتعطيني؟ قال: نعم، فهو عدة. وإذا قال: قد كان كذا وكذا فقلت: نعم فقد صدقت. والحاصل أن نعم للتصديق في الخبر والتحقيق في الاستفهام مثبتين كانا أو منفيين. فلو قيل: قام زيد أو أقام زيد فتقول: نعم. كان معناه نعم قام زيد مصدقا أو محققا ولو قيل: ما قام زيد أو ألم يقم زيد فقلت: نعم. كان المعنى ما قام زيد مصدقا أو محققا. ومن ثم قال ابن عباس: لو قالوا في جواب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] «نعم» لكان كفرا. هذا من حيث اللغة وقد يكون العرف على خلاف ذلك كقول الفقهاء: لو قيل أليس لي عليك دينار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 فقلت: نعم التزمت بالدينار بناء على العرف الطارئ بعد الوضع. وكنانة تكسر العين من نعم. وروي عن عمر أنه سأل قوما عن شيء فقالوا: نعم فقال عمر: أما النعم فالإبل وقولوا نعم وأنكر هذه الرواية أبو عبيد فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ قال ابن عباس: هو الملك صاحب الصور يأمره الله فينادي نداء يسمع أهل الجنة وأهل النار. ومعنى التأذين النداء والتصويت للإعلام ومنه الأذان لأنه إعلام بالصلاة وبوقتها. والظالمون في الآية قيل: عام للكافر والفاسق والظاهر أنهم الكفار لأن الصد عن سبيل الله أي المنع عن قبول الدين الحق بالقهر أو بالحيلة وإلقاء الشكوك والشبهات في الدلائل وهو المراد بقوله: وَيَبْغُونَها عِوَجاً وقد مر في آل عمران. والكفر بالآخرة كلها من أوصاف الكفرة وإنما قدم بالآخرة تصحيحا لفواصل الآي ولم يزد لفظة هم هنا على القياس. وأما في سورة هود فلما تقدم هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ وقال: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الآية: 18] ولم يقل «عليهم» والقياس ذلك التبس أنهم هم أم غيرهم فكرر ليعلم أنهم هم المذكورون لا غيرهم. ثم وصف أهل الجنة والنار فقال: وَبَيْنَهُما يعني بين الجنة والنار أو بين الفريقين حِجابٌ وهو السور المذكور في قوله سبحانه: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ [الحديد: 13] قيل: أي حاجة إلى ضرب هذا السور والجنة فوق السموات والجحيم في أسفل سافلين. وأجيب بأن بعد أحدهما عن الآخر لا يمنع أن يكون بينهما سور وحجاب. والأعراف لغة جمع عرف بالضم وهو الرمل المرتفع ومنه عرف الفرس وعرف الديك، وكل مرتفع من الأرض عرف لأنه بسبب ارتفاعه يصير أعرف مما انخفض منه. الأعراف في الآية يفسر بالمكان تارة وبغيره أخرى. أما الذين فسروه بالمكان وهم الأكثرون فقال: إن الأعراف أعلى أعالي السور المضروب بين الجنة والنار ويروى عن ابن عباس. وعنه أيضا أن الأعراف شرف الصراط وعلى هذا التفسير فالذين هم على الأعراف من هم فيه قولان: أحدهما أنهم أقوام يكونون في الدرجة العليا من الثواب. وثانيهما: أنهم في الدرجة النازلة. وعلى الأول فيه وجوه: فقال أبو مجلز: هم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار. فقيل له: يقول الله تعالى: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ وأنت تقول: إنهم ملائكة. فقال: الملائكة ذكور لا إناث. ويرد عليه أن الرجل لغة يطلق على من يصلح أن يكون من نوعه أنثى بل يطلق على الذكر من بني آدم. وقيل: إنهم الأنبياء عليهم السلام أجلسهم الله تعالى على ذلك المكان العالي إظهارا لشرفهم وليكونوا مشرفين على الفريقين مطلعين على أحوالهم ومقادير ثوابهم وعقابهم. وقيل: إنهم الشهداء. وعلى القول الثاني قيل: إنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم أوقفهم الله على هذه الأعراف لأنها درجة متوسطة بين الجنة والنار. ثم تؤل عاقبة أمرهم إلى الجنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 برحمة من الله وفضل قاله حذيفة وابن مسعود واختاره الفراء. وخصصه بعضهم فقال: هم قوم خرجوا إلى الغزو بغير إذن أمهاتهم فاستشهدوا فساوت معصيتهم طاعتهم وفي هذا التخصيص نظر. وقال عبد الله بن الحرث: إنهم مساكين أهل الجنة. وقال قوم: هم الفساق من أهل الصلاة يعفو الله عنهم ويسكنهم الأعراف. وأما الذين فسروه بغير المكان وهو قول الحسن والزجاج فقد قالوا: إن المعنى وعلى معرفة أهل الجنة والنار رجال يميزون البعض من البعض إما بالإلهام أو بتعريف الملائكة. قال الحسن: والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا. وعلى جميع التفاسير فهم يعرفون أهل الجنة وأهل النار. قال قوم: يعرفون أهل الجنة بكون وجوههم ضاحكة مستبشرة مبيضة، وأهل النار بسواد وجوههم وزرقة عيونهم. وزيف بأن هذا النوع من المعرفة عام لأهل المحشر فلا وجه لتخصيص أصحاب الأعراف بذلك. ويمكن أن يقال: إن معرفتهم لكونهم على الأمكنة المرتفعة آمنين. وقال المحققون: إنهم كانوا يعرفون أهل الخير والإيمان والصلاة وأهل الشر والكفر والإفساد وهم كانوا في الدنيا شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة وعلى أهل الكفر والمعصية، فهو تعالى يجلسهم على الأعراف ليكونوا مطلعين على الكل يشهدون على كل أحد بما يليق به. ثم قال: وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي إنهم إذا نظروا إلى الجنة سلموا على أهلها. ثم أخبر على سبيل الاستئناف أن أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة وَهُمْ يَطْمَعُونَ كأن سائلا سأل عن حالهم أو على أنه صفة أخرى لرجال. فإن قلنا: إن أصحاب الأعراف هم الأشراف فيكون الله تعالى أخر إدخالهم الجنة ليطلعوا على أحوال أهل الجنة والنار، ثم إنه تعالى ينقلهم إلى الدرجات العلا في الجنة كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «ان أهل الدرجات العلا ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدريّ في وسط السماء وإن أبا بكر وعمر منهم» ومعنى يطمعون على هذا يتيقنون كقول إبراهيم: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: 82] ولا يخفى ما في هذه العبارة من حسن الأدب. وإن قلنا أصحاب الأعراف هم الأوساط فلا إشكال لأنهم يطمعون من فضل الله وإحسانه أن ينقلهم من ذلك الموضع إلى الجنة وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قال الواحدي: التلقاء جهة اللقاء وهي جهة المقابلة وهو في الأصل مصدر استعمل ظرفا. ولم يأت من المصادر على «تفعال» بالكسر إلا حرفان «تبيان» و «تلقاء» وإنه في الاسم كثير كتمثال وتقصار، والمعنى أنه كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى أن لا يجعلهم من زمرتهم. وفي بناء الفعل للمفعول وإن لم يقل وإذا أبصروا فائدة هي أن صارفا يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا ويوبخوا. ثم بين أن أصحاب الأعراف ينادون رجالا من أكابر أهل النار واستغنى عن التصريح بهم بوصفهم بما لا يليق إلا بهم فقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ المال أو كثرتكم واجتماعكم وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عن الحق وعلى الناس، وفيه تبكيت للمخاطبين وشماتة بهم، ثم زادوا في التبكيت مشيرين إلى فريق من أهل الجنة كانوا يستضعفونهم ويستقلون أحوالهم، وربما استهزؤا بهم وأنفوا من مشاركتهم في دينهم لقلة حظوظهم من الدنيا فقالوا: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ أما قوله: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ إلى آخر الآية. فمن قول الله تعالى لأصحاب الأعراف، أو من قول الملائكة لهم بأمره، أو من قول بعضهم لبعض وذلك بعد أن يحبسوا ويجلسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين ويقولوا. قال المفسرون: الرجال هاهنا الوليد بن المغيرة وأبو جهل ابن هشام والعاص بن وائل السهمي ونظراؤهم. وكانوا يقولون إن بلالا وسلمان وعمارا وأمثالهم يدخلهم الله الجنة ويدخلنا النار كلا والله إن الله لا يفضل علينا خدمنا ورعاتنا، أقسموا أن لا يخصهم بفضل دونهم فناداهم أصحاب الأعراف. ثم ختم المناظرات بقوله: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ قال ابن عباس: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بفرج بعد اليأس فقالوا: ربنا إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فأمر الله بالجنة فزخرفت ثم نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم، ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم قد اسودت وجوههم وصاروا خلقا آخر، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وقالوا: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ طلبوا الماء أوّلا لما في بواطنهم من الاحتراق الشديد. وفي الإفاضة نوع دلالة على أن أهل الجنة أعلى مكانا من أهل النار. قال بعض العلماء: إنهم سألوا ذلك مع جواز الحصول. وقال آخرون: بل مع اليأس لأنهم عرفوا دوام عقابهم ولكن الآيس من الشيء قد يطلبه كما يقال في المثل: الغريق يتعلق بالزبد. وإن علم أنه لا يغنيه. قوله: أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قيل: أي سائر الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة. وقيل: أي من الثمار أو الطعام. والمراد: وألقوا علينا من الطعام والفاكهة كقوله: علفتها تبنا وماء باردا فيكون في الآية دليل على نهاية عطشهم وشدّة جوعهم. ثم كأن سائلا سأل فبماذا أجابهم أهل الجنة؟ فقيل: قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ أي منعهم شراب الجنة وطعامها كما يمنع المكلف ما يحرم عليه وهذه نهاية الحسرة والخيبة أعاذنا الله منها. ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 وصف هؤلاء الكافرين بأنهم الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ وقد مر تفسير الوصفين في أوسط سورة الأنعام. وقال ابن عباس: يريد المستهزئين المقتسمين، وجملة الأمر أن الإنسان يطمع في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال وقوة الجاه فلشدة رغبته في هذه الأشياء يصير محجوبا عن طلب الدين غريقا في بحر الدنيا ومشتهياتها. ثم ذكر جزاءهم يوم القيامة على سبيل الحكاية فقال: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ أي نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا قاله الحسن ومجاهد والسدي والأكثرون، وقيل: أي نعاملهم معاملة من نسي بتركهم في النار كما فعلوا هم في الإعراض عن آياتنا، فسمي جزاء النسيان نسيانا كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ [الشورى: 40] والحاصل أنه لا يجيب دعائهم ولا يرحم ضعفهم وذلهم. عن أبي الدرداء أن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم فيستغيثون فيغاثون بالضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة، ثم يذكرون الشراب فيستغيثون إلى أهل الجنة كما في هذه الآية فتقول أهل الجنة إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ، ويقولون لمالك ليقض علينا ربك فيجيبهم على ما قيل بعد ألف عام إنكم ماكثون، ويقولون ربنا أخرجنا منها فيجيبهم اخسؤا فيها ولا تكلمون، فعند ذلك ييأسون من كل خير ويأخذون في زفير وشهيق. وعن ابن عباس في صفة أهل الجنة: إنهم يرون الله عز وجل في كل جمعة، ولمنزل كل واحد منهم ألف باب فإذا رأوا الله تعالى دخل من كل باب ملك معهم الهدايا الشريفة. وقال: إن نخل الجنة خشبها الزمرد وقوائمها الذهب الأحمر وسعفها حلل وكسوة لأهل الجنة وثمرتها أمثال القلال أشد بياضا من الفضة وألين من الزبد وأحلى من العسل لا عجم فيها. فهذه صفة الفريقين من القرآن والحديث فتأهب لأيهما شئت والله الموفق. ولما شرح الله تعالى حال الطائفتين والمناظرات الجارية بينهم لتكون حاملا للمكلف على الحذر من مواجب النار وعلى الرغبة في مستتبعات الجنة بيّن شرف هذا الكتاب الكريم وغاية منافعه الجليلة فقال: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ ميزنا بعضه عن بعض تمييزا يهدي إلى الرشاد ويؤمن من الغلط والتخليط. وإنما فعلنا ذلك لا كيفما اتفق بل عَلى عِلْمٍ بما في كل فصل من تلك الفصول من الفوائد الكثيرة والمنافع الغزيرة حتى جاء بريئا من كل خلل وقدح ومعجزا باقيا على وجه الدهر. وقوله: وهُدىً وَرَحْمَةً حالان من منصوب فَصَّلْناهُ كما أن عَلى عِلْمٍ حال من مرفوعه. ويحتمل أن يكونا مفعولا لهما لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأن فائدته تعود إليهم، ثم لما بيّن إزاحة العلة بسبب إنزال هذا الكتاب المفصل الموجب للهداية والرحمة بين بعده حال من كذب به فقال: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ والنظر هاهنا بمعنى الانتظار والتوقع، وكيف ينتظرون مع جحدهم وإنكارهم؟ الجواب لعل فيهم أقواما تشككوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 وتوقفوا ولهذا السبب انتظروه. وأيضا إنهم كانوا جاحدين إلا أنهم بمنزلة المنتظرين من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة. قال الفراء: الضمير في تأويله للكتاب أي إلا عاقبة أمره وما يؤل إليه من بيان صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد، أو عاقبة ما وعدوا به على ألسنة الرسل من الثواب والعقاب، والتأويل مرجع الشيء ومصيره من قولهم آل الشيء يؤل يَوْمَ يَأْتِي يريد يوم القيامة وانتصابه على أنه ظرف يَقُولُ ومعنى: نَسُوهُ تركوا العمل به والإيمان أو أنهم صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نسيه قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي متلبسين بما هو الحق، أو الباء للتعدية والمراد اعترافهم بثبوت الحشر والنشر وأحوال القيامة وأهوالها إذا عاينوها فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا منصوب بإضمار «أن» بعد الفاء والتقدير: هل يثبت لنا شفيع فيشفع أَوْ هل نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فنوحد الله تعالى بدلا عن الشرك ونطيعه بدلا عن المعصية. وفيه دليل على أن أهل الآخرة لا تكليف لهم خلافا للنجار ومن تبعه وإلا لم يسألوا الرد إلى دار التكليف ولم يتمنوه بل كانوا يتوبون في الحال. ثم حكم بأن ذلك التمني لا يفيدهم شيئا وأن مطلوبهم لا يكون البتة فقال: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي لا ينتفعون بالأصنام التي عبدوها في الدنيا وليس تفيدهم نصرة الأوثان التي بالغوا في نصرها. التأويل: نادى أهل المحبة أهل القطيعة أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا يعني قوله: «ألا من طلبني وجدني» فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حقا وهو قوله: «ومن طلب غيري لم يجدني» فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ العزة والعظمة على الظالمين الذين وضعوا استعداد الطلب في غير موضع مطلوبه، الذين يصدون القلب والروح عن سبيل الله وطلبه، ويطلبون صرف وجوههم إلى الدنيا وما فيها وَبَيْنَهُما حِجابٌ من الأوصاف البشرية والأخلاق الذميمة النفسانية فلا يرى أهل النار أهل الجنة وكذا بين أهل الجنة وأهل الله- وهم أصحاب الأعراف- حجاب من أوصاف الخلقية والأخلاق الحميدة الروحانية. وسميت أعرافا لأنها موطن أهل المعرفة، وسموا رجالا لأنهم بالرجولية يتصرفون فيما سوى الله تصرف الرجال في النساء ولا يتصرف فيهم شيء منه، فالأعراف مرتبة فوق الجنان في حظائر القدس عند الرحمن يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنة وأهل النيران بِسِيماهُمْ من آثار نور القلب وظلمته وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ يعني هنيئا لكم ما أنتم فيه من النعيم والحور والقصور. ثم أخبر عن همة أهل الأعراف فقال: لَمْ يَدْخُلُوها أي الجنة ونعيمها ولم يلتفتوا إلى غير المولى وَهُمْ يَطْمَعُونَ في الوصول إلى الحق سبحانه. وَإِذا صُرِفَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ ابتلاء ليعرفوا أنه تعالى من أي دركة خلصهم وبأي كرامة خصصهم ومن هذا القبيل يكون ما يسنح لأرباب الكمالات من الخواطر النفسانية وما أتاهم الله بشيء من الدنيا والجاه والقبول والاشتغال بالخلق ليعرفوا قدر العزلة والتجريد والأنس مع الله في الخلوات رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ يعني أهل الجنة وأهل النار ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ يا أهل الجنة وأهل الله من الطاعات ويا أهل النار من الدنيا والشهوات وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عن السير في حقيقة لا إله إلا الله أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ يعني أن من المؤمنين والعلماء بعلم الظاهر في بعض الأوقات من يقول لدناءة همته لأهل المحبة والمعرفة لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ الوصول ادْخُلُوا الْجَنَّةَ يعني الجنة المضافة إليه في قوله: ادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر: 30] في حظائر القدس وعالم الجبروت لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ من الخروج وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ على ما فاتكم من نعيم الجنة إذ فزتم بشهود جمالنا. اعلم أن أهل الجنة وأهل النار يرون أهل الله وهم أصحاب الأعراف بالصورة ما داموا في مواطن الكونين، فإذا دخلوا الجنة الحقيقية المضافة إلى الله في حظائر القدس وسرادق العزة انقطع عنهم نظرهم ونظر الملائكة المقرّبين فافهم. يحكى عن بابا جعفر الأبهري أنه دخل على بابا طاهر الهمداني فقال: أين كنت فإني حضرت البارحة مع الخواص على باب الله فما رأيتك ثمة؟ فقال بابا طاهر: صدقت كنت على الباب مع الخواص وكنت داخلا مع الأخص فما رأيتني. أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ كانوا في الدنيا عبيد البطون حراصا على الطعام والشراب فماتوا على ما عاشوا وحشروا على ما ماتوا، وإن أهل الجنة لما جوعوا بطونهم لوليمة الفردوس كان اشتغالهم في الجنة بشهوات النفس والمضايقة بها قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ وفي الحقيقة إنما حرمهما عليهم في الأزل فلم يوفقوا لمعاملات تورث الجنة هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي ما يؤل إليه عاقبته في شأنهم. فللمؤمنين كشف الغطاء وسبوغ العطاء، ولأهل الجحود الفرقة والافتقار وعذاب النار أعاذنا الله تعالى منها. [سورة الأعراف (7) : الآيات 54 الى 58] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 القراآت: يُغْشِي بالتشديد حيث كان: حمزة وعلي وخلف وأبو بكر وحماد وسهل ويعقوب غير روح. وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ كلها بالرفع: ابن عامر. الآخرون بالنصب. الريح على التوحيد: ابن كثير وحمزة وعلى وخلف نشرا بالنون وسكون الشين: ابن عامر. وبفتح النون وسكون الشين: حمزة وعلي وخلف وأبو زيد عن المفضل. وبضم الباء الموحدة والشين الساكنة: عاصم غير أبي زيد الباقون بضم النون والشين. مَيِّتٍ بالتشديد: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وحفص والمفضل نَكِداً بفتح الكاف: يزيد. الآخرون بكسرها. الوقوف: حَثِيثاً ط لمن قرأ وَالشَّمْسَ وما بعده مرفوعات بِأَمْرِهِ ط وَالْأَمْرُ ط الْعالَمِينَ هـ وَخُفْيَةً ط الْمُعْتَدِينَ هـ للعطف مع الآية. وَطَمَعاً ط الْمُحْسِنِينَ هـ رَحْمَتِهِ ط الثَّمَراتِ ط تَذَكَّرُونَ هـ بِإِذْنِ رَبِّهِ ج للابتداء مع العطف نَكِداً ط يَشْكُرُونَ هـ. التفسير: لما بالغ سبحانه في تقرير أمر المعاد عاد على عادته إلى بيان المبدإ وهو ذكر الدلائل الدالة على التوحيد وكمال القدرة والعلم تأكيدا للمعاد. والمعنى إن الذي يربيكم ويصلح شأنكم ويوصل إليكم الخيرات ويدفع عنكم المكاره هو الذي بلغ كمال قدرته وعلمه وحكمته ورحمته إلى حيث خلق هذه الأجسام الجسام وأودع فيها أنواع المنافع وأصناف الفوائد، فكيف يليق أن يرجع إلى غيره في طلب الخيرات ويعوّل على غيره في تحصيل السعادات؟ قال علماء الأدب: أصل ست سدس بدليل سديس وأسداس. ثم إن العرب كانوا يخاطبون اليهود فالظاهر أنهم سمعوا بعض أوصاف الخالق منهم فكأنه سبحانه يقول: لا تشتغلوا بعبادة الأوثان والأصنام فإن ربكم هو الذي سمعتم من عقلاء الناس أنه هو الذي خلق السموات والأرض على غاية عظمتهما ونهاية جلالتهما في ستة أيام. قيل: إنه تعالى كان قادرا على إيجادهما دفعة واحدة فما الفائدة في ذكر أنه خلقهما في ستة أيام في أثناء ذكر ما يدل على وجود الصانع؟ وأجيب بأنه أراد أن يعلم عباده الرفق والتأني في الأمور والصبر فيها كيلا يحمل المكلف تأخير الثواب والعقاب على التعطيل. ومن العلماء من قال: إن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة ثم انقطع الإحداث فلعله يخطر ببال بعضهم أن ذلك إنما وقع على سبيل الاتفاق، أما إذا أحدثت الأشياء على التعاقب والتواصل مع كونها مطابقة للحكمة والمصلحة كان ذلك أقوى في الدلالة على كونها واقعة بإحداث محدث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 حكيم عليم قادر رحيم. وأيضا ثبت بالدليل أنه تعالى يخلق العاقل أوّلا ثم يخلق السموات والأرض بعده لأن خلق ما لا ينتفع به في الحال يجر إلى العبث. ثم إن ذلك العاقل- ملكا كان أو جنيا- إذا شاهد في كل ساعة وحين حدوث شيء آخر على سبيل التعاقب والتوالي كان ذلك أقوى في إفادة اليقين لأنه يتكرر على عقله ظهور هذه الدلائل لحظة فلحظة. وأما تقدير المدة بستة أيام فلا يرد عليه إشكال لأن السؤال يعود على أي مقدار فرض، وقيل: إن لعدد السبعة شرفا عظيما ولهذا خصت ليلة القدر بالسابع والعشرين. فالأيام الستة لتخليق العالم والسابع لتحصيل كمال الملك والملكوت. فإن قيل: كيف يعقل حصول الأيام قبل خلق الشمس التي نيط تقدير الأزمنة بطلوعها وغروبها؟ فالجواب أن المراد خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام كقوله: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] والمراد مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا صباح عند الله ولا مساء. وعن ابن عباس أن هذه الأيام أيام الآخرة كل يوم ألف سنة مما تعدون. والأكثرون على أنها أيام الدنيا لأن التعريف بها يقع. والظاهر أنها الأيام بلياليها لا النهار. ونقول: يمكن أن تحمل الأيام الستة على الأطوار الستة التي للأجسام الهيولى والصورة والجسم البسيط ثم المركب المعدني والنباتي والحيواني والله تعالى أعلم بمراده. أما قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فحمل بعضهم الاستواء على الاستقرار وزيف بوجوه عقلية ونقلية منها: أن استقراره على العرش يستلزم تناهيه من الجانب الذي يلي العرش، وكل ما هو متناه فاختصاصه بذلك الحد المعين يستند لا محالة إلى محدث مخصص فلا يكون واجبا. ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون الإله تعالى نورا غير متناه ويراد باستقراره على العرش بلا تناهيه إحاطته به من الجوانب ونفوذه في الكل لا كإحاطة الفلك الحاوي بالمحوى، ولا كنفوذ النور المحسوس في الشرف، بل على نحو آخر تعوزه العبارة. ومنها أنه تعالى لو كان في مكان وجهة لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات أو متناهيا من بعضها دون بعض. وعلى الأول يلزم اختلاطه بجميع الأجسام حتى للقاذورات ومع ذلك فالشيء الذي هو محل السموات، إما أن يكون عين الشيء الذي هو محل الأرض أو غيره، وعلى الأول يلزم أن يكون السماء والأرض حالين في محل واحد فهما شيء واحد لا شيئان. وعلى الثاني يلزم التركيب والتجزئة في ذاته تعالى. وأما إن كان متناهيا من الجهات فلو حصل في جميع الأحياز فهو محال بالبديهة، وإن حصل في حيز واحد فلو كان جوهرا فردا لزم أن يكون واجب الوجود أحقر الأشياء وإلا لزم التبعيض لأن جهة الفوق منه تكون مغايرة لمقابلتها. وكذا الكلام فيه إن كان متناهيا من بعض الجهات، ولو جاز أن يكون الشيء المحدود من جانب أو جوانب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 قديما أزليا فاعلا للعالم فلم لا يجوز أن يقال فاعل العالم هو الشمس والقمر أو كوكب آخر؟ وأيضا يصح على الشق المتناهي أن يكون غير متناه وعلى غير المتناهي أن يكون متناهيا، لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية كل ما صح على واحد منها صح على الباقي فيصح النمو والذبول والزيادة والنقصان والتفريق والتمزق على ذاته تعالى فيكون ممكنا محدثا لا واجبا قديما. ولقائل أن يقول: إنه غير متناه ولا يلزم من ذلك أن يكون محلا للعالم ولا حالا فيه، واستصحاب الشيء للمحل غير كونه نفس المحل أو مفتقرا إلى المحل. وحديث اختلاطه بالقاذورات تخييل لا أصل له عند الرجل البرهاني. ومنها أنه لو كان الباري يتعالى حاصلا في المكان والجهة لكان الأمر المسمى بالجهة إما أن يكون موجودا مشارا إليه أو لا يكون. فإن كان موجودا كان له بعد وامتداد وللحاصل فيه أيضا بعد وامتداد فيلزم تداخل البعدين ومع ذلك يلزم كون الجهة والحيز أزليين ضرورة كون الباري تعالى أزليا ومحال أن يكون ما سوى الواجب أزليا، وإن لم يكن موجودا لزم كون العدم المحض ظرفا لغيره ومشارا إليه بالحس وذلك باطل. واعترض بأن ذلك أيضا وارد عليكم في قولكم: «الجسم حاصل في الحيز والجهة» . وأجيب بأن مكان الجسم عندنا عبارة عن السطح الظاهر من الجسم المحوي وهذا المعنى بالاتفاق في حق الله محال فسقط الاعتراض. ولقائل أن يقول: الجهة مقطع الإشارة الحسية وهذا في حقه محال لعدم تناهيه. ولم لا يجوز أن يكون المكان خلاء فلا يلزم تداخل البعدين ولو لزم هناك لزم في الأجسام أيضا بل لا بعد هناك ولا امتداد، ولو فرض فلن يلزم منه الانقسام في الخارج، ومنها أنه لو امتنع وجود الباري تعالى بحيث لا يكون مختصا بالحيز والجهة لكانت ذاته مفتقرة في تحققها ووجودها إلى غيره فيكون ممكنا. والجواب ما مر من أن استصحاب المكان لا يوجب الافتقار إليه. ومنها أن الحيز والجهة لا معنى له إلا الفراغ المحض، ولأن هذا المفهوم واحد فالأحياز بأسرها متساوية في تمام الماهية. فلو اختص ذاته تعالى بحيز معين لكان اختصاصه به لمخصص مختار، وكل ما كان فعل الفاعل المختار فهو محدث، فحصوله في الحيز محدث وكل ما لا يخلو عن الحادث فهو أولى بالحدوث فالواجب محدث هذا خلف. ولقائل أن يقول: ما لا يتناهى لا يعقل له حيز معين ولو فرض لا تناهي الأحياز أيضا فافتقاره إليها ممنوع، وكيف يفتقر الشيء إلى ما تأخر وجوده عن وجود ذلك الشيء والمعية بعد ذلك لا تضر؟ ومنها لو كان في الحيز والجهة لكان مشارا إليه بالحس، ثم إن كان قابلا للقسمة لزم التجزي وإلا لكان نقطة أو جوهرا فردا فلا يبعد أن يقال: إن إله العام جزء من ألف جزء من رأس إبرة ملتصقة بذنب قملة أو نملة. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن كونه مع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 الحيز من جميع الجهات المفروضة يستلزم كونه مشارا إليه حسا فإن العقل يعجز عن إدراكه فضلا عن الحس وباقي الكلام لا يستحق الجواب. ومنها كل ذات قائمة بالنفس يشار إليها بحسب الحس فلا بد أن يكون جانب يمينه مغايرا لجانب شماله فيكون منقسما وكل منقسم مفتقر ممكن. قالوا: هذا الدليل مبني على نفي الجوهر الفرد. ومنها لو كان في حيز لكان إما أعظم من العرش أو مساويا له أو أصغر منه والثالث باطل بالإجماع والأولان يستلزمان الانقسام لأن المساوي للمنقسم منقسم وكذا الزائد عليه، لأن القدر الذي فضل به عليه مغاير لما سواه. ولقائل أن يقول: لا نسبة بين الجسم وبين نور الأنوار وتستحيل هذه التقادير. ومنها أنه لو فرض كونه تعالى غير متناه من جميع الجهات كما يزعم الخصم لزم لا تناهي الأبعاد وإنه محال لبرهان تناهي الأبعاد. ولقائل أن يقول: إن برهان تناهي الأبعاد لا يسلم ولو سلم فلا بعد فيما وراء العالم الجسماني ولا امتداد. ومنها أنه سبحانه لو كان حاصلا في الحيز لكان كونه هناك إما أن يمنع من حصول جسم آخر فيه أو لا يمنع. وعلى الأول كان تعالى مساويا لجميع الأجسام في هذا المعنى، ثم إنه إن لم تحصل بينه وبينها مخالفة بوجه آخر صح عليه ما يصح عليها من التغيرات وإنه محال، وإن حصل بينه وبينها مخالفة بوجه آخر صح عليه ما يصح عليها من التغيرات وإنه محال، وإن حصل بينه وبينها مخالفة من سائر الوجوه كان ما به المشاركة مغايرا لما به المخالفة فيكون الواجب مركبا بل ممكنا. وأيضا إن ما به المشاركة وهو طبيعة البعد والامتداد إما أن يكون محلا لما به المخالفة أو حالا فيه أو لا هذا ولا ذاك. فإن كان محلا له كان البعد جوهرا قائما بنفسه والأمور التي بها حصلت المخالفة أعراضا وصفات، وإذا كانت الذوات متساوية في تمام الماهية فكل ما يصح على بعضها يصح على البواقي، وكل ما يصح على بعض الأجسام من التفرق والتمزق والنمو والذبول والعفونة والفساد يصح على ذاته تعالى. وإن كان ما به المخالفة محلا وذوات وما به المشاركة حالا وصفة فذلك المحل إن كان له أيضا اختصاص بحيز وجهة فيجب افتقاره إلى محل آخر لا إلى نهاية وإلا كان موجودا مجردا فلا يكون بعدا وامتدادا هذا خلف. وإن لم يكن حالا ولا محلا كان أجنبيا مباينا فتكون ذات الله تعالى مساوية لتمام الأجسام في الماهية ويصح عليه ما يصح عليها هذا محال، وعلى التقدير الثاني- وهو أن ذاته تعالى لا تمنع من حصول جسم آخر في حيزه- لزم سريانه في ذلك الجسم وتداخل البعدين كما مر والكل محال، فالمقدم وهو كونه تعالى في حيز محال. ولقائل أن يقول: كون البارئ تعالى مع الحيز مغاير لكون الجسم في الحيز فأين الاشتراك؟ ولو سلم فالاشتراك في اللوازم لا يوجب الاشتراك في الملزومات فمن أين يلزم التركيب؟ قوله: «فإن كان محلا له كان البعد جوهرا قائما بنفسه» قلنا: كون البعد جوهرا قائما بنفسه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 حق، ولكن الملازمة ممنوعة، وكذا قوله: «الأمور التي بها حصلت المخالفة» أعراض وصفات لجواز قيام العرض بالعرض كالبطء والسرعة القائمين بالحركة، قوله: «وإلا كان موجودا مجردا فلا يكون بعدا» ممنوع لما قلنا من احتمال وجود بعد مجرد بلا وجوبه، والكلام في سريانه في الموجودات قد مر. ومنها أنه لو كان في حيز فإن أمكنه التحرك منه بعد سكونه فيه كان المؤثر في حركته وسكونه فاعلا مختارا، وكل فعل لفاعل مختار فهو محدث وما لا يخلو عن المحدث أولى بأن يكون محدثا وإن لم يمكنه التحرك منه كان كالزمن المقعد العاجز وذلك محال. وأيضا لا يبعد فرض أجسام أخرى مختصة بأحياز معينة بحيث يمتنع خروجها عنها فلا يمكن إثبات حدوث الأجسام بدليل الحركة والسكون والكرامية يساعدون على أنه كفر. ولقائل أن يقول: إن الحركة والسكون من خواص الأجسام المفتقرة إلى أحياز، فأما النور المجرد فلا يوصف بالحركة والسكون وإن كان مع الحيز والمتحيز. سلمنا وجوب اتصافه بأحدهما فلم لا يجوز أن لا يمكنه التحرك لا لكونه زمنا مقعدا ولكن لأنه نور غير متناه لا يصح وصفه بالتخلخل والتكاثف ونحو ذلك، فتستحيل عليه الحركة لأنها موقوفة على شغل حيز وتفريغ حيز آخر، ولأن العالم النوراني الذي لا نهاية له مملوء منه فكيف يتصور خلو حيز عنه؟ ومنها أنه لو كان مختصا بحيز فإن كان لطيفا كالماء والهواء كان قابلا للتفرق والتمزق، وإن كان صلبا كان إله العالم جبلا واقفا في الحيز العالي، وإن كان نورا محضا جاز أن تفرض هذه الأنوار التي تشرق على الجدران إلها. وأيضا إن كان له طرف وحدّ فإن كان ذا عمق وثخن كان باطنه غير ظاهره وإلا كان سطحا في غاية الرقة مثل قشرة الثوم بل أرق منها ألف ألف مرة. قلت: إن أمثال هذه الكلمات لا تصدر إلا عمن لا يفرق بين النور المعقول والنور المحسوس، والجوهر المجرد والجوهر المادي، والشيء القائم بذاته والمفتقر إلى غيره. ومن العجب العجاب أن هذا المستدل قد سمع من جمهور العقلاء أن الأجرام الفلكية لا تطلق عليها الصلابة واللين، وإذا جاز أن يكون في أنواع الأجسام نوع لا يمكن أن يتصف بهذين المتقابلين لأن ذلك الموضع. أجل وأشرف من أن يتصف بأحدهما، فلم لا يجوز أن يكون فيما هو أشرف من ذلك النوع شيء لا يتصف بهما؟! ومنها لو كان إله العالم فوق العرش لكان مماسا للعرش أو مباينا له ببعد متناه أو غير متناه. وعلى الأول فإن لم يكن له ثخن كان سطحا رقيقا كما مر، وإن كان له ثخن فالمماس مغاير لغير المماس ويلزم تركيبه، وإن كان مباينا ببعد متناه فلا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى أن يماسه ويعدو الإلزام المذكور، وإن كان مباينا ببعد غير متناه لزم أن يكون غير المتناهي محصورا بين الحاصرين، ولقائل أن يقول: المباينة والمماسة من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 خواص الأجسام وإنه تعالى نور مجرد محض فلا يصلح عليه الاتصال والانفصال والتماس والتباين والتداخل وأشباه ذلك. ومنها أن الاستقراء قد دل على أن الجرمية كلما كانت أقوى كانت الفاعلية والتأثير أضعف وبالعكس، ولهذا كان تأثير الأرض أقل من تأثير الماء، وتأثير الماء من تأثير الهواء، وتأثير الهواء من تأثير النار بالإحراق والطبخ، وتأثير النار من تأثير الأفلاك المؤثرة في العنصريات. ثم إنه لا قدرة ولا قوة أشد من قدرة الواجب لذاته فيكون بريئا من الحجم والجرم والكثافة والرزانة. قلت: في الاستقراء نزاع إنه صحيح تام أولا، ولكن لا نزاع في أن واجب الوجود تعالى شأنه بريء عن الحجمية والكثافة وعن كل شيء يقدح في قيوميته. وهاهنا حجج قد أوردت في أوائل سورة الأنعام في تفسير قوله سبحانه: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الأنعام: 18] وقد عرفت ما عليها فهذه حجج عقلية عول عليها الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه في تفسيره الكبير، وقد أوردنا عليها ما كانت ترد من المنوع والاعتراضات لا اعتقادا للتشبيه والتجسم أو تقليدا لأولئك الأقوام بل تشحيذا للذهن وتقريبا إلى المعارف والحقائق وجذبا بضبع المتأمل في المضايق والمزالق فليختر المنصف ما أراد والله الموفق للرشاد. ولعل هذا المقام مما لا يكشف المقال عنه غير الخيال والله أعلم بحقيقة الحال. ثم قال رضي الله عنه: وأما الدلائل السمعية فكثيرة منها قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] والأحد مبالغة في كونه واحدا والذي يمتلىء منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركبا من أجزاء فوق أجزاء العرش وذلك ينافي كونه أحدا. وأجيب بأنه ذات واحدة حصلت في كل الأحياز دفعة واحدة، وزيف بأن هذا معلوم الفساد بالضرورة لو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال جميع العرش إلى ما تحت الثرى جوهر واحد وموجود واحد إلا أن ذلك الجزء الذي لا يتجزأ حصل في جملة الأحياز فظن أنه أشياء كثيرة. قلت: وهذه مغالطة فإن هذا الجزء الذي لا يتجزأ لصغره غير الشيء الذي لا يقبل التجزئة والانقسام لذاته. وأيضا المتحيز الذي مقداره ذراع في ذراع لا يشغل بالبديهة حيزين كل منهما ذراع في ذراع فلزم منه أن لا يشغل ذينك الحيزين متحيز مقداره. ضعف ذلك على أن الحق ما عرفت مرارا أن نور الأنوار قيوم في ذاته حاصل في جميع الأشياء لا منفصل عنها انفصال المحيط عن المحاط، ولا متصل بها اتصال العرض الساري في الأجسام، ولهذا لا يلزمه بانقسامها الانقسام. ومنها قوله: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقة: 17] ويلزم منه أن يكون حامل العرش حاملا للإله. والجواب أنك إن سميت المعية حملا فلا نزاع. ومنها قوله: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ [محمد: 38] فوجب أن يكون غير مفتقر إلى المكان والجهة، والجواب أن الاستصحاب غير الافتقار. ومنها أن فرعون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 طلب حقيقة الإله في قوله: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 23] ولم يزد موسى على ذكر الأوصاف. وأما فرعون فقد طلب الإله في السماء في قوله فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى [القصص: 38] فعلمنا أن التنزيه دين موسى ووصفه بالمكان والحيز دين فرعون. والجواب لا نزاع في أن حقيقة ذاته كما هي لا يعلمها إلا هو والبسائط المحضة لا تعرف إلا بلوازم، وطلب فرعون إنما كان مذموما لأنه تصور أن يكون الإله شخصا مثله على تقدير وجوده لقوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] . ومنها هذه الآية لأنها تدل على أنه استقر على العرش بعد تخليق السموات والأرض وكان قبل ذلك مضطربا. والجواب المراد بالاستقرار أنه كان ولم يكن معه شيء فإذا خلق ما خلق من عالم الأجسام والاختلاط بقي ما وراءه نورا محضا. ومنها قصة إبراهيم وتبرئه من الآفلين ولو كان جسما لكان آفلا في أفق الإمكان. والجواب أن نور الأنوار أجل من ذلك ولا يلزم من كونه مع جميع الأحياز ومع ما سواها أن يكون في مرتبة الأجسام بل النفوس والعقول. ومنها أن أول الآية أعني قوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يدل على قدرته وحكمته وكذا قوله يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إلى آخر الآية. فلو كان المراد من الاستواء هو الاستقرار كان أجنبيا عما قبله وعما بعده لأنه ليس من صفات المدح إذ لو استقر عليه بق وبعوض صدق عليه أنه استقر على العرش. فإذن المراد بالاستواء كمال قدرته في تدبير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها. والجواب أن الاستقرار بالتفسير الذي ذكرناه أدل شيء على المدح والثناء، وحديث البق والبعوض خراف وهل هو إلا كقول القائل: لو كان واجب الوجود بقا أو بعوضا صدق عليه أنه إله فلا يكون الإله دالا على المدح. ومنها أنه سبحانه حكم في آيات كثيرة بأنه خالق السموات فلو كان فوق العرش كان سماء لساكني العرش لأن السماء عبارة عن كل ما علا وسما، ومن هنا قد يسمى السحاب سماء فيلزم أن يكون خالقا لنفسه. والجواب بعد تسليم أن كل ما سما وارتفع فهو سماء من غير اعتبار أنه نور أو جسم، أن ذاته سبحانه مخصوصة بدليل منفصل كقوله: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16] هذا ولغير الموسومين بالمجسمة والمشبهة في الآية قولان: الأول القطع بكونه متعاليا عن المكان والجهة ثم الوقوف عن تأويل الآية وتفويض علمها إلى الله، والثاني الخوض في التأويل وذلك من وجوه: أحدها تفسير العرش بالملك والاستواء بالاستعلاء أي استعلى على الملك. وثانيها: أن «استوى» بمعنى «استولى» كقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق. وثالثها ذكر القفال أن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 جعل العرش كناية عن نفس الملك. يقال: استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه إذا استقام له أمره واطرد. وفي ضدّه خلا عرشه أي انتقض ملكه وفسد. فالله تعالى دلّ على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره للعالم بالوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم لتستقر عظمة الله تعالى في قلوبهم إلا أن ذلك مشروط بنفي التشبيه، فإذا قال: إنه عالم فهموا منه أنه تعالى لا يخفى عليه شيء، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة أو روية ولا باستعمال حاسة وإذا قال: قادر. علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات وتكوين الممكنات ثم عرفوا أنه غني في ذلك الإيجاد والتكوين عن الآلات والأدوات وسبق المادة والمدّة والفكرة والروية، وكذا القول في كل من صفاته. وإذا أخبر أن له بيتا يجب على عباده حجه فهموا منه أنه نصب موضعا يقصدونه لمآربهم وحوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه وأنه لم يجعل ذلك البيت مسكنا لنفسه ولم ينتفع به لدفع الحر والبرد. وإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ثم علموا أنه لا يفرح بذلك التحميد والتمجيد ولا يحزن بتركه والإعراض عنه. وإذا أخبر أنه خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش فهموا منه أنه بعد أن خلقهما استوى على عرش الملك والجلال. ومعنى التراخي أنه يظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلقها لأن تأثير الفاعل لا يظهر إلا في القابل. وقال أبو مسلم: العرش لغة هو البناء والعارش الباني قال تعالى: وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل: 68] فالمراد أنه بعد أن خلقها قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها. قوله سبحانه: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ قال صاحب الكشاف: يلحق الليل بالنهار أو النهار بالليل يحتملهما اللفظ جميعا. وقال القفال: لما أخبر بالاستواء على العرش وأن أمر المخلوقات منوط بتدبيره ومشيئته أراهم ذلك عيانا فيما يشاهدونه لينضم العيان إلى الخبر. وقدم ذكر الليل والنهار لما في تعاقبهما من المنافع الجليلة فبهما تتم أمور الحياة، ثم وصف الحركة التي يحصلان منها بالسرعة والشدّة فقال يَطْلُبُهُ حَثِيثاً قال الليث: الحث الإعجال وذلك أن حركة الفلك الأعظم أشدّ الحركات سرعة حتى إنها في مقدار ما تقول واحد واحد واحد يتحرك ألفا وسبعمائة واثنين وثلاثين فرسخا من مقعر فلكه والله أعلم بتحرك محدبه. فإن قيل: ما محل الجملتين؟ قلت: أما الأولى فمستأنفة كأنه قيل: فماذا يفعل بعد خلق السموات والأرض؟ فأجيب يغشي الليل النهار. وعلى قول من يفسر الاستواء بالتدبير والتصرف يحتمل أن تكون هذه الجملة مبينة. وأما الثانية ففي محل النصب على الحال من الملحق كما أن حَثِيثاً منصوب على الحال من الطالب وهو الملحق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 بعينه. ثم قال: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ من قرأهن منصوبات فمعناه وخلق هذه الأجرام حال كونهن تحت تسخيره، ومن قرأها مرفوعات فعلى الابتداء والخبر، وكلتا القراءتين حسنة لأنك إذا قلت: ضربت زيدا استقام أن يقال زيد مضروب. وقوله: بِأَمْرِهِ متعلق بمسخرات أي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره. قال في الكشاف: سمي ذلك أمرا على التشبيه كأنهن مأمورات بذلك. ومنهم من حمل هذا الأمر على الأمر الذي هو الكلام، وعلى هذا لا يبعد أن يكون بِأَمْرِهِ متعلقا ب خَلَقَ. بدأ بالشمس لأنه سلطان الكواكب، وثنى بالقمر لأنه كالنائب، وثلث بسائر النجوم لأنها كالخدم. فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، والشمس تأثيرها بالتسخين، والقمر تأثيره بالترطيب، وتوليد المواليد الثلاثة المعادن والنبات والحيوان لا يتم ولا يكمل إلا بتأثير الحرارة في الرطوبة. ثم إنه سبحانه وتعالى خص كل كوكب بخاصية عجيبة وتأثير غريب لا يعلمه بتمامه إلا مبدعه وخالقه، واعلم أن الأجسام متماثلة في الجسمية فاختصاص جرم الشمس بالنور الباهر والتسخين الشديد والتدبيرات العجيبة في العالم العلوي والسفلي وكذا تخصيص كل واحد من سائر السيارات والثوابت بقوّة أخرى لا بد أن يستند إلى فاعل حكيم قدير عليم فلهذا قال: مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ. وأيضا إن لكل واحد من أجرام الشمس والقمر والكواكب سيرا خاصا من المغرب إلى المشرق، وسيرا آخر سريعا بسبب حركة الفلك الأعظم، فقوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ تنبيه على أن حدوث الليل والنهار إنما هو بحركة الفلك الأعظم المسمى بالعرش، وقوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ إشارة إلى أن العرش يحرك جميع الأفلاك والكواكب وأنه سبحانه أودع في جرمه قوّة قاهرة قاسرة باعتبارها قويت على تحريك ما دونه على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب. وأيضا أن أقسام الأجسام ثلاثة: متحرك إلى الوسط وهما العنصران الثقيلان، ومتحرك عن الوسط وهما الخفيفان، ومتحرك على الوسط وهي الأجرام الفلكية، فيكون الأفلاك والكواكب متحركة بالاستدارة لا إلى المركز ولا عن المركز لا يكون إلا بتسخير الله تعالى، ولأمر ما أكثر الله سبحانه في كتابه الكريم من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية تبدل الضياء بالظلام وبالعكس، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وأمر بالنظر في ملكوت السماء والغبراء وبالتفكر فيهما قائلا: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 185] أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها [ق: 6] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الروم: 8] وإن من صنف كتابا شريفا مشتملا على دقائق العلوم العقلية والنقلية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 فالمعتقدون في شرفه وفضيلته فريقان: منهم من اعتقد كونه كذلك على الإجمال، ومنهم من وقف على دقائقها على سبيل التفصيل والكمال، ولا ريب أن اعتقاد الفريق الثاني يكون أكمل وأقوى إذا ثبت هذا فنقول: من اعتقد أن جملة هذا العالم محدث وكل محدث فله محدث حصل له بهذا الطريق إثبات الصانع، أما الذي ضم إلى هذه المعرفة البحث عن أحوال هذا العالم العلوي والعالم السفلي على التفصيل الممكن لا يزال ينتقل من برهان إلى برهان ومن دليل إلى دليل فإن يقينه يتزايد وبصيرته تتكامل إلى أن يصير علما معقولا مضاهيا لما عليه الموجود، ولمثل هذه الفوائد والأغراض والغايات أنزل هذا الكتاب الكريم لا لتكثير وجوه الإعراب والاشتقاقات المؤدية إلى الإطناب والإسهاب، وأما قوله عز من قائل أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فالخلق عبارة عن التقدير ويختص بكل ما هو جسم وجسماني لأنه خص بمقدار معين، فكل ما كان بريئا عن الحجم والمقدار فهو من عالم الأرواح وعالم الأمر لأنه أوجد بأمر «كن» من غير سبق مادّة ومدّة، فعالم الخلق في تسخيره وعالم الأمر في تدبيره واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقديره. وهاهنا مسائل ذكرها العلماء: الأولى أنه تعالى متكلم آمر ناه مخبر مستخبر لأن قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ دل على أن له الأمر فوجب أن يكون له النهي وسائر أنواع الكلام ضرورة أنه لا قائل بالفرق. الثانية لا خالق إلا هو لأن قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ بتقديم الخبر يفيد الحصر. ولو سلم أنه لا يفيده فلا أقل من إفادة أنه خالق بعض الأشياء، وحينئذ يثبت المطلوب لأن افتقار المخلوق إلى الخالق لإمكانه والإمكان مفهوم واحد في الممكنات وإنه علة للحاجة إلى موجود معين، فجميع الممكنات محتاجة إلى ذلك المعين فالذي يكون مؤثرا في وجود شيء واحد يجب أن يكون هو المؤثر في جميع الممكنات ولا يحتاج إلى الممكنات. الثالثة قالت الأشاعرة: كل أثر يصدر عن فلك أو ملك أو جني أو إنسي فخالق ذلك الأثر في الحقيقة هو الله تعالى لقوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ويتفرع على هذا أنه لا إله إلا الله وإلا كان الثاني مدبرا وخالقا، وأنه لا تأثير للكواكب في أحوال هذا العالم، وأن القول بالطبائع والعقول والنفوس على ما يزعم الفلاسفة وأصحاب الطلسمات باطل، وأن خالق أعمال العباد هو الله تعالى. والقول بأن العلم يوجب العالمية والقدرة توجب القادرية باطل، كل ذلك لئلا يلزم خالق ومؤثر غير الله تعالى. الرابعة كلام الله تعالى قديم لأنه ميز بين الخلق وبين الأمر ولو كان أمر الله مخلوقا لما صح هذا التمييز. أجاب الجبائي بأنه لا يلزم من إفراد الأمر بالذكر عقيب الخلق أن لا يكون الأمر داخلا في الخلق كقوله: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] وعارض الكعبي بقوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 وَكَلِماتِهِ [الأعراف: 158] فإنه لو وجب مغايرة المعطوف للمعطوف عليه لزم أن تكون الكلمات غير الله تعالى، وكل ما كان غير الله تعالى فإنه محدث ومخلوق فكلمات الله مخلوقة. وقال القاضي: اتفق المفسرون على أنه ليس المراد بهذا الأمر كلام الله تعالى بل المراد به نفاذ إرادته وإظهار قدرته، وقال قوم: لا يبعد أن يقال الأمر داخل في الخلق ولكنه من حيث كونه أمرا يدل على نوع آخر من الكمال والجلال، والمعنى له الخلق والإيجاد في المرتبة الأولى. ثم بعد الإيجاد والتكوين له الأمر والتكليف في المرتبة الثانية. وقال آخرون: معنى قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ أنه إن شاء خلق وإن شاء لم يخلق، فقوله: وَالْأَمْرُ يجب أن يكون معناه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر، ويلزم منه أن يكون الأمر محدثا مخلوقا لأنه لو كان قديما لم يكن ذلك الأمر بحسب مشيئته بل كان من لوازم ذاته فلا يصدق أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر هذا خلف. وأجيب بأنه لو كان الأمر داخلا تحت الخلق لزم التكرار والأصل عدمه فلا يصار إليه إلا للضرورة ولا ضرورة هاهنا. الخامسة في الآية دلالة على أنه ليس لأحد أن يلزم غيره شيئا إلا الله، ففعل الطاعة لا يوجب الثواب، وفعل المعصية لا يوجب العقاب، وإيصال الألم لا يوجب العوض. السادسة دلت الآية على أن القبيح لا يجوز أن يقبح لوجه عائد إليه، وأن الحسن لا يحسن لأمر عائد إليه وإلا لم يأمر إلا بما حصل فيه وجه الحسن ولم ينه إلا عما حصل فيه وجه القبح، فلا يكون متمكنا من الأمر والنهي كيف شاء وأراد هذا خلف. السابعة أطلق الخلق والأمر فيعلم أنه لو أراد خلق ألف عالم بما فيه من العرش والكرسي والكواكب في أقل من لحظة لقدر عليه، لأن هذه الماهيات ممكنة والحق قادر على كل الممكنات. الثامنة قال قوم: الخلق صفة من صفات الله تعالى وهو غير المخلوق لأن أهل السنة يقولون: معنى قوله: الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ أنه صفة له فكذا الخلق صفة قائمة بذاته فلا يكون مخلوقا، وأجيب بأن الخلق لو كان غير المخلوق فإما أن يكون قديما ويلزم من قدمه قدم المخلوق، وإما أن يكون حادثا فيفتقر إلى خلق آخر ويتسلسل، ويمكن أن يقال: الصفة قديمة والتعلق حادث. التاسعة له الأمر يقتضي أن لا أمر إلا لله. وقول النبي صلّى الله عليه وآله: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» لا ينافي ذلك لأن الموجب لأمره في الحقيقة هو أمر الله تعالى، العاشرة في الآية دلالة على أن الله تعالى أمرا ونهيا على عباده والخلاف مع نفاة التكليف. قالوا: إن كان التكليف معلوم الوقوع كان واجب الوقوع فكان الأمر به تحصيلا للحاصل، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع فكان الأمر به أمرا بما يمتنع وقوعه وهو محال. وأيضا إنه تعالى إن خلق الداعي إلى فعله كان واجب الوقوع وإلا فلا فائدة في الأمر به. وأيضا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 الكافر أو الفاسق لا يستفيد بالتكليف، إلا الضرر المحض لأنه تعالى يعلم أنه لا يؤمن ولا يطيع وخلاف علم الله محال فلا يحصل من الأمر إلا مجرد استحقاق العذاب وهذا لا يليق بالرحيم الحليم. وأيضا التكليف إن لم يكن لفائدة في الأمر فهو عبث، وإن كان لفائدة فلا بد أن تعود إلى المكلف لأنه سبحانه غني فجميع الفوائد منحصرة في تحصيل نفع أو دفع ضر والله تعالى قادر على تحصيلهما للمكلف من غير واسطة التكليف فكان توسيط التكليف إضرارا محضا. والجواب أن أوّل الآية دل على أنه تعالى هو الخالق لكل العبيد، وإذا كان خالقا لهم كان مالكا لهم، وتصرف المالك في ملك نفسه كيف شاء مستحسن، ويحسن منه تعالى أن يأمر عباده بما شاء بمجرد كونه خالقا لا كما يقول المعتزلة من كون ذلك الفعل صلاحا أو من كونه موجب عوض أو ثواب. ولما بين أن له الأمر والنهي والحكم والتكليف ذكر أنه يستحق الثناء والتقديس فقال: تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وللبركة تفسيران: أحدهما الثبات والدوام ولا ريب أنه الواجب لذاته القائم بذاته الدائم الغني بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه. وثانيهما كثرة الآثار الفاضلة. ولا شك أن كل الخيرات والكمالات فائضة من جوده وإحسانه بل جميع الممكنات رشحة من بحار فضله وامتنانه. ثم لما بيّن كمال قدرته وحكمته وأرشد إلى التكليف الموصل إلى سعادة الدارين أتبعه ذكر ما يستعان به على تحصيل المطالب والمآرب الدينية والدنيوية فقال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً قال في الكشاف: نصب على الحال أي ذوي تضرع وخفية وكذلك خَوْفاً وَطَمَعاً قلت: ويحتمل الانتصاب على المصدر مثل: رجع القهقرى. والتضرع التذلل وهو إظهار ذل النفس والخفية بالضم أو الكسر ضد العلانية. قال بعض العلماء: الدعاء هاهنا بمعنى العبادة لئلا يلزم التكرار وعطف الشيء على نفسه في قوله: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً والأظهر أنه على الأصل. ومن الناس من أنكر الدعاء قال: لأن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع أو كان مرادا في الأزل أو كان على وفق الحكمة والمصلحة وقع لا محالة وإلا فلا فائدة فيه. وأيضا إنه نوع من سوء الأدب وعدم الرضا بالقضاء وقد يطلب ما ليس بنافع له. وفيه من الاشتغال بغير الله وعدم التوكل عليه ما لا يخفى. والحق أن الدعاء نوع من أنواع العبادة ورفضه يستدعي رفض كثير من السوائل والوسائط والروابط، ولو لم يكن فيه إلّا معرفة ذلة العبودية وعزة الربوبية لكفى بذلك فائدة، ولهذا روي عنه صلى الله عليه وآله: «ما من شيء أكرم على الله سبحانه من الدّعاء» إلا أنه لا بد فيه من الإخلاص والصون عن الرياء والسمعة، وإليهما أشار بقوله: تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ونحن قد أطنبنا في تحقيق الدعاء وشرائطه في سورة البقرة في تفسير قوله: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 عَنِّي [البقرة: 186] ثم ختم الآية بقوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وللمسلمين اتفاق على أنه ليس معنى المحبة عند إطلاقها على الله شهوة النفس وميل الطبع ولكنها عبارة عن إيصاله الثواب والخير إلى العبد، وهذا مبني على قول الكعبي وأبي الحسين أنه تعالى غير موصوف بالإرادة، وأن كونه مريدا لأفعال نفسه عبارة عن إيجادها وفعلها، وكونه مريدا لأفعال غيره هو كونه آمرا بها. وأما الأشاعرة ومعتزلة البصرة القائلون بصفة الإرادة فإنهم فسروا المحبة بإرادة إيصال الثواب. وقال بعض العلماء: إنا نجد في الشاهد أن الأب يحب ابنه فيترتب على تلك المحبة إرادة إيصال الخيرات إلى ذلك الابن وكانت هذه الإرادة أثرا من آثار تلك المحبة وثمرة من ثمراتها. غاية ما في الباب أن هذه المحبة في الشاهد عبارة عن الشهوة وميل الطبع ورغبة في النفس وذلك في حقه تعالى محال. إلا أنا نقول: لم لا يجوز أن يقال أن محبة الله صفة أخرى يترتب عليها إيصال الثواب أو إرادة الإيصال؟ لكنا لا نعرف تلك المحبة ما هي وكيف هي لأن عدم العلم بالشيء لا يوجب العلم بعدم ذلك الشيء. نظير ذلك أن أهل السنة يثبتون كونه مرئيا ثم يقولون إن تلك الرؤية لا كرؤية الأجسام والألوان. ويعني بالمعتدين المجاوزين ما أمروا به فيشمل كل من خالف أمر الله ونهيه. وقال الكلبي وابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء ويؤيده أنه أمر بالدعاء مقرونا بالإخفاء وظاهره الوجوب إذ قد أثنى على زكريا فقال: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مريم: 3] وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية» وعنه صلى الله عليه وسلم «خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي» «1» وعنه صلى الله عليه وآله: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ قوله إنه لا يحب المعتدين» «2» ومن هنا اختلف أرباب الطريقة أن الأولى في العبادات الإخفاء أم الإظهار فقيل: الأولى الإخفاء صونا لها عن الرياء. وقيل: الأولى الإظهار ليرغب غيره في الاقتداء. وتوسط الشيخ محمد بن علي الحكيم الترمذي فقال: إن كان خائفا على نفسه من الرياء فالأولى في حقه الإخفاء، وإن بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمنا من شائبة الرياء فالأولى في حقه الإظهار ليحصل فائدة الاقتداء. قال الشافعي: إظهار التأمين أفضل. وقال أبو حنيفة: الإخفاء أفضل لأنه إن كان دعاء وجب إخفاؤه لقوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً   (1) رواه أحمد في مسنده 1/ (172، 180، 187) . (2) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 45. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب 12. أحمد في مسنده (4/ 86، 87) (5/ 55) . [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 وإن كان اسما من أسماء الله تعالى على ما قيل فكذلك لقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندبية، ثم نهى عن مجامع المفاسد والمضار بقوله: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ فيدخل فيه خمسة أشياء: المنع من إفساد النفوس بالقتل، ومن إفساد الأموال بقطع الطريق والسرقة، وإفساد الأنساب بالزنا واللواط والقذف، وإفساد العقول بشرب المسكرات، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة، وذلك أن قوله: لا تُفْسِدُوا منع عن إدخال ماهية الفساد في الوجود والمنع من الماهية يقتضي المنع من جميع أنواعه. ومعنى: بَعْدَ إِصْلاحِها بعد أن أصلح خلق الأرض على الوجه المطابق لمنافع الخلق الموافق لمصالح المكلفين، أو المراد إصلاح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب وتفصيل الشرائع، فإن الإقدام على تكذيب الرسل وإنكار الكتب والتمرد عن قبول الشرائع يقتضي وقوع الهرج والمرج وحدوث الفتن في الأرض. وفي الآية دلالة على أن الأصل في المضار الحرمة فإن وجدنا نصا خاصا يدل على جواز الإقدام على بعض المضار قضينا به تقديما للخاص على العام. وفيها أيضا دلالة على أن كل عقد وقع التراضي به بين الخصمين فإنه منعقد صحيح لأن رفعه بعد ثبوته يكون إفسادا بعد الإصلاح، فإن وجدنا نصا يدل على عدم صحة بعض تلك العقود قضينا فيه بالبطلان عملا بالأخص. فجميع أحكام الله تعالى داخلة تحت عموم هذه الآية الدالة على أن الأصل في المضار والآلام الحرمة كما كانت داخلة تحت عموم قوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32] بأنها كانت تدل على أن الأصل في المنافع واللذات الإباحة والحل، فكل واحدة من الآيتين مطابقة ومؤكدة للأخرى، ثم لما بين أن الدعاء لا بد أن يكون مقرونا بالتضرع والإخفاء وبعدم المنافي وهو الإفساد بالوجوه الخمسة، ذكر أن فائدة الدعاء والباعث عليه أحد الأمرين الخوف من العقاب والطمع في الثواب. واعترض عليه بأن أهل السنة يقولون: التكاليف إنما وردت بمقتضى الإلهية والعبودية أي كونه إلها لنا، وكوننا عبيدا له اقتضى أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء ولا يعتبر فيه كونه في نفسه صلاحا وحسنا. والمعتزلة يقولون: إنها وردت لأنها في نفسها مصالح. فعلى القولين من أتى بها للخوف من العقاب والطمع في الثواب لم يأت بها لوجه وجوبها فوجب أن لا يصح. وأجيب بأن المراد من الآية ادعوه مع الخوف من وقوع التقصير في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء ومع الطمع في حصول تلك الشرائط بأسرها أي كونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في جميع أعمالكم ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم قد أديتم حق ربكم كقوله: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون: 6] . والجواب الصحيح عندي أن غاية التكليف من الآمر غير غايته من المأمور إذا فهب أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 الغاية الأولى هي المصلحة أو الإلهية والعبودية فلم لا يجوز أن تكون الغاية الثانية الخلاص من العذاب والوصول إلى الثواب؟ ثم ختم الآية بقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ظاهره أن يقال قريبة. وذكروا في حذف علامة التأنيث وجوها: فقيل: لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي. وقال الزجاج: لأن الرحمة غير حقيقي. وقال الزجاج: لأن الرحمة والغفران والعفو والإنعام بمعنى واحد، أو لأن المراد بالرحمة الترحم أو الرحم. وقيل: إنه صفة موصوف محذوف أي شيء قريب، أو شبه بفعيل الذي بمعنى مفعول كما شبه ذاك به فقيل: قتلاء وأسراء، وقيل: لأنه بزنة المصدر كالنقيض صوت العقبان أو الدجاجة والضغيب صوت الأرنب. وقيل: المراد ذات مكان قريب كلابن وتامر، وروى الواحدي بإسناده عن ابن السكيت تقول العرب: هو قريب مني وهما قريب مني وهي قريب لأنه في تأويل هو في مكان قريب مني. قال بعض المفسرين: معنى هذا القرب أن الإنسان يزداد بعدا عن الماضي وقربا من المستقبل أي الآخرة التي هي مقام رحمة الله. ويمكن أن يقال: المراد به قرب الحصول سواء كان في الدنيا أو في الآخرة كقوله: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214] قالت المعتزلة: إن ماهية الرحمة لما كانت حصة المحسنين وجب أن لا يحصل للكافر والفاسق منها شيء، والغرض أن صاحب الكبيرة لا يكون له نصيب من العفو. وأجيب بأن المحسن من صدر عنه الإحسان ولو من بعض الوجوه، فكل من آمن بالله تعالى وأقر بالتوحيد والنبوة فقد أحسن والدليل عليه الإجماع. على أن الصبي إذا بلغ وقت الضحوة وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر فإنه يسمى مؤمنا محسنا، على أن قوله ماهية الرحمة نصيب المحسنين ممنوع لأن الكافر أيضا في رحمة الله ونعمته في الدنيا بدليل قوله: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ [البقرة: 126] ثم إنه سبحانه لما ذكر دلائل الإلهية وكمال العلم والقدرة من العالم العلوي أتبعه ذكر الدلائل من أحوال هذا العالم وهي الآثار العلوية من المعادن والنبات والحيوان ومن جملتها أحوال الرياح والسحب والأمطار. وأيضا لما أقام الدلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادر العليم الحكيم الرحيم أقام الدلالة في هذه الآية على صحة القول بالحشر والنشر ليتم بالآيتين تقرير المبدأ والمعاد فقال: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ الريح هواء متحرك، وتحركه ليس لذاته ولا للوازم ذاته وإلا دام بدوام الذات، فهو بتحريك الفاعل المختار. قالت الحكماء: من أسباب الريح أن يرتفع من الأرض أجزاء أرضية لطيفة تسخنت تسخينا شديدا، فبسبب تلك السخونة ترتفع وتتصاعد، فإذا وصلت إلى قريب من الفلك فإن الهواء الملتصق بمقعر الفلك يمنع هذه الأدخنة من الصعود بل يردها عن سمت حركتها لتحرك تلك الطبقة على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 الاستدارة تشيعا للفلك، فحينئذ ترجع الأدخنة وتتفرق في الجوانب وبسبب تفرقها تحصل الرياح. وكلما كانت تلك الأدخنة أكثر وكان صعودها أقوى كان رجوعها أيضا أشد فكانت الرياح أقوى، وزيف بأن صعود تلك الأجزاء الأرضية إنما يكون لأجل شدة تسخينها بالعرض، فإذا تصاعدت ووصلت إلى الطبقة الباردة بردت فامتنع صعودها إلى الطبقة العليا المتحركة بحركة الفلك. سلمنا أنها تصعد إلى الطبقة المتحركة بالاستدارة لكن رجوعها يجب أن يكون على الاستقامة كما هو مقتضى طبيعة الأرض لكنها تتحرك يمنة ويسرة. وأيضا إن حركة تلك الأجزاء لا تكون قاهرة فإن الرياح إذا أصعدت الغبار الكثير ثم عاد ذلك الغبار ونزل على السطوح لم يحس أحد بنزولها، ونحن نرى هذه الرياح تقلع الأشجار وتهدم الجبال وتموج البحار، وأيضا لو كان الأمر على ما قالوا لكانت الرياح كلما كانت أشد وجب أن يكون حصول الأجزاء الغبارية الأرضية أكثر وليس كذلك، لأنه قد توجد الرياح العاصفة في وجه البحر وليس فيها شيء من الغبار. ويمكن أن يجاب بأن الحكم بامتناع الصعود استبعاد محض وحديث الرجوع على الاستقامة مبني على أن الريح هي تلك الأجزاء الراجعة فقط وليس كذلك، فإن الراجع إذا خرق الهواء حدث فيما يجاوره من الهواء تحرك واضطراب وتموج شبه ما يحدث في الماء إذا ألقي فيه حجر، وكذا الكلام في الوجهين الباقيين. وقال المنجمون: قد يحدث بسبب وصول كوكب معين إلى موضع معين من البروج ريح عاصفة، وزيف بأنه لو كان كذلك لزم تحرك كل الهواء. والجواب أن وصول الكوكب إلى الموضع الفلاني إنما يوجب تحرك الهواء بتسخين أو تلطيف أو تكثيف يحدث في بعض المواد المستعدة لذلك فيطلب ذلك القابل مكانا أكثر أو أقل مما كان عليه، فيلزم من ذلك تحرك الهواء المجاور له لاستحالة التداخل والخلاء لا يتدافع إلى أن يتحرك جميع كرة الهواء بل يتموج بعض أجزاء الهواء ثم يستقر كل في موضعه، ويختلف مقدار ذلك بحسب المؤثر والمتأثر والكل يستند إلى تدبير الله سبحانه وتقديره، وإنما قال في هذه السورة يُرْسِلُ الرِّياحَ بلفظ المستقبل وكذا في «الروم» لأن ما قبله هاهنا ذكر الخوف والطمع وأنهما يناسبان المستقبل، وأما في «الروم» فليناسب ما قبل وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الروم: 46] وقال في الفرقان: أَرْسَلَ الرِّياحَ [الفرقان: 48] بلفظ الماضي ليناسب ما قبله: كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ الفرقان: 45] وما بعده وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ [الفرقان: 62] وكذا في «فاطر» مبني على أول السورة فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ [فاطر: 1] وهما بمعنى الماضي والله تعالى أعلم. أما قوله: نَشْراً بنون مفتوحة وشين ساكنة فإنه مصدر نشر. وانتصابه إما على الحال بمعنى منتشرات وإما لأن أرسل ونشر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 متقاربان كأنه قيل: نشرها نشرا. ومن قرأ نَشْراً بضمتين فلأنه جمع نشور كرسول ورسل، وقد تخفف كرسل، ومن قرأ بُشْراً بضم الباء الموحدة وسكون الشين فلأنه مخفف بشر جمع بشير. ومعنى: بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أمام نعمته وهي الغيث الذي هو من أجلّ النعم وأحسنها وهذا بحسب الأغلب، فإن المطر قلما لا يتقدمه رياح يسلطها الله تعالى على السحاب والعرب تستعمل اليدين بدل قدام وأمام مجازا لأن اليدين من الحيوان متقدمان على الرجلين. حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ حملت ورفعت واشتقاقه من القلة لأن الرافع الذي يقدر على حمل الثقيل يزعم أن ما يرفعه قليل سَحاباً جمع سحابة ولهذا قال: ثِقالًا على الجمع جمع ثقيلة والضمير في سُقْناهُ يعود إلى السحاب على لفظه، وضمير المتكلم في سُقْناهُ على أصله. أما الذي في قوله: وَهُوَ الَّذِي فعلى طريقة الالتفات وإلا فالظاهر أن يقال: نحن أرسلنا. واعلم أن السحاب المستمطر للمياه العظيمة إنما يبقى معلقا في الهواء لأنه تعالى دبر بحكمته أن يحرك الرياح تحريكا شديدا. ولتلك الحركات فوائد منها: أن أجزاء السحاب ينضم بعضها إلى بعض ويتراكم وينعقد السحاب الكثيف الماطر ثم تصير متفرقة. ومنها أن تتحرك الرياح يمنة ويسرة فتمنع الأجزاء المائية الرشية عن النزول فيبقى معلقا في الهواء. ومنها أن ينساق السحاب إلى موضع علم الله احتياجهم إلى نزول الأمطار، ومن الرياح مقوية للزروع والأشجار ومكملة لما فيها من النشوء والنماء وهي اللواقح. ومنها مبطلة لها كما في الخريف. ومنها طيبة لذيذة موافقة للأبدان. ومنها مهلكة للحر الشديد كالسموم أو البرد الشديد. ومنها مشرقية ومغربية وشمالية وجنوبية، وبالحقيقة تهب الرياح من كل جانب ولكنها ضبطت كذلك، وقد يصعد الريح من قعر الأرض فقد يشاهد غليان شديد في البحر بسبب تولد الرياح في قعره ثم لا يزال يتزايد ذلك الغليان إلى أن ينفصل الريح إلى ما فوق البحر، وحينئذ يعظم هبوب الرياح في وجه البحر، وعن ابن عمر: الرياح ثمان: أربع منها عذاب وهو العاصف والقاصف والصرصر والعقيم، وأربع منها رحمة الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات، وعن النبي صلى الله عليه وآله: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور والجنوب من ريح الجنة» «1» . وعن كعب: لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر الأرض. وعن السدي أنه تعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب، ثم إنه تعالى يبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فينزل الماء على السحاب، ثم يمطر السحاب بعد ذلك برحمته وهي المطر. ومعنى   (1) رواه البخاري في كتاب الاستسقاء باب 26. كتاب بدء الخلق باب 5. مسلم في كتاب الاستسقاء حديث 17. أحمد في مسنده (1/ 223) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أي لأجل بلد ميت ليس فيه نبات ولا زرع، والبلد كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون. فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ قال الزجاج وابن الأنباري: أي بالبلد. وجائز أن يراد بالسحاب أو بالسوق فالباء للسببية. فَأَخْرَجْنا بِهِ قال الزجاج: أي بالبلد. مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ويجوز أن يراد أي بالماء. قال جمهور الحكماء: إنه تعالى أودع في الماء قوّة وطبيعة توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج الماء بالتراب. وقال أكثر المتكلمين: إن الثمار ليست متولدة من الماء وإنما أجرى الله تعالى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب كَذلِكَ مثل ذلك الإخراج وهو إخراج الثمرات. نُخْرِجُ الْمَوْتى فالتشبيه إنما وقع في أصل الإحياء أي كما أحيا هذا البلد وأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر كذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا ترابا لأن من قدر على إحداث الجسم وخلق الرطوبة والطعم فيه كان قادرا على إحداث الحياة في بدن الميت. وقال كثير من المفسرين: المراد أنه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الماء كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال مطر على الأجساد الرميمة. يروى أنه يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطر كالمني أربعين يوما فينبتون عند ذلك أحياء. وعن مجاهد: تمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور والثمر، ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها. قال العلماء: إن هؤلاء المفسرين ذهبوا إلى هذا بناء على النقل وعلى إجراء العادة وإلا فإنه تعالى قادر على خلق الحياة في الجسم ابتداء من غير واسطة المطر كما أنه يجمع بقدرته الأجزاء المتفرقة والمتمزقة غاية التفرق والتمزق ولهذا ختم الآية بقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ والمعنى أنكم شاهدتم أن الأرض كانت مزينة وقت الربيع والصيف والخريف بالأزهار والثمار والأشجار ثم صارت وقت الشتاء ميتة عارية عن تلك الزينة، ثم أحياها مرة أخرى، فالقادر على إحيائها قادر على إحياء الأجساد بعد موتها، ثم ضرب الله سبحانه مثلا للمؤمن والكافر وشبه القرآن بالمطر، وذلك أن الأرض الحرة إذا نزل بها المطر حصل فيها أنواع الأزهار والثمار والأرض السبخة بعد نزول المطر لا يخرج منها إلا النزر القليل من النبات، فكذلك النفس الطاهرة النقية من شوائب الأخلاق الذميمة إذا اتصل بها أنوار القرآن ظهرت عليها أنواع المعارف والأخلاق الفاضلة، والنفس الخبيثة لا ترجع من ذلك إلا بخفي حنين. وقيل: ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعا منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة. فمن يطلب هذا النفع اليسير فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة بالمشقة التي لا بد منها ومن تحملها في أداء الطاعات كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 أولى. وفي الآية دلالة على أن السعيد لا ينقلب شقيا وبالعكس، لأنها دلت على أن الأرواح قسمان: منها ما تكون في أصل جوهرها طاهرة نقية مستعدة لأن تعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ومنها ما تكون بالضد لا تقبل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة كالأرض السبخة التي لا يتولد فيها الأشجار والأنهار والثمار. ومما يقوّي هذا الكلام أن النفوس نراها مختلفة في الصفات فمنها مجبولة على حب الإلهيات منصرفة عن اللذات الجسمانيات كقوله تعالى: تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [المائدة: 83] لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: 273] ومنها قاسية قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، ومنها مائلة إلى الشهوة دون الغضب، ومنها على العكس، ومنها راغبة في المال دون الجاه، ومنها بالخلاف ومن الراغبين في المال من يرغب في العقار دون الأثمان والنقود، ومنهم من هو بالعكس. ومما يؤكد هذه المعاني قوله سبحانه وتعالى: بِإِذْنِ رَبِّهِ أي بتيسيره وهو في موضع الحال كأنه قيل: يخرج نباته حسنا كاملا لوقوعه في طباق نَكِداً والنكد الذي لا خير فيه. وتقدير الآية ونبات البلد الخبيث لا يخرج، أو البلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكدا فحذف المضاف الذي هو النبات وأقيم المضاف إليه وهو الضمير الراجع إلى البلد مقامه فانقلب مرفوعا مستكنا بعد أن كان مجرورا بارزا. من قرأ نَكِداً بفتح الكاف فعلى المصدر أي ذا نكد كَذلِكَ مثل ذلك التصريف نردّد الآيات ونكررها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعمة الله لأن فائدة التصريف تعود عليهم وإنما ختم الآية بالحث على الشكر لأن الذي سبق ذكره هو أن الله تعالى يرسل الرياح النافعة فيجعلها سببا للمطر الذي هو سبب الملاذ والطيبات فهذا يدل من أحد الوجهين على وجود الصانع وقدرته، ومن الوجه الثاني على عظيم نعمته وقدرته فوجب من هذا الوجه مقابلتها بالشكر والله أعلم. التأويل: عرّف ذاته للخلق بصفات الهوية والألوهية والقادرية والخالقية والمدبرية والحكيمية والاستوائية فقال: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الآية وإنما خص ستة أيام لأن أنواع المخلوقات ستة: الأوّل الأرواح الإنسانية (ب) الملكوتيات منها الملائكة والجن والشياطين وملكوت السموات والأرض ومنها العقول المفردة والمركبة. (ج) النفوس السماوية الأرضية. (د) الأجرام البسيطة العلوية كالعرش والكرسي والسموات والجنة والنار. (هـ) الأجسام البسيطة السفلية وهي العناصر، والأجسام الكثيفة المركبة من العناصر، فلما خلق الأنواع الستة استوى على العرش بعد الفراغ من خلقها استواء التصرف في العالم وما فيه. وخص العرش بالاستواء لأنه مبدأ الأجسام اللطيفة القابلة للفيض الرحماني. والاستواء كالعلم صفة من صفاته لا يشبه استواء المخلوقين كما أن علمه لا يشبه علم المخلوقين. ومن أسرار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 الخلافة الروح تتصرف في النطفة أيام الحمل فتجعلها عالما صغيرا، فبدنه كالأرض. ورأسه كالسماء والقلب كالعرش، والسر كالكرسى، والقلب يقسم فيض الروح إلى القالب كما أن العرش يقسم فيض الإله إلى سائر المخلوقات يُغْشِي أي يستولي ليل ظلمات النفس وصفاتها على نهار أنوار القلب وبالعكس. أَلا لَهُ الْخَلْقُ بواسطة وَالْأَمْرُ بلا واسطة ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً بالجوارح وَخُفْيَةً بالقلوب. أو تضرعا بأداء حق العبودية وخفية بمطالب حق الربوبية إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الذين يطلبون منه سواه وَلا تُفْسِدُوا في أرض القلوب بعد أن أصلحها الله برفع الوسائط. وَادْعُوهُ خَوْفاً من الانقطاع وَطَمَعاً في الاصطناع، أو خوفا من الاثنينية وطمعا في الوحدة، أو خوفا من الانفصال وطمعا في الوصال. إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الذين لا يرون سواه يرسل رياح العناية فينشر سحاب الهداية سحابا ثقالا بأمطار المحبة، سقناه لكل قلب ميت فأنزلنا به ماء المحبة فأخرجنا به ثمرات المكاشفات والمشاهدات، كذلك نخرج موت القلوب من قبور الصدور ولعلكم تذكرون أيام حياتكم في عالم الأرواح إذ كنتم في رياض القدس وحياض الأنس. والبلد الطيب القلب الحي يتخلق بأخلاقه الحميدة كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي النفوس وصفاتها إلى أوصاف القلب وأخلاقه. [سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 72] لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 القراآت: إِلهٍ غَيْرُهُ بالجر على الوصف حيث كان: يزيد وعلي الباقون بالرفع حملا على محل مِنْ إِلهٍ إِنِّي أَخافُ بفتح الياء: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير أُبَلِّغُكُمْ بالتخفيف حيث كان: أبو عمرو. والباقون: بالتشديد. عباس: بالاختلاس بَصْطَةً بالصاد: أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل وعاصم وعلي وسهل وشجاع وابن الأخزم عن ابن ذكوان الحلواني عن قالون مخيرا. الوقوف: غَيْرُهُ ط عَظِيمٍ هـ مُبِينٍ هـ الْعالَمِينَ هـ لا يعلمون هـ تُرْحَمُونَ هـ بِآياتِنا ط عَمِينَ هـ هُوداً ط غَيْرُهُ ط تَتَّقُونَ هـ الْكاذِبِينَ هـ الْعالَمِينَ هـ أَمِينٌ هـ لِيُنْذِرَكُمْ ط لتناهى الاستفهام بسطة ج تنبيها على الإنعام العام بعد ذكر إنعام خاص مع اتفاق الجملتين تُفْلِحُونَ هـ آباؤُنا ج للعدول مع فاء التعقيب الصَّادِقِينَ هـ وَغَضَبٌ ط مِنْ سُلْطانٍ ج لانتهاء الاستفهام إلى أمر التهديد الْمُنْتَظِرِينَ هـ مُؤْمِنِينَ هـ. التفسير: لما ذكر في تقرير المبدأ والمعاد دلائل قاهرة وبينات باهرة شرع في قصص الأنبياء وفي ذلك فوائد منها، التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول الدلائل عادة معتادة فيكون فيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها بيان سوء عاقبة المستكبرين وحسن عقبى المطيعين وفي ذلك تقوية قلوب المحقين وكسر قلوب المبطلين. ومنها التنبيه على أن الله سبحانه لا يهمل المبطلين وإن كان يمهلهم. ومنها العظة والاعتبار لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف: 111] ومنها الدلالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من حيث إنه إخبار بالغيب لأنه أمي لم يقرأ الكتب فيكون قد عرف ذلك بالوحي لا محالة. فمن القصص أولاها قصة آدم وقد مرت في أوّل السورة. الثانية قصة نوح وهو نوح بن لمك بن مثوشلخ بن أخنوخ، وأخنوخ اسم إدريس. قيل: كان اسمه يشكر فسمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه فأهلكوا فندم، أو حين راجع ربه في شأن ابنه، أو حين مر بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح فعوتب على ذلك. قال الله له: أعبتني إذ خلقته أم عبت الكلب؟ وهذه الوجوه متكلفة فإن الإعلام لا تفيد صفة في المسمى. والصحيح أنه اسم أعجمي. قال ابن عباس: معنى أرسلنا بعثنا. وقال آخرون: معناه أنه تعالى حمله رسالة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 يؤدّيها، فالرسالة على هذا التقدير تكون متضمنة للبعث فيكون البعث كالتابع لا أنه أصل. قال في التفسير الكبير: وهذا البحث مبني على مسألة أصولية هي أن الرسول أرسل إلى قوم ليعرّفهم أحكاما لا سبيل لهم إلى معرفتها بعقولهم، أو الغرض من بعثته مجرد تأكيد ما في العقول. وهذا الاختلاف بتفاريع المعتزلة أليق، أمرهم نوح بعبادة الله ثم حكم بأنه لا إله إلا الله ثم حذرهم عذاب يوم عظيم هو القيامة أو الطوفان، ولم يذكر دليلا على هذه الدعاوى الثلاث لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم بعد ظهور المعجزة حجة، أو لعله قد ذكر الحجج وما حكاها الله تعالى لأنه قد علم من القرآن ذم التقليد في مواضع كثيرة فيعلم أن نبي الله لا يأمر قومه بالتقليد المحض، وأيضا قد مر دلائل التوحيد والنبوّة وصحة القرآن من أول سورة البقرة إلى هاهنا غير مرة، فوقع التعويل على ذلك هذا مع أن الحكم الثاني كالعلة للأوّل لأنه إذا لم يكن لهم إله غيره كان كل ما حصل عندهم من وجوه النفع والإحسان والبر واللطف حاصلا منه، ونهاية الإنعام توجب غاية التعظيم ومن هنا قال بعض العلماء: لا يحسن منا عبادة الله تعالى قبل العلم بأنه واحد لأنا إذا جوّزنا التعدد لم يتعين المنعم فتقع العبادة ضائعة، والإله معناه المستحق للعبادة وإلا فهو في الأزل غير معبود. ومعنى الخوف في الآية قال بعضهم: الجزم واليقين فإنه كان جازما بنزول العذاب بهم عاجلا وآجلا. وقال آخرون: الشك لأنه كان يجوّز إيمانهم ومع هذا التجويز كيف يجزم بالعذاب، أو لعل السمع لم يرد بعد فلهذا كان متوقفا، أو لعله وصف العذاب بالعظم ولكنه جر على الجوار. ثم إنه تردد في وصف العذاب بالعظم لا في نفس العذاب. وقيل: المراد من الخوف التحذير. وجملة قوله: إِنِّي أَخافُ بيان للداعي إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون الأصنام قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ أي الأشراف وصدور المجالس الذين هم بعض قومه في جواب نوح إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ في ذهاب عن طريق الحق. والصواب مبين بين والرؤية رؤية القلب بمعنى الاعتقاد والظن دون المشاهدة والبديهة. نسبوه إلى الضلال فيما ادعاه من التكليف والتوحيد والنبوّة والمعاد قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ لم يقل ضلال ليكون أبلغ في عموم السلب كأنه قال: ليس بي نوع من أنواع الضلال، ثم لما نفى عن نفسه العيب الذي نسب إليه وصف نفسه بأشرف الصفات وأجلها فاستدرك قائلا: وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وهذا الاستدراك يسمى في علم البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم. وفي ذلك بيان فرط جهالتهم وعتوّهم حيث وصفوا من هو بهذه المنزلة من الهدى بالضلال الظاهر الذي لا ضلال بعده. وفيه أن مدح الإنسان نفسه إذا كان في موضع الضرورة جائز. ثم ذكر ما هو المقصود من البعثة وهو أمران: الأول تبليغ الرسالة، والثاني تقرير النصيحة فقال أُبَلِّغُكُمْ الآية. والجملة استئناف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 بيان لكونه رسولا من رب العالمين، أو صفة لرسول. وإنما جاز أن تكون صفة ولفظ الرسول غائب نظرا إلى المعنى كقوله: أنا الذي سمتن أمي حيدره رِسالاتِ رَبِّي ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة، أو ما أوحي اليّ في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي. وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا. ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جده إدريس وهي ثلاثون صحيفة، ومن صحف شيث وهي خمسون صحيفة وَأَنْصَحُ لَكُمْ قال الفراء: العرب لا تكاد تقول نصحتك وإن كان جائزا ولكن تقول نصحت لك. قال في الكشاف: وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة. وحقيقة النصح الإرشاد إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكر. ومعنى الآية: وأبلغكم تكاليف الله ثم أرشدكم إلى الأصلح الأصوب وأدعوكم إلى ما دعاني الله تعالى وأحب لكم ما أحب لنفسي وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي أعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان، وذلك أنهم لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم أو أعلم أن الله يعاقبكم في الآخرة عقابا، أو أعلم من توحيد الله من صفات جلاله ما لا تعلمون، ويكون المقصود حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب تلك العلوم. أَوَعَجِبْتُمْ الهمزة للإنكار، والمعطوف محذوف والتقدير: أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر من ربكم. قال الحسن: يعني الوحي الذي جاءهم به. وقال آخرون: الذكر المعجز كتابا أو غير كتاب. وقيل: هو الموعظة عَلى رَجُلٍ أي على لسانه قاله ابن قتيبة ونظيره آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمران: 194] وقال الفراء «على» بمعنى «مع» تقول: جاءنا الخبر على وجهك ومع وجهك كلاهما جائز. وقيل: أي منزل على رجل. ومعنى مِنْكُمْ من بني نوعكم كأنهم استبعدوا أن يكون لله رسول إلى خلقه لاعتقادهم أن المقصود من الإرسال التكليف، وأن التكليف لا منفعة فيه للمعبود لتعاليه ولا للعابد لتضرره في الحال، وأما في المآل فالله تعالى قادر على تحصيله بدون واسطة التكليف. وأيضا إن العقل كاف في معرفة الحسن والقبيح، وما لا يعلم حسنه ولا قبحه فإن كان المكلف مضطرا إليه فعل لأنه تعالى لا يكلف مالا يطاق، وإن لم يكن مضطرا إليه ترك حذرا عن الخطر وبتقدير أنه لا بد من الرسول فإن إرسال الملائكة أولى لشدة بطشهم ووفور عصمتهم وطهارتهم واستغنائهم عن الأكل والشرب والنكاح، وبتقدير جواز كون النبي من البشر فلعلهم اعتقدوا أن من كان فقيرا خاملا لا يصلح للنبوّة فأنكر نوح عليه السلام كل هذه الأشياء لأنه تعالى خالق الخلق فله بحكم الإلهية أن يأمر عباده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها، ولا يجوز أن يخاطبهم بتلك التكاليف من غير واسطة لأن ذلك ينتهي إلى حد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 الإلجاء المنافي للتكليف، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسول ملكا لأن الجنس إلى الجنس أسكن وقد مر في أوّل «الأنعام» . ثم بين ما لأجله يبعث الرسول فقال لِيُنْذِرَكُمْ الآية. وإنه ترتيب أنيق لأن المقصود من البعثة الإنذار، ومن الإنذار التقوى، ومن التقوى الفوز برحمة الله. قال الجبائي والكعبي: في الآية دلالة على أنه تعالى لم يرد من المبعوث إليهم إلا التقوى والفوز بالجنة دون الكفر والعذاب، وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا فَكَذَّبُوهُ في ادعاء النبوّة وتبليغ التكاليف وأصروا قال بعض العلماء: ما في حق العقلاء من التكذيب فبغير الباء نحو كذبوا رسلي وكذبوه، وما في حق غيرهم فبالباء نحو كذبوا بآياتنا. والتحقيق أن المراد كذبوا رسلنا برد آياتنا فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ استقروا مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وأنجيناهم في السفينة من الطوفان. قيل: كانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل: كانوا تسعة وهم بنوه سام وحام ويافث وستة ممن آمن به. وإنما قال في سورة يونس فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ [الآية: 73] لأن التشديد للتكثير ولفظة من أدل على العموم ولهذا يقع على الواحد والتثنية والجمع والذكر والمؤنث بخلاف الذين إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ قال ابن عباس: عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوّة والمعاد. وقال أهل اللغة: يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر. فالعمى يدل على عمّى ثابت والعامي على عمّى حادث. القصة الثالثة قصة هود وذلك قوله سبحانه وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً والتقدير لقد أرسلنا نوحا إلى قومه وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا. واتفقوا على أن هودا ما كان أخاهم في الدين. ثم قال الزجاج: معناه أنه كان من آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة والجن. وقيل: أراد واحدا منهم قاله الكلبي، وهو من قولك يا أخا العرب لواحد منهم، وقيل: خص واحدا منهم بالإرسال إليهم ليكونوا أعرف بحاله في صدقه وأمانته. وقيل: معناه صاحبهم. والعرب تسمي صاحب القوم أخاهم قال صلى الله عليه وسلم «إن أخاكم أذن وإنما يقيم من أذن» يريد صاحبهم. ونسبه هود بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح وهُوداً عطف بيان لأخاهم. وأما عاد فهم كانوا باليمن بالأحقاف. قال ابن إسحق: والأحقاف الرمل الذي بين عمان إلى حضرموت. واعلم أن ألفاظ هذه القصة بعضها يوافق الألفاظ المذكورة في قصة نوح وبعضها يخالفها فلنبين أسرارها فمنها قوله هناك فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وهاهنا قالَ يا قَوْمِ والفرق أن نوحا عليه السلام كان مواظبا على دعوتهم وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة، وأما هود فما كان جدّه إلى هذا الحد فلا جرم جاء بالتعقيب في قصة نوح دون قصة هود. ويمكن أن يقال: لما أضمر أَرْسَلْنا أضمر الفاء لأن الداعي إلى الفاء أَرْسَلْنا وفي الكشاف أن هذا وارد على سبيل الاستئناف. ومنها قوله ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وفي قصة هود ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ لأن واقعة هود كانت مسبوقة بواقعة نوح فوقع الاقتصار على ذلك أي لعلكم تحذرون مثل ذلك العذاب العظيم الذي اشتهر خبره في الدنيا. ومنها قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ وفي قصة هود قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إما أن هذا وصف وارد للذم لا غير، وإما أنه لم يكن في أشراف قوم نوح من يؤمن وكان في أشراف قوم هود من آمن به منهم مرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه فأريد التفرقة بالوصف. ومنها أن قوم نوح قالوا إنا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وقوم هود قالوا إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ أي متمكنا منها تمكن المظروف من الظرف. وذلك أن نوحا كان يخوّفهم بالطوفان العام وكان يشتغل بإعداد السفينة مدّة طويلة فوصفوه بضعف الرأي والبعد عن السداد. وأما هو فما ذكر شيئا إلا أنه زيف معتقدهم في عبادة الأصنام وطعن فيها فقابلوه بمثله ونسبوه إلى السفاهة وخفة العقل حيث فارق دين قومه. ثم قالوا وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ في ادعاء الرسالة. قيل: الظن بمعنى الجزم واليقين كقوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة: 46] قال الحسن والزجاج: كانوا شاكين فيعلم أن الشك والتجويز في أصول الدين يوجب الكفر. ومنها قول نوح وَأَنْصَحُ لَكُمْ وقال هود وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ وذلك لأنه كان من عادة نوح عليه السلام العود إلى تجديد تلك الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة، وصيغة الفعل دلت على التجدد المستمر ولهذا قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نوح: 5] إلى آخر الآيات. وأما هود فكان ثابتا على النصح غير مجدد إياه لحظة فلحظة كما كان يفعل نوح. ثم إن نوحا عليه السلام قال وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ لأنه كان يعلم من أسرار الله تعالى ما لم يصل إليه هود فلا جرم أمسك هود لسانه واقتصر على وصف نفسه بكونه أمينا ثقة أي عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة فليس من حقي أن آتي بالكذب والغش. أو المراد تقرير الرسالة فإنها تدور على الأمانة أي أنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه، أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه. وفي هذين الجوابين عن مثل ذينك الشخصين مع جلالة قدرهما دليل على أن الحكيم يجب أن لا يقابل السفهاء إلا بالكلام المبني على الحلم والإغضاء. ومنها أن هودا اقتصر على قوله لِيُنْذِرَكُمْ لما مر في قصة نوح أن فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة فلم يكن حاجة إلى الإعادة ولكنه ضم إلى ذلك شيئا آخر يختص بهم فقال وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أي خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكا قد استخلفكم فيها بعدهم وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأملاكهم وما يتصل بها من المنافع، «وإذا» مفعول به لا ظرف أي اذكروا وقت جعلكم خلفاء وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فالخلق التقدير وقلما يطلق إلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 على الشيء الذي له مقدار وحجمية. والمراد حصول الزيادة في أجسامهم زيادة خارقة للعادة وإلا لم تذكر في معرض الامتنان. قال الكلبي: كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا. وقال آخرون: تلك الزيادة هي مقدار ما تبلغه يد الإنسان إذا رفعها كانوا يفضلون على أهل زمانهم بهذا القدر. ومنهم من حمل اللفظ على الزيادة في القوة، ومنهم من قال: الخلق الخليقة وبسطتهم فيهم كونهم من قبيلة واحدة متشاركين في القوة والشدّة والجلادة متناصرين متوادّين فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ في استخلافكم وبسطة أجرامكم وفيما سواهما من عطاياه وآلاء الله نعمه واحدها إلى ونحوه إني وآناء كعنب وأعناب. قال الجوهري: واحدها إني بالفتح وقد يكسر ويكتب بالياء. استدل الطاعنون في وجوب الأعمال الظاهرة بالآية قالوا: إنه تعالى رتب حصول الفلاح على مجرد التذكر. وأجيب بأن الآيات بالدالة على وجوب العمل مخصصة أو مقيدة والتقدير: فاذكروا آلاء الله واعملوا عملا يليق بذلك الإنعام لعلكم تفلحون. ذكرهم نبيهم نعم الله عليهم ليرجعوا إلى عقولهم فيعلموا أن العبادة نهاية التعظيم ولا تلق إلا بمن صدر عنه نهاية الإنعام وليس للأصنام على الخلق شيء من النعم لأنها جماد والجماد لا قدرة له أصلا فلم يكن للقوم جواب عن هذه الحجة إلا التمسك بطريقة التقليد وذلك قولهم أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ الهمزة لإنكار اختصاص الله وحده بالعبادة. وفي المجيء أوجه منها: أن يكون لهود معتزل يتحنث فيه أي يتعبد كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل المبعث، فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم. ومنها الاستهزاء اعتقادا منهم أن الله لا يرسل إلا ملكا فكأنهم قالوا: أجئتنا من السماء كما يجيء الملك؟ ومنها أن يراد به القصد كما يقال: ذهب يشتمني، ولا يراد حقيقة الذهاب كأنهم قالوا: أتعرضت لنا بتكليف عبادة الله وحده أي منفردا عن الأصنام وهو من المعارف التي وقعت حالا بتأويل. ولا يمكن أن يكون وحده هاهنا اعترافا كما يقول الموحد لا إله إلا الله وقال الله وحده لأن الفرض أنهم مشركون. ثم إن قول هود فيما قبل أَفَلا تَتَّقُونَ كان مشعرا بالتهديد والوعيد فلهذا استعجلوا العذاب زعما منهم أنه كاذب وذلك قولهم فَأْتِنا بِما تَعِدُنا فأجابهم هود بقوله قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ولا بد أن يحملا على معنييين متغايرين لمكان العطف. أما الغضب في حقه تعالى فإرادة إيقاع السوء كما سبق مرارا، وأما الرجس فقيل: العذاب. واعترض عليه بلزوم التكرار. وقيل: العقائد المذمومة والصفات القبيحة. وذلك أن الرجس ضد التطهير كما قال سبحانه في صفة أهل البيت إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33] وقال القفال: الرجس هو الازدياد في الكفر بالرين على القلوب كما قال فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125] وهذا التفسير أخص. أما قوله قَدْ وَقَعَ ولم يقع العذاب بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 ففيه وجوه: قال بعض من يقول بأن إرادة الله تعالى حادثة: معناه أنه تعالى أحدث إرادة في ذلك الوقت. وقيل: أراد هود أنه أخبر بنزول العذاب. وقيل: جعل المتوقع الذي لا شك فيه بمنزلة الواقع كقولك لمن طلب منك حاجة قد كان ذلك. تريد أنها ستكون البتة. وعن حسان أن ابنه عبد الرحمن لسعه زنبور وهو طفل فجاء أباه يبكي فقال له: يا بني ما لك؟ فقال: لسعني طوير كأنه ملتف في بردي حبرة فضمه إلى صدره وقال: يا بني قد قلت الشعر. ثم أنكر عليهم قبيح فعالهم فقال أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ تناظرونني في شأن آلهة أشياء ما هي إلا أسماء سَمَّيْتُمُوها أحدثتموها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي لا حجة على حقيقتها فتنزل. والحاصل أنها أسماء بلا مسميات لأنكم تسمونها آلهة ومعنى الإلهية فيها معدوم محال. سموا واحدا بالعزي مشتقا من العز وما أعطاه الله تعالى عزا أصلا. وسموا آخر منها باللات من الإلهية وماله من الإلهية أثر. وإنما قال في هذه السورة نزل وفي غيرها مما سيجيء أَنْزَلَ لأن «نزل» للتكثير فيكون للمبالغة ويجري ما بعده مجرى التفصيل للجملة، أو أنواع للجنس والله أعلم. ثم إنه ذكرهم وعيدا محدودا فقال فَانْتَظِرُوا سوء عاقبة هذه الأصنام إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ عاقبة السوء أو عاقبة الحسنى وذلك قوله فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ بسبب رحمة كانوا يستحقونها مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي استأصلناهم ودمرناهم عن آخرهم وقد مر مثله في الأنعام. وفائدة نفي الإيمان عنهم في قوله وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ مع إثبات التكذيب بآيات ربهم أن يكون تعريضا بمن آمن منهم كمرثد بن سعد وغيره كأنه قيل: ولقد قطعنا دابر الذين كذبوا ولم يكونوا مثل من آمن منهم، أو معنى وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ في علم الله تعالى أي لم يكونوا من المكذبين الذي لو بقوا لآمنوا. قال في الكشاف: وإن عادا قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت وكانت لهم أصنام يعبدونها. صداء وصمود والهباء فبعث الله هودا نبيا وكان من أوسطهم وأشرفهم وأفضلهم حسبا فكذبوه وازدادوا عتوا وتجبرا، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا. وإن الناس كانوا إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله الفرج من ذلك عند بيته الحرام مسلمهم ومشركهم وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر، فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلا منهم قيل بن عنز ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه فلما نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم أنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان كانتا لمعاوية إحداهما وردة والأخرى جرادة ولما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا لأجله أهمه ذلك وقال: قد هلك أخوالي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 وأصهاري وهؤلاء على ما هم عليه وكان يستحي أن يكلمهم خيفة أن يظنوا أنه ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا: قل قولا نغنيهم به لا يدرون من قاله فقال معاوية: ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماما ويسقي أرض عاد إن عادا ... قد أمسوا ما يبينون الكلاما الهينمة إخفاء الكلام في الدعاء وغيره، ومعنى يسقينا يجعله ساقيا لنا. وقوله ما يبينون الكلام أي لا يكادون يفقهون قولا من ضعفهم وسوء حالهم. فلما غنتا به قالوا: إن قومكم يتغوّثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم. فقال لهم مرثد بن سعد: والله لا يسقون بدعائكم ولكم إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم وأظهر إسلامه. فقالوا لمعاوية: أحبس عنا مرثدا لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا، ثم دخلوا مكة فقال قيل: اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم فأنشأ الله سحابات ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء يا قيل اختر لنفسك ولقومك. فقال: اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث فاستبشروا بها وقالوا: هذا عارض ممطرنا. فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه فأتوا مكة فتعبدوا الله فيها حتى ماتوا. التأويل: لقد أرسلنا نوح الروح إلى قومه ببلاد القوالب وهم القلب وصفاته والنفس وصفاتها، ومن صفة الروح العبودية والطاعة دعوة القلب والنفس وصفاتها إلى الله وعبوديته، ومن صفات النفس تكذيب الروح ومخالفته والإباء عن نصحه والتعجب فَكَذَّبُوهُ يعني النفس وصفاتها نوح الروح فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ في الفلك الشريعة وَأَغْرَقْنَا النفس وصفاتها في البحر الدنيا وشهواتها إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ عن رؤية الله والوصول إليه وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً كما أوقع التفاوت بين شخص وشخص فيما يعود إلى المباني أوقع التباين بين قوم وقوم فيما يرجع إلى المعاني قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أي مقالتكم تدل على حالتكم أنه أصابكم سطوات العذاب. فمن أمارات الإعراض رد العبد إلى شهود الأغيار وتغريقه إياه في بحار الظنون والأوهام والجدال. [سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 84] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 القراآت: وقال الملأ بالواو: ابن عامر إِنَّكُمْ بحذف همزة الاستفهام: أبو جعفر ونافع وحفص وسهل. أإنكم بهمزتين: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير جفص، وهشام يدخل بينهما مدة، آينكم بالمد وبالياء: أبو عمرو وزيد. أينكم بالهمزة والياء: ابن كثير ويعقوب غير زيد. الوقوف: صالِحاً ج لئلا يظن أن صالِحاً صفة لا علم فالجملة بعده نعت له وهذا بخلاف اسم شعيب وغيره من الأعلام العربية غَيْرُهُ ط مِنْ رَبِّكُمْ ط أَلِيمٌ هـ بُيُوتاً ط لما مر في قصة هود مُفْسِدِينَ هـ مِنْ رَبِّهِ ج مُؤْمِنُونَ هـ كافِرُونَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ جاثِمِينَ هـ النَّاصِحِينَ هـ مِنَ الْعالَمِينَ هـ مِنْ دُونِ النِّساءِ ط لمكان الإضراب. مُسْرِفُونَ هـ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ج لاحتمال التعليل استهزاء إِلَّا امْرَأَتَهُ ز لاحتمال الاستئناف والأشبه أنها حال المرأة مِنَ الْغابِرِينَ هـ مَطَراً ط الْمُجْرِمِينَ هـ. التفسير: القصة الرابعة قصة صالح مع قومه ثمود. قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها من الثمد وهو الماء القليل. وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى. وإنه لا ينصرف تارة بتأويل القبيلة وينصرف أخرى بتأويل الحي، أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح. وقيل: إن ثمود أخو جديس وطسم. وقد ورد القرآن بالصرف وبمنعه جميعا قال تعالى أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 أَلا بُعْداً لِثَمُودَ [هود: 68] قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ آية ظاهرة دالة على صدقي وكأنه قيل: ما تلك البينة فقال هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً وانتصابها على الحال والعامل فيها ما في اسم الإشارة أو حرف التنبيه من معنى الفعل أي أشير إليها أو أنبه عليها آية. ولَكُمْ بيان لمن هي له آية موجبة للإيمان وهم ثمود. وسبب تخصيص أولئك الأقوام بها مع أنها آية لكل أحد أنهم عاينوها وغيرهم أخبروا بها وليس الخبر كالمعاينة. أو لعله يثبت سائر المعجزات إلا أن القوم التمسوا هذه المعجزة بعينها على سبيل الاقتراح فأظهرها الله تعالى لهم فلهذا حسن التخصيص. وإنما أضيفت إلى اسم الله تعظيما لها وتفخيما لشأنها حيث جاءت مكونة من عنده من غير فحل وطروقة آية من آياته كما تقول: آية الله وبيت الله، وبالحقيقة هي آية تشتمل على آيات. فخروجها من الجبل آية، وكونها لا من ذكر وأنثى آية، وكمال خلقها من غير تدريج ومهل آية، وأن لها شرب يوم ولجميع ثمود شرب يوم آية، وكذا الكلام في قوتها المناسب للماء وفي غزارة لبنها، وأنكر الحسن فقال: إنها لم تحلب قطرة لبن قط. ويروى أن جميع الحيوانات كانت تمتنع عن الورود في يوم شربها. وقيل: سميت ناقة الله لأنه لا مالك لها سوى الله تعالى. وقيل: لأنها حجة الله على القوم فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ أي الناقة ناقة الله والأرض أرض الله فدعوها تأكل في أرض ربها ومما أنبت منها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ من الضرب والطرد وسائر أنواع الأذى إكراما لآية الله. فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني أخذ الاستفزاز والاستئصال وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ تفسيره كما في قصة هود وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أنزلكم فيها والمباءة المنزل والأرض أرض الحجر تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها أي تبنون من سهول الأرض قصورا بما تعملون من الأراضي السهلة لبنا وآجرا ورهصا. وانتصاب بُيُوتاً على الحال المقدرة كما تقول خط هذا الثوب قميصا لأن الجبل لا يكون بيتا في حال النحت ولا الثوب قميصا في حال الخياطة. ويجوز أن تكون من مقدرة اكتفاء بقوله مِنْ سُهُولِها كما جاءت في موضع آخر تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ [الشعراء: 149] فيكون منصوبا على أنه مفعول به. وقيل: المراد أنهم كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ يعني إني قد ذكرت لكم بعض نعم ربكم فاذكروا أنتم تمامها وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قيل: نهى عن عقر الناقة والأولى حمله على العموم. وإعرابه قد مر في أوائل سورة البقرة. قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي المساكين الذين استحقرهم رؤساء الكفار. وقوله لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من قوله لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا بتكرار الجار لشدة الاتصال. والضمير في مِنْهُمْ إما أن يرجع إلى الذين استضعفوا فيكون البدل بدل البعض ودل على أن المستضعفين فريقان مؤمنون وكافرون، وإما أن يرجع إلى قومه فيكون البدل بدل الكل ودل على أن الاستضعاف من شأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 أهل الإيمان يستحقرهم المستكبرون، ولا يكون صفة ذم في حقهم وإنما الذم يعود إلى المستحقرين. وفي الآية دلالة على أن الفقر خير من الغنى لأن الاستكبار يتولد من كثرة المال والجاه والتصديق والانقياد ينشأ من قلتهما أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالوه على سبيل التهكم والسخرية لا للاستعلام والاسترشاد. قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ جعلوا إرساله أمرا بينا مكشوفا مسلما لا يدخله ريب وإنما الكلام في وجود الإيمان فنخبركم أنا به مؤمنون ولذلك قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا في جوابهم إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ قال الأزهري: العقر عند العرب كشف عرقوب البعير ثم أطلق على النحر إطلاقا لاسم السبب على المسبب، وأسند العقر إلى جميعهم مع أنه ما باشره إلا بعضهم لأنه كان برضاهم، وقد يقال للقبيلة العظيمة أنتم فعلتم كذا ولعله لم يفعله إلا واحد منهم كقوله وَإِذْ قَتَلْتُمْ [البقرة: 72] وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ استكبروا عن امتثاله. قال مجاهد: العتو الغلو في الباطل وأمر ربهم شأنه أي دينه، أو المراد أمر به صالح من قوله فَذَرُوها وَلا تَمَسُّوها والمعنى أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوهم فإن الإنسان حريص على ما منع. وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أطلقوا الوعد وأرادوا ما وعدهم من العذاب واستعجالهم العذاب إنما كان لأجل تكذيبهم بكل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد، ولذلك علقوه بما كانوا ينكرونه وهو كونه من المرسلين فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال الفراء والزجاج: هي الزلزلة الشديدة قال تعالى يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [المزمل: 14] قال الليث: هي كرجفان البعير تحت الرحل وكما ترجف الشجرة إذا أرجفتها الريح وهذا لا يناقض ما ورد في موضع آخر أنهم أهلكوا بالطاغية وفي آخر أنهم أهلكوا بالصيحة لأن الطغيان مجاوزة الحد. قال تعالى إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ [الحاقة: 11] فالزلزلة هي الحركة الخارجة عن الحد المعتاد، والغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة الهائلة. فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي في بلدهم كقولك: دار الحرب ودار الإسلام. وقد جمع في آية أخرى فقال: فِي دِيارِهِمْ [هود: 67] لأنه أراد بالدار ما لكل واحد من منزله الخاص إلا أنه حيث ذكر الرجفة وحد وحيث ذكر الصيحة جمع لأن الصيحة كأنها من السماء فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة. ومعنى جاثِمِينَ موتى لا حراك بهم. قال أبو عبيدة: الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل فجثوم الطير هو وقوعه لاطئا بالأرض في حال سكونه بالليل ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها وهي البهيمة التي تربط وتجمع قوائمها لترمى فَتَوَلَّى عَنْهُمْ الفاء للتعقيب. فالظاهر أن صالحا عليه السلام أدبر عنهم بعد ما أبصرهم جاثمين وكأنه تولى وهو مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 الرسالة بخلاف ما مر في قصتي نوح وهود لأن المراد هناك أشياء كانا يأمران بها قومهما بعد الإيمان بالله، وهاهنا وقع في آخر القصة فأراد بها مجموع ما أدى من الرسالة، أو أراد بذلك أداء حديث الناقة فقط. وَنَصَحْتُ لَكُمْ لم آل جهدا في النصيحة وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ حكاية لحال ماضية. واعترض على هذا التفسير بأنه كيف يصح خطاب الموتى؟ وأجيب بأنه قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه في حياته فلم يصغ إليه يا أخي كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل مني حتى ألقيت بنفسك إلى التهلكة. والفائدة في مثل هذا الكلام أن يسمعه بعض الإحياء فيعتبر به. ولعل القائل أيضا يتسلى بذلك وتزول بعض الغصة عن قلبه ويخف عليه ما نزل به، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب قتلى بدر وقال: يا فلان ويا فلان قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فقيل له: كيف تتكلم مع هؤلاء الجيف؟ فقال: ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يقدرون على الجواب. وتفسير آخر وهو أن يكون تولى عنهم تولى ذاهب عنهم منكر لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب. وجملة قصتهم ما روي أن عادا لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض فكثروا وعمروا أعمارا طوالا حتى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته فنحتوا البيوت من الجبال وكانوا في سعة ورخاء من العيش، فعتوا عن أمر الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان فبعث الله إليهم صالحا وكانوا قوما عربا. وصالح من أوسطهم نسبا. فدعاهم إلى الله فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون فحذرهم وأنذرهم فسألوه آية فقال: أية آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة فندعو آلهتنا وتدعوا إلهك، فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا. فقال صالح: نعم. فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألوها الاستجابة فلم تجبهم. ثم قال سيدهم جندع بن عمرو، وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء، والمخترجة التي شاكلت البخت فإن فعلت صدّقناك وأجبناك، فأخذ صالح عليهم المواثيق لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدّقن. قالوا: نعم. فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا، وكانت في غاية العظم حتى قال أبو موسى الأشعري: أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة يعني- موضع بروكها- فوجدته ستين ذراعا. ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه ومنع بقاياهم ناس من رؤوسهم أن يؤمنوا فمكثت الناقة وولدها ترعي الشجر وتشرب الماء وكانت ترد غبا كما قال عز من قائل لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء: 155] وذلك أن الماء كان عندهم قليلا فجعلوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 ذلك الماء بالكلية شربا لها يوما وشربا للقوم يوما. قال السدي: وكانت الناقة في اليوم الذي بشرب فيه الماء تحلب فيكفي الكل فكأنها كانت تصب اللبن صبا، وفي اليوم الذي يشربون الماء لا تأتيهم وكانت إذا وقع الحر تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطن الوادي، وإذا وقع البرد كان الأمر بالعكس فشق ذلك عليهم وقال لهم صالح: يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يديه فذبحوا تسعة نفر من أبنائهم ثم ولد العاشر فأبى أن يذبح ابنه فنبت نباتا سريعا، ولما كبر الغلام جلس مع قوم يشربون الشراب فأرادوا ماء يمزجونه به وكان يوم شرب الناقة فما وجدوا الماء فاشتد ذلك عليهم. فقال الغلام: هل لكم في أن أعقر هذه الناقة فشدّ عليها فلما بصرت به شدّت عليه فهرب منها إلى جانب صخرة فردّوها عليه، فلما مرت به تناولها فعقرها فسقطت فذلك قوله تعالى فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر: 29] وأظهروا حينئذ كفرهم وقيل: زينت لهم عقرها امرأتان- عنيزة أم غنم وصدقة بنت المختار- لما أضرت الناقة بمواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه فانطلق فصيلها حتى رقي جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثا وكان صالح قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه وانفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح: تصبحون غدا ووجوهكم مصفرة، وبعد غد ووجوهكم محمرة، واليوم الثالث ووجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب. فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله إلى أرض فلسطين. ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا. واستبعد بعضهم أن العاقل مع مشاهدة هذه المعجزات والعلامات كيف يبقى مصرا على كفره؟ وأجيب بأنهم عنده مشاهدة العلامات خرجوا عن حدّ التكليف وأن تكون توبتهم مقبولة. عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال: لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فأخذ بهم الصيحة فلم يبق منهم إلا رجل واحد كان في حرم الله. قالوا: من هو قال صلى الله عليه وسلم: ذاك أبو رغال. فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه، وروي أن صالحا كان بعثه إلى قوم فخالف أمره. وروي أن نبينا صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال: أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فذكر قصة أبي رغال وأنه دفن هاهنا وأنه دفن معه غصن من ذهب فابتدروه وبحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن. وروي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء ونزل بهم العذاب يوم السبت. وروي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعا فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفا وخمسمائة دار، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم، وقال صلى الله عليه وسلم يا علي، أتدري من أشقى الأوّلين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: عاقر ناقة صالح أتدري من أشقى الآخرين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال قاتلك. القصة الخامسة قوله سبحانه وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ تقديره أرسلنا لوطا وقت قال لقومه، ويجوز أن يكون معناه واذكر لوطا إذ قال لقومه على أن «إذ» بدل من المفعول به لا ظرف. وإنما صرف نوح ولوط مع أن فيه سببين: العجمة والعلمية، لأن سكون وسطه قاوم أحد السببين أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أتفعلون الخصلة المتمادية في القبح ما سَبَقَكُمْ بِها قال في الكشاف: الباء للتعدية من قولك: سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله أي ما عملت قبلكم. قلت: ومن المحتمل أن تكون الباء فيه مثله في قولك: كتبت بالقلم. وفي قوله تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] أي ما سبقكم ملتبسا بها من أحد من العالمين «من» الأولى زائدة لتأكيد النفي وإفادة الاستغراق، والثانية للتبعيض. وموقع هذه الجملة استئناف لأنه أنكر عليهم أوّلا بقوله أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ثم وبخهم عليها فقال: وأنتم أوّل من عملها. أو هو جواب سؤال مقدر كأنه قيل: لم لا نأتيها؟ فقال: ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به. ويجوز أن تكون صفة للفاحشة كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني وهاهنا سؤال وهو أنه كيف يجوز دعوى عدم السبق في هذه الخصلة ولم تزل الشهوة داعية إليها؟ والجواب لعل متقدميهم كانوا يستقذرونها وينفرون عنها طبعا كسائر الحيوانات، أو المراد أن الإقبال بالكلية على ذلك العمل لم يوجد في الأعصار المتقدمة. قال الحسن: كانوا ينكحون الرجال في أدبارهم وكانوا لا ينكحون إلا الغرباء. وقال عطاء عن ابن عباس: استحكم ذلك فيهم حتى فعل بعضهم ببعض أإنكم لتأتون الرجال بيان لما أجمله في قوله أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وكلا الاستفهامين للإنكار. وفي الثاني أكثر ولهذا زيد فيه «إن» ومثله في النمل أَتَأْتُونَ وبعده أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ [النمل: 55] وفي العنكبوت إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ [الآية: 28] أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ [النمل: 55] فجمع بين «إن» «وأئن» القصة إِنَّا مُنَجُّوكَ إنا منزلون. وانتصب شَهْوَةً على أنها مفعول له أي لا حامل لكم على غشيان الرجال من دون النساء إلا مجرد الشهوة، أو مصدر وقع حالا يقال: شهى يشهى شهوة بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحالة الموجبة لارتكاب القبائح وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء. وختم هذه الآية بلفظ الاسم موافقة لرؤوس الآيات التي تقدمت الْعالَمِينَ النَّاصِحِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 جاثِمِينَ الْمُرْسَلِينَ وفي النمل قال بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الآية: 55] أما العدول من الإسراف إلى الجهل فلتغير العبارة، وكل إسراف جهل وكل جهل إسراف. وأما العدول من الاسم إلى الفعل فلتوافق ما قبلها من الآيات وكلها أفعال يُنْصَرُونَ تَتَّقُونَ يَعْلَمُونَ واعلم أن قبح هذا العمل كالأمر المقرر في الطباع ووجوه القبح فيه كثيرة منها: أن أكثر الناس يحترزون فيه عن الولد لأن الولد يحمل المرء على طلب المال وإتعاب النفس في وجوه المكاسب إلا أنه تعالى جعل الوقاع سببا لحصول اللذة العظيمة حتى إن الإنسان يطلب تلك اللذة ويقدم على الوقاع وحينئذ يحصل الولد شاء أم أبى، وبهذا الطريق يبقى النسل ولا ينقطع النوع فوضع اللذة في الوقاع يشبه وضع الشيء الذي يشتهيه الحيوان في الفخ والغرض إبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع. فكل لذة لا تؤدي إلى هذا الغرض وجب الحكم بتحريمها لما فيه من ضياع البذر ولزوم خلاف الحكمة. ومنها أن الذكورة مظنة الفعل والأنوثة مظنة الانفعال، فانعكاس القضية يكون خروجا عن مقتضى الطبيعة والحكمة، ومنها أن الاشتغال بمحض الشهوة تشبه بالبهائم وخروج عن الغريزة الإنسانية. وهب أن الفاعل يلتذ بذلك العمل إلا أنه سعى في إلحاق العار العظيم بالمفعول ما دام حيا، والعاقل لا يرضى لأجل لذة زائلة إلحاق منقصة دائمة بغيره. ومنها أنه يوجب استحكام العداوة بين الفاعل والمفعول إلى حيث يقدم المفعول عل قتل الفاعل، أو على إلحاق الضرر به بكل طريق يقدر عليه وذلك لنفور طبعه عن رؤيته. وأما حصول هذا العمل بين الرجل والمرأة فإنه يوجب زيادة الألفة والمحبة كما قال تعالى خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21] ومنها أنه تعالى أودع في الرحم قوّة جاذبة للمني بحيث لا يبقى شيء منه في مجاريه وأوعيته، أما إذا واقع الذكر فإنه يبقى شيء من أواخر المني في المجاري فيعفن ويفسد ويتولد منه العلل والأورام في الأسافل كما يشهد به القوانين الطبية. قال بعضهم: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: 5، 6] يقتضي حل وطء المملوك مطلقا ذكرا كان أو أنثى. ولا يمكن تخصيص هذا العموم بقوله أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ [الشعراء: 165] لأن كلا من الآيتين أعم من الأخرى من وجه لأن المملوك قد يكون ذكرا وقد لا يكون، والذكر قد يكون مملوكا وقد لا يكون، فتخصيص إحداهما بالأخرى ترجيح من غير مرجح بل الترجيح لجانب الحل لمقتضى الأصل وذلك لأن المالك مطلق التصرف، ولأن شرع محمد أولى من شرع لوط. وأجيب بأن الاعتماد على التواتر الظاهر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن هذا العمل حرام قال تعالى وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ بالواو كيلا يكون التعقيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 بالفاء بعد الاسم. وفي النمل تَجْهَلُونَ فَما كانَ [النمل: 55] وفي العنكبوت وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ لصحة تعقيب الفعل الفعل إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [الآية: 29] وفي النمل أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ [الآية: 56] ليكون ما في النمل تفسيرا لهذه الكناية وقيل: إن سورة النمل نزلت قبل الأعراف فيكون قد صرح في الأولى وكنى في الثانية. قال في الكشاف: يعني ما أجابوه بما يكون جوابا عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة. ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله ولكنهم جاؤا بكلام آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من فريتهم ضجرا بهم وبما يسمعونهم من وعظهم ونصحهم، وقولهم إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش وافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد. وقيل: المراد أن ذلك العمل في موضع النجاسة فمن تركه فقد تطهر. وقيل: ان البعد عن الإثم يسمى طهارة، فالمراد أنهم يتباعدون عن المعاصي والآثام فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ أي أنصاره وأتباعه والذين قبلوا دينه، وعن ابن عباس: أراد المتصلين به في النسب بدليل قوله إِلَّا امْرَأَتَهُ يقال: امرأة الرجل بمعنى زوجته ولا يقال مرء المرأة يعني زوجها لأن المالكية حق الزوج كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ وفي النمل قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ [النمل: 57] أي كانت في علم الله من الغابرين. قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ وإن قلنا بتأخر نزول الأعراف فالمعنى قدرناها من الغابرين فصارت من الغابرين، والغبور المكث والبقاء أي من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا، أو التذكير لتغليب الذكور وكانت كافرة موالية لأهل سدوم. روي أنها التفتت فأصابها حجر فماتت. ثم وصف العذاب فقال وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي أرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا. قيل: كانت المؤتفكة خمس مدائن. وقيل: كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة. فأمطر الله عليهم الكبريت والنار. وقيل: خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم. وقيل: أمطر عليهم ثم خسف بهم. وروي أن تاجرا منهم كان في الحرم فوقف له الحجر أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه فَانْظُرْ يا محمد أو كل من له أهلية النظر والاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وهذه الأمة وإن أمنت من عذاب الاستئصال إلا أن الخوف والاعتبار من شعار المؤمن لا ينبغي أن ينفك عنه على أن عذاب الآخرة أشدّ وأبقى ولم يأمنوه بعده. مسائل: الأولى مذهب الشافعي أن اللواط يوجب الحدّ لأنه ثبت في شريعة لوط فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ ولم يظهر نسخ في شرعنا، ولأن ذكر الحكم عقيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 الوصف المناسب يدل على علية الوصف للحكم، فالآية دلت على أن هذا الجرم المخصوص علة لحصول هذا الزاجر المخصوص. وقال أبو حنيفة: إن الواجب فيه التعزير لأنه فرج لا يجب المهر بالإيلاج فيه فلا يجب الحدّ كإتيان البهيمة، وعلى الأول ففي عقوبة الفاعل قولان: أحدهما أن عقوبته القتل محصنا كان أو لم يكن لما روي انه صلى الله عليه وسلم قال «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول» «1» وأصحهما أن حده حد الزنا فيرجم إن كان محصنا ويجلد ويغرب إن لم يكن محصنا لأنه حد يجب بالوطء، ويختلف فيه البكر والثيب كالإتيان في القبل. وعلى قول القتل فيه وجوه أحدها: يقتل بالسيف كالمرتد، والثاني وبه قال مالك وأحمد يرجم تغليظا، ويروى عن علي عليه السلام أيضا. والثالث يهدم عليه جدار أو يرمى من شاهق جبل ليموت أخذا من عذاب قوم لوط. وأما المفعول فإن كان صغيرا أو مجنونا أو مكرها فلا حد عليه ولا مهر لأن منفعة بضع الرجل لا تتقوم، وإن كان مكلفا طائعا فيقتل بما يقتل به الفاعل إن قلنا إن الفاعل يقتل، وإن قلنا يحد حد الزنا فيجلد ويغرب محصنا كان أو لم يكن، وإن أتى امرأة في دبرها ولا ملك ولا نكاح فالأظهر أنه لواط لأنه إتيان في غير المأتي ويجيء في الفاعل والمفعول ما ذكرنا. وقيل: إنه زنا لأنه وطء أنثى فأشبه الوطء في القبل فعلى هذا حده حد الزنا بلا خلاف. وترجم المرأة إن كانت محصنة. وإذا لاط بعبده فهو كالأجنبي على الأصح ولو أتى امرأته أو جاريته في الدبر فالأصح القطع بمنع الحد لأنها محل استمتاعه بالجملة. التأويل: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ معجزة الخواص أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر عشراء بسقب سر السر وهو الخفي. وناقة الله هي التي تحمل أمانة معرفته وتعطي ساكني بلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الإلهية، فَذَرُوها ترتع في رياض القدس وحياض الإنس وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بالانقطاع عن مواصلات الحقيقة. إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مستعدين للخلافة وَبَوَّأَكُمْ في أرض القلوب تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها وهي المعاملات بالصدق والإخلاص قُصُوراً في الجنان وَتَنْحِتُونَ من جبال أطوار القلب بُيُوتاً هي مقامات السائرين إلى الله فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ النعماء والإخلاص. فالأول يتضمن ترويح الظاهر، والثاني يوجب تلويح السر. فالترويح بوجود المسار والتلويح بشهود الأسرار وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ القلب بالفساد للاستعداد الفطري الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا هم الأوصاف البشرية   (1) رواه الترمذي في كتاب الحدود باب 24. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 12. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 والأخلاق الذميمة لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا من أوصاف القلب والروح. أَتَعْلَمُونَ أن صالح الروح مُرْسَلٌ بنفخة الحق إلى بلد القلب وساكنيه ليدعوهم من الأوصاف السفلية لظلمانية إلى الأخلاق العلوية النورانية فَعَقَرُوا أي النفس وصفاتها ناقة سر القلب بسكاكين مخالفات الحق فَأَخَذَتْهُمُ رجفة الموت فَأَصْبَحُوا في دار قالبهم جاثِمِينَ والله العزيز. تم الجزء الثامن ويليه الجزء التاسع أوله: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً .... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء التاسع من أجزاء القرآن الكريم [سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 93] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) القراءة: كما مر. الوقوف: شُعَيْباً ط غَيْرُهُ ط إِصْلاحِها ط مُؤْمِنِينَ ج هـ لعطف المتفقتين أو وقوع العارض أو رأس الآية عِوَجاً ج لاتفاق الجملتين مع طول الكلام فَكَثَّرَكُمْ ج لعطف المتفقتين الْمُفْسِدِينَ هـ بَيْنَنا ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف الْحاكِمِينَ هـ مِلَّتِنا ط كارِهِينَ هـ وقيل لا وقف لأن الابتداء بقوله وقَدِ افْتَرَيْنا قبيح قلنا إذا كان محكيا عن شعيب كان أقبح ولكن الكلام معلق بشرط يعقبه. مِنْها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 ط اللَّهِ ط رَبُّنا ط عِلْماً ط تَوَكَّلْنا وللعدول الْفاتِحِينَ هـ لَخاسِرُونَ هـ جاثِمِينَ هـ ج إن وصل وقف على كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا على جعل الَّذِينَ بدلا من الضمير في فَأَصْبَحُوا وكَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا حال لمعنى الفعل في الجاثمين. وإن جعل الَّذِينَ مبتدأ خبره كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا وقف على جاثِمِينَ وعلى فِيهَا ومن لم يقف على فِيهَا وجعل الَّذِينَ بدلا من الَّذِينَ الأول وقف على شُعَيْباً ويستأنف ب كانُوا ولا يخلو من تعسف. الْخاسِرِينَ هـ وَنَصَحْتُ لَكُمْ ط لأن فَكَيْفَ للتعجب فيصلح للابتداء مع أن فيه فاء التعقيب. كافِرِينَ هـ والله أعلم. التفسير: القصة السادسة قصة شعيب ومدين اسم البلد. وقيل: اسم القبيلة لأنه شعيب بن توبب بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه، وذلك أنه أمرهم بأشياء: الأوّل: عبادة الله، أمرهم بها ونهاهم عن عبادة غير الله وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء. الثاني: تصديق ما ادعاه من النبوّة وأشار إليه بقوله قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ أي معجزة دالة على نبوّتي. ففي الآية دلالة مجملة على أن لشعيب معجزة ظاهرة كما ينبغي لكل مدعي نبوّة وإلا كان متنبئا، غير أن معجزته لم تذكر في القرآن كما لم يذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وآله فيه. يحكى أنه دفع إلى موسى عصاه وتلك العصا ربت التنين وأيضا قال لموسى: إن هذه الأغنام تلد أولادا عنقها أسود وسائرها أبيض وقد وهبتها منك وكان الأمر كما أخبر. وكل ذلك قبل أن يستنبأ موسى. فقال أهل السنة: إن هذه الأمور علامات نبوّة موسى ويسمى إرهاصا. وقالت المعتزلة: إنها معجزات شعيب بناء على أن الإرهاص عندهم غير جائز. الثالث قوله فَأَوْفُوا الْكَيْلَ الآية. واعلم أن للأنبياء عليهم السلام أن يبدأوا في الموعظة بما يكون قومهم مقبلين عليه. وكان قوم شعيب مشغوفين بالبخس والتطفيف فكأنه يقول: البخس عبارة عن الخيانة بالشيء القليل وهو أمر مستقبح في العقول ومع ذلك فقد جاءت البينة والشريعة الموجبة لتحريمه فلم يبق لكم فيه عذر فأوفوا الكيل والميزان. قال في الكشاف: لم يقل المكيال والميزان كما في سورة هود لأنه أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال، أو سمى ما يكال به بالكيل كما قيل العيش لما يعاش به، أو أريد فأوفوا الكيل ووزن الميزان، أو الميزان مصدر كالميعاد والميلاد. الرابع وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ يقال: بخسته حقه إذا نقصته إياه ومنه قيل للمكس البخس. وفي المثل تحسبها حمقاء وهي باخس. قال ثعلب: وإن شئت قلت باخسة وذلك بتأويل الإنسان أو النسمة يضرب لمن لا يعبأ به وفيه دهاء وجربزة. خص أولا ثم عمم ليشمل جميع أنواع الظلم كالغصب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 والسرقة وأخذ الرشوة وقطع الطريق وانتزاع الأموال بوجوه الاحتيال. يروى أنهم كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه، وكانوا إذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمه الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطعا ثم أخذوها بنقصان ظاهر وأعطوه بدلها زيوفا. الخامس وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وهذا أعم من البخس لشموله الأموال والأعراض والنفوس وكل ما يوجب مفسدة دنيوية أو دينية. والمعنى بعد إصلاح أهلها على حذف المضاف أو هو كقوله بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: 33] أي بعد الإصلاح فيها يعني إصلاح الصالحين من الأنبياء ومتابعيهم العالمين بشرائعهم ذلِكُمْ الذي ذكر من الأمور الخمسة خَيْرٌ لَكُمْ في الإنسانية وحسن الأحدوثة وزيادة البركة لرغبة الناس في متاجرتكم عند اشتهاركم بالأمانة والديانة. ولا يخفى أن حاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين لي في قولي. ثم فصل بعض ما أجمل فقال وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ قيل: الصراط حقيقة وذلك أنهم كانوا يجلسون على الطرق والمراصد كما كانت تفعل قريش بمكة يخوّفون من آمن بشعيب ويقولون إنه كذاب لا يفتنكم عن دينكم، أو كانوا يقطعون الطرق أو كانوا عشارين. وقيل: إنه مجاز عن الدين أي لا تقعدوا على طريق الدين ومنهاج الحق لأجل أن تمنعوا الناس عن قبوله اقتداء بالشيطان حيث قال لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف: 16] ودليل هذا المجاز قوله وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يقال: قعد بمكان كذا أي التصق به، وعلى مكان كذا أي علا ذلك المكان وفيه إذا حل، فحروف الجر تتعاقب في مثل هذا الموضع لتقارب معانيها. ومحل تُوعِدُونَ وما عطف عليه نصب على الحال، نهاهم عن القعود على صراط الله حال الاشتغال بأحد هذه الأفعال. وإنما قال بِكُلِّ صِراطٍ مع أن صراط الحق واحد لأنه يتشعب إلى معالم وحدود وأحكام كثيرة كل منها في نفسه سبيل، وكانوا إذا رأوا أحدا يشرع فيها أوعدوه وصدوه. والضمير في بِهِ راجع إلى كل صراط والتقدير: توعدون من آمن به وتصدون عنه فوضع الظاهر موضع الضمير زيادة في التقبيح والتفظيع. ومعنى وَتَبْغُونَها تطلبون لسبيل الله عِوَجاً أي تصفونها للناس بأنها معوجة وذلك بإلقاء الشكوك والشبهات. قال في الكشاف: أو يكون تهكما بهم وأنهم يطلبون لها ما هو محال لأن طريق الحق لا تعوج. ثم ذكرهم نعم الله تعالى لأن ذكر النعم مما يحمل على الطاعة ويبعد عن المعصية فقال وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ أي وقت كونكم قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ قال الزجاج يحتمل كثرة العدد بعد القلة وكثرة الغنى بعد الفقر وكثرة القدرة والشدة بعد الضعف والذلة. قيل: إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 بالبركة والنماء وصاروا كثيرا في العدة والعدة والشدّة. ثم حذرهم سوء عاقبة من أفسد قبلهم من الأمم وكانوا قريبي العهد مما أصاب المؤتفكة فقال وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ رغبهم أولا ثم رهبهم ثانيا وأكد الترهيب بقوله وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ الآية. وفيه وعيد للكافرين ووعد للمؤمنين وحث لهم على الصبر على ما يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم بمقتضى العدل والحكمة خير الحاكمين. ثم حكى جواب قومه المحجوجين المستكبرين وذلك قولهم لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي أحد الأمرين كائن لا محالة إما إخراجكم وإما عودكم إلى الكفر. وهاهنا سؤال وهو أن الكفر على الأنبياء محال فكيف يتصور عوده إليه؟ وهب أن قول الكفار ليس حجة أليس قول شعيب حجة حيث قال إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ؟ وأجيب بأن الكلام بني على التغليب، وأن شعيبا أراد عود قومه إلا أنه نظم نفسه في جملتهم لما ذكرنا، أو لعل رؤساءهم قالوا ذلك تلبيسا على القوم وشعيب أجرى كلامه على وفق ذلك، أو أنه كان في أوّل أمره يخفي مذهبه فتوهموا أنه على دينهم، أو أريد بالملة الشريعة التي صارت منسوخة بشرعه، أو يطلق العود على الابتداء كقوله: وإن تكن الأيام أحسنّ مرّة ... إليّ فقد عادت لهن ذنوب. قال شعيب في جوابهم أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ الهمزة للاستفهام والواو للحال والتقدير: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهيتنا؟. ثم صرح بأنه لا يفعل ذلك فقال قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إن فعلنا ذلك وذلك أن أصل الباب في النبوة والرسالة صدق اللهجة والبراءة عن الكذب والعود في ملتكم ينافي ذلك. ومعنى قوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها بعد أن علمنا قبحه وفساده ونصب الأدلة على بطلانه، أو المراد نجى قومه فغلب، أو المراد على حسب زعمكم ومعتقدكم كما مر. قال في الكشاف: وقوله قَدِ افْتَرَيْنا إخبار مقيد بالشرط وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون كلاما مستأنفا فيه معنى التعجب كأنهم قالوا: ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام لأن الارتداد أعظم من الكفر حيث إن المرتد يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل وكفره أزيد. والثاني أن يكون قسما على تقدير حذف اللام معناه والله لقد افترينا على الله كذبا وَما يَكُونُ لَنا أي ما ينبغي لنا وما يصح أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا قال أهل السنة: في الآية دلالة على أن المنجي من الكفر هو الله تعالى وكذا المعيد إليه قال الواحدي: ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر، ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إبراهيم: 35] وكثيرا ما كان يقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 نبينا صلى الله عليه وسلم: «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك» «1» وقال يوسف تَوَفَّنِي مُسْلِماً [يوسف: 101] أجابت المعتزلة بوجوه: الأوّل: أن قوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ قضية شرطية أي إن شاء يعد وليس فيه بيان أنه شاء أم أبى. الثاني: أن هذا على طريق التبعيد والإحالة. كما يقال لا يفعل ذلك إلا إذا ابيض القار وشاب الغراب. الثالث: لعل المراد ما لو أكرهوا على العود فإن إظهار الكفر عند الإكراه جائز وإن كان الصبر أفضل وما كان جائزا صح أن يكون مراد الله تعالى كما أن المسح على الخفين مراد الله وإن كان غسل الرجلين أفضل. الرابع: يحتمل أن يعود الضمير في فِيهَا إلى قرية. كأنه قال: إن أخرجتمونا من القرية حرم علينا العود فيها إلا بإذن الله تعالى. الخامس: المشيئة عند أهل السنة لا توجب جواز الفعل فإنه تعالى يريد الكفر من الكافر ولا يجوز فعله إنما الذي يوجب الجواز هو الأمر فيحتمل أن يراد بالمشيئة هاهنا الأمر فيكون التقدير: إلا أن يأمر الله أن نعود إلى شريعتكم المنسوخة، فإن الشرع المنسوخ لا يبعد أن يأمر الله تعالى بالعمل به مرة أخرى. السادس: قال الجبائيّ: المراد من الملة الشريعة التي يجوز اختلاف التعبد فيها بالأوقات كالصوم والصلاة، فمن الجائز أن يكون بعض أحكام الشريعة المنسوخة باقيا فيكون المعنى إلا أن يشاء الله إبقاء بعض تلك الملة فيدلنا عليها. ثم إن المعتزلة تمسكوا بالآية على صحة قولهم من وجهين: أحدهما: أن قوله وَما يَكُونُ لَنا معناه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود وذلك يقتضي أن كل ما شاء تعالى وجوده كان فعلا جائزا مأذونا فيه، وما كان حراما ممنوعا منه لم يكن مراد الله تعالى. وثانيهما: أن قوله لَنُخْرِجَنَّكَ أو لَتَعُودُنَّ لا وجه للفصل بينهما فإن كان العود بخلق الله كان الإخراج أيضا بخلقه. قلت: للسني أن يلتزم ذلك. أما قوله وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ فوجه تعلقه بما تقدمه على قول الجبائيّ هو أن التكليف بحسب المصالح فيكون معنى قول شعيب إلا أن يشاء الله إلا أن تختلف المصلحة في تلك العبادات فحينئذ يكلفنا بها والعلم بالمصالح لا يكون إلا بأن وسع كل شيء علما. وقالت الأشاعرة: وجه التعلق هو أن القوم لمّا قالوا لنخرجنك أو لتعودن قال شعيب وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فربما كان في علمه قسم ثالث: وهو أن يبقينا في القرية مؤمنين ويجعلكم مقهورين خاسرين ويؤكد هذا التفسير قوله عقيب ذلك عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا أي لا على غيره. وانتصاب عِلْماً على التمييز. وفي قوله وَسِعَ بلفظ الماضي دلالة على أنه تعالى كان في الأزل عالما بجميع   (1) رواه الترمذي في كتاب القدر باب 7. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 4، 8) ، (3/ 112) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 المعلومات فلا يخرج عن شيء عن مقتضى علمه وهو معنى جفاف الأقلام وطي الصحف ولزوم الأحكام وسعادة السعيد وشقاوة الشقي ويعلم من عموم كل شيء أنه علم الماضي والحال والمستقبل وعلم المعدوم أنه لو كان كيف يكون. فهذه أقسام أربعة يقع كل منها على أربعة أوجه لأنه علم الماضي كيف كان، وعلم أنه لو لم يكن ماضيا بل كان حالا أو مستقبلا أو معدوما محضا فإنه كيف يكون، وكذا الكلام في الأقسام الأخر فيكون المجموع ستة عشر. وإذا اعتبر كل منها بحسب كل جنس أو نوع أو صنف أو شخص من الجواهر أو الأعراض صار مبلغا تتحير فيه عقول العقلاء بل تقف دون أوّل قطرة من قطرات بحاره. ثم إن شعيبا لما أعرض عن الأسباب وارتقى بطريق التوكل إلى مسببها ختم كلامه بالدعاء قائلا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي: احكم واقض. وعن ابن عباس: ما أدري ما معناه حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: تعالى أفاتحك أي أحاكمك. وجوز الزجاج أن يكون معنى الآية أظهر أمرنا حتى يتضح وينكشف ما بيننا وبين قومنا. والمراد أن ينزل عليهم عذابا يدل على كونهم مبطلين وعلى كون شعيب وقومه محقين. ثم أثنى على الله بقوله وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ كما قال وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ قالت الأشاعرة: الإيمان فتح باب الخيرات وهو أشرف صفات المحدثات، فلو كان موجد الإيمان هو العبد كان خير الفاتحين هو العبد. وللمعتزلة أن يقولوا: لولا ألطافه المرجحة الداعية لم يوجد الإيمان من العبد فصح أن الله هو خير الفاتحين. ثم بيّن أن رؤساء قوم شعيب لمن يقتصروا على الضلال بل بادروا إلى الإضلال قائلين لمن دونهم لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أي في الدين أو في الدنيا لأنه يمنعكم من ازدياد الأموال بطريق البخس والتطفيف فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قد سبق تفسيرها الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا يقال غني القوم في دراهم إذا طال مقامهم فيها. والمغاني المنازل إذا كان فيها أهلها. وقال الزجاج: أي كأن لم يعيشوا فيها مستغنين من الغنى الذي هو ضد الفقر. وعلى التفسيرين شبه حال المكذبين بحال من لم يكن قط في تلك الديار كقوله: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر. قال في الكشاف الَّذِينَ كَذَّبُوا مبتدأ خبره كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا وكذلك كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل: الذين كذبوا شعيبا هم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في ديارهم لأن الذين اتبعوا شعيبا قد أنجاهم الله الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً هم المختصون بالخسران العظيم دون أتباعه فإنهم الرابحون، وفي هذا الاستئناف والابتداء والتكرير مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم. قلت: والعرب قد تكرر للتفخيم والتعظيم فتقول: أخوك الذي ظلمنا أخوك الذي أخذ أموالنا أخوك الذي هتك أعراضنا. وأيضا إن القوم لما قالوا لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ بيّن الله تعالى أن الذين لم يتبعوه وخالفوه هم الخاسرون. وفي الآية فوائد أخرى منها: أن ذلك العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار وليس ذلك أثر الكواكب والطبيعة وإلا حصل في أتباع شعيب كما حصل في حق الكفار. ومنها أن ذلك الفاعل عليم بالجزئيات حتى يمكنه التمييز بين المطيع والعاصي. ومنها أن يكون معجزة لشعيب حيث وقع ذلك العذاب على قوم دون قوم مع كونهم مجتمعين في بلد واحد فَتَوَلَّى عَنْهُمْ قد تقدم أن هذا التولي جائز أن يكون قبل نزول العذاب وجائز أن يكون بعده. قال الكلبي: خرج من بينهم ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بين أظهرهم. ولما اشتد حزنه على قومه من جهة الوصلة والقرابة والمجاورة وطول الإلفة لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منهم الإجابة للإيمان عزّى نفسه وقال فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ لأنهم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر. والأسى شدة الحزن. وقيل: المراد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصيحتي فكيف آسى عليكم لأنكم لستم مستحقين لذلك؟. التأويل: وَلا تَبْخَسُوا فيه أن البخاسة والدناءة والحرص والظلم من الصفات التي يجب تزكية النفس عنها فإن الله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أرض الطبيعة التي جبل الإنسان عليها وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ لا تقطعوا الطريق على الطالبين بأنواع الحيل والمكايد. إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ بالتناصر والتعاون في الأمور وبكثرة العدد والعدد نعمة تامة يجب أن تصرف في إعلاء كلمة الدين وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ أي الروح والقلب وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا وهم النفس وصفاتها وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لا يجعل الروح والقلب المؤمنين تبعا للنفس الكافرة في العذاب وإذاقة ألم الهجران أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا إشارة إلى أن كل جنس لا يميل إلا إلى أشكاله وإلا وجد في إيابه من يأمن نهج أضرابه بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها في القسمة الأزلية افْتَحْ بَيْنَنا احكم بيننا وبينهم بإظهار حقيقة ما قدرت لنا من خاتمة الخير وإظهار ما قدرت لهم من خاتمة السوء فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فصارت صورتهم تبعا لمعناهم فإنهم كانوا جاثمي الأرواح في ديار الأشباح كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا لأن الباطل زاهق لا محالة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 102] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 القراآت: لَفَتَحْنا بالتشديد: ابن عامر ويزيد أَوَأَمِنَ بسكون الواو: أو جعفر ونافع غير ورش، وابن عامر وابن كثير غير ابن فليح، وقرأ ورش بنقل حركتها إلى الساكن قبلها أولم نهد النون حيث كان: زيد عن يعقوب. الباقون: بالياء التحتانية رُسُلُهُمْ بسكون السين حيث كان: أبو عمرو. الوقوف: يَضَّرَّعُونَ هـ لا يَشْعُرُونَ هـ يَكْسِبُونَ هـ نائِمُونَ هـ لمن قرأ أَوَأَمِنَ بفتح الواو على أن الهمز للاستفهام، ومن سكن الواو فلا وقف لأن «أو» للعطف يَلْعَبُونَ هـ مَكْرَ اللَّهِ ج للفصل بين الإخبار والاستخبار مع أن الفاء للتعقيب. الْخاسِرُونَ هـ بِذُنُوبِهِمْ ج للفصل بين الماضي والمستقبل والتقدير: نحن نطبع مع اتحاد القصة. لا يَسْمَعُونَ هـ مِنْ أَنْبائِها ج لعطف المختلفتين بِالْبَيِّناتِ ط لأن ضمير فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لأهل مكة وضمير. جاءهم للأمم الماضية مع أن الفاء توجب الاتصال مِنْ قَبْلُ ط الْكافِرِينَ هـ مِنْ عَهْدٍ ج لعطف الجملتين المختلفين لَفاسِقِينَ هـ. التفسير: إنه سبحانه لما عرّفنا أحوال هؤلاء الأنبياء وما جرى على أممهم ذكر ما يدل على أن هذا الجنس من الهلاك قد فعله بغيرهم وليس مقصورا عليهم، وبيّن العلة التي لأجلها فعل بهم ما فعل. والقرية مجتمع القوم فتشمل المدينة أيضا وتقدير الكلام: وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء. قال الزجاج: البأساء الشدة في الأموال والضراء الأمراض في الأبدان. وقيل بالعكس لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أي يتضرعون فأدغم التاء في الضاد والمعنى: ليحطوا أردية التعزز والاستكبار ويتبعوا نبيهم. ثم بيّن أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 تدبيره في أهل القرى لا يجري على نمط واحد فقال ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ وهي كل ما يسوء صاحبه الْحَسَنَةَ وهي ما يستحسنه الطبع والعقل أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من الفقر والضر والسعة والصحة حَتَّى عَفَوْا كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم من قولهم عفا النبات والشحم والوبر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «وأعفوا اللحى» «1» وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ كما هو دأب الأشرين يقولون هذه عادة الدهر في أهله يوم محنة ويوم منحة. والمراد أنهم لم ينتفعوا بتدبير الله تعالى فيهم من رجاء بعد شدّة وأمن بعد خوف وراحة بعد عناء فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً آمن ما كانوا عليه ليكون ذلك أعظم من الحسرة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بنزول العذاب. والحكمة في جميع هذه الحكايات اعتبار من سمعها ووعاها وتعريف أن العصيان سبب الحرمان عن الخيرات وسد لجميع أبواب السعادات ولهذا قال وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى أي جنسها أو القرى المذكورة في قوله وما أرسلنا في قرية آمَنُوا بما يجب به الإيمان في باب المبدأ والمعاد وَاتَّقَوْا كل ما نهى الله عنه لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي لأتيناهم بالخير من كل وجه أو أراد القطر والنبات. والمراد بفتح البركات عليهم تيسير أسباب النجاح كقولهم: فتحت على القارئ إذا يسرت القراءة عليه بالتلقين وَلكِنْ كَذَّبُوا الرسل فَأَخَذْناهُمْ بالجدب والمحل وهو ضد البركة والخير بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بشؤم كسبهم وهو الكفر والمعاصي. ثم خوف المكلفين نزول العذاب عليهم في الوقت الذي يكونون فيه في غاية الغفلة وهو حال النوم بالليل وحال الضحى بالنهار، لأنه الوقت الذي يغلب على المرء فيه التشاغل باللذات والمهمات فقال أَفَأَمِنَ قال في الكشاف: الهمزة للإنكار والفاء للعطف على قوله فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً والآية بينهما اعتراض والتقدير: أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا، وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى؟ فلهذا عطف الثانية بالواو. وأما قوله أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فتكرير لقوله أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى فلهذا رجع فعطف بالفاء. قلت: يجوز أن يقدّر المعطوف عليه بعد الهمزة والمعنى: أفعلوا ما فعلوا فأمن وأما من قرأ «أو» ساكنة فمعناه إما أحد الشيئين ويرجع المعنى إلى قولنا فأمنوا إحدى هذه العقوبات، وإما للإضراب كما تقول: أنا أخرج ثم تقول أو أقيم. على أن المراد هو الإضراب عن الخروج وإثبات للإقامة أي لا بل أقيم. ومعنى بَياتاً قد تقدم في أوّل السورة. وضُحًى نصب على الظرف قال الجوهري: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى وهو حين تشرق   (1) رواه البخاري في كتاب اللباس باب 65. مسلم في كتاب الطهارة حديث 52. الترمذي في كتاب الأدب باب 18 النسائي في كتاب الطهارة باب 14. أحمد في مسنده (2/ 16، 52) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 الشمس مقصورة، وتذكر على أنه مفرد كصرد وتؤنث على أنها جمع ضحوة. ثم بعده الضحاء ممدودا مذكرا وهو عند ارتفاع النهار الأعلى. في قوله وَهُمْ يَلْعَبُونَ يحتمل التشاغل بما لا يجدي عليهم من أمور الدنيا فهي لهو ولعب، ويحتمل خوضهم في كفرهم لأن ذلك كاللعب في أنه يضر ولا ينفع. ومكر الله كما تقدم في آل عمران عذاب بعد الاستدراج أو سمي جزاء المكر مكرا. عن الربيع بن خثيم أن ابنته قالت له: ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال: يا بنتاه إن أباك يخاف البيات يعني المذكور في الآية. اللهم اجعلنا من الخائفين العاقلين لا من الآمنين الغافلين. ثم لما بيّن حال المهلكين مفصلا ومحلا ذكر أن الغرض من القصص حصول العبرة للباقين فقال أَوَلَمْ يَهْدِ من قرأ بالياء ففاعله أَنْ لَوْ نَشاءُ والمعنى: أو لم يهد الذين يخلفون أولئك المتقدمين فيرثون أرضهم وديارهم هذا الشأن وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي بعقابها كما أصبنا من قبلهم. ومن قرأ بالنون فقوله أَنْ لَوْ نَشاءُ منصوب والهداية بمعنى التبيين على القراءتين ولهذا عدّي فعلها باللام، والمفعول على القراءة الأولى محذوف والتقدير: أولم يكشف لهم الحال والشأن المذكور. وأما قوله وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فإما أن يكون منقطعا عما قبله بمعنى ونحن نطبع كما مر في الوقوف، وإما أن يكون متصلا بما قبله. قال الكشاف: وذلك هو يرثون أو ما دلّ عليه معنى أَوَلَمْ يَهْدِ كأنه قيل: يغفلون عن الهداية ونطبع. ثم قال: ولا يجوز أن يكون معطوفا على أَصَبْناهُمْ وطبعنا لأن القوم كانوا مطبوعا على قلوبهم فيجري مجرى تحصيل الحاصل ولقائل أن يقول: لا يلزم من المذكور وهو كونهم مذنبين أن يكونوا مطبوعين، فاقتراف الذنوب غير الطبع لأن يذنب أوّلا أو يكفر ثم يستمر على ذلك فيصير مطبوعا على قلبه. وأيضا جاز أن يراد لو شئنا لزدنا في طبعهم أو لأدمناه والله سبحانه أعلم بمراده. ثم أخبر عن الأقوام المذكورين تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال تِلْكَ الْقُرى وهي مبتدأ وخبر. وقوله يقص حال والعامل معنى اسم الإشارة، أو خبر بعد خبر، أو الْقُرى صفة ل تِلْكَ ونَقُصُّ خبر. وفائدة الإخبار على هذا التقدير ظاهرة. وأما على الأوّلين فترجع الفائدة إلى الحال أو الخبر الثاني كما ترجع إلى الصفة في قولك: هو الرجل الكريم. الحاصل أن تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك، وأيضا خصصنا تلك القرى بقصص بعض أنبائها لأنهم اغتروا بطول الأمهال مع كثرة النعم وكانوا أقرب الأمم إلى العرب فذكرنا أحوالهم تنبيها على الاحتراز عن مثل أعمالهم. ثم عزى رسوله بقوله وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا من قبل اللام لتأكيد النفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 وأن الإيمان كان منافيا لحالهم. قال ابن عباس والسدي: فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بسبب تكذيبهم يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم أقروا باللسان كرها وأضمروا التكذيب. وقال الزجاج: فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات بما كذبوا به من قبل رؤية تلك المعجزات. وعن مجاهد: فما كانوا ليؤمنوا لو أحييناهم بعد الإهلاك ورددناهم إلى دار التكليف بما كذبوا من قبل كقوله وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] وقيل: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما كذبوا من قبل مجيئهم. وقيل: ما كانوا ليؤمنوا في الزمان المستقبل بما كذبوا به في الزمان الماضي أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إلى أن ماتوا مصرين لم ينجع فيهم تكرير المواعظ وتتابع الآيات كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع الشديد يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ الذي كتب أن لا يؤمنوا أبدا. والطبع والختم والرين والكنان والغشاوة والصد والمنع واحد كما سلف. وقال الجبائي: هو أن يسم قلوب الكفار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أن صاحبها لا يؤمن. وقال الكعبي: إنما أضاف الطبع إلى نفسه لأجل أن القوم إنما صاروا إلى ذلك الكفر عند أمره وامتحانه فهو كقوله تعالى فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نوح: 6] ثم شرح حال المكلفين فقال وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ والضمير للناس على الإطلاق. قال ابن عباس: يعني بالعهد قوله للذر أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] أقروا به ثم خالفوا. عن ابن مسعود هو الإيمان كقوله إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً [مريم: 87] يعني من قال لا إله إلا الله. وقيل: العهد عبارة عن الأدلة على التوحيد والنبوّة والمراد الوفاء بالعهد وَإِنْ وَجَدْنا هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة في قوله لَفاسِقِينَ وقد عملت في ضمير شأن مقدر والتقدير: وإن الشأن والحديث علمنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والآية اعتراض. ويحتمل أن يعود الضمير على الأمم المذكورين كانوا إذا عاهدوا الله في ضرر ومخافة لئن أنجيتنا لنؤمنن نكثوه بعد كشف الضر. التأويل: إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ الوفي يتضرع إليه عند البلاء ويتوكل عليه والعدوّ يذهل عن الحق ولا يرجع إليه وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى يعني صفات النفس آمَنُوا بما يرد إلى صفات القلب والروح من ألطاف الحق وَاتَّقَوْا مشتبهات النفس لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ أسباب العواطف من سماء الروح وأرض القلب فَأَخَذْناهُمْ عاقبناهم بعذاب البعد بما كسبوا من مخالفات الحق وموافقات الطبع بَياتاً في صور القهر ضُحًى في صورة اللطف بسطوات الجذبات وَهُمْ يَلْعَبُونَ يشتغلون بالدنيا. إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ من أهل القهر هم الذين خسروا سعادة الدارين من أهل اللطف هم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 الذين خسروا الدنيا والعقبى وربحوا المولى أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 126] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) القراآت: حَقِيقٌ عَلى بالتشديد: نافع. الباقون: بالتخفيف مَعِيَ بفتح الياء حيث كان: حفص أَرْجِهْ بإسكان هاء الضمير: حمزة وعاصم غير المفضل أَرْجِهْ بكسر الجيم والهاء من غير إشباع: يزيد وقالون أرجهي بالإشباع: نافع غير قالون وعلي وعباس وخلف المفضل أرجئه بالهمزة: أبو عمرو غير عباس وسهل ويعقوب وابن الأخرم عن ابن ذكوان وهشام غير الحلواني أرجئهو بالإشباع: ابن كثير والحلواني عن هشام أرجئه بكسر الهاء: ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان سحار بالمبالغة: حمزة وعلي وخلف وكذلك في يونس. وقرأ قتيبة ونصير والدوري وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو بالإمالة. الباقون ساحِرٍ. إِنَّ لَنا بحذف همزة الاستفهام: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وحفص. أإن لنا بإثبات همزة الاستفهام: عاصم غير حفص وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام. يدخل بينهما مدة آين لنا المدة وقلب الهمزة ياء: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 أبو عمرو وزيد. أين لنا بالياء ولا مدة: سهل ويعقوب غير زيد تَلْقَفُ بالتخفيف حيث كان: حفص والمفضل تَلْقَفُ بالتشديد وإدغام التاء الأولى في الثانية: البزي وابن فليح. الباقون: بتشديد القاف وحذف تاء التفعل. آمَنْتُمْ بهمزة واحدة ممدودة: حفص. أأمنتم بزيادة همزة الاستفهام: حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص. آمَنْتُمْ بالمد وتليين الهمزة: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير غير الهاشمي وابن مجاهد وأبي عون عن قنبل فرعون وآمنتم بالواو الخالصة: الهاشمي عن قنبل وآمنتم بالواو وتحقيق الهمزة الأولى: ابن مجاهد وأبو عون والهرندي عن قنبل. الوقوف: فَظَلَمُوا بِها ج للفصل بين الخبر والطلب مع العطف بالفاء الْمُفْسِدِينَ هـ الْعالَمِينَ هـ ج وقف لمن قرأ حَقِيقٌ عَلى بالتشديد أي واجب عليّ، ومن قرأه مخففا جاز له الوصل على جعل حَقِيقٌ وصف الرسول و «على» بمعنى الباء إِلَّا الْحَقَّ ط بَنِي إِسْرائِيلَ ط الصَّادِقِينَ هـ مُبِينٌ هـ للفصل بين الجملتين والوصل أجود للجمع بين الحجتين لِلنَّاظِرِينَ هـ عَلِيمٍ هـ لا لأن ما بعده وصف لساحر مِنْ أَرْضِكُمْ ج لاحتمال أن ما بعده من تمام قول الملأ لفرعون وحده، والجمع للتعظيم أوله ولعظمائه حضرته، وأن يكون ابتداء جواب من فرعون أي فماذا تشيرون قاهِرُونَ هـ حاشِرِينَ هـ لا لأن ما بعده جواب الأمر عَلِيمٍ هـ الْغالِبِينَ هـ الْمُقَرَّبِينَ هـ الْمُلْقِينَ هـ أَلْقُوا ج للعطف عَظِيمٍ هـ عَصاكَ ط لحق المحذوف لأن التقدير فألقاها فإذا هي ما يَأْفِكُونَ هـ ما كانُوا يَعْمَلُونَ هـ صاغِرِينَ هـ ج لمكان حروف العطف ساجِدِينَ هـ ج لاحتمال كون قالُوا حالا بإضمار «قد» الْعالَمِينَ هـ لا للبدر هارُونَ هـ آذَنَ لَكُمْ ج للابتداء مع اتحاد القائل أَهْلَها ج لأن «سوف» للتهديد مع العطف تَعْلَمُونَ هـ أَجْمَعِينَ هـ مُنْقَلِبُونَ هـ للآية مع اتحاد المقول جاءَتْنا ط للعدول عن المحاباة إلى المناجاة مُسْلِمِينَ هـ. التفسير: القصة السابعة من قصص هذه السورة قصة موسى عليه السلام. وقد ذكر في هذه القصة من البسط والتفصيل ما لم يذكر في غيرها لأن جهل قومه أعظم وأفحش من جهل سائر الأقوام ولهذا كانت معجزاته أقوى من معجزات متقدميه من الأنبياء. والضمير في قوله ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ يعود إلى الرسل أو إلى الأمم المذكورين، في قوله بِآياتِنا دلالة على كثرة معجزاته وأن النبي لا بد له من آية ومعجزة بها يمتاز عن المتنبي. فَظَلَمُوا بِها أي بتلك الآيات والمراد كفرهم بها لأن وضع الإنكار في موضع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 الإقرار وإيراد الكفر بدل الإيمان وضع للشيء في غير موضعه، أو تظلموا الناس بسببها حين أوعدوهم وصدوهم عنها وأذوا من آمن بها. فَانْظُرْ أيها المعتبر المستبصر بعين بصيرتك كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ كيف فعلنا بهم؟ وهذه قصة إجمالية ثم شرع في تفصيلها وذلك قوله وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي إله قادر عليم حكيم. وفيه أن العالم موصوف بصفات لأجلها افتقر إلى رب يربيه حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ من قرأ بالتشديد في عَلى وحَقِيقٌ إما بمعنى فاعل أي واجب عليّ ترك القول على الله إلا بالحق، أو بمعنى مفعول أي حق عليّ ذلك. تقول العرب إني لمحقوق على أن أفعل خيرا. وأما قراءة العامة حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ مرسلة الياء ففيه وجوه أحدها: أن يكون «علي» بمعنى «الباء» كقولهم جئت على حال حسنة وبحال حسنة، قال الأخفش: وهذا كما قال وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ [الأعراف: 86] أي على كل صراط ويؤكد هذا الوجه قراءة أبيّ حقيق بأن لا أقول أي أنا خليق بذلك. وثانيها: أن الحق هو الدائم الثابت والحقيق مبالغة فيه، وكل ما لزمك فقد لزمته فكأن المعنى أنا ثابت مستمر على أن لا أقول إلا الحق. وثالثها: أن يضمن حقيق معنى حريص. ورابعها: أن يكون من القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس فيؤل المعنى إلى قراءة نافع. وخامسها: أن يكون إغراقا في الوصف ومبالغة بالصدق والمراد أنا حقيق على قول الحق أي واجب عليّ أن أكون أنا قائله والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقا به. وسادسها: أن يكون على هذه هي التي تقرن بالأوصاف اللازمة الأصلية كقوله تعالى فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30] ويقال: جاءني فلان على هيئته وعلى عادته وعرفته وتحققته على كذا وكذا من الصفات. فمعنى الآية لم أتحقق إلا على قول الحق. ولما كان ظهور المعجزة على وفق الدعوى دالا على وجود الإله القادر المختار وعلى تصديق الرسول جميعا قال قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي بمعجزة قاهرة باهرة منه. ثم فرع عليه تبليغ الحكم وهو قوله فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي أطلقهم وخل سبيلهم حتى يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم. وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي وانقرضت الأسباط غلب فرعون نسلهم واستعبدهم واستخدمهم في الأعمال الشاقة قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيه سؤالان: أحدهما لفظي وهو أن هاهنا شرطين فأين جوابهما؟ والجواب أن المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى نظيره قول القائل: إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيدا. وثانيهما: أن قوله إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ وقوله فَأْتِ بِها كلاهما واحد في المعنى فكيف يفيد تعليق أحدهما بالآخر؟ وجوابه المنع إذ المراد إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فأحضرها لتصح دعواك. ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 إن فرعون لما طالب موسى عليه السلام بإقامة البينة الدالة على وجود الرب وعلى صحة نبوته قلب العصا ثعبانا وأظهر اليد البيضاء وذلك قوله سبحانه فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ ومعنى كون الثعبان مبينا أن أمره ظاهر لا يشك في أنه ثعبان ليس مما جاءت به السحرة من التمويهات وإنما هو من قبيل المعجزات، أو المراد أنه أبان قول موسى عن قول المدعي الكاذب والثعبان في اللغة الحية الضخم الذكر. روي أنه كان أشقر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحيه الأسفل على الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون ليأخذه فوثب فرعون من سريره وهرب وأخذه البطن يومئذ أربعمائة مرة وكان لم ير منه الحدث قبل ذلك. وهرب الناس وصاحوا وحمل على الناس فانهزموا ومات منهم خمسة وعشرون ألفا، ودخل فرعون البيت وصاحوا يا موسى خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذه موسى فعاد عصا. والنزع في اللغة القلع والإخراج أي أخرجها من جيبه أو من جناحه بدليل قوله في موضع آخر وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ [النمل: 12] روي أنه أرى فرعون يده وقال: ما هذه؟ فقال: يدك. ثم أدخلها في جيبه وعليه مدرعة صوف ثم نزعها فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا غلب شعاعها الشمس، وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة وقوله لِلنَّاظِرِينَ يتعلق ببيضاء فإنها لا تكون بيضاء للناظرين إلا إذا كان بياضها عجيبا خارجا عن العادة اجتمع الناس للنظر إليه كما يجتمعون للعجائب. واعلم أن القول بجواز انقلاب العادات عن مجاريها مقام صعب مشكل ولهذا اضطربت أقوال العلماء فيه فالأشاعرة جوّزوا ذلك على الإطلاق بناء على القول بالفاعل المختار فجوّزوا في الإنسان وسائر أنواع الحيوان أن يتولد دفعة واحدة من غير سابقة مادة ومدة، وجوّزوا في الجوهر الفرد أن يكون حيا عالما قادرا قاهرا من غير حصول بنية ولا مزاج، وجوّزوا في الأعمى الذي بالأندلس أن يبصر في ظلمة الليل البقة التي تكون بأقصى المشرق وفي سليم البصر أن لا يرى الشمس في كبد السماء من غير حائل. والمعتزلة جوّزوا انخراق العادات في بعض الصور دون بعض من غير ضابط ولا قانون اللهم إلا أن يحال على الشرع، والطبيعيون المتفلسفون أنكروا ذلك على الإطلاق وزعموا أنه لا يجوز حدوث الأشياء ودخولها في الوجود إلا على هذا الوجه المخصوص والطريق المعين والإلزام فتح باب الجهالات فإنه إذا جاز أن تنقلب العصا ثعبانا جاز في الشخص الذي شاهدناه كموسى وعيسى ومحمد مثلا أنه ليس هو الشخص الأوّل وهذا يوجب القدح في النبوة والرسالة. فإن زعم زاعم أن هذه الأمور تختص بزمان دعوة الأنبياء. قلنا: المخصص في ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 الزمان لا يعرف إلا بدليل غامض، وكل من لا يقف على ذلك الدليل يقع في تيه الإشكال والضلال مع أن زمان جواز الكرامات لا ينقرض عندكم أبدا فلا ينقضي التجويز سرمدا. هذا وإنما جمع بين العصا واليد مع أن المعجز الواحد كاف لأن كثرة الدلائل توجب مزيد اليقين. قال بعض المتحذلقين: هما شيء واحد والمراد أن حجة موسى كانت قوية ظاهرة فمن حيث إن الحجة أبطلت أقوال المخالفين كانت كالثعبان الذي يلقف ما يأفكون، ومن حيث إنها كانت ظاهرة في نفسها وصفت باليد البيضاء كما يقال لفلان يد بيضاء في الأمر الفلاني أي قوّة كاملة ومرتبة ظاهرة. والتحقيق أن انقلاب العصا وغير ذلك أمور ممكنة في ذواتها لأن الأجسام متماثلة في الجسمية فكل ما صح على شيء صح على مثله والله سبحانه قادر على كل الممكنات، فكل ما ثبت وقوعه بالتواتر وجب قبوله من غير تأويل ودفع، ثم أن السحر كان غالبا في ذلك الزمان وكانت السحرة متفاوتين في ذلك، فزعم أتباع فرعون أن موسى عليه السلام كان لكونه في النهاية من علم السحر أتى بتلك الصفة وأنه كان يطلب بذلك الملك والرياسة وذلك قوله سبحانه قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ولا ينافي هذا ما حكاه الله تعالى في سورة الشعراء أنه قال ذلك فرعون، فإنه يحتمل صدور هذا القول في تلك الحالة منه ومنهم أو لعل فرعون قاله ابتداء فتلقفه الملأ فقالوه لغيرهم، أو قالوا عنه لسائر الناس على طريق التبليغ فإن الملوك إذا رأوا رأيا ذكروه للخاصة وهم يذكرونه للعامة. والأظهر أن قوله فَماذا تَأْمُرُونَ من كلام فرعون إما لأن الأمر لا يجوز أن يكون من الأدنى للأعلى، أو لأنه من قولهم أمرته فأمرني بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأي ولهذا قال الملأ في جوابه أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخر أمره وأمر أخيه ولا تعجل بقضاء في شأنهما فتصير عجلتك حجة عليك. قال الجوهري: أرجأت الأمر وأخرته يهمز ولا يهمز. وعن الكلبي وقتادة أن المعنى أحسبه، وزيف بأنه خلاف اللغة إلا أن يقال حبس المرء نوع من التأخير في أمره وبأن فرعون ما كان يظن أنه قادر على حبس موسى بعد مشاهدة حال العصا. وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أي جامعين جمع مدينة وهي فعلية من مدن بالمكان يمدن مدونا إذا أقام به، ولهذا أطبق القراء على همز الْمَدائِنِ لأنه كصحائف. وقيل: إنها مفعلة من دنت أي ملكت وكأن هذا القائل لا يهمز مدائن. وقال المبرد: أصلها مديونة من دانه إذا قهره وساسه، فعل بها ما فعل بنحو «مبيع» في «مبيوع» وليس المراد مدائن الأرض كلها ولكن المقصود مدائن صعيد مصر. وقال ابن عباس: وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ الباء بمعنى «مع» أو للتعدية. قيل: كانوا سبعين ساحرا سوى رئيسهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 وقيل: بضعة وثلاثين ألفا. وقيل: سبعين إلفا. وقيل ثمانين ألفا وقيل: كان يعلمهم مجوسيان من أهل نينوى قرية بقرب الموصل. وضعف بأن المجوس من أتباع زرادشت وهو إنما جاء بعد موسى. وفي الآية دلالة على كثرة السحرة في ذلك الزمان ولهذا كانت معجزة موسى شبيهة بالسحر وإن كانت مخالفة في الحقيقة كما أن الطب لما كان غالبا على أهل زمن عيسى كانت معجزته من جنس ذلك كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وكانت الفصاحة والبلاغة غالبة في عصر نبينا صلى الله عليه وسلم فلا جرم كانت معجزته العظمى وهي القرآن من جنس الفصاحة، وتحقيق السحر وسائر ما يتعلق به قد مر في سورة البقرة فليتذكر وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا لم يقل فقالوا بناء للكلام على سؤال مقدر كأن سائلا سأل ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً أي جعلا على الغلبة والتنكير للتعظيم كقول العرب إن له لإبلا وإن له لغنما يقصدون الكثرة قالَ نَعَمْ أي إن لكم أجرا وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أراد إني لا أقتصر لكم على الثواب بل لكم مع ذلك ما يقل معه الثواب وهو التقريب والتكريم لأن الثواب إنما يهنأ إذا كان مقرونا بالتعظيم. روي أنه قال لهم تكونون أوّل من يدخل وآخر من يخرج. وروي أنه دعا برؤساء السحرة فقال لهم: ما صنعتم؟ قالوا قد عملنا سحرا لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء فإنه لا طاقة لنا به. وفي الآية إشارة إلى أن أهل السحر ليسوا قادرين على قلب الأعيان وإلا قلبوا الحجر ذهبا بل قلبوا ملك فرعون إلى أنفسهم ولم يطلبوا منه الأجر، فعلى العاقل أن لا يغترّ بأكاذيبهم ومزخرفاتهم. ثم إن السحرة راعوا حسن الأدب فخيروا موسى أوّلا وقدموه في الذكر ثانيا حيث قالوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ كما هو دأب المتناظرين والمتصارعين، مع أن في قولهم وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ بالأمر أليق منه بالخبر. وبدليل قوله وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وفيه ترغيب في الثبات على الجهاد. فمعنى الآية إذن إن يكن منكم عشرون فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يغلبوا مائتين، ثم الصبر لا يحصل إلا بكونه شديد الأعضاء قويا جلدا شجاعا غير جبان ولا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة، وعند حصول هذه الأمور كان يجب على الواحد أن يثبت للعشرة لما سبق من وعد النصر في قوله حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] وإنما كرر النسبة مرتين لأن السرايا التي كان يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينقص عددها على العشرين وما كانت تزيد على المائة فورد على وفق الواقعة، وإما في الكرة الثانية فإنما كررت النسبة للطباق وليكون فيه بشارة وإشارة إلى أن عدد عسكر الإسلام سيؤول من العشرات والمئات إلى الألوف والله أعلم بمراده. ثم بين السبب في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 الغلبة فقال بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال: 65] أي بسبب أن الكفار قوم جهلة لا يعرفون معادا وقد انحصرت السعادة عندهم في هذه الحياة العاجلة. وأيضا إنهم يعولون على قوتهم وشوكتهم والمسلمون يتوكلون على ربهم ويستغيثونه ويتوقعون منه إنجاز ما وعد من النصر والتأييد، ووجه آخر هو أن أهل العلم والمعرفة يكون لهم في أعين الناس هيبة وحشمة ويكونون في أنفسهم أقوياء أشداء لما تجلى عليهم من أنوار المعرفة والبصيرة يعرف ذلك أصحاب العلوم وأرباب المعارف بخلاف الجهلة الذين لا بصيرة لهم ولا نور. قال عطاء: عن ابن عباس لما نزل التكليف الأول ضج المهاجرون وقالوا: يا رب نحن جياع وعدوّنا شباع ونحن في غربة وعدونا في أهليهم. وقال الأنصار: شغلنا بعدوّنا وواسينا إخواننا. وعن ابن جريج كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد للعشرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حمزة في ثلاثين راكبا قبل بدر فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب وأرادوا قتالهم فمنعهم حمزة. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس إلى خالد بن صفوان وكان في جماعة وابتدر عبد الله فقال: يا رسول الله صفه لي فقال: إنك إذا رأيته ذكرت الشيطان ووجدت لذلك قشعريرة. وبلغني أنه جمع لي فأخرج إليه وأقتله، فلما خرجت تعمية للمأفوك بالإفك. قال المفسرون: لما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم، فلما أخذها موسى صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم والمقدار أصلا، فلعل الله سبحانه أعدم بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرقها أجزاء لطيفة ثم قال سبحانه وتعالى فَوَقَعَ الْحَقُّ. قال مجاهد والحسن: ظهر، وقال الفراء: فتبين الحق من السحر. وقيل: الوقوع ظهور الشيء ووجوده نازلا إلى مستقره. وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا: لو كان ما صنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا ولم تفقد، ولما فقدت ثبت أن ذلك بخلق الله وتقديره وبهذا تميز المعجزة عن السحر. وقال القاضي: معناه قوة الظهور بحيث لا يصح فيه نقيضه كما لا يصح في الواقع أن يصير لا واقعا. ومع ثبوت هذا الحق زالت الأعيان التي أفكوها وهي تلك الحبال والعصي وذلك قوله وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي الذي عملوه أو عملهم فَغُلِبُوا هُنالِكَ أي حين التحدي وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ لأنه لا ذل ولا صغار أعظم من حق المبطل من دحوض حجته. روي أن تلك الحبال والعصي كانت حمل ثلاثمائة بعير، فلما ابتلعها ثعبان موسى وصارت عصا كما كانت قال بعض السحرة لبعض: هذا خارج عن حد السحر وإنما هو أمر إلهي. قال المحققون: إنهم لأجل كمالهم في علم السحر ميزوا السحر عن غيره فانتقلوا ببركة ذلك من الكفر إلى الإيمان، فما ظنك بالإنسان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 الكامل في علم التوحيد والشريعة والحكمة. وفي قوله وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ دليل على أن ملقيا ألقاهم وما ذاك إلا الله سبحانه الموجد للدواعي والقدر. وقال الأخفش. من سرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقاهم غيرهم لأنهم لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين. قال بعض العلماء: الإيمان مقدم على السجود فكيف نقل عنهم أنهم سجدوا ثم قالوا آمنا برب العالمين؟ وأجيب بأنه لا يبعد أنهم عند الذهاب إلى السجود قالوا ذلك، أو أنهم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله في الحال شكرا على الفوز بذلك وإظهارا للخشوع والتذلل وإقرارا باللسان بعد التصديق بالجنان. قال المفسرون: لما قالوا آمنا برب العالمين قال فرعون: إياي يعنون. فلما قالوا رَبِّ مُوسى قال: إياي يعنون لأني أنا الذي ربيته فلما زادوا هارُونَ زالت الشبهة وعرف الكل أنهم آمنوا بإله السماء وكفروا بفرعون. وقيل: أفردا بالذكر من جملة العالمين ليعلم أن الداعي إلى إيمانهم هو موسى. وقيل: خصا بالذكر تعظيما وتشريفا. ثم إن فرعون لما رأى أن أعلم الناس بالسحر أقر بنبوّة موسى بمحضر جمع عظيم خاف أن يصير ذلك حجة عليه عند قومه فألقى في الحال شبهة في البين بعد ما أنكر عليهم إيمانهم. أما الإنكار فذلك قوله آمنتم له من لم يزد حرف الاستفهام فعلى أنه إخبار توبيخا أي فعلتم هذا الفعل الشنيع، ومن قرأ بحرف الاستفهام فمعناه الاستبعاد والإنكار. وفي قوله قبل أَنْ آذَنَ لَكُمْ دلالة على مناقضة فرعون في ادعائه الإلهية لأنه لو كان إلها لما جاز أن يأذن لهم في أن يؤمنوا بغيره وهذا من جملة الخذلان والدحوض الذي يظهر على المبطلين. وأما الشبهة فقوله إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أي هذه حيلة احتلتموها أنتم وموسى أو تواطأتم عليها لغرض لكم وهو أن تخرجوا القبط وتسكنوا بني إسرائيل. وروى محمد ابن جرير عن السدي في حديث عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم أن موسى وأمير السحرة التقيا فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق؟ فقال الساحر: لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر وإن غلبتني لأومنن بك، وفرعون ينظر إليهما ويسمع فلذلك زعم التواطؤ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وعيد إجمالي وتفصيله لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي كل من شق طرفا ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ واختلف المفسرون هل وقع ذلك منه أم لا. فمن قائل إنه لم يقع لأنهم سألوا ربهم أن يتوفاهم من جهته لا بهذا القتل والقطع، ومن قائل وقع وهو الأظهر وعليه الأكثر ومنهم ابن عباس لأنه حكى عن الملأ أنهم قالوا لفرعون أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الأعراف: 127] ولو أنه ترك أولئك السحرة لذكروهم أيضا وحذروه إياهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 لأنهم قالوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً والصبر لا يطلب إلا عند نزول البلاء وقد يجاب عن الأول بأنهم داخلون تحت قوله وَقَوْمَهُ وعن الثاني بأنهم طلبوا الصبر على الإيمان والثبات عليه وعدم الالتفات إلى وعيده. وعن قتادة: كانوا أوّل النهار كفارا سحرة وفي آخره شهداء بررة، ثم حكى عن القوم أنهم قالوا عند الوعيد إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي نحن لا نبالي بالموت لأنا ننقلب إلى لقاء ربنا ونخلص منك، أو ننقلب إلى الله يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد القطع والصلب أو إنا جميعا يعنون أنفسهم وفرعون يرجع إلى الله فيحكم بيننا، أو إنا لا محالة ميتون فما تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بد لنا منه وَما تَنْقِمُ مِنَّا قال ابن عباس: ما أتينا بذنب تعذبنا عليه وما تعب منا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا وهي المعجزات الظاهرة التي لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى وهذا من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب ثم لما لجأوا إلى الدعاء كما هو دأب الصديقين عند نزول البلاء فقالوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أفض علينا سجال الثبات على متابعة الدين أو على ما توعدنا به فرعون وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الدين الذي جاء به موسى وأخبروا عن إيمانهم أوّلا وسألوا التوفي على الإسلام ثانيا. فيمكن أن يستدل بالآية على أن الإيمان والإسلام واحد، واحتجت الأشاعرة بالآية على أن الإيمان والإسلام بخلق الله تعالى وإلا لم يطلبوا ذلك منه، والمعتزلة يحملون أمثال ذلك على منح الألطاف. واعلم أن مبني القصة في هذه السورة على الاختصار وفي الشعراء على التطويل فلهذا قيل هناك يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ، وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وفي كل ذلك زيادة وأما قوله هاهنا وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ وهناك وَابْعَثْ فلأن الإرسال يفيد معنى البعث مع العلو فخص هذه السورة بذلك ليعلم أنّ المخاطب به فرعون دون غيره. وإنما قال هاهنا آمَنْتُمْ بِهِ وفي طه والشعراء آمَنْتُمْ لَهُ باللام لأن ضمير بِهِ في هذه يعود إلى رب العالمين، وفي السورتين إلى موسى، وقيل آمنت به وآمنت له واحد. وقال هاهنا ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ وفي السورتين لَأُصَلِّبَنَّكُمْ لأنه لما أفاد الترتيب كان العطف المطلق كافيا وكثير من متشابهات هذه السور الثلاث يعود إلى رعاية الفواصل فتنبه. التأويل: فَظَلَمُوا بِها بأن جعلوها سحرا فوضعوها في غير موضعها عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ الذين أفسدوا الاستعداد الفطري بالركون إلى الدنيا ولذاتها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ لأني قائم بحقائق الجمع فان على الخلق وآثار التفرقة فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ لأنه أضاف العصا إلى نفسه في قوله هِيَ عَصايَ [طه: 18] ويعلم منه أن كل شيء أضفته إلى نفسك وجعلته محل حاجاتك فإنه ثعبان يبتلعك ولهذا قيل أَلْقِها يا مُوسى [طه: 19] فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ فيه أن الأيدي قبل تعلقها بالأشياء كانت بيضاء نقية نورانية روحانية وأن اليد لموسى كانت روحانية في جميع الأوقات ولكن ما كانت نورانيتها منظورة للناظرين إلا بإظهار الله تعالى في بعض الأوقات خرقا للعادات على يده الجسمانية يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ لا شك أن موسى أراد أن يخرجهم من أرضهم ولكن من أرض بشريتهم إلى نور الروحانية. قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ توهموا أن التأخير وحسن التدبير يغير شيئا من التقدير، ولم يعلموا أن عند حلول الحكم لا سلطان للعلم والفهم. أإن لنا لأجرا لم يعلموا أن أجرهم في المغلوبية لا في الغالبية قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أجرى الله تعالى هذا على لسان فرعون حقا وصدقا فصاروا مقربين عند الله قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أكرموا موسى بالتقديم والاستئذان فأكرمهم الله تعالى بالسجود والإيمان بِسِحْرٍ عَظِيمٍ أي عظيم في الإثم كما قال سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ وعظمة إثم السحر لمعارضة المعجزة فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فيه أن عصا الذكر إذا ألقيتها عند إلقاء سحر سحرة صفات النفس تبتلع بفم لا النفي جميع ما سحروا به أعين الناس فَوَقَعَ الْحَقُّ بإثبات لا إله إلا الله وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من تزيين زخارف الدنيا في العيون فَغُلِبُوا أي سحرة صفات النفس إذ تنوّرت بنور الذكر وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ ذليلين تحت أوامر الشرع ونواهيه وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أي صارت صفات النفس بعد التمرد منقادة للعبودية. رَبِّ مُوسى الروح وَهارُونَ القلب. واعلم أن صفات النفس إذا تنوّرت بنور الذكر يتبدل كفرها بالإيمان ولكن النفس بذاتها لا تؤمن ولا تتبدل اللهم إلا عند غرقها في بحر الواردات والمواهب الربانية كحال فرعون وإيمانه عند الغرق. وفي القصة دلالة على أنه تعالى قد يبرز العدوّ في صورة الولي مثل بلعام وبالعكس كالسحرة قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ هذا من جملة جهل فرعون، ظن أن الإيمان بإذنه ولم يعلم أن الإيمان بإذن الله لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ في موافقة موسى الروح في مدينة القالب لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها هو اللذات والشهوات البدنية لَأُقَطِّعَنَّ بسكين التسويل عن الأعمال الصالحة وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ تعلقات الدنيا وزخارفها والله أعلم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 127 الى 141] وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 القراآت: سَنُقَتِّلُ بالتخفيف: ابن كثير وأبو جعفر ونافع يُورِثُها بالتشديد: الخزاز عن هبيرة كلمات ربك على الجمع: يزيد في رواية يَعْرِشُونَ بضم الراء حيث كان: ابن عامر وأبو بكر وحماد. الباقون: بالكسر يَعْكُفُونَ بكسر الكاف: حمزة وخلف. الباقون: بالضم أَنْجاكُمْ ابن عامر. الآخرون أَنْجَيْناكُمْ على الحكاية يُقَتِّلُونَ بالتخفيف: نافع. الوقوف: وَآلِهَتَكَ ط نِساءَهُمْ ج للابتداء والعطف واتحاد القائل قاهِرُونَ هـ واصْبِرُوا ج لما قلنا مِنْ عِبادِهِ ط لِلْمُتَّقِينَ هـ ما جِئْتَنا ط تَعْمَلُونَ هـ يَذَّكَّرُونَ هـ لَنا هذِهِ ج لبيان تباين الإضافتين على التناقض وَمَنْ مَعَهُ ج لا يَعْلَمُونَ هـ فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ هـ مُجْرِمِينَ هـ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ج لأن جواب «لئن» منتظر مع اتحاد القائل بَنِي إِسْرائِيلَ ج لأن جواب «لما» منتظر مع دخول الفاء فيه يَنْكُثُونَ هـ غافِلِينَ هـ بارَكْنا فِيها ط للعدول عن الحكاية وكذلك بِما صَبَرُوا ط لعكسه. يَعْرِشُونَ هـ يَعْكُفُونَ هـ أَصْنامٍ لَهُمْ ج لاتحاد القائل بلا عطف آلِهَةٌ ط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 تَجْهَلُونَ هـ يَعْمَلُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ سُوءَ الْعَذابِ ج لاحتمال كون ما بعده مستأنفا أو حالا نِساءَكُمْ ط عَظِيمٌ هـ والله أعلم. التفسير: ثم أن فرعون بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرض لموسى ولا أخذه ولا حبسه لأنه كان كلما يرى موسى يخافه أشدّ الخوف إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك فحملوه على أخذه وحبسه فقالوا أَتَذَرُ مُوسى أتتركه وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي يغيروا على الناس دينهم الذي كانوا عليه فيتوسلوا بذلك إلى أخذ الملك. وقوله وَيَذَرَكَ عطف على لِيُفْسِدُوا، وقوله وَآلِهَتَكَ مفعول معه. والمراد أنه إذا تركهم ولم يمنعهم كان ذلك مؤديا إلى تركه مع آلهته فقط، ويحتمل أن يكون منصوبا على أنه جواب الاستفهام والمعنى: أيكون منك أن تذر موسى ويكون من موسى أن يذرك وآلهتك. قال كثير من المفسرين: إن فرعون كان قد وضع لقومه أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها وسمى نفسه الرب الأعلى. وقال الحسن: كان فرعون يعبد الأصنام ووجه بأنه لعله كان اتخذ أصناما على صور الكواكب على أن الكواكب مدبرات العالم السفلي. وأما المجدي في هذا العالم للخلق والمربي لهم فهو نفسه ولذلك قال أنا ربكم الأعلى أي أنا مربيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم، وكل ذلك بناء على أنه كان دهريا ينكر وجود الصانع. ثم إن فرعون أوهم قومه أنه إنما لم يحبسه ولم يمنعه لعدم التفاته إليه لا للخوف منه فقال سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ فكأنه قال: إن موسى إنما يمكنه الإفساد بواسطة الرهط والشيعة فنحن نسعى في تقليل رهطه وشيعته وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ أي سنعيد عليهم ما كنا محناهم به قبل من قتل الأبناء ليعلموا أما على ما كنا عليه من الغلبة، ولئلا يتوهم العامة أنه المولود الموعود من قبل الكهنة ولكنه منتظر بعده قالَ مُوسى لما وصله ما جرى بين فرعون وملته لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ولا ريب أن الصبر نتيجة الاستعانة بالله فإن من علم أنه لا مدبر للعالم إلا الله تعالى انشرح قلبه بنور المعرفة وعلم أن الكل بقضاء الله وقدره فيسهل عليه ما يصل إليه، ثم لما أمرهم بشيئين بشرهم بآخرين فقال إِنَّ الْأَرْضَ يعني أرض مصر أو جنس الأرض فيتناول مصر بالتبعية لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ويعني بالتوريث جعل الشيء للخلف بعد السلف وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ والخاتمة الحميدة لمن هو بصدد التقوى منكم ومن القبط. وهذا من كلام المنصف وإلا فمعلوم أن القبط لا تقوى لهم، أو المراد أن كل من اتقى الله تعالى وخافه فالله الغني الكريم يعينه في الدنيا والآخرة. ثم إنهم خافوا وفزعوا من تهديد فرعون فشكوا إلى موسى مستعجلين النصر وقالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا يعنون قتل أبنائهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 قبل مولده إلى حين نبوته ثم إعادة ذلك عليهم في قوله سَنُقَتِّلُ إلى غير ذلك من أنواع المحن والمهن. فعند ذلك قال لهم موسى مصرحا بما رمز إليهم من البشارة قبل عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ أرض مصر ولا ريب أن في عَسى طمعا وإشفاقا ومثل هذا الكلام إذا صدر عن النبي المؤيد بالمعجزات القاهرة الناظر بنور الحق أفاد قوة اليقين وأزال ما خامره من الضعف. ثم قال فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ قال الزجاج: أي يرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبحه شكره وكفره لوقوع ذلك منكم لأن الله تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم قديما وإنما يجازيهم على ما يقع منهم حديثا فتتعلق الرؤية الأزلية به. عن عمرو بن عبيد أنه دخل على المنصور قبل الخلافة. وعلى مائدته رغيف أو رغيفان. فطلب زيادة لعمرو فلم يكن فقرأ عمرو هذه الاية، ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال قد بقي فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ. وكَيْفَ نصب ب تَعْمَلُونَ لا ب فَيَنْظُرَ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما يتقدمه. ثم حكى سبحانه ما نزل بفرعون وآله من المحن والبلايا بشؤم التكذيب والتمرد فقال وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ أي بسني القحط. فالسنة من الأسماء الغالبة غلبت على القحط كالدابة والنجم، وقد يراد بها في غير هذا الموضع الحول والعام. قال أبو زيد والفراء: بعض العرب يقول هذه سنين ورأيت سنينا فيعرب النون ومنه قول الشاعر: دعاني من نجد فإن سنينه ... لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا. والسنون من الجموع المصححة الشاذة. عن ابن عباس: السنون لأهل البوادي وأصحاب المواشي وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لأهل الأمصار. وفائدة توسيط من أن يعلم أن كل الثمرات لم تنقص وإنما نقص بعضها لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيتنبهوا ويرجعوا إلى الانقياد والطاعة فإن مس الضر مما يلين الأعطاف ويرق القلوب. قيل: عاش فرعون أربعمائة سنة لم ير مكروها في ثلاثمائة وعشرين سنة وأصابه في تلك المدة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية. قال القاضي: في الآية دلالة على أنه تعالى أراد منهم أن يتذكروا لا أن يقيموا على ما هم عليه من الكفر. وأجيب بأنه يعاملهم معاملة المختبر ولا اختبار في الحقيقة ولا يرعوي عن الكفر والطغيان إلا من شاء وأراد وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ فلهذا حكى عن فرعون وقومه فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قال ابن عباس: أي العشب والخصب والمواشي والثمار وسعة الرزق والعافية والسلامة قالُوا لَنا هذِهِ أي نحن مخصوصون بذلك ولم نزل في الرفاهية والنعمة وهكذا عادة الزمان فينا ولم يعلموا أنها من الله فيشكروه عليها ويقوموا بحق نعمته وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أضداد ما ذكرنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 يَطَّيَّرُوا يتشاءموا بموسى ومن معه. وأصله يتطيروا فأدغم التاء في الطاء لقرب مخرجهما وإنما عرفت الحسنة وخصت ب إِذا ونكرت السيئة وقرنت ب إِنْ لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته وشموله وأما السيئة فوقوعها نادر مشكوك فيه ولهذا قيل لقد عددت أيام البلاء فهل عددت أيام الرخاء؟ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قال الأزهري: يقال للشؤم طائر وطيرة. وعن ابن عباس: طائرهم ما قضى عليهم وقدر لهم ومنه قول العرب طار له سهم كذا أي حصل ووقع ذلك في حظه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطير لأن الفأل الكلمة الحسنة والتطير عيافة الطير. قال الإمام فخر الدين الرازي: وذلك لأن الأرواح الإنسانية أقوى وأصفى من الأرواح البهيمية فيمكن الاستدلال بالأول على بعض الخفيات بخلاف الثاني. ومعنى الآية أن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله وبتقديره وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن الكل رهين بمشيئته وتقديره فيقولون هذا بيمن فلان أو بشؤمه. وقد تشاءمت اليهود بالنبي صلى الله عليه وسلم وآله في المدينة فقالوا: غلت أسعارنا وقلت أمطارنا مذ أتانا. قال في الكشاف: ويجوز أن يكون معناه ألا إنما سبب شؤمهم عند الله وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجري عليهم ما يسوءهم لأجله ويعاقبون له بعد موتهم، وكما حكي عنهم أنهم لجهلهم أسندوا حوادث هذا العالم لا إلى قضاء الله وقدره كذلك حكى عنهم أنهم لجهلهم وسفههم لم يميزوا بين المعجزة والسحر قالُوا لنبيهم مَهْما تَأْتِنا بِهِ الآية وفي «مهما» قولان: فعن البصريين أن أصلها ما الشرطية زيدت عليها «ما» المؤكدة الإبهامية ثم كرهوا التكرار فجعلوا الألف من الأولى هاء. وعن الكسائي أن «مه» بمعنى «اكفف» و «ما» للشرط كأنه قيل: كف ما تأتنا به. ومحل «مهما» الرفع بمعنى أيما شيء تأتنا به أو النصب بمعنى أي شيء تحضرنا تأتنا به. ومِنْ آيَةٍ بيان لمهما والضمير في «به» وكذا في «بها» يعود إلى «مهما» لأن البيان كالزيادة فلا يعود إليه شيء ما أمكن العود إلى المبين إلا أن الضمير ذكّر تارة حملا على اللفظ وأنّث أخرى حملا على المعنى. وسموها آية تهكما إذ لو قالوا ذلك اعتقادا لم يردفوها بقولهم لِتَسْحَرَنا بِها وبقولهم فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: إن القوم لما قالوا ما قالوا وكان موسى رجلا حديدا دعا عليهم فأرسل الله عليهم الطوفان. قيل: هو الجدري وهو أوّل عذاب وقع فيهم فبقي في الأرض. وقيل: هو الموتان. وقيل: الطاعون. والأصح أنه المطر وأصله ما طاف وغلب من مطر أو سيل، أرسل الله عليهم السماء حتى كادوا يهلكون وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك. فدعا فرفع عنهم فما آمنوا فنبت لهم تلك السنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 من الكلأ والزرع ما لم يعهد بمثله وزعموا أن هذا الذي جزعوا منه هو خير لهم ولم يشعروا به فبعث الله عليهم الجراد فأكلت عامة زروعهم وثمارهم ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب والسقوف والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة فأرسل الله تعالى ريحا فاحتملت الجراد فألقته في البحر. وقيل: خرج موسى إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع الجراد إلى النواحي التي جاء منها فقالوا: ما نحن بتاركي ديننا. فأقاموا شهرا فسلط الله عليهم القمل وهو الحمنان كبار القردان. وعن أبي عبيدة وقيل: الدبى وهو أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها. وقيل: البراغيث. وقرأ الحسن العمل بعم وسكون الميم يريد القمل المعروف. وعن سعيد بن جبير هو السوس فأكل كل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصه وكان يأكل أحدهم طعاما ممتلئا قملا. وعن سعيد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه بعصاه فصار قملا فأخذ في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فأخذ عليهم العهود فرفع عنهم فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، وعزة فرعون لا نصدقك أبدا. فأرسل الله عليهم الضفادع بعد شهر فدخلت بيوتهم وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم، وكان أحدهم إذا أراد أن يتكلم وثبت الضفدع إلى فيه وكان يمتلىء منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرقاد، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي. فشكوا إلى موسى فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم دما، وكان يجتمع القبطي والإسرائيلي على إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما. وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك وكان يمص الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحا أجاجا. وقيل: الدم الرعاف سلطه الله عليهم. وقوله آياتٍ مُفَصَّلاتٍ نصب على الحال من المذكورات ومعناها ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها معجزات أو فصل بين بعضها وبعض بزمان يمتحن فيه أحوالهم وينظر أيوفون بالعهد أم ينكثون كما روي أن موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات. ولا شك أن كل واحدة من هذه معجزة في نفسها واختصاصها بالقبطي دون الإسرائيلي معجزة أخرى واستكبروا عن العبادة والطاعة وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ مصرين على الذنب والجرم. ثم فصل استكبارهم وإجرامهم فقال وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي الأنواع الخمسة المذكورة من العذاب. وعن سعيد بن جبير أنه الطاعون وهو العذاب السادس الذي كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 أصابهم فمات من القبط سبعون ألف إنسان في يوم واحد فتركوا غير مدفونين قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بعهده عندك وهو النبوة ف بِما مصدرية والباء يتعلق ب ادْعُ تعلق القلم بالكتبة في قولك: كتبت بالقلم أي ادع الله لنا متوسلا إليه بعهده عندك. أو تعلق المقسم عليه بالفعل فتكون باء الاستعطاف أي أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة. ووجه آخر وهو أن يكون قسما مجابا ب لَنُؤْمِنَنَّ فيكون متعلقا بالأقسام أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل أي نخيلهم وشأنهم فتذهب بهم حيث شئت فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ العذاب لا مطلقا ولا في جميع الوقائع بل إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ لا محالة ومعذبون فيه إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب «لما» أي لما كشفنا عنهم فاجأوا النكث وبادروه فانتقمنا منهم سلبنا النعمة عنهم بالعذاب فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ وهو البحر الذي لا يدرك قعره. وقيل: هو لجة البحر ومعظم مائه سمي باليم لأن المنتفعين به يتيممونه أن يقصدونه بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي كان إغراقهم بسبب التكذيب وَبأنهم كانُوا عَنْها أي عن الآيات وقيل عن النقمة بدلالة انتقمنا أي وكانوا عن النقمة قبل حلولها غافِلِينَ أي معرضين غير متفكرين فإن نفس الغفلة ليس باختيار الإنسان حتى يترتب الوعيد عليها. ثم بين ما فعله بالمحقين بعد إهلاك المبطلين فقال وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بقتل الأبناء واستحياء النساء والاستخدام في الأعمال الشاقة مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا يعني أرض مصر والشام لأنها هي التي كانت تحت تصرف فرعون. وقوله الَّتِي بارَكْنا فِيها أي بالخصب وسعة الأرزاق وذلك لا يليق إلا بأرض الشام. وقيل: المراد جملة الأرض لأنه خرج من بني إسرائيل من ملك جملتها كداود وسليمان وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة. قيل: يريد بالكلمة قوله في سورة القصص وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً [القصص: 5] إلى تمام الآيتين. ومعنى تَمَّتْ مضت واستمرت من قولك تم على الأمر إذا مضى عليه. وقيل: معنى تمام الكلمة الحسنى إنجاز الوعد الذي تقدم بإهلاك عدوّهم واستخلافهم في الأرض، لأن الوعد بالشيء جعله كالمعلق فإذا حصل الموعود صار تاما كاملا بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم. وفيه أن الصبر عنوان الظفر وضمين بالنصر والفرج وَدَمَّرْنا أي أهلكنا والدمار والهلاك ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قال ابن عباس: يريد المصانع. وقال غيره: يعني العمارات وبناء القصور. ولعله على العموم فيتناول المعاني والأعيان وما كانوا يعرشون من الجنات كقوله هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ [الأنعام: 141] وقيل: وما كانوا يرفعون من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وغيره، وهاهنا تمت قصة فرعون والقبط. ثم ذكر ما جرى على بني إسرائيل بعد ذلك فقال وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ روي أنه عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعد ما أهلك الله فرعون وقومه فصاموه شكرا لله فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ أي فمروا بقوم يَعْكُفُونَ يواظبون عَلى عبادة أَصْنامٍ لَهُمْ قال ابن جريج: كانت تماثيل بقر وذلك أوّل شأن العجل. وقيل: كانوا قوما من لخم نزلوا بالرقة عن قتادة. وقيل: كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم قالُوا: يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ما كافة للكاف عن العمل ولهذا دخلت على الجملة. وكأنهم طلبوا من موسى أن يعين لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعباداتها إلى الله تعالى كقول الكفرة ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] . فتوجه الذم عليهم لأن العبادة نهاية التعظيم سواء اعتقد في المعبود أنه إله واعتقد أنه مقرب من الله، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام وكأن هذا القول لم يصدر من مشاهير بني إسرائيل وعظمائهم كالسبعين المختارين، ولكنه صدر عن عوامهم وجهلتهم ولهذا قالَ لهم موسى إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تعجب من قولهم على أثر ما رأوا من الآيات العظمى فوصفهم بالجهل المطلق المؤكد. وعن علي رضي الله عنه أن يهوديا قال له: اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه، فقال علي: اختلفنا عنه لا فيه. ثم قال: قلتم اجعل لنا إلها ولما تجف أقدامكم إِنَّ هؤُلاءِ يعني عبدة تلك التماثيل مُتَبَّرٌ أي مكسر مهلك ما هُمْ فِيهِ من قولهم إناء متبر إذا كان فضاضا والتبار الهلاك. وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي يتبر الله أصنامهم ويهدم دينهم الذي هم عليه على يدي فيصير إلى الزوال والاضمحلال. وفي إيقاع هؤُلاءِ اسما ل إِنَّ وفي تقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبرا لأن إشارة إلى أن عبدة الأصنام ليسوا على شيء البتة وأن مصيرهم إلى النار لا محالة. قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً انتصب «غير» على الحال المقدمة التي لو تأخرت كانت صفة كما تقول: أبغيكم إلها غير الله. وانتصب إِلهاً على المفعول به. قال الواحدي: يقال بغيت فلانا شيئا وبغيته له قال تعالى يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التوبة: 47] والمعنى أغير المستحق للعبادة أطلب معبودا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ خصكم بالنعم الجسام دون أبناء زمانكم. ومعنى الهمزة الإنكار والتعجب مما اقترحوه مع كونهم مغمورين في نعم الله، فإن الإله ليس شيئا يطلب ويجعل بل الإله هو الموجود بنفسه القادر على الإيجاد والإعدام والإكرام والإنعام. والآية الباقية قد مر تفسيرها في البقرة، والفائدة في إعادتها هاهنا التعجب والتعجيب ممن اشتغل بعبادة غير هذا المنعم. وإنما قيل هاهنا تقتلون دون يُذَبِّحُونَ لتناسب قوله سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 التأويل: وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ من الهوى والغضب والكبر لفرعون النفس أَتَذَرُ مُوسى الروح وَقَوْمَهُ من القلب والسر والعقل لِيُفْسِدُوا في أرض البشرية وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ من الدنيا والشيطان والطبع قالَ فرعون النفس سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ يعني أعمالهم الصالحة نبطلها بالرياء والعجب وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي الصفات التي عنها يتولد الأعمال وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ بالمكر والخديعة والحيلة قالَ مُوسى الروح لِقَوْمِهِ هم القلب والعقل والسر اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا على جهاد النفس ومخالفتها ومتابعة الحق إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ أي أرض البشرية يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يورث أرض بشرية السعداء الروح وصفاته فتتصف بصفاته، ويورث أرض بشرية الأشقياء النفس وصفاتها فتتصف بصفاتها وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ يعني عاقبة الخير والسعادة للأتقياء السعداء بصفاتها. أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالواردات الروحانية قبل البلوغ، كنا نتأذى من أوصاف البشرية ومعاملاتها مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا بالواردات والإلهامات الروحانية بعد البلوغ نتأذى من دواعي البشرية عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ النفس وصفاتها وفيه إشارة إلى أن الواردات الروحانية لا تكفي لإفناء النفس وصفاتها ولا بد في ذلك من تجلي صفات الربوبية فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ الكفور لا يرى فضل المنعم. وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... مل الوصال وقال كان وكانا. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ لأن بصائرهم مسدودة وعقولهم عن شهود الحق مصدودة فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ العلم الكثير وَالْجَرادَ الواردات وَالْقُمَّلَ الإلهامات وَالضَّفادِعَ الخواطر وَالدَّمَ أصناف المجاهدات والرياضات مُفَصَّلاتٍ وقتا بعد وقت وحينا غب حين فَاسْتَكْبَرُوا عن قبولها والعمل بها وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ في الأزل، فلهذا لم تفدهم الوسائط والأسباب وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ وهو عذاب القطيعة فَأَغْرَقْناهُمْ في يم الدنيا وشهواتها وَما كانُوا يَعْرِشُونَ أي يرفعون بالتجبر والتكبر أنفسهم. يقال عرش الطائر إذا ارتفع بجناحيه على من تحته وَجاوَزْنا بصفات القلب من بحر الدنيا وخلصناهم من فرعون النفس فوصلوا إلى صفات الروح. يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ من المعاني المعقولة والمعارف الروحانية فاستحسنوها وأرادوا العكوف على عتبة عالم الأرواح قالَ لهم موسى الوارد الرباني عند ركونهم إلى الروحانيات إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ يعني صفات الروح مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ من الركون والعكوف على استحلاء المعاني المعقولة وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ في غير طلب الحق والوصول إلى المعارف الربانية وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ من الحيوان والجن والملك بفضيلة العبور من الجسمانيات والروحانيات إلى الوصول إلى المعارف والحقائق الإلهية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 [سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 154] وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) القراآت: أَرِنِي أَنْظُرْ بسكون الراء وفتح الياء: ابن الفليح وزمعة والخزاعي عن البزي. الباقون: بكسر الراء وسكون الياء. دَكَّاءَ بالمد: حمزة وعلي وخلف. إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ بفتح ياء المتكلم: ابن كثير وأبو عمرو برسالتي على التوحيد: أبو جعفر ونافع وابن كثير. الباقون: بِرِسالاتِي آياتِيَ الَّذِينَ مرسلة الياء: ابن عامر وحمزة. الرُّشْدِ بفتحتين: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بضم الراء وسكون الشين. مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 حُلِيِّهِمْ بفتح الحاء وسكون اللام: يعقوب حُلِيِّهِمْ بالكسرات وتشديد الياء: حمزة وعلي. الباقون: مثله ولكن بضم الحاء. ترحمنا وتغفر لنا بالخطاب والنداء: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون: على الغيبة ورفع رَبُّنا على الفاعلية بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. قالَ ابْنَ أُمَّ بكسر الميم: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل. الباقون: بفتحها ومثله ابْنَ أُمَ [الآية: 94] في طه. الوقوف: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ج للعطف مع اختلاف القائل الْمُفْسِدِينَ هـ رَبِّهِ لا لأن ما بعده جواب إِلَيْكَ ط فَسَوْفَ تَرانِي ج صَعِقاً ط الْمُؤْمِنِينَ هـ الشَّاكِرِينَ هـ الشَّاكِرِينَ هـ لِكُلِّ شَيْءٍ ج للعدول مع فاء التعقيب بِأَحْسَنِها ج الْفاسِقِينَ هـ بِغَيْرِ الْحَقِّ ج بِها ج لابتداء شرط آخر ولبيان تعارض الأحوال مع العطف سَبِيلًا ج ذلك سبيلا هـ غافِلِينَ هـ أَعْمالُهُمْ ط يَعْمَلُونَ هـ خُوارٌ ط سَبِيلًا هـ لئلا تصير الجملة صفة السبيل فإن الهاء ضمير العجل ظالِمِينَ هـ ضَلُّوا ج لأن ما بعده جواب. الْخاسِرِينَ هـ أَسِفاً ج لما بَعْدِي ج للابتداء بالاستفهام مع اتحاد القائل أَمْرَ رَبِّكُمْ ج لأن قوله وَأَلْقَى معطوف على قوله قالَ بِئْسَما وقد اعترض بينهما استفهام إِلَيْهِ ط يَقْتُلُونَنِي ط ز صلى والوصل أولى لأن الفاء للجواب أي إذا هم هموا بقتلي فلا تشمتهم بضربي. الظَّالِمِينَ هـ فِي رَحْمَتِكَ ز صلى الأولى أن يوصل لأن الواو للحال تحسينا للدعاء بالثناء الرَّاحِمِينَ هـ الدُّنْيا ط الْمُفْتَرِينَ هـ وَآمَنُوا ج لظاهر إن والوجه الوصل لأن ما بعده خبر والعائد محذوف والتقدير: إن ربك من بعد توبتهم لغفور لهم. رَحِيمٌ هـ الْأَلْواحَ ج صلى لاحتمال ما بعده الحال يَرْهَبُونَ هـ. التفسير: لما أهلك الله سبحانه أعداء بني إسرائيل سأل موسى ربه أن يؤتيه الكتاب الذي وعده فأمره بصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة، فلما أتم الثلاثين أنكر من نفسه خلوف الفم فتسوّك فقالت الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدتها بالسواك، فأوحى الله تعالى إليه: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك؟ فأمره الله أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لهذا السبب. وقيل: فائدة التفصيل أنه تعالى أمره بصوم ثلاثين وأن يعمل فيها ما يقربه من الله، ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها. وقال أبو مسلم الأصفهاني: من الجائز أن يكون موسى عند تمام الثلاثين بادر إلى ميقات ربه قبل قومه بدليل قوله في طه وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى [طه: 83] فلما أعلمه الله تعالى خبر قومه مع السامري رجع إلى قومه، ثم عاد إلى الميقات في عشرة أخرى فتم أربعون ليلة. وقيل: لا يمتنع أن يكون الوعد الأوّل لحضرة موسى وحده والوعد الثاني لحضرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 المختارين معه ليسمعوا الكلام. ومن فوائد الفذلكة في قوله فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً إزالة وهم من يتوهم أن الميقات كان عشرين ثم أتمه بعشر فصار ثلاثين. والفرق بين الميقات والوقت أن الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت الشيء قدره مقدرا أم لا. وانتصب أَرْبَعِينَ على الحال أي تم بالغا هذا العدد. وهارُونَ عطف بيان لِأَخِيهِ وقرىء بالضم على النداء اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي كن خليفتي فيهم وَأَصْلِحْ كن مصلحا أو أصلح ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل ومن دعاك إلى الإفساد فلا تتبعه. وإنما جعله خليفة مع أنه شريكه في النبوّة بدليل وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه: 32] والشريك أعلى حالا من الخليفة لأن نبوّة موسى كانت بالأصالة ونبوّة هارون بتبعيته فكأنه خليفته ووزيره. وإنما وصاه بالإصلاح تأكيدا واطمئنانا وإلا فالنبي لا يفعل إلا الإصلاح. وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا اللام بمعنى الاختصاص كأنه قيل: اختص مجيئه بوقتنا الذي حددنا له كما يقال: أتيته لعشر خلون من شهر كذا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ للناس في كلام الله مذاهب فقيل: هو عبارة عن هذه الحروف المؤلفة المنتظمة. وقيل: صفة حقيقية مخالفة للحروف والأصوات وعلى الأول فمحل تلك الحروف والأصوات هو ذات الله تعالى وهو قول الكرامية، أو جسم مغاير كالشجرة ونحوها وهو قول المعتزلة. وعلى التالي فالأشعرية قالوا إن موسى عليه السلام سمع تلك الصفة الأزلية لأنه كما لا يتعذر رؤيته عندنا مع أنه ليس بجسم ولا عرض فكذا لا يمتنع سماع كلامه مع أنه ليس بحرف ولا صوت. وقال أبو منصور الماتريدي: الذي سمعه موسى عليه السلام أصوات مقطعة وحروف مؤلفة قائمة بالشجرة «1» . واختلف العلماء أيضا في أن الله تعالى كلم موسى وحده لظاهر الآية أو مع السبعين المختارين وهو قول القاضي لأن تكليم الله موسى معجز وقد تقدمت نبوّة موسى فلا بد من ظهور هذا المعنى لغيره قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أي أرني نفسك واجعلني متمكنا من رؤيتك فانظر إليك وأراك. عن ابن عباس: أن موسى عليه السلام جاء ومعه السبعون وصعد الجبل وبقي السبعون في أسفل الجبل وكلم الله موسى وكتب له في الألواح كتابا وقربه نجيا. فلما سمع صرير القلم عظم شوقه فقال رب أرني انظر إليك. قالت الأشاعرة إن موسى سأل الرؤية وأنه عارف بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى. فلو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها. قال القاضي: للمحصلين من العلماء في هذا المقام أقوال: أحدها قول الحسن وغيره أن موسى ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى وهذا لا يقدح سبحانك في معرفته لأن العلم بامتناع الرؤية وجوازها لا يبعد أن يكون موقوفا على السمع، وزيف بأنه يلزم أن يكون موسى أدون حالا من علماء المعتزلة العالمين بامتناع الرؤية على الله   (1) لم يتم كلام الماتريدي وانظره في الفخر ليتم لك الفرق بينه وبين المعتزلة كتبه مصححة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 تعالى، وبأنهم يدعون العلم الضروري بأن كل ما كان مرئيا فإنه يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل، فلو لم يكن هذا العلم حاصلا لموسى كان ناقص العقل وهو محال، وإن كان حاصلا وجوّز موسى عليه المقابلة كان كفرا وهو أيضا محال. وثانيها طريقة أبي علي وأبي هاشم أن موسى عليه السلام سأل الرؤية عن لسان قومه فقد كانوا يكررون المسألة عليه بقولهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] وزيف بأنه لو كان كذلك لقال موسى أرهم ينظروا إليك، ولقال الله لن يروني، وبأنه لو كان محالا لمنعهم كما منعهم لما قالوا اجعل لنا إلها، وبأن ذكر الدليل القاطع في هذا المقام فرض مضيق فلم يمكن تأخيره مع أنهم كانوا مقرين بنبوّة موسى كفاهم في الامتناع عن السؤال قول موسى وإلا فلا انتفاع لهم بهذا الجواب فإن لهم أن يقولوا لا نسلم أن هذا المنع من الله بل هذا مما افتريته على الله. وثالثها وهو اختيار أبي القاسم الكعبي أن موسى سأل ربه المعرفة الضرورية بحيث تزول عندها الخواطر والوساوس كما في معرفة أهل الآخرة. وردّ بأنه تعالى أراه من الآيات كالعصا واليد وغيرها ما لا غاية بعدها فكيف يليق به أن يقول أظهر لي آية تدل على أنك موجود؟ ولو فرض أنه لائق بحال موسى فلم منعه الله تعالى عن ذلك؟ ولقائل أن يقول: منعه في الدنيا لحكمة علمها الله تعالى ولا يلزم منه المنع في الآخرة. ورابعها وهو قول أبي بكر الأصم أن موسى أراد تأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي، وتعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء. وضعف بأنه كان الواجب عليه حينئذ أن يقول: أريد يا إلهي أن يقوى امتناع رؤيتك بوجوه زائدة على ما ظهر في عقلي. ولقائل أن يقول: هذا تعيين الطريق. وفي الآية سؤال وهو أنه تعالى لم قال لَنْ تَرانِي دون لن تنظر إليّ ليناسب قوله أَنْظُرْ إِلَيْكَ والجواب لأن موسى لم يطلب النظر المطلق وإنما طلب النظر الذي معه الإدراك بدليل أَرِنِي ومن حجج الأشاعرة أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز هو استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز. وردّ بأنه علق حصول الرؤية على استقرار الجبل حال حركته بدليل قوله وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ أي في وقت النظر وعقيبه واستقرار الجبل حال حركته محال. ومنها قوله فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ أي ظهر وبان ومنه جلوت العروس إذا أبرزتها، أو ظهر للجبل اقتداره وتصدى له أمره وإرادته جَعَلَهُ دَكًّا أي مدكوكا كالمصدر بمعنى «مفعول» . والدك والدق أخوان. ومن قرأ بالمد أراد أرضا دكاء مستوية ومنه ناقة دكاء متواضعة السنام. والدكاء أيضا اسم للرابية الناشزة من الأرض كالدكة. والغرض من الجميع تعظيم شأن الرؤية وأن أحدا لا يقوى على ذلك إلا بتقوية الله وتأييده. وقالت المعتزلة: الرؤية أمر محال لقوله لَنْ تَرانِي وكلمة «لن» إن لم تفد التأبيد فلا أقل من التأكيد. وأيضا الاستدراك في قوله وَلكِنِ انْظُرْ معناه أن النظر إليّ محال فلا تطلبه ولكن عليك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 بنظر آخر إلى الجبل لتشاهد تدكك أجزائه وتفرق أبعاضه من عظمة التجلي، وإذا لم يطق الجماد ذلك فكيف الإنسان؟ قالت الأشاعرة هاهنا: لم يبعد أن يخلق الله تعالى حينئذ في الجبل حياة وعقلا وفهما ورؤية. وأيضا قوله وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً أي مغشيا عليه غشية كالموت دليل استحالة الرؤية على الأنبياء فضلا عن غيرهم. روي أن الملائكة مرت عليه وهو مغشى عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم يقولون: يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزّة. وأيضا قوله بعد الافاقة من الصعقة سُبْحانَكَ أنزهك عما لا يليق بك من جواز الرؤية عليك إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ من طلب الرؤية بغير إذن منك وإن كان لغرض صحيح هو تنبيه القوم على استحالة ذلك بنص من عندك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنك لست بمرئي ولا مدرك بشيء من الحواس. وقالت الأشاعرة: وأنا أوّل المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا أو بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك. ثم لما سأل الرؤية ومنعه الله إياها أخذ في تعداد سائر نعمه عليه وأمره أن يشتغل بشكرها ف قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ الآية. والمقصود تسلية موسى عن منع الرؤية. قيل: وفي هذا دليل على جواز الرؤية في نفسها وإلا لم يكن إلى هذا العذر حاجة. وإنما قال اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ ولم يقل «على الخلق» لأن الملائكة قد تسمع كلام الله تعالى من غير واسطة كما سمعه موسى. والغرض أنه تعالى خصه من دون الناس بمجموع أمرين الرسالة والكلام وسائر الرسل لهم الرسالة فقط. وإنما كان الكلام بلا وسط سببا للشرف بناء على العرف الظاهر وقد جاء في الخبر أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج بعين الرأس. وفي ذلك دليل على أفضليته على موسى شتان بين من اتخذه الملك لنفسه حبيبا وقرّبه إليه بلطفه تقريبا وبين من قرب له الحجاب وحال بينه وبين المقصود بواب ونواب. والمزاد بالرسالات هاهنا أسفار التوراة فَخُذْ ما آتَيْتُكَ من شرف الرسالة والكلام وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لله على ذلك بأن تشتغل بلوازمها علما وعملا. ثم فصل تلك الرسالة فقال وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ قيل: خر موسى صعقا يوم عرفة وأعطاه الله التوراة يوم النحر. وذكروا في عدد الألواح وفيو جوهرها وطولها أنها كانت عشرة ألواح، وقيل سبعة، وقيل لوحين، وأنها كانت من زمرد جاء بها جبرائيل، وقيل من زبرجدة خضراء أو ياقوتة حمراء، وقيل كانت من خشب نزلت من السماء. وعن وهب أنها كانت من صخرة صماء لينها الله تعالى لموسى قطعها بيده وشققها بأصابعه. وقيل: طولها كان عشرة أذرع. والتحقيق أن أمثال هذه يحتاج إلى النقل الصحيح وإلا وجب السكوت عنه إذ ليس في الآية ما يدل على ذلك. وأما كيفية تلك الكتابة فقال ابن جريج: كتبها جبرائيل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور وحكم هذا النقل أيضا كما قلنا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مفعول كَتَبْنا و «من» للتبعيض نحو أخذت من الدراهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا بدل منه فيدخل في الموعظة كل ما يوجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية وذلك بذكر الوعد والوعيد. وأراد بالتفصيل تبيين كل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل من أقسام الأحكام، ويجوز أن يكون مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا مفعولين ل كَتَبْنا والتقدير: وكتبنا له في الألواح موعظة من كل شيء وتفصيلا لكل شيء. قيل: أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منها في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى ويوشع وعزير وعيسى. وعن مقاتل: كتب في الألواح أني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئا ولا تقطعوا السبيل ولا تحلفوا باسمي كذبا فإن من حلف باسمي كاذبا فلا أزكيه، ولا تزنوا ولا تقتلوا ولا تعقوا الوالدين. فَخُذْها على إرادة القول أي وكتبنا فقلنا له خذها أو بدل من قوله فَخُذْ ما آتَيْتُكَ والضمير للألواح أو لكل شيء لأنه في معنى الأشياء، أو للرسالات أو للتوراة بِقُوَّةٍ بجد وعزيمة فعل أولى بالعزم من الرسل وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سئل هاهنا أنه لما تعبد بكل ما في التوراة وجب كون الكل مأمورا به، فظاهر قوله يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها يقتضي أن فيه ما ليس بأحسن وأنه لا يجوز الأخذ به. وأجاب العلماء بوجوه منها، أن تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن كالاقتصاص والعفو والانتصار والصبر، فمرهم أن يأخذوا بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب فيكون كقوله وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: 55] وكقوله الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 18] قال قطرب: الأحسن بمعنى الحسن وكلها حسن. وقيل: الحسن يشمل الواجب والمندوب والمباح والأحسن الواجب والمندوب. وقال في الكشاف: يجوز أن يراد يأخذوا بما أمروا به دون ما نهوا عنه كقولهم الصيف أحر من الشتاء. ثم ختم الآية بالوعيد والتهديد فقال سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ قال ابن عباس والحسن ومجاهد يعني جهنم أي ليكن ذكر جهنم حاضرا في أذهانكم لتحذروا أن تكونوا منهم. وعن قتادة: يريد مواطن الجبابرة والفراعنة الخاوية بالشأم ومصر ليعتبروا بذلك فلا يفسقوا مثل فسقهم فيصيبهم مثل ما أصابهم. وقال الكلبي: هي منازل عاد وثمود وأقرانهم يمرون عليها في أسفارهم. وقيل: المراد الوعد والبشارة بأن الله تعالى سيرزقهم أرض أعدائهم ويؤيده ما قرىء سأورثكم. وقوله وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ [الأعراف: 137] . ثم ذكر ما به يعامل الفاسقين المتكبرين فقال سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الآية. فاحتجت الأشاعرة بها على أنه تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصرف عنه. وقال الجبائي: قوله سَأَصْرِفُ للاستقبال والمصروفون موصوفون بالتكبر والانحراف عن الطريق المستقيم في الزمان الماضي، فعلم أن المراد من هذا الصرف ليس هو الكفر. وأيضا الصرف مذكور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 على وجه العقوبة على التكبر والاعتساف ولا تكون العقوبة عين المعاقب عليه فوجب تأويل الآية. وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني: إن هذا الكلام تمام لما وعد الله به موسى من النصرة والعصمة أي أصرفهم عن آياتي فلا يقدرون على منعك من تبليغها كما قال في حق نبينا صلى الله عليه وسلم بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ إلى قوله وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] وقيل: سأصرف هؤلاء المتكبرين عن نيل ما في آياتي من العز والكرامة المعدّة للأنبياء والمؤمنين، فيكون ذلك الصرف المستلزم للإذلال والإهانة جاريا مجرى العقوبة على كفرهم وتكبرهم على الله تعالى. وقيل: إن من الآيات آيات لا يمكن الانتفاع بها إلا بعد سبق الإيمان فإذا كفروا فقد صيروا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بما بعد ذلك فحينئذ يصرفهم الله تعالى عنها. وبوجه آخر إن الله تعالى إذا علم من حال بعضهم أنه إذا شاهد تلك الآيات فإنه لا يستدل بها بل يستخف بها ولا يقوم بحقها، فإذا علم الله تعالى ذلك صح أن يصرفهم عنها، أو عن الحسن: إن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه وهي بالطبع والخذلان، فالمراد بالمصروفين هؤلاء. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا عظمت أمتي الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي» قوله بِغَيْرِ الْحَقِّ أما أن يكون حالا بمعنى يتكبرون غير محقين لأن التكبير بالحق لله وحده، إذ لا كمال فوق كماله فله إظهار العظمة والكبرياء على كل من سواه، وإما أن يكون صلة للفعل أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الذي لا أصل له، ومنه يعلم أن للمحق أن يتكبر على المبطل كما قيل: التكبر على المتكبر صدقة. والرشد طريق الهدى والحق والصواب كلاهما واحد قاله الكسائي، وفرق أبو عمرو فقال: الرشد بضم الراء الصلاح لقوله فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء: 6] وبفتحتين الاستقامة في الدين قوله تعالى مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف: 66] وسبيل الغي ضد ما ذكرنا. ثم بين أن ذلك الصرف وتعكيس القضية إنما كان الأمرين: كونهم مكذبين بآيات الله، وكونهم غافلين عنها، ومحل ذلك الرفع على الابتداء أو النصب على معنى صرفهم الله ذلك الصرف بسبب أنهم كذا وكذا. ثم بيّن أن أولئك المتكبرين مجزيون شر الجزاء وإن صدر عنهم صورة الإحسان والخير فقال وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي جحدوا المعاد حبطت أعمالهم. ثم قال هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ احتجت الأشاعرة بها على فساد قول أبي هاشم إن تارك الواجب يستحق العقاب بمجرد ترك الواجب وإن لم يصدر عنه فعل ذلك. قالوا: لأنها دلت على أنه لا جزاء إلا على عمل وترك الواجب ليس بعمل. أجاب أبو هاشم بأني لا أسمي ذلك العقاب جزاء. ورد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 بأن الجزأ ما يجزىء، أي يكفي عن المنع عن النهي أو في الحث على المأمور، لكن العقاب على ترك الواجب كاف في الزجر عن ذلك فكان جزاء. قيل: إن بني إسرائيل كان لهم عيد يتزينون فيه يستعيرون من القبط الحلي فاستعاروها مرة فأغرق الله القبط فبقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل، فلهذا أضيفت إليهم على أن مجرد ملابسة الاستعارة أيضا تحقق الإضافة وتصححها. والحليّ جمع حلي كثدي وثديّ. ومن كسر الحاء فللإتباع. فجمع السامري تلك الحليّ وكان رجلا مطاعا فيهم ذا قدر وكانوا قد سألوا موسى أن يجعل لهم إلها يعبدونه فصاغ السامري لهم عجلا. واختلف المفسرون بعد ذلك فقال قوم: كان قد أخذ تراب حافر فرس جبرائيل فألقاه في جوف ذلك العجل فانقلب لحما ودما وظهر منه الخوار مرة واحدة فقال السامري هذا إلهكم وإله موسى. قال أكثر المفسرين من المعتزلة: إنه كان قد جعل ذلك العجل مجوّفا ووضع في جوفه أنابيب على وجه مخصوص، ثم وضع التمثال على مهب الرياح فظهر منه صوت شديد يشبه خوار العجل. وقال آخرون: إنه صير ذلك التمثال أجوف وخبأ تحته من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به الناس. وإنما قال سبحانه وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى من أن المتخذ هو السامريّ وحده لأن القوم رضوا بذلك واجتمعوا عليه فكأنهم شاركوه، أو لأن المراد باتخاذ العجل هو عبادته كقوله ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ [البقرة: 51] أي من بعد مضيه إلى الطور. قال الحسن: كلهم عبدوا العجل غير هارون لعموم الآية ولقول موسى في الدعاء رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي ولو كان غيرهما أهلا للدعاء لأشركهم في ذلك. وقال آخرون: بل كان قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه لقوله سبحانه مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف: 181] وهل انقلب ذلك التمثال لحما ودما أو بقي ذهبا كما كان مال بعضهم إلى الأوّل لأنه تعالى قال عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ والجسد اسم للجسم ذي اللحم والدّم والخوار إنما يكون للبقرة لا للصورة. واستبعده بعضهم وناقش في أن الجسد مختص بذي الروح. ثم قال: إن ذلك الصوت لما أشبه الخوار لم يبعد إطلاق لفظ الخوار عليه. وقرأ على كرم الله وجهه جؤار بالجيم والهمزة من جأر إذا صاح وجَسَداً بدلا من عِجْلًا ثم إنه سبحانه احتج على فساد كون ذلك العجل إلها بقوله أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ومن حق الإله أن يكون متكلما هاديا إلى سبيل الحق ومناهجه بما ركز في العقول من الأدلة وبما أنزل من الكتب. قالت المعتزلة: هاهنا سؤال فمن كان مضلا عن الدين لا يصلح أن يكون إلها. قالت الأشاعرة: لو صح أن الإله يلزم أن يكون متكلما هاديا لزم أن يكون كل متكلم هاد إلها. والحق أن الملازمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 ممنوعة فإن الدعوى ليست إلا أن كل إله يجب أن يكون متكلما هاديا والموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها على أنه يمكن أن يقال لا متكلم ولا هادي في الحقيقة إلا الله تعالى. ثم ختم الآية بقوله اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ وهذا كما قال في البقرة ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ [البقرة: 51] ثم أخبر عن عقبى حالهم بقوله وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ معناه ولما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل. واختلفوا في وجه هذه الاستعارة فقال الزجاج: أريد بالأيدي القلوب والأنفس كما يقال حصل في يده مكروه وإن كان من المحال حصول المكروه في اليد تشبيها لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين. وقال في الكشاف: إن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده فتصير يده مسقوطا فيها لأن فاه وقع فيها، فأصل الكلام سقط فوه في يده فحذف الفاعل وبني الفعل للمفعول فيه كما يحذف الفعل ويبنى للمفعول فيه في قولهم «مرّ بزيد» وهذا من باب الكناية لأن عض اليد من لوازم الحسرة والندم. وقيل: كل عمل يقدم المرء عليه فذلك لاعتقاد أن ذلك العمل خير وصواب وأنه يورثه رفعة ورتبة، فإذا بان أن ذلك العمل باطل فكأنه انحط وسقط من علو إلى أسفل ومنه قولهم للرجل إذا أخطأ «ذلك منه سقطة» ثم إن اليد آلة البطش والأخذ والنادم كأنه تدارك الحالة التي لأجلها حصل له الندم وكأنه قد سقط في يد نفسه من حيث أنه بعد حصول ذلك الندم يشتغل بالتدارك والتلافي. وحكى الواحدي أنه من السقط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج فمن وقع في يده السقط لم يحصل منه على شيء قط لأنه يذوب بأدنى حرارة، فهذا مثل من خسر في عاقبته ولم يحصل على طائل من سعة. وقال بعضهم: الآلة الأصلية في أكثر الأعمال اليد والعاجز فى حكم الساقط فسقاط اليد هو العجز التام كما يقال في العرف ضل يده ورجله لمن لا يهتدي إلى صلاحه. وقيل: إن «في» بمعنى «على» أي سقط على أيديهم فإن من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضعه على يده تحت ذقنه. ثم قال الله تعالى وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا أي قد تبينوا ضلالهم كأنهم أبصروه بعيونهم. قال القاضي: الكلام على التقديم والتأخير لأن الندم والتحسر بعد تعرف الحال وتبين الخطأ والترتيب الأصلي: ولما رأوا أنهم قد ضلوا سقط في أيديهم. ويمكن أن يقال: الواو لا تفيد الترتيب، أو يقال: الإقدام على ما لا يعلم كونه صوابا أو خطأ فاسد موجب للندم وقد يتكامل العلم فيظهر أنه خطأ جزما. ثم إنهم اعترفوا بذنوبهم وانقطعوا إلى ربهم وذكروا مثل ما ذكر أبونا آدم وأمنا حواء إن لم ترحمنا ربنا الآية. وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ قال بعضهم إن موسى قد عرف خبر القوم بعد رجوعه إليهم. وقال الأكثرون وهو قول أبي مسلم: إنه كان عارفا بذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 قبل رجوعه بدليل قوله غَضْبانَ أَسِفاً فإنه يدل على أن هاتين الحالتين حاصلتان له عند رجوعه إليهم ولما جاء في سورة طه قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ [الآية: 85] وفيه دليل ظاهر على أنه تعالى أخبره بوقوع الواقعة في الميقات. والأسف الشديد الغضب وهو قول أبي الدرداء والزجاج. وعن ابن عباس والحسن إنه الحزين. وقال الواحدي: هما متقاربان فإذا جاءك ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت، فكأن موسى غضبان على قومه أسفا من فتنة ربه بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي خاطب عبدة العجل أو وجوه القوم- هارون والمؤمنين- حيث لم يكفوا العبدة. وفاعل بِئْسَما مضمر يفسره خَلَفْتُمُونِي والمخصوص محذوف التقدير: بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم. ومعنى مِنْ بَعْدِي مع قوله خَلَفْتُمُونِي من بعد ما رأيتم مني من توحيد الله ونفي الأنداد أو من بعد ما كنت أحمل القوم عليه من التوحيد والكف عن اتخاذ إله غير الله حيث قالوا جعل لنا إلها ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة مستخلفيهم من بعدهم ولا يخالفوهم ونظير الآية قوله فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [مريم: 58] أي من بعد أولئك الموصوفين بالصفات الحميدة أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ قال الواحدي: العجلة التقدم بالشيء قبل وقته ولذلك صارت مذمومة في الأغلب بخلاف السرعة فإنها عمل الشيء في أوّل وقته. قال ابن عباس: يعني أعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له. وقال الحسن: أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين وذلك أنهم قدّروا أنه لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة فقد مات. وروي أن السامري قال لهم: إن موسى لن يرجع وإنه قد مات. وروي أنهم عدوا عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا. وقال الكلبي: أعجلتم عبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم. وقال عطاء: أعجلتم سخط ربكم. وفي الكشاف: يقال عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره ويضمن معنى سبق فيعدى تعديته فيقال: عجلت الأمر ومعنى: أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به وَأَلْقَى الْأَلْواحَ التي فيها التوراة لما لحقه من الدهش والضجر غضبا لله. عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «يرحم الله أخي موسى ما الخبر كالمعاينة» «1» لقد أخبره الله تعالى بفتنة قومه فعرف أن ما أخبره الله تعالى به حق وأنه مع ذلك متمسك بما في يده. وروي أن التوراة كانت سبعة أسباع فلما ألقى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباعها وبقي سبع واحد، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء وفيما بقي الهدى والرحمة. قال في التفسير الكبير: إلقاء الألواح ثابت بالقرآن، فأما إلقاؤها بحيث تكسرت فلا وإنه جراءة   (1) رواه أحمد في مسنده (1/ 215، 271) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 عظيمة ومثله لا يليق بالأنبياء. وأقول: الجراءة تحصل بنفس الإلقاء لا بالتكسر الذي لا يتعلق باختياره فكل ما يجعل عذرا عن نفس الإلقاء يصح أن يجعل عذرا عن التكسر وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي بشعر رأسه يجره إليه بذؤابته. واعلم أن موسى عليه السلام كان في نفسه حديدا شديد الغضب وكان هارون ألين منه جانبا ولذلك كان أحبّ إلى بني إسرائيل من موسى. وقد استتبع غضبه أمرين: أحدهما إلقاء الألواح والآخر أخذ رأس أخيه جار إليه، فزعم مثبتو عصمة الأنبياء أنه جر برأس أخيه إلى نفسه ليسارّه ويستكشف منه كيفية الواقعة لا لأجل الإهانة والاستخفاف، ثم إن هارون خاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أن موسى فعل ما فعل به إهانة فالَ يَا بْنَ أُمَ من كسرها فعلى طرح ياء المتكلم، ومن فتحها فتشبيها بخمسة عشر لكثرة الاستعمال أو على الألف المبدلة من ياء الإضافة. وإنما أضافه إلى الأم إشارة إلى أن أمهما واحدة على ما روي أنه كان أخاه لأمه ليكون أدعى إلى العطف والرقة لأنها كانت مؤمنة فافتخر بنسبها ولأنها هي التي تحملت فيه الشدائد فذكره حقها إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي استذلوني وقهروني ولم يبالوا بي لقلة أنصاري وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي حين منعتهم عبادة العجل ونهيتهم عنها فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ العابدي العجل فإنهم يحملون هذا الذي تفعل بي على الإهانة لا على الإكرام وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ في اشتراك العقوبة والإذلال، ولا تعتقد أني واحد منهم. ولا يخفى ما في بعض هذا التفسير من التعسف والتكلف، والحق أن هذا القدر من الحدة الناشئة من عصبية الدين لا يقدح في العصمة وغايته أن يكون من قبيل ترك الأولى فلذلك قالَ موسى رَبِّ اغْفِرْ لِي ما أقدمت عليه من الحدة قبل جلية الحال وَلِأَخِي أن عساه فرّط في شأن الخلافة ثم أخبر عن مجازاة القوم فقال إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إلها سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ كلاهما في الحياة الدنيا. فالغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم والذلة خروجهم من ديارهم وذل الغربة لا يخفى. واعترض بأن قوله سَيَنالُهُمْ للاستقبال وفي وقت نزول الآية كان القتل واقعا. وأجيب بأن هذا الكلام حكاية عما أخبر الله تعالى موسى به في الميقات من افتتان قومه وكان سابقا على وقوعهم في الغضب والذلة. قلت: ويجوز أن يكون الآيتان من تتمة قول موسى إلا أن قوله وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ينبو عن ذلك إلا أن يحمل على الاعتراض. ولما في هذا التفسير من التكلف ذهب به بعض المفسرين إلى أن المضاف في الآية محذوف والتقدير: إن الذين اتخذ آباؤهم العجل يعني الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم سينالهم غضب من ربهم في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا بضرب الجزية، أو غضب وذلة كلاهما في الدنيا بالقتل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 والجلاء كما نال بني قريظة والنضير، أو التقدير: إن الذين اتخذوا العجل سينال أولادهم وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ أي كل مفتر في دين الله فجزاؤه الغضب والذلة. قال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا وتجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا ظاهر الآية يدل على أن التوبة شرط العفو وأنه لا بد مع التوبة من تجديد الإيمان فما أصعب شأن المذنبين، ولكن عموم لفظ السيئات يدل على أن من أتى بجميع المعاصي ثم تاب فإن الله يغفرها له فما أحسن حال التائبين لَغَفُورٌ ستور عليهم محّاء لما صدر منهم رَحِيمٌ منعم عليهم بالجنة. وفيه أن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفوه وكرمه أعظم وأجل. ولما بين ما كان من موسى مع الغضب بين ما كان منه بعد الغضب فقال وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ قال علماء البيان: إنه خرج على قانون الاستعارة فكأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول ألق الألواح وغير ذلك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء. وعن عكرمة أن المعنى سكت موسى عن الغضب فقلب كما يقال: أدخلت الخف في رجلي وإنما أدخل الرجل في الخف. وقيل: السكوت بمعنى السكون وقد قرىء به. أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها منبها على زوال غضبه لأنه أوكد ما تقدم من إمارات الغضب وَفِي نُسْخَتِها فعلة بمعنى مفعول كالخطبة من النسخ والكتب أي في مكتوبها من اللوح المحفوظ سواء قلنا إن الألواح لم تتكسر وأخذها موسى بأعيانها بعد ما ألقاها أو قلنا إنها تكسرت وأخذ ما بقي منها، وقيل: النسخ بمعنى الإزالة لما روي عن ابن عباس أنه لما ألقى الألواح تكسرت فصام أربعين يوما فأعاد الله تعالى الألواح وفيها غير ما في الأولى هُدىً من الضلال وَرَحْمَةٌ من العذاب لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أدخل اللام في المفعول لتقدمه فإن تأخير الفعل يكسبه ضعفا ونظيره لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف: 43] وقولك: لزيد ضربت. ويجوز أن يكون المراد للذين هم لأجل ربهم يرهبون لا رياء وسمعة، وجوّز بعضهم أن تكون اللام صلة نحو ردف لكم. التأويل: ثَلاثِينَ لَيْلَةً لئلا تستكثر النفس الأربعين من ضعف البشرية وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ الخصوصية الأربعين في ظهور ينابيع الحكمة من القلب على اللسان وَقالَ مُوسى الروح لِأَخِيهِ هارُونَ القلب عند توجهه لمقام المكالمة والتجلي كن خليفتي في قومي من الأوصاف البشرية ووَ أَصْلِحْ ذات بينهم على وفق الشريعة وقانون الطريقة وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ من الهوى والطبيعة. وهذه الخلافة هي السر الأعظم في بعثة الروح من ذروة عالم الأرواح إلى حضيض عالم الأشباح وَلَمَّا جاءَ مُوسى ولما حصل الروح على بساط القرب وتتابع عليه كاسات الشرب أثر فيه سماع الكلمات فطال لسان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 انبساطه عند التمكن على بساطه ف قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ فقيل: هيهات أنت بعد في بعد الاثنينية وحجب جبل الأنانية فلن تراني لأنه لا يراني إلا من كنت له بصرا فبي يبصر وَلكِنِ انْظُرْ إلى جبل الأنانية فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ عند التجلي فَسَوْفَ تَرانِي ببصر أنانيتك وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً بالأنانية فكان ما كان بعد أن بان ما بان وأشرقت الأرض بنور ربها. قد كان ما كان سرا أبوح به ... فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر فلو لم يكن جبل أنانية النفس بين موسى الروح وتجلي الرب لطاش في الحال وما عاش، ولولا أن القلب يحيا عند الفناء بالتجلي لما أمكنه الإفاقة والروح إلى الوجود، ولو لم يكن تعلق الروح بالجسد لما استسعد بالتجلي ولا بالتحلي فافهم. فَلَمَّا أَفاقَ من غشية الأنانية بسطوة تجلي الربوبية قالَ موسى بلا هويته سُبْحانَكَ تنزيها لك من خلقك واتصال الخلق بك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنك لا ترى بالأنانية وإنما ترى بنور هويتك. بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي دون رؤيتي وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ فإن الشكر يبلغك إلى ما سألت من الرؤية لأن الشكر يورث الزيادة والزيادة هي الرؤية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي بقوة الصدق والإخلاص أو بقوة وإعانة منا سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن طلب الله إلى طلب الآخرة أو الدنيا سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ فبحجاب التكبر يحجب المتكبر عن رؤية الآيات وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى أي سامري الهوى من بعد توجه موسى الروح لميقات مكالمة الحق. اتخذ حلى زينة الدنيا ورعونات البشرية التي استعارها بنو إسرائيل صفات القلب من قبط صفات النفس عِجْلًا هو الدنيا لَهُ خُوارٌ يدعو الخلق به إلى نفسه وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ عند رجوع موسى الروح إلى قومه وهم الأوصاف الإنسانية ندمت من فعلها وعادت إلى ما كانت فيه من عبودية الحق والإخلاص له قائلة لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا بجذبات العناية رَبُّنا الآية غَضْبانَ مما عبدت صفات القلب عجل الدنيا أَسِفاً على ما فاتها من عبودية الحق أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ بالرجوع إلى الدنيا وزينتها والتعلق بها قبل أوانه من غير أن يأمركم به ربكم. وفيه إشارة إلى أن أصحاب السلوك لا ينبغي أن يلتفتوا إلى شيء من الدنيا في أثناء الطلب اللهم إلا إذا قطعوا مفاوز النفس والهوى ووصلوا إلى كعبة وصال المولى فيأمرهم المولى أن يرجعوا إلى الدنيا لدعوة الخلق وَأَلْقَى الْأَلْواحَ يعني ما لاح للروح من اللوائح الربانية عند استيلاء الغضب الطبيعي. وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ القلب فإنه أخو الروح يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قسرا عند استيلاء طبيعة الروحانية قالَ ابْنَ أُمَّ هما من أب وأم واحد أبوهما الأمر وأمهما الخلق، وإنما نسبه إلى الخلق لأن في عالم الخلق تواضعا وتذللا بالنسبة إلى عالم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 الأمر. إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي يعني أن أوصاف البشرية استذلوني بالغلبات عند غيبتك وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وهم الشيطان والنفس والهوى وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فيه أن صفات القلب تتغير وتتلون بلون صفات النفس ورعوناتها، ولكن القلب من حيث هو هو لا يتغير عما جبل عليه من محبة الله وطلبه وإنما يمرض بتغير صفاته كما أن النفس لا تتغير من حيث هي عما جبلت عليه من حب الدنيا وطلبها، وإنما تتغير صفاتها من الأمارية إلى اللوّامية والملهمية والمطمئنية والرجوع إلى الحق، ولو وكلت إلى نفسها طرفة عين لعادت إلى طبعها رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي إشارة إلى أن للروح والقلب استعداد قبول الجذبة الإلهية التي يدخلها بالسير في عالم الصفات وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ الذين يدّعون أن الله أعطاهم قوّة لا يضرهم عبادة الهوى والدنيا وشهواتها. [سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 159] وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) القراآت عَذابِي أُصِيبُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع أصارهم على الجمع: أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب والمفضل. الباقون على التوحيد. الوقوف لِمِيقاتِنا ج للابتداء بكلمة الجزاء مع فاء التعقيب وَإِيَّايَ ط مِنَّا ج لتصدر «ان» النافية مع اتحاد القائل فِتْنَتُكَ ج لأن ما بعده مستأنف وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ ط الْغافِرِينَ هـ إِلَيْكَ ط مَنْ أَشاءُ ط للفصل بين الجملتين تعظيما لشأنهما مع الاتفاق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 في اللفظ كُلَّ شَيْءٍ ط للتبيين واختلاف الجملتين والفاء لاستئناف وعد على الخصوص يُؤْمِنُونَ هـ ج لاحتمال ما بعده النصب أو الرفع على المدح والجر على البدل الْإِنْجِيلِ ج لأن يَأْمُرُهُمْ يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو يأمرهم، وأن يكون نعتا أي مكتوبا أمرا أو بدلا من مَكْتُوباً أو مفعولا بعد مفعول أي يجدونه أمرا، أو يكون التقدير الأمي الذي يأمرهم فيكون كالبدل من الصلة كانَتْ عَلَيْهِمْ ط أُنْزِلَ مَعَهُ لا لأن ما بعده خبر «فالذين» . الْمُفْلِحُونَ هـ وَالْأَرْضِ ج لاحتمال ما بعده الابتداء والحال أي استحق ملك السموات غير مشارك وَيُمِيتُ ط لطول الكلام وإلا فالفاء للجواب أي إذا كنت رسولا فأمنوا إجابة. تَهْتَدُونَ هـ يَعْدِلُونَ هـ. التفسير: الاختيار افتعال من لفظ الخير يقال: اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره ومن هنا سمي فعل الحيوان فعلا اختياريا، وذلك أن صدور الفعل عن الحيوان موقوف على حكمه بكون ذلك الفعل خيرا له من تركه. قال النحويون: أصله واختار موسى من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل، فمن الأفعال ما يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف واحد ثم يتسع فيحذف الحرف. من ذلك قولهم: اخترت من الرجال زيدا ثم يتسع فيقال اخترت الرجال زيدا. وكذا استغفرت الله من ذنبي واستغفرته ذنبي. وجوّز بعضهم في الآية أن يراد بالقوم المعتبرون منهم إطلاقا لاسم الجنس على ما هو المقصود منهم فيكون مفعولا أوّل من غير واسطة ويكون سَبْعِينَ بدلا أو بيانا قيل: اختار من اثني عشر سبطا من كل سبط ستة فصاروا اثنين وسبعين فقال: ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال: إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع. وروي أنه لم يجد إلا ستين شيخا فأوحى إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخا. وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم يجاوزوا الأربعين قد ذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى أن يتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سينا لميقات ربه. وللمفسرين خلاف في أن هذا الميقات عين ميقات الكلام والرؤية أم غيره؟ الذاهبون إلى الأوّل قالوا: إن موسى كان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل، فلما سمعوا الكلام طلبوا الرؤية وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهي المراد من الرجفة في هذه الآية. والذاهبون إلى الثاني حملوا القصة على ما مر في البقرة في تفسير قوله وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ وقد ذكرنا هنالك أن منهم من قال هذه الواقعة كانت قبل قتل الأنفس توبة من عبادة العجل، ومنهم من قال إنها كانت بعد القتل. واحتج أصحاب هذا المذهب على المغايرة بأنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها ذكر قصة العجل ثم ختم الكلام بهذه القصة، فظاهر الحال يقتضي أن تكون هذه القصة مغايرة لتلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 القصة وإلا انخرم التناسب. عن علي عليه السلام أن موسى وهارون انطلقا إلى سفح جبل فنام هارون فتوفاه الله تعالى، فلما رجع موسى إلى قومه قالوا إنه قتل هارون فاختار من قومه سبعين فذهبوا إلى هارون فأحياه الله تعالى فقال: ما قتلني أحد فأخذتهم الرجفة هنالك. قيل: كانت موتا. وقيل أخذتهم الرعدة حتى كادت تبين مفاصلهم وتنقض ظهورهم فخاف موسى عليهم الموت فدعا الله تعالى وقال رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ قال في الكشاف: هذا تمن منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى كما يقول النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبة لو شاء الله لأهلكني قبل هذا أَتُهْلِكُنا جميعا يعني نفسه وإياهم بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا قال أهل العلم: لا يجوز أن يظن موسى أن الله تعالى أهلك قوما بذنوب غيرهم، فهذا الاستفهام بمعنى الجحد أراد أنك لا تفعل ذلك كما تقول: أتهين من يخدمك تريد أنك لا تفعل ذلك، وقال المبرد: إنه استفهام استعطاف أي لا تهلكنا. قيل: لو كان تسفيههم لقولهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] ناسب أن يقال: أتهلكنا بما قاله السفهاء. فإذن التسفيه لفعل صدر عنهم كعبادة العجل أو غيرها، ومنه يعلم أن هذا الميقات غير ميقات طلب الرؤية إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ الضمير يعود إلى الفتنة أي كما تقول إن هو إلا زيد وإن هي إلا هند قاله الواحدي. ولعله يعود إلى مقدر ذهني والمعنى أن الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك ابتلاءك ومحنتك حين كلمتني وسمعوا كلامك أو حين أسمعتهم صوت العجل تُضِلُّ بِها أي بالفتنة من تشاء فيفتتن وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ فيثبت على الحق. قالت المعتزلة: إن محنته لما كانت سببا لأن ضلوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام أو الضمير يعود إلى الرجفة أي تُضِلُّ على الجنة بسبب عدم الصبر على تلك الرجفة، أو لعدم الإيمان بأنها من عندك مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي إلى الجنة بها الأضداد ما قلنا مَنْ تَشاءُ أو المراد بالإضلال الإهلاك أي تهلك من تشاء بالرجفة وتصرفها عمن تشاء أَنْتَ وَلِيُّنا يفيد الحصر أي لا ولي لنا ولا ناصر إلا أنت فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا قيل: تذكر أن قوله إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ جراءة عظيمة فأشرك نفسه مع قومه في طلب المغفرة والرحمة وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ لأن غفرانك غير متوقف على جلب نفع أو دفع ضر بل لمحض الفضل والكرم. وَاكْتُبْ أوجب لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ نظيره سؤال المؤمنين من هذه الأمة رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [البقرة: 201] وقد فسرناها في سورة البقرة. واعلم أن كونه تعالى وليا للعبد يناسبه أن يطلب العبد منه دفع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 المضار وتحصيل المنافع ليظهر آثار كرمه وإلهيته. وأيضا اشتغال العبد بالتوبة والخضوع يناسب طلب هذه الأشياء. فذكر السبب الأوّل ثم رتب عليه الدعاء وختمه بالسبب الثاني وهو قوله إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قال أهل اللغة: النهود التوبة أي تبنا ورجعنا. وقد تم بذكر السببين عهد عز الربوبية وعهد ذل العبودية فلا يبعد وقوع الإجابة ولأن دفع الضر مقدم على تحصيل النفع، قدم طلب المغفرة والرحمة على طلب إيجاب الحسنة في الدارين قالَ الله تعالى في جواب موسى عَذابِي من حالة وصفته أني أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ إذا ليس لأحد عليّ اعتراض في ملكي. وقالت المعتزلة: أي من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة. وقرأ الحسن من أساء من الإساءة وَرَحْمَتِي من شأنها أنها وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ قالت الأشاعرة: هذا من العام الذي أريد به الخاص. وقال أكثر المحققين: إن رحمته في الدنيا تعم الكل ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمته. وأما في الآخرة فهي مختصة بالمؤمنين وذلك قوله فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وقيل: الوجود خير من العدم فلا موجود إلا وهو مشمول بنعمته. وقيل: الخير مطلوب بالذات والشر مطلوب بالعرض وما بالذات راجح غالب. وقالت المعتزلة: الرحمة عبارة عن إرادة الخير ولا حي إلا وقد خلقه الله تعالى للرحمة والخير واللذة وإن حصل هناك ألم فله أعواض كثيرة. واعلم أن تكاليف الله تعالى كثيرة ولكنها محصورة في نوعين: التروك والأفعال. فقوله فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إشارة إلى التروك. التكليف الفعلي إما ما لي وهو قوله وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وإما غيره وذلك قوله وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ فإنه يشمل كل ما يجب على الإنسان علما وعملا. ثم ضم إلى ذلك اتباع النبي الأمي إلى آخره. وصف محمدا صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بصفات تسع: الأولى الرسالة. الثانية النبوة. فإن قيل: النبوة مندرجة تحت الرسالة فلم أفردها بالذكر؟ قلت: لا بل بينهما عموم وخصوص من وجه فقد يكون رسولا ولا يكون نبيا كقوله جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] وقد يكون نبيا لا رسولا ككثير من الأنبياء، فلا يكون أحد الوصفين على الإطلاق مغنيا عن الآخر. ولو سلم فذكر الآخر تتميم وتصريح بما علم ضمنا. الثالثة: كونه أميا. قال الزجاج: معناه أنه على صفة أمة العرب. قال صلى الله عليه وسلم وآله: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» «1» . وقيل: إنه منسوب إلى الأم أي إنه على هيئته يوم ولد لم يكتسب خطا ودراسة. وكان هذا من جملة معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم وبيانه من وجوه: الأول أنه كان يقرأ   (1) رواه البخاري في كتاب الصوم باب 13. مسلم في كتاب الصيام حديث 15. أبو داود فى كتاب الصيام باب 4. النسائي في كتاب الصوم باب 17. أحمد في مسنده (2/ 42، 52، 122) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 عليهم كتاب الله منظوما مرة بعد أخرى من غير تبديل. والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بد أن يزيد فيها وينقص، فهذا المعنى من مدد سماوي كقوله سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: 6] الثاني لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهما بأنه طالع كتب الأوّلين، ولما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على جلائل العلوم من غير تعلم ومطالعة عرف أنه من السماء وإليه الإشارة بقوله وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] الثالث: أن تعلم الخط لا يفتقر إلا إلى فطنة قليلة ومع ذلك كان الخط مشكلا عليه. ثم إن الله تعالى آتاه علوم الأوّلين والآخرين وما لم يصل إليه أحد من العالمين، فالجمع بين هاتين الحالتين من الأمور الخارقة للعادة كالجمع بين الضدين. الصفة الرابعة الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ الضمير في يجدون للذين يتبعونه من بني إسرائيل. ثم إن كان المراد أسلافهم فالوجه أن يراد بالاتباع اعتقاد نبوته من حيث وجدوا نعته في التوراة إذ لا يمكن أن يتبعوه في شرائعه قبل بعثه إلى الخلق، ويكون المراد من قوله وَالْإِنْجِيلِ أنهم يجدون نعته مكتوبا عندهم في الإنجيل فمن المحال أن يجدوه في الإنجيل قبل إنزال الإنجيل، وإن كان المراد المعاصرين فالمعنى أن هذه الرحمة لا يفوز بها بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بالدلائل في زمن موسى واتبع نبي آخر الزمان في شرائعه، وفي هذا دليل على أن نعته وصحة نبوّته مكتوب في التوراة والإنجيل، وإلا كان ذكر هذا الكلام من أعظم القوادح والمنفرات لأهل الكتابين عن قبول قوله، لأن الإصرار على الزور والبهتان يوجب نقصان حال المدعي فلا يرتكبه عاقل فلما أصر على ذلك دل على أن الأمر في نفسه كذلك. الخامسة والسادسة يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وقد ذكرنا تفصيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آل عمران ومجامع ذلك محصورة في قوله صلى الله عليه وسلم: «ملاك الدين تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله» فإن كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلا قاهرا وبرهانا باهرا على توحيد الله وتنزيهه فإنه يجب النظر إليها بعين الاحترام والإشفاق كما يليق بها. السابعة وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ قيل: أي ما يستطاب طبعا لأن تناول ذلك يفيد لذة. وقيل: يعني الأشياء التي حكم الله تعالى بحلها وزيف بأنه يجري مجرى قول القائل: ويحل المحللات وهو تكرار. ويمكن أن يجاب بأن المراد ويبين لهم المحللات. وفائدة العدول أن يعلم أن كل حلال مستطاب طبعا وأن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل إلا الدليل منفصل. وقيل: يعني ما يحرم عليه من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها. الثامنة وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 عطاء عن ابن عباس: الميتة والدم ونحوهما من المحرمات. وقيل: كل ما يستخبثه الطبع فالأصل فيه الحرمة إلا بدليل منفصل. التاسعة وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ الإصر الثقل الذي يأصر حبه أي يحبسه من الحراك لثقله وهو مثل لصعوبة تكاليفهم كاشتراط قتل النفس في صحة التوبة. وكذا الأغلال التي كانت عليهم مثل لما في شرائعهم من الأمور الشاقة كالقصاص بتة من غير شرع الدية، وكقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم، وتحريم العروق في اللحم جعلها الله تعالى أغلالا لأن التحريم يمنع من الفعل كما أن الغل يمنع من الفعل. عن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم، وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية يحبس نفسه على العبادة. فالأغلال على هذا القول غير مستعارة، وفي الآية دلالة على أن الأصل في المضار والمشاق الحرمة كما قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» وهذا أصل عظيم في هذه الشريعة. ثم لما وصفه بالصفات التسع أكد الإيمان به بقوله فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ قال ابن عباس: يعني من اليهود والأولى حمله على العموم وَعَزَّرُوهُ وقروه وعظموه. قال في الكشاف: وأصل العزر المنع ومنه التعزير للضرب دون الحد لأنه منع من معاودة القبيح. فالمراد ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدوّه، وعلى هذا لم يبق بينه وبين قوله وَنَصَرُوهُ فرق كبير وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ وهو القرآن أي أنزل مع نبوّته لأن نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن أو يتعلق ب اتَّبَعُوا أي اتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته، واتبعوا القرآن كما اتبعه النبي مصاحبين له في اتباعه أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالمطلوب في الدارين، اعلم أنه سبحانه لما قال فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ بين أن من شروط نزول الرحمة لأولئك المتقين كونهم متبعين لرسول آخر الزمان، ثم أراد أن يحقق عموم رسالته إلى المكلفين فقال قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً وانتصابه على الحال من إِلَيْكُمْ وفيه دليل على أن محمدا صلى الله عليه وآله مبعوث إلى الخلق كافة خلافا لطائفة من اليهود يقال لهم العيسوية أتباع عيسى الأصفهاني، زعموا أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول صادق لكنه مبعوث إلى العرب خاصة وفساده ظاهر لأنه من المعلوم بالتواتر من دينه أنه كان يدعي عموم الرسالة فإن كان رسولا حقا امتنع الكذب عليه، وإن لم يكن رسولا حقا فهذا يقتضي القدح في كونه رسولا إلى العرب وإلى غيرهم. وزعم بعض العلماء أنه عام دخله التخصيص لأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 غير مبعوث إلى غير المكلفين بقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق» وأيضا يمكن وجود قوم في طرف من أطراف العمارة لم يصل إليهم خبر وجوده فهم لا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوّته. والجواب أن رفع القلم عن الأصناف الثلاثة أيضا حكم عليهم بهذا الاعتبار يدخلون تحت الخطاب وإن وجود قوم كما زعمتم من المستبعدات فلا يستحق الالتفات إليه. قال بعض الأكابر: إن الآية وإن دلت على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كل الخلق فليس فيها دلالة على أن غيره من الأنبياء ما كان مبعوثا إلى كلهم. وقد تمسك جمع من العلماء بالحديث المشهور: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي أرسلت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، وختم بي النبيون» ورد بأن مجموع هذه الأمور من خواصه لا كل واحد واحد، وبأن آدم بعث إلى كل أولاده في ذلك الزمان فيكون مبعوثا إلى كل الناس وقتئذ. ولا يخفى ضعف هذا الرد لأنا نعلم من دين محمد أنه خاتم النبيين وحده في رواية أخرى: «وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي» وإذا كان بعض هذه الأمور من خواصه لزم أن يكون كل واحد منها كذلك. وأيضا أن آدم لم يكن مبعوثا إلى حواء لأنها عرفت التكليف لا بواسطة آدم بدليل ولا تقربا. ثم لما أمر رسول الله بأن يقول للناس أني رسول الله إليكم أتبعه ذكر ما يدل على صحة هذه الدعوى وأنها لا تتم إلا بتقرير أصول أربعة: أوّلها إثبات أن للعالم إلها حيا عالما قادرا وأشار إليه بقوله الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إذ لو لم يكن للعالم مؤثر موجب بالذات لا فاعل بالاختيار لم يمكن القول ببعثة الرسول. ومحل الَّذِي نصب أو رفع على المدح أو جر بدلا أو وصفا لله. وثانيها أن إله العالم واحد وذلك قوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لو فرض إلهان لم يكن عبادة أحدهما أولى من عبادة الآخر. وثالثها أنه تعالى قادر على الخير والشر والبعث والحساب كما قال يُحيِي وَيُمِيتُ وإنما لم يوسط العاطف بين هذه الجمل لأن كل واحد منها مبينة لما قبلها، وإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت أصل رابع وهو أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ومطالبة الخلق بالتكاليف. أما بالأصل الأوّل والثاني فلأنه يحسن من المولى مطالبة عبده بطاعته وخدمته ولا سيما إذا كان فردا منزها عن الشريك والنظير مستقلا بالأمر والنهي. وأما الأصل الثالث فلأنه يحسن من القادر تكليف المكلف بنوع من طاعته إيصالا له إلى الجزاء وإلى لذة الجزاء، فإن تحصيل لذة الأجر بدون كونه أجر ممتنع وأشار إلى هذا الأصل الرابع بقوله فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ اقتصر من الصفات المذكورة هاهنا على الأمية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 لأنها أجل الأوصاف وأدلها على حقيته، وذلك أنه لم يتفق له مطالعة كتاب ولا مصاحبة معلم لأنه ما كانت مكة بلدة العلماء وما غاب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبة طويلة يمكن التعلم فيها ومع ذلك فتح الله عليه أبواب العلم والتحقيق وأظهر عليه هذا القرآن الذي اشتمل على علوم الأوّلين والآخرين فليس ذلك إلا بتأييد سماوي وفيض إلهي. ثم وصفه بقوله الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ لأن النبي صلى الله عليه وآله يجب أن يكون ممن آمن بالله وبكتبه. وإنما لم يقل فآمنوا بالله وبي بعد قوله إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ بل عدل إلى المظهر ليمكن أن يجري عليه الصفات المذكورة. ولما في طريقة الالتفات من البلاغة، وليعلم أن الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته كائنا من كان، أنا أو غيري إظهارا للنصفة واحترازا عن العصبية. واعلم أن الكمالات إما نظرية وأشار إليها بقوله فَآمِنُوا بِاللَّهِ وإما عملية وإليها الإشارة بقوله وَاتَّبِعُوهُ والأولى إشارة إلى التكاليف المستفادة من أقواله، والثانية إشارة إلى المستفادة من أفعاله، فإن كل فعل يصدر عنه وقد واظب عليه فلا بد أن يكون جانب فعله ذلك الفعل جانب فعله راجحا على تركه. ثم إن ظاهر الأمر للوجوب فيجب علينا اتباعه وإن كان ذلك مندوبا له إلا أن يدل دليل منفصل على أن ذلك الفعل من خصائصه. ومعنى الترجي في لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ قد مر في نظائره ولا سيما في أوّل البقرة في قوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] ثم لما ذكر الرسول وأنه يجب على الخلق متابعته ذكر أن في قوم موسى من اتبع الحق وهدي إليه فقال وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أي يهدون الناس بكلمة الحق وَبِهِ أي بالحق يَعْدِلُونَ بينهم في الحكم لا يجورون. وهذه الآية متى حصلت وفي أي زمان كانت؟ اختلف المفسرون في ذلك. فقيل: هم اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله كعبد الله بن سلام وابن صوريا وغيرهما. ولفظ الأمة قد يطلق على القليل إذا كان لهم شأن كما أطلق على الواحد في قوله إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] وقيل: إنهم قوم ثبتوا على دين الحق الذي جاء به موسى ودعوا الناس إليه وصانوه عن التحريف والتبديل في زمن تفرق بني إسرائيل وإحداثهم البدع، ويجوز أن يكونوا أقاموا على ذلك إلى أن جاء المسيح فدخلوا في دينه، ويجوز أن يكونوا هلكوا قبل ذلك، وقال السدي وجماعة من المفسرين: إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصين. ثم من المفسرين من قال: إنهم بقوا متمسكين بدين اليهودية إلى الآن بناء على أن خبر نبينا لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 يصل إليهم فهم معذورون، ومنهم من استبعد عدم وصول الخبر إليهم مع أن خبر هذه الشريعة طار في كل أفق وتغلغل في كل نفق فقال: إنهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل ذهب به صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال لهم جبرائيل: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا. قال: هذا محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي فآمنوا به. وقالوا: يا رسول الله إن موسى أوصانا من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه مني السلام، فرد محمد على موسى عليه السلام ثم أقرأهم عشر سور من القران نزلت بمكة ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت والله أعلم. التأويل: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ المختار من الخلق من اختاره الله تعالى وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص: 68] فالذي اختاره الله كان مثل موسى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ [طه: 13] . والذين اختارهم موسى كانوا مستحقين بسوء الأدب للرجفة والصعقة. وهاهنا نكتة هي أن قلب موسى عليه السلام لما كان مخصوصا بالاصطفاء للرسالة والكلام دون القوم كان سؤاله للرؤية شعلة نار المحبة مقرونا بحفظ الأدب على بساط القرب بقوله رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قدّم عزة الربوبية وأظهر ذلة العبودية، وكان سؤال القوم من القلوب الساهية اللاهية فتصاعد دخان الشوق بسوء الأدب فقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] قدّموا الجحود والإنكار وطلبوا الرؤية جهارا فأخذتهم الصاعقة. فصعقة موسى كانت صعقة اللطف مع تجلي صفة الربوبية، وصعقتهم كانت صعقة القهر عند إظهار صفة العزة والعظمة. ولما كان موسى عليه السلام ثابتا في مقام التوحيد كان ينظر بنور الوحدة فيرى الأشياء كلها من عند الله، فرأى سفاهة القوم من آثار صفات قهره فتنة واختيارا لهم فقال إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تزيغ بها قلب من تشاء بأصبع صفة القهر، وتقيم قلب من تشاء بإصبع صفة اللطف. وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً الرؤية كما كتبت لمحمد صلى الله عليه وسلم فَسَأَكْتُبُها يعني حسنة الرؤية والرحمة لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ بالله عن غيره وَيُؤْتُونَ عن نصاب هذا المقام الزَّكاةَ إلى طلابه والذين هم بأنوار شواهد الآيات بالتحقيق لا بالتقليد يؤمنون. وفي قوله الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ إشارة إلى أن في أمته من يكون مستعدا لاتباعه في هذه المقامات الثلاثة، ومعنى الأمي أنه أم الموجودات وأصل المكوّنات كما قال صلى الله عليه وسلم: «أول ما خلق الله روحي» . وقال حكاية عن الله لولاك لما خلقت الكون. فأما اتباعه في مقام الرسالة فبأن تأخذ منه ما أتاك وتنتهي عما نهاك وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] فالرسالة تتعلق بالظاهر والنبوة بالباطن فللعوام شركة مع الخواص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 في الانتفاع من الرسالة وللخواص اختصاص بالانتفاع من النبوة، فمن أدى حقوق أحكام الرسالة في الظاهر يفتح له ببركة ذلك أحوال النبوة في الباطن فيصير صاحب الإشارات والإلهامات الصادقة والرؤيا الصالحة والهواتف المملكية، وربما يؤل حاله إلى أن يكون صاحب المكالمة والمشاهدة والمكاشفة، ولعله يصير مأمورا بدعوة الخلق إلى الحق بالمتابعة لا بالاستقلال كما قال صلى الله عليه وآله: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» وأما اتباعه في مقام أميته فذلك لأخص الخواص وذلك أنه صلى الله عليه وآله يرجع بالسير من مقام بشريته إلى مقام روحانيته الأولى، ثم بجذبات الوحي أنزل في مقام التوحيد وهو قاب قوسين، ثم اختطف بأنوار الهوية عن أنانيته إلى أو أدنى وهو مقام روحانيته ثم بجذبات النبوة أنزل في مقام التوحيد، ثم اختطف بأنوار المتابعة عن أنانيته إلى مقام الوحدة فقد حظي من مقام أميته مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ بالحقيقة هو مكتوب عنده في مقعد صدق يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وهو طلب الحق وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ طلب ما سواه وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ كل ما يقرّب إلى الله فإن الله هو الطيب وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ الدنيا وما فيها وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ أي العهد الذي بين الله وبين حبيبه أو لا يوصل أحد إلى مقام أميته إلا أمته وأهل شفاعته كقوله: «الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم» فكان من هذا العهد عليهم شدة وأغلال يمنعهم من الوصول إلى هذا المقام. فقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإصر والأغلال بالدعوة إلى متابعته، وأشار إلى هذه المعاني بقوله فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وقروه باعتقاد اختصاص هذا المقام به دون سائر الأنبياء والرسل ونصروه بالمتابعة وَاتَّبَعُوا نور الوحدة الذي أُنْزِلَ مَعَهُ له ملك سموات القلوب وأرض النفوس لا مدبر فيهما غيره، يحيي قلب من يشاء من عباده بنور الوحدة، ويميت نفسه عن صفات البشرية. وكلماته هي ما أوحى إليه ليلة المعراج بلا واسطة وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ يعني خواصهم الذين يرشدون الخلق بالكتاب المنزل بالحق على موسى وَبِهِ يَعْدِلُونَ في الحكم بين العوام فشتان بين أمة غايتهم القصوى هي هداية الخلق وكان نبيهم محجوبا بحجاب الأنانية عند سؤال الرؤية فأجيب ب لَنْ تَرانِي وبين أمة أمية بلغوا بجذبات أنوار المتابعة إلى مقام الوحدة حتى سموا أمة أميين وقال في حقهم: «كنت له سمعا وبصرا ولسانا فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق» «1» فلهذا دعا موسى عليه السلام: اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم شوقا إلى لقاء ربه فافهم جدا.   (1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 38. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 [سورة الأعراف (7) : الآيات 160 الى 171] وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) القراآت: تغفر بالتاء الفوقانية مضمومة وفتح الفاء: أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب والمفضل. الباقون: بالنون وكسر الفاء خطاياكم مجموعا جمع التكسير: أبو عمرو خطيئتكم بالرفع وعلى الواحدة: ابن عامر خَطِيئاتِكُمْ بالرفع مجموعا جمع السلامة: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب والمفضل. الباقون: مثله ولكن بالنصب الذي يليق بجمع سلامة المؤنث. يَسْبِتُونَ من الإسبات. زيد عن المفضل معذرة بالنصب حفص والمفضل. الباقون: بالرفع يئس مثل رئم: أبو جعفر ونافع بيس على فيعل كسيد: ابن عامر بَئِيسٍ على فيعل بفتح العين: الأعشى والبرجمي. الباقون بَئِيسٍ على فعيل. تَأَذَّنَ بالتليين: الأصفهاني عن ورش والشموني وحمزة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 في الوقف تَعْقِلُونَ بتاء الخطاب: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب وحفص. الباقون بياء الغيبة يُمَسِّكُونَ من الإمساك: أبو بكر وحماد والآخرون بالتشديد. الوقوف: أُمَماً ط وإن اتفقت الجملتان لأن أَوْحَيْنا عامل إِذِ اسْتَسْقاهُ دون قَطَّعْناهُمُ فإن تفريق الأسباط لم يكن في زمان الاستسقاء الْحَجَرَ ط للحذف مع اتحاد الكلام أي فضرب فانبجست عَيْناً ط مَشْرَبَهُمْ ط وَالسَّلْوى ط ما رَزَقْناكُمْ ط لحذف جمل أي قلنا لهم كلوا ولا تدخروا فادخروا فانقطع عنهم وَما ظَلَمُونا ط يَظْلِمُونَ هـ خَطِيئاتِكُمْ ط الْمُحْسِنِينَ هـ يَظْلِمُونَ هـ الْبَحْرِ لا كيلا يصير ما بعده ظرفا لقوله وَسْئَلْهُمْ فإنه محال لا تَأْتِيهِمْ ج لاحتمال تعلق كَذلِكَ به أي يوم لا يسبتون لا تأتيهم إتيانا كإتيانهم يوم السبت. والأصح أن كذلك صفة مصدر محذوف أي نبلوهم بلاء كذلك فالوقف على كَذلِكَ جائز أيضا يَفْسُقُونَ هـ قَوْماً لا لأن الجملة بعده صفته شَدِيداً ط يَتَّقُونَ هـ يَفْسُقُونَ هـ خاسِئِينَ هـ الْعَذابِ ط رَحِيمٌ هـ وأمما ج لاحتمال كون ما بعده صفة أو مستأنفا دُونَ ذلِكَ ز للعطف على قَطَّعْناهُمْ فإن لم تجعل الجار صفة للأمم كان عطفا مع عارض يَرْجِعُونَ هـ سَيُغْفَرُ لَنا ج يَأْخُذُوهُ ط يَتَّقُونَ هـ تَعْقِلُونَ هـ الصَّلاةَ ص على تقدير حذف أي لا نضيع أجرهم إذ هم المصلحون ولا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ، وللوصل وجه على تقدير وضع الظاهر موضع الضمير أي إنا لا نضيع أجرهم المصلحين. واقِعٌ بِهِمْ ط الحق المحذوف تَتَّقُونَ هـ. التفسير: إنه سبحانه ختم قصة بني إسرائيل بتعداد جمل من أحوالهم تبصرة للمكلفين بعدهم. ومعنى قَطَّعْناهُمُ أي صيرناهم قطعا أي فرقا وميزنا بعضهم عن بعض كيلا يتحاسدوا ويتباغضوا فيقع بينهم الفتن والهرج. الأسباط أولاد الأولاد جمع سبط وأصله من السبط نبت يعتلفه الإبل فكان الأب كالشجرة والأولاد كالأغصان الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل من العرب وهاهنا سؤال وهو أن مميز ما عدا العشرة إلى تسعة وتسعين مفرد فهلا قيل اثني عشر سبطا؟ وأجيب بأن كل قبيلة أسباط لا سبط فوضع أسباطا موضع قبيلة كقوله: بين رماحي مالك ونهشل ... ولهذا أنث اثنتي عشرة. وقال الزجاج: المميز محذوف وأَسْباطاً نعت لذلك المحذوف والتقدير: اثنتي عشرة فرقة أسباطا. وقال الفارسي والجوهري: أَسْباطاً بدل من اثْنَتَيْ عَشْرَةَ والمميز كما قال الزجاج. وقوله أُمَماً بدل من اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لأن كل أسباط كانت جماعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 كثيرة العدد تؤم خلاف ما كانت تؤمه الأخرى. وباقي الآية إلى قوله بِما كانُوا يَظْلِمُونَ قد مر تفسيره في البقرة، وكذا بيان المتشابهات فلنذكر النوع الآخر من أحوالهم. قوله تعالى وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ أي عن أهلها وليس المقصود تعرف هذه القصة من قبل اليهود لأنها معلومة للرسول صلى الله عليه وسلم من قبل الله تعالى، ولكن المراد تقرير ما كانوا قد أقدموا عليه من الاعتداء والفسق ليعلم أن لهم سابقة في ذلك، وليس كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أول مناكيرهم. وقد يقول الإنسان لغيره: هل كان هذا الأمر كذا وكذا ليعرف ذلك الغير أنه محيط بتلك القصة؟ وفيه أنه إذا أعلمهم به من لم يقرأ كتابا ولم يتعلم علما كان ذلك مستفادا من الوحي فيكون معجزا. والأكثرون على أن تلك القرية أيلة، وقيل مدين، وقيل طبرية، والعرب تسمي المدينة قرية. ومعنى حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة من البحر وعلى شاطئه إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يتجاوزون حد الله فيه وهو اصطيادهم في يوم السبت. ومحل إِذْ يَعْدُونَ مجرور بدلا عن القرية بدل الاشتمال أي واسألهم عن وقت عدوانهم. قال في الكشاف: ويجوز أن يكون منصوبا بحاضرة أو بكانت بناء على أن كان الناقصة تعمل في غير الاسم والخبر وفيه نظر إذ لا معنى لكون القرية حاضرة البحر في وقت العدوان لأنها حاضرته في جميع الأحيان وقوله إِذْ تَأْتِيهِمْ منصوب ب يَعْدُونَ أو مجرور بدلا بعد بدل. والحيتان جمع الحوت وهو السمكة شُرَّعاً ظاهرة على وجه الماء جمع شارع كركع وراكع وكل شيء دان من شيء فهو شارع، ودار شارعة إذا دنت من الطريق، ونجوم شوارع إذا دنت من المغيب، فالحيتان كانت تدنو من القرية بحيث يمكنهم صيدها، وعن الحسن تشرع على أبوابهم كأنها الكباش البيض. وقال ابن عباس ومجاهد: إن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله تعالى به وحرم عليهم الصيد فيه، وباقي القصة مذكور في البقرة، وفيها دلالة على أن من أطاع الله تعالى خفف عليه أهوال الدنيا والآخرة، ومن عصاه ابتلاه بأنواع البلاء والمحن. قالت الأشاعرة: لو وجب رعاية الأصلح على الله تعالى لوجب أن لا يكثر الحيتان في ذلك اليوم صونا لهم عن الكفر والمعصية وهذا الاعتراض وارد على خلق إبليس وسائر أسباب الشرور. والنوع الثالث قوله وَإِذْ قالَتْ وهو معطوف على إِذْ يَعْدُونَ وحكمه حكمه في الإعراب أُمَّةٌ مِنْهُمْ جماعة من صلحاء أهل القرية الذين بالغوا في موعظتهم حتى آيسوا الآخرين كانوا لا يتركون وعظهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ مدمرهم أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً لعلمهم بأن عاقبة المعصية شؤم والمنهمك في الفساد لا يكاد يفلح قالُوا مَعْذِرَةً من رفع فبتقدير هذه أو موعظتنا أو قولنا إبداء عذر إلى الله. والمعذرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 مصدر كالمغفرة، ومن نصب فعلى أنّا نعتذر معذرة أو وعظناهم معذرة إلى ربكم أي إذا طولبنا بإقامة النهي عن المنكر قلنا قد فعلنا فنكون بذلك معذورين وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ولأنا نرجو أن يتقوا بعض الاتقاء فيتركوا الصيد في السبت فَلَمَّا نَسُوا يعني أهل القرية تركوا ما ذكرهم به الصالحون أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ ومعناه على اختلاف القراآت شديد من بؤس يبؤس بأسا إذا اشتد. والظاهر أن هذا العذاب عير المسخ المتأخر في قوله فَلَمَّا عَتَوْا تكبروا وتمردوا أو أبوا عن ترك ما نهوا عنه بحذف المضاف لأن الإباء عن المنهي عنه يكون طاعة قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ والمراد أمر التكوين والإيجاد لا أن هناك قولا. وقيل: فلما عتوا تكرير لقوله فَلَمَّا نَسُوا والعذاب البئيس هو المسخ. عن الحسن: أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذابا في الآخرة، هاه وأيم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم ولكن الله جعل موعدا والساعة أدهى وأمر. وقد ذكرنا هذه القصة مع تحقيق المسخ في سورة البقرة إلا أنه بقي هاهنا بحث هو أن أهل القرية كم فرقة كانوا؟ فقيل: فرقتان المذنبة والواعظة، وأما الأمة القائلة «لم تعظون» فهم المذنبة بعينها قالوا للفرقة الواعظة لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ بزعمكم. والاعتراض على هذا القول أنه لو صح ذلك لكان اللائق أن يقال في الجواب معذرة إلى ربكم ولعلكم تتقون لأن الجميع خطاب من الفرقة الناهية للفرقة العاصية. والصحيح أنهم ثلاث فرق فرقة مذنبة وفرقة واعظة وفرقة قالوا للواعظين لِمَ تَعِظُونَ أما المذنبة فقد هلكوا بالاتفاق، وأما الواعظة فقد نجوا. بقي الكلام في الثالثة: فعن ابن عباس أنه توقف فيهم وكان يقول فيهم ليت شعري ما فعل بهؤلاء. وعنه أيضا أنهم هلكوا وكان إذا قرىء عليه هذه الآية بكى. وقال: إن هؤلاء الذين سكتوا عن النهي عن المنكر هلكوا ونحن نرى أشياء ننكرها ثم نسكت ولا نقول شيئا. وعن الحسن أنهم نجوا لأنهم كانوا ينكرون عليهم ويحكمون بأن الله سيهلكهم أو يعذبهم وإنما تركوا الوعظ لأنهم لم يروا فيه غرضا صحيحا لعلمهم بحال القوم، وإذا علم الناهي بحال المنهي وأن النهي لا ينجع فيه سقط عنه النهي. ولعل الواعظين لم يستحكم يأسهم بعد كما استحكم يأس هؤلاء أو لعلهم كانوا أحرص الطائفتين. ولعل الأمة سألوا عن علة الوعظ سؤال المسترشدين لا سؤال المنكرين والله تعالى أعلم بالسرائر. النوع الرابع: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ هو تفعل من الإيذان وهو الإعلام والمعنى عزم ربك لأن العازم على الأمر يحدث به نفسه فكأنه يؤذن النفس بأنه يفعله وأجري مجرى فعل القسم في الجزم بالجزاء نحو «علم الله» و «شهد الله» . فأجيب بجواب القسم أي ختم ربك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 وكتب على نفسه لَيَبْعَثَنَّ ومعناه التسليط كقوله بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء: 5] واختلف في العائد في عَلَيْهِمْ فقيل: يرجع إلى الممسوخين بناء على أن لهم نسلا. وقيل: إلى صلحاء تلك القرية فكأنه مسخ المعتدين وألحق الذل بالبقية. وقال الأكثرون: هم اليهود الذين أدركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى شريعته فثبتوا على الكفر واستمروا على اليهودية. أما العذاب فقيل: هو أخذ الجزية كانوا يؤدونها إلى المجوس إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم، فلا تزال مضروبة عليهم إلى يوم القيامة. وقيل: الاستخفاف والإهانة. وقيل: القتل والقتال كما وقع في زمن بختنصر وغيره. وقيل: الإخراج عن الأوطان كما في يهود خيبر وبني قريظة والنضير. وإذ قد أخبر الله تعالى بلزوم الذل والصغار إياهم ونحن نشاهد أن الأمر كذلك فهو إذا إخبار عن الغيب فيكون معجز. قيل: والخبر المروي في أن أتباع الدجال هم اليهود إن صح فمعناه أنهم كانوا قبل خروجه يهود، ثم دانوا بآلهيته فذكروا بالاسم الأول، وإنما تكلف ذلك لأنهم يكونون في وقت اتباع الدجال قاهرين غالبين. النوع الخامس: وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً فرقناهم فيها تفريقا شديدا فلا يكاد يوجد بلد إلا وفيه منهم طائفة مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ الذين كانوا في زمن موسى يهدون بالحق أو الذين هم وراء الصين. وعن ابن عباس ومجاهد: الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وآله وآمنوا به. وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه فيجوز أن يكون فيهم بعض الصلاح وإن كان أدون من صلاح الأولين إلا أن قوله بعد ذلك لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يدل على أن المراد بهم الكفرة الفسقة الباقية على ضد الخير والرشاد. ومحل دُونَ ذلِكَ رفع على أنه صفة مرفوع محذوف كما قلنا وَبَلَوْناهُمْ عاملناهم معاملة المبتلى المختبر بِالْحَسَناتِ الخصب والعافية وَالسَّيِّئاتِ بالجدب والشدائد لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لأن كلا من الحالتين تدعو إلى الطاعة والإنابة والنعم بالترغيب والنقم بالترهيب فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ظاهره يدل على أن الأوّل ممدوح والثاني مذموم. فالمراد فخلف من بعد أولئك الصلحاء خلف سوء. قال الجوهري الخلف القرن بعد القرن يقال: هؤلاء خلف سوء لناس لاحقين بناس أكثر منهم. قال الأخفش: وقد يحرك ومنهم من يقول خلف سوء من أبيه بالتسكين وخلف صدق من أبيه بالتحريك قال لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب والخلف الرديء من القول يقال: سكت ألفا ونطق خلفا أي سكت عن ألف كلمة ثم تكلم بخطأ وَرِثُوا الْكِتابَ أي التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرؤنها ويقفون على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 ما فيها من الأوامر والنواهي ولا يعملون بها يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى أي حطام هذا الشيء الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها. يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر. وفي الإشارة بقوله هذَا الْأَدْنى تحقير وتخسيس. وأراد بالدنو القرب لأنه عاجل. أو دنو الحال وسقوطها وقلتها. والمراد كانوا يأخذونه من الرشا في تحريف الأحكام والنعوت وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا يؤاخذنا الله بما أخذنا. وإسناد الفعل إما إلى الجار والمجرور وإما إلى الأخذ الدال عليه يَأْخُذُونَ، وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ الواو للحال أي يرجون المغفرة جزما وهم مصرون والمراد الإخبار عن إصرارهم على الذنوب. وقال الحسن: هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وأنهم لا يشبعون منها. ثم بين نكث عهدهم فقال أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أي التوراة. ومحل أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ رفع عطف بيان للميثاق المذكور في التوراة وهو أن لا يحرّفوا الكلم عن مواضعه ولا يقبلوا الرشا أو لا يصروا على الذنب مع الجزم بالغفران. فإن خلاف كل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله وتقول عليه ما ليس بحق. ويجوز أن يكون أَنْ لا يَقُولُوا مفعولا لأجله ومعناه لئلا يقولوا ويجوز أن تكون «أن» مفسرة ولا يَقُولُوا نهيا كأنه قيل: ألم نقل لهم لا تقولوا على الله إلا الحق؟ وَدَرَسُوا عطف على أَلَمْ يُؤْخَذْ لأنه تقرير كأنه قيل: أخذ عليهم الميثاق وقرأوا ما فيه أي أنهم ذاكرون لما أخذ عليهم لأنهم قد قرأوه ودرسوه. وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ من ذلك العرض الخسيس لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الرشا والمحرمات. ثم لما ذكر حال من ترك التمسك بالتوراة أتبعها حال من تمسك أي اعتصم به فقال وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ الآية والتشديد للتكثير وفي إفراد إقامة الصلاة بالذكر مع أن التمسك بالكتاب مشتمل على كل عبادة إظهار لمزية الصلاة وإشعار بأنها عماد الدين. النوع السادس: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ قال أبو عبيدة: أصل النتق قلع الشيء عن موضعه والرمي به ومنه امرأة ناتق إذا كثر ولدها كأنها ترمي بأولادها رميا. والمعنى إذا قلعنا الجبل من أصله وجعلناه فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وهي كل ما أظلك من سقف أو حائط وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ علموا وتيقنوا أنه ساقط عليهم. وقيل: قوي في نفوسهم أنه يقع بهم إن خالفوا. روي أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخا في فرسخ. وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم. فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة. ولما نشر موسى الألواح وفيها كتاب الله لم يبق جبل ولا حجر إلا اهتز فلذلك لا ترى يهوديا تقرأ عليه التوراة إلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 اهتز ونغض لها رأسه. خُذُوا على إرادة القول أي قلنا لهم أو قائلين خذوا ما آتَيْناكُمْ من الكتاب بِقُوَّةٍ بجد وعزيمة على احتمال مشاقه وتكاليفه وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الأوامر والنواهي، أو من التعريض للثواب، أو المراد خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوة إن كنتم تطيقونه كقوله إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرحمن: 33] واذكروا ما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ما أنتم عليه من الإباء. التأويل: الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ هي قرية الجسد الحيواني على شاطىء بحر البشرية، وأهل قرية الجسد الصفات الإنسانية صنف روحاني كصفات الروح، وصنف قلبي كصفات القلب، وصنف نفساني كصفات النفس الأمارة بالسوء، وكل قد نهوا عن صيد حيتان الدواعي البشرية في سبت محارم الله، فلم تنتهك الحرمة إلا الصفات النفسانية إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً لأن الإنسان حريص على ما منع فتهيج الدواعي في المحرمات دون المحللات بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بما كان من طبيعة النفس وصفاتها من الخروج عن أمر الله لأنها أمارة بالسوء وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ هي صفات القلب قالوا لصفات الروح لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ بالمخالفات عند استيفاء اللذات والشهوات أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً وهو المسخ بتبديل الصفات الإنسانية إلى الصفات الحيوانية قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ لأنه خلقنا هكذا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر فنقضي ما علينا ليعلم أنّا ما تغيرنا عن أوصافنا الروحانية والملكية، ولعل النفس وصفاتها يَتَّقُونَ فتتصف بالمأمورية والاطمئنان فإنها قابلة لذلك بِعَذابٍ بَئِيسٍ وهو إبطال استعداد قبول الفيض الإلهي لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ على الأرواح والقلوب الذين يتبعون النفس وصفاتها مَنْ يَسُومُهُمْ وهو الشيطان المنظر إلى يوم القيامة سُوءَ الْعَذابِ عذاب البعد عن الله وعذاب ذلة الخدمة للنفس والشيطان وَقَطَّعْناهُمْ فرقنا الأرواح والقلوب في أرض الأجساد مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ قابلون لفيض نور الله وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ في القبول وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وهي الطاعات وَالسَّيِّئاتِ وهي المعاصي لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى الحق. وذلك أن السير إلى الله يتم بقدم الطاعة وبقدم ترك المعصية ومن هنا قيل خطوتان وقد وصلت. أو بلوناهم بالحسنات ليرجعوا إلينا بقدم الشكر، والسيئات ليرجعوا بقدم الصبر أو بلوناهم بكثرة الطاعات والعجب بها كما كان حال إبليس وبكثرة المعاصي والندامة عليها كما كان حال آدم فَخَلَفَ من بعد الأرواح والقلوب لما سلكوا طريق الحق ووصلوا إلى مقعد صدق خلفهم النفوس الأمارة بالسوء وَرِثُوا الْكِتابَ وهو ما ألهم الله تعالى الأرواح والقلوب من المواعظ والحكم والمعاني والأسرار وورثتها النفوس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 وجعلوها ذريعة للعروض الدنياوية وتحصيل المال والجاه واستيفاء اللذات وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا مثل هذه الزلات لأنا واصلون كاملون كما هو مذهب أهل الإباحة، أو سيغفر لنا إذا استغفرنا وهم يستغفرون باللسان لا بالقلب وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فيه أن الإنسان لو وكل إلى طبعه ونفسه لا يقبل شيئا من الأمور الدينية وإنما يعان على القبول بأمر ظاهر أو باطن. وفيه أن على رؤوس أهل الطلب جبل أمر الحق وهو أمر التحويل فيحولهم بالقدرة إلى أن يأخذوا ما آتاهم الله تعالى بقوة منه لا بقوتهم وإرادتهم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 183] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) القراآت: ذُرِّيَّتَهُمْ على التوحيد: حمزة وعلي وخلف وابن كثير وعاصم سوى حفص والمفضل. الباقون: على الجمع يقولوا بياء الغيبة في الحرفين: أبو عمرو يَلْهَثْ ذلِكَ بالإظهار: حفص والأصفهاني عن ورش، والحلواني عن قالون والنقاش عن أبي ربيعة عن قنبل يُلْحِدُونَ بفتح الياء والحاء: حمزة. الباقون: بضم الياء وكسر الحاء من الإلحاد وَلَقَدْ ذَرَأْنا مظهرا: أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ورش وعاصم غير الأعشى ذَرَأْنا بغير همزة: أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف. الباقون: بالهمز. الوقوف: أَنْفُسِهِمْ ج لأن التقدير وقال ألست بربكم مع اتحاد الكلام. بِرَبِّكُمْ ط فصلا بين السؤال والجواب. بَلى ج لأن شَهِدْنا يصلح أن يكون من قولهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 فيوقف على شَهِدْنا ويعلق أن بمحذوف أي فعلنا ذلك لئلا تقولوا، ويصلح أن يكون شَهِدْنا من قول الملائكة أي قيل للملائكة اشهدوا فقالوا شهدنا فيكون منفصلا من جملة بلى متصلا بأن تقولوا. غافِلِينَ هـ لا للعطف مِنْ بَعْدِهِمْ ج لابتداء الاستفهام واتحاد القائل. الْمُبْطِلُونَ هـ يَرْجِعُونَ هـ الْغاوِينَ هـ هَواهُ ج لأن قوله فَمَثَلُهُ مبتدأ ولدخول الفاء فيه كَمَثَلِ الْكَلْبِ ج لابتداء الشرط من أن الجملة تفسير للمثل أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ط بِآياتِنا ط يَتَفَكَّرُونَ هـ يَظْلِمُونَ هـ الْمُهْتَدِي ج للعطف ولأن التفصيل بين الجملتين أبلغ في التنبيه الْخاسِرُونَ هـ وَالْإِنْسِ ط والوصل أولى لأن الجملة بعده صفه ل كَثِيراً، لا يَفْقَهُونَ بِها ج لأن العطف صحيح ولكن الوقف لإمهال فرصة الاعتبار وكذا الثانية ولهذا كرر لفظة لَهُمْ في أول كل جملة لا يَسْمَعُونَ بِها ط أَضَلُّ ط الْغافِلُونَ هـ فَادْعُوهُ بِها ص لعطف المتفقتين فِي أَسْمائِهِ ط يَعْمَلُونَ هـ يَعْدِلُونَ هـ لا يَعْلَمُونَ وج وعطف وَأُمْلِي على سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أحسن من جعله مستأنفا فيوقف على أُمْلِي، لَهُمْ، مَتِينٌ هـ. التفسير: لما شرح قصة موسى على أقصى الوجوه ذكر ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين. وفي الآية للمفسرين قولان: أحدهما ما روى مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب قال: سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. قال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت في عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار» وهذا القول ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك وعكرمة والكلبي وابن عباس. وأما المعتزلة وأصحاب النظر والمعقولات فإنهم فسروا الآية بأنه تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى إلى أرحام الأمهات وجعلها علقة ثم مضغة ثم جعلهم بشرا سويا وخلقا كاملا، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب في عقولهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقته وغرائب صنعته وكأنه قررهم وقال أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وكأنهم قالُوا بَلى أنت ربناهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وأقررنا بوحدانيتك. وباب التمثيل باب واسع في كلام الله ورسوله وفي كلام العرب نظيره فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] وقال الشاعر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 امتلأ الحوض وقال قطني وهذا القول الثاني غير مناف للقول الأول ولا هو مطعون في نفسه إنما الكلام في صحة القول الأول. والمنكرون طعنوا فيه بوجوه: منها أن قوله مِنْ ظُهُورِهِمْ بدل مِنْ بَنِي آدَمَ بدل البعض من الكل. فالمعنى وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم. وعلى هذا فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر بني آدم شيئا. ويمكن أن يجاب بأنه تعالى يعلم أن الشخص الفلاني يتولد من آدم ومن فلان فلان آخر فعلى الترتيب الذي علم دخولهم في الوجود يخرجهم ويميز بعضهم من بعض فثبت إخراج الذرية من ظهور بني آدم بالقرآن، وثبت إخراج الذرية من ظهر آدم بالخير، فوجب المصير إليهما معا صونا للآية والخبر عن الطعن. ومنها أن أولئك الذر إن لم يكونوا عقلاء لم يمكن أخذ الميثاق منهم وإن كانوا عقلاء وجب أن يتذكروا تلك الحالة في هذا الوقت، وبهذا الدليل بعينه يبطل التناسخ. ويحتمل أن يجاب بالفرق وذلك أنا إذا كنا في أبدان أخرى وبقينا فيها سنين ودهورا امتنع في مجرى العادة نسيانها، وأما أخذ هذا الميثاق فإنما حصل في أسرع زمان فلم يبعد حصول النسيان فيه. ومنها أن جميع الخلق من أولاد آدم جمع عظيم وجم غفير، وصلب آدم على صغره لن يتسع لذلك المجموع على أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم فكل واحدة من أولئك الذر لها بنية وإن كانت صغيرة والمجموع يبلغ مبلغا عظيما في الحجمية والمقدار، وأجيب بأن البنية عندنا ليست شرطا في الحياة والعقل. فمن الجائز أن يكون كل من الذر جوهرا فردا. ومنها أن فائدة أخذ الميثاق أن يكون حجة عليهم في ذلك الوقت أو في الدنيا، والإجماع منعقد على أنهم بسبب ذلك لا التكليف على الطفل فكيف يتوجه على الذر؟ وأجيب بأنه لا يسأل عما يفعل. وإن المعتزلة إذا أرادوا تصحيح القول بوزن الأعمال وإنطاق الجوارح قالوا لا يبعد أن يكون لبعض المكلفين في إسماع هذه الأشياء نطق فكذا هاهنا، ولا يبعد أن يكون لبعض الملائكة في تمييز السعداء من الأشقياء في وقت أخذ الميثاق نطق. وقيل: إن الله تعالى يذكرهم ذلك الميثاق يوم القيامة. ومنها أنه سبحانه قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] وقال فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق: 5، 6] وكون أولئك الذر أناسا ينافي كون الإنسان مخلوقا من الماء والطين. والجواب لا يجوز أن يخرج الله تعالى من صلب آدم ذرة من الماء ثم منها ذرة أخرى وهلم جرا إلى آخر نسلها ثم يعدم الكل أو يميتها فتحصل الحياة للإنسان أربع مرات: أولها؟ وقت الميثاق، وثانيها: في الدنيا، وثالثها: في القبر، ورابعها في القيامة، ويحصل له الموت ثلاث مرات بين كل حياتين واحد. ولا ينافي هذا حكاية قول الكفرة رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 [غافر: 11] لأنهم قالوا ذلك بناء على حسب ظنونهم. أما قوله أَنْ تَقُولُوا فالتقدير: وأشهدهم على أنفسهم بكذا لئلا يقولوا أو كراهة أن يقولوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا المشهود له غافِلِينَ من قرأ بياء الغيبة فلأن الكلام على الغيبة وهو قوله مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ لئلا يقولوا. ومن قرأ على الخطاب فلأنه قد جرى في الكلام خطاب وهو قوله أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وكلا الوجهين حسن لأن الغائبين هم المخاطبون في المعنى. أَوْ تَقُولُوا يعني الكفار إنما أشركنا لأن آباءنا أشركوا فقلدناهم في ذلك الشرك فكان الذنب لأسلافنا فكيف تعذبنا على هذا الشرك وهو معنى قوله أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ والحاصل أن الله تعالى لما أخذ عليهم الميثاق امتنع منهم التمسك بهذا العذر. وعند المعتزلة معناه أشهدنا عليهم كراهة أن يقولوا إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم فلا عذر معهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء. وقال في الكشاف: المراد ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله، وبذرياتهم الذين كانوا في عهد رسول الله من أخلافهم المقتدين بآبائهم لأن الآيات السابقة في شأن اليهود. وكذلك قوله وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي على اليهود نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا أما قوله وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك التفصيل البليغ نُفَصِّلُ الْآياتِ لهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وإرادة أن يرجعوا إلى الحق ويعرضوا عن الباطل نفصلها أو يرجعوا إلى ما أخذ الله عليهم من الميثاق في التوحيد. ولبعض العلماء في الآية قول ثالث وهو أن الأرواح البشرية موجودة قبل الأبدان والإقرار بوجود الإله من لوازم ذواتها وحقائقها، وهذا العلم ليس مما يحتاج في تحصيله إلى كسب وطلب وهو المراد بأخذ الميثاق عليهم، لكنها بعد التعلق بالأبدان يشغلها التعلق عن معلومها فربما تتذكر بالتذكير والتنبيه وربما لا تتذكر وَاتْلُ عَلَيْهِمْ على بني آدم أو اليهود خاصة. قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد: نزلت في بلعم بن باعوراء وذلك أن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه وغزا أهله وكانوا كفارا فطلبوا أن يدعو على موسى وقومه. وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم. فامتنع منه فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليهم فاستجيب له ووقع موسى عليه السلام وبنو إسرائيل بدعائه في التيه. فقال موسى: يا رب بأيّ ذنب وقعنا في التيه؟ فقال: بدعاء بلعم. فقال: كما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه. ثم دعا موسى عليه السلام أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فسلخه الله تعالى مما كان عليه ونزع عنه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فهذه قصته. ويقال أيضا أنه كان نبيا من أنبياء الله تعالى فلما دعا عليه موسى عليه السلام انتزع الله تعالى منه الإيمان فكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 كافرا وهذا بعيد لأنه سبحانه قال الله أعلم حيث يجعل رسالاته [الأنعام: 124] وفيه أنه تعالى لا يشرف عبدا من عبيده بالرسالة إلا إذا علم امتيازه عن سائر عبيده بمزيد الشرف والفضل، ومن كان هذا حاله فكيف يليق به الكفر؟ وقال عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وأبو روق: نزلت في أمية بن أبي الصلت وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى يرسل رسولا في ذلك الوقت فرجا أن يكون هو فلما أرسل الله محمد صلى الله عليه وآله حسده ثم مات كافرا ولم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: لقد كاد يسلم. وذلك أنه يوحد الله تعالى في شعره ويذكر دلائل توحيده من خلق السماء والأرض وأحوال الآخرة والجنة والنار. وقيل: نزلت في أبي عامر الراهب الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالفاسق وكان يتزهد في الجاهلية، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وآله فمات هناك طريدا وحيدا وهو قول سعيد ابن المسيب. وقيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب وكانوا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي الحق عن الحسن والأصم. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: هو رجل أعطى ثلاث دعوات يستجاب له فيها، وكانت له امرأة يقال لها البسوس وكان له منها ولد وكان يحبها فقالت: اجعل لي منها دعوة. قال: لك منها واحدة فماذا تأمرين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل. فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا آخر فدعا الله عليها أن يجعلها كلبة نباحة فذهب فيها دعوتان، وجاء بنوها فقالوا: ليس لنا على هذا إقرار قد صارت أمنا كلبة نباحة يعيرنا بها الناس فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها، فدعا الله فعادت كما كانت وذهبت الدعوات الثلاث وبها يضرب المثل فيقال: «أشأم من البسوس» . وقيل: هو عام فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه وهو قول قتادة وعكرمة وأبي مسلم. ومعنى قوله آتَيْناهُ آياتِنا عند الأكثرين علمناه حجج التوحيد وفهمناه أدلته حتى صار عارفا بها فَانْسَلَخَ مِنْها فخرج من محبة الله تعالى إلى معصيته ومن رحمته إلى سخطه. يقال لكل من فارق شيئا بالكلية إنه انسلخ منه. وقال أبو مسلم آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها أي بيناها فلم يقبل وعري منها وتباعد كما هو شأن كل كافر لم يؤمن بالأدلة وأقام على الكفر. والقول الأول أولى لأن الانسلاخ يدل على أن الشيء كان موجودا فيه ثم خرج منه لا على إنه لم يوجد فيه أصلا. وأيضا ثبت بالأخبار أن الآية نزلت في إنسان كان عارفا بدين الله ثم خرج من المعرفة إلى الكفر والغواية وذلك قوله فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ أي أدركه ولحقه وصار قرينا له، أو أتبعه الشيطان خطواته أو كفار الإنس وغواتهم أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعا له فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ في علم الله تعالى أو فصار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 منهم وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ إلى منازل الأبرار بِها أي بتلك الآيات وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أصل الإخلاد اللزوم على الدوام فكأنه قيل: لزم الميل إلى الأرض ومنه أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإقامة به. قال ابن عباس: معناه مال إلى الدنيا. وقاتل مقاتل: رضي بالدنيا. وقال الزجاج: سكن إلى الدنيا. وقال الواحدي: فهؤلاء فسروا الأرض بالدنيا لأن ما في الدنيا من الضياع والعقار كلها أرض وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان يستخرج من الأرض وبها يكمل ويقوى، ومعنى قوله وَاتَّبَعَ هَواهُ أنه أعرض عن التمسك بما آتاه من الآيات، ثم إنه لو جاء الكلام على ظاهره لقيل: ولو شئنا لرفعنا بها ولكنا لم نشأ إلا أن قوله وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ لما دل على هذا المعنى لا جرم أقيم مقامه. قالت الأشاعرة: لفظة «لو» تدل على أن الله تعالى قد لا يريد الإيمان ويريد الكفر. وقال الجبائيّ: معناه ولو شئنا لرفعناه بأعماله بأن يحترمه ونزيل التكليف عنه قبل ذلك الكفر حتى تسلم له الرفعة لكنا عرضناه بزيادة التكليف لمنزلة زائدة فأبى أن يستمر على الإيمان، أو المراد لو شئنا لرفعناه بأن نحول بينه وبين الكفر قهرا أو جبرا إلا أن ذلك ينافي التكليف فلا جرم تركناه مع اختياره. وقال صاحب الكشاف: ومعناه لو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها، وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات فذكرت المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها ألا ترى إلى قوله وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن يكون وَلَوْ شِئْنا في معنى ما هو فعله. ثم وضع قوله فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ موضع فحططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في هذا المعنى ومحل قوله إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ النصب على الحال كأنه قيل: كمثل الكلب ذليلا دائم الذلة لاهثا في الحالين، ويجوز أن يكون تفسيرا للمثل كما مر. قال الليث: اللهث هو أن الكلب ونحوه إذا ناله الإعياء عند شدّة العدو وعند شدّة الحر فإنه يدلع لسانه من العطش، وكل شيء يلهث فإنه يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب اللاهث فإنه يلهث في جميع أحواله لا لحاجة وضرورة بل لطبيعته الخسيسة. فمعنى الآية أن هذا الكلب إن شدّ عليه وهيج لهث، وإن ترك لهث أيضا لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له. عن ابن عباس: الكلب منقطع الفؤاد يلهث إن حمل عليه أو لم يحمل عليه. قيل: لما دعا بلعم على موسى خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب فيكون هذا وجه التمثيل. واعلم أن التمثيل ما وقع بجميع الكلاب وإنما وقع بالكلب اللاهث وأخس الحيوانات هو الكلب وأخس الكلاب هو اللاهث، وإن الرجل إذا توسل بعلمه إلى طلب الدنيا فذلك إنما يكون لأجل أن يورد عليهم أنواع علومه ويظهر عندهم فضائل نفسه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 ومناقبها، ولا شك أنه عند ذكر تلك الكلمات يدلع لسانه ويخرجه لأجل ما تمكن من قلبه من حرارة الحرص وشدة العطش إلى الفوز بالدنيا فكانت حاله شبيهة بحال ذلك الكلب الذي أخرج لسانه أبدا من غير حاجة ولا ضرورة بل لمجرد الطبيعة الجسدية. وأيضا هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال والخسار عادة أصيلة وطبيعة ذاتية له كما أن ذلك الكلب إن شدّ عليه لهث وإن ترك لهث. ثم عمم بالتمثيل جميع المكذبين الضالين فقال ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وقال ابن عباس: يريد أهل مكة كانوا يتمنون هاديا يهديهم وداعيا يدعوهم إلى طاعة الله، ثم لما جاءهم من لا يشكون في صدقه وديانته كذبوه. وقيل: هم اليهود قرأوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به. فَاقْصُصِ الْقَصَصَ يريد قصص المكذبين أو قصص بلعم الذي هو نحو قصص المكذبين لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيحذرون مثل عاقبته إذ ساروا نحو سيرته. ثم ذكر تأكيدا آخر في باب التحذير فقال ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ ولا بد من تقدير مضاف ليناسب التمييز المخصوص بالذم فيصير التقدير: ساء مثلا القوم، أو ساء أصحاب مثل القوم. وفي ساءَ ضمير مبهم يفسره المنصوب بعده. وظاهر الآية يقتضي كون المثل مذموما فقيل: كيف يتصور ذلك مع أن الله تعالى ذكره؟ والجواب أن الذم إنما يتوجه إلى ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عنها حتى صاروا في ذلك بمنزلة الكلب اللاهث. أما قوله وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ فإما أن يكون معطوفا على كذبوا فيدخل في حيز الصلة بمعنى الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم، وإما أن يكون كلاما منقطعا بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب، وتقديم المفعول للاختصاص كأنه قيل: وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدها إلى غيرها. ثم بين أن الهداية والضلال بتقديره فقال مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وهو محمول على اللفظ من حيث إن «من» مفرد اللفظ ومن حيث إن اهتدى مطاوع هدى وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ محمول على المعنى لأن من معناه هاهنا الجمع ولأن الخسار ليس مطاوع والإضلال بل الإضلال. مطاوع له والخسار لازم اللازم. ولا يخفى أن ظاهر الآية موافق لمعتقد الأشاعرة أن الهداية والضلال بل جميع الأفعال بخلق الله تعالى، والمعتزلة أولوها بأن المراد من يهد الله إلى الجنة والثواب فهو المهتدي في الدنيا، ومن يضلله عن الجنة والثواب يضلله عن طريق الجنة. وقال بعضهم: التقدير من يهد الله فقبل هداه فهو المهتدي، ومن يضل بأن لم يقبل فهو الخاسر. وقيل: من يهده الله بالألطاف وزيادة الهدى فهو المهتدي، ومن يضلله عن ذلك بما تقدم منه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 بسوء اختياره فأخرج لهذا السبب تلك الألطاف من أن تؤثر فيه فهو الخاسر، وزيف بالعلم والداعي وبأن الأصل عدم الإضمار وبأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف فقد فعله عند المعتزلة في حق جميع الكفار وبالآية بعدها وهي قوله وَلَقَدْ ذَرَأْنا إلى آخره. وذلك أنه بين أنه خلق كثيرا من الجن والإنس لجهنم وقد علم ذلك في الأزل وخلاف مقدوره ومعلومه محال. وأيضا العاقل لا يريد الكفر والجهل. الموجبين لدخول النار، فحصول ذلك على خلاف قصده واجتهاده لا يكون إلا من قبل غيره، ولا يتسلسل بل ينتهي إلى مسبب الأسباب لا محالة. لا يقال العبد إنما يسعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الباطل لأنه اشتبه لأمر عليه وظنه اعتقادا صحيحا لأنا نقول على هذا التقدير إنما وقع في هذا الجهل لأجل جهل متقدم، ولا يتسلسل بل ينتهي إلى جهل حصل ابتداء فيتوجه الإلزام. قالت المعتزلة: الآيات الدالة على أنه سبحانه أراد من العبد الطاعة العبادة والخير فقط كثيره كقوله وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] وأيضا أنه قال في معرض الذم لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها إلى آخره. ولو كانوا مخلوقين للنار غير قادرين على الإيمان لم يحسن ذمهم. وأيضا لو خلقهم للنار لما كان له نعمة على الكفار أصلا لأن منافع الدنيا بأسرها لا اعتداد بها في جنب العذاب الدائم لكن القرآن مملوء من أنه تعالى منعم على جميع الخلائق. وأيضا مذهبكم يوجب أن لا يكون للمدح والذم والثواب والعقاب والترغيب والترهيب فائدة، ولو خلقهم للنار لوجب أن يخلقهم في النار ابتداء لأنه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم. وأيضا الآية متروكة الظاهر لأن لام الاختصاص لا تفيد فيها إلا إذا قدر «ولقد ذرأناهم» لكي يكفروا فيصيروا إلى جهنم فيجب بناؤها على قوله وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] لأن ظاهره يصح من غير حذف. وعلى هذا أوجب أن تؤول الآية بأن اللام فيها لام العاقبة كقوله فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا [القصص: 8] أو يقال إنه جعلهم لإغراقهم في الكفر وشدّة شكائمهم فيه كأنهم مخلوقون للنار كقولهم ما خلق فلان إلا لكذا إذا كان غريقا في بعض الأمور. وأجيب إجمالا بأنه لا يسأل عما يفعل، وتفصيلا بأن النعمة وإن قلت فهي في نفسها نعمة، وبأن الوسائط معتبرة، وبأن حمل اللام على العاقبة تجوّز لا يصار إليه إلا لضرورة تصحيح المعنى، وهاهنا لا ضرورة فقد تعاضدت الدلائل العقلية كالعلم والداعي والنقلية كآيات كثيرة على أن الكل من الله فوجب المصير إلى طرف الجبر ولا سيما فإن ما قبل هذه الآية وهو قوله مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وما بعدها وهو قوله وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ يدل على ما قلنا. وأيضا لا ريب أن أولئك الكفار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالح الدنيا، وكذا أعين مبصرة وآذان سامعة، فالمراد أنهم كانوا يفقهون ويبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين. ثم إنه تعالى كلفهم تحصيل الدين مع عدم القابلية كيف وإن الكفار بلغوا في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي شدة النفرة عن قبول دينه مبلغا لا يكتنه كنهه. والعلم الضروري حاصل بأن حصول الحب والبغض في القلب ليس باختيار الإنسان بل هو حالة حاصلة في القلب كره الإنسان أو أراد، حينئذ يثبت القول بالجبر. وروى الشيخ أحمد البيهقي في كتاب مناقب الشافعي أن عليّ بن أبي طالب عليه السلام خطب الناس فقال: وأعجب ما في الإنسان قلبه فيه مواد من الحكمة وأضدادها، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن سعد بالرضا شقي بالسخط، وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته المصيبة قتله الجزع، وإن وجد مالا أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد. وهذا الفصل كالمطلع على سر مسألة القضاء والقدر لأن أعمال الجوارح مربوطة بأحوال القلوب، وكل حالة من أحوال القلب فإنها مستندة إلى حالة أخرى حصلت قبلها. وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنه لا خلاص من الاعتراف بالجبر. وذكر الإمام الغزالي في الإحياء فصلا ثم قال: فإن قلت أني أجد من نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فيكون فعلي حاصلا بي لا بغيري. أجبنا وقلنا: هب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول: وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئا شئت، وإن شئت أن لا تشاءه لم تشأ، ما أظنك تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له، فلا مشيئتك بك ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك وإنما أنت مضطر في صورة مختار. والله تعالى أعلم. قال بعض العلماء أنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم، وفيه دليل على أن محل الفقه هو القلب. وأقول: ليس المراد بالقلب هاهنا اللحم الصنوبري بل اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنسانا وقد يعبر عنها بالنفس الناطقة وبالروح. أما قوله أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ فتقريره أن الإنسان يشاركه سائر الحيوان في القوى الطبيعية الغاذية والنامية والمولدة، وفي منافع الحواس الخمس الظاهرة، وفي أحوال التخيل والتفكر. وإنما يحصل الامتياز بالقوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فإذا لم تحصل هذه الغاية للإنسان صار في درجة الأنعام بل أضل وأدون لأن الذي أعرض عن اكتساب الفضائل مع القدرة على تحصيلها من حيث النوع كان أخس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 حالا ممن لم يكتسبها مع العجز عنها. وقيل: وجه الأضلية أن الأنعام مطيعة لله والكافر غير مطيع. وقال مقاتل: الأنعام تعرف ربها وتبصر منافعها ومضارها فتسعى في تحصيلها ودفعها، وهؤلاء الكفار أكثرهم معاندون مصرون وقيل: إنها تفر أبدا إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها، والكافر يهرب عن ربه إلى الأصنام. وقيل: إنها لا تضل إذا كان معها مرشد والكافر يضل بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة. وقال عطاء: إنهم الغافلون عما أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب. ثم نبه بقوله وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكره سبحانه، والمخلص من عذاب جهنم هو ذكره، وكل من له ذوق وجد من نفسه أن الأمر كذلك فإن القلب إذا غفل عن الذكر وأقبل على الدنيا وقع في نار الحرص وزمهرير الحرمان ولا يزال ينتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب ومن ظلمة إلى ظلمة فإذا فتح على قلبه الذكر خلص من نيران الآفات وخسران الحسرات إلى معرفة رب الأرض والسموات. وهذا اللفظ مذكور في ثلاثة مواضع أخر: في آخر بني إسرائيل وفي أوّل طه وفي آخر الحشر. ومعنى حسن الأسماء حسن معانيها ومفهوماتها لأنها أسماء دالة على معاني الكمال ونعوت الجلال وهي محصورة في نوعين: عدم افتقاره تعالى إلى غيره وثبوت افتقار غيره إليه. وقد عرفت في تفسير البسملة أن أسماء الله تعالى لا تكاد تنحصر بحسب السلوب والإضافات، فكل من كان وقوفه على أسرار حكمه في مخلوقاته أكثر كان علمه بأسماء الله الحسنى أكثر. والآن نقول: إن من تقسيمات أسماء الله ما يقوله المتكلمون من أن صفات الله أنواع ما يجب وما يجوز وما يستحيل عليه تعالى. ومنها أن يقال إن أسماء الله إما أن يجوز إطلاقها على غيره كالرحيم والكريم وإن كان معناها في حق الله مغايرا لمعناها في حق غيره، وإما أن لا يجوز نحو «الله» و «الرحمن» . وقد يقيد القسم الأوّل بقيود مثل «يا أرحم الراحمين» و «يا أكرم الأكرمين» و «يا خالق السموات والأرضين» . ومنها أن يقال من الأسماء ما يمكن ذكره وحده كقولنا «يا الله يا رحمن يا حي يا حكيم» . ومنها ما لا يكون كذلك كقولنا «مميت» و «ضارّ» فإنه لا يجوز إفراده بالذكر بل يجب أن يقال «يا محيي يا مميت يا ضار يا نافع» . ومنها أن يقال أوّل ما يعلم من صفات الله تعالى كونه محدثا للأشياء مرجحا لوجودها على عدمها، وذلك إنما يعلم بواسطة الاستدلال بوجود الممكنات عليه، وذلك المرجح إما أن يرجح على سبيل الوجوب أو على سبيل الصحة، والأوّل باطل وإلا لزم دوام العالم بدوامه، والثاني هو المعنيّ بكونه قادرا. ثم إنا بعد هذا نستدل بكون أفعاله محكمة متقنة على كونه عالما ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 نقول: إن القادر العالم يمتنع أن لا يكون حيا فظهر أن العلم بصفاته وبأسمائه ليس واقعا في درجة واحدة بل العلم بها علوم مترتبة يستفاد بعضها من بعض، ومن البين أن الأسماء الحسنى لا تكون إلا لله تعالى لأن كل الشرف والجلالة يستلزم وجوب الوجود، وكل نقص وخساسة فإنه يعقب الإمكان وكل اسم لا يفيد في المسمى صفة كمال وجلال فإنه لا يجوز إطلاقه على الله تعالى. ومن هنا اختلف في أنه هل يطلق عليه اسم الشيء أم لا؟ وقد مر تحقيق ذلك في تفسير البسملة وفي الأنعام في قوله قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام: 19] أما قوله فَادْعُوهُ بِها ففيه دليل على أن الإنسان لا يجوز أن يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى بعد أن عرف معانيها ويكون مستحضرا الأمرين: عزة الربوبية وذلة العبودية، كما أنه في قوله عند التحريم «الله أكبر» يشير إلى أنه لا نسبة لكبريائه وعظمته إلى ما سواه من الروحانيات والجسمانيات والعلويات والسفليات وإنما هو أكبر من هذه الأشياء وأكبر من أن يقال له أكبر من هذه الأشياء وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ قال ابن السكيت: الملحد العادل عن الحق والمدخل فيه ما ليس منه. يقال قد ألحد في الدين ولحد. وقال غيره من أهل اللغة: الإلحاد العدول عن الاستقامة والانحراف عنها ومنه للحد الذي يحفر إلى جانب القبر. قال الواحدي: الأجود قراءة العامة ولا يكاد يسمع من العرب لأحد بمعنى ملحد. والإلحاد في أسماء الله تعالى يقع على ثلاثة أوجه: الأوّل: إطلاق أسمائه المقدسة على الأصنام كاشتقاقهم اللات من الله والعزى من العزيز، ومناة من المنان، وكان مسيلمة الكذاب يسمى نفسه الرحمن. والثاني أن يسموه بما لا يجوز عليه كما سمع عن البدو وإن قالوا بجهلهم «يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، يا نخيّ» بناء على أن النخوة مدح. الثالث: أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى كالرحمن مثلا. قال بعض العلماء: إن ورود الإذن في بعض الأسماء لا يجوز إطلاق سائر الألفاظ المشتقة منه عليه، فلا يجوز أن يقال «يا معلم» وإن ورد وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ [البقرة: 31] وكذا في حق الأنبياء لا يجوز أن يقال إن آدم عاص أو غاو وإن ورد وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] ثم أوعد الملحدين في أسمائه بقوله سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ثم لما أخبر أن كثيرا من الثقلين مخلوقون للنار حكى أن بعضا منهم مخلوقون للجنة فقال وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وقد مر مثل هذه الآية في قصة موسى فعن قتادة وابن جريج وابن عباس أن المراد في الآية أمة محمد صلى الله عليه وآله. وروى الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إذا قرأها هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها» . وعن الربيع بن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: إن من أمتي قوما على الحق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 حتى ينزل عيسى. وعن الكلبي: هم الذين آمنوا من أهل الكتاب. وقال الجبائي: هم العلماء والدعاة إلى الدين في كل حين ثم أعاد ذكر المكذبين وما عليهم من الوعيد فقال وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا قال ابن عباس: يريد أهل مكة والظاهر أنه عام. والاستدراج استفعال من الدرجة ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه، وأدرج الكتاب إذا طواه شيئا بعد شيء. ومعنى الآية سنقربهم إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ما يراد بهم. وذلك أنهم كلما أقدموا على ذنب فتح الله عليهم بابا من أبواب الخير فيزدادون بطرا وانهماكا في الغي والفساد، ثم يأخذهم أغفل ما يكونون وَأُمْلِي لَهُمْ أطيل لهم مدة عمرهم إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ عن ابن عباس: يريد أن مكري شديد والمتين من كل شيء هو القوي. يقال متن متانة. واحتجت الأشاعرة بألفاظ الاستدراج والإملاء والكيد في مسألة القضاء والقدر حتى قال بعض المجبرة: المراد سنستدرجهم إلى الكفر مع أنه فاسد لأن جزاء الكفر لا يكون كفرا آخر. وحملها المعتزلة على أن المراد سنستدرجهم إلى العقوبات إما في الدنيا وفي الآخرة، وزيف بأن هذا الاستدراج والإمهال مما يزيد الكافر به كفرا وعتوا واستحقاقا للعقاب، فلو أراد به الخير لأماته قبل أن يصير مستوجبا لتلك الزيادات من العقوبة بل كان يجب في حكمته ورعايته للأصلح أن لا يخلقه ابتداء، أو يميته قبل التكليف فلما خلقه وألقاه في ورطة التكليف وأمهله ومكنه من المعاصي مع علمه بأن كل ذلك لا يفيده إلا مزيد استحقاق العقاب علمنا أنه ما خلقه إلا للنار كما قال وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ الآية. التأويل: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ لم يقل «ربكم» ليعلم أن في الآية غموضا لا يطلع عليه غيره صلى الله عليه وسلم وغير من أنعم الله به عليه من خواص متابعيه صلى الله عليه وسلم، وأنه تعالى لم يكلم أحدا وهو يجيبه في العدم إلا بني آدم كلمهم وهم غير موجودين وأجابوه وهم معدومون فجرى بالجود ما جرى لا بالوجود، فهذا بدايتهم وإلى أن تنتهي نهايتهم بأن يكون الله تعالى سمعهم وأبصارهم وألسنتهم إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا بأن رضوا بالأثنينية وما جعلوا إلى الوحدة بالفناء في الله بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ الذين أبطلوا استعداد الرجوع إلى الوحدة لله وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بهذه الدلالات من البداية إلى النهاية وهو مقام الوحدة فَانْسَلَخَ مِنْها أي وقع فرخ همته العلية عن ذكر طلب الحق ومحبته فأدركته هزة الشيطان وجعلته من الهالكين ليعلم أن المعصوم من عصمة الله وأن السلك الواصل يجب أن لا يأمن مكر الله فلا يفتح على نفسه أبواب التنعم والترفه، ولا يميل إلى حب المال والجاه وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً وهم مظاهر القهر فَادْعُوهُ بِها بأن تتصفوا بصفاته بالنيات الصالحات وبالأعمال الزاكيات ثم تتخلقوا بها بالأحوال بتصفية مرآة القلب ومراقبته عن التعلق بما سوى الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 تعالى. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بأن لم توافق أقوالهم أفعالهم سَنَسْتَدْرِجُهُمْ فينحطون عن مراتبهم بالتدريج والله أعلم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 184 الى 198] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) القراآت: فَبِأَيِّ بتليين الهمزة حيث كان: الأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف وَيَذَرُهُمْ بالياء مرفوعا: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم غير عياش والمفضل وَيَذَرُهُمْ بالياء مجزوما: عياش وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بالنون مرفوعا إِنْ أَنَا إِلَّا بالمد: أبو نشيط شركا بكسر الشين وسكون الراء: أبو جعفر ونافع وأبو بكر وحماد. الآخرون: شُرَكاءَ على الجميع يَتَّبِعُوكُمْ مخففا: نافع. الباقون: بالتشديد. يَبْطِشُونَ بضم الطاء يزيد قُلِ ادْعُوا بكسر اللام للساكنين وكذا بابه: حمزة وعاصم وسهل ويعقوب وعياش. الآخرون: بالضم للإتباع كيدوني بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل، وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل والحلواني عن هشام في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 الوصل ينظرون بالياء في الحالين: يعقوب وافق سهل وعياش في الوصل. إن وليّ الله بياء واحدة مشددة: أبو زيد عن المفضل وشجاع وعياش إذا قرأ الإدغام الكبير وَلِيِّيَ بثلاث ياءات: رويس والبرجمي. الباقون: بياءين أولاهما مشددة مكسورة والثانية مفتوحة. الوقوف: مِنْ جِنَّةٍ ط مُبِينٌ هـ مِنْ شَيْءٍ لا لأن التقدير وفي أن عسى أَجَلُهُمْ ط لابتداء الاستفهام مع الفاء يُؤْمِنُونَ هـ هادِيَ لَهُ ط لمن قرأ وَيَذَرُهُمْ، بالرفع على الاستئناف، ومن جزم فلا وقف لأنه معطوف على موضع فَلا هادِيَ لَهُ، يَعْمَهُونَ هـ مُرْساها ط عِنْدَ رَبِّي ج لاختلاف الجملتين إِلَّا هُوَ ط وَالْأَرْضِ ط بَغْتَةً ط عَنْها ط لا يَعْلَمُونَ هـ ما شاءَ اللَّهُ ط مِنَ الْخَيْرِ ج لاحتمال أن يفسر السوء بالجوع فيكون معطوفا على جواب «لو» . واحتمال أن يفسر بالجنون الذي نسبوه إليه فيكون ابتداء نفي يُؤْمِنُونَ هـ إِلَيْها ج لأجل الفاء فَمَرَّتْ بِهِ ج لذلك الشَّاكِرِينَ هـ فِيما آتاهُما ج لابتداء التنزيه ووجه الوصل تعجيل التنزيه يُشْرِكُونَ هـ وَهُمْ يُخْلَقُونَ هـ والوصل أولى للعطف يَنْصُرُونَ هـ لا يَتَّبِعُوكُمْ ط صامتين هـ صادِقِينَ هـ يَمْشُونَ بِها ز لأن «أم» عاطفة مع أنها في معنى ابتداء استفهام للإنكار والثانية والثالثة كذلك يَسْمَعُونَ بِها ط ينظرون هـ الْكِتابَ ط والوصل أولى لتكون الواو عاطفة الصَّالِحِينَ هـ ويَنْصُرُونَ هـ لا يَسْمَعُوا ط لا يُبْصِرُونَ هـ. التفسير: إنه تعالى لما بالغ في تهديد الملحدين المعرضين عن آياته الغافلين عن التأمل في بيناته عاد إلى الجواب عن شبهاتهم فقال أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا وإذا علم أن الرؤية بالبصر حالة مخصوصة بالانكشاف والجلاء ولها مقدمة هي تقليب الحدقة إلى جهة المرئي، كذلك رؤية البصيرة وهي المسماة بالعلم واليقين حال متعينة بالوضوح والإنارة ولها مقدمة هي تقليب حدقة القلب إلى الجوانب طلبا لذلك، وهذه الحالة تسمى بنظر العقل وفكرته. وفي اللفظ محذوف والتقدير: أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة وهي حالة من الجنون كالجلسة. كان جهال أهل مكة ينسبونه إلى الجنون لوجهين: أحدهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يغشاه حالة عجيبة عند الوحي شبيهة بالغشي يتربد وجهه ويتغير لونه، والثاني أن فعله وهو الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والدعاء إلى الله تعالى كان مخالفا لفعلهم. وعن الحسن وقتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلا على الصفا يدعو فخذا فخذا من قريش: يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله وعقابه. فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون واظب على الصياح إلى الصباح. فأمرهم الله تعالى بالتفكر والتدبر في أمره وذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى عبادة الله وحده ويقيم عليهم الدلائل القاطعة بألفاظ فصيحة عجز الأولون والآخرون عن معارضتها، وكان حسن الأخلاق طيب العشرة مرضي السيرة مواظبا على أعمال حسنة، صار بسببها قدوة لعقلاء العالمين، ومن المعلوم بالضرورة أن مثل هذا الإنسان لا يمكن وصفه بالجنون وإنما هو نذير مبين أرسله رب العالمين لترهيب الكافرين وترغيب المؤمنين. ولما كان النظر في أمر النبوة مفرعا على دلائل التوحيد قال أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي في مدلولاتهما. والملكوت الملك العظيم، وفي إنكار عدم النظر دلالة على وجوب الاستدلال فيما للعقل إليه سبيل وقد مر في هذا الكتاب كيفية دلالة السموات والأرض على وجود الصانع ولا سيما في سورة البقرة عند قوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [البقرة: 164] ثم قال وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أي مما يقع عليه اسم الشيء من أجناس غير محصورة. والغرض التنبيه على أن الدلالة على التوحيد ليست مقصورة على السموات والأرض، بل كل ذرة من ذرات هذا العالم فيها برهان باهر ودليل ظاهر على الوحدانية لأنها مختصة بحيز معين من الأحياز غير المتناهية، وبقدر معين من الأقدار، وبوضع معين من الأوضاع وكذا الكلام في لونها وشكلها وطبعها وطعمها وسائر صفاتها، وكل واحد من هذه الاختصاصات لا بد له من مخصص ولا بد من الانتهاء إلى واجب واحد في ذاته وفي جميع اعتباراته وَأَنْ عَسى هي مخففة من الثقيلة والأصل «وأنه عسى» على أن الضمير للشأن وفي أن يكون ضمير الشأن أيضا والمعنى: أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى أَنْ يَكُونَ الشأن قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ الموت أو القيامة. وإذا كان أحد هذين الاحتمالين قائما وجب على العاقل المسارعة إلى هذا الفكر والنظر سعيا في تخليص النفس من هذا الخوف الشديد والخطر العظيم. أما قوله فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ فمتعلق بقوله عَسى أَنْ يَكُونَ كأنه قيل: لعل أجلهم قد أقترب فما لهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن قبل الفوت، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا. ودلالة في إطلاق لفظ الحديث على القرآن على أنه ليس بقديم لأن المراد بالحديث ما يرادف الكلام، ولو سلم فإنه محمول على الألفاظ والكلمات ولا نزاع في حدوثها، قوله مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ قد سبق تفسير مثله. ثم لما تكلم في النبوة والتوحيد والقضاء والقدر أتبعه الكلام في المعاد فقال يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ وأيضا لما ذكر اقتراب الأجل بين أن وقت الساعة مكتوم عن الأفهام ليصير ذلك حاملا للمكلفين على المسارعة إلى التوبة وأداء الفرائض. ومن السائل؟ عن ابن عباس أنهم اليهود قالوا: يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا فإنا نعلم متى هي. وعن قتادة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 إنهم قريش قالوا: يا محمد إن بيننا وبينك قرابة فأسرّ إلينا متى الساعة. قال في الكشاف: الساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا، سميت القيامة ساعة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها أو على العكس لطولها كما يقال للحبشي أبو البيضاء، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق وأَيَّانَ استفهام عن الزمان ويختص بالأمور العظام نحو أَيَّانَ مُرْساها [النازعات: 42] وأَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات: 12] ولا يقال أيان نمت. وكسر همزته لغة بني سليم. وعن ابن جني أن اشتقاقه من أيّ «فعلان» منه وأيّ فعل من أويت إليه لأن البعض يأوي إلى الكل، وأنكر أن يكون اشتقاقه من «أين» لأنه للزمان و «أين» للمكان ولقلة «فعال» في الأسماء وكثرة «فعلان» فيها. وقال الأندلسي: أصله «أي أو أن» حذفت الهمزة مع الياء الأخيرة فبقي «أيوان» فأدغم بعد القلب. وقيل: أصله «أي آن» بمعنى «أيّ حين» فخفف بحذف الهمزة فاتصلت الألف والنون بأي. ورد بأن «آنا» لا يستعمل إلا بلام التعريف. والمرسى بمعنى الإرساء والإثبات، والرسوّ الثبات والاستقرار ولعله لا يطلق إلا على ما فيه ثقل ومنه رسا الجبل وأرست السفينة ولا أثقل من الساعة على الخلائق قُلْ إِنَّما عِلْمُها أي علم وقت إرسائها وإثباتها وإقرارها عِنْدَ رَبِّي قد استأثر به لم يخبر به أحدا من ملك مقرب ولا نبي مرسل يكاد يخفيها من نفسه ليكون أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى وقت الموت لذلك لا يُجَلِّيها لا يظهرها لِوَقْتِها أي للخبر عن وقتها قبل مجيئها أحد إِلَّا هُوَ والحاصل أنه لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإخبار والإعلام إلا هو ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال الحسن: أي ثقل مجيئها على أهل السموات لانشقاق السماء وتكوير الشمس وانتثار النجوم، وعلى أهل الأرض لأن في ذلك اليوم فناءهم وهلاكهم. أو ثقل هذا اليوم على الخلائق بما فيه من الشدائد والأهوال، أو ثقل تحصيل العلم بوقتها المعين عليهم أي أشكل واستبهم حتى صار ثقيلا على الأفهام لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً إلا فجأة على حين غفلة منكم. وهذه الجمل مؤكدات ومبينات لما تقدمها ولهذا فقد العاطف. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه» «1» وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لتقومن الساعة وإن الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه حتى تحول الساعة بينه وبين   (1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 40. مسلم في كتاب الفتن حديث 116. أحمد في مسنده (2/ 166) ، (3/ 421) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 ذلك» «1» . ثم كرر يَسْئَلُونَكَ للتأكيد ولما نيط به من زيادة قوله كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها فكان السؤال الأول عن وقت قيام الساعة، والسؤال الثاني عن كنه ثقل الساعة شدتها ومهابتها ولهذا خص باسم الله في قوله قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لأن أعظم أسماء الله مهابة هو الله، وأما الرب فيدل على التربية والرحمة دون الهيبة والعزة، وفي الحفي وجوه: فقيل إنه البار اللطيف و «عن» بمعنى «الباء» أي كأنك بارّ بهم لطيف العشرة معهم وهذا قول الحسن وقتادة والسدي، والضمير عائد إلى قريش التي ادعت القرابة وجعلوها وسيلة إلى أن يخبرهم بالساعة. والمعنى أنك لا تكون حفيا بهم ما داموا على كفرهم ولو أخبرت بوقتها وأمرت بالإخبار عنها لكنت مبلغه القريب والبعيد من غير تخصيص كسائر ما أوحي إليك. وعلى هذا القول جاز أن يكون عَنْها متعلقا ب يَسْئَلُونَكَ أي يسألونك عنها كأنك حفي أي عالم بها فحذف قوله «بها» لطول الكلام أو لأنه معلوم. وقيل: عَنْها متعلق بمحذوف. وحفي «فعيل» من حفي فلان بالمسألة أي استقصى، والمعنى كأنك بليغ في السؤال عنها لأن من أكثر السؤال علم. وهذا التركيب يفيد المبالغة ومنه إحفاء الشارب، وأحفى في المسألة إذا ألحف. وقيل: المراد كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه وتؤثره يعني أنك تكره السؤال عنها لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله به وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنه مختص بذلك العلم أو لا يعلمون أن القيامة حق وإنما يقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا، أو لا يعلمون السبب الذي لأجله خفيت معرفة وقتها المعين عن الخلق. ثم أمر نبيه بإظهار ذلة العبودية حتى لا ينسب إليه نقص ولا يعاب من قبل عدم العلم بالغيب فقال قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وفيه أن قدرته قاصرة وعلمه قليل، وكل من كان عبدا كان كذلك، والقدرة الكاملة والعلم المحيط ليس إلا لله تعالى. واحتجت الأشاعرة بالآية في مسألة خلق الأعمال قالوا: الإيمان نفع والكفر ضر فوجب أن لا يحصلا إلا بمشيئة الله تعالى. وأجابت المعتزلة بأن المراد لا أملك لنفسي من النفع والضر إلا قدر ما شاء الله أن يقدرني عليه ويمكنني منه. وظاهر الآية وإن كان عاما إلا أنها مخصوصة بصورة النزول. قال الكلبي: إن أهل مكة قالوا: يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري فتربح، وبالأرض التي يريد أن تجدب فترتحل عنها إلى ما قد أخصب، فأنزل الله هذه الآية. فالمراد بالخير في قوله وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ هو جلب منافع الدنيا وخيراتها من الخصب والأرباح والأكساب.   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 369) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 وقيل: المراد ما يتصل بأمر الدين يعني لو كنت أعلم بالغيب لكنت أعلم أن الدعوة إلى الدين الحق تؤثر في هذا ولا تؤثر في ذلك فكنت أشتغل بدعوة هذا دون ذاك. وقال بعضهم: لما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق جاء في الطريق ريح نفرت ناقته. منها فأخبر صلى الله عليه وسلم بموت رفاعة وكان فيه غيظ للمنافقين وقال: «انظروا أين ناقتي» . فقال عبد الله بن أبيّ لقومه: ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته. فقال صلى الله عليه وآله: «إن ناسا من المنافقين قالوا كيت وكيت وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة» فوجدوها على ما قال فنزلت. أما قوله وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ فمعناه لكان حالي على خلاف ما هي عليه من المغلوبية في بعض الحروب والخسران في بعض التجارات والأخطاء في بعض التدبير إِنْ أَنَا إلا عبد مرسل للنذارة والبشارة وما من شأني أن أعلم الغيب. وقوله لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إما أن يتعلق بالبشير وحده ويكون المتعلق بالنذير وهو للكافرين محذوفا للعلم به كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] أو يتعلق بالوصفين جميعا إلا أن المؤمنين لما كانوا هم المنتفعين بها خصوا بالذكر كقوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] واعلم أن أكثر ما جاء في القرآن من لفظي الضر والنفع معا جاءا بتقديم لفظ الضر على النفع وهو الأصل لأن العابد يعبد معبوده خوفا من عقابه أولا ثم طمعا في ثوابه ثانيا يؤيده قوله يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السجدة: 16] وحيثما تقدم النفع على الضر فذلك لسابقة لفظ تضمن معنى نفع كما في هذه السورة تقدم لفظ الهداية على الضلال في قوله مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ [الكهف: 17] وتقدم الخير على السوء في قوله لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ وفي الرعد تقدم ذكر الركوع في قوله طَوْعاً وَكَرْهاً [آل عمران: 83] والطوع نفع. وفي الفرقان تقدم قوله هذا عَذْبٌ فُراتٌ [الفرقان: 53] وهو نفع وفي سبأ تقدم البسط في قوله اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد: 26] وقس على هذا. ثم رجع إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك فقال هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ والمروي عن ابن عباس أنها نفس آدم وقد تقدم مثل ذلك في أول سورة النساء. قال مجاهد: كان لا يعيش لآدم وامرأته ولد فقال لهما الشيطان: إذا ولد لكما ولد فسمياه عبد الحرث وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث وذلك قوله فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً ولدا سويا جَعَلا يعني آدم وحوّاء لَهُ شُرَكاءَ والمراد تسميته بعبد الحرث وهذا تمام القصة وقد زيفها النقاد بوجوه منها: أنه تعالى قال فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ بلفظ الجمع لا التثنية ومنها قوله أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً إلى آخر الآيات وفي ذلك تصريح بأن المراد الأصنام ولو كان المراد إبليس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 لكان «أيشركون ما لا يخلق شيئا وهو يخلق» ؟. ومنها أن آدم عليه السلام كان عالما بجميع الأسماء فكيف ضاقت عليه الأسماء، أم كيف لم يعرف أن اسم إبليس كان حارثا، أم كيف لم يتنبه لغدر إبليس بعد أن جرى عليه منه ما جرى؟ ومنها أنه أراد بذلك اسم علم أو اسم صفة والأوّل لا يستلزم محذورا إلا أن أسماء الأعلام لا تفيد في المسميات فائدة فلا يلزم الإشراك، والثاني يوجب الكفر الصريح ولا قائل بإمكان نسبته إلى آدم فعند ذلك ذكر العلماء في تأويله وجوها: أحدها أن هذا مثل فكأنه تعالى يقول هو الذي خلقكم أي كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية يسكن أي تلك النفس، فذكر بعد ما أنث حملا على المعنى ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويطمئن إليها فكان التذكير أحسن طباقا للمعنى فَلَمَّا تَغَشَّاها أي جامعها لأنه إذا علاها صار كالغاشية لها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً قالوا: يريد النطفة. والحمل بالفتح ما كان في البطن أو على رأس الجرة، وبكسر الحاء ما حمل على الظهر أو على الدابة فَمَرَّتْ بِهِ أي استمرت وقضت على ذلك الحمل من غير إذلاق. وقيل: فقامت وقعدت به من غير ما ثقل. وقيل: المراد بالخفة أنها لم تلق ما تلقاه بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى فَلَمَّا أَثْقَلَتْ كان وقت ثقل حملها ولادتها دَعَوَا أي الزوج والزوجة اللَّهَ رَبَّهُما ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يدعى ويلتجأ إليه فقالا لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً ولدا قد صلح بدنه أو ولد ذكرا لأن الذكورة من الصلاح والجودة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمائك فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً كما طلبا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ومن قرأ شركا فعلى حذف المضاف أي ذوي شرك وهم الشركاء أيضا. أو المراد أحدث لله إشراكا في الولد لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع، وتارة إلى الكواكب، وتارة إلى الأوثان والأصنام، وثانيها أن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم آل قصيّ والمعنى: هو الذي خلقكم من نفس قصي وجعل من جنسها زوجة عربية قرشية، فلما أتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد الدار. والضمير في يُشْرِكُونَ لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك، وثالثها سلمنا أن الآية وردت في قصة آدم إلا أنه لا يجوز أن يكون قوله جَعَلا واردا بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد؟. ثم قال فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الإنعام ثم يقول لذلك المنعم إن ذلك المنعم عليه يقصد إيذاءك وإيصال الشر إليك فيقول ذلك المنعم: فعلت في حق فلان كذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 وأحسنت إليه بكذا وكذا ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة إنه بريء من ذلك. فغرضه من قوله «إنه يقابلني بالشر» النفي والتبعيد. أو نقول: لم لا يجوز أن يكون قوله جَعَلا لَهُ على حذف المضاف أي جعلا أولادهما له شريكا؟ وكذا فيما آتاهُما أي آتى أولادهما عبر عنهم بلفظ التثنية مرة لكونهم صنفين أو نوعين ذكرا وأنثى وبلفظ الجمع أخرى وهو قوله فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ سلمنا أن الضمير في جَعَلا وفي آتاهُما لآدم وحواء إلا أنهما كانا عزما أن يجعلا وقفا على خدمة الله وطاعته ثم بدا لهما فكانا ينتفعان به في مصالح الدنيا، فأريد بالشرك هذا القدر. وعلى هذا فإنما قال تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين. أو نقول: إنما سمياه عبد الحرث اعتقادا منهما إنه إنما سلم من الآفات ببركة دعائه، وقد يسمى المنعم عليه عبد المنعم ومنه قول بعض العلماء أنا عبد من علمني حرفا. فلما حصل الإشراك في لفظ العبد صارا معاتبين بذلك والله تعالى أعلم. ثم أقام الحجة على أن الأوثان لا تصلح للإلهية فقال أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ اعتبر اللفظ أوّلا فوحد والمعنى ثانيا، وإنما جمع بالواو والنون بناء على معتقدهم أنهم عقلاء. واحتجت الأشاعرة بها في مسألة خلق الأعمال فإنها تدل على أن غير الله لا يخلق ثم بيّن أن المعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع ودفع الضر وهذه الأصنام ليست كذلك فقال وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وهو المعونة على العدة وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ولا يدفعون عن أنفسهم مكروها فإن من أراد كسرهم لم يقدروا على دفعه. والحاصل أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تقتص ممن عصاها بل عبدتهم هم الذين يدفعون عنهم ويحامون عليهم. ثم ذكر أنها كما لا تنفع ولا تضر فكذلك لا علم لها بشيء من الأشياء وأنها لا يصح منها إذا دعيت إلى الخير والصلاح الاتباع ولا ينفصل حال من يخاطبهم ممن يسكت عنهم فقال وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ ويجوز أن يكون المراد وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير لا يتبعوكم إلى مرادكم وطلبتكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله بدليل قوله بعد فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ثم قوّى هذا الكلام بقوله سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ وإعرابه شبيه بما تقدم في أول سورة البقرة في قوله سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [البقرة: 6] وإنما عطف الاسمية على الفعلية لأن هؤلاء المشركين كانوا إذا وقعوا في مهم ومعضلة تضرعوا إلى تلك الأصنام، وإذا لم تحدث تلك الواقعة بقوا ساكتين صامتين فقيل لهم: لا فرق بين إحداثكم دعاءهم وبين أن تستمروا على صمتكم. ثم أكد بيان أنها لا تصلح للإلهية بقوله إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فسئل أنه كيف يحسن وصف الجمادات بأنها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 عباد؟ وأجيب بعد تسليم اختصاص العباد بالعقلاء بأن ذلك ورد على معتقدهم أنها عقلاء. وفيه أيضا نوع من الاستهزاء أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ولا فضل لهم عليكم فلم قبلتموها آلهة لكم وأربابا؟. ثم بين عدم التفاضل بقوله فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنها آلهة ولام الأمر للتعجيز فإنه إذا ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنها لا تصلح للعبودية وأنها والعباد سواء بل هم أخس وأدون بدليل قوله أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها الآية. وذلك أن كل ما هو من شأنه أن يكون له هذه الأعضاء والآلات فإذا كان فيها قوي محركة ومدركة كان هو أفضل ممن خلت أعضاؤه عن هذه القوى فكيف يليق بالأفضل الأكرم الأشرف خدمة المفضول الخسيس الدنيء؟ وإنما قلنا كل ما من شأنه أن يكون له هذه الأعضاء لأن من جل عن ثبوت هذه الأعضاء والجوارح له فعدم هذه الأشياء بالنسبة إليه فضيلة وكمال، فإن القادر القاهر من غير افتقار إلى آلة وعدّة كان أشرف ممن يفتقر في أفعاله إلى الآلات فضلا عمن لا فعل لآلته، فلا يرد اعتراض بعض أغمار المشبهة أن الله تعالى لو لم تكن له هذه الأعضاء لكان عدمها دليلا على عدم إلهيته. ثم إنهم كانوا يخوّفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بآلهتهم كما قال قوم هود إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: 54] فقال عز من قائل لنبيه قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ أمر من الكيد المكر فَلا تُنْظِرُونِ نهي عن الإنظار والإمهال والخطاب لهم ولشركائهم جميعا. وهذا قول واثق بعصمة الله أن لا يبالي بغير الله كائنا من كان. ثم لما أمره صلى الله عليه وسلم بالتبري حثه على التولي فقال إِنَّ وَلِيِّيَ أي ناصري عليكم اللَّهُ الآية. وفيه أن الواجب على كل عامل عبادة الذي يتولى تحصيل منافع الدارين. أما الدينية الأخروية فبسبب إنزال الكتاب المشتمل على العلوم الجمة، وأما الدنيوية فهو المراد بقوله وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ أي من عباده أن ينصرهم فلا يضرهم عداوة من عاداهم في ذلك يأس المشركين أن يضره كيدهم. يحكى أن عمر بن عبد العزيز كان لا يدخر لأولاده شيئا فقيل له في ذلك فقال: إما أن يكون ولدي من الصالحين فوليه الله ولا حاجة له إلى مالي، وإما أن يكون من المجرمين وقد قال تعالى فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ومن رده الله لم أشتغل بإصلاح مهماته. أقول: وفي التقريب بالآية الثانية نظر لأنها حكاية كلام موسى اللهم إلا أن يقال التقريب في التقرير. ثم أعاد وصف الأصنام بمثل الصفات المذكورة فقال وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الآية. قال الواحدي: إنما أعيد هذا المعنى لأن الأول مذكور على جهة التقريع وهذا مذكور على جهة الفرق بين من يجوز له العبادة وبين من لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 يجوز كأنه قيل: الإله المعبود يجب أن يكون بحيث يتولى الصالحين وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تكون صالحة للإلهية وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا لا سماع سمع ولا سماع إجابة وَتَراهُمْ تحسبهم يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوّروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليك وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ لا يدركون المرئي. وقيل: الضمير في قوله وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إلى آخر الآية يعود إلى المشركين المار ذكرهم في قوله قُلِ ادْعُوا والمراد أنهم بلغوا في الجهل والحماقة إلى أنك لو دعوتهم وأظهرت أنواع الحجة والبرهان لم يسمعوا بعقولهم البتة وَتَراهُمْ إلى الناس وإليك ينظرون ولكنهم لشدّة إعراضهم عن قبول الحق لم ينتفعوا بذلك النظر فكأنهم عمي يصدقه قوله في موضع آخر فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] . التأويل: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأرباب العقول النظر والاستدلال لتحصيل الإيمان، ولأرباب القلوب الولوج والكشف لحصول الإيقان والعيان وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يعني عالم الملك المخلوق من مادة بخلاف عالم الملكوت الذي أبدع من غير شيء وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ يعني أجل فنائهم عما سوى الحق، فإن لم يؤمنوا بطريق النظر استدلالا فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي بعد النظر يُؤْمِنُونَ، يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ يريد الساعة التي يظهر الله تعالى فيها آثار صفة القهارية لإفناء عالم الصورة فلا يبقى منه داع ولا مجيب فيجيب هو بنفسه لمن الملك اليوم لله الواحد القهار لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ من الحياة الأبدية ورفع الحاجات البشرية. خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي الروح وخلق منها زوجها وهي القلب لِيَسْكُنَ إِلَيْها لأن القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن فكان الروح يشم من القلب نسائم نفحات ألطاف الحق حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً في البداية بظهور أدنى أثر من آثار الصفات البشرية في القلب الروحاني فَلَمَّا أَثْقَلَتْ كثرت آثار الصفات خاف الروح والقلب على أنفسهما عن تبدل الصفات الروحانية الأخروية النورانية بالصفات النفسانية الدنيوية الظلمانية ف دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً قابلا للعبودية لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا أي الروح والقلب لَهُ شُرَكاءَ أي جعلا وجه النفس إلى الدنيا ونعيمها فصارت عبد البطن وعبد الخميصة وعبد الدرهم والدينار. وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً أي لا تستطيع الدنيا ومن فيها للروح والقلب والنفس تقوية وتربية إلا بالله وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ للبقاء والدوام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 [سورة الأعراف (7) : الآيات 199 الى 206] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) القراآت: طيف بسكون الياء: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي. الباقون: طائِفٌ على وزن «فاعل» يَمُدُّونَهُمْ من الإمداد: أبو جعفر ونافع. الآخرون: بفتح الياء وضم الميم من المد الْعَفْوَ وَأْمُرْ مدغما: أبو عمرو. وقرىء بغير همز حيث كان: يزيد والشموني وحمزة في الوقف. الوقوف: الْجاهِلِينَ هـ بِاللَّهِ ط عَلِيمٌ هـ مُبْصِرُونَ هـ ج لأن قوله وَإِخْوانُهُمْ مبتدأ إلا أن المعنى يقتضي الوصل لبيان اختلاف حالي الفريقين لا يُقْصِرُونَ هـ اجْتَبَيْتَها ط مِنْ رَبِّي ج لاختلاف الجملتين بلا عطف مع اتحاد المقول يُؤْمِنُونَ هـ تُرْحَمُونَ هـ مِنَ الْغافِلِينَ هـ يَسْجُدُونَ هـ. التفسير: لما ذكر فساد طريقة عبدة الأصنام وبين النهج القويم والصراط المستقيم أرشد إلى مكارم الأخلاق والعفو الفضل وكل ما أتى من غير كلفة. واعلم أن الحقوق التي تستوفى من الناس إما أن يجوز إدخال المساهلة فيها وهو المراد بقوله خُذِ الْعَفْوَ ويدخل فيه التخلق مع الناس بالخلق الحسن وترك الغلظة والفظاظة، ومن هذا الباب أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بالرفق واللطف كما قال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] وإما أن لا يجوز دخول المسامحة فيها وذلك قوله وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وهو والمعروف. والعارفة كل أمر عرف أنه لا بد من الإتيان به ويكون وجوده خيرا من عدمه، فلو اقتصر في هذا القسم على الأخذ بالعفو ولم يبذل في ذلك وسعه كان راضيا بتغيير الدين وإبطال الحق. ثم أمر بالمعروف ورغب فيه ونهى عن المنكر ونفر عنه فربما أقدم بعض الجاهلين على السفاهة والإيذاء فلهذا قال وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قال عكرمة: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبرائيل ما هذا؟ فقال: لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال: يا محمد إن ربك أمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 عمن ظلمك. قال أهل العلم: تفسير جبرائيل مطابق للفظ الآية فإنك إذا وصلت من قطعك فقد عفوت عنه، وإذا أعطيت من حرمك فقد أمرت بالمعروف، وإذا عفوت عمن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهل. يروى عن جعفر الصادق رضي الله عنه: ليس في القرآن العزيز آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية ولبعض المفسرين في تفسير الآية طريق آخر قالوا خُذِ الْعَفْوَ أي ما أتوك به عفوا فخذه ولا تسأل ما وراء ذلك فنسخت بآية الزكاة وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بإظهار الدين الحق وهذا غير منسوخ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي المشركين وهذا منسوخة بآية القتال. والحق أن تخصيص أخذ العفو بالمال تقييما للمطلق من غير دليل، ولو سلم فإيجاب الزكاة بالمقادير المخصوصة لا ينافي ذلك لأن آخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ كرائم أموال الناس وأن لا يشدد الآمر على المزكي. وأيضا لا يمتنع أن يؤمر النبي بأن لا يقابل سفاهة المشركين بمثلها ولكن يقاتلهم، وإذا كان الجمع بين الأمرين ممكنا فلا حاجة إلى التزام النسخ. قال أبو زيد: لما نزل قوله وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يا رب والغضب؟ فنزل وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ أي غرز ونخس جعل النزغ نازغا كما قيل: جدّ جدّه. عن أبي زيد: نزغت ما بين القوم أي أفسدت ما بينهم وأصله الإزعاج بالحركة إلى الشر، وأكثر ما يكون ذلك عند الغضب. ونزغ الشيطان وسوسته في القلب بما يسوّل للإنسان من المعاصي وعلاجه ودفعه إنما يكون بالاستعاذة وهي الاستخلاص عن حول الإنسان وقوته إلى حول الرحمن وقوته والإعراض عن مقتضى الطبع والإقبال على أوامر الشرع عن معاذ بن جبل قال: استبّ رجلان عند النبي حتى عرف الغضب في وجه أحدهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب غضبه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قال بعض الطاعنين في عصمة الأنبياء: لو لم يجز على النبي الإقبال على وسوسة الشيطان لم يأمر بالاستعاذة. والجواب أن كلمة «إن» لا تفيد وقوع الشرط، ولو سلم فمن أين علم أنه صلى الله عليه وسلم قبل تلك الوسوسة منه؟ ولو سلم فمحمول على ترك الأولى. ثم ختم الآية بقوله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ليعرف أن القول اللساني بدون المعارف الحقيقية عديم الفائدة وكأنه تعالى قال: اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع، وأحضر معنى الاستعاذة في ضميرك فإني عليم. ثم بين أن حال المتقين قد تزيد على حال النبي في باب وسوسة إبليس فإن النبي لا يكون له إلا النزع الذي هو كابتداء الوسوسة، وأما المتقون فقد يمسهم الشيطان وذلك قوله إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ قال الفراء: الطائف كالخاطر وجوز بعضهم أن يكون مصدرا كالعاقبة ولكنه بلا تاء. والأصح أنه اسم فاعل من طاف يطوف أو من طاف به الخيال يطيف طيفا. ومن قرأ طيف فهو إما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 مصدر أي لمسة من الشيطان، وإما مخفف طيف «فيعل» من طاف يطيف كلين، أو من طاف يطوف كهين. قال في الكشاف: وهذا تأكيد وتقرير لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان وأن المتقين هذه عادتهم إذا أصابهم نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته. ومفعول تَذَكَّرُوا محذوف أي تذكروا ما أمر الله به ونهى عنه فأبصروا السداد. واعلم أن الغضب إنما يهيج بالإنسان إذا استقبح من المغضوب عليه عملا من الأعمال ثم اعتقد في نفسه كونه قادرا وفي المغضوب عليه كونه عاجزا هذا إذا كان واقفا على ظلمات عالم الأجسام فيغتر بظواهر الأمور، أما إذا انكشف له نور من عالم العقل عرف أن المغضوب عليه إنما أقدم على ذلك العمل لأن الله تعالى خلق فيه داعية جازمة وقد علم منه تلك الحالة في الأزل، ومتى كان كذلك فلا سبيل إلى تركها فحينئذ يفتر غضبه كما قال صلى الله عليه وسلم: «من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب» وأيضا إنه كم أساء في العمل وقد تجاوز عنه وإن الله أقدر عليه وإنه إذا أمضى الغضب كان شريكا للسباع المؤذية، وإذا اختار العفو كان مضاهيا للأنبياء والأولياء مستأهلا للثواب الجزيل، وإنه ربما انقلب الضعيف قويا. وبالجملة فالمراد من قوله تعالى إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ ما ذكرنا من الاعتقادات، والمراد من قوله تَذَكَّرُوا الأمور تفيد ضعف تلك الاعتقادات، أما قوله وَإِخْوانُهُمْ فالضمير فيه يرجع إلى الشيطان، وجمع لأن المراد به الجنس كقوله أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة: 257] والضمير المرفوع في يَمُدُّونَهُمْ يرجع إلى الإخوان لأن شياطين الإنس يعضدون شياطين الجن على الإغواء والإضلال، أو إلى الشياطين فيكون الخبر جاريا على غير من هو له. والمعنى وإخوان الشياطين ليسوا بمتقين فإن الشياطين يمدونهم أي يكونون مددا لهم في الغي. وجوّز أن يراد بالإخوان الشياطين والضمير المجرور يعود إلى الجاهلين فيكون الخبر جاريا على ما هو له. قال في الكشاف: والأوّل أوجه لأن إِخْوانُهُمْ في مقابلة الَّذِينَ اتَّقَوْا قال الواحدي: عامة ما جاء في التنزيل مما يحمد ويستحب أمددت على «أفعلت» كقوله أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ [المؤمنون: 55] وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ [الطور: 22] أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ [النمل: 36] وما كان بخلافه فإنه يجيء على مددت قال وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة: 15] فالوجه هاهنا قراءة العامة ووجه الضم الاستهزاء والتهكم نحو فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] أما قوله ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ فالإقصار الكف عن الشيء. قال ابن عباس: أي لا يمسك الغاوي عن الضلال والمغوي عن الإضلال، ومعنى «ثم» تبعيد عدم الإقصار عن المدد فإنه يجب على العاقل إذا أقبل علي غي أن يمسك عنه سريعا أن يتمادى فيه وينهمك ولهذا قيل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل. ثم ذكر نوعا واحدا من إغوائهم فقال وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بآية وذلك أنهم كانوا يطلبون آيات معينة ومعجزات مخصوصة على سبيل التعنت كقولهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 90] ثم إنه صلى الله عليه وسلم ما كان يأتيهم بها فعند ذلك قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها يقال اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه أي جمعه، وجبى إليه فاجتباه أي أخذه، والمعنى هلا افتعلتها وجئت بها من عند نفسك لأنهم كانوا يقولون إن هذا إلا إفك مفترى وكانوا ينسبونه إلى السحر. والمراد هلا أخذتها واقترحتها على إلهك ومعبودك إن كنت صادقا في أن الله يجيب دعاءك ويسعف باقتراحك؟ وعند هذا أمر رسوله أن يذكر في الجواب إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ولست بمفتعل للآيات أو لست بمقترح لها. ثم بين أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها ألا يقدح في الغرض لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة قاهرة كافية في تصحيح النبوة فكان طلب الزيادة من التعنت فقال هذا يعني القرآن بَصائِرُ إطلاق لاسم المسبب على السبب، وذلك أن فيه حججا بينة تفيد القلوب بصيرة وكشفا هُدىً للمستدلين الواصلين بالنظر والاستدلال إلى درجة العرفان. فالبصائر لأصحاب عين اليقين، والهدى لأرباب علم اليقين، والرحمة لغيرهم من الصالحين المقلدين، والجميع لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ولما عظم شأن القرآن بتلك الأوصاف علم المكلفين أدبا حسنا في بابه فقال وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا والإنصات السكوت للاستماع. قال العلماء: ظاهر الأمر للوجوب فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجبا وقت قراءة القرآن في صلاة وغير صلاة وهو قول الحسن وأهل الظاهر. وعن أبي هريرة كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت. وقال قتادة: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم كم صليتم وكم بقي وكانوا يتكلمون في الصلاة لحوائجهم فنزلت. ثم صار سنة في غير الصلاة أن ينصت القوم إذا كانوا في مجلس يقرأ فيه القرآن. وقيل: نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة المكتوبة وقرأ أصحابه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وجماعة: نزلت في الإنصات عند الخطبة يوم الجمعة، وزيف بأن اللفظ عام فكيف يجوز قصره على قراءة القرآن في الخطبة أو على الخطبة نفسها بناء على أنها قد تسمى قرآنا لاشتمالها عليه. وأجيب بأن كلمة «إذا» لا تفيد العموم بدليل أنه إذا قال لزوجته إذا دخلت الدار فأنت طالق فإنها لا تطلق مرة ثانية بدخول الدار مرة أخرى، وبدليل أن الشافعي أوجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة، ورد بأن المأموم إنما يقرأ الفاتحة في حال سكتة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 الإمام كما قال أبو سلمة: للإمام سكتتان فاغتنم القراءة في أيهما شئت يعني سكتة بين التكبير إلى أن يقرأ، وأخرى بين القراءة إلى أن يركع. واعترض بأن سكوت الإمام واجب أم لا. والأول باطل بالإجماع، وعلى الثاني يجوز أن لا يسكت وحينئذ يلزم أن تحصل قراءة المأموم مع قراءة الإمام فيفضي إلى ترك الاستماع. وأيضا فهذا السكوت ليس له حد محدود والمأمومون مختلفون ببطء القراءة وسرعتها، فربما لا يتمكن المأموم من إتمام قراءة الفاتحة في مقدار سكوت الإمام فيلزم المحذور المذكور. وأيضا الإمام في هذا السكوت يصير كالتابع للمأموم وذلك غير جائز. قال الواحدي: الإنصات هو ترك الجهر عند العرب وإن كان يقرأ في نفسه إذا لم يسمع أحدا. وأورد عليه أن غاية توجيهه هو أن الإنصات مع قراءة الإمام ممكن لكن إمكان حصول الاستماع مع قراءته ممنوع، فإن الاستماع عبارة عن كونه بحيث يحيط بذلك الكلام المسموع على الوجه الكامل، ولعل الإنصاف أن الاستماع على تقدير الإنصاف المفسر ممكن أن يحصل مع قراءة الإمام. هذا وقد سلم كثير من الفقهاء عموم اللفظ إلا أنهم جوّزوا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وذلك هاهنا قوله صلى الله عليه وآله: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وذهب الإمام مالك وهو القول القديم للشافعي: إنه لا يجوز للمأموم قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية عملا بمقتضى هذا النص ويجب عليه القراءة في الصلاة السرية لأن الآية دلالة لها على هذه الحالة. وفي الآية تفسير آخر وهو أن الخطاب في الآية مع الكفار وذلك أن كون القرآن بصائر وهدى ورحمة لا يظهر إلا بشرط مخصوص وهو أن النبي إذا قرأ عليهم القرآن عند نزوله استمعوا له وأنصتوا ليقفوا على مبانيه ومعانيه فيعترفوا بإعجازه ويستغنوا بذلك على طلب سائر المعجزات، ومما يؤكد هذا التفسير قوله في آخر الآية لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ والترجي إنما يناسب حال الكفار لا حال المؤمنين الذين حصل لهم الرحمة جزما في قوله وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ويمكن أن يجاب بأن الأطماع من الكريم واجب فلم يبق إلا الفرق. وقيل: المراد باستماع القرآن العمل بما فيه. ثم أمر نبيه وأمته تبعيته صلى الله عليه وسلم بالذكر العام- قرآنا كان أو غيره- على سبيل الدوام، وذلك أن استماع القرآن كان الذكر الخفي فقال وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ وفي الآية قيود: الأوّل: تخصيصه اسم الرب دون الإله وغيره تنبيها على أن سبب الذكر هو التربية والإنعام وليدل على الطمع والرجاء. والثاني: ذكر الرب في النفس ليكون أدخل في الإخلاص وأبعد عن الرياء. قيل: ذكره في النفس هو أن يكون عارفا بمعاني الأسماء التي يذكرها بلسانه. قال بعض المتكلمين: الذكر النفساني هو الكلام النفسي الذي يثبته الأشاعرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 الثالث والرابع: قوله تَضَرُّعاً وَخِيفَةً أي متضرعا وخائفا، فالتضرع لإظهار ذلة العبودية. والخوف إما خوف العقاب فهو مقام المذنبين، وإما خوف الجلال وهو مقام العارفين فإذا كوشفوا بالجمال عاشوا وإذا كوشفوا بالجلال طاشوا، وأما خوف الخاتمة بل خوف السابقة فإنها علة الخاتمة. الخامس: قوله وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ والمراد أن يقع ذلك الذكر متوسطا بين الجهر والإخفاء. قال ابن عباس: هو أن يذكر ربه على وجه يسمع نفسه وإنما أخر هذا عن الذكر القلبي لأن الخيال يتأثر من الذكر القلبي فيوجب قوة في النفس ولا يزال يتزايد في ذلك إلى أن يجري الذكر على لسانه بل يسري في جميع أعضائه وجوارحه وأركانه سريانا معتدلا خاليا عن التكلف بريئا من التعسف. السادس: قوله بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ والغدوّ مصدر غدا يغدو والمراد وقت الغدو كما يقال دنا الصباح أي وقته. وقيل: إنه جمع غدوة وأما الآصال فإنها جمع الأصيل وهو الوقت بعد العصر إلى المغرب. وقد يقال: اشتقاقه من الأصل واليوم بليلته. إنما يبتديء في الشرع من أول الليل فسمي آخر النهار أصيلا لكونه ملاصقا لما هو الأصل لليوم الثاني. وخص هذان الوقتان بالذكر لأن الغدو عند ما ينقلب الحيوان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة، والعالم يتحول من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة وجودية، وفي الآصال الأمر بالضد وهدان النوعان من التغير العجيب دليلان قاهران باهران على وجود صانع قدير وحكيم خبير فوجب أن يكون المكلف فيهما مشتغلا بالذكر والحضور، ويمكن أن يكون المراد مداومة الذكر والمواظبة عليه بقدر الإمكان. السابع: قوله وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ وفيه إشارة إلى أن الذكر القلبي يجب أن يداوم عليه ولا يزال الإنسان يستحضر جلال الله وكبرياءه بحسب الطاقة البشرية ليتنور جوهر النفس ويستعد لقبول الإشراقات القدسية فيضاهي سكان حظائر الجبروت مدحهم الله بقوله إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ومعنى عند دنو الشرف والقرب من عنايته وألطافه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ فيداومون على ذلك وَيُسَبِّحُونَهُ يبرئونه وينزهونه عن كل سوء وهذا يرجع إلى المعارف والعلوم وَلَهُ يَسْجُدُونَ بحضرته بغاية الخضوع والاستكانة، وهذا يعود إلى أعمال الجوارح. وفي هذا الترتيب دليل على أن الأصل في الطاعة والعبودية أعمال القلوب ويتفرع عليه أعمال الجوارح. والمقصود من الآية أن الملائكة مع غاية طهارتهم ونهاية عصمتهم وبراءتهم عن بواعث الشهوة والحسد والغضب ودواعي الحقد والحسد يواظبون على العبودية والطاعة، فالإنسان مع كونه مبتلى بظلمات عالم الطبيعة وكدورات الزلات البشرية أولى بأن يداوم على ذكر معبوده، وينجذب ما أمكن إلى العالم العقلي ومقره الأصلي ويصفي مرآة قلبه عن أصداء الهواجس وينتقش بالجلايا القدسية والمعارف الحقية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 والله وليّ التوفيق. التأويل: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وهو طلب الحق لأنه معروف العارفين وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ الذين يطلبون غير الله مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ في طلب غير الله فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من طلب غير الله إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا هم أرباب القلوب فإن التقوى من شأن القلب كما قال صلى الله عليه وسلم: «التقوى هاهنا» وأشار إلى صدره. طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ نزغ من العمل الشيطاني يراه القلب بنور التقوى ويعرفه فيذكره أنه يفسده ويكدر صفاءه فيجتنبه وَإِخْوانُهُمْ يعني إخوان القلوب وهم النفوس الأمارة وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ أي لم تأت القلوب بِآيَةٍ من الله لتعجز النفوس عن تكذيبها قالُوا أي النفوس للقلب لولا اختلقتها من خاصية قلبيتك لتزكية النفوس قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ إلهام الحق فلا أقدر على تزكية النفوس إلا بقوة الإلهام الرباني. فَاسْتَمِعُوا بآذانكم الظاهرة وَأَنْصِتُوا بألسنتكم الباطنة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بالاستماع بالسمع الحقيقي وذلك قوله: «كنت له سمعا وبصرا فبي يسمع وبي يبصر» «1» فمن سمع القرآن من بارئه فقد سمع من قارئه وهذا سر الرحمن علم القرآن فهو المستعد لخطاب وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ بأن تبدل أخلاقها الله تَضَرُّعاً في البداية وهو من باب التكلف وَخِيفَةً في الوسط وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ في النهاية وهو مقام الفناء فإن إفشاء سر الربوبية كفر في غدوّ الأزل وآصال الأبد، فإن الذاكر والذكر والمذكور هو الله ولهذا قال في الأزل فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] ومن هنا قال يوسف بن الحسين الرازي: ما قال أحد الله إلا الله وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ الذين لا يعلمون أن الذاكر والذكر والمذكور هو الله إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ وهم الذين بقوا ببقاء الله يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ لأنهم أفنوا أخلاقهم في أخلاقه يُسَبِّحُونَهُ ينزهونه عن الحلول والاتصال والاتحاد وَلَهُ يَسْجُدُونَ في الوجود والعدم من الأزل إلى الأبد منه المبدأ وإليه المنتهى.   (1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 38. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 (سورة الأنفال مدنية إلا سبع آيات من قوله وإذ يمكر بك إلى قوله يحشرون حروفها 5294 كلمها 1231 آياتها خمس وسبعون. [سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) القراآت: مُرْدِفِينَ بفتح الدال: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل. الباقون: بالكسر. الوقوف: عَنِ الْأَنْفالِ ط وَالرَّسُولِ ج لعطف المختلفين مع الفاء ذاتَ بَيْنِكُمْ ص مُؤْمِنِينَ هـ يَتَوَكَّلُونَ هـ ج لاحتمال جعل الَّذِينَ مبتدأ والوصل أولى فيكون الوقف على يُنْفِقُونَ ويكون الثناء بحقيقة الإيمان منصرفا إلى قوله هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ط كَرِيمٌ هـ ج لما يجيء في التفسير بِالْحَقِّ ص لطول الكلام لَكارِهُونَ هـ لا ينظرون هـ الْكافِرِينَ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ ج لاحتمال كون «إذ» متعلقا بمحذوف وهو «اذكر» أو بقوله ويحق مُرْدِفِينَ هـ قُلُوبُكُمْ ج لابتداء النفي مع احتمال الحال عِنْدِ اللَّهِ ط حَكِيمٌ هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 التفسير: روى عكرمة عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من فعل كذا فله كذا، فذهب شبان الرجال وجلس الشيوخ تحت الرايات فلما كانت القسمة جاء الشبان يطلبون نفلهم وقالت الشيوخ: لا تستأثروا علينا فإنا كنا تحت الرايات ولو انهزمتم كنا ردأ لكم فأنزل الله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ فقسمها بينهم بالسواء. وعن عبادة بن الصامت قال: لم هزم العدوّ يوم بدر واتبعتهم طائفة يقتلونهم، أحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم واستولت طائفة بالعسكر والنهب، فلما نفى الله العدوّ رجع الذين طلبوهم وقالوا: لنا النفل نحن طلبنا العدوّ وبنا قفاهم الله وهزمهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنتم بأحق به منا نحن أحدقنا برسول الله لا ينال العدوّ منه صلى الله عليه وسلم غزة. وقال الذين استولوا على العسكر والنهب: نحن أخذناه واستولينا عليه فهو لنا فنزلت الآية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم بالسواء. وعن سعد بن أبي وقاص لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص فأخذت سيفه فأعجبني فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف. فقال: ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض أي في المقبوض من الغنائم، فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزلت سورة الأنفال عليه فقال: «يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وإنه الآن قد صار لي فاذهب فخذه.» والنفل بالتحريك الغنيمة وجمعه الأنفال وهي الأموال المأخوذة من الكفار قهرا. قال الأزهري: هو ما كان زيادة على الأصل فسميت الغنائم بذلك لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل الغنائم لهم. وصلاة التطوّع نافلة لأنها زائدة على الفرض وقال تعالى وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الأنبياء: 72] أي زيادة على ما سأل. والضمير في يَسْئَلُونَكَ عائد إلى جامع معينين من الصحابة لهم تعلق بالغنائم كما قررنا. وحسن العود وإن لم يجر لهم ذكر في اللفظ لدلالة الحال عليهم، ولفظ السؤال وإن كان مبهما إلا أن تعيين الجواب يدل على أن المراد أنهم سألوا عن الأنفال كيف مصرفها ومن المستحق لها. قال الزجاج: إنما سألوا عنها لأنها كانت حراما على من كان قبلهم. وضعف بأن الآية دلت على أنها مسبوقة بالتنازع والتنافس فسألوا عن كيفية قسمتها لا عن حلها وحرمتها. وعن عكرمة أن المراد من هذا السؤال الاستعطاء أي يطلبون منك الغنائم. وقال في الكشاف: النفل ما ينفله الغازي أي يعطاه زائدا على سهمه من المغنم وهو أن يقول الإمام تحريضا على البلاء في الحرب. من قتل قتيلا فله سلبه. أو قال لسرية ما أصبتم فهو لكم أو فلكم نصفه أو ربعه. ولا يخمس النفل ويلزم الإمام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 الوفاء بما وعد به. وهذا التفسير يناسب خبر سعد بن أبي وقاص في إعطاء السيف إياه. وعن ابن عباس في بعض الروايات أن المراد بالأنفال ما شذ عن المشركين إلى المسلمين من غير قتال من دابة أو عبد أو متاع فهو إلى النبي صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء. وعن مجاهد: إن الأنفال الخمس الذي جعله الله لأهل الخمس. وعلى هذا فالقوم إنما سألوا عن الخمس فنزلت الآية. ثم أمر بالشروع في الجواب فقال قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي حكمها مختص بالله ورسوله يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ويمتثل الرسول أمر الله فيها، وليس الأمر في قسمتها مفوّضا إلى رأي أحد. قال مجاهد وعكرمة والسدي: إنها منسوخة بقوله وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ [الأنفال: 41] الآية. وضعف بأن جعل أربعة أخماسها ملكا للغانمين لا ينافي كون الحكم فيها لله والرسول، ولو فسر الأنفال بالخمس أو بالسلب فلا إشكال. ثم حثهم على ترك المنازعة وعلى المؤاخاة والمصافاة فقال فَاتَّقُوا اللَّهَ أي عقابه ولا تقدموا على معصيته واتركوا المنازعة والمخاصمة بسبب هذه الأموال وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي التي هي بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفة ومودة وموافقة. لما كانت الأحوال واقعة في البين قيل لها ذات البين كما أن الأسرار لما كانت مضمرة في الصدور قيل لها ذات الصدور. ثم ختم الآية بقوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي كاملي الإيمان تنبيها على أن كمال الإيمان موقوف وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله. ثم وصف المؤمنين الكاملين فقال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي فزعت لذكره استعظاما لجلاله وحذرا من أليم عقابه. وقد يطمئن القلب بعد ذلك إذا تذكر كمال رأفته وجزيل ثوابه كقوله ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23] وقيل: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم لمعصية فيقال له اتق الله فينزع وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً قالت العلماء: زيادة الإيمان تكون على ثلاثة أنحاء: الأوّل: بقوّة الدليل وبكثرته، فإن كل دليل مركب لا محالة من مقدمات. ولا شك في أن النفوس مختلفة في الإشراق والإنارة، والأذهان متفاوتة بالذكاء والغباوة، فكل من كان جزمه بالمقدمات أكثر وأدوم كان علمه بالنتيجة أكمل وأتم، وكذا من سنح له على المطلوب دليلان كان علمه أتم ممن لا يجد على المطلوب سوى دليل واحد ولذا يورد العلماء دلائل متعددة على مدلول واحد ولله در القائل: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد. الثاني: بتعدد التصديق وتجدده فمن المعلوم أن من صدق إنسانا في شيئين كان تصديقه أزيد من تصديق من صدقه في شيء واحد، فمعنى الآية أنهم كلما سمعوا آية متجددة أتوا بإقرار جديد. الثالث: أن يقال: الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل كما ينبىء عنه ظاهر الآية لأنه لما ذكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 الأمور الخمسة قال أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ فدل ذلك على أن كل تلك الخصال داخلة في مسمى الإيمان ويؤيده ما رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» «1» وإذا كان الإيمان عبارة عن مجموع الأركان الثلاثة فبسبب التفاوت في العمل يظهر التفاوت في الإيمان، وإن لم يكن التفاوت في الإقرار والاعتقاد متصورا. أما قوله وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فيفيد الحصر أي لا يتوكلون إلا على ربهم وهذه الصفات مرتبة على أحسن جهات الترتيب فالأولى الفزع من عقاب الله، والثانية الانقياد لتكاليفه، والثالثة الانقطاع بالكلية عما سواه. ثم لما فرغ من أعمال القلوب وهي الخشية والتسليم والتوكل شرع في وصفهم بأعمال الجوارح وذكر منها رأسها وسنامها وهما الصلاة والصدقة، ثم عظمهم بقوله أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وفي أُولئِكَ وفي توسيط الفصل وتعريف الخبر وإيراد حَقًّا من المبالغات ما لا يخفى وحَقًّا صفة مصدر محذوف أي إيمانا حقا وهو مصدر مؤكد للجملة قبله، وقال الفراء: معناه أخبركم بذلك إخبارا حقا، وقيل: إنه منوط بما بعده أي حقا لهم درجات. واعلم أن الأئمة اتفقوا على أن الرجل المؤمن يجوز له أن يقول أنا مؤمن، ثم اختلفوا في أنه هل يجوز له أن يضيف إليه حقا أو لا بل يستثني فيقول إن شاء الله. والأوّل مذهب أصحاب أبي حنيفة لما ورد في الآية، ولأن الشك في الإيمان لا يجوز لأن التصديق والإقرار كلاهما محقق. والثاني مذهب أصحاب الشافعي، وأجابوا عن الآية بأنه لا نزاع في أن الموصوف بالصفات المذكورة مؤمن حقا إنما النزاع في أن القائل أنا مؤمن هل هو موصوف بتلك الصفات جزما أم لا. وأما حديث الشك فمبني على أن الإيمان عبارة عن الأركان الثلاثة، ولا ريب أن كون الإنسان آتيا بالأعمال الصالحة أمر مشكوك فيه، والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في حصول تلك الماهية، فإن النزاع لفظي على أنا لا نسلم أن الاستثناء لأجل الشك وإنما هو لزوال العجب أو لعدم القطع بحسن الخاتمة، أو لنوع من الأدب ففيه تفويض بالأمر إلى علم الله وحكمه كقوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] وإنه تعالى منزه عن الشك والريب. عن الحسن أن رجلا سأله أمؤمن أنت؟ قال: الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ فو الله لا أدري   (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 57، 58. البخاري في كتاب الإيمان باب 3. أبو داود في كتاب السنّة باب 14. النسائي في كتاب الإيمان باب 16. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 أمنهم أنا أم لا. وعن الثوري: من زعم أنه مؤمن بالله حقا ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية. وهذا إلزام منه يعني كما لا يقع بأنه من أهل الجنة حقا فلا يقطع بأنه مؤمن حقا. ويحكى عن أبي حنيفة أنه قال لقتادة: لم تستثني في إيمانك؟ فقال: اتباعا لإبراهيم في قوله وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشعراء: 82] فقال له: هلا اقتديت به في قوله أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى [البقرة: 260] قيل: وكان لقتادة أن يقول وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] وفيه ما فيه. ثم أخبر عن مآل حالهم فقال لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي سعادات روحانية متفاوتة في الصعود والارتفاع، ولكن استغراق كل واحد في سعادته الخاصة به يمنعه عن التألم من حال من فوقه كما قال سبحانه وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ، وَمَغْفِرَةٌ [الحجر: 47] وتجاوز عن سيئاتهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ هو نعيم الجنة المقرون بالدوام والتعظيم. والكرم اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن في بابه نقله الواحدي عن أهل اللغة. فالله سبحانه موصوف بأنه كريم لأنه محمود في كل ما يحتاج إليه، والقرآن كريم لأنه يوجد فيه بيان كل شيء وقالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [النمل: 29] وقال مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [لقمان: 10] وقال وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً [الإسراء: 23] قال بعض العارفين: المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة من الاشتغال بغير الله. والرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفته ومحبته. قوله عز من قائل كَما أَخْرَجَكَ يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج وذكروا فيه وجوها: الأوّل: أن المشبه محذوف تقديره هذا الحال كحال إخراجك. والمعنى أن حالهم في كراهة ما صنعت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى كثرة المشركين يوم بدر وقلة المسلمين قال: «من قتل قتيلا فله كذا وكذا» . ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا. ترغيبا لهم في القتال، فلما انهزم المشركون قال سعد بن عبادة: يا رسول الله لو أعطيت هؤلاء ما سميته لهم بقي خلق كثير بغير شيء فنزلت قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ يصنع فيها ما يشاء فأمسك المسلمون عن الطلب وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهة. والثاني: أن ينتصب الكاف على أنه صفة مصدر الفعل المقدّر في قوله قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي ثبت الحكم واستقر بأن الأنفال لله وإن كرهوا ثباتا مثل إخراج ربك إياك إلى القتال وإن كرهوا، ووجه تخصيص هذا المشبه به بالذكر من بين سائر أحكام الله أن القصة واحدة ووجه جعل الإخراج مشبها به كونه أقوى في وجه الشبه لأن مدار القصة عليه. وقيل: التقدير هو أن الحكم بكونهم مؤمنين حق كما أن حكم الله بإخراجك من بيتك لأجل القتال حق. الثالث: قال الكسائي: الكاف متعلق بما بعده وهو قوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 يُجادِلُونَكَ والتقدير كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه. والبيت بيته صلى الله عليه وآله بالمدينة أو المدينة نفسها لأنها مهاجره ومسكنه فلها به اختصاص كاختصاص البيت بساكنه، ومعنى بالحق أي إخراجا ملتبسا بالحكمة والصواب وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ في موضع الحال أي أخرجك في حال كراهة بعضهم. ثم بين الكراهة بقوله يُجادِلُونَكَ ويجوز أن تكون الجملة بدلا أو خبرا بعد خبر. روي أن قريش أقبلت من الشام فيها تجارة عظيمة ومعهم أربعون راكبا- منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام- فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول، عيركم، أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبدا. وقد رأت أخت العباس ابن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها: إني رأيت عجبا رأيت كأن ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل فرمى بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة. فحدث بها العباس فقال أبو جهل: ما يرضى رجالهم أن يتنبأوا حتى تتنبأ نساؤهم. فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير على ما قيل في المثل السائر: «لا في العير ولا في النفير» فقيل له: إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس إلى مكة فقال: لا والله لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ونقيم القينات والمعازف ببدر فيتسامع جميع العرب بمخرجنا وأن محمدا لم يصب العير. فمضى بهم إلى بدر ونزل جبرائيل فقال: يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال: ما تقولون إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول فالعير أحب إليكم أم النفير؟ قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ. فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ردّ عليهم فقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدوّ. فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر فأحسنا أي الكلام، ثم قام سعد بن عبادة فقال: انظر فامض فو الله لو سرت إلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأنصار. ثم قال: المقداد بن عمرو: يا رسول الله امض لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت عين تطرف. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «أشيروا عليّ أيها الناس» . وهو يريد الأنصار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوف أن يكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة. فقام سعد بن معاذ فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال: قد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق نبيا لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا، إنا بالصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك بنا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشطه قول سعد ثم قال: «سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم» . ولنرجع إلى التفسير. قوله فِي الْحَقِّ أي في تلقي النفير بعد ما تبين أي بعد إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم هم المنصورون وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير. وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب وذلك لكراهتهم القتال كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ المتيقن لمشاهدة أسبابه من قلة العدد والعدد. روي أنه ما كان منهم إلا فارسان. وانتصب بإضمار «اذكر» . قوله وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وقوله أَنَّها لَكُمْ بدل من إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وهما العير أو النفير وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ أي تتمنون أن يكون لكم العير لأنها الطائفة التي لا حدة لها ولا شدّة. والشوكة الحدّة مستعارة من واحدة الشوك وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ يثبته ويعليه بِكَلِماتِهِ بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة من إنزال الملائكة وأسر الكفرة وقتلهم وطرحهم في قليب بدر وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ أي يستأصلهم. والدابر الآخر يعني أنكم تريدون العاجل وسفساف الأمور والله يريد معاليها وما يرجع إلى تقوية الدين وشتان ما بين المرادين. قوله لِيُحِقَّ الْحَقَّ متعلق بمحذوف أي لإظهار الإسلام وإبطال الكفر. فعل ما فعل وإنما قدّر المحذوف متأخرا ليفيد معنى الاختصاص أي ما فعل ذلك إلا لتحقيق الحق وإبطال الباطل وقيل: يتعلق ب يَقْطَعَ فإن قيل: الحق حق لذاته والباطل باطل في ذاته وما ثبت للشيء لذاته فإنه يمتنع تحصيله بجعل جاعل. قلنا: المراد إظهار كون الحق حقا والباطل باطلا وذلك يكون تارة بإظهار الدلائل والبيان، وتارة بتقوية رؤساء الحق وقهر رؤساء الباطل. فإن قيل: أليس في الكلام تكرار؟ قلنا: لا إذ المراد بالأوّل تثبيت ما وعده في هذه الواقعة من الظفر بالأعداء، والمراد الثاني إعلاء الإسلام ومحق الكفر. والحاصل أن الأول جزئي أي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 أنتم تريدون العير والله يريد إهلاك النفير، والثاني كلي يشمل هذه القضية وغيرها من القضايا التي حصل في ضمنها إعلاء كلمة الله وقمع بكلمة الكفر. احتجت الأشاعرة بقوله كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ وقوله لِيُحِقَّ الْحَقَّ على أن الأعمال والعقائد كلها بخلق الله وبتكوينه ولا يمكن أن يقال: المراد من إظهار الحق وضع الدلائل عليه لأن هذا المعنى حاصل بالنسبة إلى المسلم والكافر وقبل هذه الواقعة وبعدها فلا يبقى للتخصيص فائدة. والمعتزلة تمسكوا بالآية على إبطال قول من يقول إنه لا باطل ولا كفر إلا والله مريد له، لأن ذلك ينافي إرادة تحقيق الحق وإبطال الباطل. وأجيب بأن اللام في الْحَقَّ ينصرف إلى المعهود السابق أي في هذه القضية فلم قلتم: إنه كذلك في جميع الصور وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ أي الكافرون أو المشركون كقوله وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [التوبة: 32] وفي موضع آخر وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف: 90] وقوله إِذْ تَسْتَغِيثُونَ بدل من قوله وَإِذْ يَعِدُكُمُ وقيل: يتعلق بقوله لِيُحِقَّ الْحَقَّ واستغاثتهم أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال طفقوا يدعون الله يقولون: يا غياث المستغيثين أغثنا. وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه ثلاثمائة، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه، فأخذه أبو بكر فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك منا شدّتك بالدعاء ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. ويروى أنه لما اصطف القوم قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره. ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده بالدعاء المذكور. ومعنى تستغيثون تطلبون الإغاثة، يقول الواقع في بلية أغثني أي فرج عني فَاسْتَجابَ لَكُمْ، أَنِّي أي بأني مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ بكسر الدال وفتحها من أردفته إياه إذا أتبعته متعديا إلى مفعولين، أو من ردفته إذا أتبعته أي جئت بعده متعديا إلى مفعول واحد. ومعنى الأوّل جاعلين بعضهم أو مجعولين بعضهم تابعا لبعض أو أنفسهم تابعين للمؤمنين يحرسونهم أو لملائكة أخرى. ومعنى الثاني تابعين بعضهم للبعض أو للمؤمنين يقدمونهم على ساقتهم يحفظونهم أو لغيرهم من الملائكة. واختلف في قتال الملائكة يوم بدر فقيل: نزل جبرائيل في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي بن أبي طالب في صور الرجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم فقاتلت، وقيل: قاتلت يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين. وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود: من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصا؟ قال: من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 الملائكة. فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم. وروي أن رجلا من المسلمين بينا هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه فنظر إلى المشرك قد خر مستلقيا وشق وجهه، فحدث الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: صدقت ذاك من مدد السماء. وعن أبي داود المازني قال: تبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي. قيل: لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا، وقد أجبنا عن هذه الشبهة في تفسير سورة آل عمران وكذا في تفسير قوله وَما جَعَلَهُ اللَّهُ الآية. وقد مر هنالك وقد بقي علينا بيان المتشابه فنقول: حذف لكم هاهنا لأن المخاطبين معلومون في قوله فَاسْتَجابَ لَكُمْ وقدم قُلُوبُكُمْ وأخر به في «آل عمران» ازدواجا بين الخطابين وعكس هاهنا ازدواجا بين الغائبين. ثم إن قصة بدر سابقة على قصة أحد فقيل في الأنفال إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ليستقر الخبر وجعله في آل عمران صفة لأن الخبر قد سبق والله أعلم. التأويل: كثرة السؤال توجب الملال وإنما سألوا ليكون لهم الأنفال فأجيبوا على خلاف ما تمنوا. وقيل: الأنفال لله والرسول قطعا لطريق الاعتراض والسؤال. وأصلحوا ما بينكم من الأخلاق الردية والهمم الدنية وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بالتسليم والائتمار زادَتْهُمْ إِيماناً بحسب تزايد الأنوار كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ فيه أنه أخرج المؤمن الحفي عن أوصاف البشرية إلى مقام العبودية بجذبات العناية كَما أَخْرَجَكَ من وطن وجودك بالحق وهو تجلي صفات الجمال والجلال وَإِنَّ فَرِيقاً هم القلب والروح لَكارِهُونَ للفناء عند التجلي، فإن البقاء محبوب عند كل ذي وجود يُجادِلُونَكَ أي الروح والقلب فِي مجيء الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ مجيئه كأنهم ينظرون إلى الفناء ولا يرون البقاء بعد الفناء كمن يساق إلى الموت وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ أيها السائرون إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إما الظفر بالأعداء وهي النفوس وإما عير الواردات الروحانية وغنائم الأسرار الربانية. وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ أي أردتم أن لا تجاهدوا عدوّ النفس ذات المكر والحيلة والهوى، واستحليتم الواردات والشواهد الغيبية وذلك أن السير قسمان: سير السالكين على أقدام الطاعات وتبديل الصفات النفسانية إلى جنات الروحانية، وسير المجذوبين على أجنحة عنقاء الجذبات إلى وراء قاف الأنانية، فكان موسى من السالكين إلى ميقات ربه لم يجاوز طور النفس فكان مقامه مع الله المكالمة، وكان محمد من المجذوبين وكان سيره على جناح جبرائيل إلى سدرة المنتهى ومنها على رفرف الجذبة الإلهية إلى قاب قوسين أو أدنى، فكان مكانه المشاهدة فمن العناية أن لا يكل الله السائر إلى ما يوافق طبعه وهواه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 كما قال وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي بجذباته وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ النفوس الأمارة بالسوء. إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ يعني استغاثة الروح والقلب من النفس إلى الله عند استيلاء صفاتها بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ هم الصفات الملكية والروحانية إِلَّا بُشْرى لَكُمْ بتبديل الأخلاق وَمَا النَّصْرُ بإهلاك النفس وصفاتها إلا بتجلي صفته القهارية إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يوصل إليه إلا بعد فناء الوجود حَكِيمٌ في كل ما يفعل بمن يفعل والله أعلم. [سورة الأنفال (8) : الآيات 11 الى 19] إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) القراآت: يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ ابن كثير وأبو عمرو. يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ من باب الأفعال: أبو جعفر ونافع. الباقون يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ من باب التفعيل. ويقال من الإنزال: ابن كثير وسهل ويعقوب وأبو عمر. والآخرون: بالتشديد رَمى بالإمالة: حمزة وعلي وخلف ويحيى. مُوهِنُ من الأفعال كَيْدِ بالنصب: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص وسهل ورويس مُوهِنُ من الأفعال كَيْدِ بالجر للإضافة: حفص. الباقون مُوهِنُ بالتشديد كَيْدِ بالنصب وَأَنَّ اللَّهَ بالفتح: ابن عامر وأبو جعفر ونافع وحفص والمفضل. الباقون: بالكسر. الوقوف: الْأَقْدامَ هـ ط لتعلق «إذ» بمحذوف هو «اذكر» . الَّذِينَ آمَنُوا ط كُلَّ بَنانٍ ط رَسُولَهُ الأوّل جْ عِقابِ هـ النَّارِ هـ الْأَدْبارَ هـ جَهَنَّمُ ط الْمَصِيرُ هـ ط قَتَلَهُمْ ص لعطف المتفقتين رَمى ج لاحتمال أن تكون الواو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 مقحمة واللام متعلقا بما قبله واحتمال أن تكون عاطفة على وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أو على محذوف أي لتستبشروا وليبلى حَسَناً ط عَلِيمٌ ط الْكافِرِينَ هـ الْفَتْحُ ج للفصل بين الجملتين المتضادتين مع العطف خَيْرٌ لَكُمْ ج لذلك نَعُدْ ج كَثُرَتْ ط لمن قرأ «وإن» بالكسر الْمُؤْمِنِينَ هـ. التفسير: قال في الكشاف إِذْ يُغَشِّيكُمُ «إذ» بدل ثان من إِذْ يَعِدُكُمُ أو منصوب بالنصر أو بما في عند الله من معنى الفعل أو بما جعله الله أو بإضمار اذكروا وأَمَنَةً مفعول لأجله ومِنْهُ صفة لها أي أمنة حاصلة لكم من عند الله. ولما كان غشيان النعاس وكذا إغشاؤه وتغشيته متضمنا لمعنى تنعسون كان فاعل الفعل المعلل والعلة واحدا كما هو شريطة انتصاب المفعول له. والمعنى إذ تنعسون لأمنتكم أو يغشاكم النعاس فتنعسون أمنا. وجوّز على قراءة الإغشاء والتغشية أن تكون الأمنة بمعنى الإيمان أي ينعسكم إيمانا منه. وجوّز أن ينتصب الأمنة على أنها للنعاس الذي هو فاعل يُغَشِّيكُمُ أي يغشاكم النعاس لأمنه على أن إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازي وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة، أو على أن المراد أنه أنامكم في وقت كان من حق النعاس في مثل ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم وإنما غشاكم أمنة حاصلة له من الله لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل، وقد مر فوائد هذا النعاس في سورة آل عمران. ومن نعم الله تعالى عليهم في تلك الواقعة إنزال المطر عليهم وكان فيه فوائد: إحداها: تحصيل الطهارة، والثانية: إذهاب رجز الشيطان. وقيل: هو الجنابة التي أصابتهم لأنها من تخييل الشيطان ولا تكرار لأن الأولى عام وهذه خاص. وقيل: المراد المني لأنه شيء مستخبث مستقذر وعلى هذا يكون في الآية دلالة على نجاسة المني لقوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 5] وقيل: المراد وسوسة الشيطان إليهم وتخويفه إياهم من العطش وذلك أن المشركين سبقوهم إلى الماء ونزل المؤمنون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء فناموا فاحتلم أكثرهم فتمثل لهم إبليس في صورة إنسان فقال لهم: أنتم يا أصحاب محمد تزعمون أنكم على الحق وأنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة وقد عطشتم، ولو كنتم على حق لما غلبكم هؤلاء على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة. فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا فأنزل الله المطر فمطروا ليلا حتى جرى الوادي واتخذ أصحاب رسول الله الحياض على عدوة الوادي وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضأوا وتلبد الرمل الذي كان بينهم وبين العدوّ حتى ثبتت عليه الأقدام وكانت هذه ثالثة الفوائد وأشار إليها بقوله وَيُثَبِّتَ بِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 أي بالماء الْأَقْدامَ وقيل: الضمير عائد إلى الربط الذي يدل عليه قوله لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ والمراد من تثبيت الأقدام الصبر في مواطن القتال، وذلك أن من كان قلبه ضعيفا فرّ ولم يقف فلما ربط الله على قلوبهم أي قوّاها ثبتت أقدامهم ومعنى «على» أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأن علاها وارتفع فوقها. قال الواحدي: يشبه أن يكون على صلة والمعنى وليربط قلوبكم بالنصر وما أوقع فيها من اليقين. روي أن المطر نزل على الكافرين أيضا ولكن الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التراب فعظم الوحل وصار مانعا لهم من المشي والاستقرار. فقوله وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ يدل مفهومه على أن حال الأعداء كان بخلاف ذلك. ومن جملة النعم قوله إِذْ يُوحِي رَبُّكَ وهو بدل ثالث من إِذْ يَعِدُكُمُ ومنصوب ب يُثَبِّتَ أو بذكر أني معكم الخطاب للملائكة والمراد أني معينكم على التثبيت فثبتوهم. وقيل: الخطاب للمؤمنين لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف والملائكة ما كانوا يخافون الكفار. وقوله فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا في هذا التثبيت وجوه: أحدها: أنه مفسر لقوله سَأُلْقِي فَاضْرِبُوا ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة، ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم واجتماعهما غاية النصرة. وثانيها: أن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصح عزائمهم ونياتهم في القتال فالإلهام من الملائكة كالوسوسة من الشياطين. وثالثها: أن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارفهم وكانوا يعدونهم النصر والظفر. ومعنى فَوْقَ الْأَعْناقِ أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنها مفاصل، فكان إيقاع الضرب فيها إزالة الرأس من الجسد. وقيل: أراد ضرب إلهام لأن الرؤوس فوق الأعناق. والبنان الأصابع سميت بذلك لأن بها صلاح أحوال الإنسان التي يريد أن يقيمها من أبن بالمكان أي أقام به، والمراد نفي الأطراف من اليدين والرجلين. ثم اختلفوا فمنهم من قال: المراد أن يضربوهم كما شاؤا لأن ما فوق العنق هو الرأس وهو أشرف الأعضاء والبنان عبارة عن أضعف الأعضاء فذكر الأشرف والأخس تنبيها على كل الأعضاء. بوجه آخر الضرب إما وقع على مقتل أو غير مقتل، فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معا. ومنهم من قال: الأوّل إشارة إلى القتل، وقطع البنان عبارة عن إفناء آلات المدافعة والمحاربة ليعجزوا عن القتال. وجوّز في الكشاف أن يكون قوله سَأُلْقِي إلى قوله كُلَّ بَنانٍ تلقينا للملائكة ما يثبتونهم به أي قولوا لهم قول سألقي، أو يكون واردا على الاستئناف كأنهم قالوا: كيف نثبتهم؟ فقيل: قولوا لهم قول سألقي. فالضاربون على هذا هم المؤمنون لِكَ العقاب العاجل من الضرب والقتل وقع عليهم أَنَّهُمْ شَاقُّوا بسبب مشاقتهم ومخالفتهم لَّهَ وَرَسُولَهُ ثم بيّن أن الذي نزل بهم في ذلك اليوم شيء يسير وقدر نزر في جنب ما أعد الله لهم ولأمثالهم في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 الآجل فقال مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي له. والكاف في لِكَ للرسول أو لكل من له أهلية الخطاب، في ذلِكُمْ للكفرة على طريقة الالتفات ومحله الرفع تقديره: ذلكم العذاب المعجل من القتل والأسر أو العذاب ذلكم، أو النصب والتقدير: عليكم ذلكم أي الزموه فذوقوه أو هو كقولك زيدا فاضربه. قال في الكشاف: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عطف على ذلِكُمْ في وجهيه أو نصب على أن الواو بمعنى «مع» والمعنى: ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة. فوضع الظاهر موضع ضمير الخطاب. قلت: ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر أي وأن للكافرين عذاب النار حق أو بالعكس أي والحكم والشأن أن للكافرين. وفي ذكر الذوق إشارة إلى أن عذاب الدنيا شيء قليل بالنسبة إلى عذاب الآخرة. قوله سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً قال الأزهري: أصل الزحف هو أن يزحف الصبي على استه قبل أن يقوم، شبّه بزحف الصبي مشي الطائفتين تتمشى كل فئة مشيا رويدا إلى الفئة الأخرى تتدانى للضرب. فانتصابه على الحال من الفريقين أي، إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم، ويجوز أن يكون حالا من الذين كفروا. والزحف الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنه يزحف أي يدب دبيبا سمي بالمصدر، والجمع زحوف والمعنى: إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل فلا تفروا فضلا عن حالتي المداناة والمساواة، ويجوز أن يكون حالا من المخاطبين وهم المؤمنون أي إذا ذهبتم إليهم للقتال فلا تنهزموا ومعنى فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم أو هو تقدمة نهي عن الفرار يوم حنين حين تولوا مدبرين وهم زحف من الزحوف اثنا عشر ألفا. وفي قوله مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ أمارة عليه، ثم بين أن الانهزام محرم إلا في حالتين فقال إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ هو المكر بعد الفرّ يخيل إلى عدوّه أنه منهزم ثم يعطف عليه وهو نوع من خدع الحرب أَوْ مُتَحَيِّزاً أي منحازا إِلى فِئَةٍ إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها. وعلى هذا انتصب مُتَحَرِّفاً ومُتَحَيِّزاً على أنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال ووجد صحته من أنه ليس في الكلام نفي ظاهر هو أنه في معنى النفي كأنه قيل: ومن لا يقدم أو لا يعطف عليهم في حال من الأحوال إلا في حال التحرف أو التحيز، ويجوز أن يكون الاستثناء تاما على أن الموصوف محذوف والتقدير: ومن يولهم دبره إلا رجلا منهم متحرفا أو متحيزا. ووزن متحيزا «متفيعل» لأنه من حاز يجوز فعل به ما فعل بأيام، لو كان «متفعلا» لقيل «متحوزا» . عن ابن عمر: خرجت سرية وأنا فيهم ففروا، فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت فقلت: يا رسول الله نحن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 الفرارون فقال: بل أنتم العكارون وأنا فئتكم. والعكرة البكرة. وعن ابن عباس أن الفرار من الزحف في غير هاتين الصورتين من أكبر الكبائر. واحتج القاضي بالآية على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة. وأجيب بأنه مشروط بعدم العفو. وعن أبي سعيد الخدري والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بيوم بدر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حاضرا بنفسه، لأنه تعالى وعدهم النصرة، ولأنه كان أول جهاده فناسب التشديد ولهذا منع من أخذ الفداء. وأكثر المفسرين على أنه عام في جميع الحروب لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قال أكثر المفسرين: إن المؤمنين لما كسروا أهل مكة وقتلوا وأسروا أقبلوا على التفاخر وكان القائل يقول قتلت وأسرت فقيل لهم: فلم تقتلوهم. والفاء جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن صلى الله عليه وسلم قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم وشاء النصر والظفر وقوّى قلوبكم وربط عليها. ولما طلعت قريش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهم إني أسألك ما وعدتني» فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال: خذ قبضة من تراب فارمهم بها فقال: - لما التقى الجمعان- لعلي: أعطني قبضة من حصباء الوادي فأعطاه فرمى بها في وجوههم وقال: «شاهت الوجوه» فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا فنزلت وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ أي وما رميت أنت يا محمد إذ رميت وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أثبت الرمية للرسول صلى الله عليه وسلم لأن صورتها وجدت منه عليه السلام ونفاها عنه لأن أثرها فوق حد تأثير القوى البشرية. قال حكيم بن حزام: لما كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصباء فانهزمنا، وعن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: أقبل أبي بن خلف يوم أحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريده فاعترض له رجال من المؤمنين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلوا سبيله فاستقبله مصعب ابن عمير أخو بني عبد الدار ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبيّ من فرجة بين سابغة البيضة والدرع فطعنه بحربته فسقط أبي من فرسه ولم يخرج من طعنته دم وكسر ضلعا من أضلاعه، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا له: ما أعجزك إنما هو خدش فقال: والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لما أتوا أجمعين فمات أبيّ إلى النار قبل أن يقدم مكة فأنزل الله في ذلك وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وقيل: نزلت في خيبر حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوس فرمى منها بسهم فأقبل السهم يهوي حتى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه. وأصح الأقوال هو الأوّل كيلا يدخل في أثناء القصة كلام أجنبي، نعم لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع لأن العبرة بعموم اللفظ لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 بخصوص السبب. وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً وليعطهم عطاء جميلا فعل ما فعل وما فعله إلا لذلك. قال القاضي: ولولا أن المفسرين أجمعوا على أن معنى البلاء هاهنا النعمة وإلا لكان يحتمل المحنة أي الذي فعله تعالى يوم بدر كان كالسبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لكلامكم عَلِيمٌ بضمائركم. وهذا يجري مجرى التحذير والترهيب كيلا يغتر العبد بظواهر الأمور ذلِكُمْ الغرض أي الغرض ذلكم وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ إعرابه كما مر في قوله وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ [الأنفال: 14] قال ابن عباس: ينبىء رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول إني قد أوهنت كيد عدوّك حتى قتلت جبابرتهم وأسرت أشرافهم. قال السدي والكلبي والحسن: كان المشركين حين خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين فأنزل الله تعالى خطابا لهم على سبيل التهكم إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وقال عكرمة: قال المشركون: اللهم لا نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق فنزلت. وروي أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أينا كان أفجر وأقطع للرحم فأحنه اليوم أي فأهلكه. وقيل: إنه خطاب للمؤمنين الذين استغاثوا الله وطلبوا النصر. ثم خاطب الكفار بقوله وَإِنْ تَنْتَهُوا أي عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وأسلم وإن تعودوا لمحاربته نعد لنصرته عليكم. وجوّز بعضهم أن يكون الخطاب في الجميع للمؤمنين أي إن تكفوا عن المنازعة في أمر القتال أو عن طلب الفداء فهو خير لكم وَإِنْ تَعُودُوا إلى تلك المنازعات نَعُدْ إلى ترك نصرتكم. ثم ختم الآية بقوله وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ تقديره على قراءة الفتح ولأن الله معين المؤمنين كان ذلك. التأويل: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً فيه تغليب الحال إلى ضده بأمر التكوين كما قال للنار كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء: 69] كذلك قال للخوف كن أمنا على محمد وأصحابه فكان يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ من سماء الروحانية ماء الإلهام الرباني لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من دنس الصفات النفسانية والحيوانية وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ وساوس الشيطان وهواجسه وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ بالصدق والإخلاص والمحبة والتوكل واليقين وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ على طريق الطلب أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا فيه أن التثبيت من الله لا من غيره، وكذلك إلقاء الرعب في قلوبهم وغير ذلك. إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إذا لقيتم كفار النفوس وصفاتها مجتمعين على قهر القلوب وصفاتها فلا تنهزموا فتقعوا عن صراط الطلب إِلَّا مُتَحَرِّفاً إلا قلبا يتحرف ليتهيأ لأسباب القتال مع النفس أو راجعا إلى الاستمداد من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 الروح وصفاتها أو إلى ولاية الشيخ أو إلى حضرة الله تعالى مستمدا في قمع النفس وقهرها بطريق المجاهدة فإنها تورث المشاهدة فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ نفى القتل عن الصحابة بالكلية أو حاله إلى نفسه فقال وَلكِنَّ ولم ينف الرمي عن النبي بالكلية حيث قال إِذْ رَمَيْتَ لأن الله تعالى كان قد تجلى بالقدرة وكأن يده يد الله كما كان حال عيسى حين تجلى له بصفة الإحياء كان يحيي الموتى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ فيجتهدوا في متابعته إلى أن يبلغوا هذا المقام إِنْ تَسْتَفْتِحُوا أي تفتحوا أبواب قلوبكم بمفتاح الصدق والإخلاص وترك ما سوى الله في طلب التجلي فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ بالتجلي فأنه تعالى متجل في ذاته أزلا وأبدا فلا تغير له وإنما التغير في أحوال الخلق، فهم عند انغلاق أبواب قلوبهم محرومون وعند انفتاح أبوابها محظوظون وَإِنْ تَنْتَهُوا عن طلب غير الله فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا إلى طلب الدنيا وزخارفها نَعُدْ إلى خذلانكم ونكالكم ونكلكم إلى أنفسكم ودواعيها وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ لا يقوم شيء من الدنيا والآخرة وما فيهما مقام شيء مما أعدّ لأهل الله وخاصته. [سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 30] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) القراآت: وَلا تَوَلَّوْا بالإدغام: البزي وابن فليح. الوقوف: تَسْمَعُونَ هـ ج للآية وللعطف لا يسمعون هـ لا يَعْقِلُونَ هـ لَأَسْمَعَهُمْ ط مُعْرِضُونَ هـ لِما يُحْيِيكُمْ ج لعطف المتفقتين مع اعتراض الظرف تُحْشَرُونَ هـ خَاصَّةً ج لما مر الْعِقابِ هـ تَشْكُرُونَ هـ تَعْلَمُونَ هـ فِتْنَةٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 لا للعطف عَظِيمٌ هـ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ط الْعَظِيمِ هـ أَوْ يُخْرِجُوكَ ط وَيَمْكُرُ اللَّهُ ط الْماكِرِينَ هـ. التفسير: إنه سبحانه بعد ذكر نحو من قصة بدر والغنائم. أدّب المؤمنين أحسن تأديب فأمرهم بطاعته وطاعة رسوله في قسمة الغنائم وغيرها ثم قال وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ فوحد الضمير لأن التولي إنما يصح في حق الرسول بأن يعرضوا عنه وعن قبول قوله وعن معونته في الجهاد، أو لأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد فكان رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما كقوله وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] وكقولك الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان وجوّز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة أي لا تولوا عن هذا الأمر وامتثاله وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ لم يبين أنهم ماذا يسمعون إلا أنه يعلم من مساق الكلام في السورة أن المراد وأنتم تسمعون دعاءه إلى الجهاد أو المراد وأنتم تسمعون الأمر المذكور، أو وأنتم تصدقون بدليل قوله وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ لأنهم ليسوا بمصدقين فلا يصح دعوى السماع منهم. وتحقيق ذلك لأن الإنسان لا يمكنه أن يقبل التكليف ويلتزمه إلا بعد أن يسمعه، فجعل السماع كناية عن القبول، ثم أكد التكاليف المذكورة بقوله إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ أي إن شر من يدب على الأرض، أو إن شر البهائم. والفرق بين التفسيرين أن الأوّل حقيقة إلا أنه ذكر في معرض الذم كقولك لمن لا يفهم الكلام هو شبح وجسد. والثاني مذكور في معرض التشبيه بالبهائم بل جعلهم شرّها لجهلهم وعدولهم عن الانتفاع بالحواس كقوله بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: 179] ومعنى عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه وقضائه. ثم قال وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ أي في هؤلاء الصم البكم خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ عن ابن جريج: هم المنافقون. وعن الحسن: أهل الكتاب، وقيل: بنو عبد الدار بن قصي لم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويد بن حرملة كانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه فقتلوا جميعا بأحد وكانوا أصحاب اللواء. وروي أنهم سألوا النبي أن يحيي لهم قصي ابن كلاب وعيره من أمواتهم ليخبروهم بصحة نبوّته، فبيّن تعالى أنه لو علم فيهم خيرا وهو انتفاعهم بقول هؤلاء الأموات لأحياهم حتى يسمعوا كلامهم ولكنه تعالى علم منهم أنهم لا يقولون هذا الكلام إلا على سبيل العناد والتعنت. وأنهم لو أسمعهم الله كلامهم لتولوا عن قبول الحق ولأعرضوا عنه على عادتهم المستمرة. واعلم أن معلومات الله تعالى على أربعة أقسام: جملة الموجودات، وجملة المعدومات، وإن كل واحد من الموجودات لو كان معدوما فكيف يكون حاله، وإن كل واحد من المعدومات لو كان موجودا فكيف يكون حاله، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 والأولان علم بالواقع، والآخران الباقيان علم بالمقدر ومن هذا القبيل. قوله تعالى وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وتقدير الكلام لو حصل فيهم خيرا لأسمعهم الله الحجج والمواعظ فعبر عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده، وأورد على الآية أنها على صورة قياس شرطي فإذا حذفنا الحد الأوسط بقيت النتيجة: لو علم الله فيهم خيرا لتولوا ولكن كلمة «لو» وضعت للدلالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيكون التولي منتفيا لأجل انتفاء علم الله الخير فيهم بل لأجل انتفاء الخير فيهم. لكن انتفاء التولي خير من الخيرات فأوّل الكلام يقتضي نفي الخير عنهم وآخره يقتضي. حصول الخير فيهم وهذا تناقض والجواب المنع من أن الحد الأوسط مكرر لأن المراد بالإسماع الأوّل إسماع التفهم وإلزام القبول، والمراد بالإسماع الثاني صورة الإسماع فحسب، وأيضا كلمة «لو» في المقدمة الثانية هي التي تجيء للمبالغة بمعنى «أن» كقوله صلى الله عليه وسلم: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» فإذا لا تعلق لإحدى الجملتين بالأخرى فلا قياس. واستدلت الأشاعرة بالآية على أن صدور الإيمان عن الكافر محال لأن الصادق قد أخبر أنهم على تقدير الإسماع معرضون وخلاف علمه وخبره محال. وقال في الكشاف: لو علم الله فيهم خيرا أي انتفاعا باللطف للطف بهم حتى يسمعوا سماع المصدقين ولو لطف بهم لما نفع فيهم اللطف فلذلك منعهم ألطافه، أو ولو لطف بهم فصدقوا لارتدوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا وتزييف هذا التفسير سهل. ثم علم المؤمنين أدبا آخر فقال اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ فوحد الضمير كما مر. والمراد بالاستجابة الطاعة والامتثال، وبالدعوة البعث والتحريض. عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على باب أبيّ بن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال: ما منعك عن إجابتي؟ قال: كنت أصلي. قال: ألم تخبر فيما أوحي إليّ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ؟ قال: لا جرم لا تدعوني إلا أجبتك، وقد يتمسك الفقهاء بهذا الخبر على أن ظاهر الأمر للوجوب وإلا فلم يتوجه اللوم. ثم قيل: إن هذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: إن دعاءه كان لأمر لم يحتمل التأخير وإذا وقع مثله للمصلي فله أن يقطع صلاته. ثم الإحياء لا يمكن أن يحمل على نفس الحياة لأن إحياء الحي محال فذكروا فيه وجوها: قال السدي: هو الإسلام والإيمان لأن الإيمان حياة القلب والكفر موته بدليل قوله يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام: 95] أي المؤمن من الكافر. وقال قتادة: يعني القرآن لأن فيه العلم الذي به الحياة الحقيقية. والأكثرون على أنه الجهاد لأن وهن أحد العدوّين سبب حياة الآخر، ولأن الجهاد سبب حصول الشهادة التي توجب الحياة الدائمة لقوله بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [آل عمران: 169] ، وقيل: إنه عام في كل حق وصواب فيدخل فيه القرآن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 والإيمان والجهاد وكل أعمال البر والطاعة. والمراد لما يحييكم الحياة الطيبة كما قال فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [آل عمران: 169] ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ اختلف الناس فيه بحسب اختلافهم في مسألة الجبر والقدر فنقل الواحدي عن ابن عباس والضحاك: يحول بين الكافر وطاعته ويحول بين المطيع ومعصيته. فالسعيد من أسعده الله والشقي من أضله الله، والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء ويخلق فيها القصود والدواعي والعقائد حسبما يريد، وتقرير ذلك من حيث العقل وجوب انتهاء جميع الأسباب إليه. ثم ختم الآية بقوله وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ليعلم أنهم مع كونهم مجبورين خلقوا مثابين ومعاقبين إما للجنة وإما للنار لا يتركون مهملين معطلين. وقالت المعتزلة: إن من حال الله بينه وبين الإيمان فهو عاجز وأمر العاجز سفه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وإنه تعالى أمر بالاستجابة لله وللرسول فلو لم تكن الإجابة ممكنة فكيف يأمر بها، ولو كان الأمر بغير المقدور جائزا لكان القرآن حجة للكفار على الرسول لا له عليهم. فإذا لا يمكن حمل الآية على ما قاله أهل الجبر. فتأويلها أن الله يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بسبب الموت يدل عليه قوله وَأَنَّهُ أي وأن الشأن أو الله إليه تحشرون والمقصود الحث على الطاعة قبل نزول سلطان الموت، أو أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يتمناه بقلبه تسمية للشيء باسم محله فكأنه قيل: بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على طول البقاء فإن الأجل يحول دون الأمل أو المراد سارعوا إلى الطاعة ولا تمتنعوا عنها بسببب ما تجدون في قلوبكم من الضعف والجبن فإن الله مقلب القلوب من حالة العجز والجبن إلى القوة والشجاعة وقد يبدل بالأمن خوفا وبالخوف أمنا، وبالذكر نسيانا وبالنسيان ذكرا، وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله تعالى، فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب من أفعال القلوب فلا. وقال مجاهد: المراد بالقلب العقل والمعنى بادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون. ولا تأمنوا زوال العقول التي عند ارتفاعها يبطل التكليف فلا يقدر على الكفر والإيمان. وعن الحسن: إن الغرض التنبيه على أنه تعالى مطلع على بواطن العبد وضمائره، وإن قربه من عبده أشد من قرب قلبه منه كقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ثم حذرهم الفتن والاختلاف فقال وَاتَّقُوا فِتْنَةً قيل: هو العذاب. وقيل: افتراق الكلمة. وقيل: إقرار المنكر بين أظهرهم. وقوله لا تُصِيبَنَّ إما أن يكون جوابا للأمر وجاز دخول النون المؤكدة فيه مع خلوه من الطلب لأن فيه معنى النهي كقولك: انزل عن الدابة لا تطرحك وإن شئت قلت لا تطرحنك. وعلى هذا «من» في مِنْكُمْ للتبعيض. وقيل: الجواب محذوف والمعنى إن أصابتكم لا تصيب بعضكم وهم الظالمون حال كونهم خَاصَّةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 ولكنها تعم الظالمين وغيرهم لأنه يحسن من الله تعالى ذلك بحكم المالكية أو لاشتمال ذلك على نوع من الصلاح، وإما أن يكون نهيا بعد أمر و «من» للبيان كأنه قيل: احذروا ذنبا أو عقابا. ثم قيل لا تصيبنكم تلك العقوبة خاصة على ظلمكم كأن الفتنة نهيت عن ذلك الاختصاص على طريق الاستعارة. وهكذا إن جعلت الجملة الناهية صفة للفتنة على إرادة القول أي اتقوا فتنة مقولا فيها لا تصيبن كقوله: جاؤا بمذق هل رأيت الذئب قط عن الحسن: نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة على ما قال الزبير: نزلت فينا وقرأناها زمانا وما رأينا أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها. وعن السدي: نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الجمل. وروي أن الزبير كان يسامر النبي صلى الله عليه وسلم يوما إذ أقبل علي فضحك إليه الزبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف حبك لعلي؟ فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني أحبه كحبي لولدي أو أشد حبا. قال: فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله؟ ثم ختم الآية بقوله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ والمراد منه الحث على لزوم الاستقامة. ثم ذكرهم نعمه عليهم فقال وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ وانتصابه على أنه مفعول به أي وقت أنكم قَلِيلٌ يستوي فيه الواحد والجمع مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ أرض مكة قبل الهجرة تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ يستلبونكم لكونهم أعداء لكم فَآواكُمْ إلى المدينة وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ بمظاهرة الأنصار وبإمدادكم بالملائكة يوم بدر وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من الغنائم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ينقلكم من الشدة إلى الرخاء، ومن البلاء إلى النعماء والآلاء حتى تشتغلوا بالشكر والطاعة فكيف يليق بكم أن تشتغلوا بالمنازعة في الأنفال؟، ثم منعهم من الخيانة في الأمانة. يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة بن مروان بن المنذر وكان مناصحا لهم لأن عياله وماله في أيديهم. فبعثه إليهم فقالوا له: ما ترى هل ننزل على حكم سعد؟ فأشار إلى حلقه إنه أي إن حكم سعد بن معاذ هو الذبح. قال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله فنزلت الآية. فشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ. فمكث سبعة أيام حتى خرّ مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له: قد تيب عليك في نفسك. فقال: لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني. فجاءه فحله بيده فقال: إن من تمام توبتي أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي. فقال صلى الله عليه وسلم: يجزيك الثلث أن تتصدق به. وقال السدي: كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فيفشونه ويلقونه إلى المشركين فنهاهم الله عن ذلك. وقال ابن زيد: نهاهم الله أن يخونوا كما صنع المنافقون يظهرون الإيمان ويسرون الكفر. وعن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فعلم النبي صلى الله عليه وسلم خروجه وعزم على الذهاب إليه فكتب إليه رجل من المنافقين إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فنزلت. وقال الزهري والكلبي: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة بخروج النبي صلى الله عليه وسلم إليها حكاه الأصم. قال القاضي: والأقرب أنها في الغنائم. فالخيانة فيها خيانة الله لأنها عطيته، وخيانة لرسوله لأنه القيم بقسمتها، وخيانة للمؤمنين الغانمين فلكل منهم فيها حق. قال: ويحتمل أن يراد بالأمانة كل ما تعبد به كأن معنى الآية إيجاب أداء التكاليف بأسرها في الغنيمة وغيرها على سبيل التمام والكمال من غير نقص ولا إخلال، ومعنى الخون النقص كما أن معنى الوفاء التمام فإذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت النقصان فيه، وقد استعير فقيل: خان الدلو الكرب، وخان الشتار السبب. والكرب حبل قصير يوصل بالرشاء ويكون على العراقيّ سمي كربا لأنه يكرب من الدلو أي يقرب منه. واشتار العسل إذا اجتناه وجمعه. وتخونوا يحتمل أن يكون جزما داخلا في حكم النهي وأن يكون نصبا بإضمار أن كقوله وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة: 42] ومعنى الآية على الوجه العام لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه ورسوله بأن لا تستنوا به وأماناتكم فيما بينكم بأن لا تحفظوها وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله، أو تعلمون أنكم تخونون يعني أن الخيانة توجد منكم عمدا لا سهوا. وقيل: وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن. ثم لما كان الداعي إلى الخيانة هو محبة الأموال والأولاد ولعل ما فرط من أبي لبابة كان بسبب ذلك نبه الله سبحانه على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضار المتولدة من ذلك الحب فقال أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ أي أنها سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب أو هي محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون على حدوده في ذلك الباب وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فعليكم أن تزهدوا في الدنيا وما يتعلق بها وتنوطوا هممكم بما يفضي إلى السعادات الروحانية الباقية. ويمكن أن يتمسك بالآية في بيان أن الاشتغال بالنوافل لكونه مفضيا إلى الأجر العظيم عند الله هو أفضل من الاشتغال بالنكاح لأدائه إلى الفتنة. ثم رغب في التقوى التي توجب الإعراض عن محبة الأموال والأولاد وعن التهالك في شأنهم فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ في ارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر ويَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً فارقا بينكم وبين الكفار في الأحوال الباطنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 بالاختصاص بالمعرفة والهداية وانشراح الصدر وإزالة الغل والحسد والمكر وسائر الأخلاق الذميمة والأوصاف السبعية والبهيمية، وفي الأحوال الظاهرة بإعلاء الكلمة والإظهار على أهل الأديان كلهم، وفي أحوال الآخرة بالثواب الجزيل والمنافع الدائمة والتعظيم من الله والملائكة. وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يستر عليكم في الدنيا صغائركم إن فرطت منكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ في دار الجزاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فإذا وعد بشيء وفى به أحسن الإيفاء. ومن عظيم فضله أنه يتفضل بذاته من غير واسطة وبدون التماس عوض وكل متفضل سواه فإنه لا يتفضل إلا بعد أن يخلق الله فيه داعية التفضل وبعد أن يمكن المتفضل عليه من الانتفاع بذلك. وبعد أن يكون قد تصوّر فيه ثوابا أو ثناء، أو حمله على ذلك رقة طبع أو عصبية وإلا فلا فضل في الحقيقة إلا لله سبحانه فلهذا وصفه بالعظم. ثم لما ذكر المؤمنين نعمه عليهم بقولهم وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ ذكر رسوله نعمته عليه وذلك دفع كيد المشركين عنه حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في نجاته من مكرهم وفيما أتاح له من حسن العاقبة. والمعنى واذكر وقت مكرهم. فإن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من المفسرين: ذكروا أن قريشا اجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا شيخ من نجد ما أنا من تهامة دخلت مكة فسمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأيا ونصحا. فقالوا: هذا من نجد لا بأس عليكم به. فقال أبو البختري من بني عبد الدار: رأيي أن تحبسوه في بيت وتشدوا وثاقه وتسدوا بابه غير كوّة وتلقون إليه طعامه وشرابه منها وتتربصوا به ريب المنون، فقال إبليس: بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم. فقال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم ما صنع واسترحتم. فقال: بئس الرأي يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا صارما فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا. فقال الشيخ: صدق هذا الفتى هو أجودكم رأيا. فتفرقوا على رأي أبي جهل مجمعين على قتله، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن الله له في الهجرة فأمر عليا عليه السلام فنام في مضجعه وقال له: اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه. وباتوا مترصدين فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا عليا فبهتوا وخيب الله سعيهم واقتصوا أثره فأبطل مكرهم. ومعنى لِيُثْبِتُوكَ قال ابن عباس: ليوثقوك ويسجنوك لأنه لا يقدر على الحركة وهو إشارة إلى رأي أبي البختري. وقوله أَوْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 يَقْتُلُوكَ إشارة إلى رأي أبي جهل. وقوله أَوْ يُخْرِجُوكَ أي من مكة إشارة إلى رأي هشام. وأنكر القاضي حديث إبليس في القصة وتصويره نفسه بصورة الإنس. قال: لأن ذلك التغيير إن كان بفعل الله فهو إعانة للكفار على المكر، وإن كان من فعل إبليس فلذلك لا يليق بحكمة الله تعالى لأن إقدار إبليس على تغيير صورة نفسه إعانة له على الإغواء والتلبيس. هذا ما حكى عن القاضي وذهب عليه أن هذا الاعتراض وارد على خلق إبليس نفسه وعلى خلق سائر أسباب الشرور والآثام وقد أجبنا عن أمثال ذلك مرارا، وقد عرفت تفسير المكر في سورة آل عمران. والحاصل أنهم احتالوا في إبطال أمر محمد والله نصره وقواه فضاع فعلهم وظهر صنع الله. فإن قيل: لا خير في مكرهم فكيف قال والله أنه خير الماكرين؟ وأجيب بأن المراد أقوى الماكرين، أو المراد أنه لو قدر في مكرهم خير لكان الخير في مكره أكثر، أو المراد أنه في نفسه خير. التأويل: إن شر من دب في الوجود هم الصُّمُّ عن استماع كلام الحق. يسمع القلب والقبول الْبُكْمُ عن كلام الحق والكلام مع الحق. والأصم لا بد أن يكون أبكم فلذلك خصا بالذكر الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أنهم لماذا خلقوا فلا جرم يؤل حالهم من أن يكونوا خير البرية إلى أن يكونوا شرّ الدواب اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ إنه تعالى يطلب بالمحجة من العبد الإجابة كما يطلب العبد للحاجة منه الإجابة، فالاستجابة لله إجابة الأرواح للشهود وإجابة القلوب للشواهد، وإجابة الأسرار للمشاهدة، وإجابة الخفي للفناء في الله، والاستجابة للرسول بالمتابعة لما يحييكم يفنيكم عنكم ويبقيكم به وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بسطوات أنوار جماله وجلاله بين مرآة قلبه وظلمة أوصاف قالبه وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ بالفناء عنكم والبقاء به وَاتَّقُوا أيها الواصلون فتنة ابتلاء النفوس بحظوظها الدنيوية والأخروية. لا تصيب النفوس الظالمة فقط بل تصيب ظلمتها الأرواح النورانية والقلوب الربانية فتجتذبها من حظائر القدس ورياض الأنس إلى حضائض صفات الإنس وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ يعاقب الواصلين بالانقطاع والاستدراج عند الالتفات إلى ما سواه وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ أيها الأرواح والقلوب قَلِيلٌ لم ينشأ بعد لكما الصفات الأخلاق الروحانية مُسْتَضْعَفُونَ من غلبات صفات النفس لإعواز التربية بألبان آداب الطريقة ولانعدام جريان أحكام الشريعة عليكم إلى أوان البلوغ. يخافون أن تسلبكم النفوس وصفاتها والشيطان وأعوانه فَآواكُمْ إلى حظائر القدس وَأَيَّدَكُمْ بالواردات الربانية وَرَزَقَكُمْ المواهب الطاهرة من لوث الحدوث. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعني الأرواح والقلوب المنوّرة بنور الإيمان المستسعدة بسعادات العرفان لا تَخُونُوا اللَّهَ فيما آتاكم من المواهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 فتجعلوها شبكة لاصطياد الدنيا ولا تخونوا الرسول بترك السنة والقيام بالبدعة وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ التي هي محبة الله، وخيانتها تبديلها بمحبة المخلوقات وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ إنكم تبيعون الدين بالدنيا والمولى بالأولى فِتْنَةٌ يختبركم الله بها بالتمييز الموافق من المنافق، والصديق من الزنديق. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بهذه المقامات والكرامات إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ من غير الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً يفض عليكم من سجال جماله وجلاله القديم ما تفرقون به بين الحدوث والقدم وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سيئات وجودكم الفاني وَيَغْفِرْ لَكُمْ يستركم بأنوار جماله وجلاله وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وهو البقاء بالله بعد الفناء فيه لِيُثْبِتُوكَ أيها الروح في أسفل سافلين الطبيعة أو يعدموك بانعدام آثارك أَوْ يُخْرِجُوكَ من عالم الأرواح وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ يصلح حال أهل الصلاح البتة. [سورة الأنفال (8) : الآيات 31 الى 40] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) القراآت: بما تعملون، بَصِيرٌ بتاء الخطاب: يعقوب. الوقوف: مِثْلَ هذا لا لأن الابتداء بأن هذا إلا أساطير الأولين قبيح الْأَوَّلِينَ هـ أَلِيمٍ هـ وَأَنْتَ فِيهِمْ ط يَسْتَغْفِرُونَ هـ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ ط لا يَعْلَمُونَ هـ وَتَصْدِيَةً ط تَكْفُرُونَ هـ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ط يُغْلَبُونَ ط لأن ما بعده مبتدأ يُحْشَرُونَ هـ لا لتعا اللام فِي جَهَنَّمَ ط الْخاسِرُونَ هـ ما قَدْ سَلَفَ ط لابتداء الشرط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 مع العطف الْأَوَّلِينَ هـ كُلُّهُ لِلَّهِ ط بَصِيرٌ هـ مَوْلاكُمْ ط النَّصِيرُ هـ. التفسير: لما حكى مكرهم في ذات محمد صلى الله عليه وآله حكى مكرهم في دينه. وروي أن النضر بن الحرث خرج إلى الحيرة تاجرا واشترى أحاديث كليلة ودمنة وقصة رستم وإسفنديار، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين فيقرأ عليهم ويقول هذا مثل ما يذكره محمد من قصص الأوّلين، ولو شئت لقلت مثل قوله، وهذا منه ومن أمثاله صلف تحت الراعدة لأنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة. ويروى عن النضر أو عن أبي جهل على ما في الصحيحين أن أحدهما قال ما معناه اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ الآية. وهذا أسلوب من العناد بليغ لأن قوله هُوَ الْحَقَّ بالفصل وتعريف الخبر تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين هذا هو الحق. ومعنى حِجارَةً مِنَ السَّماءِ الحجارة المسوّمة للعذاب أي إن كان القرآن هو المخصوص بالحقية فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل أو بنوع آخر من جنس العذاب الأليم. ومراده نفي كونه حقا فلذلك علق بحقيته العذاب كما لو علق بأمر محال فهو كقول القائل إن كان الباطل حقا فأمطر علينا حجارة. وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة. قال: أجهل من قومي قومك قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق فاهدنا له. ثم شرع في الجواب عن شبهتهم فقال وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ اللام لتأكيد النفي دلالة على أن تعذيبهم بعذاب الاستئصال والنبي بين أظهرهم غير مستقيم عادة تعظيما لشأن النبي وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال قتادة والسدي: المراد نفي الاستغفار عنهم أي لو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم. وقيل: اللفظ عام لأن المراد بعضهم وهم الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين المؤمنين فهو كقولك: قتل أهل المحلة فلانا وإنما قتله واحد منهم أو اثنان. وقيل: وصفوا بصفة أولادهم والمعنى وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفي علم الله أنه يكون لهم أولاد يؤمنون بالله ويستغفرونه، وفي علم الله أن فيهم من يؤل أمره إلى الإيمان كحكيم بن حزام والحرث بن هشام وعدد كثير ممن آمن يوم الفتح وقبله وبعده. وفي الآية دلالة على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب. قال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبي الله والاستغفار. أما النبي فقد مضى وأما الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة. ثم بين أنه يعذبهم إذا خرج الرسول من بينهم فقال وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم يعني لا حظ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة. قيل: لحقهم هذا العذاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 المتوعد به يوم بدر. وقيل: يوم فتح مكة بدليل قوله وَهُمْ يَصُدُّونَ أي كيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله عام الحديبية. والأوّلون قالوا: إن إخراجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الصدّ. وعن ابن عباس أن هذا العذاب عذاب الآخرة والذي نفاه عنهم هو عذاب الدنيا وكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصدّ من نشاء وندخل من نشاء فنفى الله استحقاقهم الولاية بقوله وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ من المسلمين وليس كل مسلم يصلح لذلك فضلا عن مشرك وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ كان فيهم من كان يعلم وهو يعاند ويطلب الرياسة، أو أراد بالأكثر الجميع كما يراد بالقلة العدم. ثم ذكر بعض أسباب سلب الولاية عنهم فقال وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً المكاء «فعال» كالثغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر. والتصدية التصفيق «تفعلة» من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من الجبل فيكون في الأصل معتل اللام، أو من صدّ يصدّ مضاعفا أي صاح فقلبت الدال الأخيرة ياء كالتقضي في التقضض، وأنكر هذا الاشتقاق بعضهم وصوّبه الأزهري وأبو عبيدة. قال جعفر بن ربيعة: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن المكاء والتصدية فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيرا. وقيل: هو أن يجعل بعض أصابع اليمين وبعض أصابع الشمال في الفم ثم يصفر به. وقيل: تصويت يشبه صوت المكّاء بالتشديد وهو طائر معروف. عن ابن عمر: كانوا يطوفون بالبيت عراة وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون. فالمكاء والتصدية على هذا نوع عبادة لهم فلهذا وضعا موضع الصلاة بناء على معتقدهم. وفيه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له كقول العرب: ما لفلان عيب إلا السخاء أي من كان السخاء عيبه فلا عيب له. وقال مجاهد ومقاتل: كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف والصلاة عند المسجد الحرام يستهزؤن به ويخلطون عليه فجعل المكاء والتصدية صلاة لهم كقولك: زرت الأمير فجعل جفائي صلتي أي أقام الجفاء مقام الصلة. ثم خاطبهم على سبيل المجازاة بقوله فَذُوقُوا الْعَذابَ عذاب القتل والأسر يوم بدر أو عذاب الآخرة بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة. ولما شرح أحوال هؤلاء الكفار في الطاعات البدنية أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ الآية. قال مقاتل والكلبي: نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا: أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ونبيه ومنبه ابنا حجاج وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحرث وحكيم بن حزام وأبيّ بن خلف وزمعة بن أسود والحرث بن عامر بن نوفل والعباس ابن عبد المطلب. وكلهم من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 قريش وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر. وقال سعيد بن جبير وابن أبزى: نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش- والأحبوش جماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة- وأنفق عليهم أربعين أوقية من فضة. والأوقية اثنان وأربعون مثقالا- قاله في الكشاف. وقال محمد بن إسحق عن رجاله: لما أصيب قريش يوم بدر فرجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان ابن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كان له في تلك العير تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال الذي أفلت على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا لمن أصيب منا فأنزل الله تعالى الآية. ومعنى لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أن غرضهم فى الإنفاق كان هو الصدّ عن اتباع محمد وهو سبيل الله وإن لم يكن عندهم كذلك. ثم أخبر عن الغيب على وجه الإعجاز فقال فَسَيُنْفِقُونَها أي سيقع منهم هذا الإنفاق ثم تكون عاقبة إنفاقها ندما وحسرة فكأن ذاتها تصير ندما وتنقلب حسرة ثم يغلبون آخر الأمر وإن كانت الخرب بينهم وبين المؤمنين سجالا لقوله كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] ومعنى «ثمك» في الجملتين إما التراخي في الزمان لما بين الإنفاق المذكور وبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد، وإما التراخي في الرتبة لما بين بذل المال وعدم حصول المقصود من المباينة. ثم قال وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي الكافرون منهم ولم يقل «ثم يغلبون وإلى جهنم يحشرون» لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه فذكر أن الذي بقوا على الكفر لا يكون حشرهم إلا إلى جهنم دون من أسلم منهم. ثم بين الغاية والغرض فيما يفعل بهم من الغلبة ثم الحشر إلى جهنم فقال لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ أي الفريق الخبيث من الكفار مِنَ الفريق الطَّيِّبِ وهم المؤمنون وَيَجْعَلَ الفريق الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً عبارة عن الجمع والضم وفرط الازدحام. يقال: ركم الشيء يركمه إذا جمعه وألقى بعضه على بعض أُولئِكَ الفريق الخبيث هُمُ الْخاسِرُونَ وقيل: الخبيث والطيب صفة المال أي ليميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المال الطيب الذي أنفقه المهاجرون والأنصار في نصرته فيركمه فيضم تلك الأموال الخبيثة بعضها على بعض فيلقيه في جهنم ويعذبهم بها كقوله فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ [التوبة: 35] وعلى هذا فاللام في قوله لِيَمِيزَ اللَّهُ يتعلق بقوله ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً قاله في الكشاف. ولا يبعد عندي أن يتعلق ب يُحْشَرُونَ وأُولئِكَ إشارة إلى الذين كفروا. ولما بين ضلالهم في عباداتهم البدنية والمالية أرشدهم إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 الطريق المستقيم وما يتبعه من الصلاح فقال قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي قل لأجلهم هذا القول وهو أن ينتهوا عما هم عليه من عداوة الرسول وقتاله بالدخول في السلم والإسلام يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من الكفر والمعاصي. ولو كان المراد خطابهم بهذا القول لقيل: «أن تنتهوا يغفر لكم» . وقد قرأ بذلك ابن مسعود وَإِنْ تَعُودُوا لقتاله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر أو سنة الذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم فأهلكوا أو غلبوا كقوله كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] واستدل كثير من العلماء منهم أصحاب أبي حنيفة الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الإسلام لأن الخطاب مع الكفر باطل بالإجماع وبعد زواله لا يؤمر بقضاء العبادات الفائتة، بل ذهب أبو حنيفة إلى أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردة وقبلها وفسر وَإِنْ يَعُودُوا بالعودة إلى الردة. واختلفوا في أن الزنديق هل تقبل توبته أم لا؟ والصحيح أنها مقبولة لشمول الآية جميع الكفار لقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن نحكم بالظاهر» ولأنه يكلف بالرجوع ولا طريق له إلا التوبة، فلو لم تقبل لزم تكليف ما لا يطاق. ثم أمر بقتالهم إن أصروا على الكفر فقال وَقاتِلُوهُمْ الآية. وقد مر تفسيره في سورة البقرة إلا أنه زاد هاهنا لفظة كُلُّهُ في قوله وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ لأن القتال هاهنا مع جميع الكفار وهناك كان مع أهل مكة فحسب فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر وأسلموا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يثيبهم على توبتهم وإسلامهم. ومن قرأ بتاء الخطاب أراد فإن الله بما تعملون من الجهاد في سبيله والدعوة إلى دينه بصير يجازيكم عليه أحسن الجزاء. وَإِنْ تَوَلَّوْا ولم ينتهوا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ ناصركم ومتولي أموركم يحفظكم ويدفع شر الكفار عنكم فإنه نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ فثقوا بولايته ونصرته. التأويل: قالوا قد سمعنا وما سمعوا في الحقيقة وإلا لم يقولوا لو نشاء لقلنا فإن كلام المخلوق لن يكون مثل كلام الله. ثم انظر كيف استخرج الله منهم عقيب دعواهم لَقُلْنا مِثْلَ هذا قولهم اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ ليعلم أن من هذا حاله كيف يكون مثل القرآن مقاله، ولو كان لهم عقل لقالوا إن كان هذا حقا فاهدنا له ومتعنا به وبأنواره وأسراره وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ لأنه رحمة للعالمين والرحمة تنافي العذاب إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يعني أكثر المتقين أو لا يَعْلَمُونَ أنهم أولياؤه لأن الولي قد لا يعرف أنه ولي إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ كذلك دأب كفار النفوس ينفقون أموال الاستعداد الفطري في غير طلب الله وإنما تصرفها في استيفاء اللذات والشهوات فستندم حين لا ينفع الندم ثُمَّ يُغْلَبُونَ لا يظفرون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 بمشتهيات النفس كلها ولأجلها، والذين كفروا من الأرواح والقلوب التابعة والنفوس إِلى جَهَنَّمَ البعد والقطيعة يُحْشَرُونَ، لِيَمِيزَ اللَّهُ الأرواح والقلوب الخبيثة من الطيبة التي لا تركن إلى الدنيا ولا تنخدع بانخداع النفوس. فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فيجعل الأرواح الخبيثة فوق النفوس الخبيثة فيلقي الجميع في جهنم القطعية قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من الأرواح والقلوب أي ستروا النور الروحاني بظلمات صفات النفس إِنْ يَنْتَهُوا عن اتباع الهوى يُغْفَرْ لَهُمْ يستر لهم تلك الظلمات بنور الفرقان والرشاد. وَقاتِلُوهُمْ كفار النفوس حَتَّى لا تَكُونَ آفة مانعة عن الوصول وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ببذل الوجود وفقد الموجود لنيل الوجود وكرامة الشهود والله تعالى أعلم. تم الجزء التاسع ويليه الجزء العاشر وأوله: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء العاشر من أجزاء القرآن الكريم [سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 49] وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) القراآت: بِالْعُدْوَةِ بكسر العين في الحرفين: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. الباقون: بالضم. من حيي بياءين: أبو جعفر ونافع وخلف وسهل ويعقوب والبزي ونصير وأبو بكر وحماد. الباقون: بالإدغام. وَلا تَنازَعُوا بالإدغام: البزي وابن فليح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 وَتَذْهَبَ بالجزم للجزاء عن هبيرة وَإِذْ زَيَّنَ وبابه مدغما: أبو عمرو وعلي وحمزة في رواية خلاد ابن سعدان وهشام إِنِّي أَرى، إِنِّي أَخافُ بفتح الياء فيهما: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. تَراءَتِ الْفِئَتانِ بالإمالة: نصير. الوقوف: وَابْنِ السَّبِيلِ ط لتعلق حرف الشرط بمحذوف يدل عليه ما قبلها تقديره: واعلموا واعتقدوا هذه الأقسام إن كنتم. الْجَمْعانِ ط قَدِيرٌ هـ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ط فِي الْمِيعادِ لا لعطف لكن مَفْعُولًا لا لتعلق اللام مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ط عَلِيمٌ لا لتعلق «إذ» قَلِيلًا ط مِنْكُمْ ط الصُّدُورِ هـ مَفْعُولًا ط الْأُمُورُ هـ تُفْلِحُونَ هـ ج للآية وللعطف وَاصْبِرُوا ط الصَّابِرِينَ هـ ج لما ذكر عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ط مُحِيطٌ هـ جارٌ لَكُمْ ط أَخافُ اللَّهَ ط الْعِقابِ هـ دِينُهُمْ ط حَكِيمٌ هـ. التفسير: لما أمر سبحانه بالقتال في قوله وَقاتِلُوهُمْ [الأنفال: 39] والمقاتلة مظنة حصول الغنيمة أعاد حكم الغنيمة ببيان أوفى وأشفى فقال وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ أي الذي حزتم من أموال الكفرة قهرا. وقوله مِنْ شَيْءٍ بيان «ما» أي من كل ما يقع عليه اسم الشيء حتى المخيط والخيط. وقوله فَأَنَّ لِلَّهِ بالفتح مبتدأ محذوف الخبر. وروى الجعفي عن أبي عمرو فإن الله بالكسر. قال في الكشاف: والمشهورة آكد وأثبت للإيجاب كأنه قيل: فلا بد من ثبات الخمس فيه ولا سبيل إلى الإخلال به لأنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات كقولك: ثابت واجب حق لازم كان أقوى لإيجابه من النص على واحد. عن الكلبي أن الآية نزلت ببدر. وقال الواقدي: كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة. واعلم أن الآية تقتضي أخذ الخمس من الغنائم واختلفوا في كيفية قسمة ذلك الخمس على أقوال أشهرها: أن ذلك الخمس يخمس حتى يكون مجموع الغنيمة ومقسما بخمسة وعشرين قسما عشرون الغنائم بالاتفاق لأنهم كسبوها كالاحتطاب والاصطياد، وأما الخمسة الباقية فواحد منها كان لرسول الله ويصرف الآن ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كسد الثغور وعمارة الحصون والقناطر والمساجد وأرزاق القضاة والأئمة الأهم فالأهم، وواحد لذوي القربى يعني أقارب رسول الله من أولاد هاشم والمطلب ابني عبد مناف دون عبد شمس ونوفل وهما ابنا عبد مناف أيضا لما روي عن عثمان بن عفان وجبير بن مطعم- وكان عثمان من بني عبد شمس وجبير من بني نوفل- أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 الله منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد- وشبك بين أصابعه- يستوي في هذا السهم غنيهم وفقيرهم إلا أن للذكر مثل حظ الأنثيين. وثلاثة أخماس الخمس الباقية لليتامى والمساكين وابن السبيل. وهذا عند الإمامين أبي حنيفة والشافعي إلا أن أبا حنيفة قال: إن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ساقط بموته وكذلك سهم ذوي القربى وإنما يعطون لفقرهم فهم أسوة سائر الفقراء. فعلى مذهب الإمامين. معنى قوله سبحانه فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [التوبة: 62] فأن لرسول الله خمسة كقوله وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وعن أبي العالية إيجاب سهم آخر لله وأنه يقسم الخمس على ستة أسهم. والذاهبون إلى هذا القول اختلفوا فقيل: إن ذلك السهم لبيت المال. وقيل: يصرف إلى مصالح الكعبة لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الخمس فيضرب بيده فبه فيأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة فهو سهم الله. وعن ابن عباس أنه كان يقسم على ستة لله وللرسول سهمان، وسهم لأقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل، وكذلك روي عن عمرو ومن بعده من الخلفاء. وروي أن أبا بكر منع بني هاشم الخمس وقال: إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوّج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم، فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غني لا يعطى هو ولا يتيم موسر من الصدقة شيئا، وروي عن زيد بن علي أنه قال: ليس لنا أن نبني منه قصورا ولا أن نركب منه البراذين. وقيل: الخمس كله للقرابة لما روي عن علي عليه السلام أنه قيل له: إن الله تعالى قال وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ فقال: أيتامنا ومساكيننا. وعن الحسن: في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لولي الأمر من بعده. وعند مالك بن أنس الأمر في الخمس مفوّض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين الأصناف الخمسة عند الشافعي وإن رأى أعطى بعضهم دون بعض، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فذاك. فعند هذا يكون معنى قوله فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أن من حق الخمس أن يكون متقربا به إلى الله لا غير. ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلا لها على غيرها كقوله وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ وحاصل الآية إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل على عبدنا فاعلموا علما يتضمن العمل والطاعة أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به فاقطعوا عنه أطماعكم واقنعوا بالأخماس الأربعة يَوْمَ الْفُرْقانِ يوم بدر لأنه فرق فيه بين أهل الحق وأهل الباطل. والجمعان فريقاهما والذي أنزل عليه يومئذ الآيات والملائكة والنصر والتأييد وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فبذلك نصر القليل على الكثير إِذْ أَنْتُمْ بدل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 من يوم الفرقان بِالْعُدْوَةِ بالكسر والضم شط الوادي أي جانبه وحافته. وقال أبو عمرو: هي المكان المرتفع والدُّنْيا تأنيث الأدنى يعني الجانب الذي يلي المدينة وقلب الواو ياء فيه على القياس لأن «فعلى» من بنات الواو وتقلب ياء كالعليا، وأما القصوى تأنيث الأقصى فإنه كالقود في مجيئه على الأصل وقد جاء القصيا أيضا قليلا والعدوة القصوى مما يلي مكة وَالرَّكْبُ يعني الأربعين الذين كانوا يقودون العير أَسْفَلَ مِنْكُمْ بالساحل وهو نصب على الظرف مرفوع المحل خبرا للمبتدأ أي مكانا أسفل من مكانكم. والفائدة في ذكر مراكز الفرق الثلاث تصوير وقعة بدر وما دبر الله سبحانه من عجيب صنعه وكمال رأفته ونصره حتى كان ما كان. وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كانت في مكان فيه الماء وكانت أرضا لا بأس بها، وأما العدوة الدنيا فهي رخوة تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وعبدتهم، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحروب بعيالهم وأثقالهم ليبعثهم الذب عن الحرم على بذل مجهودهم حيث لم يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه. وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم وأهل مكة على موضع تتلاقون فيه لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من هيبة الرسول والمسلمين فلم يتفق لكم من التلاقي ما تيسر بتوفيق الله وتسبيبه وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أي ليظهر أَمْراً كانَ مَفْعُولًا مقدرا وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك. وقوله لِيَهْلِكَ بدل من لِيَقْضِيَ بدل الخاص من العام واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام، وذلك أن وقعة بدر كان فيها من الآيات والمعجزات ما يكون الكافر بعدها كالمكابر لنفسه فكفره صادر عن وضوح بينة أي لا شك في كفره وعناده كما أنه لم يبق شك للمسلمين في حقية دين الإسلام. وفي قوله لِيَقْضِيَ ولِيَهْلِكَ دلالة على أن أفعاله تعالى مستتبعة للحكم والمقاصد والغايات خلاف ما عليه ظاهر الأشاعرة. وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ لدعائكم عَلِيمٌ بنياتكم إِذْ يُرِيكَهُمُ منصوب باذكر أو بدل آخر من يوم الفرقان أو متعلق بعليم أي يعلم تدابيركم إذ يريكهم فِي مَنامِكَ أي في رؤياك قَلِيلًا أراه وإياهم في رؤياه قليلا فأخبر بذلك أصحابه فكان تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوهم. وقيل: في منامك أي في عينك في اليقظة لأن العين موضع النوم وفيه تكلف. وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً على ما هم عليه لَفَشِلْتُمْ والفشل الجبن والخور. وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أمر الحرب والإقدام وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ عصم من الفشل والتنازع إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعلم ما سيحدث فيها من مواجب الإقدام والإحجام وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ يبصركم إياهم إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا نصب على الحال لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 الرؤية رؤية العين لا القلب وقد استوفت الإراءة مفعولية فلن يتعدى إلى ثالث وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ الحكمة في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهرة مع أن في ذلك تصديقا لرؤيا النبي، وأما تقليل المؤمنين في أعين الكفار فالحكمة في ذلك أن يجترىء الكفار عليهم قلة مبالاة بهم وأن يستعدّوا لهم كما ينبغي لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا فعل ما فعل من التقليل وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فيه أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زادا للمعاد. ثم علم المؤمنين آداب اللقاء في الحروب فقال إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا لقتالهم ولا تفروا واللقاء اسم غلب في القتال فلهذا ترك وصف الفئة بالمحاربين ونحو ذلك، والأمر بالثبات في القتال لا ينافي الرخصة في التحرف والتحيز فلعل الثبات في الحرب لا يحصل إلا بهما. وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً في مواطن الحرب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تظفرون بمرادكم من النصر والمثوبة. وفيه إشعار بأن العبد لا يجوز له أن يفتر عن ذكر ربه في أي شغل وعمل كان، ولو أن رجلا أقبل من المغرب إلى المشرق منفقا أمواله لله، والآخر من المشرق إلى المغرب ضاربا بسيفه في سبيل الله كان الذاكر لله أعظم أجرا. وقيل: المراد من هذا الذكر أن يدعو على العدو: اللهم اخذلهم اللهم اقطع دابرهم ونحو ذلك والأولى حمله على العموم وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سائر ما يأمر به لأن الجهاد لا ينفع إلا مع التمسك بسائر الطاعات وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا منصوب بإضمار «أن» أو مجزوم لدخوله في حكم النهي ويظهر التقدير «أن» في قوله وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ على القراءتين. والريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها وتمشيته على وفق المشيئة بالريح وهبوبها. يقال: هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره. وقيل: الريح حقيقة ولم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله. وفي الحديث: «نصرت بالصبا» «1» حذرهم التنازع واختلاف الرأي نحو ما وقع لهم بأحد بمخالفتهم رسول الله. احتج نفاة القياس بالآية لأن القول به يفضي غالبا إلى النزاع المنهي عنه. وكذا القائلون: بأن النص لا يجوز تخصيصه بالقياس. قال أهل السير: إن أهل مكة حين نفروا لحماية العير أتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة أن ارجعوا فقد سلمت عيركم، فأبى أبو جهل وقال: حتى نقدم بدرا نشرب بها الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب. فوافوها فسقوا كؤوس   (1) رواه البخاري في كتاب الاستسقاء باب 26، كتاب بدء الخلق باب 5. مسلم في كتاب الاستسقاء حديث 17. أحمد في مسنده (1/ 223، 228، 341) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان فنهى الله المؤمنين أن يكونوا مثلهم بطرين مرائين بأعمالهم كإطعام الطعام ونحوه فقال وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ الآية. وصفهم بأوصاف ثلاثة: أولها: البطر وهو الطغيان في النعمة ويقال أيضا شدّة المرح. والتحقيق إن النعم إذا كثرت من الله على العبد فإن صرفها في مرضاته وعرف حق الله فيها فذاك هو الشكر وإن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمكاثرة على أبناء الزمان فذاك هو البطر. وثانيها: رئاء الناس وهو القصد إلى إظهار الجميل مع قبح النية وفساد الطوية، أو هو إظهار الجميل مع قبح النية وفساد الطوية، أو هو إظهار الطاعة مع إبطان المعصية كما أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطال الكفر. وثالثها قوله وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يمنعون عن قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم. قال الواحدي: معناه وصدا عن سبيل الله ليكون عطفا للاسم على الاسم، أو يكون الكل أحوالا على تأويل بطرين مرائين صادّين أو يبطرون ويراءون ويصدّون. واعترض عليه في التفسير الكبير بأنه تارة يقيم الاسم مقام الفعل والأخرى بالعكس ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها، وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبر عن الأولين بالمصدر وعن الثالث بالفعل. ثم ذكر السبب فقال: إن أبا جهل ورهطه كانوا مجبولين على البطر والرياء فذكرا بلفظ الاسم تنبيها على أصالتهم فيهما، وأما الصدّ فإنما حصل في زمان ادعاء محمد النبوة فذكر بلفظ الفعل الدال على التجدد. قلت: لو جعلنا قوله وَيَصُدُّونَ عطفا على صلة «الذين» لم يحتج إلى هذه التكلفات التي اخترعها الإمامان. وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ فيه زجر عن التصنع والافتخار، ويعلم منه أن المعصية مع الانكسار أقرب إلى الخلاص من الطاعة مع الاستكبار. وَإِذْ زَيَّنَ معناه واذكر إذ زين أو هو معطوف على ما قبله من النعم وأقربها قوله وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ وفي هذا التزيين وجهان: أحدهما. أن الشيطان زين بوسوسته من غير أن يتمثل بصورة إنسان وهو قول الحسن والأصم. وفي الكشاف: زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجرئهم. فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم أي بطل كيده حين نزلت جنود الله. وثانيهما: أنه ظهر في صورة إنسان وذلك أن المشركين حين أرادوا المسير إلى بدر ذكروا الذي بينهم وبين بني كنانة من الحرب فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني وكان من أشرافهم في جند من الشياطين معه راية وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ أي لا غالب كائن لكم ولو كان لكم مفعولا بمعنى لا غالب إلا إياكم لانتصب كما يقال لا ضاربا زيدا. وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ أي مجيركم من بني كنانة أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 من كل عدوّ يعرض من البشر. ومعنى الجار هاهنا الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما يدفع الجار عن الجار. فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي التقى الجمعان بحيث رأت كل واحدة الأخرى نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ والنكوص الإحجام عن الشيء أي رجع. وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ قيل: كانت يده في يد الحرث بن هشام فلما نكص قال له الحرث إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحالة فقال إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ أي من نزول الملائكة ودفع في صدر الحرث وانطلق وانهزموا، فلما بلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم، فلما أسلموا علموا أنه الشيطان. وفي الحديث: «ما رؤي إبليس يوما أصغر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رأى يوم بدر» «1» . وأما قوله إِنِّي أَخافُ اللَّهَ فقد قيل: إنه لما رأى جبريل خافه، وقيل: لما رأى الملائكة ينزلون من السماء خافهم لأنه ظن أن الوقت الذي أنظر إليه قد حضر. قال قتادة: صدق في قوله إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ وكذب في قوله: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وقوله وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ يجوز أن يكون من بقية حكاية كلام إبليس، ويجوز أن يكون اعتراضا وظرفه إِذْ يَقُولُ أو لا ظرف له وإِذْ يَقُولُ ينتصب بذكر على أنه كلام مبتدأ منقطع عما قبله ولهذا فقد العاطف. والْمُنافِقُونَ قوم من الأوس والخزرج بالمدينة وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يجوز أن يكون من صفة المنافقين وأن يراد قوم من قريش أسلموا وما قوي الإسلام في قلوبهم ولم يهاجروا. ثم إن قريشا لما خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أولئك نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا، وقال محمد بن إسحق: ثم قتلوا جميعا مع المشركين يوم بدر. غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ قال ابن عباس: معناه أنه خرج بثلاثمائة وثلاثة عشر إلى زهاء ألف وما ذلك إلا لأنهم اعتمدوا على دينهم. وقيل: المراد أن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت. ثم قال جوابا لهم وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ يكل أمره إليه ويثق بفضله فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب يسلط الضعيف القليل على القوي الكثير حَكِيمٌ يوصل العذاب إلى أعدائه والرحمة إلى أوليائه. التأويل: وَاعْلَمُوا يا أهل الجهاد الأكبر أَنَّما غَنِمْتُمْ عند رفع الحجب من أنوار المشاهدات وأسرار المكاشفات فلكم أربعة أخماسه تعيشون بها مع الله وتكتمونها عن الأغيار وتنفقون خمسها في الله مخلصا وللرسول متابعا وَلِذِي الْقُرْبى يعني الإخوان في   (1) رواه مالك في الموطأ في كتاب الحج حديث 245. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 الله مواصلا وَالْيَتامى يعني أهل الطلب من الذين غاب عنهم مشايخهم قبل بلوغهم إلى حد الكمال وَالْمَساكِينِ الذين تمسكوا بأيدي الإرادة بأذيال إرشادكم وَابْنِ السَّبِيلِ يعني الصادر والوارد من الصدق والإرادة مراعيا جانب كل طائفة على حسب صدقهم وإرادتهم واستعدادهم. إن كنتم وصلتم في متابعة الرسول إلى الإيمان بالله عيانا وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا في سفر فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10] يَوْمَ الْفُرْقانِ الذي فيه الرحمن علم القرآن يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع الصفات الإنسانية وجمع الأخلاق الربانية فصار لمحمد صلى الله عليه وسلم مع الله خلوة لا يتبعه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على أن يوصلكم في متابعة رسوله إلى هذا المقام وهو الفناء عن الوجود والبقاء بالمعبود إِذْ أَنْتُمْ أيها الصادقون في الطلب بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا نازلة وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى أي الأرواح بأقصى عالم الملكوت بارزة وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني الهياكل والقوالب في أسفل سافلي الطبيعة. وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أيها الأرواح والنفوس والأجساد لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ لما بينكم من التباين والتضاد وَلكِنْ جمعكم الله بالقدرة والحكمة لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وهو إيصال كل شخص إلى رتبته التي استعد لها لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ عن حجة ثابتة عليه وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ فالأشقياء يبقون في سجين الطبيعة ونار القطيعة، وأما السعداء فأرواحهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، قال ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً [الفجر: 28] ونفوسهم مع الملائكة المقربين كما قال فَادْخُلِي فِي عِبادِي [الفجر: 29] وأبدانهم في جنات النعيم كما قال وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر: 30] إِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ لمن دعاه للوصول والوصال بالغدو والآصال عَلِيمٌ بمن يستحق الإذلال أو يستأهل الإجلال إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا مع كثرتهم في الصورة ليدل على قلتهم في المعنى لَفَشِلْتُمْ على عادة طبع الإنسان وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ من الخوف البشري وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لأنهم نظروا إليكم بالأبصار الظاهرة فلم يدركوا كثرة معناكم ومددكم بالملائكة. وإِذا لَقِيتُمْ فِئَةً هي النفس وهواها والشيطان وأعوانه والدنيا وزينتها فَاثْبُتُوا على ما أنتم عليه من اليقين والصدق والإخلاص والطلب وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا من ديار أوصافهم وتركوا الدنيا وداروا البلاد وزاروا العباد ليتباهوا بذلك على الإخوان والأقران. وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فظنوا أنهم بلغوا مبلغ الرجال وأنه لا يضرهم التصرف في الدنيا وارتكاب بعض المنهيات بل ينفعهم في نفي الرياء والعجب إذ هو طريق أهل الملامة. فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ فئة الأرواح والقلوب وفئة النفوس وصفاتها وأمد الله تعالى فئة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 الأرواح والقلوب بالأوصاف الملكية والواردات الربانية حتى انقادت النفوس لها نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ زهق باطله وصار مخالفا للنفس كما قال إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ، إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ لأنه يرى بنظر الروحانية تجلي الأنوار الربانية من القلوب، ولو وقع على الشيطان من ذلك تلألؤ لأحرقه ولهذا قال إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وفيه إشارة إلى أنه غير منقطع الرجاء من رحمة الله إنه أرحم الراحمين. [سورة الأنفال (8) : الآيات 50 الى 66] وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) القراآت: تتوفى بتاء التأنيث: شامي. الباقون: بالتذكير وَلا يَحْسَبَنَّ بياء الغيبة: ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص والمفضل. الآخرون: بتاء الخطاب. إِنَّهُمْ بالفتح: ابن عامر لِلسَّلْمِ بكسر السين: أبو بكر وحماد تُرْهِبُونَ بالتشديد: رويس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 الباقون: بالتخفيف من الإرهاب وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ بالياء التحتانية: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بالتاء الفوقانية وَعَلِمَ مبنيا للمفعول ضعفاء بالمد جمعا: يزيد وقرأ حمزة وعاصم غير المفضل وخلف لنفسه ضَعْفاً بفتح الضاد. الآخرون بالضم. فإن لم يكن منكم مائة بالتحتانية: عاصم وحمزة وعلي وخلف. الوقوف: كَفَرُوا لا لأن فاعل يَتَوَفَّى الملائكة. وما قيل إن المتوفي هنا الله غير صحيح لاختلال النظم وفساد المعنى لأن الكفار لا يستحقون أن يتوفاهم الله بلا واسطة. وَأَدْبارَهُمْ ج لحق الإضمار أي يقولون ذوقوا الْحَرِيقِ هـ لِلْعَبِيدِ هـ لا لتعلق الكاف فِرْعَوْنَ لا للعطف. مِنْ قَبْلِهِمْ ط بِذُنُوبِهِمْ ط الْعِقابِ هـ بِأَنْفُسِهِمْ لا لعطف «أنّ» على «أنّ» عَلِيمٌ هـ لا للكاف مِنْ قَبْلِهِمْ ط بِآياتِ رَبِّهِمْ ج لاختلاف الجملتين من الفاء آلِ فِرْعَوْنَ ج لأن الواو تصلح للاستئناف والحال ظالِمِينَ هـ لا يُؤْمِنُونَ هـ ج لاحتمال الوصف واحتمال النصب والرفع على الذم لا يَتَّقُونَ هـ يَذَّكَّرُونَ هـ عَلى سَواءٍ ط الْخائِنِينَ هـ سَبَقُوا ط لمن قرأ إِنَّهُمْ بالكسر لا يُعْجِزُونَ هـ مِنْ دُونِهِمْ ج لاحتمال الجملة بعده الوصف والاستئناف لا تَعْلَمُونَهُمُ ج لذلك يَعْلَمُهُمْ ط لا تُظْلَمُونَ هـ عَلَى اللَّهِ ط الْعَلِيمُ هـ حَسْبَكَ اللَّهُ ط بَيْنَ قُلُوبِهِمْ الأول ط بَيْنَهُمْ ط حَكِيمٌ هـ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هـ عَلَى الْقِتالِ ط مِائَتَيْنِ ج لابتداء الشرط مع العطف لا يَفْقَهُونَ هـ ضَعْفاً ج مِائَتَيْنِ ج بِإِذْنِ اللَّهِ ط الصَّابِرِينَ هـ. التفسير: لما شرح أحوال هؤلاء الكفار في حياتهم شرح أحوالهم حين وفاتهم. وجواب «لو» محذوف، وترى في معنى الماضي الخاصية «لو» ، وكذا يَتَوَفَّى لخاصية «إذ» وإذ نصب على الظرف قاله في الكشاف. ويمكن أن يكون مفعولا به والمعنى لو رأيت أو عاينت أو شاهدت وقت قبض الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمرا فظيعا. يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ قال مجاهد: يريد بالأدبار الأستاه ولكن الله كريم يكني. وفي تخصيص العضوين بالضرب نوع من الخزي والنكال. وعن ابن عباس: المراد ما أقبل منهم وما أدبر. وذلك أن المشركين كانوا إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف، وإذا ولّوا ضربوا أدبارهم فلا جرم قابلهم الله بمثله في وقت خروج أرواحهم. ومعنى عَذابَ الْحَرِيقِ مقدمة عذاب النار أو عذاب النار نفسها في الآخرة تبشيرا لهم بذلك. وعن ابن عباس أن معهم مقامع من حديد كلما ضربوا بها التهبت النار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 قوله ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ الآية قد مر تفسيرها في آخر آل عمران، ويحتمل أن تكون هنا حكاية كلام الملائكة. ولما بين سبحانه ما أنزله بأهل بدر من الكفار عاجلا أم آجلا ذكر أن هذه سنة في فرق الكفرة كلهم فقال كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ يريد أن عادتهم وعملهم الذي داموا عليه كعادة آل فرعون فجوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي أولئك بالإهلاك والإغراق. ثم ذكر ما يجري مجرى العلة في العقاب الذي أنزله بهم فقال ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ حذف النون لكثرة الاستعمال. ومعنى الآية أن ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله لم يستقم في حكمته وتدبيره أن يغير نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بهم من الأحوال والأخلاق. والغرض أن آل فرعون ومشركي مكة قد فتح الله عليهم أبواب الخيرات وأزال الموانع وسهل السبل ومنّ عليهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل، ثم إنهم قابلوا هذه النعم بالكفر والفسوق والعصيان فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ للأقوال عَلِيمٌ بالأحوال فيجزي كل فريق بما يستأهله. ثم ذكر مرة أخرى قوله كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وفي التكرير بعد التأكيد فوائد استنبطها العلماء منها أن الثاني كالتفصيل للأول لأن الإغراق كالبيان للأخذ بالذنوب. ومنها أن الأول لعله في حال الموت والثاني لما بعد الموت. قلت: ويشبه أن يكون بالعكس لأن الإهلاك والإغراق بحال الموت أنسب. ومنها أن الأول إخبار عن عذاب لم يمكن الله أحدا من فعله وهو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند نزع أرواحهم. والثاني إخبار عن عذاب مكن الناس من فعل مثله وهو الإهلاك والإغراق. ومنها أن المراد في الأول كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ فيما فعلوا وفي الثاني كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ فيما فعل بهم فهم فاعلون في الأول ومفعولون في الثاني. ومنها أن المراد بالأول كفرهم بالله، وبالثاني تكذيبهم الأنبياء لأن التقدير: كذبوا الرسل برد آيات ربهم. ومنها أن يجعل الضمير في كَفَرُوا وكَذَّبُوا لكفار قريش أي كفروا بآيات الله كدأب آل فرعون، وكذبوا بآيات ربهم كدأب آل فرعون. ومنها أن الأول إشارة إلى أنهم أنكروا دلائل الإلهية فكان لازمه الأخذ، والثاني إشارة إلى أنهم أنكروا دلائل التربية والإحسان فكان لازمه الإهلاك والإغراق. ثم ختم الآية بقوله وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ أي وكل واحد من غرقى القبط وقتلى قريش وممن قبلهم من الكفرة كانوا ظالمي أنفسهم بالكفر والمعاصي، وظالمي غيرهم بالإيذاء والإيحاش، فلا جرم دمرهم الله بسبب ظلمهم. ثم خص من الظلمة سرهم فقال إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ الآية. جعلهم شر الدواب لأن شر الناس الكفار وشر الكفار المصرون منهم وأشار إلى هذا بقوله فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وشر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 المصرين الناكثون للعهود وأشار إليهم بقوله الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ و «من» للتبعيض ومفعول عاهَدْتَ محذوف أي الذين عاهدتهم وهم بعض أولئك الكفرة يعني الأشراف الذين معهم تليق المعاهدة ثُمَّ يَنْقُضُونَ عطف المستقبل على الماضي لفائدة الاستمرار وأن من شأنهم نقض العهد فِي كُلِّ مَرَّةٍ من مرات المعاهدة. ومعنى «ثم» تبعيد النقض عن المعاهدة. قال ابن عباس: هم بنو قريظة نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا عليه المشركين بالسلاح يوم بدر وقالوا: قد نسينا وأخطأنا ثم عاهدهم فنكثوا وأعانوا عليه يوم الخندق وَهُمْ لا يَتَّقُونَ عاقبة الغدر وما فيه من العار والنار. ثم أمر رسوله بالمخاشنة معهم والغلظة عليهم جزاء على قبح فعلهم وسوء عقيدتهم فقال فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ تصادفنهم وتظفرن بهم في الحرب فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ والتشريد التفريق مع الاضطراب أي ففرق عن محاربتك من وراءهم. وقال عطاء: معناه أكثر فيهم القتل حتى يخافك غيرهم. والضمير في لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ لمن خلفهم لأنه إذا نكل بالناكثين وقتلهم شر قتلة لن يجسر عليه أحد بعدهم اتعاظا بحالهم وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ معاهدين خِيانَةً ونكثا بأمارات تلوح لك فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ فاطرح إليهم العهد عَلى سَواءٍ على طريق مستو قصد أي أخبرهم أخبارا مكشوفا بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك. وقيل: على استواء في العلم بنقض العهد. وقيل: على استواء في العداوة. قال في الكشاف: الجار والمجرور في موضع الحال كأنه قيل: فانبذ إليهم ثابتا على طريق قصد سوي، أو حاصلين على استواء في العلم، أو العداوة على أنها حال من النابذ والمنبوذ إليهم معا. قلت: ويحتمل أن يكون حالا من المنبوذ أي حال كون المنبوذ وهو العهد واقعا على طريق واضح فيكون كناية عن تحقير شأن العهد إذ ذاك، أو عن انكشاف حاله في النبذ. قال أهل العلم: إن آثار نقض العهد إذا ظهرت فإما أن تظهر ظهورا محتملا أو ظهورا مقطوعا به. فإن كان الأول وجب الإعلام به كما هو مذكور في الآية. وذلك أن قريظة عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وآله خوف الغدر منهم به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم على سواء ويؤذنهم بالحرب، أما إذا ظهر نقض العهد ظهورا قطعيا فلا حاجة إلى نبذ العهد إليهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد. ثم بيّن حال من فاته في يوم بدر ولم يتمكن من التشفي منه والانتقام كيلا يبقى حسرة في قلبه فقد كان فيهم من بلغ في أذيته مبلغا عظيما فقال وَلا يَحْسَبَنَّ من قرأ بتاء الخطاب فمفعوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 الأول الَّذِينَ كَفَرُوا وثانيه سَبَقُوا أي فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ كل من المكسورة والمفتوحة تعليل له إلا أن المكسورة على طريقة الاستئناف كأن سائلا سأل ما لهم لا يحسبون سابقين؟ فأجيب بما أجيب. والمفتوحة تعليل صريح والجار محذوف أي لأنهم يعجزون الله من الانتقام منهم ولا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم. أو عجزت فلانا وعجزته جعلته أو وجدته عاجزا. والمراد لا تحسبنهم أنهم لما تخلصوا من الأسر والقتل يوم بدر فقد تخلصوا من العقاب عاجلا أم آجلا. ومن قرأ بالياء التحتانية تذكر فيه وجوها منها «أن» فاعله الَّذِينَ كَفَرُوا ومفعولاه سَبَقُوا على أن الأصل أن سبقوا فحذفت «أن» كقوله وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ ويؤيده قراءة ابن مسعود أنهم سبقوا. ومنها أن الفعل وقع على أنهم لا يعجزون على أن لا صلة وسبقوا في موضع الحال. ومنها أن المفعول الأول محذوف للعلم به والتقدير لا يحسبنهم أو لا يحسبن أنفسهم الذين كفروا وسبقوا. ومنها أن فاعله محذوف أي لا يحسبن قبيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا. ثم إنه لما أنفق لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا آلة وعدة، أمرهم الله أن لا يعودوا لمثله ويتأهبوا لقتال الأعداء فقال وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ عن عكرمة: هي الحصون. وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال: إلا إن القوة الرمي قالها ثلاثا ومات عقبة عن سبعين قوسا في سبيل الله والأصح أنها عامة في كل ما يتقوى به في الحرب من آلة وعدّة. وقوله صلى الله عليه وسلم: «القوة الرمي» «1» كقوله: «الحج عرفة» «2» وفيه تنبيه على أن المذكور جزء شريف في جملة المقصود وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ هو اسم للخيل التي تربط في سبيل الله الخمس فما فوقها. ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصال وفصيل، والظاهر أنه بمعنى المرابطة. ويجوز أن يكون قوله وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تخصيصا للخيل من بين ما يتقوّى به كقوله وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فلا ريب أن ربط الخيل من أقوى آلات الجهاد. روي عن ابن سيرين أنه سئل عمن أوصى بثلث ماله في الحصون فقال: يشتري به الخيل فتربط في سبيل الله ويغزي عليها. فقيل له: إنما أوصى في الحصون. فقال: ألم تسمع قول الشاعر:   (1) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 167. أبو داود في كتاب الجهاد باب 23. الترمذي في كتاب تفسير سورة 8 باب 5. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 19. الدارمي في كتاب الجهاد باب 14. أحمد في مسنده (4/ 157) . (2) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة البقرة باب 22. أبو داود في كتاب المناسك باب 68. ابن ماجة في كتاب المناسك باب 57. الدارمي في كتاب المناسك باب 54. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 ولقد علمت على توقّي الردى ... أن الحصون الخيل لا مدر القرى وعن عكرمة أن الخيل هاهنا الإناث لأنها أولى بالربط لتفيد النسل. وقيل: هي الفحول لأنها أقوى على الكر والفر. والظاهر العموم. ثم ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء فقال تُرْهِبُونَ بِهِ أي بما استطعتم عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ لأن الكفار إذا علموا تأهب المسلمين للقتال لم يجسروا عليهم وخافوهم وربما يدعوهم ذلك إلى الانقياد والطاعة وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ يريد بالأوّلين أهل مكة وبالآخرين اليهود على قول ولكنه لا يجاريه قوله لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ والمنافقين على قول. واعترض عليه بأنهم لا يرهبون لانخراطهم في سلك المسلمين ظاهرا. وأجيب بأن الخائن خائف فكلما اشتدت شوكة المسلمين ازداد المنافقون في أنفسهم خوفا ورعبا فربما يدعوهم ذلك إلى الإخلاص. وعن السدي: هم أهل فارس. وروي ابن جريج عن سليمان بن موسى أنهم كفرة الجن وجاء في الحديث إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ولا دارا فيها فرس عتيق وروي أن صهيل الخيل يرهب الجن. وقيل: المراد بالآخرين أعداء المرء من دينه فإن المسلم قد يعاديه مسلم آخر. ثم رغبهم في الإنفاق في باب الجهاد فقال وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي ثوابه وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا. ثم رخص في المصالحة إن مال الأعداء إليها فقال وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ الآية جنح له وإليه جنوحا إذا مال. وإنما قيل فَاجْنَحْ لَها لأن السلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب، أو بتأويل الخصلة أو الفعلة. عن ابن عباس ومجاهد أن الآية منسوخة بقوله قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [التوبة: 29] وبقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] والأولى أن يقال: إنها ثابتة فليس بحتم أن يقاتل المشركون أبدا، أو يجابوا إلى الهدنة أبدا، وإنما الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وذويه، فإذا رأى الصلاح في الصلح فذاك. والمصلحة قد تظهر عند ضعف المسلمين إما لقلة العدد أو لقلة المال وبعد العدوّ وقد تكون مع القوة للطمع في إسلامهم أو قبولهم الجزية إذا خالطوا المسلمين أو بأن يعينوه على قتال غيرهم. وأما مدة المهادنة فإذا لم يكن بالمسلمين ضعف ورأى الإمام الصلاح في المهادنة فقد قال الشافعي يهادون أربعة أشهر فما دونها لقوله تعالى فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة: 2] وذلك كان في أقوى ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك. وإن كان بالمسلمين ضعف جازت الزيادة بحسب الحاجة إلى عشر سنين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حين صالح أهل مكة بالحديبية على وضع القتال عشر سنين. إلا أنهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 نقضوا العهد قبل كمال المدة وإن نقضت المدة والحاجة باقية استأنف العقد. ثم قال وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله ليكون عونا لك على السلامة وينصرك عليهم. إذا نقضوا العهد وعدلوا عن الوفاء كما كان من شأن قريظة والنضير. وعن مجاهد نزلت فيهم إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ للأقوال الْعَلِيمُ بالأحوال. وفيه زجر عن نقض الصلح ما أمكن. ثم ذكر حكما من أحكام المهادنة فقال وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ محسبك وكافيك اللَّهُ والمعنى أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة وجب قبول ذلك الصلح لأن الحكم فيه يبنى على الظاهر كما أن أصل الإيمان مبني على الظاهر. ولا تنافي بين هذه الآية وبين ما تقدم من قوله وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ [الأنفال: 58] لأن هذه المخادعة محمولة على أمور خفية تدل على الغل والنفاق، وذلك الخوف محمول على أمارة قوية يدل على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة. ثم أكد كون الله تعالى كافيا له بقوله هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ أي من غير واسطة أسباب معتادة. وَبِالْمُؤْمِنِينَ أي بوساطة الأنصار. ثم بين أنه كيف أيده بالمؤمنين فقال وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ قال جمع من المفسرين: هم الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك أشرافهم ودق جماجمهم، فرفع الله تعالى ذلك بلطيف صنعه، والأولى حمله على العموم والتأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية والانطواء على الضغائن في الأمور المستحقرة لم تكد تأتلف أهواؤهم وينتظم شملهم، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله حتى بذلوا دونه المهج والأرواح والأموال فليس ذلك الأمن مقلب القلوب والأحوال. والتحقيق في الباب أن المحبة لا تحصل إلا عند تصور حصول خير من المحبوب. ثم إن كان سبب انعقاد المحبة أمرا سريع التغير كالمال أو الجاه أو اللذة الجسمانية كانت تلك المحبة بصدد الزوال والاضمحلال، فالمعشوق يريد العاشق لماله، والعاشق يحب المعشوق لاستيفاء لذة بهيمية، فمهما حصل مرادهما كانا متحابين ومتى لم يحصل عادا متباغضين وإن كان سبب انعقاد المودة كمالا حقيقيا روحانيا دائما لم يتصور لها تغير وزوال. ثم إن العرب كانوا قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم مقبلين على المفاخرة والتسابق في المال والجاه والتعصب والتفرق، فلا جرم كانوا متحابين تارة ومتباغضين أخرى، فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى عبادة الله تعالى والإعراض عن الدنيا والإقبال على تحصيل السعادة الأبدية الروحانية توحد مطلبهم وصاروا إخوانا متراحمين متحابين في الله ولله. إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي قادر قاهر على تقليب القلوب والدواعي فاعل لكل ما يفعل على وجه الإحكام والإتقان أو على حسب المصالح على اختلاف القولين في مسألة الجبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 والقدر. قال القاضي: لولا ألطاف الله تعالى ساعة فساعة لما حصلت هذه الأحوال. ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته، وأجيب بأنه عدول عن الظاهر والآية صريحة في أن العقائد والإرادات والكراهات كلها بخلق الله تعالى وإيجاده، اللهم يا مصرف القلوب ومقلبها ثبت قلبي على دينك ووفقني لمتابعة نبيك إنك قادر على ما تشاء ولا يكون إلا ما تشاء. ثم إنه سبحانه لما وعد نبيه النصر والكفاية عند مخادعة الأعداء وعده النصر والكفاية على الإطلاق فقال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ومحل وَمَنِ اتَّبَعَكَ منصوب بمنزلة «زيدا» في قولك «حسبك وزيدا درهم» قال الفراء: وليس بكثير في كلامهم أن يقولوا حسبك وأخيك بل المستعمل أن يقال: حسبك وحسب أخيك بإعادة الجار. فلو كان قوله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مجرورا لقيل حسبك وحسب من اتبعك. ومعنى الآية كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصرا. وجوّز أن يكون محل الرفع أي كفاك الله وكفاك المؤمنون فيكون كقوله هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ويؤكده ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم أسلم عمر فصاروا أربعين فأنزل الله تعالى الآية. ثم بيّن سبحانه أن كفايته مشروطة بالجد والاجتهاد في الجهاد فقال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ والتحريض في اللغة كالتحضيض وهو الحث على الشيء. وذكروا في اشتقاقه أنه من الحرض وهو الإشراف على الهلاك من شدّة الضنى كأنه ينسبه إلى الهلاك لو تخلف عن المأمور، أو كأنه يأمره أن يبالغ فيه وفي تحصيله حتى يدنو من التلف. وفي قوله إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ عدّة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم بعون الله وتأييده. واعترض عليه بأنه يلزم منه أن لا يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين، ويمكن أن يجاب بعد تسليم وقوع مثل ذلك أن الخلل لعله يكون من فقدان الشرط وهو الصبر. قال بعض العلماء: هذا خبر في معنى الأمر كقوله وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ [البقرة: 233] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [البقرة: 228] بدليل قوله الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ والنسخ أبدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر، أو من جهة تعريف الخبر وإقحام الفصل. قال الفراء: قد جمع بين «إما» و «أن» في هذه الآية بخلاف قوله وإِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ لأن الفعل هاهنا في موضع أمر بالاختيار أعني في موضع نصب كقول القائل: اختر ذا أو ذا. كأنهم قالوا: اختر أن تلقى بخلاف تلك الآية فإن الأمر لا يصلح هناك. قال موسى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 للسحرة ألقوا ما ترغبون فيه ازدراء بشأنهم وقلة مبالاة وثقة بأن الأمر الإلهي يغلب ولن بالكفر كفر. فالجواب من وجوه: أحدها: أنه إنما أمرهم بشرط أن يعلموا في فعلهم أن يكون حقا فإذا لم يكن كذلك فلا أمر البتة كقول القائل: اسقني الماء من الجرة. فهذا إنما يكون أمرا بشرط حصول الماء من الجرة. والثاني: أن موسى علم أنهم جاءوا لذلك فلا بد أن يفعلوه ودفع النزاع في التقديم والتأخير. الثالث: أنه أذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليتمكن من الإقدام على إبطاله كمن يريد سماع شبهة ملحد ليبحث عنها ويكشف عن ضعفها يقول له: هات وقل ومراده أن يجيب عنها ويبين لكل أحد ضعفها وسقوطها فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الأعراف: 116] قال القاضي: لو كان السحر حقا لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم فثبت أنهم خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه. وقال الواحدي: بل المراد أنهم قلبوا الأعين عن صحة إدراكها بسبب تلك التمويهات. وروي أنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا الزئبق دواخل العصي فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض فخيل إلى الناس أنها تسعى وَاسْتَرْهَبُوهُمْ [الأعراف: 116] أي أرهبوهم والسين زائدة كأنهم استدعوا رهبتهم. وقال الزجاج: اشتدت رهبة الناس فبعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك أيها الناس احذروا فهذا هو الاسترهاب وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 116] كما زعموا أن ذلك سحر لا يطيقه سحرة أهل الأرض. عن ابن عباس أنه خيل إلى موسى عليه السلام أن حبالهم وعصيهم حيات مثل عصا موسى فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن الق عصاك. وفي رواية الواحدي عنه أن المراد بالوحي هاهنا الإلهام وهاهنا إضمار والتقدير: فألقاها فإذا هي تلقف. قال الجوهري: لقفت الشيء بالكسر ألقفه وتلقفته أيضا تناولته بسرعة و «ما» في ما يأفكون موصولة أو مصدرية بمعنى ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزوّرونه، أو أفكهم نحوه ودنوت منه وجدت القشعريرة فقال لي: من الرجل؟ قلت له: من العرب سمعت بك وبجمعك ومشيت معه حتى إذا تمكنت منه قتلته بالسيف وأسرعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أني قتلته فأعطاني عصاه وقال: أمسكها فإنها آية بيني وبينك يوم القيامة. وقال عكرمة: إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين فلما كثروا خفف الله عنهم ولهذا قال ابن عباس: أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر، فإن فر من اثنين فقد فر. والحاصل أن الجمهور ادّعوا أن قوله الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ناسخ لحكم الآية المتقدمة وأنكر ذلك أبو مسلم الأصفهاني قال: لأن لفظ الآية ورد على الخبر. سلمنا أنه بمعنى الأمر لكن لم قلتم إن التقدير ليكن العشرون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 يغلب فإن قيل: إن إلقاءهم الحبال والعصي معارضة المعجز بالسحر وذلك كفر والأمر صابرين في مقابلة المائتين، ولم لا يجوز أن يكون المراد إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين فليشتغلوا بجهادهم، وإذا كان الشرط غير حاصل في حق هؤلاء لقوله وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم فلا يتصور النسخ. ولفظ التخفيف لا يقتضي ورود التثقيل قبله لأن مثل هذا الكلام قد تقوله العرب ابتداء. ومما يدل على عدم النسخ تقارن الآيتين، والناسخ يجب أن يكون بعد المنسوخ بزمان. وهذا حاصل قول أبي مسلم وهو إنما يستحق الجواب لو لم يحصل قبله إطباق على حصول هذا النسخ والله تعالى أعلم. ومعنى قوله وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ظهر معلومه فلا يبقى لهشام حجة في مذهبه أنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا بعد وقوعها. والمراد بالضعف قبل الضعف في البدن وقيل في البصيرة والاستقامة في الدين وكانوا متفاوتين في ذلك. والظاهر أن المراد الضعف الإنساني المذكور في قوله وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النساء: 28] . التأويل: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ لأن الكافر ذاهب عن الدنيا مع تعلقه بها فيحصل له ألم من جهة الخلف ويقبل على الآخرة ولا نور له يبصر به ما أمامه فيحصل له تألم من قدام ولَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً مبدلا حسن تقديم واستعداد أعطاهم الله بضده حَتَّى يُغَيِّرُوا بالكفر والتكذيب ما بِأَنْفُسِهِمْ من نعم الاستعداد الفطري الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ يا روح في الأزل لأن نورك وصفتك غلب على ظلمة النفس وصفاتها فَشَرِّدْ يا روح بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ أي بالغ في تبديل صفات النفس وفي تزكيتها بحيث يؤثر نور تبدلها في الصفات التي وراءها فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ أي أظهر عداوتك معهم وَجاهِدْهُمْ أنهم لا يعجزون أي النفوس الكافرة تحت تصرفي فلا تقنطوا من رحمتي في إصلاح حالهم من قوة الروح وغلبات صفاتها وإعداده بمداومة الذكر وقطع التعلق وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ومن ربط القلب بطريق المراقبة لئلا يلتفت إلى الدنيا وزينتها تُرْهِبُونَ بالذكر والمراقبة عَدُوَّ اللَّهِ الشيطان وَعَدُوَّكُمْ النفس والهوى وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ من نفوس شياطين الإنس لا تَعْلَمُونَهُمُ أنهم عدوّكم من الأحباب والأصدقاء والأقرباء اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ أنهم عدوّ لكم كقوله إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ [التغابن: 14] وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ من شهوات النفس ولذاتها وزينتها بطريق الذكر والمراقبة يُوَفَّ إِلَيْكُمْ فوائد من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بين الروح والقلب والسر وبين النفس وصفاتها. لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ وجودك من السعي والجد والاجتهاد لما بين الروح النوراني والنفس الظلماني من التضاد وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بين الروح والنفس وبين القلب والقالب ليكون الشخص الإنساني طلسما على كنز وجوده لم يكسر الطلسم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 للوصول إلى الكنز والله أعلم. [سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 75] ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) القراآت: أن تكون بالتاء الفوقانية: أبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد أسارى يزيد والمفضل. الآخرون أَسْرى من الأسارى. يزيد أبو عمرو والمفضل. الباقون من الأسرى. مِنْ وَلايَتِهِمْ بكسر الواو حمزة. والباقون: بفتحها. الوقوف: فِي الْأَرْضِ ط لتقدير الاستفهام أي أتريدون الْآخِرَةَ ط حَكِيمٌ هـ عَظِيمٌ هـ وَاتَّقُوا اللَّهَ ط رَحِيمٌ هـ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ط رَحِيمٌ هـ مِنْهُمْ ط حَكِيمٌ هـ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ط حَتَّى يُهاجِرُوا ج مِيثاقٌ ط بَصِيرٌ هـ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ط كَبِيرٌ هـ حَقًّا ط كَرِيمٌ هـ مِنْكُمْ ط فِي كِتابِ اللَّهِ ط عَلِيمٌ هـ. التفسير: هذا حكم آخر من أحكام الجهاد ومعنى ما كان ما صح وما استقام والإثخان كثرة القتل وإشاعته من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة والمعنى فيه تذليل الكفر وإضعافه وإعزاز الإسلام وإظهاره بإشاعة القتل في الكفرة. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسبعين أسيرا- فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب- فاستشار أبا بكر. فيهم فقال: قومك وأهلك فاستبقهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك. وقال عمر: كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء، مكن عليا من عقيل وحمزة من العباس ومكني من فلان لنسيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 له فلنضرب أعناقهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله ليليّن قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم: 36] ومثلك يا عمر مثل نوح قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] ثم قال لأصحابه: أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق. وروي إنه قال لهم: إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدّتهم. فقالوا: بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد وكان فداء الأسارى عشرين أوقية وفداء العباس أربعين أوقية. وعن محمد بن سيرين كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهما. وروي أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال: يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال: أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه. وروي أنه قال: لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر. وسعد بن معاذ لقوله: كان الإثخان في القتل أحب إليّ. واعلم أن الطاعنين في عصمة الأنبياء عليهم السلام تمسكوا في هذا المقام بوجوه: الأول: وَما كانَ لِنَبِيٍّ صريح في النهي وقد حصل الأسر بدليل قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى. الثاني: أنهم أمروا بالقتل يوم بدر في قوله فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ فكان الأسر معصية. وأجيب بأن قوله حَتَّى يُثْخِنَ يدل على أن الأسر كان مشروعا ولكن بشرط الإثخان ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقا عظيما فلعل العتاب إنما ترتب لأن الإثخان أمر غير مضبوط فظنوا أن ذلك القدر من القتل بلغ حد الإثخان فأخطأوا في الاجتهاد وكان قوله فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ تكليفا مختصا بحالة الحرب فلم يتناول الأسر بعد انهزام الكفار. الثالث: قالوا: الحكم بأخذ الفداء معصية وإلا لم يتوجه الذم في قوله تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا أي حطامها سمي بذلك لأنه سريع الزوال كالعرض قسيم الجوهر وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أي ثوابها أو ما هو سبب الجنة وهو إعزاز الإسلام بإشاعة القتل في أعدائه. وقرىء بجر الآخرة أي عرض الآخرة على التقابل. وَاللَّهُ عَزِيزٌ يغلب أولياؤه على أعدائه ويقهرونهم ويلجئونهم إلى القتل والفداء بعد الأسر ولكنه حَكِيمٌ لا يرخص في أخذ الفداء إلا بعد إفشاء القتل في الأعداء. والجواب أن كل ذلك محمول على ترك الأولى وكذا الكلام في قوله لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أي لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح وهو أنه لا يعاقب أحدا يخطىء في الاجتهاد لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم وتوبتهم وحصول أولاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 منهم مسلمين، وإن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله، وخفي عليهم أن قتلهم أعزّ للإسلام وأهيب لمن وراءهم. قال ابن عباس: هذا الحكم إنما كان يوم بدر لأن المسلمين كانوا قليلين فلما كثروا وقوي إسلامهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: 4] قال بعض العلماء: هذا الكلام يوهم أن مقتضى الآيتين مختلف وليس كذلك فإن كلتاهما تدل على أنه لا بد من تقديم الإثخان على الداء. وعن سعيد بن جبير لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ بأنه سيحل لكم الفدية وكأن قرب الوقت من التحليل يوجب تخفيف العقاب. وقال محمد بن إسحق لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أنه لا يعذب أحدا إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي. وحاصل هذا القول يرجع إلى ترك الأولى ذلك أن الأولى وغير الأولى يشتركان في كونهما مباحين وإنما يعاتب على ترك الأولى لا على سبيل العقوبة بل على سبيل الحث على فعل الأولى. وعن بعضهم المراد حكم الله بأنه لا يعذب من شهد بدرا. واعترض بأنه يلزم أن لا يكونوا مكلفين. والجواب أن عدم العقاب على الذنب لا يوجب عدم التكليف فلعل التكليف لأجل زيادة الثواب. وقيل: لولا كتاب سبق بالعفو عن هذه الواقعة لكان استحقاق مس العذاب حاصلا. روي أنهم أمسكوا عن الغنائم أو عن أخذ الفداء لأنه من جملة الغنائم فنزلت فَكُلُوا والفاء للتسبيب ومعنى الآية قد أبحت لكم الغنائم فكلوا وحَلالًا نصب على الحال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلا حلالا وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما يستقبل فلا تقدموا على شيء لم تؤمروا به إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فرط منكم من ترك الأولى رَحِيمٌ فبذلك رخص لكم فيما رخص من أخذ الفداء ثم قال لاستمالة قلوب الأسارى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ إن يظهر معلومه أن فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً وهو الإيمان والعزم على طاعة الله وطاعة رسوله في جميع التكاليف والتوبة عن الكفر وعن جميع المعاصي ويدخل فيه العزم على نصرة الرسول والتوبة عن محاربته يُؤْتِكُمْ في الدنيا خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من المنافع العاجلة وَيَغْفِرْ لَكُمْ في الآخرة، أو المراد بالخير إيصال الثواب وبالمغفرة إزالة العقاب. ثم إنا قد نعلم أن كل من خلص من الأسر وآمن فقد آتاه الله في الدنيا خيرا لدلالة الآية على ذلك إجمالا، وذلك الخير إن كان دينيا فلا شك أن كلهم قد وجدوا ذلك لأن قليل الدنيا مع الإيمان أعظم من كثير الدنيا مع الكفر، وإن كان دنيويا فتفضيل ذلك غير معلوم إلا ما روي عن بعضهم كالعباس روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله وكان يقول: هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 المغفرة. وقال ابن عباس: نزلت الآية في العباس وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث. وكان العباس أسر يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر فلم تبلغه النوبة حتى أسر فقال العباس. كنت مسلما إلا أنهم استكرهوني فقال صلى الله عليه وسلم: إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا. قال العباس: وكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يترك ذلك الذهب عليّ فقال: أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا. قال: وكلفني الرسول صلى الله عليه وسلم فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية وفداء نوفل بن الحرث. فقال العباس: تركتني يا محمد أتكفف قريشا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: لا أدري ما يصيبني في وجهي فإن حدث فيّ حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل. فقال العباس: وما يدريك؟ قال: أخبرني به ربي. قال العباس: فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتابا في أمرك فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب. قال العباس: فأبدلني الله خيرا من ذلك لي الآن عشرون عبدا إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا، وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جمع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي. ثم قال وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ أي نكث ما بايعوك عليه، روي أنه صلى الله عليه وسلم لما أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا يعودوا إلى محاربته وإلى معاضدة المشركين كما هو العادة فيمن يطلق من الحبس والأسر. وقيل: المراد من الخيانة منع ما ضمنوا من الفداء. فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه. فَأَمْكَنَ أي المؤمنين مِنْهُمْ يوم بدر قتلا وأسرا فذاقوا وبال أمرهم فسيمكن المؤمنين منهم مرة أخرى إن أعادوا الخيانة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم حَكِيمٌ فيجازيهم على حسب أعمالهم. واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ظهرت نبوته بمكة ودعا الناس هناك إلى الدين ثم انتقل منها إلى المدينة، فمن المؤمنين من وافقه في الهجرة وهم المهاجرون الأولون، ومنهم من لم يوافقه في ذلك، ومنهم من هاجر بعد هجرته فذكر في خاتمة هذه السورة أحكام هذه الأصناف وأحوالهم مع ذكر أنصاره بالمدينة ومع ذكر الكفار أيضا فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ويدخل فيه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والانقياد لجميع التكاليف وَهاجَرُوا فارقوا الأوطان وتركوا الأقارب والجيران في طلب مرضاة الله وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أما المجاهدة بالأموال فلأنهم إذا فارقوا الديار ضاعت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 مساكنهم ومزارعهم وضيعاتهم وبقيت في أيدي الأعداء واحتاجوا إلى الإنفاق في تلك العزيمة والسفرة وفي الغزوات والمحاربات، وأما المجاهدة بالأنفس فيكفي في وصف ذلك أنهم أقدموا على قتال أهل بدر من غير آلة ولا عدّة والأعداء في غاية الكثرة ونهاية الشدّة، وذلك يدل على أنهم أزالوا أطماعهم عن الحياة وبذلوا أرواحهم في سبيل الله وكانوا أول الناس إقداما على هذه الأفعال والتزاما لهذه الخصال، ولهذه المسابقة أثر عظيم في تقوية الدين لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا [الحديد: 10] وذلك أن غيرهم يقتدي بهم وتقوى دواعيهم بما يرون منهم، والمحن تخف على القلوب بالمشاركة، ولأن المهاجرين لهم سابقة في الإسلام ذكر الله تعالى الأنصار بعدهم فقال وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أي الذين أنزلوا المهاجرين بهم وجعلوا لهم مأوى أي نصروهم على أعدائهم أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أطبق جم غفير من المفسرين كابن عباس وغيره على أن المراد بهذه الولاية الإرث كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون القرابة حتى نسخ ذلك بقوله وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ واستبعد الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله هذا التفسير لأنه يستلزم النسخ واستلزام النسخ محذور منه ما أمكن، ولأن لفظ الولاية يشعر بالقرب حيث يطلق دون الإرث كقولهم: السلطان ولي من لا ولي له. وقال سبحانه أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [يونس: 62] فإذن المراد أن المهاجرين والأنصار يعظم بعضهم بعضا وبينهم معاونة وتناصر وأنهم يد واحدة على الأعداء، وأن حب كل واحد لغيره جار مجرى حبه لنفسه، أما قوله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فوجهت قراءة حمزة بأن تولي بعضهم بعضا شبه بالعمل والصناعة والتجارة والقصارة كأنه بتولية صاحبه يزاول أمرا ويباشر عملا. قال المفسرون: لا يجوز أن يكون المراد بهذه الولاية النصرة والمعونة وإلا لم يصح عطف وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ عليه لأن الشيء لا يعطف على مثله، فالمراد بها الإرث كما مر. وأجيب بأنا لو حملناهما على التعظيم زال الإشكال وحصل التغاير لأن أهل الإيمان قد ينصر بعض أهل الذمة في بعض الأحوال مع أنهم لا يوالونهم بمعنى الإجلال والتعظيم، وكذا قد ينصر المرء عبده ولا تعظيم جعل الله تعالى حكم هؤلاء المؤمنين متوسطا بين الأولين وبين الكفرة من حيث إنه نفى عنهم الولاية قبل أن يهاجروا وأثبت لهم النصرة عند الاستنصار إلا على الكفار المعاهدين لأنهم لا يبدأون بالقتال. ثم قال وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ظاهره إثبات الموالاة بينهم والغرض نهي المسلمين عن موالاتهم وإن كانوا أقارب، وأن يتركوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 يتوارث بعضهم بعضا. وفيه أن المشركين واليهود والنصارى لما اشتركوا في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم صارت هذه الجهة موجبة لانضمام بعضهم إلى بعض وقرب بعضهم من بعض وإن كان كل واحد منهم في نهاية الإنكار لصاحبه وذلك من أدل الدلائل أن تلك العداوة ليست لأجل الدين ولكنها محض الحسد والعناد، ومن جعل الولاية في هذه الآيات بمعنى الإرث استدل بذلك على أن الكفار في التوارث على اختلاف مللهم كأهل ملة واحدة، فالمجوسي يرث الوثني، والنصراني يرث المجوسي، واليهودي يرث النصراني وبالعكس. ثم قال إِلَّا تَفْعَلُوهُ أي ما أمرتكم به من موالاة المسلمين المهاجرين ومن عدم موالاة غير المهاجرين إلا في حالة الاستنصار ومن عدم موالاة الكفرة أصلا تَكُنْ فِتْنَةٌ أي تحصل مفاسد عظيمة فِي الْأَرْضِ من تفرق الكلمة واختلاط المؤمن بالكافر ووقوع الهرج والمرج. ثم كرر تعظيما لشأن المؤمنين وثناء عليهم قوله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا الآية. فوصفهم بأنهم هم المؤمنون حقا ولَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وقد تقدم تفسير مثله في أول السورة. والحاصل أن هذه السعادات العالية إنما حصلت لهم لأنهم أعرضوا عن اللذات الجسمانية فتركوا الأهل والوطن وبذلوا النفس والمال، وفيه تنبيه على أنه لا طريق إلى تحصيل السعادات إلا بالإعراض عن هذه الجسمانيات. ثم وصف اللاحقين بالهجرة بعد السابقين إليها فقال وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ نقل الواحدي عن ابن عباس: أن المراد بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية. وقيل: بعد نزول الآية. وقيل: بعد يوم بدر والأصح أن المراد والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ألحقهم بالأولين تشريفا للآخرين وتعظيما لشأن السابقين، ولولا كون القسم الأول أشرف لما صح هذا الإلحاق. ثم ختم الكلام بقوله وَأُولُوا الْأَرْحامِ أي ذوو القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ أي أحق بهم وأجدر فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكمه وقسمته أو في اللوح أو في القرآن وهو آية المواريث. وهذه الآية ناسخة عند الأكثرين للتوراث بالهجرة والنصرة، أما الذين فسروا تلك الولاية بالنصرة والمحبة والتعظيم فإنهم قالوا: لما كانت تلك الولاية مخالفة للولاية بسبب الميراث بيّن الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة ذلك الوهم أعني إزالة وهم من يجعل الولاية بمعنى الإرث. وقد تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في توريث ذوي الأرحام وهم ذوو قرابة ليست بسبب فرض ولا عصوبة أو كل قريب يخرج عن أصحاب الفروض والعصبات وإنهم عشرة أصناف: الجد أو الأم وكل جد وجدة ساقطين، وأولاد البنات، وبنات الإخوة، وأولاد الأخوات، وبنو الإخوة للأم والعم للأم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 وبنات الأعمام والعمات والأخوال والخالات. والخلاف في أنه إذا لم يوجد ذو فرض أو عصبة فهل يورث ذوو الأرحام أو يوضع المال في بيت المال؟ فقدمهم أبو حنيفة على بيت المال للآية، وعكس الشافعي وقال: إن الآية مجملة في الشيء الذي حصلت فيه هذه الأولوية فلما قال فِي كِتابِ اللَّهِ كان معناه في الحكم الذي بينه الله في كتابه فصارت هذه الآية مقيدة بأحكام آية الميراث فلا تبقى حجة في توريث ذوي الأرحام. واعلم أنه سبحانه قال في أول الآيات وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في براءة بتقديم فِي سَبِيلِ اللَّهِ لأن في هذه السورة تقدم ذكر المال والفداء والغنيمة في قوله تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وفي قوله لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ أي من الفداء وفي قوله فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ وفي براءة تقدم ذكر الجهاد في سبيل الله وهو قوله وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ [التوبة: 16] وفي قوله كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 19] ثم إنه حذف من الآية الثانية بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ اكتفاء بما في الأولى وحذف في الثالثة فِي سَبِيلِ اللَّهِ أيضا اكتفاء بما في الآيتين قبلها والله أعلم. ثم ختم السورة بقوله إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ والمراد أن هذه الأحكام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكم وصواب وصلاح وليس فيها عيب وعبث، لأن العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب ونظيره أن الملائكة لما قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها قال مجيبا لهم إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30] . التأويل: ما كانَ لِنَبِيٍّ الروح أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى أي نفس مأسورة وقوى موجهة إلى تدبير أمور المعاش والدعوة إلى الله وإن كان تصرفا بالحق للحق حتى يشيع في أرض البشرية قتل القوى والنفوس المنطبعة بسيف الرياضة والمجاهدة، لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الوحي يتحنث في غار حراء تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا وكل إلى نفسه وطبعه يكون مائلا إلى الدنيا راغبا فيها وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ منكم أي ليس الإنسان من سجيته وطبعه أن يميل إلى الآخرة إنما هو بتوفيق الله إياه وبعنايته الأزلية لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ بأن الإنسان لا يكون منجذبا نحو عالم الأرواح بالكلية وإنما يكون متوسطا بين العالمين مراعيا للطرفين لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ من فداء النفس المأسورة وهو التفاتها إلى تدبير البدن عَذابٌ عَظِيمٌ هو عذاب القطيعة والبعد عن عالم النور فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ من أوقات الجهاد الأكبر من الأنوار والأسرار عند رفع الأستار حَلالًا طَيِّباً نفوسكم عن لوث محبنها فكل ما يشغل المرء عن الالتفات إلى الله فهو شرك وصنم. وَاتَّقُوا اللَّهَ عما سواه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يستر بأنوار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 وجوده ظلمات وجودكم رَحِيمٌ بكم حيث يغنيكم عنكم ويبقيكم به. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى من النفوس المأسورة التي أسرت في الجهاد الأكبر عند استيلاء سلطان الذل عليها إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً من الاطمئنان إلى ذكر الله والانقياد لأحكامه يُؤْتِكُمْ خَيْراً مما أخذ منكم من اللذات الفانية وأسبابها وذلك هو البقاء الحقيقي والذوق السرمدي وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ يعني الميل إلى ما جبلت النفوس عليه من طموح إلى الزخارف الدنيوية فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ بالتجاوز عن حدود الشريعة ورسوم الطريقة فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ عند استيلاء الذكر عليها وقتلها بسيف الرياضة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالها حَكِيمٌ فيما دبر من أمر جهادها وتزكيتها. وَالَّذِينَ آوَوْا ذكر الله ومحبته في القلوب وَنَصَرُوا المحبة بالذكر الدائم والطلب القائم أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في المرافقة والموافقة في الطلب والسير إلى الله وَالَّذِينَ آمَنُوا بأن الطلب حق وَلَمْ يُهاجِرُوا عن أوصافهم وأفعالهم ووجودهم المجازي. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ تمسكوا بأذيال إرادة الواصلين منكم فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ بأن تدلوهم على طريق الحق بمعاملتكم وسيركم ليقتدوا بكم وبأحوالكم إِلَّا عَلى قَوْمٍ أي إلا على بعض أحوالكم مما سالحتهم عليه نفوسكم بعد ما جاهدتموها وأسرتموها وأمنتم شرها، فلا تدلوا الطلاب على هذه الأحوال لئلا يميلوا إلى الصلح في أوان الجهاد فَأُولئِكَ مِنْكُمْ يشير إلى أن المتأخرين إذا دخلوا في زمرة المتقدمين الواصلين فهم منهم وإنهم ذوو رحم الوصول لأنه ليس عند الله صباح ولا مساء ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «أمتي كالمطر لا يدري أوّلهم خير أم آخرهم» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 (سورة التوبة) (مدنية حروفها 10087 كلمها 2479 وآياتها 129) [سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 16] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 القراآت: وَرَسُولِهِ بالنصب: روح وزيد. الباقون: بالرفع. أَئِمَّةَ بهمزتين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام يدخل بينهما مدة. الباقون أيمة بهمز ثم ياء. لا أَيْمانَ بكسر الهمزة: ابن عامر. الباقون: بالفتح جمع يمين يعملون بياء الغيبة: عباس. الوقوف: مِنَ الْمُشْرِكِينَ ط مُعْجِزِي اللَّهِ لا للعطف الْكافِرِينَ هـ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لا للعطف وَرَسُولِهِ ط لَكُمْ ج لابتداء الشرط مع الواو مُعْجِزِي اللَّهِ ط أَلِيمٍ هـ للاستثناء مُدَّتِهِمْ ط الْمُتَّقِينَ هـ مَرْصَدٍ ج سَبِيلَهُمْ ط رَحِيمٌ هـ مَأْمَنَهُ ط لا يَعْلَمُونَ هـ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ج لأن «ما» للجزاء مع اتصالها بالفاء فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ط الْمُتَّقِينَ هـ وَلا ذِمَّةً ط قُلُوبُهُمْ ج فاسِقُونَ هـ ج لأن ما بعده يصلح وصفا واستئنافا. يَعْمَلُونَ هـ وَلا ذِمَّةً ط الْمُعْتَدُونَ هـ فِي الدِّينِ ط يَعْلَمُونَ هـ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ لا لتعلق «لعلهم» بقوله فَقاتِلُوا وما بينهما اعتراض يَنْتَهُونَ هـ أَوَّلَ مَرَّةٍ ط أَتَخْشَوْنَهُمْ ج لأن ما بعده مبتدأ مع الفاء مُؤْمِنِينَ هـ لا للعطف قُلُوبِهِمْ ط مَنْ يَشاءُ ط حَكِيمٌ هـ وَلِيجَةً ط تَعْمَلُونَ هـ. التفسير: قد عد في الكشاف من أسماء هذه السورة «براءة» وذلك واضح، و «التوبة» لأن فيها ذكر التوبة على المؤمنين و «المقشقشة» لأنها تقشقش من النفاق أي تبرئ منه و «المبعثرة» و «المثيرة» و «الحافرة» و «الفاضحة» و «المنكلة» و «المشردة» و «المخزية» و «المدمدمة» لأنها تبعثر عن أسرار المنافقين تبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها وتفضحهم وتنكلهم وتشرد بهم وتخزيهم وتدمدم عليهم. وعن حذيفة: إنكم تسمونها سورة التوبة وإنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحدا إلا نالت منه. وعن ابن عباس: ما زالت تقول وَمِنْهُمْ حتى حسبنا أن لا تدع أحدا. وللعلماء خلاف في سبب إسقاط التسمية من أولها. فعن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان في ذلك فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما نزلت عليه سورة يقول: ضعوها في موضع كذا، وكانت براءة آخر القرآن نزولا وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين موضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصة الأنفال فقرنت بينهما وكأنه أراد بالمشابهة. ما روي عن أبيّ بن كعب في الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذ العهود، فوضعت إحداهما بجنب الأخرى. واستبعد جمع من العلماء هذا القول لأنا لو جوّزنا في بعض السور أن لا يكون ترتيبها من الله على سبيل الوحي لجوزنا مثله في سائر السور وفي آيات السورة الواحدة وذلك يفضي إلى تجويز الزيادة والنقصان في القرآن على ما يقول به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 الإمامية. وقال بعض العلماء: إن الصحابة اختلفوا في أن «الأنفال» مع «التوبة» سورتان أم سورة واحدة لأنهما مائتان وست آيات فهما بمنزلة إحدى الطوال، وكلتاهما وردت في القتال والمغازي، فلمكان هذا الاختلاف فرجوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول إنهما سورتان، ولم تكتب البسملة تنبيها على قول من يرى أنهما واحدة فعملوا عملا يدل على أن هذا الاشتباه حاصل. وفيه أنهما لما لم يسامحوا بهذا القدر من الشبهة دل على أنهم كانوا متشددين في ضبط الدين وحفظ القرآن من التغيير والتحريف وذلك يبطل قول الإمامية، وفيه دليل على أن البسملة آية من كل سورة والإجازات كتابتها هاهنا بل عند كل مقطع كلام. وعن ابن عباس: سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذلك فقال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أما وأن هذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهود. وذكر سفيان بن عيينة هذا المعنى وأكده بقوله تعالى وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النساء: 94] فقيل له: أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل الحرب «بسم الله الرحمن الرحيم» ؟. فأجاب بأن ذلك ابتداء منه يدعوهم إلى الله ولم ينبذ إليهم عهدهم ولهذا قال في آخر الكتاب وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: 47] ومما يؤكد شبهة من زعم أنهما سورة واحدة هو أن ختم الأنفال وقع بإيجاب أن يوالي المؤمنون بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية، وقوله بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ تأكيد لذلك الكلام وتقرير له. ومعنى البراءة انقطاع العصمة وهي خبر مبتدأ محذوف وو «من» لابتداء الغاية متعلق بمحذوف لا بالبراءة لفساد المعنى. والمعنى هذه براءة واصلة من الله ورسوله إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ كما تقول: كتاب من فلان إلى فلان. ويجوز أن يكون بَراءَةٌ مبتدأ لتخصصها بصفتها هي الجار والمجرور كما قلنا والخبر محذوف كما ذكرنا نظيره قولك: رجل من بني تميم في الدار. كان قد أذن الله في معاهدة المشركين فاتفق المسلمون مع رسول الله وعاهدوهم فلما نقضوا العهد أوجب الله النبذ إليهم وكأنه قيل للمسلمين: اعلموا أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين. روي أنهم كانوا عاهدوا المشركين من غير أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا إلا ناسا منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة، فنبذ العهد إلى الناكثين وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين ساروا. والأشهر هي الحرم لقوله فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ والسياحة الضرب في الأرض والاتساع في السير والبعد عن المدن وموضع العمارة مع الإقلال من الطعام والشراب منه يقال للصائم سائح لتركه المطعم والمشرب. والمعنى في هذا الأمر إباحة الذهاب مع الأمان وإزالة الخوف. روي أن فتح مكة كان سنة ثمان من الهجرة وكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولّى عتاب بن أسيد الوقوف بالناس في الموسم، فاجتمع في تلك السنة في المواقف ومعالم الحج المسلمون والمشركون ونزلت هذه السورة سنة تسع، وكان أمر فيها أبا بكر على الموسم فلما نزلت السورة أتبعه عليا راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم فقيل له: لو بعثت بها إلى أبي بكر؟ فقال: لا يؤدي عني إلا رجل مني، فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور. وروي أن أبا بكر لما كان ببعض الطريق هبط جبريل عليه السلام وقال: يا محمد لا يبلغن رسالتك إلا رجل منك فأرسل عليا فرجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أشيء نزل من السماء؟ قال: نعم. فسر وأنت على الموسم وعلي ينادي بالآي. فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدّثهم عن مناسكهم وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم. فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية. وعن مجاهد ثلاث عشرة. ثم قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده. فقالوا عند ذلك: يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب السيوف. استدلت الإمامية بهذه القصة على تفضيل علي كرم الله وجهه وعلى تقديمه. وأجاب أهل السنة بأنه أمر أبا بكر على الموسم وبعث عليا خلفه لتبليغ هذه الرسالة حتى يصلي علي خلف أبي بكر ويكون ذلك جاريا مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر. وأما قوله: «لا يبلغ عني إلا رجل مني» فذلك لأن المتعارف بين العرب أنه إذا عقد السيد الكبير منهم لقوم حلفا أو عاهد عهدا لم يحل ذلك العهد إلا هو أو رجل من ذوي قرابته كأخ أو عم. فلو تولاه أبو بكر لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما يعرف فينافي نقض العهد فأزيلت علتهم بتولية ذلك عليا. وقيل: لما أحضر أبا بكر لتولية أمر الموسم أحضر عليا لهذا التبليغ تطبيبا للقلوب ورعاية للجوانب. ولنرجع إلى التفسير. قال ابن الأنباري: في الكلام إضمار التقدير: فقل لهم سيحوا. ويكون ذلك رجوعا من الغيبة إلى الحضور كقوله وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً [الدهر: 21، 22] واختلفوا في الأشهر الأربعة.. فعن الزهري أن براءة نزلت في شوال والمراد شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. وقيل: هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر. وكانت حرما لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم، أو سميت حرما على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها. وقيل: ابتداء المدّة من عشر ذي القعدة إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 عشر من ربيع الأول لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة. قال المفسرون: هذا تأجيل من الله للمشركين فمن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر حطت إلى أربعة ومن كانت مدته أقل رفعت إليها. والمقصود من هذا التأجيل أن يتفكروا في أنفسهم ويحتاطوا في الأمر ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا أحد أمور ثلاثة: الإسلام أو قبول الجزية أو السيف. فيصير ذلك حاملا لهم على قبول الإسلام ظاهرا وإلى هذا المعنى أشار بقوله وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ولكن لمصلحة ولطف ليتوب من تاب، وفيه ضرب من التهديد كأنه قيل: افعلوا في هذه المدة كل ما أمكنكم من إعداد الآلات والأدوات فإنكم لا تفوتون الله وهو مخزيكم أي مذلكم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب. وقوله مُخْزِي الْكافِرِينَ من باب الالتفاف من الحضور إلى الغيبة. ومن وضع الظاهر موضع المضمر ليكون فيه إشارة إلى أن سبب الإخزاء هو الكفر. ثم أراد أن يعلم جميع الناس البراءة المذكورة فقال وَأَذانٌ وارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها. وخطىء الزجاج في قوله «إنه معطوف على براءة» لأنه لو عطف عليها لكان هو أيضا مخبرا عنه بالخبر الأوّل وهو إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ لكنه غير مقصود بل المقصود الإخبار عنه بقوله إِلَى النَّاسِ والأذان اسم بمعنى الإيذان الإعلام كالأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء ومنه أذان الصلاة. أمر الله تعالى بهذا الإعلام يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وهو الجمع الأعظم الذي حضر فيه المؤمن والمشرك والعاهد الناكث وغير الناكث ليصل الخبر إلى جميع الأطراف ويشتهر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يحج في السنة الآتية فأمر بإظهار هذه البراءة لئلا يحضر الموقف غير المؤمنين الموحدين وقيل: يوم الحج الأكبر يوم عرفة لأن فيه أعظم أعمال الحج وهو الوقوف بعرفة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة» «1» وهو قول عمر وسعيد بن المسيب وابن الزبير وعطاء وطاوس ومجاهد وإحدى الروايتين عن علي عليه السلام وابن عباس ورواية المسوّر بن مخرمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة فقال: أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر. وقال ابن عباس في رواية عطاء: هو يوم النحر. ووافقه قول الشعبي والنخعي والسدي والمغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير. وذلك أن معظم أفعال الحج من الطواف والحلق والرمي والنحر يقع فيه. ومثله ما روي عن علي رضي الله عنه أن رجلا أخذ بلجام دابته فقال: ما يوم الحج الأكبر؟ فقال: يومك هذا خلّ عن دابتي يعني يوم النحر. وعن ابن   (1) المصدر السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: هذا يوم الحج الأكبر. قال ابن جريج عن مجاهد: يوم الحج الأكبر أيام منى كلها وهو قول سفيان الثوري. وكان يقول: يوم الحج الأكبر أيامه كلها كيوم صفين ويوم الجمل يراد به الحين والزمان، لأن كل حرب من هذه الحروب دامت أياما كثيرة. وعلى هذا فقد وصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر. وقيل: الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد. عن مجاهد أيضا: هذا وقد حذفت الباء التي هي صلة الأذان تخفيفا والتقدير أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وقوله وَرَسُولِهِ بالرفع مبتدأ محذوف الخبر أي ورسوله أيضا كذلك، أو هو معطوف على المنوي في بَرِيءٌ أي بريء هو ورسوله. وجاز العطف من غير تأكيد بالمنفصل للفصل. وقرىء بالجر على الجوار أو على أن الواو للقسم كقوله سبحانه لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر: 72] والفرق بين قوله بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وبين قوله أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ أن المقصود من الكلام الأول هو الإخبار بثبوت البراءة، والمقصود من هذا الثاني إعلام جميع الناس بما حصل وثبت. وأيضا المراد بالأول البراءة من العهد، وبالثاني البراءة التي هي نقيض الموالاة، ولهذا لم يصف المشركين ثانيا بوصف معين كالمعاهدة تنبيها على أن الموجب لهذه البراءة وهو كفرهم وشركهم ولهذا أتبعه قوله فَإِنْ تُبْتُمْ أي عن الشرك فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وفيه ترغيب في التوبة والإقلاع الموجب لزوال البراءة وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن التوبة أو بقيتم على التولي والإعراض عن الإيمان والوفاء فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ فائتين أخذ الله وعقابه. قال بعض العلماء: قوله سبحانه فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ليس بتكرار لأن الأول للمكان والثاني للزمان. وَبَشِّرِ يا محمد أو يا من له أهلية الخطاب. وفيه من التهكم والتهديد ما فيه كيلا يظن أن عذاب الدنيا لو فات وزال خلصوا من العذاب بل العذاب الشديد معدّ لهم يوم القيامة. أما قوله إِلَّا الَّذِينَ قد قال الزجاج: إن الاستثناء يعود إلى قوله بَراءَةٌ والتقدير: براءة من الله ورسوله إلى المشركين المعاهدين إلا الذين لم ينقضوا العهد. وقال في الكشاف: وجهه أن يكون مستثنى من قوله فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ لأن الكلام خطاب للمسلمين والتقدير: فقولوا لهم سيحوا إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم. وقيل: استثناء من قوله إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ ومعنى لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً لم يقتلوا منكم أحدا ولم يضروكم قط. ومعنى لَمْ يُظاهِرُوا لم يعاونوا أي لم يقدموا على المحاربة بأنفسهم ولم يهيجوا أقواما آخرين. وقرىء ينقضوكم بالضاد المعجمة أي لم ينقضوا عهدكم. ومعنى فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ أدوه إليهم تاما كاملا. قال ابن عباس: بقي لحي من كنانة من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم. ثم ختم الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعني أن قضية التقوى أن لا يسوى بين القبيلين ولا يجعل الوفي كالغادر، ومن جملة الغادرين بنو بكر عدوا على خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهرتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشد: لا هم إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيك الأتلدا إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ذمامك المؤكدا هم بيتونا بالحطيم هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا فقال صلى الله عليه وسلم: لا نصرت إن لم أنصركم ومعنى ناشد محمدا أذكر له الحلف والعهد لأنه كان بين أبيه عبد المطلب وبين خزاعة حلف قديم. والأتلد الأقدم. ثم بين حكم انقضاء أجل الناكثين فقال فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أي التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا. وانسلاخ الشهر تكامله جزءا فجزءا إلى أن ينقضي كانسلاخ الجلد عما يحويه، شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه فكلاهما ظرف فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ يعني الناقضين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ من حل أو حرم وفي أي وقت كان. وَخُذُوهُمْ وأسروهم والأخيذ الأسير وَاحْصُرُوهُمْ امنعوهم من التصرف في البلاد وقيدوهم. وقال ابن عباس: حصرهم أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام. وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أي في كل ممر ومجاز ترقبوهم هناك. وانتصابه على الظرف كما مر في قوله لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف: 16] فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ إن حصلوا على شروطها فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ المراد من التخلية الكف عنهم وإطلاقهم من الأسر والحصر عن البيت الحرام، أو عن التصرف في مهماتهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهم ما سلف لهم من الكفر والغدر. قال الشافعي: إنه تعالى أباح دماء الكفار بجميع الطرق والأحوال ثم حرمها عند التوبة عن الكفر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فما لم يوجد أحد هذه الأمور لم يوجد هذا المجموع، فوجب أن تبقى إباحة الدم على الأصل. فتارك الصلاة يقتل، ولعل أبا بكر استدل بمثل ذلك على جواز قتال مانعي الزكاة. وحمل أكثر الأئمة الإقامة والإيتاء هاهنا على اعتقاد وجوبهما والإقرار بذلك وإن كان له وجه عدول عن الظاهر. وعن الحسن أن أسيرا نادى بحيث يسمع النبي صلى الله عليه وسلم أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد ثلاثا. فقال صلى الله عليه وسلم: «عرف الحق لأهله فأرسلوه» . قال بعض العلماء: ذكر التوبة هاهنا عبارة عن تطهير القوة النظرية عن الجهل، وذكر الصلاة والزكاة عبارة عن تطهير القوة العملية عما لا ينبغي، ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 ريب أن كمال السعادة منوط بهذا المعنى جعلنا الله من أهلها. لما أوجب الله سبحانه بعد انسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين دل ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم وأن ما ذكره الرسول قبل ذلك من أنواع الدلائل والبينات كفي في إزاحة علتهم فينتج ذلك أن أحدا من المشركين لو طلب الدليل والحجة يلتفت إليه بل يطالب إما بالإسلام أو بالجزية أو بالقتل، فأزال الله تعالى بكمال رأفته هذه الشبهة فقال وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ الآية. قال علماء العربية: ارتفع أَحَدٌ بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره: وإن استجارك أحد استجارك. كرهوا الجمع بين المفسر والمفسر فحذفوا المفسر. والغرض بناء الكلام على الإبهام ثم التفسير من حيث إنّ «إن» من مظان وقوع الفعل بعده. وأيضا ذكر الفاعل هاهنا أهم لما بينا أن ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم المشرك فقدم ليدل على مزيد العناية بصون دمه عن الإهدار. يقال: استجرت فلانا أي طلبت منه أن يكون جارا لي أي محاميا وحافظا من أن يظلمني ظالم، ومنه يقال: أجاره الله من العذاب أي أنقذه. والمعنى وإن جاءك أحد من المشركين بعد انسلاخ الأشهر لا عهد بينك وبينه. فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن فأمنه حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ سماع تدبر وتأمل ثُمَّ أَبْلِغْهُ داره التي يأمن فيها إن لم يسلم ثم قاتله إن شئت فيها، وفيه أن المقصود من شرع القتل قبول الدين والإقرار بالتوحيد وأن النظر في دين الله من أعلى المقامات فإن الكافر الذي دمه مهدر لما أظهر من نفسه كونه طالبا للنظر والاستدلال زال ذلك الإهدار ووجب على الرسول أن يبلغه مأمنه، أما زمان مهلة النظر فليس في الآية ما يدل على ذلك ولعله مفوّض إلى اجتهاد الإمام، فمتى ظهر على ذلك المشرك علامات كونه طالبا للحق باحثا عن وجه الاستدلال أمهل وترك، ومتى ظهر عليه كونه معرضا عن الحق دافعا للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه وأبلغ المؤمن. ويشبه أن يقال: المدة أربعة أشهر وهو الصحيح من مذهب الشافعي. والمذكور في الآية كونه طالبا لسماع القرآن إلا أنه ألحق به كونه طالبا لسماع الدلائل والجواب الشبهات لأنه تعالى علل وجوب الإجارة بكونه غير عالم حيث قال في آخر الآية ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ فكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت إجارته. وفي سماع كلام الله وجوه: قيل أراد جميع القرآن لأن تمام الدلائل والبينات فيه. وقيل: سماع سورة براءة لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين والأولى حمله على كل الدلائل، وإنما خص القرآن بالذكر لأنه الكتاب الحاوي لمعظم الدلائل. واعلم أن الأمان قد يكون عاما يتعلق بأهل إقليم أو بلدة أو ناحية وهو عقد المهادنة ويختص بالإمام وقد مر في تفسير قوله تعالى وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 وقد يكون خاصا يتعلق بأفراد الكفار وهذا يصح من الولاة ومن آحاد المسلمين أيضا وهذا مقصود الآية وإنه ثابت غير منسوخ. روي عن سعيد بن جبير أن رجلا من المشركين جاء إلى علي رضي الله عنه فقال: أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال: «لا» . واستدل بالآية. وعن السدي والضحاك هو منسوخ بقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وشرط الأمان الإسلام والتكليف فيصح من العبد والمرأة والفاسق. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يسعى بذمتهم أدناهم» «1» وعن أم هانىء قالت: أجرت رجلين من أحمائي فقال صلى الله عليه وسلم: «أمنا من أمنت» . ويعتبر أن الإسلام والتكليف الاختيار فلا يصح أمان المكره على عقد الأمان، وينعقد الأمان بكل لفظ مفيد للغرض صريحا كقوله: أجرتك أو لا تخف، وكناية كقوله: أنت على ما تحب أو كن كيف شئت، ومثله الكتابة والرسالة والإشارة المفهمة. روي عن عمر أنه قال: والذي نفسي بيده لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى مشرك فنزل على ذلك ثم قتله لقتلته. هذا إذا دخل الكافر بلا سبب أما إذا دخل لسفارة فلا يتعرض له، وكذا إذا دخل لسماع الدلائل وقصد التجارة لا يفيد الأمان إلا إذا رأى الإمام مصلحة في دخول التجار. وحكم الأمان إذا انعقد عصمة المؤمن من القتل والسبي فإن قتله قاتل ضمن بما يضمن له الذمي، ولا يتعدى الأمان إلى ما خلفه في دار الحرب من أهل ومال، وأما الذي معه منهما فإن وقع التعرض لأمانه اتبع الشرط وإلا فالأرجح أن لا يتعدى الأمان إلى ذلك. وقد بقي في الآية مسألة أصولية هي أن المعتزلة استدلوا بالآية على أن كلام الله تعالى هو هذه الحروف المسموعة ويتبع ذلك أن يكون كلامه محدثا لأن دخول هذه الحروف في الوجود على التعاقب. وأجيب بأن هذه المسموعة فعل الإنسان وليست هي التي خلقها الله تعالى أوّلا عندكم فعلمنا أن هذا المسموع ليس كلام الله بالاتفاق فيجب ارتكاب التجوز البتة، ونحن نحمله على أنها هي الدالة على الكلام النفسي فلهذا أطلق عليها أنها كلام الله كما أن الجبائي قال: إن كلام الله شيء مغاير لهذه الحروف والأصوات وهو باق مع قراءة كل قارئ. وزعم بعض الناس حين رأوا أنه تعالى جعل كلامه مسموعا أن هذه الحروف والأصوات قديمة ليلزم قدم كلامه تعالى وفيه ما فيه، ثم أكد المعاني المذكورة من أول السورة إلى هاهنا فقال على سبيل الاستنكار والاستبعاد كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ المرفوع اسم كان وفي خبره   (1) رواه البخاري في كتاب الجزية باب 10، 17. كتاب الاعتصام باب 5. مسلم في كتاب العتق حديث 20. أبو داود في كتاب المناسك باب 95. الترمذي في كتاب الولاء باب 3. النسائي في كتاب القسامة باب 10، 14. ابن ماجه في كتاب الديات باب 31. أحمد في مسنده (2/ 398) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 ثلاثة أوجه: الأول كَيْفَ وقدم للاستفهام، الثاني لِلْمُشْرِكِينَ وعند على هذين ظرف للعهد أو ليكون أو للجار أو هو وصف للعهد. الثالث الخبر عِنْدَ اللَّهِ ولِلْمُشْرِكِينَ تبيين أو متعلق ب يَكُونُ وكَيْفَ حال من العهد يعني محال أن يثبت لهؤلاء عهد وهم أضداد لكم يضمرون الغدر في كل عهد، فلا تطعموا في الوفاء منهم ولا تتوانوا في قتلهم. ثم استثنى منهم المعاهدين عند المسجد الحرام الذين لم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة ثم بيّن حكمهم فقال فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ في «ما» وجهان: أحدهما أن تكون زمانية وهي المصدرية على التحقيق أي استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم. الثاني شرطية أي إن استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فيه إشارة إلى أن الوفاء بالعهد والاستقامة عليه من أعمال المتقين. ثم كرر الاستبعاد فقال كَيْفَ وحذف الفعل لكونه معلوما أي كيف يكون لهم عهد وَحالهم أنهم إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي يغلبوكم، ويظفروا بكم وذلك أن الغلبة من الكمال عند الشخص وكل من تصور في نفسه كمالا فإنه يريد أن يظهر ذلك لغيره فأطلق الظهور على الغلبة لكونه من لوازمها لا يَرْقُبُوا لا يراعوا فِيكُمْ ولا ينتظروا بكم إِلًّا وَلا ذِمَّةً قال في الصحاح: الأل العهد والقرابة. ووجه ذلك في الكشاف بأن اشتقاقه من الأل هو الجؤار والأنين لأنهم إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم، وسميت به القرابة لأنها تعقد بين الرجلين ما لا يعقده الميثاق. وفي الصحاح أيضا أن الأل بالكسر من أسماء الله عزّ وجلّ. وفي الكشاف أنه قرىء «إيلا» بمعناه. وقيل: جبرئيل وجبرئلّ من ذلك. وقيل: منه اشتق الأل بمعنى القرابة كما اشتقت الرحم من الرحمن. قال الزجاج: الأل عندي على ما توجبه اللغة يدور على معنى الحدّة من ذلك الألة الحربة، وأذن مؤللة محدّدة. ومعنى العهد والقرابة غير خارج من ذلك، والذمة العهد وجمعها ذمم وذمام وهو كل أمر لزمك وكان بحيث لو ضيعته لزمك مذمة. وقال أبو عبيدة: الذمة ما يتذمم منه أي ما يجتنب فيه الذم. قال في الكشاف يُرْضُونَكُمْ كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرر لاستبعاد الثبات منهم على العهد وإباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل. ثم قال سبحانه وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ عن ابن عباس: لا يبعد أن يكون بعض هؤلاء الكفار قد أسلم وتاب فلهذا لم يحكم بالفسق على الكل. والظاهر أنه أراد أن أكثرهم فساق في دينهم لا يتحرزون عن الكذب ونقض العهد الذي هو مذموم في جميع الأديان والنحل اشْتَرَوْا استبدلوا بِآياتِ اللَّهِ بالقرآن أو بالإسلام ثَمَناً قَلِيلًا هو اتباع الأهواء فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ فصرفوا عنه غيرهم وعدلوا هم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 أنفسهم. قال مجاهد: أراد الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم. وقيل: يبعد أن يراد طائفة من اليهود الذين أعانوا المشركين على نقض العهود، فإن هذا اللفظ من القرآن كالأمر المختص باليهود ولأنه وصفهم بقوله لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ولو أراد المشركين كان تكرارا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ المتجاوزون حدود الله في دينه وما يوجبه العهد والعقد. ثم قال فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فإن كان هذا في اليهود وما ذكره قبل في الكفار فلا تكرار، وإن كان كلاهما في الكفار فجزاء الأول تخلية سبيلهم وجزاء الثاني قوله فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم فِي الدِّينِ فلم يكن من التكرار في شيء. قال ابن عباس: حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة: وَنُفَصِّلُ الْآياتِ نبينها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لأنهم هم المنتفعون بالبيان. وهذه جملة معترضة تفيد الحث على التأمل في أحكام المشركين وعلى المحافظة على مواردها وَإِنْ نَكَثُوا يعني هؤلاء التائبين أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ أي من بعد إسلامهم حتى يكونوا مرتدين، أو المراد نكث المشركين عهودهم ومواثيقهم. والنكث نقض طاقات الخيط من بعد برامه. وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ثلبوه وعابوه فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ هي جمع إمام وأصلها «أأممة» كمثال وأمثلة نقلت حركة الميم إلى الهمزة وأدغمت الميم في الميم، وهو من وضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أن من كان بهذه المثابة من الغدر وقلة الوفاء وعدم الحياء فهو عريق في الكفر متقدم فيه لا يشق كافر غباره. وقيل: خص سادتهم بالذكر لأن من سواهم يتبعهم لا محالة. ثم أبدى غرض القتال بقوله لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ليعلم أن الباعث على قتالهم هو ردهم إلى طاعة معبودهم رحمة عليهم لا أمر نفساني وداع شهواني ووسط بين الأمر بالقتال وبين الحامل عليه قوله إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ تنبيها على العلة الفاعلية للقتال، أثبت لهم الأيمان أوّلا في الظاهر حيث قال وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ثم نفاها عنهم في الحقيقة لأن إيمانهم ليست مما يعد أيمانا إذ لم يوفوا بها. وبهذا تمسك أبو حنيفة في أن يمين الكافر لا تكون يمينا، وعند الشافعي يمينهم يمين لأنه تعالى وصفها بالنكث ولو لم تكن منعقدة لم يتصور نكثها. ومن قرأ لا أَيْمانَ لهم بالكسر أي لا إسلام لهم أو لا يعطون الأمان بعد الردة والنكث فظاهر. قال العلماء: إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعنا ظاهرا جاز قتله لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة. ثم شرع في ذكر سائر الأسباب المحرّضة على القتال فقال أَلا تُقاتِلُونَ قال أهل المعاني: إذا قلت: ألا تفعل كذا. فإنما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده. وإذا قلت: ألست تفعل فإنما تقول فى ذلك في فعل تحقيق وجوده. والفرق أن «لا» ينفي بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 المستقبل فإذا دخلت عليه الألف صار تحضيضا على فعل ما يستقبل و «ليس» مستعمل في نفي الحال فإذا دخلت عليه الألف صار لتحقيق الحال. قال ابن إسحق والسدي والكلبي: نزلت فى كفار مكة نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة وهموا بإخراج الرسول من مكة حتى هاجر أو من المدينة. يريد اليهود هموا بإخراجه منها ونكثوا عهده وظاهروا أبا سفيان عليه صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب. وقيل: همت قريش يوم الحديبية بأن يدخلوه صلى الله عليه وسلم مكة ثم يخرجوه قبل أن يتم حجه استخفافا به صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا أريد بالهم العزم على الفعل وإن لم يوجد وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بالقتال يعني يوم بدر لأنهم حين سلم العير قالوا: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا ومن معه. أو المراد أنهم قاتلوا حلفاءه من خزاعة، أو المراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم أولا بالكتاب المنير وتحداهم به فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى المقاتلة والبادئ أظلم. والحاصل أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء للقتال حقيق بأن لا تترك مقاتلته وأن يوبخ من فرط فيها. ثم زاد في التوبيخ فقال فيه أَتَخْشَوْنَهُمْ تقريرا للخشية منهم وتقوية لداعية القتال كما إذا قلت للرجل: أتخشى خصمك لأنه يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفا من خصمه. ثم بيّن ما يجب أن يكون الأمر عليه قائلا فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا الله، لأن قدرته أتم وعقابه أشدّ بل لا قدرة إلا له ولا يكون إلا ما يريد. وفي الفاء نوع من تعليل لأن الاستفهام في معنى النهي كأنه قيل: لا تخشوهم لأن الله أحق بالخشية وأحرى بالطاعة، وفيه نوع مجازاة كأنه قيل: إن صح أنكم مؤمنون فلا تخشوا إلا الله. ثم زاد في تأكيد الأمر بالقتال فقال قاتِلُوهُمْ ورتب عليه خمس نتائج: الأولى: قوله يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ أي القتل والأسر واغتنام الأموال، وهذا لا ينافي وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] لأنه أراد هناك عذاب الاستئصال. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على أن الذي يدخل في الوجود من الأفعال كلها من الله يظهرها على أيدي العباد. واعترض الجبائي بأنه لو كان كذلك لجاز أن يقال: كذب الله أنبياءه على لسان الكفرة. وأجيب بأن الأمر كذلك عندنا إلا أنا لا نقوله رعاية للأدب كما لا يقال يا خالق الخنافس والحشرات. وكما أنكم لا تقولون يا مسهل أسباب الزنا واللواط ويا دافع الموانع عنها. الثانية: وَيُخْزِهِمْ قيل: هو الأسر. وقيل: المراد ما نزل بهم من الذل والهوان حين شاهدوا أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين وهو قريب من الأول. أو هو هو. وقيل: هو عذاب الآخرة. الثالثة: وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ أورد عليه أن النصر يستتبعه إخزاء الخصم فأي حاجة إلى إفراده بالذكر؟ والجواب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 أن المغايرة كافية في إفراد كل من المتلازمين بالذكر على أنه من المحتمل أن يحصل لهم الخزي من جهة المؤمنين إلا أن المؤمنين يحصل لهم آفة لسبب آخر، فلما وعدهم النصر على الإطلاق زال ذلك الاحتمال. الرابعة: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ هم خزاعة. وعن ابن عباس: بطون من اليمن وسبأ، قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى شديدا فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال: أبشروا فإن الفرج قريب. الخامسة: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ قيل: شفاء الصدر وإذهاب غيظ القلب كلاهما بمعنى فيكون تكرارا. والجواب أن القلب أخص من الصدر كقوله: يا دار ميّة بالعلياء فالسند أو شفاء الصدر إشارة إلى الوعد بالفتح، ولا ريب أن الانتظار شاق وإن كان مع الثقة بالموعود فإذهاب غيظ القلب إشارة إلى الفتح وقد حصل الله لهم هذه المواعيد كلها وكان ذلك دليلا على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وإعجازه. ثم قال وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وهو ابتداء كلام للإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره وقد وقع، فقد أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم. وقرىء وَيَتُوبُ بالنصب بإضمار «أن» ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى كقوله فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقون: 10] أما أن التوبة كيف تقع جزاء للمقاتلة فذلك من قبل الكفرة واضح فإن القتال قد يصير سببا لتوبة بعضهم عن الكفر، وأما من جهة المؤمنين فلعل القتال كان شاقا على بعضهم فإذا أقدم عليه صار ذلك العمل جاريا مجرى التوبة عن تلك الكراهة. وأيضا إن حصول النصر والظفر إنعام عظيم والعبد إذا شاهد توالي النعم لم يبعد أن يصير ذلك داعيا له إلى أن يتوب عن جميع الذنوب وقد تصير كثرة المال والجاه سببا لتحصيل اللذات بالطريق الحلال فينتهي عن الحرام. وأيضا الإنسان حريص على ما منع فإذا انفتحت عليه أبواب الخيرات الدنيوية فربما يصير ذلك سببا لانقباضه عن الدنيا وإعراضه عنها وهذا هو أحد الوجوه التي ذكروها في تفسير قوله تعالى حكاية عن سليمان رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: 35] يعني بعد حصول هذا الملك لا ينبغي للنفس الاشتغال بالدنيا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بكل ما يجري في ملكه وملكوته حَكِيمٌ مصيب في أفعاله وأقواله وأحكامه وتدابيره. عن ابن عباس أن قوله أَلا تُقاتِلُونَ الآية. ترغيب في فتح مكة لأن النتائج المذكورة مشاكلة لتلك الأحوال. واستبعده الحسن لأن هذه السورة نزلت بعد فتح مكة بسنة. ثم بين أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال وإنما المقصود أن يؤتى به انقيادا لأمر الله ولتكاليفه ليظهر المخلص من المنافق فقال أَمْ حَسِبْتُمْ الآية. وقد مرّ وجه إعرابه في آل عمران عند قوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا [آل عمران: 142] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 وقوله وَلَمْ يَتَّخِذُوا معطوف على جاهَدُوا داخل في حيز الصلة. والوليجة لبطانة يعني الحبيب الخالص «فعلية» من ولج كالدخيلة من دخل، أو هو الرجل يكون في القوم وليس منهم. قال الواحدي: يقال هو وليجتي وهم وليجتي يستوي فيه الواحد والجمع. ومعنى الآية لا تحسبوا أن تتركوا على ما أنتم عليه ولم يظهر بعد معلوم الله من تميز المجاهدين المنافقين من المجاهدين الخلص الذين جاهدوا لوجه الله ولم يتخذوا حبيبا من الذين يضادون رسول الله والمؤمنين. ثم ختم الآية بقوله وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ليعلموا أنه لم يزل عالما بالأشياء لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فيجدّوا في استقامة السيرة ويجتهدوا في نقاء السريرة. التأويل: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ من النفوس المشركة التي اتخذت الهوى وصنم الدنيا معبودا فهادنها الروح والقلب في أوان الطفولية لاستكمال القالب وتربيته فَسِيحُوا في أرض البشرية أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ هي مدة كمال الأوصاف الأربعة: النباتية والحيوانية والشيطانية والإنسانية وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى الصفات الناسوتية يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يوم الوصول إلى كعبة الجمال والحج الأصغر الوصول إلى كعبة القلب إن زيارة كعبة الوصال حرام على مشركي الصفات الناسوتية فَإِنْ تُبْتُمْ عن الناسوتية بإفنائها في اللاهوتية فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من قيامكم بالناسوت وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ركنتم إلى غير الله فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ عن التصرف فيكم. أما لأهل السعادة فبالجذبات الأزلية، وأما لأهل الشقاوة فبأليم عذاب القطيعة إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ أيها القلوب والأرواح من مشركي النفوس على التوافق في العبودية ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شيئا من وظائف الشريعة وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من الشيطان والدنيا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ بالمداراة والرفق إلى أوان طلوع قمر العناية ونجم الجذبة والهداية. فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ استكملت مدة التربية تمام الأوصاف الأربعة فَاقْتُلُوا النفوس المشركة بسيف النهي عن الشهوات حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في الطاعة بأن تكلفوها إياها وفي المعصية بأن تزجروها عنها وَخُذُوهُمْ بآداب الطريقة وَاحْصُرُوهُمْ احبسوهم في حصار الحقيقة وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ راقبوهم في الأحوال كلها فَإِنْ تابُوا رجعوا إلى طلب الحق وَأَقامُوا الصَّلاةَ أدّوا حق العبودية وَآتَوُا الزَّكاةَ تزكت عن الأخلاق الذميمة فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ اتركوا التشديد عليهم بالرياضات ليعملوا بالشريعة بعد الوصول إلى الحقيقة فإن النهاية هي الرجوع إلى البداية وَإِنْ أَحَدٌ من مشركي صفات النفس اسْتَجارَكَ يا قلب لترك ما هو المخصوص به من الصفات الذميمة فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 كَلامَ اللَّهِ حتى يلهم بإلهام ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ وهو وارد الجذبة الإلهية، وإن الجذبة إذا تعلقت بصفة من صفات النفس تنجذب النفس بجميع صفاتها ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ الله وأسراره فلا يميلون إليه ويعلمون الدنيا وشهواتها فيركنون إليها. كَيْفَ يَكُونُ لمشركي النفوس ثبات على العهد وقد جبلت ميالة إلى السفليات وغايتها بعد إصلاح حالها أن تميل إلى نعيم الجنات إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وهو مقام الوصول المحرم على أهل الدنيا وهو مقام أهل الله وخاصته، الذين تنورت نفوسهم بأنوار الجمال والجلال فيثبتها الله على العهد بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ على الصراط المستقيم فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ بشرحها في متسع رياض الشريعة ولا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً لا يحفظوا حقوق الجنسية فإن الأرواح والقلوب والنفوس مزدوجة في عالمي الأمر والخلق يُرْضُونَكُمْ بالأعمال الظاهرة وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ فيما يعملون خارجون عن الصدق والإخلاص اشْتَرَوْا بدلالات توصلهم إلى الله ثَمَناً قَلِيلًا من متاع الدنيا ومصالحها فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قطعوا طريق الحق على الأرواح والقلوب فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ رفقاؤكم في طلب الحق فارعوا حقوقهم فإن لنفسك عليك حقا. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أن السير إلى الله من أعظم المقامات وأهم المهمات وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ أنكروا مذهب السلوك أَئِمَّةَ الْكُفْرِ النفوس وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ يعني الواردات الغيبية بانسداد روزنة القلب أَوَّلَ مَرَّةٍ في أوان الطفولية. أَتَخْشَوْنَهُمْ في فوات حظوظهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ بفوات حقوقها. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ يعني وحشة الأرواح والقلوب وكدورتها وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ بالرجوع إلى الحق قبل التمادي في الباطل من غير حاجة إلى رياضة شديدة وَاللَّهُ عَلِيمٌ باستعدادات النفوس حَكِيمٌ فيما يدبر لكل منها. أَمْ حَسِبْتُمْ أيها النفوس الأمارة أَنْ تُتْرَكُوا بلا رياضة وَلِيجَةً أولياء من الشيطان والدنيا والهوى. [سورة التوبة (9) : الآيات 17 الى 28] ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 القراآت: مسجد الله ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون: على الجمع يُبَشِّرُهُمْ خفيفا: حمزة وعشيراتكم على الجمع: أبو بكر وحماد وجبلة وَضاقَتْ ونحو ممالة: حمزة رَحُبَتْ ثُمَّ مظهرا: أبو جعفر ونافع وابن كثير وخلف ويعقوب وعاصم غير الأعشى. الوقوف: بِالْكُفْرِ ط أَعْمالُهُمْ ج لعطف المختلفين خالِدُونَ هـ الْمُهْتَدِينَ هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ط عِنْدَ اللَّهِ ط الظَّالِمِينَ هـ لئلا يشتبه بالوصف وَأَنْفُسِهِمْ لا لأن ما بعده خبر «الذين» عِنْدَ اللَّهِ ط الْفائِزُونَ هـ مُقِيمٌ هـ لا لأن ما بعده حال أَبَداً ط عَظِيمٌ هـ عَلَى الْإِيمانِ ط الظَّالِمُونَ هـ بِأَمْرِهِ ط الْفاسِقِينَ هـ كَثِيرَةٍ لا لعطف الظرف على الظرف حُنَيْنٍ لا لأن «إذ» ظرف نَصَرَكُمُ. مُدْبِرِينَ هـ ج للآية والعطف. كَفَرُوا ط الْكافِرِينَ هـ مَنْ يَشاءُ ط رَحِيمٌ هـ هذا ج إِنْ شاءَ ط حَكِيمٌ هـ. التفسير: إنه سبحانه بدأ السورة بذكر البراءة من المشركين وبالغ في إيجاب ذلك بتعداد فضائحهم وقبائحهم، ثم أراد يحكي شبهاتهم التي كانوا يحتجون في أن هذه البراءة غير جائزة مع الجواب عنها. قال المفسرون: لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 المسلمون فعيروه بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ علي رضي الله عنه له القول فقال العبّاس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا؟ فقال علي عليه السلام: ألكم محاسن؟ فقال: نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني فأنزل الله تعالى ردا عليهم ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ ما صح لهم وما استقام أن يعمروا مسجد الله يعني المسجد الحرام. ومن قرأ على الجمع فإما أن يراد جميع المساجد فيشمل المسجد الحرام أيضا الذي هو أشرفها وهذا آكد لأن طريقه طريق الكناية كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله كنت أنفي لقراءته القرآن من تصريحك بذلك، أو يراد المسجد الحرام وجمع لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد، أو لأن بقعة منه مسجد. قال الفراء: العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم: فلان كثير الدرهم، وبالعكس كقولهم: فلان يجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا ملكا واحدا. وعمارة المسجد إما لزومه وإما كثرة إتيانه للصلاة والاعتكاف، ولا شك أنه ليس للمشرك ذلك وإما مرمته وتعهده، وليس للمشرك هذا أيضا لأنه يجري مجرى الإنعام على المسلمين ولا ينبغي أن يكون للكافر منه على أهل الإسلام، ولأن دخوله المسجد يؤدي إلى تلوث المسجد إما لكونه نجسا في الحكم، وإما لأنه قلما يحترز من النجاسات. وما روي أنه صلى الله عليه وآله أنزل وفد ثقيف في المسجد وهم كفار وشدّ ثمامة بن أثال الحنفي على سارية من سواري المسجد محمول على تعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم كأنه أراد أن يكون ذلك بمحضر منه وهو في المسجد. وقوله شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ حال من الواو في يَعْمُرُوا والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة معابد الله مع الكفر به. وفي تفسير هذه الشهادة أقوال أصحها أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان وتكذيب النبي والقرآن ولهذا قال السدي: هي أن النصراني إذا قيل له ما أنت؟ قال: نصراني. واليهودي يقول: يهودي، وعابد الوثن يقول: أنا عابد الوثن. وقيل: هي قولهم في طوافهم «لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك» . وعن ابن عباس أنه قال: المراد أنهم يشهدون على محمد بالكفر. وإنما جاز هذا التفسير لقوله تعالى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] ثم بيّن تعالى ما هو الحق في هذا الباب فقال أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الصادرة عنهم كإكرام الوالدين وبناء الربط وإطعام الجائع لأنه لا يفيد مع الكفر طاعة لأن الكفر يوجب عقاب الأبد ولهذا قال وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ ولإفادة هذا التركيب الحصر احتجت الأشاعرة به على خلاص صاحب الكبيرة. ثم وصف من له استئهال عمارة المسجد فقال إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 المرء ما لم يعرف المبدأ والمعاد لا يصح منه التوجه إليه. وإنما طوى ذكر الرسول تنبيها على أنه واسطة والتوجه الحقيقي من الله وإلى الله ولهذا ورد في الحديث: «المصلي يناجي ربه» . وقيل: إن المشركين كانوا يقولون إن محمدا ادّعى رسالة الله طلبا للرياسة والملك فلنفي هذه التهمة ترك ذكره صلى الله عليه وسلم. وقيل: دل عليه بقوله وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ لأنهما معلومتان من أفعاله صلى الله عليه وسلم ولما في الصلاة من التشهد وقبلها الأذان والإقامة. ثم إن إقامة الصلاة لا ريب أن فيها عمارة المسجد والحضور فيه، وأما إيتاء الزكاة فإنما كان سببا للعمارة لأنه يحضر المسجد طوائف الفقراء والمساكين لأخذ الزكاة، ولأن إيتاء الزكاة واجب وبناء المسجد وإصلاحه نفل والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لم يشتغل بالنافلة، فلو لم يكن مؤديا للزكاة فالظاهر أنه لم يشتغل بعمارة المسجد. ثم قال وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ليعلم أنه لو أتى المسجد وبناه رياء وسمعة لم يكن عامرا له. فعلى المؤمن أن يختار في جميع الأحوال رضوان الله على غيره فإن ذلك لو ضره في العاجل فسينفعه في الآجل وفي إدخال كلمة «إنما» في صدر الآية تنبيه على أن من لم يكن موصوفا بالصفات المذكورة لم يكن من أهل عمارة المسجد، وأن المسجد يجب صونه عن غير العبادة. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا ذكرهم الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة» وعنه صلى الله عليه وسلم: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» وقال صلى الله عليه وآله: قال الله تعالى: «إن بيوتي في أرضي المساجد وإن زوّاري فيها عمارها فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره» ومن عمارة المساجد تعظيمها والدرس فيها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح. فعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه» . وفي قوله فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم فإن الموصوفين بالصفات المذكورة إذا كان اهتداؤهم المستعقب لصلاح حالهم في الدارين دائرا بين عسى ولعل فما ظنك باهتداء المشركين ومغبتهم؟ وفيه أن المؤمن يجب أن لا يغتر بالله عزّ وجلّ. هذا وقد مر أن بعض الأمة ذهبوا إلى أن «عسى» من الله الكريم واجب. وقال بعضهم: إن الرجاء راجع إلى العباد. ثم إنه قال أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ومعناه هبوا أن عمارة المسجد وسقي الحجيج يوجب لكم نوعا من الفضيلة إلا أن هذه الأعمال في مقابلة الإيمان بالله والجهاد شيء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 نزر. قال المفسرون: إنها نزلت في مناظرة جرت بين فريقين إلا أنهم اختلفوا فقيل: «كافر» و «مؤمن» لقوله كَمَنْ آمَنَ وقصة ما مر أن العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر قال: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج. وروي أن المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت اليهود لهم: أنتم أفضل. وقيل: إن كلا الفريقين مؤمن لقوله أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً وهذا يقتضي أن يكون للمفضول أيضا درجة. وقصته ما روى عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج. وقال الآخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم: فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكني إذا صليت دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله الآية. ويروى عن الحسن والشعبي أن طلحة قال: أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه ولو أشاء بت فيه. وقال العباس: وذلك بعد إسلامه أنا صاحب السقاية والقائم عليها. وقال عليّ رضي الله عنه: ما أدري ما تقولان لقد صليت ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فنزلت. وعن ابن سيرين: قال عليّ رضي الله عنه للعباس بعد إن كان أسلم: ألا تهاجر ألا تلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ ففقال: ألست في أفضل من الهجرة، ألست أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه الآية. فقال العباس: ما أراني إلا ترك سقايتنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرا» . والسقاية والعمارة مصدران من سقي وعمر، ولا بد من تقدير مضاف أي أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن، أو أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كخصال من آمن؟ ثم كان لسائل أن يسأل ما بال أحد الفريقين لا يشبه بالآخر فلا جرم قال مستأنفا لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ ثم صرح بالمفضول فقال وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي المشركين إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وأي ظلم أشنع من وضع أخس الموجودات وهو الأصنام مقام أشرفها وهو الله سبحانه. وإنما لم يهدهم الله لعدم قابلية وقع في استعدادهم الفطري. وذلك لكونهم مظاهر القهر فافهم. ثم صرح بالفريق الفاضل فقال الَّذِينَ آمَنُوا الآية. ثم من قال إن الفريقين المتناظرين كافر ومؤمن أورد عليه أن قوله أَعْظَمُ دَرَجَةً وجب أن يكون للمفضول أيضا درجة ولكنه ليس للكافر درجة. وأجيب بأن هذا وارد على حسب ما كانوا يقدرونه لأنفسهم من الدرجة والفضيلة نظيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 قوله أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. أو المراد أنهم أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفا بالهجرة ولا الجهاد وإن كان مؤمنا فضلا عن الكافر. أو المراد ترجيح الإيمان والهجرة والجهاد على السقاية والعمارة. ولا شك أنهما من أعمال والخير وموجبان للثواب لولا الكفر. وفي قوله عِنْدَ اللَّهِ تشريف عظيم لقوله وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وكذا في قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ لدلالته على انحصار الفوز فيهم. ثم فسر الفوز بقوله يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ التنكير فيها يفيد أنها وراء وصف الواصف، قال المتكلمون: الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فالتبشير بالرحمة والرضوان إشارة إلى غاية التعظيم ونهاية الإجلال والجنات إشارة إلى حصول المنافع العظيمة. وقوله لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ إشارة إلى خلوص تلك المنافع عن شوائب الكدورات. ثم عبر عن دوامها بثلاثة ألفاظ مؤكدات أولها مُقِيمٌ وثانيها خالِدِينَ وثالثها أَبَداً وقال أهل التحقيق: الفرح بالنعمة قد يكون من حيث إنها نعمة وقد يكون من حيث إن المنعم خصه بها كالسلطان إذا أعطى بعض الحاضرين تفاحة مثلا، ثم النعمة قد تكون حسية وقد تكون عقلية فقوله يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ إشارة إلى أعلى المراتب وهو مقام العارفين الذين نظرهم على مجرد سماع البشارة لا على المبشر به. وقوله بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ إشارة إلى المرتبة الوسطى وهم العاكفون على عتبة اللذات الروحانية العقلية. وقوله جَنَّاتٍ إلى آخره إشارة إلى المرتبة السفلى وهم الواقفون عند ساحات مواقع اللذات الحسيات. وفي تخصيص الرب بالمقام إشارة إلى أن الذي رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها يبشركم بخيرات دائمة وسعادات باقية لا حصر لها. ويجوز أن تكون الرحمة إشارة إلى رضا العبد بقضائه فيسهل عليه الغموم والآفات، والرضوان إشارة إلى رضاه عن العبد فيكون كقوله ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر: 28] ثم أكد المعاني المذكورة بقوله اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ وفي تصدير الجملة الاسمية بأن وفي لفظ «عند» وتقديمه وتنكير «أجر» ووصفه بالعظم مبالغات لا تخفى. قال الكلبي: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه ولأخيه ولقرابته إنا قد أمرنا بالهجرة فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وولده فيقولون: ننشدك الله أن لا تدعنا إلى غير شيء فنضيع فيرق فيجلس معهم ويدع فنزل فيهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الآيتين. وذكروا في وجه النظم أن هذه الآية جواب عن شبهة أخرى قالوها وهي أنه كيف يمكن دعوى البراءة من الكفار وبينهم وبين المسلمين قرابات ومواصلات ومعاملات؟ فذكر الله تعالى أن الانقطاع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 عن الآباء والأبناء والإخوان واجب بسبب الكفر. ومعنى استحبوا اختاروا وهو في الأصل طلب المحبة. ثم إن النهي كان يحتمل أن يكون نهي تنزيه لا تحريم فلإزالة الوهم ختم الآية بقوله وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال ابن عباس: يريد أنه يكون مشركا مثلهم لأن الرضا بالشرك شرك. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله حتى يحب في الله أبعد الناس ويبغض في الله أقرب الناس» «1» وعن ابن عباس: هي في المهاجرين خاصة كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم.. فقالوا: يا رسول الله إن نحن اعتزلنا من يخالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا ضائعين فنزلت قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ الآية. فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه وأبوه وأخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ثم رخص لهم بعد ذلك. وقيل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة فنهى الله عزّ وجلّ عن موالاتهم. قال الواحدي: عشيرة الرجل أهله الأدنون وهم الذين يعاشرونه. ومن قرأ على الوحدة فلأن العشيرة اسم جمع. ومن قرأ على الجمع فلأن كل واحد من المخاطبين له عشيرة. قال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات وإنما يجمعونها على عشائر القرآن حجة عليه. والاقتراب الاكتساب والتركيب يدور على الدنو والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه. والترتيب المذكور في الآية غاية الحسن لأن أعظم الأسباب الداعية إلى المخالطة القرابة القريبة ثم البعيدة، ثم إنه يتوسل بتلك المخالطة إلى إبقاء الأموال المكتسبة ثم إلى التجارات المثمرة، وفي آخر المراتب الرغبة في الأوطان التي بنيت للسكنى، فبيّن تعالى أنه يجب تحمل هذه المضار في الدنيا ليبقى الدين سليما، وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى عندهم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله فَتَرَبَّصُوا انتظروا بما تحبون حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ عن الحسن هو عقوبة عاجلة أو آجلة. وقيل: يعني القتال. وعن ابن عباس: هو فتح مكة وفيه بعد لما روي أن هذه السورة نزلت بعد فتح مكة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن طاعة الله إلى معصيته ولا يخفى ما فيه من التهديد. ثم لما أوجب ترك مصالح الدنيا لأجل الدين أراد أن يبين أن كل من أعرض عن الدنيا لأجل مصالح دينه فإن الله تعالى يراعي مصالح دنياه فيفوز بسعادة الدارين وضرب لنا مثلا فقال لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ قال الواحدي: النصر المعونة على الأعداء   (1) رواه أبو داود في كتاب السنّة باب 15. الترمذي في كتاب القيامة باب 60. أحمد في مسنده (3/ 438، 440) بلفظ «من أحب لله وأبغض لله ... فقد استكمل الإيمان» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 خاصة، والمواطن جمع موطن وهو كل موضع أقام به الإنسان لأمر. ومواطن الحرب مقاماتها ومواقعها. وامتناعها من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع ولا هاء كمساجد. والمواطن الكثيرة غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وهي على ما في الصحاح تسع عشرة منها: غزوة بدر وقريظة والنضير وأحد وغزوة الخندق وذات الرقاع وغزوة بني المصطلق وغزوة أنمار وغزوة ذي قرد وخيبر والحديبية والفتح. وَيَوْمَ حُنَيْنٍ أي يوم حنين. واستبعد صاحب الكشاف عطف الزمان على المكان فقال: معناه في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين، وجوّز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين رضي الله عنه. قال علي: أن الواجب أن يكون يوم حُنَيْنٍ منصوبا بالفعل مضمر لا بهذا الظاهر أي ونصركم يوم حنين لأن قوله إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ بدل من يَوْمَ حُنَيْنٍ فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصح لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع المواطن ولم يكونوا كثيرا في جميعها، وجوّز أن يكون «إذ» منصوبا بإضمار «اذكر» . قلت: ولعله لا حاجة إلى هذه التكلفات فلا استبعاد في عطف الزمان والمكان، وما جعل بدلا عن الزمان لا يلزم أن يكون بدلا عن المكان حتى يكون الفعل الأوّل مقيدا بهما جميعا. وحنين ودا بين مكة والطائف. قال المفسرون: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد بقيت أيام من شهر رمضان خرج متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف. واختلفوا في عدد عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ فعن عطاء عن ابن عباس كانوا ستة عشر ألفا. وقال قتادة: كانوا اثني عشر ألفا وعشرة آلاف من الذين حضروا مكة وألفان من الطلقاء الأسارى الذين أعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف. وبالجملة كانوا عددا كثيرين وكانت هوازن وثقيف أربعة آلاف، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة. فهذه الكلمة ساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي المراد من قوله إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ وقيل: قالها أبو بكر. وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعيد لأنه كان في جميع الأحوال متوكلا على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها. ثم قال فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً والإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة أي لم تعطكم الكثرة شيئا يدفع حاجتكم ولم تفدكم وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ «ما» مصدرية والباء بمعنى «مع» والرحب السعة والجار والمجرور في موضع الحال أي متلبسة برحبها كقولك: دخلت عليه بثياب السفر، والمعنى أنكم لشدة ما لحقكم من الرعب لم تجدوا في الأرض ذات الطول والعرض موضعا يصلح لهربكم إليه وكأنها ضاقت عليكم ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أي انهزمتم انهزاما. قال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 الغنائم فاستقبلونا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحرث، والذي لا إله إلا الله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم دبره قط، ولقد رأيته وأبو سفيان أخذ بالركاب والعباس آخذ بلجام الدابة وهو يقول: أنا النبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطلب وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يبالي وكانت بغلته شهباء ثم قال للعباس: ناد المهاجرين والأنصار وكان العباس رجلا صيتا فنادى يا أصحاب الشجرة فرجعوا ونزلت الملائكة عليهم ثياب بيض وهم على خيول بلق، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده كفا من الحصباء فرماهم بها وقال: شاهت الوجوه، فما زال جدهم مدبرا وحدهم كليلا ولم يبق منهم أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب فانهزموا وذلك قوله سبحانه ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ رحمته التي سكنوا بها وآمنوا عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الذين كانوا انهزموا وعلى الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الهرب. وَأَنْزَلَ الله جُنُوداً لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة ستة عشر ألفا أو ثمانية آلاف أو خمسة آلاف على اختلاف الروايات. وعن سعيد بن المسيب قال: حدّثني رجل كان من المشركين يوم حنين: قال لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسان فقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا وركبوا أكتافنا. واختلفوا في قتال الملائكة فقيل: قاتلوا. وقيل: ما قاتلوا إلا يوم بدر وإنما نزلوا في هذا اليوم لتكثير السواد ولإلقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين. ثم قال وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بالقتل والأسر وأخذ الأموال وسبي الذراري. واحتجت الأشاعرة بإنزال السكينة وهي داعية السكون والثبات وبقوله وَعَذَّبَ على أن الدواعي والأفعال كلها بخلق الله تعالى. ثم ختم الآية بقوله وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ واعلم أن الحنفية تمسكوا في مسألة الجلد مع التغريب بقوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور: 2] قالوا الفاء للجزاء اسم للكافي وكون الجلد كافيا يمنع أن يكون غيره مشروعا معه. وأجابت الشافعية بأنه قال تعالى في هذه الآية وَذلِكَ أي الأخذ والأسر جَزاءُ الْكافِرِينَ سمي العذاب العاجل جزاء مع أنه غير كاف لأن العذاب الآجل باق. أما قوله ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي يسلم ناس منهم. روي أن ناسا منهم جاؤا تائبين فأسلموا وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبرهم وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. قيل سبي يومئذ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى. فقال: إن عندي ما ترون العساكر الفقراء وإن خير القول أصدقه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 اختاروا وإما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم. قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء جاؤا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا. فمن كان بيده شيء وطابت نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه. قالوا: رضينا وسلمنا فقاال: إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا. فرفعت إليه صلى الله عليه وسلم العرفاء أن قد رضوا. ثم إنه سبحانه أجاب عن شبهة أخرى لهم وذلك أن عليا عليه السلام حين قرأ عليهم براءة فنبذ إليهم عهدهم قال أناس: يا أهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحمولات فقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ قال في الكشاف: هو مصدر كالقذر ومعناه ذو ونجس. وقال الليث: إنه صفة يستوي فيه الواحد وغيره: رجل نجس وقوم نجس وامرأة نجس. قلت: ويجوز أن يجعل المصدر نعتا للمبالغة في الوصف. واختلف في تفسير كون المشرك نجسا فعن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير. وعن الحسن من صافح مشركا توضأ وهو قول الهادي من أئمة الزيدية. وأما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم واحتج القاضي على ذلك بما روي أنه صلى الله عليه وسلم شرب من أوانيهم وبأنه لو كان نجس العين لما تبدلت النجاسة بسبب الإسلام، وأوّلوا الآية بأن معناها أنهم لا يغتسلون عن الجنابة ولا يتوضؤون عن الحدث، أو أنهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب الاجتناب والاحتراز عنهم، أو أن كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وهي السنة التاسعة من الهجرة التي وقع النداء فيها بالبراءة من المشركين واختلفوا في هذا النهي فعن أبي حنيفة وأصحابه أن المراد أن لا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلونه في الجاهلية، والدليل عليه قول علي عليه السلام في النداء: ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك. وقال الشافعي: المراد المنع من الدخول فيه وهو ظاهر النص. وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع من الدخول فيه. وقيل: المراد أن يمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحه ويعزلوا عن ذلك. وعن عطاء أن المراد بالمسجد الحرام والحرم وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله، ونهي المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه لقوله وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي فقرا بسبب منع المشركين وموضع التجارات ليس هو عين المسجد بل الحرم كله. ومن قال إن المراد منعهم من الحج قال إنهم إذا لم يحضروا الموسم لم يحصل للمسلمين ما كان لهم في قدومهم عليهم من الأرفاق والمكاسب فلهذا خافوا الفقر، ثم وعدهم الله إزالة الفقر بقوله فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي من تفضله بوجه آخر قال عكرمة: أنزل الله عليهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 المطر فكثر خيرهم. وعن الحسن: جعل الله لهم أخذ الجزية بدلا عن ذلك. وقيل: أغناهم من الفيء. وعن مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش وحملوا الطعام إلى مكة فكان ذلك أعود عليهم. واعلم أن هذا إخبار بالغيب وقد وقع فكان معجزا. ومعنى إِنْ شاءَ تعليم وإرشاد وأن لا يغتر المسلمون بذلك فيتركوا التضرع إلى الله واللجأ إليه، وليعلم أن حصول ذلك لا يكون في كل الأوقات لأغراض ومقاصد لا يعلمها إلا ضابط الأمور ورابط الأسباب، ولهذا ختم الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ أي بأحوالكم حَكِيمٌ لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب. التأويل: ما كان لمشركي النفوس الأمارة أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ وهي القلوب وهم مصرون على ما جبلوا عليه من التمرد وتعبد الهوى. حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ التي صدرت عنهم رياء وسمعة إِنَّما يَعْمُرُ القلوب مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ صدق بأن المقصود والمعبود هو الله، وعمل لنيل السعادات الأخروية وأدام المناجاة مع الله بصدق الطلب، وزكى نفسه عن الأخلاق الذميمة ولم يخف فوات الخطوط الدنيوية وإنما يخاف فوات الحقوق الإلهية. سِقايَةَ الْحاجِّ خدمة هذه الطائفة للأغراض الفاسدة وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الأعمال الموجبة لعمارة القلوب إذا كانت مشوبة بالرياء والهوى لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ الطالبون والبطالون وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين يضعون الأعمال الصالحة في غير موضعها الَّذِينَ آمَنُوا أي القلوب المؤمنة وَهاجَرُوا أي الأرواح المهاجرة إلى القوالب وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الجهاد الأكبر بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ببذل الموجود والوجود جميعا يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بعد الخلاص عن حبس الوجود بتجلي صفات لطفه وجنات الشواهد والكشوف إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أي من وصل إلى مقام العندية فالله يعظم أجره لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ الآيتان. فيهما إشارة إلى أن آثر محبة المخلوق على محبة الخالق فقد أبطل الاستعداد الفطري لقبول الفيض الإلهي. وَيَوْمَ حُنَيْنٍ أي حين حنت قلوبكم شوقا إلى لقاء ربها وحسبتم أنكم تبلغونه بكثرة الطاعات، وضاقت عليكم أرض الوجود ثم أعرضتم عن الطلب إذ احتجبتم بحجب العجب مدبرين إلى عالم الطبيعة الحيوانية ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ هي واردات ترد على الأرواح والقلوب فتسكن إلى ربها على رسول الروح وعلى القلوب المؤمنة وَأَنْزَلَ جُنُوداً من المواهب الربانية وعذب النفوس المتمردة باستعمالها في أحكام الشريعة وآداب الطريقة ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ أي علاج النفوس المتمردة ثم يتوب الله من بعد ذلك العلاج بجذبة ارْجِعِي، إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ النفوس العابدة للدنيا والشيطان والهوى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 فَلا يَقْرَبُوا القلب بَعْدَ عامِهِمْ هذا وهو حالة البلوغ وجريان قلم التكليف على الإنسان، نهى القلوب حينئذ عن اتباع النفوس وأمرها بقتالها ومنعها عن طوافها لئلا تنجس كعبة القلب بنجاسة شرك النفس وأوصافها الذميمة وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً حظوظا يستلذ بها عند اتباع النفس فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ بعد انقطاع تصرفات النفس عن القلب بالواردات الربانية والكشوف الروحانية إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بمستحقي فضله حَكِيمٌ فيما دبر من قتال النفوس. [سورة التوبة (9) : الآيات 29 الى 37] قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) القراآت: عُزَيْرٌ ابْنُ بالتنوين مكسورة للساكنين: عاصم وعلي وسهل ويعقوب. الباقون: بغير تنوين. يُضاهِؤُنَ بالهمز. عاصم. الآخرون يُضاهِؤُنَ بحذف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 الهمزة. أَنْ يُطْفِؤُا ولِيُواطِؤُا بحذف الهمزة فيهما. يزيد وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة اثْنا عَشَرَ بسكون العين: يزيد والخزاز إِنَّمَا النَّسِيءُ بالتشديد: ورش من طريق النجاري وحمزة في الوقف. الباقون: بباء بعدها همزة. يُضَلُّ بضم الياء وفتح الضاد: علي وحمزة غير العجلي وحفص وخلف لنفسه. يضل بضم الياء وكسر الضاد: العجلي وأوقية ورويس. الباقون يضل بفتح الياء وكسر الضاد. الوقوف: صاغِرُونَ هـ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ط بِأَفْواهِهِمْ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف مِنْ قَبْلُ ط قاتَلَهُمُ اللَّهُ ج يُؤْفَكُونَ هـ ابْنَ مَرْيَمَ ج لاحتمال الجملة بعده أن تكون حالا واستئنافا. واحِداً ج لأن ما بعده يصلح ابتداء ووصفا إِلَّا هُوَ ط يُشْرِكُونَ هـ الْكافِرُونَ هـ كُلِّهِ لا لتعلق «لو» بما قبله الْمُشْرِكُونَ هـ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ط فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا لتعلق الفاء أَلِيمٍ هـ لا أي في يوم. وَظُهُورُهُمْ ط تَكْنِزُونَ هـ حُرُمٌ ط يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ط الْمُتَّقِينَ هـ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ ط أَعْمالِهِمْ ط الْكافِرِينَ هـ. التفسير: إنه سبحانه لما ذكر شبهات المشركين وأجاب عنها بأجوبة صحيحة أراد أن يبين أحكام أهل الكتاب والمقصود تميزهم من المشركين في الحكم لأن الواجب في المشركين القتال إلى الإسلام، والواجب في أهل الكتاب القتال إلى الإسلام أو الجزية. واعلم أنه تعالى ذكر صفات أربع وأمر بقتال من اتصف بها ثم بين الموصوفين بها بقوله مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فدل ذلك على أن أهل الكتاب متصفون بتلك الصفات فالصفة الأولى أنهم لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فأورد عليه أن القوم يقولون نحن نؤمن بالله، وأجيب بأن إيمانهم بالله كلا أيمان لأنهم مشبهة وحلولية. واعترض ثانيا بأن كل من نازع في صفة من صفات الله وكان منكرا لله لزم أن يكون أكثر المتكلمين كذلك فالأشعري من أهل السنة أثبت البقاء صفة، والقاضي أنكره، وعبد الله بن سعيد أثبت القدم صفة، والباقون أنكروه، والقاضي أثبت لله إدراك الطعوم وإدراك الروائح والحرارة والبرودة والأستاذ أبو إسحق أنكره، والقاضي أثبت للصفات سبعة أحوال معللة بغير الصفات وغيره أنكره، وعبد الله ابن سعيد زعم أن كلام الله في الأزل ما كان أمرا ولا نهيا ولا خبرا ثم صار كذلك عند الإنزال، والآخرون أنكروه، وقوم من قدماء الأشاعرة أثبتوا لله خمس كلمات: الأمر والنهي والاستخبار والخبر والنداء. والمشهور أن كلام الله واحد. واختلفوا في أن خلاف المعلوم هل هو مقدور لله؟. وأما اختلافات المعتزلة وسائر الفرق فأكثر من أن تحصى هاهنا. وأجيب بأن المجسم خالف في الذات لأنه يقول إن الإله جسم والبرهان دل على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 أن إله العالم ليس بجسم ولا جسماني. وأما الخلاف في المسائل المذكورة فراجع إلى الصفة فظهر الفرق. نعم إنا نكفر الحلولية والحروفية القائلين بأن كلام الله تعالى حل في كل لسان وفي كل جسم كتب فيه القرآن كما نكفر النصارى القائلين بأن أقنوم الكلمة حلت في عيسى. الصفة الثانية: أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر لأن اليهود والنصارى ينكرون المعاد الجسماني. والقرآن دل على أن أهل الجنة يأكلون ويشربون وباللذات يتمتعون، وأما السعادات الروحانية فمتفق عليها. الصفة الثالثة: وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي لا يحرّمون ما حرم الله في القرآن، والرسول في سنته كالخمر والخنزير ونحوهما. وقال أبو روق: أي لا يعملون بما في التوراة والإنجيل بل حرفوهما وأتوا بأحكام توافق مشتهاهم. الصفة الرابعة: وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي لا يعتقدون صحة دين الإسلام الذي هو الحق. يقال: فلان يدين بكذا إذا اتخذ ذلك دينه ومعتقده. وقيل: الحق هو الله. ثم ذكر غاية القتال فقال حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فعله من جزى يجزي إذا قضى ما عليه. قال الواحدي: هي ما يعطى المعاهد على عهده. وقال في الكشاف: سميت جزية لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه، أو لأنهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل. ومعنى عَنْ يَدٍ إن أريد بها يد المعطي أي عن يد مؤاتية غير ممتنعة يقال: أعطى بيده إذا انقاد وأصحب، أو المراد حتى يعطوها عن يد إلى نقدا غير نسيئة ولا مبعوثا على يد أحد، وإن أريد بها يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية أي بسببها كقوله: ينهون عن أكل وعن شرب أي يتناهون في السمن بسببهما. أو المراد عن إنعام عليهم فإن قبول الجزية منهم بدلا عن أرواحهم نعمة عظيمة عليهم. قيل: إن من اليهود موحدة فما وجه إيجاب الجزية عليهم؟ والجواب أنه إذا ثبت وجوب الجزية على بعضهم لزم القول في حق الكل لعسر الامتياز ولوجود الصفات الباقية فيهم. أما مقدار الجزية فعن أنس: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل محتلم دينارا، وقسم عمر على فقرائهم في المدينة اثني عشر درهما، وعلى الأوساط أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين. فذهب الشافعي إلى أن أقل الجزية دينار ولا يزاد على الدينار إلا بالتراضي. وذهب أبو حنيفة إلى قسم عمر. والمجوس سبيلهم سبيل أهل الكتاب لقوله صلى الله عليه وسلم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ويروى أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر وذلك أن لهم شبهة كتاب. ومعنى ذلك أن كتبهم وهي الصحف التي أنزلت على إبراهيم صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 قد رفعت إلى السماء لأحداث أحدثوها. وليس المقصود من أخذ الجزية تقرير الكفرة على كفرهم بدينار واحد حتى يصير موجبا للطعن، وإنما الغرض حقن دمائهم وإمهالهم مدة لعلهم يتفكرون في كتابهم فيعرفون صدق محمد وما دعاهم إليه. وأيضا فيه حرمة أنبيائهم وحرمة كتابهم وحرمة آبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل. وأما قوله وَهُمْ صاغِرُونَ فمعناه أنه لا بد مع أخذ الجزية من إلحاق الذل والصغار بهم. والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عزّ الإسلام وذل الكفر ويسمع الدلائل فالظاهر أن مجموع ذلك يحمله على الانتقال إلى الإسلام. وفسروا الصغار في الآية بأخذ الجزية على سبيل الإهانة بأن يكون الذمي قائما والمسلم الذي يأخذ الجزية قاعدا ويأمره بأن يخرج يده من جيبه ويحني ظهره ويطأطىء رأسه فيصب ما معه في كفة الميزان ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهزمتيه. وهذه الهيئة مستحبة على الأصح لا واجبة. وقيل: الصغار هو نفس أخذ الجزية. والجزية تسقط بالإسلام عند أبي حنيفة دون الشافعي. وإنها تؤخذ عند أبي حنيفة في أوّل السنة وعند الشافعي في آخرها. ولا تؤخذ من فقير لا كسب له ولا من امرأة وخنثى ولا صبي ولا مجنون وعبد ولا من سيده بسببه، وتضرب على الزمن والعسيف والشيخ الفاني والراهب والأعمى على الأصح من قولي الشافعي، لأن الجزية بمنزلة الكراء يستوي فيه المعذورون وغيرهم. قال الشافعي في أحد قوليه. العاجز عن الكسب يعقد له الذمة بالجزية فإذا تم الحول أخذنا إن أيسر وإلا فهي في ذمته إلى أن يوسر وهكذا في كل حول. ولا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه الذي فوضه إليه لأنه من الأمور الكلية. وكيفية العقد أن يقول: أقررتكم وأذنت لكم في الإقامة في دار الإسلام على أن تبذلوا كذا وتنقادوا لأحكام الإسلام التي يراها الإمام. ولا يقرأ أهل الكتاب بالجزية في أرض الحجاز لما روي أنه صلى الله عليه وسلم عليه وسلم قال: «أخرجوا اليهود من الحجاز» قال الشافعي: هو مكة والمدينة ومخالفيهما أي قراهما. وما روي أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بأن يخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب فمحمول على أنه أراد الحجاز جمعا بين الحديثين. وقد بقي في الآية نكتة ذكرها بعض العلماء في أن المسلم لا يقتل بالذمي قال: لأن قوله قاتِلُوا مشتمل على إباحة دمهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم فلما قال حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ علمنا أن المجموع انتفى عند إعطاء الجزية، ولكن انتفاء المجموع يكفي فيه انتفاء أحد جزأيه وأحد الجزأين- وهو وجوب قتلهم- مرتفع بالاتفاق فيبقى الآخر وهو عدم وجوب القصاص بقتلهم بعد أداء الجزية كما كان. ولقائل أن يقول: لا نزاع في الاحتمال ولكن ما الدليل على عدم وجوب القصاص وأنت بصدد إثباته؟. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 ولما حكم في الآية المتقدمة أن أهل الكتاب لا يؤمنون بالله شرع في إثبات تلك الدعوى فقال وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ الآية. العلم مبتدأ والابن خبره ومن أسقط التنوين من عزير فلأنه اسم أعجمي زائد على ثلاثة أحرف فيمتنع من الصرف كعازر. وقيل: منصرف لكونه عربيا وكان الوجه كسر التنوين كقراءة عاصم ولكنه أسقط التنوين للساكنين على مذهب بعضهم. أو لأن الابن وقع وصفا والخبر محذوف وهو معبودنا. وطعن في هذا الوجه عبد القاهر باستلزامه احتمال توجه الذم إلى الخبر دون الوصف، وحينئذ يحصل تسليم كونه ابنا لله ومعلوم أن ذلك كفر. وهذا قول ناس من اليهود بالمدينة وما هو بقول كلهم إلا أنه جاء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد. يقال: فلان يركب الخيول أو يجالس الملوك. ولعله لم يركب أو لم يجالس إلا واحدا. عن ابن عباس: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا ذلك. وعنه أيضا أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فأنساهم الله التوراة ونسخها من صدورهم، فتضرع عزير إلى الله تعالى وابتهل إليه فعاد حفظ التوراة إلى قلبه فأنذر قومه، فلما جربوه وجدوه صادقا فيه فقالوا: هذا ابن الله. وقال عبيد بن عمير: إنما قال هذا القول رجل من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء. وقيل: لعل هذا المذهب كان فاشيا فيهم ثم انقطع، ولا عبرة بإنكار اليهود قول الله أصدق. وقال في الكشاف: الدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب. وأما النصارى فلا شك أنهم يقولون ذلك وقد حكى الواحدي في سبب ذلك أن أتباع عيسى كانوا على الحق بعد رفع عيسى إلى السماء حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود وكان في اليهود رجل شجاع، يقال له بولس. قتل جمعا من أصحاب عيسى ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار وإني أحتال فأضلهم، فعرقب فرسه وأظهر الندامة بما كان يصنع ووضع على رأسه التراب وقال: نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تنتصر وقد تبت فأدخله النصارى الكنيسة. ومكث سنة لا يخرج وتعلم الإنجيل فصدقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلا اسمه نسطور وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة، وتوجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال: ما كان عيسى إنسانا ولا جسما ولكنه الله. وعلم رجلا آخر- يقال له يعقوب- ذلك ثم دعا رجلا- يقال له ملكا- فقال له: إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى. ثم دعا هؤلاء الثلاثة وقال لكل واحد منهم: أنت خليفتي فادع الناس إلى نحلتك، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وإني غدا أذبح نفسي لمرضاة عيسى، ثم دخل المذبح فذبح نفسه. هذا هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى. والأقرب أن لفظ الابن قد وقع في الإنجيل على سبيل التشريف حيث قال: إنك أنت الابن الوحيد كما وقع لفظ الخليل في حق إبراهيم عليه السلام. وقال المسيح عليه السلام للحواريين: أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا على من يؤذيكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء الذي أشرق شمسه على الصالحين والفجرة. ثم إن القوم لأجل عداوة اليهود ولأجل أن يقابلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطرف الآخر حملوا لفظ الابن على البنوة الحقيقية والله تعالى أعلم يحقيقة الحال. ثم قال سبحانه ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ وفائدة هذا التخصيص- وكل قول فإنما يقال بالفم- أنه قول لا يعضده برهان بل البرهان دال على نقيضه لاستحالة إثبات الولد لمن هو مبرأ عن الحاجة والشهوة والمضاجعة واتخاذ الصاحبة، فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي لا تجاوز الحناجر ولا يؤثر معناها في القلب بل لا معنى لها حتى تؤثره، نظيره قوله وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النور: 15] أو نقول: إن الإنسان قد يختار مذهبا ولكن لا يصرح به ولا يذكره بلسانه، أما إذا نطق به فذلك هو الغاية في اختياره وإذا ساعده عليه دليل كان نهاية في الحسن والتأثير. فالمراد بالقول المذهب وأنهم يصرحون به لا يخفونه البتة، أو أنه مذهب لا يساعده دليل فلا تأثير له في القلوب. ويحتمل أن يراد أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت في الأفواه والألسنة يضاهنون من قرأ بغير همز فظاهر لأنه من ضاهى يضاهي منقوصا أي شاكل، ومن قرأ بالهمز فلمجيء ضاهأت من قولهم امرأة ضهيأ على وزن «فعيل» وهي التي شاكلت الرجال في أنها لا تحيض ومن جعل ضهيأ على «فعلأ» بزيادة الهمزة كما في «غرقىء» لقشرة البيض السفلى لمجيء ضهياء ممدودا بمعناه فلا ثبت في هذا الثاني عنده. ولا بد من تقدير مضاف أي يضاهي قولهم قول الذين، حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعا لفقد الجار. والمعنى أن قول هؤلاء المعاصرين للنبي من أهل الكتاب يشبه قول قدمائهم أي إنه كفر قديم فيهم غير مستحدث، أو يضاهي قول أهل الكتاب قول المشركين القائلين الملائكة بنات الله. وقيل: الضمير في يُضاهِؤُنَ للنصارى فقط أي يشاكل قول النصارى «المسيح ابن الله» قول اليهود «عزير ابن الله» لأن اليهود أقدم منهم. ثم قال على عادة محاورات العرب معجبا ومستفهما على سبيل الإنكار قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحق أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا تعجبا من شناعة قولهم كما يقال القوم ركبوا شنعاء: قاتلهم الله ما أعجب فعلهم، ولمن ضل عن الطريق أين تذهب؟. ثم وصفهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 بضرب آخر من الإشراك فقال اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ قال أهل المعاني: الحبر العالم الذي يعبر عما يريد بأحسن بيان، والراهب الذي ظهرت آثار الرهبة من قلبه على وجهه ولباسه، ولكن في عرف الاستعمال اختص الأحبار بعلماء اليهود من ولد هارون، والرهبان بعلماء النصارى من أصحاب الصوامع. واختلفوا في معنى اتخاذهم إياهم أربابا بعد الاتفاق على أنه ليس المراد أنهم جعلوهم آلهة العالم فقال أكثر المفسرين: المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم. نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانيا فانتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة براءة، فلما وصل إلى هذه الآية قال عدي: إنا لسنا نعبدهم فقال: أليس تحرّمون ما أحلّ الله وتحلون ما حرم الله؟ فقلت: بلى. فقال: فتلك عبادتهم. قال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف قول الأحبار والرهبان فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم الله. قال العلماء: إنما لم يلزم تكفير الفاسق بطاعة الشيطان خلاف ما عليه الخوارج لأن الفاسق وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه يلعنه ويستخف به بخلاف أولئك الأتباع المعظمين لمتبوعهم. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله في مسائل كانت تلك الآيات مخالفة لمذهبهم فيها فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وكانوا ينظرون إليّ كالمتعجب يعني كيف الآيات مع أن الرواية عن سلفنا. وردت بخلافها، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا ساريا في عرف الأكثرين. وقلت: ولعلهم توقفوا لحسن ظنهم بالسلف لأنهم ربما وقفوا من تلك الآي على ما لم يقف عليه الخلف. وقيل في تفسير هذه الربوبية: إن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم فقد يميل طبعهم إلى الحلول والاتحاد، وقد يساعدهم الشيخ في ذلك إذا كان مزوّرا طالبا للدنيا وقد يرضى بسجودهم له تعظيما وإجلالا مع أن السجود عبادة لا تليق إلا بالله. وإذا كان هذا مشاهدا في هذه الأمة فكيف بالأمم السالفة؟! وأما المسيح فحين جعلوه ابنا لله فقد أهلوه للعبادة والإلهية، ولعل السبب في إفراد المسيح بالذكر أن قولهم فيه أشنع من قولهم في الأحبار والرهبان، أو لأن القول بإلهية المسيح مخصوص بأحد الفريقين. فلو قيل اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا لأوهم اشتراك الفريقين في اتخاذ المسيح ربا وَما أُمِرُوا الضمير للمتخذين. والذي أمرهم بذلك أدلة العقل والكتب السماوية، وفي القرآن حكاية عن المسيح إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة: 72] ويجوز أن يكون الضمير للأحبار والرهبان أي وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلا بأن يكونوا مربوبين. ثم نزه نفسه عن مقالة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 الظالمين فقال سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم ذكر نوعا آخر من قبائح أفعال أهل الكتاب وهو سعيهم في إبطال أمر محمد وجدهم في إخفاء الدلائل الدالة على صحة نبوّته فقال يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ أي دينه الثابت بالدليل المشبه بالنور لاشتراكهما في الاهتداء بهما. وذلك أن دين محمد مؤيد بالمعجزات الباهرة التي بمثلها ثبتت نبوّة موسى وعيسى ولا سيما بالقرآن، وحاصل شرعه تعظيم الله وتنزيهه عما لا يليق به والانقياد لطاعته وصرف النفس عن الأمور الفانية والترغيب في السعادات الباقية، ثم إنهم بكلماتهم الركيكة وشبهاتهم السخيفة أرادوا إبطال هذه الدلائل فكانوا كمن يريد إبطال نور الشمس الذي هو أشد الأنوار المحسوسة بسبب أن ينفخ فيه. ولا ريب أن ذلك سعي باطل وكيد زاهق ولهذا قال وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أي لم يرد الله إلا ذلك إلا أن الإباء يفيد زيادة على عدم الإرادة وهي المنع والامتناع قال: وإن أرادوا ظلمنا أبينا امتدح بذلك ولا يجوز أن يمتدح بأنه يكره الظلم لأن ذلك يستوي فيه القوي والضعيف. وفيه وعد بمزيد النصرة والقوة وإعلاء الدرجة. ثم أكد ذلك المعنى بقوله هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى أي بكثرة الدلائل والمعجزات وَدِينِ الْحَقِّ لاشتماله على أمور تظهر لكل أحد كونه موصوفا بالصواب ومطابقا للحكمة ومؤديا إلى صلاح الدنيا والآخرة. ثم بيّن غاية أمره وتمام حكمه فقال لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي ليجعل الرسول أو دين الحق غالبا على أهل الأديان كلهم أو على كل دين. عن أبي هريرة أنه قال هذا وعد من الله بأن يجعل الإسلام ظاهرا على جميع الأديان، وتمام هذا إنما يظهر عند خروج المهدي ونزول عيسى. وقال السدي: ذلك عند خروج المهدي عليه السلام لا يبقى أحد إلا دخل الإسلام وأدّى الخراج. قلت: قد دخل في عصرنا من الملوك الكفرة ومن أشياعهم في الإسلام ما لا يعدّ ولا يحصى، وازدياد ذلك كل يوم دليل ظاهر على أن الكل سيدخلون في الإسلام. وقد جاء في الحديث: «زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتى ما زوي لي منها» «1» وقيل: ليظهر الإسلام على غيره في جزيرة العرب. وهذا تخصيص أوجبه ضيق العطن. وقيل: ليظهر الرسول على جميع شرائط الدين حتى لا يخفى عليه شيء من مدارك الأحكام. وقيل ليظهره بالحجة والبرهان لأن غلبة الكفار في   (1) رواه أحمد في مسنده (5/ 278، 284) (4/ 123) . مسلم في كتاب الفتن حديث 19. أبو داود في كتاب الفتن باب 1. الترمذي في كتاب الفتن باب 14. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 9. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 بعض الأقطار ظاهرة. ولقائل أن يقول: إن المسلمين في تلك البلاد وإن قلوا غالبون على الكفار وإن كثروا بدليل أنهم لا يمنعونهم من إظهار شعائر الإسلام والتزام أحكامه، قوله هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ فيه مدح منه تعالى لنفسه من جهة أنه هو القادر على إبداء مثل هذا الأمر العظيم ومن جهة أنه هو الغالب على إيصاله إلى حيث شاء وأراد من غير معاند ولا منازع، ومن جهة أنه هو المعطي لمثل هذه النعمة التي لا يوازيها نعمة وهي نعمة الهدى والإسلام. وقوله وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ وفي الآية الثانية وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ إما متساويا الدلالة تنبيها على أن اليهود والنصارى أيضا مشركون، وإما تخصيص بعد تعميم، ولعله رغم لأنف مشركي قريش ثم لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق أراد أن يصفهم بالطمع والحرص فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ الآية. وفيه تنبيه على أن مقصودهم من إظهار تلك الربوبية والتجبر تحصيل حطام الدنيا. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله. ولعمري أن من تأمل في أحوال أهل الناقوس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وشرح أحوالهم، فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه من الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك ويتحمل الذل والدناءة في تحصيله. وفي قوله كَثِيراً دلالة على أن هذه الطريقة طريقة بعضهم لا كلهم، فإن العالم لا يخلو عن المحق وإطباق الكل على الباطل وإثبات ذلك كالممتنع، وهذا يوهم أنه كما أن إجماع هذه الأمة على الباطل لا يحصل فكذلك في سائر الأمم. وعبر عن أخذهم أموال الناس بالأكل تسمية للشيء باسم ما هو أعظم مقاصده. وأيضا من أكل شيئا فقد ضمه إلى نفسه ومنعه عن الوصول إلى غيره كما لو أخذه، ولهذا فإن من أخذ أموال الناس فإذا طولب بردها قال أكلتها وما بقيت فلا قدرة لي على ردّها. وفي تفسير الباطل وجوه: منها أنهم كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع وفي إخفاء نعت محمد وتأويل الدلائل الدالة على نبوّته. ومنها أنهم كانوا يدّعون عند عوامهم الحمقى أنه لا سبيل إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلا بخدمتهم وطاعتهم وبذل الأموال في مرضاتهم، والعوام كانوا يغترون بتلك الأكاذيب. ومنها أنهم قالوا لا طريق إلى تقوية دينهم إلا إذا كان أولئك الفقهاء أقوياء عظماء أصحاب الجاه والحشمة والأموال كما يفعله المزوّرون في زماننا هذا. أما قوله وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فمعناه يبالغون في المنع من متابعة محمد كيلا يبطل جاههم وحشمتهم عند العوام لو أقروا بدينه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 ثم قال سبحانه وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الكنز هو المال المدفون وقد كنزه يكنزه. والتركيب يدل على الجمع ومنه ناقة كناز مكتنزة اللحم، واكتنز الشيء اجتمع. قيل: المراد بقوله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الأحبار والرهبان لما وصفهم بالحرص الشديد، أراد أن يصفهم بالامتناع من إخراج الواجبات عن أموالهم. وقيل: المقصود مانعو الزكاة من المسلمين. ووجه النظم أنه لما كان حال من أمسك مال نفسه بالباطل كذلك فما ظنك بحال من سعى في أخذ مال غيره بالباطل والخديعة؟! عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر فقلت له: ما أنزلك هذه البلاد؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب. وقلت: نزلت فينا وفيهم فصار ذلك سببا للوحشة. فكتب إلي عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني كأنهم لم يروني من قبل، فذكرت ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريبا. قلت: إني والله لا أدع ما كنت أقول. وعن الأحنف قال: لما قدمت المدينة رأيت أبا ذر يقول: بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه. فلما سمع القوم ذلك تركوه فاتبعته وقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم. فقال: ما عسى يصنع بي قريش. واختلف علماء الصحابة في هذا الكنز المذموم فقال الأكثرون: هو المال الذي لم تؤدّ زكاته. عن عمر بن الخطاب: مال أديت زكاته فليس بكنز. وقال ابن عمر: كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض. وقال جابر: إذا أخرجت الصدقة من مالك فقد أذهبت عنه شره وليس بكنز. وعن ابن عباس: قوله وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ يريد الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم. قال القاضي: ويندرج فيه سائر الحقوق من الكفارات والديون ونفقة الحج والجهاد والإنفاق على الأهل والعيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات. وقال الأقلون: كل مال كثير فهو مذموم سواء أديت زكاته أو لم تؤد. وحجة الأولين قوله تعالى لَها ما كَسَبَتْ [البقرة: 286] وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ [محمد: 36] وقوله عليه السلام: كل امرئ أحق بكسبه» «1» «نعم المال الصالح للرجل الصالح ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان باطنا، وما بلغ أن يزكى ولم يزك فهو كنز وإن كان ظاهرا» «2» . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع من الأغنياء كعثمان بن   (1) رواه أحمد في مسنده (4/ 197، 202) . (2) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 4. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 عفان وعبد الرحمن بن عوف وكان يعدّهم من أكابر المؤمنين، وقد ندب إلى إخراج الثلث أو الأقل في المرض. ولو كان جمع المال محرما لكان يأمر المريض أن يتصدق بالكل بل الصحيح في حال صحته. حجة الأقلين عموم الآية وما روى سالم بن الجعد أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تبا للذهب تبا للفضة قالها ثلاثا فقالوا له صلى الله عليه وسلم: أي مال نتخذ؟ قال: «لسانا ذاكرا وقلبا خاشعا وزوجة تعين أحدكم على دينه» . وقوله: «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها» «1» وتوفي رجل فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كية. وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال: كيتان. وعن عليّ رضي الله عنه: كل مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز أديت منه الزكاة أو لم تؤد. ومن المعقول أن الله تعالى خلق الأموال لدفع الحاجات فإذا حصل للمرء منه ما زاد على قدر حاجته ومنع منه الغير كان مانعا من ظهور حكمة الله ودافعا لوجوه الإحسان إلى عبيده. وقد رام طائفة من العلماء الجمع بين القولين فقالوا: كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فأما بعد فرض الزكاة فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالا من حيث أذن له فيه ويؤدي عنه ما أوجب عليه ثم يعاقبه. وقال أهل التحقيق: النهي عن جمع المال محمول على التقوى لأن تزايد المال لا حد له يقف هنالك فينجز إلى تضييع العمر تارة في تحصيله وأخرى في حفظه، لأنه كلما ازداد المال ازدادت لذته بذلك فيشتد حرصه ولا ينقطع البتة، وقد يفضي إلى الطغيان والخذلان كقوله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6، 7] ولو لم يكن في الفقر سوى الانكسار وقلة التعلق وفراغ البال لكفى بها منقبة وفخرا، وكل ما يلهيك عن الله ولم يكن في سبيل الله فعدمه خير من وجوده. وأما ظاهر الفتوى فهو أن صاحب المال الكثير لا عتب عليه إذا أدّى منه حقوقه. هذا ومن حمل الآية على وعيد مانعي الزكاة في النقود قاس الزكاة في المواشي عليه. وقد ورد أيضا في الحديث: «ما من صاحب إبل أو بقر أو غنم» «2» وهو مشهور. ولا ريب أن الأصل المعتبر في الأموال هو النقدان، وسائر الأمتعة إنما تحصيل بهما وتدور عليهما. ولمن أوجب الزكاة في الحلي المباح الاستدلال بالآية لأن الذهب والفضة يشمله، ومن لم يوجب الزكاة فيه خصص عموم الآية بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا زكاة في الحلي المباح» ولم يصححه أبو عيسى الترمذي. وبتقدير أن يصح حملوه على اللآلئ لقوله تعالى   (1) رواه أحمد في مسنده (5/ 168) . (2) رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [فاطر: 12] ولقائل أن يقول: لو حملنا الحلي في الحديث على اللآلئ لم تبق لقيد المباح فائدة، ثم إنه تعالى ذكر شيئين الذهب والفضة ثم قال وَلا يُنْفِقُونَها فقيل: الضمير عائد إلى المعنى وهو الكنوز أو الأموال، أو لأن كل واحد منهما جملة واحدة وافية وعدة كثيرة ودراهم ودنانير فهو كقوله وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] وقيل: إلى اللفظ أي ولا ينفقون الفضة. وحذف الذهب إما لأنه داخل في الفضة من حيث كونهما جوهرين ثمينين نفيسين مقصودين بالكنز فأغنى ذكر أحدهما عن الآخر كقوله وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: 11] وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً [النساء: 112] وإما لأن التقدير والذهب كذلك كما أن معنى قوله: فإني وقيار بها لغريب وقيار كذلك. ثم قال فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ تهكما مثل قولهم: تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم. ولو قيل: البشارة وهي الخبر الذي يؤثر في القلب فيتغير بسببه لون بشرة الوجه سواء كان من الفرح أو من الغم كان حقيقة يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها معناه أن النار تحمى عليها أي يوقد عليها نار ذات حمى وحر شديد من قوله نارٌ حامِيَةٌ [القارعة: 11] ولو قيل يوم تحمى أي الكنوز كقولك: أحميت الحديد لم يفد هذا المعنى وإنما ذكر الفعل مع أن الإحماء للنار لأنه مسند إلى الجار والمجرور بعد حذف النار كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير. فإن لم تذكر القصة قلت: رفع إلى الأمير. فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ذكر العلماء في تخصيص هذه الأعضاء بالكي وجوها منها. إن حصول الأموال يقصد به فرح القلب يظهر أثره في الوجه وشبع ينتفخ بسببه الجنبان ولبس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم فعورضوا بنقيض المقصود. ومنها أن هذه الأعضاء يعظم تألمها لكونها مجوّفة ولما في داخلها من الأعضاء الشريفة. ومنها أنهم يكوون على الجهات الأربع، أما من قدام فعلى الجبهة، وأما من خلف فعلى الظهر، وأما من اليمين واليسار فعلى الجنبين. ومنها أن المراد وقوع الكي على كل الأعضاء لأنها إما في غاية النظافة ومثاله الجبهة، وإما في غاية الصلابة ومثاله الظهر، وإما متوسطة ومثاله الجنبان. ومنها أن الجمال في الوجه والقوة في الظهر والجنبين والإنسان إنما يطلب المال للجمال والقوة فعورض بإزالتهما. ومنها قول أبي بكر الوراق: خصت بالذكر لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جنبيه، وإذا قعد بجنبه تباعد وتجافى عنه وولى ظهره. وأنا أقول: يحتمل أن يراد بالجباه قدام الشخص حيث لم يقدم لنفسه خير، أو بالظهور جهة الخلف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 حيث خلف ما أعقبه الحسرات وبالجنوب اليمين والشمال حيث لم يصرف المال في مرضاة الله وأنفقه في معصيته وسخطه وهذا بالتأويل أليق. ثم الذي جعل كيا هو كل ماله أو قدر الزكاة الظاهر أنه الكل لأنه لما لم يخرج منه الحق كان ذلك الجزء شائعا في كل ماله فناسب أن يعذب بكل الأجزاء ثم قال هذا ما كَنَزْتُمْ والتقدير فيقال لهم هذا ما كنزتم لِأَنْفُسِكُمْ وفيه توبيخ وإشعار بأنهم عورضوا بنقيض ما قصدوا وأكد ذلك بقوله فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ما مصدرية أو موصولة والمعنى اعرفوا وبال كونكم كانزين، أو ذوقوا وبال المال الذي كنتم تكنزونه. ثم ذكر نوعا آخر من قبائح أعمال اليهود والنصارى والمشركين فقال إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ الآيتان وذلك أنه تعالى لما حكم في كل وقت بحكم خاص فإذا غيروا تلك الأوقات بسبب النسيء والكبيسة كان ذلك سعيا منهم في تغيير حكم الله بحسب الهوى فكان ذلك زيادة في كفرهم. واعلم أن المعالم الشرعية كلها منوطة بالشهور القمرية الهلالية لقوله سبحانه قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] والسنة القمرية عبارة عن اثني عشر شهرا قمريا بدليل قوله تعالى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً قال أبو علي الفارسي: لا يجوز أن يتعلق قوله فِي كِتابِ اللَّهِ بقوله عِدَّةَ الشُّهُورِ للفصل بالأجنبي وهو الخبر أعني اثنا عشر. فقوله فِي كِتابِ اللَّهِ ويَوْمَ خَلَقَ الثاني بدل من الأول وهو من عند. والتقدير إن عدّة الشهور عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض. وفائدة الإبدالات تقرير الكلام في الأذهان لأنه يعلم منه أن ذلك العدد واجب عند الله وثابت في عمله في أول ما خلق الله العالم. ويجوز أن يكون فِي كِتابِ اللَّهِ صفة اثنا عشر أي اثنا عشر شهرا مثبتة في كتاب الله وعلى هذا لا يجوز أن يراد بالكتاب كتاب من الكتب لأن يَوْمَ متعلق به ولا تتعلق الظروف بأسماء الأعيان. لا يقال: غلامك يوم الجمعة بل الكتاب يكون مصدرا بمعنى المفعول أي فيما أثبته في ذلك اليوم اللهم إلا إذا قدر الكلام هكذا. إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا مكتوبا في كتاب الله يوم خلق. قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ. وقيل: القرآن. مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثلاثة سرد أي مسرودة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو رجب ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعني أن تحريم الأشهر الحرم الدين المستقيم الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل وقد توارثته العرب منهما، وكانوا يعظمونها ويحرّمون القتال فيها حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه تركه فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أي في الأشهر الأربعة أَنْفُسَكُمْ بأن تجعلوا حرامها حلالا. عن عطاء قال: تالله ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 الأشهر الحرام إلا أن يقاتلوا وما نسخت. وعن الحسن مثله لأنه فسر الدين القيم بأنه الثابت الدائم الذي لا يزول. وعن عطاء الخراساني: أحلت القتال في الأشهر الحرم بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وقيل: معناه لا تأثموا فيهن بيانا لعظم حرمتهن كما عظم أشهر الحج بقوله فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة: 197] والسبب فيه أن لبعض الأوقات أثرا في زيادة الثواب أو العقاب كالأمكنة، وكانت الحكماء يختارون لإجابة الدعاء أوقاتا مخصوصة. وفيه فائدة أخرى هي أن الإنسان جبل مطبوعا على الظلم والفساد، ومنعه من ذلك على الإطلاق شاق عليه فخص بعض الأزمنة والأمكنة بطاعة ليسهل عليه الإتيان بها فيهما ولا يمتنع عن ذلك. ثم لو اقتصر على ذلك فهو أمر مطلوب في نفسه وإن جره ذلك إلى الاستدامة والاستقامة بحسب الإلفة والاعتياد أو لاعتقاده أن الإقدام على ضد ذلك يبطل مساعيه السالفة فذلك هو المطلوب الكلي. ولا ريب أن تخصيص ذلك من الشارع أقرب إلى اتحاد الآراء وتطابق الكلمة. وقيل: الضمير في قوله فِيهِنَّ عائد إلى اثْنا عَشَرَ والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مدة عمره، أو المراد المنع من النسيء على ما يجيء. قال الفراء: الأولى رجوع الضمير إلى الأربعة لقربها ولما ذكرنا أن لهذه الأشهر مزيد شرف، فناسب أن تخص بالمنع من الظلم، ولأن العرب تختار فيما بين الثلاثة إلى العشرة ضميرا الجماعة، وفيما جاوز العشرة وهو جمع الكثرة تختار ضمير الوحدة. قال حسان: لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما ويقال: لثلاث خلون من شهر كذا ولإحدى عشرة ليلة خلت. ثم قال عز من قائل وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ وظاهر الآية يدل على إباحة القتال في جميع الأشهر لأن الأمر الوارد عقيب الحرمة يدل على الإباحة. ومعنى كَافَّةً جميعا لأنهم إذا اجتمعوا تزاحموا فكف بعضهم بعضا. ونصبه على المصدر عند بعضهم لأنه مثل العاقبة والعافية. وقال الزجاج: نصبه على الحال. ولا يجوز أن يثنى ويجمع ويعرف باللام كقولك: قاموا معا وقاموا جميعا. وفي وجه التشبيه في قوله كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً قولان: فعن ابن عباس: قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال كما أنهم يستحلون قتال جميعكم. وقيل: قاتلوهم بأجمعكم غير متفرقين في مقاتلة الأعداء ومقابلتهم. فعلى الأول يكون كَافَّةً حالا من المفعول وعلى الثاني يكون حالا من الفاعل وفي قوله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ حث لهم على التقوى وعلى الجهاد بضمان النصر والمعونة. ثم فسر الظلم المنهي عنه في الآية المتقدمة وأكد النهي عنه بقوله إِنَّمَا النَّسِيءُ وهو مصدر نسأ إذا أخر كالنذير والنكير. وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 قطرب: أصله الزيادة من قوله: نسأت المرأة إذا حبلت لزيادة الولد فيها. وردّ بأنه يقال لها ذلك فيؤول لتأخر حيضها. وقيل: هو معنى منسوء كقتيل بمعنى مقتول. واعترض بأن المؤخر هو الشهر المعنى إلى أن الشهر زيادة في الكفر وهذا الحمل غير صحيح. ويمكن أن يجاب بأن المراد أن العمل الذي بسببه يصير الشهر الحرام مؤخرا زيادة في الكفر. احتج الجبائي هاهنا بأن الكفر يقبل الزيادة فكذا الإيمان. وأيضا أطلق الكفر على هذا العمل فتركه يكون إيمانا فلا يكون الإيمان مجرد الاعتقاد والإقرار. وأجيب بأن الزيادة راجعة إلى الكمال وإنما سمي هذا العمل كفرا لأنه يؤول إلى اعتقاد تحليل ما هو حرام وبالعكس. وفي قوله يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بحث مشهور بين المعتزلة وغيرهم أن إسناد الإضلال إلى الله تعالى بالمجاز أو بالحقيقة وقد مر مرارا. قوله يُحِلُّونَهُ عاماً الضمير فيه عائد إلى النسيء. قال الواحدي: أي يحلون التأخير عاما وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا فيه في الشهر الحرام. ويحرّمون التأخير عاما آخر وهو الذي يتركون فيه الشهر الحرام على تحريمه. قال المفسرون: إنهم كانوا أصحاب حروب وغارات وكان يشق عليهم مكث ثلاثة أشهر متوالية من غير قتل وغارة، فإذا اتفق لهم في شهر منها أو في المحرم حرب وغارة أخروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر. قال الواحدي وأكثر العلماء: على أن هذا التأخير كان من المحرم إلى صفر. ويروى أنه حدث ذلك في كنانة لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعا في قومه وكان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته: إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه. ثم يقوم في القابل فيقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرّموه. والأكثرون على أنهم كانوا يحرمون من جملة شهور العام أربعة أشهر وذلك قوله لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوا ولم يعلموا أنهم خالفوا ترك القتال ووجوب التخصيص وذلك قوله تعالى فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ أي من القتال وترك الاختصاص. قال أهل اللغة: يقال تواطأ القوم على كذا إذا اجتمعوا عليه كأن واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه. والإيطاء في الشعر من هذا وهو أن يأتي في القصيدة بقافيتين لفظهما ومعناهما واحد. قال ابن عباس: إنهم ما أحلوا شهرا من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه شهرا آخر من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا آخر من الحرام لأجل أن تكون عدة الحرم أربعة مطابقة لما ذكره الله تعالى فهذا هو المراد بالمواطأة. وللآية تفسيرا آخر وهو أن يكون المراد بالنسيء كبس بعض السنين القمرية بشهر حتى يلتحق بالسنة الشمسية، وذلك أن السنة القمرية أعني اثني عشر شهرا قمريا هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وخمس وسدس من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 يوم على ما عرف من علم النجوم وعمل الزيجات، والسنة الشمسية وهي عبارة عن عود الشمس من أية نقطة تفرض من الفلك إليها بحركتها الخاصة ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم إلا كسرا قليلا، فالسنة القمرية أقل من السنة الشمسية بعشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة وخمس ساعة تقريبا، وبسبب هذا النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل فيكون الحج واقعا في الشتاء مرة وفي الصيف أخرى، وكذا في الربيع والخريف، فكان يشق الأمر عليهم إذ ربما كان وقت الحج غير موافق لحضور التجار من الأطراف فكان يختل أسباب تجاراتهم ومعايشهم فلهذا السبب أقدموا على عمل الكبيسة بحيث يقع الحج دائما عند اعتدال الهواء، وإدراك الثمار والغلات وذلك بقرب حلول الشمس نقطة الاعتدال الخريفي، فكبسوا تسع عشر سنة قمرية بسبعة أشهر قمرية حتى صارت تسع عشرة سنة شمسية فزادوا في السنة الثانية شهرا ثم في الخامسة ثم في السابعة ثم في العاشرة ثم في الثالثة عشرة ثم في السادسة عشرة ثم في الثامنة عشرة، وذلك ترتيب بهر يحوج عند المنجمين، وقد تعلموا هذه الصفة من اليهود والنصارى فأنهم يفعلون هكذا لأجل أعيادهم، فالشهر الزائد هو الكبس وسمي بالنسيء لأنه المؤخر والزائد مؤخر عن مكانه، وهذا التفسير يطابق ما روي أنه صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع وكان في جملة ما خطب به: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» «1» والمعنى رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه وعاد الحج في ذي الحجة وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية. وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة في نفس الأمر فكانت حجة أبي بكر قبلها وفي ذي القعدة التي سموها ذا الحجة. وإنما لزم العتب عليهم في هذا التفسير لأنهم إذا حكموا على بعض السنين بأنها ثلاثة عشر شهرا كان مخالفا لحكم الله بأن عدّة الشهور اثنا عشر شهرا أي لا أزيد ولا أنقص وإليه الإشارة بقوله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ على هذا التفسير. ويلزمهم أيضا ما لزمهم في التفسير الأول من تغيير الأشهر الحرم عن أماكنها، فيجوز أن تكون الإشارة إلى المجموع. ومعنى قوله يُحِلُّونَهُ عاماً أي يحلون النسيء في عام الكبس ويحرمونه عاما أي في غير سنة الكبس. ومعنى قوله لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ما روي أنه كان يقوم في الموسم منهم خطيب ويقول: أنا أنسئ لكم في هذه السنة شهرا وكذا أفعل في كل سنين أقبلت حتى يأتي حجكم وقت الإدراك فينسىء المحرم ويجعله كبيسا. ثم إنه متى انتهت النوبة إلى   (1) رواه أحمد في مسنده (5/ 73) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 الشهر الحرام فتكرر حرم عليهم واحدا برأيه وعلى وفق مصلحتهم، وأحل الآخر. وباقي في الآية قد مر في تفسير مثله مرارا والله تعالى أعلم. التأويل: قاتِلُوا النفوس الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ بتعبده وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أي لا يعملون للآخرة وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ من حب الدنيا فإنها رأس كل خطيئة وحَرَّمَ رَسُولُهُ على نفسه وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي لا يطلبون الحق مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من النفوس الملهمة بالواردات الربانية حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وهي معاملتها على خلاف طبعها عَنْ يَدٍ عن حكم صاحب قوة وهو الشارع وقالت يهود النفس أن عزير القلب ابْنُ اللَّهِ وذلك إذا انعكس عن مرآه القلب آثار أنوار الواردات إلى النفس المظلمة فتنورت، كما أن اليهود لما سمعت التوراة والعلوم التي هم عنها بمعزل من عزير قالوا إنه ابن الله وَقالَتِ النَّصارى القلوب إن مسيح الروح ابن الله، وذلك أن الروح ربما يتجلى للقلب في صفة الربوبية والخلافة مقترنا بصفة إبداع الحق وبتشريف إضافة وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: 29] يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ وهم النفوس الكافرة الذين اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ أي قلوبهم وَرُهْبانَهُمْ أي أرواحهم أَرْباباً والمسيح ابن مريم وهو الخفي وذلك أن الخفي هو أول مظهر للفيض الإلهي الذي منه التربية ثم الروح ثم القلب ثم النفس ثم القالب. فالنفس من قصر نظرها ترى التربية من القالب، ثم يرتقي نظرها إلى أن ترى التربية من القلب، ثم يرتقي نظرها إلى أن ترى الكل من الحق فإن رؤية ذلك من شأن القلب كقوله ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: 11] يُرِيدُونَ أي النفوس أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ الذي رش على الأرواح في بدء الخلق بِأَفْواهِهِمْ أي بأفواه استيفاء الشهوات واللذات الجسمانيات هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ وهو النور المرشش بالهداية إلى الله وطلب الحق لِيُظْهِرَهُ في طلب الحق على طلب غيره إِنَّ كَثِيراً من أحبار القلوب ورهبان الأرواح لَيَأْكُلُونَ أي يتمتعون بحظوظ النفس وهواها وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ حرصا وطمعا في الاستمتاع بحظوظ النفوس وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ ليقطعوا مسافة البعد عن الله بقدمي ترك الدنيا وقمع الهوى يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ الحرص فَتُكْوى بِها جباه القلوب والأرواح لأنهم امتنعوا بذلك عن التوجه إلى الحق وَجُنُوبُهُمْ حيث لا تتجافى جنوبهم عن مضاجع المكونات وَظُهُورُهُمْ حيث لم يقضوا حق التواضع والخشوع فيقال لهم هذا الذي أصابكم من ألم الحرمان وعذاب القطيعة بسبب ما كَنَزْتُمْ فَذُوقُوا الآن ألم كي نار الحرص لأنكم لم تذوقوه في الدنيا حيث كنتم في منام الغفلة مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فيه إشارة إلى أن الطالب المضطر إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 تحصيل قوت نفسه وعياله يجب أن يجعل أوقات عمره أثلاثا: ثلثا لطلب المعاش وترتيب مصالح الدنيا، وثلثا للطاعات التي ينتفع بها في الآخرة، وثلثا من ذلك حرام أن يقع في خاطره غير المولى. ومن استغنى عن الموانع فيحرم عليه صرف لحظة في غير طلب الحق وإلى هذا المعنى أشار بقوله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وفيه تنبيه على أن من لم يكن هكذا كان في سلوكه اعوجاج. ثم ذكر أن من شأن النفوس المشركة أنها إن أقبلت على طاعة أخرتها عن وقتها وهو النسيء الموجب لازدياد كفرها لأنها قد خالفت الشرع من حيث تركها الطاعة باختيارها، ومن حيث إنها اعتقدت أن ذلك التأخير مما لا بأس به. [سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 49] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) القراآت: وَكَلِمَةُ اللَّهِ بالنصب: يعقوب. الباقون: بالرفع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 الوقوف: إِلَى الْأَرْضِ ط مِنَ الْآخِرَةِ ط قَلِيلٌ هـ شَيْئاً ط قَدِيرٌ هـ مَعَنا ج لعطف فَأَنْزَلَ على نَصَرَهُ مع عوارض الظروف. السُّفْلى ط إلا لمن قرأ وَكَلِمَةُ بالنصب الْعُلْيا ط حَكِيمٌ هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ط تَعْلَمُونَ هـ الشُّقَّةُ ط مَعَكُمْ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال. أَنْفُسَهُمْ ج لواو الابتداء والحال. لَكاذِبُونَ هـ عَنْكَ ج لحق الاستفهام مع اتصال الكلام معنى. الْكاذِبِينَ هـ وَأَنْفُسِهِمْ ط بِالْمُتَّقِينَ هـ يَتَرَدَّدُونَ هـ الْقاعِدِينَ هـ الْفِتْنَةَ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال لَهُمْ ط بِالظَّالِمِينَ كارِهُونَ هـ وَلا تَفْتِنِّي ط سَقَطُوا ط بِالْكافِرِينَ هـ. التفسير: لما شرح الله معايب هؤلاء الكفار عاد إلى الترغيب في قتالهم. عن ابن عباس أنها نزلت في غزوة تبوك سنة عشر وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أقام بالمدينة أياما فأمر بجهاد الروم فاستثقله الناس لكون الزمان زمان صيف وللقحط ولبعد المسافة ولمزيد احتياج إلى الاستعداد ولشدة الحر وللخوف من عسكر الروم ولوجود أسباب الرفاهية بالمدينة لكون الوقت وقت إدراك الثمار وحصول الغلات. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خرج في غزوة إلا ورّى عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك ليستعد الناس تمام العدة. وأصل النفر الخروج إلى مكان لأمر هاج عليه واسم ذلك القوم الذين يخرجون النفير. وأصل اثَّاقَلْتُمْ تثاقلتم كما قلنا في فَادَّارَأْتُمْ [البقرة: 72] ومعناه تباطأتم. وإنما عدّي بإلى لتضمين معنى الميل والإخلاد كقوله أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ [الأعراف: 176] أي مال إلى الدنيا وشهواتها. وقيل: المراد لتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها. ومعنى الاستفهام في ما لَكُمْ الإنكار. وقرىء اثَّاقَلْتُمْ على الاستفهام للإنكار أيضا فيكون جواب «إذا» فعلا آخر مدلولا عليه باثاقلتم كنحو ملتم، وذلك أن جواب «إذا» عامل في «إذا» ، والاستفهام لا يعمل فيما قبله. ويجوز على هذه أن يكون «إذا» لمجرد الظرفية والعامل فيه ما في ما لَكُمْ من معنى الفعل كأنه قيل: ما تصنعون إذا قيل لكم و «من» في مِنَ الْآخِرَةِ للبدل كقوله لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ كأنه قيل: قد ذكرنا الموجبات الكثيرة الداعية إلى القتال وبينا أنواع فضائحهم التي تحمل العاقل على مقاتلتهم، ولو لم يكن فيه إلا طاعة المعبود المستلزمة لثواب الآخرة لكفى به باعثا. فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ أي في جنبها وفي مقابلها. إِلَّا قَلِيلٌ ويجوز أن يراد بالقلة العدم إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي. والظاهر أن هذا التثاقل لم يصدر من جميع المخاطبين لاستحالة إطباق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 هذه الأمة على المعصية والضلالة إلا أنه طالما أعطى للأكثر حكم الكل وأطلق لفظ الكل على الأغلب. ثم لما رغبهم في الجهاد بعرض الثواب عليهم رغبتهم فيه بعرض العقاب فقال إِلَّا تَنْفِرُوا ورتب عليه ثلاث خصال: الأولى قوله يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً قيل: هو عذاب الدنيا. عن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتثاقلوا فأمسك الله عنهم المطر. وقال الحسن: الله أعلم بالعذاب الذي كان ينزل عليهم. وقيل: هو عذاب الآخرة فإن الأليم لا يليق إلا به. وقيل: إنه تهديد بالعذاب المطلق الشامل للدارين. الثانية قوله وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يعني قوما آخرين خيرا منهم وأطوع. قيل: هم أهل اليمن. عن أبي روق. وقيل: أبناء فارس عن سعيد بن جبير. وقيل: يحتمل أن يراد بهم الملائكة. وقال الأصم: معناه أنه يخرجه من بين أظهركم وهي المدينة والأصح إبقاء الآية على الإطلاق. الثالثة قوله وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً قال الحسن: الضمير لله وفيه أنه غني عنهم في نصرة دينه بل في كل شيء. وقال آخرون: الضمير للرسول لأن الله وعده أن يعصمه ووعد الله كائن لا محالة. وفي قوله وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تنبيه على أنه قادر على نصرة رسوله بأي وجه أراد، وقادر على إيقاع العذاب بكل من يخالف أمره كائنا من كان. عن الحسن وعكرمة أن الآية منسوخة بقوله وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] والصحيح أنها خطاب لمن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفروا فلا نسخ. قال الجبائي: في الآية دلالة على إبطال مذهب المرجئة من أن أهل القبلة لا وعيد لهم. وقال القاضي: فيها دلالة على وجوب الجهاد سواء كان مع الرسول أولا لقوله تعالى ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ ولم ينص على أن القائل هو الرسول. ومن قال إن الضمير في قوله لا تَضُرُّوهُ عائد إلى الرسول فجوابه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها. ثم رغبهم في الجهاد بطريق آخر فقال إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ وهذا كالتفسير لما تقدم. والمعنى إن لم تشتغلوا بنصره فإن الله سينصره بدليل أن الله نصره وقواه حال ما لم يكن معه إلا رجل واحد ولا أقل من الواحد. وفيه أنه لما أوجب له النصرة وقتئذ فلن يخذله بعد ذلك. وقوله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ألجئوه إلى أن خرج ظرف لنصره، وثانِيَ اثْنَيْنِ نصب على الحال ومعناه أحد اثنين لأنه إذا حضر اثنان فكل واحد منهما ثان للآخر وواحد منهما. وقوله إِذْ هُما فِي الْغارِ بدل من إذ أخرجه وإِذْ يَقُولُ بدل ثان والغار نقب عظيم في الجيل والمراد به هاهنا نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمين مكة على مسيرة ساعة. واعلم أنا قد ذكرنا في سورة الأنفال أن قريشا ومن بمكة تعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 30] فأمره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 الله تعالى أن يخرج هو وأبو بكر الصديق إلى الغار. فخرج وأمر عليا أن يضطجع على فراشه فلما وصلا إلى الغار دخل أبو بكر يلتمس ما في الغار فقال له الرسول: مالك؟ فقال: بأبي أنت وأمي، الغيران مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك، فخرق عمامته وسد الحجرة وبقي حجر واحد فوضع عقبه عليه كيلا يخرج منه ما يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم. فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا وقيل: طلع المشركون فوق الغار فاشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما! وقيل: لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله، والعنكبوت فنسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أعم أبصارهم. فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون له قد أخذ الله أبصارهم عنه. استدل أهل السنة بالآية على أفضلية أبي بكر وغاية اتحاده ونهاية صحبته وموافقة باطنه ظاهره وإلا لم يعتمد الرسول عليه في مثل تلك الحالة، وأنه كان ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وفي العلم لقوله «ما صب في صدري شيء إلا وصببته في صدر أبي بكر» وفي الدعوة إلى الله لأنه صلى الله عليه وسلم عرض الإيمان أولا على أبي بكر فآمن، ثم عرض أبو بكر الإيمان على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة أخرى من أجلة الصحابة، وكان لا يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزوات وفي أداء الجماعات وفي المجالس والمحافل، وقد أقامه في مرضه مقامه في الإمامة، ولما توفي دفن بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ثاني اثنين من أول أمره إلى آخره، ولو قدرنا أنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك السفر لزم أن لا يقوم بأمره ولا يكون وصيه إلا أبو بكر. وأن لا يبلغ ما حدث في ذلك الطريق من الوحي والتنزيل إلا أبو بكر. وقوله لا تَحْزَنْ نهى عن الحزن مطلقا والنهي يقتضي الدوام والتكرار فهو لا يحزن قبل الموت وعنده وبعده. ولا شك أن من كان الله معه فإنه يكون من المتقين المحسنين لقوله إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128] قال الحسين بن فضيل: من أنكر صحبة غير أبي بكر من الصحابة فإنه يكون كذابا مبتدعا، ومن أنكر صحبة أبي بكر فإنه يكون كافرا لأنه خالف قول الله تعالى إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ أجابت الشيعة بأن كونه ثاني اثنين ليس أعظم من كون الله رابعا لكل ثلاثة في قوله ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة: 7] وهذا عام في حق كل كافر ومؤمن. وكون المصاحبة موجبة للتشريف معارض بقوله تعالى للكافر قالَ لَهُ صاحِبُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ [الكهف: 37] وكما احتمل أن يقال إنه عليه السلام استخلصه لنفسه في هذا السفر لأجل الثقة، احتمل أن يكون ذلك لأجل إنه خاف أن يدل الكفار عليه أو يوقفهم على أسراره لو تركه. ثم إن حزنه لو كان حقا لم ينه عنه فهو ذنب وخطأ. سلمنا دلالة الآية على فضل أبي بكر إلا أن اضطجاع علي رضي الله عنه على فراشه أعظم من ذلك فيه من خطر النفس. أجاب أهل السنة بأن كون الله رابعا لكل ثلاثة أمر مشترك، وكونه ثاني اثنين تشريف زائد اختص الله أبا بكر به على أن المعية هنالك بالعلم والتدبير وهاهنا بالصحبة والمرافقة، فأين إحداهما من الأخرى؟! والصحبة في قوله قالَ لَهُ صاحِبُهُ مقرونة بما تقتضي الإهانة والإذلال وهو قوله أَكَفَرْتَ وفي الآية مقرونة بما يوجب التعظيم والإجلال وهو قوله ولا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا قالوا: والعجب أن الشيعة إذا حلفوا قالوا: وحق خمسة سادسهم جبريل. واستنكروا أن يقال: وحق اثنين الله ثالثهما. والاحتمال الذي ذكروه مدفوع بما روي أن أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة للرسول وأن عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام مدة مكثهما في الغار وذلك ثلاثة أيام وقيل بضعة عشر يوما. وروي أن جبريل عليه السلام أتاه وهو جائع فقال هذه أسماء قد أتتك بحيسة ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر به أبا بكر، ولو كان أبو بكر قاصدا له لصاح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار، ولقال ابنه وابنته نحن نعرف مكان محمد. وكون حزنه معصية معارض بقوله تعالى لموسى لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه: 68] وقول الملائكة لإبراهيم لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ [الذاريات 28] ثم إنا لا ننكر أن اضطجاع علي رضي الله عنه على فراش الرسول طاعة وفضيلة إلا أن صحبة أبي بكر أعظم لأن الحاضر أعلى حالا من الغائب، ولأن عليا رضي الله عنه ما تحمل المحنة إلا ليلة وأبو بكر مكث في الغار أياما، وإنما أختار عليا للنوم على فراشه لأنه كان صغيرا لم يظهر عنه بعد دعوة بالدليل والحجة ولا جهاد بالسيف والسنان بخلاف أبي بكر فإنه قد دعا حينئذ جماعة إلى الدين وكان يذب عن الرسول بالنفس والمال، فكان غضب الكفار على أبي بكر أشد من غضبهم على عليّ رضي الله عنه ولهذا لم يقصدوا عليا بضرب ولا ألم لما عرفوا أن المضطجع هو. ثم زعم أهل السنة أن الضمير في قوله فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ عائد إلى أبي بكر لا إلى الرسول لأنه أقرب المذكورين فإن التقدير: إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر ولأن الخوف كان حاصلا لأبي بكر والرسول كان آمنا ساكن القلب بما وعده الله من النصر، ولو كان خائفا لم يمكنه إزالة الخوف عن غيره بقوله لا تَحْزَنْ ولناسب أن يقال: فأنزل الله سكينته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 عليه فقال لصاحبه لا تحزن. واعترض بأن قوله وَأَيَّدَهُ عطف على فَأَنْزَلَ فواجب أن يتحد الضميران في حكم العود. وأجيب بأن قوله وَأَيَّدَهُ معطوف على قوله فَقَدْ نَصَرَهُ والتقدير: إلا تنصروه فقد نصره في واقعة الغار وأيده في واقعة بدر والأحزاب وحنين بالملائكة، والظاهر أن الحزن لا يبعد أن يكون شاملا للنبي صلى الله عليه وسلم أيضا من حيث البشرية كقوله وَزُلْزِلُوا [البقرة: 214] ويكون في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: فأنزل الله سكينته عليه إذ يقول، أو يكون فَأَنْزَلَ معطوفا على نصره. والمراد بالسكينة ما ألقي في قلبه من الأمنة التي سكن عندها قلبه وعلم أنه منصور لا محالة كقوله في قصة حنين ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ [التوبة: 26] وقوله وَجَعَلَ يعني يوم بدر وسائر الوقائع كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهي دعوتهم إلى الكفر وعبادة الأصنام السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ وهي دعوته إلى الإسلام أو كلمة التوحيد لا إله إلا الله هِيَ الْعُلْيا وفي توسيط كلمة الفصل- أعني هي- تأكيد فضل كلمة الله في العلو وأنها المختصة بالعلاء دون سائر الكلم. قال الفراء: لا أحب قراءة نصب الكلمة لأن الأجود حينئذ أن يقال: وكلمته هي العليا. ألا ترى أنك تقول: أعتق أبوك غلامه ولا تقول أعتق أبوك غلام أبيك؟ قلت: وفي الرفع أيضا الاستئناف وما في الجملة الاسمية من الثبات وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قاهر غالب لا فعل له إلا الصواب. ثم لما توعد من لا ينفر مع الرسول وضرب له من الأمثال ما وصف عقبه بالأمر الجزم فقال انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا قال المفسرون: أي خفافا في النفور لنشاطكم وثقالا عنه لمشقته عليكم، أو خفافا لقلة عيالكم وثقالا لكثرتهم، أو خفافا من السلاح وثقالا منه، أو ركبانا ومشاة، أو شبانا وشيوخا، أو مهازيل وسمانا، أو صحاحا ومراضا، والصحيح التعميم، وأن المراد انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد معها أو على ضدها. قال الأكثرون: ظاهر هذا الأمر يقتضي تناول جميع الناس حتى المرضى والعاجزين ويؤيده ما روي عن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعليّ أن أنفر؟ قال: ما أنت إلا خفيف أو ثقيل فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه فنزل قوله لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ [النور: 61] وقال مجاهد: إن أبا أيوب شهد بدرا مع الرسول الله ولم يتخلف عن غزوات المسلمين ويقول: قال الله انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا. وعن صفوان بن عمرو قال: كنت واليا على حمص فلقيت شيخا كبيرا قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت: يا عم لقد أعذر الله إليك. فرفع حاجبيه وقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا إلا أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 من يحبه الله يبتليه. وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل: إنك عليل صاحب ضرر. فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل فإن لم تمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع. وعن أنس قال: قرأ أبو طلحة هذه الآية فقال: ما أسمع الله عذر أحدا فخرج مجاهدا إلى الشام حتى مات. وقال السدي: جاء المقداد بن الأسود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عظيما سمينا وشكا إليه وسأله أن يأذن له فنزل فيه انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا فاشتد شأنها على الناس فنسخها الله بقوله لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى [التوبة: 91] الآية. وقيل: لا حاجة إلى التزام النسخ لأن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك بالاتفاق، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم خلف من النساء والرجال أقواما فذلك يدل على أن هذا الوجوب ليس على الأعيان ولكنه من فروض الكفايات. فمن أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يخرج لزمه ذلك ومن أمره أن يبقى لزمه أن يبقى. ولقائل أن يقول: لا نزاع في هذا إنما النزاع في الضعفاء والمرضى. ثم قال وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وفيه إيجاب للجهاد بهما إن أمكن، أو بالنفس إن لم يكن مال زائد على أسباب الجهاد، أو بالمال بأن يستنيب من يغزو وعنه إن لم تكن له نفس سليمة صالحة للجهاد وهذا قول كثير من العلماء. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يعني أنه خير في نفسه أو أنه خير من القعود لما فيه من الراحة والدعة والنعيم العاجل. وإنما قال إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لأن ما يحصل من الخيرات في الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن وعد الله حق. ثم نزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً قال الزجاج: أي لو كان المدعو إليه فحذف لدلالة ما تقدم عليه. والعرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومنه قولهم: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، والمراد بالقرب سهولة مأخذه وَسَفَراً قاصِداً أي وسطا بين القرب والبعد وكل متوسط بين الإفراط والتفريط فهو قاصد أي ذو قصد لأن كل أحد يقصده. والشقة المسافة الشاقة الشاطة، ووصف المسافة البعيدة بالبعد مبالغة نحو جد جدّة. وفحوى الكلام لو كانت المنافع قريبة الحصول والسفر وسطا لَاتَّبَعُوكَ طمعا في الفوز بتلك المنافع ولكن طال السفر فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة. ثم أخبر أنه سيجدهم إذا رجع من الجهاد يحلفون بالله إما ابتداء على طريق إقامة العذر وإما عند ما يعاتبهم بسبب التخلف وقد وقع كما أخبر فكان معجزا. وبِاللَّهِ متعلق ب سَيَحْلِفُونَ أو هو من جملة كلام المتخلفين والقول مقدر في الوجهين أي سيحلفون بالله قائلين لَوِ اسْتَطَعْنا وقوله لَخَرَجْنا سادّ مسدّ جوابي القسم ولو جميعا. قيل: في الآية دلالة على أن قوله انْفِرُوا خطاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 للمستطيعين وإلا لما أمكنهم جعل عدم الاستطاعة عذرا في التخلف. قال الجبائي: فيها دليل على أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لما كذبهم الله تعالى، فإن لم من يخرج إلى القتال لم يكن مستطيعا للقتال عند من يجعل الاستطاعة مع الفعل. وقال الكعبي: زائدا عليه فإن قيل: لم لا يجوز أن يراد أنهم ما كان لهم زاد ولا راحلة ولا يراد نفس القدرة؟ قلنا إن من لا راحلة له يعذر في ترك الخروج فمن لا قدرة له أولى. وأيضا الظاهر من الاستطاعة قوة البدن وإذا أريد به المال فلأنه يعين على ما يفعله الإنسان بقوة البدن. وأجيب بأن المعتزلة سلموا أن القدرة على الفعل لا تتقدم الفعل إلا بوقت واحد فإن الإنسان الجالس في مكان لا يكون قادرا في هذا الزمان على أن يفعل فعلا في مكان بعيد عنه وإنما يقدر على فعله في المكان الملاصق لمكانه. فالقوم الذين تخلفوا ما كانوا قادرين على القتال عندنا وعندهم فيلزمهم ما ألزموه علينا فوجب المصير إلى تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فيسقط السؤال. ولقائل أن يقول: إنهم وإن كانوا غير قادرين على القتال إلا أنهم كانوا قادرين على الاشتغال بأسباب القتال فيعود السؤال. قال في الكشاف يُهْلِكُونَ بدل من سَيَحْلِفُونَ أو حال أي يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب، أو حال من ضمير لَخَرَجْنا أي لخرجنا معكم وإن ألقينا أنفسنا في التهلكة. وإنما جاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم. حلف بالله ليفعلن أو لأفعلن فالغيبة على الإخبار والتكلم على الحكاية. قلت: وفي الوجه الأخير نظر للزوم بناء أول الكلام على التكلم وآخره على الغيبة، ولعل الصحيح حينئذ أن لو قيل: لخرجنا معكم نهلك أنفسنا والله تعالى أعلم. ثم بين أن ذلك التخلف من بعضهم كان بإذن الرسول ولهذا توجه عليه العتاب بقوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ فإن العفو يستدعي سابقة الذنب. وبقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فإنه استفهام في معنى الإنكار وبيان لما كنى عنه بالعفو. قال قتادة وعمرو بن ميمون: شيئان فعلهما الرسول لم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسارى. فعاتبه الله بطريق الملاطفة كما تسمعون. والذي عليه المحققون أنه محمول على ترك الأولى. وقوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ إنما جاء على عادة العرب في التعظيم والتوقير فيقدمون أمثال ذلك بين يدي الكلام يقولون: عفا الله عنك ما صنعت في أمري، رضي الله عنك ما جوابك عن كلامي، وعافاك الله ألا عرفت حقي. وبعد حصول العفو من الله تعالى يستحيل أن يكون قوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ واردا على سبيل الذم والإنكار بل يحمل على ترك الأكمل والأولى لا سيما وهذه الواقعة كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا. قال كثير من العلماء: في الآية دلالة على جواز الاجتهاد لأنه عليه السلام أذن لهم من تلقاء نفسه من غير أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 يكون من الله في ذلك إذن وإلا لم يعاتب أو منع وإلا كان عاصيا بل كافرا لقوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: 47] ولا ريب أنه لا يكون بمجرد التشهي فيكون بالاجتهاد ثم إنه لم يمنع من الاجتهاد مطلقا وإنما منع إلى غاية هي قوله حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ ولا يمكن أن يكون المراد من ذلك التبين هو التبين بطريق الوحي وإلا كان ترك ذلك كبيرة فتعين أن يحمل التبين على استعلام الحال بطريق الاجتهاد ليكون الخطأ واقعا في الاجتهاد لا في النص ويدخل تحت قوله «ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد» «1» وفي الآية دلالة على وجوب الاحتراز عن العجلة وترك الاغترار بظواهر الأمور. قال قتادة: عاتبه الله كما تسمعون ثم رخص له في سورة النور في قوله فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [الآية: 62] . قال أبو مسلم: يحتمل أن يريد بقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ الإذن في الخروج لا في القعود، فقد يكون الخروج غير صواب لكونهم عينا للمنافقين على المسلمين، وإذا كان هذا محتملا فلا تتعين الآية لرخصة الإذن في القعود. وقال القاضي: هذا بعيد لأن سياق الآية يدل على أن الكلام في القاعدين وفي بيان حالهم. ثم ذكر أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا لأن الاستئذان من علامات النفاق فقال لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا أي في أن يجاهدوا، وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد وكانوا بحيث لو أمرهم بالقعود شق عليهم ذلك. ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يبقى في المدينة شق عليه ذلك ولم يرض إلى أن قال له الرسول صلى الله عليه وسلم «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وقيل: إن حرف النفي مضمر كإضمار الجار والتقدير في أن لا يجاهد والآن سياق الآية يدل على ذم من يستأذن في القعود. وعلى هذا يمكن أن يقال: معناه كراهة أن يجاهدوا وفي قوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ رمز إلى أنهم من جملة المتقين وأن لهم ثوابهم. ثم بين الذين من شأنهم الاستئذان فقال إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الآية. وفيه أن الشاك في أمر الدين وفي أصوله لا في بعض مسائله غير مؤمن بالله تعالى، وفيه أن محل الريب واليقين هو القلب وأن الإيمان ليس مجرد الإقرار باللسان وإلا لم يصح نفيه عن المنافقين. ومعنى قوله فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ أن الشاك متردد بين النفي والإثبات غير حاكم بأحد الطرفين. وتقريره أن الاعتقاد إما أن يكون جازما   (1) رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 21. مسلم في كتاب الأقضية حديث 15. أبو داود في كتاب الأقضية باب 2. الترمذي في كتاب القضاة باب 3. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 3. أحمد في مسنده (2/ 187) (4/ 198) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 أولا، فالجازم إن كان غير مطابق فهو الجهل وإن كان مطابقا فإما بضرورة أو نظر فهو العلم أولا وهو اعتقاد المقلد. وغير الجازم إن كان أحد الطرفين راجحا عنده فالراجع هو الظن والمرجوح هو الوهم، وإن تساوى الطرفان فهو الريب والشك فلهذا كانت الحيرة والتردد من شأن صاحبه كما أن الثبات والاستقرار ديدن المستبصر. قال المفسرون: إن المستأذنين هم المنافقون وكانوا تسعة وثلاثين رجلا. ثم نعى على المنافقين سوء فعالهم فقال وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً قال ابن عباس: يريد من الماء والزاد والراحلة لأن سفرهم بعيد والزمان شديد، فتركهم العدّة دليل على أنهم أرادوا التخلف. قال العلماء: وفيه إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على تحصيل الأهبة والعدّة. وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ أي انطلاقهم فَثَبَّطَهُمْ والتثبيط رد الإنسان عن الفعل الذي هم به. ومعنى الاستدراك أن قوله وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ يعطي معنى نفي الخروج وكأنه قيل: ما خرجوا ولكن تنبطوا لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك كما تقول: ما أحسن إليّ زيد ولكن أساء إليّ. ومثل هذا يسمى في علم البديع صنعة الاستدراك. وقد يقال: تأكيد الذم بما يشبه المدح. ولو قيل مثل هذا في المنع لقيل تأكيد المدح بما يشبه الذم. وهاهنا سؤال وهو أن خروجهم مع الرسول إن كان مفسدة فلم عاتب الله رسوله في إذنه لهم بالقعود، وإن كان مصلحة فلم كره الله انبعاثهم؟ والجواب أنه كان مفسدة لقوله عقيب ذلك لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وحديث العتاب ظاهر عند من لا يجوز الاجتهاد على الأنبياء لتمكنهم من استعلام الصواب بطريق الوحي، وكذا على قول أبي مسلم. ومما يوهم أنه صلى الله عليه وسلم أذن لهم في الخروج قوله تعالى في هذه السورة فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التوبة: 83] وقوله في سورة الفتح سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ إلى قوله قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا [الفتح: 15] وأما عندنا فإنما لم يستحسن الله من الرسول صلى الله عليه وسلم إذنه لهم بالقعود وإن كان قعودهم مصلحة لأنه أذن لهم قبل إتمام التفحص وإكمال التدبر ولأنه لو لم يأذن لهم فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم فكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم ولا تبقى حاجة إلى إظهار نفاقهم بوجوه أخر دالة على هتك أستارهم وكشف أسرارهم. قال معتزلة البصرة: في الآية دلالة على أنه تعالى موصوف بصفة الكراهة كما أنه موصوف بصفة الإرادة. قالت الأشاعرة: معنى كره الله أنه أراد عدم ذلك الشيء، وزيف بأن العدم لا يصلح أن يكون متعلق الإرادة لأن العدم مستمر فتعلق الإرادة به يكون تحصيلا للحاصل. ويمكن أن يجاب بأن الإرادة صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 على الآخر سواء في ذلك طرف الوجود وطرف العدم، وطرف العدم غير حاصل إلا بإرادة العدم فكيف يكون تعلق الإرادة به تحصيلا للحاصل؟ وأيضا عدم الشيء المخصوص ليس عدما محضا. أما قوله وَقِيلَ اقْعُدُوا فيحتمل أن يكون قد جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمرا بالقعود، ويحتمل أن يراد به قول الشيطان بطريق الوسوسة، أو قول بعضهم لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف، أو هو قول الرسول كأنه غضب عليهم حين استأذنوه فقال على سبيل الزجر اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ فاغتنموا هذه اللفظة وقالوا قد أذن لنا فلهذا عوتب بقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ أي لم ذكرت هذه اللفظة التي أمكنهم أن يتوسلوا بها إلى تحصيل غرضهم. ومعنى قوله مَعَ الْقاعِدِينَ ذم لهم وتعجيز وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم الجثوم في البيوت. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ قال المفسرون: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي عسكره على ذي حدة- أسفل من ثنية الوداع- ولم يكن بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب فأنزل الله يعزي نبيه لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا فيكون استثناء متصلا من أعم العام، وحمله على الاستثناء المنقطع بناء على أن التقدير ما زادوكم خيرا إلا خبالا ضعيف. والخبال في اللغة الفساد ومنه المخبل للمعتوه، وللمفسرين عبارات قال الكلبي: إلا شرا. وقال سلمان إلا مكرا. وقال الضحاك: إلا غدرا. وقيل: إلا خبثا. وقيل: هو الاضطراب في الرأي وذلك بتزيين أمر لقوم وتقبيحه لآخرين حتى يختلفوا وتتفرق كلمتهم. قالت المعتزلة: دلت الآية على أنه كره انبعاثهم لاشتماله على هذا الخبال والشر. وفيه دليل على أنه تعالى لا يريد إلا الخير والصلاح. ولقائل: أن يقول إثبات حكم كلي بحكم جزئي غير معقول. واعلم أنه سبحانه عد من مفاسد خروجهم ثلاثة: الأول: قوله ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا الثاني: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ قال في الكشاف: زيد ألف في الكتابة لأن الفتحة كانت تكتب ألفا قبل الخط العربي والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفا أخرى ونحوه أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ [الآية: 21] في النمل لَآتَوْها [الآية: 14] في الأحزاب ولا رابع لها في القرآن. وفي الإيضاع قولان لأهل اللغة فقال أكثرهم: هو متعد يقال: وضع البعير إذا عدا، وأوضعه الراكب إذا حمله على العدو. وعلى هذا يكون في الآية حذف والتقدير: ولأوضعوا ركائبهم. وقال الأخفش وأبو عبيد: إنه جاء لازما ويقال: أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيرا حثيثا. ومنه ما روي أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 النبي صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفة وعليه السكينة وأوضع في وادي محسر أي أسرع. قال الواحدي: والآية تشهد للأخفش وأبي عبيد. وعلى القولين المراد في الآية السعي بين المسلمين بالتضريب والنميمة والمبالغة في الأول أكثر لأن الراكب أسرع من الماشي. ومعنى خِلالَكُمْ أي فيما بينكم. والخلل الفرجة فيما بين الشيئين. ويَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي يبغون لكم. قال الأصمعي: يقال ابغني كذا وابغ لي أي اطلبه لأجلي. ومعنى الفتنة هنا افتراق الكلمة والتشويش في المقاصد فعند ذلك يحصل الانهزام أسرع ما يكون. فالحاصل من النوع الأول اختلاف الآراء، ومن الثاني المشي بالنميمة لتسهيل ذلك الغرض. وأما النوع الثالث فذلك قوله وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ قال مجاهد وابن زيد: أي عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم. وقال قتادة: فيكم من يسمع كلامهم ويقبل قولهم وإذا تعاضد الفاعل والقابل وقع الأثر على أكمل الوجوه لا محالة. واعترض على هذا القول بأنه كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم؟ وأجيب بأن ذلك إنما يقع لمن قرب عهده بالإسلام أو لمن جبل على الجبن والفشل أو لمن حسن ظنه ببعض المنافقين لقرابة أو هيبة، وقلما يخلو الأقوياء من ضعيف سخيف أو أهل الحق من مبطل منافق ولهذا ختم الآية بقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم وغيرهم بإلقاء الفتنة فيما بينهم. ثم سلى نبيه بتوهين كيد أهل النفاق قديما وحديثا فقال لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل وقعة تبوك. قال ابن جريج: هو أن اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد ما فعله عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عن النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه. ومعنى الفتنة السعي في تشتيت شمل المسلمين والاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة فسلمهم الله منه وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حرفوها ودبروا كل الحيل والمكايد. ومنه فلان حوّل قلب إذا كان دائرا حول مصايد المكايد حَتَّى جاءَ الْحَقُّ الذي هو القرآن وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ غلب دينه وشرعه وَهُمْ كارِهُونَ رد الله مكرهم في نحرهم وأتى بضد مقصودهم. ولما كان الأمر كذلك في الماضي فكذا يكون الحال في المستقبل لقوله وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: 32] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي في القعود وَلا تَفْتِنِّي ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت. احتمل أن يكون قد ذكره على سبيل السخرية أو على سبيل الجد بأن كان يغلب على ظن ذلك المنافق صدق محمد وإن كان غير جازم به بعد. وقيل: لا تفتني أي لا تلقني في التهلكة فإني إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 خرجت معك هلك مالي وعيالي. وقيل: قال الجد بن قيس قد علمت الأنصار أني مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم، ولكني أعينك بما لي فاتركني، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك فنزلت الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني سلمة- وكان الجد منهم- من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا: جد بن قيس غير أنه بخيل جبان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم الفتى الأبيض الجعد الشعر البراء ابن معرور. أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة النفاق والتمرد عن قبول التكليف المستتبع لشقاء الدارين ولهذا ختم الآية بقوله وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أما في الدنيا فلإحاطة أسبابها بهم من النعي عليهم بالنفاق وإفشاء الأسرار وهتك الأستار وتحقير المقدار، وأما في الآخرة فلمآل حالهم إلى الدرك الأسفل من النار. التأويل: أيها الأرواح والقلوب المؤمنة ما مصيبتكم وبلواكم إذا قيل لكم بالإلهام الرباني اخرجوا من الدنيا وما فيها في طلب والسير إليه، أثاقلتم إلى أرض الدنيا وشهواتها. إِلَّا تَنْفِرُوا من سجن الدنيا وقيود شهواتها يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً باستيلاء ظلمات الصفات النفسانية وغلبات الأوصاف السبعية والشيطانية وبألم البعد عن الحضرة الربانية وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ من الأرواح والقلوب العاشقة الصادقة بل من العقول الكاملة المفارقة إِلَّا تَنْصُرُوهُ والرسول الوارد الرباني فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي النفوس الأمارة الكافرة من أرض القبول. ثانِيَ اثْنَيْنِ ثاني النفس الملهمة إِذْ هُما فِي غار العدم. وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا بجعل النفس المطمئنة بجذبة ارْجِعِي [الفجر: 28] واصلة إلى مقام العنديه انْفِرُوا أيها الطلاب خِفافاً مجردين من علائق الأهل والأولاد والأموال وَثِقالًا متلبسين بها، أو خِفافاً مجذوبين بالعناية وَثِقالًا سالكين بالهداية وَجاهِدُوا بقدمي بذل الأموال والأنفس. وقدّم إنفاق المال لأن بذل النفس مع بقاء صفاتها الذميمة غير معتبر، ومن صفاتها الذميمة الحرص على الدنيا والبخل بها ذلكم خير لكم لأن الحاصل من المال ومن النفس الوزر والوبال. والحاصل من الطلب الوصول والوصال لَوْ كانَ مطلوبك يا محمد عَرَضاً قَرِيباً هو الدنيا ونعيمها وَسَفَراً قاصِداً هو تتبع شهوات النفس وهواها لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ لأنها الخروج من الدنيا والعقبى. وَسَيَحْلِفُونَ يعني أرباب النفوس لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يا أهل القلوب. عَفَا اللَّهُ عَنْكَ قدم العفو على العتاب تحقيقا لقوله لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ بين أوصافهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 الذميمة النفسانية والحيوانية بلا داعية لخروج إلى الأنوار الروحانية لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وهي متابعة الأنبياء فَثَبَّطَهُمْ حبسهم في سجن البشرية ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا فيه إشارة إلى أن قعود أهل الطبيعة في حبس البشرية صلاح لأرباب القلوب وأصحاب السلوك لأنهم لو خرجوا لا عن نية صادقة وعزيمة صالحة ما زادوهم إلا تشويشا وتفرقة لأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ يعني أن صفات النفس قبل البلوغ كانت تستخدم الروح في شهواتها حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وهو العقل القابل لأوامر الشرع وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وهو التكليف وَمِنْهُمْ أي من صفات النفس مَنْ يَقُولُ وهو الهوى ائْذَنْ لِي في القعود عن الارتقاء في مدارج المعارف والمشارع وَلا تَفْتِنِّي يا روح بتكليفي ما ليس من شأني. وذلك أن الهوى مركب المحبة تستعمله الروح في تصاعده إلى ذروة الكمال والوصال. أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي إن فتنة الهبوط هي الفتنة بالحقيقة وَإِنَّ جَهَنَّمَ البعد والقطيعة من لوازم كفار النفس وصفاتها أعاذنا الله منها. [سورة التوبة (9) : الآيات 50 الى 59] إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) القراآت: هَلْ تَرَبَّصُونَ بإظهار اللام وتشديد التاء: البزي وابن فليح، وقرأه حمزة وعلي وهشام مدغما حتى لا يجتمع ساكنان. الباقون: بإظهار اللام وتخفيف التاء أَنْ تُقْبَلَ بالياء التحتانية: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بالفوقانية. مُدَّخَلًا بضم الميم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 وسكون الدال: سهل ويعقوب. الباقون: بالدال المشددة المفتوحة. يَلْمِزُكَ بضم الميم: سهل ويعقوب. الآخرون: بكسرها سوى عباس فإنه مخير. الوقوف: تَسُؤْهُمْ ج لابتداء شرط آخر مع واو العطف فَرِحُونَ هـ لَنا ج للابتداء لفظا مع الاتحاد معنى هُوَ مَوْلانا ط لابتداء إخبار من الله أو الحكاية عنهم. الْمُؤْمِنُونَ هـ الْحُسْنَيَيْنِ ط للاستئناف بعد تمام الاستفهام بِأَيْدِينا ط والوصل أصح لأن الفاء جواب نَتَرَبَّصُ مُتَرَبِّصُونَ هـ مِنْكُمْ ط. فاسِقِينَ هـ كارِهُونَ هـ وَلا أَوْلادُهُمْ ط كافِرُونَ هـ لَمِنْكُمْ ط يَفْرَقُونَ هـ يَجْمَحُونَ هـ فِي الصَّدَقاتِ ط للشرط مع الفاء يَسْخَطُونَ هـ وَرَسُولُهُ لا إلى قوله راغِبُونَ لأن الكل يتعلق ب «لو» وجواب «لو» بعد التمام محذوف أي لكان خيرا لهم. التفسير: هذا نوع آخر من خبث ضمائر المنافقين. عن ابن عباس: الحسنة في يوم بدر والمصيبة في يوم أحد. والأولى حمله على العموم إذ معلوم من حال المنافقين أنهم كانوا في كل حسنة وعند كل مصيبة بالوصف الذي ذكر الله تعالى. ومعنى أَخَذْنا أَمْرَنا أي أمرنا الذي نحن موسومون به من التيقظ والتحرر وحسن الرأي والتدبير. ومِنْ قَبْلُ أي من قبل ما وقع ويَتَوَلَّوْا أي عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم أو أعرضوا عن الرسول وَهُمْ فَرِحُونَ مسرورون ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول في جوابهم لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا قيل: أي في اللوح المحفوظ من خير أو شر أو خوف أو رجاء أو شدة أو رخاء. وفائدته أنه إذا علم الإنسان أن الذي وقع امتنع أن لا يقع- لأن خلاف معلوم الله ومقدوره محال- زالت عنه منازعة النفس وهانت عليه المصائب. وقيل: أي في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدوّ وإظهار دين الله على كل الأديان فيكون المقصود أن أحوال المسلمين وإن كانت مختلفة في الغم والسرور والمحنة إلا أن العاقبة والدولة تكون لهم والظفر يقع في جانبهم فلا معنى لفرح المنافقين في الحال. وقال الزجاج: معناه لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله به من النصرة عليكم أو الشهادة، وعلى هذا القول يقع ما في الآية الثانية كالمكرر هُوَ مَوْلانا لا يتولى أمورنا إلا هو يفعل بنا ما يريد من أسباب التهاني والتعازي، لا اعتراض لأحد عليه. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فيه تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يعلق الرجاء إلا برب الأرباب فإنهم يتعلقون بالوسائط والأسباب. ثم أمره بجواب ثان فقال قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ التربص التمسك بما ينتظر به مجيء حينه ومنه تربص بالطعام إذا تمسك به إلى حين زيادة سعره. والحسنى تأنيث الأحسن وهي صفة الحالة أو الخصلة أو العاقبة يعني النصرة أو الشهادة. وفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 الأولى إحراز الغنيمة والظفر بالأعداء، وفي الثانية إبقاء الذكر والفوز بنعيم الآخرة. وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ قارعة مثل قارعة عاد وثمود وقيل: عذاب الله يشمل عذاب الدارين أَوْ بِأَيْدِينا يعني القتل بأن يظهر نفاقكم ويأمر بقتلكم كالكافر الحربي فَتَرَبَّصُوا أمر للتهديد نحو ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] ثم ذكر أنهم إن أتوا بشيء من صورة البر لم يكن له قدر عند الله ولا ينتفعون به في الآخرة، والغرض أن أسباب الذل والهوان مجتمعة عليهم في الدنيا والأخرى. عن ابن عباس نزلت في الجد بن قيس حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به. ولا يبعد أن يكون السبب خاصا والحكم عاما. وأَنْفِقُوا لفظه أمر ومعناه خبر كقوله فيما يجيء اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التوبة: 80] ومعناه أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم واستغفر لهم، أو لا تستغفر لهم وانظر هل ترى اختلافا بين حال الاستغفار وتركه؟ ومثله قول كثير لعزة: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة كأنه يقول: امتحني لطف محلك عندي وعامليني بالإساءة والإحسان وانظري هل تجدين منى تفاوتا في الحالين. وإنما يجوز إقامة الخبر والطلب أحدهما مقام الآخر إذا دل الكلام عليه فيعدل عن الأصل لإفادة المبالغة. وانتصب طَوْعاً أَوْ كَرْهاً على الحال ومعناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله أو ملزمين من جهتهما. وسمي الإلزام كراها لأنهم منافقون فكان إلزام الله إياهم الإنفاق شاقا عليهم كالإكراه. ويحتمل أن يراد طائعين من غير إكراه من رؤسائكم أو ملزمين من جهتهم، وذلك أن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملونهم على الإنفاق إذا رأوا فيه مصلحة. ومعنى لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ أن الرسول لا يقبله منكم، أو أنه لا يقع مقبولا عند الله. ثم علل عدم القبول بقوله إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ قال الجبائي: فيه دليل على أن الفسق يحبط الطاعات. وأجيب بأن الفسق هاهنا بمعنى الكفر ولا يلزم منه كون الفسق المطلق كذلك. وإنما قلنا إن الفسق بمعنى الكفر لقوله سبحانه وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ الآية علل منع القبول بأمور ثلاثة: أولها: الكفر بالله وبرسوله. وثانيها وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى قال المفسرون: معناه أنه إن كان في جماعة صلى وإن كان وحده لم يصل، وفيه أنه يصلي للناس لا لله، وفيه أنه غير معتقد للصلاة ووجوبها فلهذا لزم منه الكفر. وثالثها: وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ وذلك أنهم لا ينفقون رغبة في ثواب الله وإنما ينفقون لأجل المصالح الدنيوية، فهم في حكم الكارهين وإن أنفقوا مختارين يعدون الإنفاق مغرما ومنعه مغنما خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «أدوا زكاة أموالكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 طيبة بها نفوسكم» . قيل: الكفر بالله سبب مستقل في منع القبول فكيف ضم إليه الأمرين الآخرين؟ والجواب أنها أمارات ويجوز توارد الأمارات المتعددة على شيء واحد. بوجه آخر أطلق كفرهم أولا ثم قيده بعدم اعتقادهم وجوب الصلاة والزكاة، وبعبارة أخرى حكم عليهم بالكفر مطلقا ثم خص من أنواع كفرهم هذين تفظيعا لشأن تارك الصلاة والزكاة. قال في الكشاف: وقرأت في بعض الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره للمؤمن أن يقول كسلت كأنه ذهب إلى هذه الآية، وأن الكسل من صفات المنافقين. قال بعض العلماء: وجه الجمع بين قوله فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] وبين مضمون هذه الآية وهو أن شيئا من أعمال البر لا يكون مقبولا عند الله مع الكفر، هو أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقاب. ولقائل أن يقول: لو لم يكن مقبولا بوجه لم يكن له في التخفيف أيضا أثر. وقيل: في الآية دلالة على أن الصلاة لازمة للكفار وإلا لم يكن الإتيان بها على وجه الكسل مانعا من تقبل طاعاتهم كما أن قيامهم وقعودهم وسائر تصرفاتهم على وجه الكسل ليس مانعا من التقبل بالإنفاق. ثم لما قطع رجاء المنافقين عن منافع الآخرة أراد أن يبيّن أن ما يظنونه من منافع الدنيا فهو أيضا في الحقيقة سبب لتعذيبهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم فقال مخاطبا للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد فَلا تُعْجِبْكَ الآية. ونظيره وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ [طه: 131] وإنما قال فَلا تُعْجِبْكَ بالفاء لأن ما قبله مستقبل يصلح للشرط أي إن يكن فيهم ما ذكرنا من الإتيان بالصلاة على وجه الكسل وغير ذلك فهذا جزاؤه، وهذ بخلاف ما سيجيء في الآية الأخرى من هذه السورة. والإعجاب سرور المرء بالشيء مع نوع من الافتخار واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه، وأنه من البعيد في حكم الله أن يزيل ذلك الشيء عنه ويحصله لغيره كقوله ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً [الكهف: 35] ولا شك أن هذه خصلة مذمومة من جهة استغراق النفس في ذلك الشيء وانقطاعها عن الله، ومن جهة استبعاد إزالته في قدرة الله، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «ثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متيع وإعجاب المرء بنفسه» والمقصود من الآية زجر الناس عن الانصباب إلى الدنيا والمنع من التهالك في حبها، فإن المسكن الأصلي هو الآخرة لا الأولى. وقوله إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ إعرابه كما مر في قوله يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء: 26] قال مجاهد والسدي وقتادة: في الآية تقديم وتأخير والتقدير: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة كأنهم نظروا إلى أن المال والولد لا يكونان عذابا بل هما من نعم الله تعالى على عباده، وأورد عليه أنهما لا يكونان عذابا في الآخرة أيضا. فإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 تكلفوا وقالوا: أراد بذلك أنهما سبب العذاب فقد استغنوا عن التقديم والتأخير لأنهما قد يكونان سببا للعذاب في الدنيا أيضا. وبوجه أخر، المال والولد وكذا الإعجاب بهما يكونان. في الدنيا لا محالة، فأي فائدة في ذكرها؟ واعلم أن الأموال والأولاد قد يكونان سببا للتعذيب في الدنيا والآخرة، وذلك أن كل ما كان حبه للشيء أشد كان خوفه عن فواته أكثر وحزنه على فواته أعظم. فصاحب المال أبدا إما في خوف فوات المال وإما في حزن فواته وإما في تعب حفظه وتثميره. ثم إن الدنيا حلوة خضرة فإذا كثر ماله انصب بكليته إليه ويفضي إلى طغيانه وقساوة قلبه إلى أن ينسى حب الله وذكر الآخرة. ثم إنه إن بقي عليه ذلك إلى آخر عمره فعند الموت يعظم أسفه على مفارقته وكان كمن ينتقل من بستان ونعيم إلى سجن وجحيم وعند الحشر يكون حلاله حسابا وحرامه عذابا فثبت أن حصول المال سبب لعذاب الدارين. إلا من يتصرف فيه بالحق ومثله يكون نادرا، وكذا الكلام في الولد. وهذا المعنى وإن كان عاما للكل إلا أن المنافقين لهم وجوه اختصاص بالتعذيب. وذلك أن الرجل إذا كان مؤمنا بالله واليوم الآخر علم أنه إنما خلق للآخرة لا للدنيا فيفتر حبه للأمور الدنيوية بخلاف المنافق الذي اعتقد أن لا سعادة إلا هذه الخيرات العاجلة. وأيضا إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكفلهم إنفاق الأموال وبعث الأولاد إلى الغزو والجهاد، وكانوا لا يعتقدون في ذلك فائدة أخروية، وكانوا في أشق تكليف، وكانوا مبغضين للنبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم كانوا مضطرين إلى بذل المال وبعث الأولاد إلى خدمته، وكانوا خائفين من افتضاحهم وإظهار نفاقهم وتعريض أولادهم وأموالهم للنهب والسبي، وكثير منهم كان لهم أولاد أتقياء مخلصون كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة، وكعبد الله بن عبد الله بن أبيّ شهد بدرا وكان عند الله بمكان، وهم خلق كثير كانوا يزيفون طريق آبائهم في النفاق ويقدحون فيهم، والابن إذا صار هكذا تأذى الأب بسبه ولأجل هذه المعاني ذكر بعض العلماء أن التقدير: يريد الله أن يزيد في أموالهم ليعذبهم. أما قوله وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ أي تخرج وَهُمْ كافِرُونَ فقد قالت الأشاعرة: فيه دليل على أنه تعالى أراد منهم الكفر. وأورد الجبائي عليه أن المريض إذا قال للطبيب أريد أن تدخل علي في حالة مرضي لم يلزم منه كونه مريدا لمرض نفسه، والجواب أن أمثال هذه موكولة إلى قرائن الحال ففي قول المريض لا ريب أن المطلوب هو دخول الطبيب، وكون الدخول واقعا في تلك الحالة من ضرورات كونه مريضا وهو طبيبه. وفي الآية ليس المراد زهوق الروح فقط لأن المسلم والمنافق في ذلك سيان، فالمراد وقوع الزهوق في حالة الكفر فيكون الكفر منهم مرادا بالضرورة. وقال في الكشاف: المراد الاستدراج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 بالنعم كقوله إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران: 178] كأنه قيل: ويريد أن يديم عليهم نعمه إلى أن يموتوا وهم كافرون مشغولون بالتمتع عن النظر للعاقبة. ومن قبائح أفعال المنافقين ما حكى الله سبحانه عنهم في قوله وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي على دينكم. ثم قال وَما هُمْ مِنْكُمْ أي ليسوا على دينكم. وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يخافون القتل فيظهرون الإيمان تقية. ثم أكد نفاقهم بقوله لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً مفرا فيتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم لفروا إليه ولفارقوكم، فلا تظنوا أن موافقتهم إياكم في الدار والمسكن من صميم القلب. والمغارات جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور الإنسان فيه أي يستتر. والمدخل بالتشديد مفتعل من الدخول أدغمت التاء في الدال لقرب مخرجيهما. والتدخل «تفعل» من الإدخال ومعناه المسلك الذي يتحفظ بالدخول فيه. قال الكلبي وابن زيد: نفق كنفق اليربوع. والمراد أنهم لو وجدوا مكانا على أحد هذه الوجوه مع أنها شر الأمكنة لَوَلَّوْا إِلَيْهِ يقال: ولي إليه بنفسه إذا انصرف وولي غيره إذا صرفه وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي يسرعون إسراعا لا يرد وجوهم شيء. ومنه الفرس الجموح لا يرده اللجام. والحاصل أنهم من شدة تأذيهم وتنفرهم من الرسول والمسلمين صاروا بهذه الحالة. قال بعض العلماء: إنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء والأقرب حملها على المعاني المتغايرة، فالملجأ الحصون، والمغارات الكهوف في الجبال، والمدخل السرب تحت الأرض كالآبار والله تعالى أعلم. ومن جملة قبائحهم قوله وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ الآية. قال الزجاج: لمزت الرجل ألمزه وألمزه بكسر الميم وضمها إذا عبته. وفرق الليث فقال: اللمز العيب في الحضور، والهمز الغيب في الغيبة، واعلم أن العيب في الصدقات يحتمل وجوها: الأول: في أخذها بأن يقال انتزاع كسب الإنسان من يده غير معقول لأن الله هو المتكفل بمصالح عبيده إن شاء أفقرهم وإن شاء أغناهم. الثاني: أن يقال: هب أنك تأخذ الزكوات إلا أن ما تأخذه كثير فوجب أن تقنع بأقل من ذلك. الثالث: هب أنك تأخذ هذا الكثير إلا أنك تصرفه إلى غير مصرفه فيكون العيب قد وقع في قسمة الصدقات وفي تفريقها وهذا هو الذي دلت الأخبار على أنهم أرادوه. عن أبي سعيد الخدري بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين قال له ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج: أعدل يا رسول الله. فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل فنزلت. وعن الكلبي هو أبو الجواظ قال: ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم وهو يزعم أنه يعدل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أبا لك أما كان موسى راعيا. أما كان داود راعيا فلما ذهب قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 رسول الله صلى الله عليه وسلم: احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون. وقيل: هم المؤلفة قلوبهم. ثم بيّن أن عيبهم ذلك وسخطهم لأجل نصيب نفسهم لا للدين فقال فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون. ومعنى إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ فهم يسخطون. وفائدته أن يعلم أن الشرط مفاجىء للجزاء ومتهجم عليه. ثم أرشدهم إلى ما صلاحهم في نفس الأمر فقال وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا الآية ورتبه على أربع مراتب: الأولى: الرضا بما آتاهم الله ورسوله لعلمهم بأنه تعالى حكيم يعلم عواقب الأمور، فكل ما كان حكما له وقضاء منه كان حقا وصوابا ولا اعتراض عليه. الثانية: أن يظهر أثر ذلك الرضا على لسانهم وهو قولهم حَسْبُنَا اللَّهُ كفانا فضله وصنعه، لغيرنا المال ولنا الرضا والتسليم وذكر الحبيب. الثالثة: أن نزل من هذه المرتبة العالية كان واثقا بأن الله لا يهمله وسيعوضه من فضله في غنيمة أخرى. الرابعة الرغبة إلى الله بأنه المقصد الحقيقي والمقصود الأصلي من الإيمان والطاعة والمال والمنال. يروى أن عيسى عليه الصلاة والسلام مر بقوم يذكرون الله فقال: ما الذي يحملكم عليه؟ قالوا: الخوف من عقاب الله. فقال: أصبتم. ومر على قوم آخرين يذكرون الله فقال: ما الذي حملكم عليه؟ فقالوا: الرغبة في الثواب. فقال: أصبتم. ومر على قوم ثالث مشتغلين بالذكر فسألهم فقالوا: لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته وتشريف اللسان بذكره. فقال: أنتم المحقون. التأويل: إِنْ تُصِبْكَ يا روح حَسَنَةٌ من عواطف الحق تحزن النفس وصفاتها فبها تظفر الروح عليها وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ من الموانع والقواطع أخذنا نصيبنا من المراتع الحيوانية لما خالفناه في السير إلى العالم الروحاني. قُلْ يا روح لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا لا علينا فإن الفترات والوقفات للتربية لا للرد. وانظر وقل هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا أيتها النفس وصفاتها إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ الإحسان والعواطف الربانية والوقفة والفترة الموجبة لحسن التربية. بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ هو الابتلاء بالمصائب من الخوف والجوع وغيرهما أَوْ بِأَيْدِينا بالمنع من المخالفات وبكثرة الرياضات والمجاهدات طَوْعاً أو رياء أَوْ كَرْهاً أي نفاقا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ لأن أعمال اللسان وغيره من الجوارح من غير عمل القلب ليست بمقبولة وإن كان عمل القلب بدون الجوارح مقبولا لقوله صلى الله عليه وسلم «نية المؤمن أبلغ من عمله» وباقي الآيات إشارات إلى أن من أمارات النفاق عدم الرضا بقسمة الخلاق وحال المخلص بالعكس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 [سورة التوبة (9) : الآيات 60 الى 69] إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) القراآت: أُذُنُ خَيْرٍ كلاهما بالرفع والتنوين: الأعشى والمفضل. الباقون: بالإضافة. وَرَحْمَةٌ بالجر: حمزة الآخرون: بالرفع الم تعلموا بتاء الخطاب: جبلة عن المفضل الباقون: بياء الغيبة إِنْ نَعْفُ نُعَذِّبْ كلاهما بالنون ونصب طائِفَةٍ عاصم غير المفضل. الباقون: على البناء للمفعول بياء الغيبة في الأول، وبتاء التأنيث في التالي. الوقوف: وَابْنِ السَّبِيلِ ط أي فرض الله فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ط حَكِيمٌ هـ هُوَ أُذُنٌ ط آمَنُوا مِنْكُمْ ط أَلِيمٌ هـ لِيُرْضُوكُمْ ط لاحتمال الواو الحال أو الاستئناف. مُؤْمِنِينَ هـ خالِداً فِيها ط الْعَظِيمُ هـ بِما فِي قُلُوبِهِمْ ط اسْتَهْزِؤُا ط لاحتمال الهمزة في «إن» للتعليل تَحْذَرُونَ هـ وَنَلْعَبُ ط تَسْتَهْزِؤُنَ هـ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ط مُجْرِمِينَ هـ مِنْ بَعْضٍ ط كيلا تصير الجملة صفة لبعض المنافقين وهي صفة لكلهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 أَيْدِيَهُمْ ط فَنَسِيَهُمْ ط الْفاسِقُونَ هـ فِيها ط حَسْبُهُمْ ط لاختلاف النظم مع اتحاد المقصود في إتمام الجزاء وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ ج لذلك مُقِيمٌ هـ لا بناء على تعلق الكاف وَأَوْلاداً ط خاضُوا ط وَالْآخِرَةِ ج الْخاسِرُونَ هـ. التفسير: إن المنافقين لما لمزوا الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات بيّن لهم الله سبحانه مصرفها كيلا يبقى لهم طعن إذا وجدوا فعله موافقا لحكم الله فقال إِنَّمَا الصَّدَقاتُ الآية. وفي تصدير الكلام بإنما دلالة على أنه لا حق لأحد في الصدقات إلا لهؤلاء، ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل: إن كنت من الأصناف الثمانية فلك فيها حق. وإلا فهو صداع في الرأس وداء في البطن. ولنتكلم في تعريف هؤلاء الأصناف. فالأول والثاني: الفقراء والمساكين. ولا شك أن كلا من الصنفين محتاجون لا يفي دخلهم بخرجهم إنما الكلام في أنهما متساويا الدلالة أو أحدهما أسوأ حالا. فعن أبي يوسف ومحمد والجبائي أنهما واحد حتى لو أوصى لزيد وللفقراء والمساكين بمال كان لزيد النصف لا الثلث. قال الجبائي: إنه تعالى ذكرهما باسمين ليؤكد أمرهم في الصدقات. والفائدة فيه أن أصرف إليهم من الصدقات سهمان لا كسائرهم. وعند الشافعي الفقير أسوأ حالا لأنه تعالى أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعا لحاجاتهم فالذي وقع الابتداء بذكره يكون أشد حاجة لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم، ومما يدل على إشعار الفقر بالشدّة العظيمة قوله تعالى تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ [القيامة: 25] جعل الفاقرة كناية عن أعظم أنواع الشر والدواهي. وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الفقر، وقد سأل المسكنة في قوله «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين» فكأنه سأل توسط الحال، ولهذا لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك أشياء معلومة مع أنه تعالى أجاب دعاءه ظاهرا فأماته مسكينا. وتقييده تعالى المسكين بقوله ذا مَتْرَبَةٍ [البلد: 16] يدل على أن المسكين قد لا يكون كذلك. وقال تعالى أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ [الكهف: 79] وكان ابن عباس يفسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئا كأهل الصفة، والمسكين بأنه الطوّاف الذي يسأل الناس. والغالب أنه يحصل له منهم شيء وقريب منه قول من قال سمي مسكينا لأنه الدائم السكون إلى الناس. ولما كان المسكين هو السائل لما قلنا فالمحرم في قوله سبحانه وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 19] هو الفقير صاحب الحرمان. واتفق الناس على أن الفقير ضد الغني ولم يقل أحد أن الغنى والمسكنة ضدان فلعل الترفع هو ضد التمسكن. وقال أبو حنيفة: المسكين أسوأ حالا لقوله تعالى أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [البلد: 16] وقد تقدم الكلام عليه ولأنه تعالى جعل الكفارات من الأطعمة ولا فاقة أعظم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 من الجوع ونقل الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أن الفقير الذي له ما يأكل والمسكين هو الذي لا شيء له، وقال يونس: قلت لأعرابي، أفقير أنت؟ قال: لا والله بل مسكين. وقيل: سمي مسكينا لأنه يسكن حيث يحضر لأجل أنه لا بيت له ولا منزل. وأجيب بأنه تعالى جعل الكفارة للمسكين ذي المتربة وهو الفقير بعينه وإنما النزاع في المسكين المطلق والروايات معارضة بأمثالها والله أعلم. الصنف الثالث: العاملون على الصدقات وهم السعاة الجباة للصدقة. قال ابن عمر وابن الزبير والشافعي: يعطى هؤلاء أجور أمثالهم لأنها أجرة للعمل. وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثمن من الصدقات لأنهم صنف من الثمانية، والصحيح أن الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملا على الصدقات لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى أن يبعث أبا رافع عاملا على الصدقات وقال: أما علمت أن مولى القوم منهم. وفائدة التعدية بعلى التسليط والولاية. يقال: فلان على بلدة كذا إذا كان واليا عليها. واختلفوا في أن الإمام هل له حق لأنه هو العامل في الحقيقة أو لا حق له لخروجه عن الأصناف؟ والجمهور على أن العامل يأخذ نصيبه وإن كان غنيا لأن ذلك أجرة عمله. وعن الحسن أنه لا يأخذ إلا مع الحاجة. الصنف الرابع: المؤلفة قلوبهم. عن ابن عباس هم قوم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وكانوا خمسة عشر رجلا منهم أبو سفيان والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن أعطى كل رجل منهم مائة من الإبل. قال العلماء: لعل مراد ابن عباس إنه لا يمتنع في الجملة صرف الأموال إلى المؤلفة وإلا فلم يكن ما أعطاهم من الصدقات. ويروى أن أبا بكر الصديق أعطى عدي بن حاتم لما جاءه بصدقاته وصدقات قومه أيام الردة. والذي استقر عليه رأى الأئمة أن المؤلفة ثلاثة أقسام: ضعيف النية في الإسلام، وشريف بإعطائه يتوقع سلام نظرائه، والمتألف على جهاد من يليهم من الكفار ومانعي الزكاة حيث يكون ذلك أهون للإمام من بعث جيش يعطى كل واحد ما رأى الإمام باجتهاده، هذا كله إذا كانوا مسلمين، فأما الكفار الذين يميلون إلى الإسلام فيرغبون فيه بإعطاء مال، والذين يخاف شرهم فيتألفون لدفع الشر بمال فلا يعطون شيئا من الزكاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس والآن لا يعطون أصلا لقوة الإسلام والاستغناء عن تألفهم ولأنه ليس في الآية دلالة على أن المؤلفة يجوز أن يكونوا من الكفار فلا ينبغي أن يقال إن حكم الآية منسوخ، الصنف الخامس قوله وفي الرقاب. قال الزجاج: تقديره وفي فك الرقاب، وللأئمة في تفسيره أقوال فعن ابن عباس أنهم المكاتبون وهو مذهب الشافعي قال: إذا عجزوا عن أداء النجوم بأن يكون لهم شيء أو لا يفي ما في أيديهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 بنجومهم صرف إليهم أو إلى سيدهم بإذنهم ما يعينهم على العتق. وقال مالك وأحمد وإسحق: المراد أنه يشتري به عبيد فيعتقون. وعن أبي حنيفة وأصحابه. وهو قول سعيد بن جبير والنخعي، أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب لأن قوله وَفِي الرِّقابِ يقتضي أن يكون له فيه مدخل وذلك ينافي كونه تاما فيه. وقال الزهري: سهم الرقاب نصفه للمكاتبين المسلمين ونصفه يشتري به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون. قال المفسرون: إنما عدل عن اللام إلى «في» لأن الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤا، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة. ففي الرقاب يوضع نصيبهم في تخليص رقابهم عن الرق أو الأسر ولا يدفع إليهم، وفي الغارمين يصرف المال إلى قضاء ديونهم، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاج إليه في الغزو، وفي ابن السبيل كذلك يصرف إلى ما يبلغه المقصد. وقال في الكشاف: إنما عدل للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصديق عليهم ممن سبق لأن «في» للوعاء فنبه به على أنهم أحقاء بأن يجعلوا مصبا للصدقات. وتكرير «في» في قوله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين الصنف السادس الغارمون قال الزجاج: أصل الغرم لزوم ما يستحق وسمي العشق غراما لكونه أمرا شاقا لازما. وفلان مغرم بالنساء، وسمي الدين غرما لأنه شاق لازم. فالغارمون المديونون والدين إن حصل بسبب معصية لم يدخل في الاية لأن المعصية لا تستوجب الإعانة وإن حصل لا بالمعصية فهو مقصود الآية سواء حصل بسبب نفقات ضرورية أو لإصلاح ذات البين. وإن كان متمولا أو للضمان إن أعسر هو والأصيل وكل داخل في الآية. روى الأصم في تفسيره أنه صلى الله عليه وسلم لم قضى بالغرة في جنين قالت العاقلة: لا نملك الغرة يا رسول الله، فقال لحمد ابن مالك: أعنهم بغرة من صدقاتهم، وكان حمد على الصدقة يومئذ. وإنما يعطى الغارم قدر دينه إن لم يقدر على شيء وإن قدر على بعض أعطى الباقي. الصنف السابع قوله فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني الغزاة. قال الشافعي: يجوز له أن يأخذ من مال الصدقات وإن كان غنيا وهو مذهب مالك وأحمد وإسحق وأبي عبيد. وقال أبو حنيفة: لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجا وظاهر لفظ الآية لا يوجب القصر على الغزاة فلهذا نقل القفال عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقة إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأن كلها في سبيل الله. الصنف الثامن ابن السبيل وهو المسافر لا لأجل معصية، يعطى ما يبلغه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 المقصد أو موضع ماله إن كان له في الطريق مال. قال الشافعي: ويدخل في المسافر الشاخص من وطنه أو من بلد كان مقيما به منشئا للسفر والغريب المجتاز ببلدنا والله أعلم. ولنذكر طرفا من أحكام هذه الأصناف: الحكم الأول: اتفقوا على دخول الزكاة الواجبة في قوله إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لقوله في موضع آخر خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103] ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» «1» واختلفوا في الصدقة المندوبة فمنهم من قال تدخل، والفائدة أن تعلم أن مصارف جميع الصدقات ليست إلا هؤلاء الأصناف، والأقرب اختصاص الآية بالواجبة لدخول لام التمليك في الأصناف، والصدقة المملوكة لهم ليست إلا الزكاة ولأن الآية تدل على الحصر في الأصناف الثمانية والصدقة المندوبة يجوز صرفها إلى وجوه أخر كالمساجد والمدارس وتجهيز الموتى، ولأن الصدقات تنصرف إلى معهود سابق وهو الصدقات الواجبة في قوله وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ. الحكم الثاني: في الآية دلالة على أن الزكاة إنما يتولى أخذها الإمام أو نائبه لأنه تعالى جعل للعاملين سهما منها. والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات ويتأكد هذا النص بقوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً فالقول بأن المالك يجوز له إخراج زكاة الأموال الباطنة بنفسه إنما يعرف بدليل آخر كقوله فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 19] وإذا كان حقا لهما وجب أن يجوز دفعه إليهما ابتداء، وإذا كان الإمام جائرا فالتفريق بنفسه أفضل. الحكم الثالث: مذهب أبي حنيفة أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء وأبي العالية والنخعي، لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الثمانية فلا يلزم أن يكون كل جزء من أجزائها كصدقة زيد مثلا موزعا على كل واحد منهم، ولأن الرجل الذي لا يملك إلا عشرين دينارا فأخرج نصف دينار لو كلفناه أن يقسمه على أربعة وعشرين لدفع كل ثلاثة منها إلى ثلاثة من كل   (1) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 4، 32، 42. مسلم في كتاب الزكاة حديث 1، 3، 4. أبو داود في كتاب الزكاة باب 2. الترمذي في كتاب الزكاة باب 7. النسائي في كتاب الزكاة باب 5. ابن ماجه في كتاب باب 6. الدارمي في كتاب الزكاة باب 11. الموطأ في كتاب الزكاة حديث 1، 2. أحمد في مسنده (2/ 92) (3/ 30) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 صنف صار كل قسم حقيرا صغيرا غير منتفع به في مهم معتبر. وعن سعيد بن جبير لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها كان أحب إلي. وقال الشافعي: لا بد من صرفها، إلى الأصناف الثمانية وهو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز. واحتجوا عليه بأن الله تعالى ذكر هذه القسمة في نص الكتاب ثم أكدها بقوله فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وهو في معنى المصدر المؤكد لأن قوله إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ في قوة قوله فرض الله الصدقات لهم، وهذا كالزجر عن مخالفة الآية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله تبارك وتعالى لم يرض بقسمة ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه» . ثم ختم الآية بقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي بتقدير الأنصباء والمصالح حَكِيمٌ لا يفعل إلا ما هو الأصوب والأصلح وكل هذه المؤكدات دليل على وجوب الاحتياط في صرف الزكاة، ومن هاهنا قال الشافعي: لا بد في كل صنف من ثلاثة لأنه تعالى ذكر أكثر الأصناف بلفظ الجمع وأقل الجمع ثلاثة، فإن دفع نصيب الفقراء إلى اثنين غرم للثالث أقل متمول على الأقيس لا الثلث، لأن التفضيل في أفراد الصنف جائز للمالك لأن العدد من كل صنف غير محصور فيصعب اعتبار التسوية بخلاف التسوية بين الأصناف لأنهم محصورون فتسهل التسوية بينهم. الحكم الرابع: العامل والمؤلفة قلوبهم مفقودان في زماننا فبقي أن تصرف الزكاة إلى الأصناف الستة الباقية كما لو فقد بعض الأصناف في بلد فإنه يصرف إلى الباقين، ولا يؤمر بالنقل إلى بلد وجدوا فيه جميعا والأحوط رعاية التسوية بينهم على ما يقوله الشافعي، أما إذا لم يفعل ذلك فإنها مجزئة عند سائر الأئمة. أما الحكمة في إيجاب الزكاة فهو أن المال محبوب بالطبع لأن القدرة من صفات الكمال والمال سبب. لحصول القدرة على المشتهيات والمآرب لكن الاستغراق في حبه يذهل النفس عن حب الله وعن التأهب للآخرة فاقتضت الحكمة الإلهية تكليف مالك المال إخراج طائفة منه كسرا للنفس ومنعا من انصبابها بالكلية إليه. فإيجاب الزكاة علاج صالح لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب وهو المراد من قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ أي عن دنس الاستغراق في حب المال. وأيضا إن كثرة الأموال توجب القوة والقدرة والشدة، وتزايد تلك اللذات يدعو الإنسان إلى تحصيل الأموال المتزايدة فتصير المسألة دورية لا مقطع لها ولا آخر فأثبت الشرع لها مقطعا وآخرا وهو صرف طائفة من المال في طلب مرضاة الله ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له ويفضي في الأغلب إلى الطغيان وقساوة القلب. وأيضا النفس الناطقة لها قوتان: نظرية وكمالها في التعظيم لأمر الله، وعملية وكمالها في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 الشفقة على خلق الله فأوجب الله الزكاة ليتصف جوهر الروح بهذا الكمال ويصير بسبب ذلك محسنا إلى الخلق، وإذا أحسن إليهم أمدوه بالدعاء والهمة. وأيضا المال سمي مالا لكثرة ميل كل أحد إليه وهو غاد ورائح سريع الزوال مشرف على التلف والبوار، فإذا أنفقه لوجه الله بقي بقاء لا يمكن زواله. وفي إنفاق المال تشبه بالمجردات والمفارقات وليس الغنى إلا عن الشيء لا به لأن الاستغناء عن الشيء صفة الحق والاستغناء بالشيء صفة المخلوقين العاجزين، ففي الأمر بالزكاة نقل للإنسان من درجة أدنى إلى درجة أعلى. وأيضا للإنسان روح وبدن ومال فإذا بذلك الروح في الاستغراق في بحار معرفة الله، وبذل البدن في العبودية لله والصلاة له فكيف يليق به أن لا يبذل المال في ابتغاء مرضاته؟! وأيضا إذا فضل المال عن قدر الحاجة وحضر إنسان آخر محتاج فههنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال، أما في حق المالك فهو أنه سعى اكتسابه وتحصيله وتعلق قلبه به، وأما في حق الفقير فلاحتياجه الموجب للتعلق به فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت حكمة الشارع رعاية كل منهما بقدر الإمكان. ورجح جانب المالك لأن له حق الاكتساب وحق التعلق فأبقى عليه الكثير وأمر بصرف جزء يسير إلى الفقير توفيقا بين الأمرين وجمعا بين المصلحتين مع رعاية المال عن التعطيل فلا معطل في الوجود. وأيضا الأغنياء خزان الله لأن المال مال الله وهم عبيده ولولا أنه ألقاها في أيديهم لما ملكوا منها حبة، فكم من عاقل لا يملك ملء بطنه، وكم من غافل تأتيه الدنيا عفوا صفوا. وليس بمستبعد أن يقول الملك لخزّانه اصرفوا طائفة من مال خزانتي إلى المحتاجين من عبيدي. وأيضا إن الأغنياء لو لم يلزموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملتهم شدة الحاجة على تحصيل المال من وجوه منكرة كالسرقة ونحوها أو على الالتحاق بأعداء المسلمين. وقال صلى الله عليه وسلم «الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر» وكأن الله تعالى يقول للغني أعطيتك المال فشكرت فصرت من الشاكرين فأخرج من يدك نصيبا منه حتى تصبر على فقدان المال فتصير من الصابرين، ويقول للفقير ما أعطيتك الأموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين ولكني أوجبت على الغني أن يصرف إليك طائفة من المال لتشكرني فتكون من الشاكرين. وأيضا أراد الله سبحانه أن يكون الغني منعما على الفقير بما يؤديه إليه ويكون الفقير منعما على الغني بما قبله منه ليحصل الخلاص في الدنيا من الذم والعار وفي الآخرة من عذاب النار. ثم حكى نوعا من فضائح المنافقين وهو أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الطعن والذم هُوَ أُذُنٌ عن ابن عباس كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 ويقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فنحلف له. فقال الجلاس بن سويد، نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإنما محمد أذن سامعة فنزلت الآية. وقال محمد بن إسحق بن يسار وغيره: نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحرث وكان رجلا أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلقة وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «من أراد أن ينظر إلى الشيطان فليننظر إلى نبتل بن الحرث» وكان ينم حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين فقيل له: لا تفعل فقال: إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدّقنا. وقال السدي: اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن الصامت ووديعة بن ثابت فأرادوا إن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس، فحقروه فتكلموا وقالوا إن كان ما يقوله محمد حقا لنحن شر من الحمير فغضب الغلام وقال: والله إن ما يقول محمد حق وإنكم لشر من الحمير، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا أن عامرا كاذب وحلف عامر أنهم كذبة. وقال: اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق من كذب الكاذب فنزلت الآيتان. قال علماء اللغة: الأذن الرجل الذي يصدق بكل ما يسمع ويقبل قول كل أحد سمي بالجارحة التي هي آلة السماع كأن جملته أذن سامعة ومثله قولهم للربيئة عين. وفسر إيذاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يقولون له أذن وذلك أنهم قصدوا به المذمة وأنه ليس ذا ذكاء ولا بعيد غور بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع. ويجوز أن يراد بالإيذاء أنواع أخر سوى هذا القول أي يؤذونه بالغيبة والنميمة وسائر أنواع الأذية ويقولون في وجه الاعتذار عن ذلك هو أذن يقبل كل ما يسمع، فنحن نأتيه فنعتذر إليه فيسمع عذرنا فيرضى، ثم إنه سبحانه أجاب عن قولهم فقال قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ بالإضافة كقولهم: رجل صدق يريدون الجودة والصلاح. ومجوز الإضافة هو الملابسة كأنه قيل: نعم هو أذن ولكن نعم الأذن إذ أريد هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بإذن في غير ذلك ويؤيده قراءة حمزة رَحْمَةٌ بالجر عطفا عليه عطف الخاص على العام أي هو أذن خير ورحمة لا يسمع ولا يقبل غيرهما. ثم بين كونه أذن خير بأنه يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أي يقرّ به ويعترف بوحدانيته لما قام عنده من الأدلة وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يسلم لهم قولهم لوثوقه بقولهم وعلمه بإخلاصهم لا لكونه من أهل الغرة والبله وَهو رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ باللسان دون الجنان لأنه يجري أمركم على الظاهر ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم فإن الله هو الذي يتولى السرائر ولهذا ختم الآية بقوله وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وأما من قرأ أُذُنُ خَيْرٍ بالرفع فيهما فعلى أن الإذن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 خبر مبتدأ محذوف وخَيْرٍ كذلك أي هو أذن هو خير. والمعنى هو أذن موصوف بالخيرية في حقكم لأنه يقبل معاذيركم ويتغافل عن جهالاتكم فتحفظ بذلك دماؤكم وأموالكم. وقيل: التقدير قل أذن واعية سامعة للحق خير لكم من هذا الطعن الفاسد. ثم ذكر بعده ما يدل على فساد هذا الطعن وهو قوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إلى آخره. ووجه ثالث ذكره صاحب النظم واستحسنه الواحدي وهو أن قوله أُذُنٌ وإن كان رافعا في الظاهر لكنه نصب في الحقيقة على الحال وتأويله: قل هو أذنا خير لكم. ذكر أن من قبائح المنافقين إقدامهم على الإيمان الكاذبة فقال يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أي كان من الواجب أن يرضوا الله تعالى بالإخلاص والتوبة لا بإظهار ما يستسرون خلافه. وإنما لم يقل يرضوهما تعظيما لله بالإفراد بالذكر، أو المراد والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، أو وقع الاكتفاء بذكر الله لأن رضا الله ورضا رسوله شيء واحد كما يقال إحسان زيد وإجماله بعثني ومعني إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ أي بزعمهم. ثم وبخهم بقوله أَلَمْ يَعْلَمُوا وذلك أنه يقال ذلك لمن تتولع في تعليمه مدة ثم لم يظهر عليه أثر العلم والرشد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم طال مكثه فيهم وكثر تحذيره عن المعصية وترغيبه في الطاعة. والضمير في قوله أَنَّهُ للشأن وفائدته مزيد التعظيم والتهويل. والمحادة المخالفة لأن كلا منهما في حد غير حد صاحبه كالمشاقة لأن كلا منهما في شق آخر. وقال أبو مسلم: هي من الحديد حديد السلاح. ثم ذكر في الجزاء قوله فَأَنَّ لَهُ بالفتح أي فحق أن له نارَ جَهَنَّمَ وقيل «أن» مكرر للتأكيد والتقدير فله نار جهنم. وقيل «فإن» معطوف على «أنه» وجواب من محذوف وهو يهلك. قال الزجاج: يجوز كسر «أن» على الاستئناف بعد الفاء ولكن القراءة بالفتح. ونقل الكعبي في تفسيره أنه قرىء بالكسر. قال السدي: قال بعض المنافقين: والله لوددت إني قدمت فجلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء فيفضحنا فأنزل الله تعالى يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ وقال مجاهد: كانوا يقولون القوم بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا فنزلت. والضمير في عَلَيْهِمْ وتُنَبِّئُهُمْ للمؤمنين وفي قُلُوبِهِمْ للمنافقين، ويجوز أن تكون الضمائر كلها للمنافقين لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم وكأنها تخبر عما في بواطنهم وتذيع عليهم أسرارهم. قيل: المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحي لأنه غير قائل به؟ وأجيب بأنهم عرفوا ذلك بالتجربة أو كفرهم كان كفر عناد أو كانوا شاكين في صحة نبوته والشاك في أمر خائف من وقوعه، أو هذا الخبر في معنى الأمر أي ليحذر المنافقون. عن أبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 مسلم أنهم أظهروا هذا الحذر على سبيل الاستهزاء ولهذا أجابهم الله بقوله اسْتَهْزِؤُا وهو أمر تهديد إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ مظهر ما تحذرونه من نفاقكم أو محصل إنزال السورة لأن الشيء إذا حصل بعد عدم فكأن فاعله أخرجه من العدم إلى الوجود. قوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الآية. عن ابن عمر أن رجلا من المنافقين قال في غزوة تبوك. ما رأيت مثل هؤلاء الفراء أرغب بطونا أي أوسع ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله وأصحابه. فقال واحد من المؤمنين: كذبت وأنت منافق. ثم ذهب ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به عنا الطريق قال ابن عمر: رأيت عبد الله بن أبيّ يشتد قدام رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن؟ ما يلتفت إليه ولا يزيد عليه. وقال الحسن وقتادة: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات. فأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك فقال: احبسوا عليّ الركب فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا فقالوا: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. قال الواحدي: أصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين ثم كثر حتى أطلق على كل دخول فيه تلويث وأذى أي كنا نخوض في الباطل كما يخوض الركب لقطع الطريق. ثم أمر نبيه بأن يقول في جوابهم أَبِاللَّهِ أي بتكاليفه أو بأسمائه أو بقدرته حيث استبعدتم إعانته النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على فتح قصور الشام وَآياتِهِ يعني القرآن وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لم يعبأ باعتذارهم فجعلوا كأنهم معترفون بوقوع الاستهزاء منهم فأوقع الإنكار على الاستهزاء بالله بأن أولى الاستفهام الذي يفيد التقرير المستهزأ به ولم يقل «أتستهزؤن بالله» . ثم قال: لا تَعْتَذِرُوا نقل الواحدي عن أئمة اللغة أن معنى الاعتذار محو أثر الذنب أو قطعه من قولهم: اعتذر المنزل إذا درس. واعتذرت المياه إذا انقطعت، ومنه عذرة الجارية لأنها تعذر أي تقطع. والعذر سبب لقطع اللوم، نهاهم الله عن الاعتذار بالخوض واللعب لأن الشيء الذي يوجب الكفر لا يصلح للعذر. ثم بين ذلك بقوله قَدْ كَفَرْتُمْ أي صريحا بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي بعد الإيمان الذي أظهرتموه. وفيه أن الاستهزاء بالدين كيف كان كفر بالله صريح لأن العمدة الكبرى في الإيمان هو التعظيم لأمر الله ولشرائعه. إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ ذكر المفسرون أنهم كانوا ثلاثة، استهزأ اثنان وضحك الثالث، ولما كان ذنب الضاحك أخف لأنه لم يوافق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 القوم في الكفر فلا جرم عفا الله عنه. وفيه إشارة إلى أنه من خاض في عمل باطل فعليه أن يجتهد في التقليل ويحذر من الانهماك فإنه يرجى له ببركة ذلك القليل أن يعفو الله عنه الكل. قال الزجاج: الطائفة في اللغة الجماعة لأنها المقدار الذي يمكنه أن يطيف بالشيء، ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة قال تعالى وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2] وأقله الواحد. وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس أنه قال: الطائفة الواحد فما فوقه. ووجه بأن من اختار مذهبا فإنه ينصره ويذب عنه من كل الجوانب فلا يبعد أن يسمى طائفة بهذا السبب والتاء للمبالغة. وقال ابن الأنباري: العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد وقال تعالى الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران: 173] يعني نعيم بن مسعود. ثم علل كونه معذبا للطائفة الثانية بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ أي مصرين مستمرّين على الجرم، ويجوز أن يكون سبب العفو عن الطائفة الأولى إحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق، ويجوز أن يراد بالعذاب العذاب العاجل. ومن قرأ أن يعف على البناء للمفعول والتذكير فلأنه مستند إلى الظرف كما تقول: سير بالدابة دون سيرت. وقرىء بالتأنيث ذهابا إلى المعنى كأنه قيل: إن ترحم طائفة. ثم ذكر جملة أحوال المنافقين وأن إناثهم في ذلك كذكورهم فقال الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي في صفة النفاق وأريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في قولهم إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وتقرير قوله وَما هُمْ مِنْكُمْ ثم فصل ذلك المجمل ببيان مضادة حالهم الحال المؤمنين فقال يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وهو كل قبيح عقلا أو شرعا وأعظم ذلك تكذيب الله ورسوله. وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وهو كل حسن عقلا أو شرعا وأعظم ذلك الإخلاص في الإيمان وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن كل خير أو عن كل واجب كصدقة أو زكاة أو اتفاق في سبيل الله، وهذا أولى ليتوجه الذم بتركه. وقبض الأيدي كناية عن الشح والبخل كبسطها في الكرم والسخاء نَسُوا اللَّهَ أغفلوا أمره وتركوا ذكره وذلك أن النسيان الحقيقي لا يتوجه عليه الذم فَنَسِيَهُمْ جازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته وهذا على سبيل المزاوجة والطباق. وإنما جعل النسيان عبارة عن ترك الذكر لأن من نسي شيئا لم يذكره فدل بذكر الملزوم على اللازم. ثم قال إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ وفيه دليل على أنهم هم الكاملون في الفسق وأن على المسلم أن يحترز عما يكسبه هذا الاسم. ثم بين مآل حال أهل النفاق والكفر فقال وَعَدَ اللَّهُ الآية ومعنى خالِدِينَ فِيها مقدرين الخلود فيها قاله في الكشاف ويحتمل أن يراد مستأهلين للخلود هِيَ حَسْبُهُمْ كافيهم في الجزاء والإيلام ومع ذلك فقد لعنهم الله ليكون العذب مقرونا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 بالإهانة والطرد وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ نوع آخر من العذاب الدائم سوى عذاب النار، أو عذاب عاجل لا ينفكون عنه من تعب النفاق والخوف من افتضاحهم. ثم شبه المنافقين بالكفار الذين كانوا قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن الخيرات فقال ملتفتا من الغيبة إلى الخطاب كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي أنتم مثل الذين أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم. فعلى الأول محل الكاف رفع وعلى الثاني نصب. ثم وصف أولئك الكفار بأنهم كانوا أشد قوة أي جسامة من هؤلاء المنافقين وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ وهو ما خلق للإنسان أي قدر له من خير كما قيل له قسم لأنه قسم ونصيب لأنه نصب أي أثبت. فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ قيل: ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانيا ثم تكريره في حق الأوّلين ثالثا؟ وأجيب بأنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وحرمانهم عن سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ، فلما قرر تعالى هذا الذم عاد فشبه حال المنافقين بحالهم فيكون ذلك نهاية في المبالغة. قال جار الله: نظيره أن تقول لبعض الظلمة أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب وأنت تفعل مثل فعله. وأما قوله وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك التقدمة. ومعنى «كالذي» كالخوض الذي خاضوه أو كالفوج الذي خاضوا. وقيل: أصله كالذين فحذف النون. ثم بين أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال أما في الدنيا فبسبب الفقر والانتقال من العز إلى الذل ومن القوة إلى الضعف، وأما في الآخرة فلأنهم هلكوا وبادوا وانتقلوا إلى العقاب الدائم وخسران الدارين. فهؤلاء المنافقون المشاركون لهم في هذه الأعمال والفضائح مع ضعف بنيتهم وقلة عددهم وعددهم أولى بخزي الدارين وخسار الأمرين. التأويل: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ وهي صدقات مواهب الله كما قال صلى الله عليه وسلم «ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا لله فيها صدقة على من يشاء من عبادة الفقراء وهم الأغنياء بالله الذين فنوا عنهم وبقوا به» وَالْمَساكِينِ الذين لهم بقية أوصاف الوجود ألقوا سفينة القلب في بحر الطلب وقد خرقها خضر المحبة وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف: 73] وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وهم أرباب الأعمال كما كان الفقراء والمساكين أرباب الأحوال وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ الذين تتألف قلوبهم بذكر الله وَفِي الرِّقابِ الذين يريدون أن يتخلصوا عن رق الموجودات تحر لعبودية موجدها. والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وَالْغارِمِينَ الذين استقرضوا من مراتب المكونات أوصافها وطبائعها وخواصها وهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 محبوسون في سجن الوجود فهم معاونون بتلك الصدقات للخلاص عن حبس الوجود وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ المجاهدين الجهاد الأكبر مع كفار النفوس والهوى والشيطان والدنيا وَابْنِ السَّبِيلِ المسافرون عن أوصاف الطبيعة وعالم البشرية، السائرون إلى الله على أقدام الشريعة والطريقة فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أوجبها على ذمة كرمه كما قال «ألا من طلبني وجدني» وَاللَّهُ عَلِيمٌ بطالبيه حَكِيمٌ في معاونتهم بعد الطلب كقوله «من تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا» وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ رأوا محامده بنظر المذمة والعيب قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي سامعيته خير لكم لأن له مقام السامعية يسمع ما يوحى إليه يُؤْمِنُ بِاللَّهِ عيانا وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ لأن فوائد إيمانه تعود إليهم كما تعود إلى نفسه وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا لأنهم يهتدون بهداه وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ والحذر لا يغني عن القدر إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ إظهارا للفضل والرأفة نُعَذِّبْ طائِفَةً إظهار للقهر والعزة ولكن إظهار اللطف بلا سبب. وإظهار القهر لا يكون إلا بسبب أنهم كانوا مجرمين وبَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ لأن أرواحهم كانت في صف واحد في الأزل فمعاملاتهم من نتائج خصوصيات أرواحهم نَسُوا اللَّهَ ولو ذكروه قبل الإتيان بالمعاصي لم يفعلوا ما فعلوا، ولو ذكروه بعد الإتيان لاستغفروا فغفر لهم هِيَ حَسْبُهُمْ لأنها نصيبهم في الأزل كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً بالاستعداد الفطري وضيعوها في الاستمتاع العاجل فخسروا رأس المال ولم يربحوا. [سورة التوبة (9) : الآيات 70 الى 79] أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 القراآت: وَالْمُؤْتَفِكاتِ وبابه بغير همز: أبو عمرو غير شجاع وورش ويزيد والحلواني عن قالون والأعشى وحمزة في الوقف. الوقوف: وَالْمُؤْتَفِكاتِ ط بِالْبَيِّناتِ ج لابتداء النفي مع فاء التعقيب. يَظْلِمُونَ هـ أَوْلِياءُ بَعْضٍ م لما مر. وَرَسُولَهُ ط سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ط حَكِيمٌ هـ عَدْنٍ ط أَكْبَرُ ط الْعَظِيمُ هـ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ط جَهَنَّمُ ط الْمَصِيرُ هـ ما قالُوا ط لَمْ يَنالُوا ج مِنْ فَضْلِهِ ط خَيْراً لَهُمْ ج وَالْآخِرَةِ ج وَلا نَصِيرٍ هـ مِنَ الصَّالِحِينَ هـ مُعْرِضُونَ هـ يَكْذِبُونَ هـ عَلَّامُ الْغُيُوبِ هـ ج لاحتمال النصب أو الرفع على الذم. وكونه بدلا من الضمير في نَجْواهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ط. سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ط لإتمام الجزء مع اختلاف النظم. أَلِيمٌ هـ. التفسير: لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في تكذيب الأنبياء والاشتغال بالنعيم الزائل بين أن أولئك الكفار من هم فذكر ست طوائف سمع العرب أخبارهم لأن بلادهم- وهي الشام- قريبة من بلادهم وقد بقيت آثارهم مشاهدة، ولهذا صدر الكلام بحرف الاستفهام للتقرير. فأوّلهم قوم نوح وقد أهلكوا بالإغراق، وثانيهم: قوم عاد وأهلكوا بالريح العقيم، وثالثهم: ثمود وأخمدوا بالصيحة، ورابعهم: قوم إبراهيم سلط الله عليهم البعوض وكفى شر ملكهم وهو نمرود ببعوضة واحدة سلطها على دماغه، وخامسهم: أصحاب مدين قوم شعيب أخذتهم الرجفة، وسادسهم: أصحاب المؤتفكات قوم لوط أمطر الله عليهم الحجارة بعد أن جعل مدائنهم عاليها سافلها. والائتفاك الانقلاب سميت مدائنهم بذلك لأن الله تعالى قلبها عليهم. ويمكن أن يراد بالمؤتفكات الناس لانقلاب أحوالهم من الخير إلى الشر. ثم قال أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات ولا بد بعد هذا من إضمار والتقدير فكذبوهم فأهلكهم الله. فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ قالت المعتزلة: أي ما صح منه الظلم ولكنهم استحقوا ذلك بسبب كفرهم، وقد مر الكلام في أمثال ذلك. ثم بين أن شأن المؤمنين في الدنيا والآخرة بخلاف المنافقين فقال وَالْمُؤْمِنُونَ الآية قال بعض العلماء: إنما قال هاهنا أَوْلِياءُ بَعْضٍ وهناك مِنْ بَعْضٍ [الآية: 66] لأن نفاق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 أتباع المنافقين حصل بسبب التقليد لأكابرهم بمقتضى الطبع والعادة بخلاف الموافقة بين المؤمنين فإنها بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية. وأقول: كون بعض المنافقين من بعض يوجب اشتراكهم في أمر من الأمور بالجملة كالدار أو حكم من الأحكام الشرعية أو سيرة وطريقة وهذا هو المقصود، ولكنه يحتمل أن يكون تكلفا أو بطريق النفاق لأن سببه انعقاد غرض من الأغراض الدنيوية العاجلة فذكر الله تعالى اشتراكهم في ذلك بلفظ «من» لمكان الاحتمال المذكور. وأما تشارك المؤمنين في السيرة فلما كان سببه الإخلاص والعصبية للدين والاجتماع على ما يفضي إلى سعادة الدارين كانت الموالاة بينهم محققة فصرح الله تعالى بذلك. ثم وصفهم بأضداد صفات المنافقين فقال يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهاتان الصفتان بالنسبة إلى غيرهم. ثم قال وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهاتان لهم في أنفسهم وهما بإزاء قوله في صفة المنافقين وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ [التوبة: 54] . ثم وصفهم بالطاعة على الإطلاق فقال وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في كل ما يأتون ويذرون. ثم ذكر ما أعدّ لهم من الثواب على سبيل الإجمال فقال أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ والسين تفيد المبالغة في إنجاز الوعد بالرحمة كما يؤكد الوعيد به إذا قلت سأنتقم منك يوما يعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك. ثم ختم الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وفيه ترغيب للمؤمنين وترهيب للكافرين لأن العزيز هو من لا يمنع من مرادة في عباده من رحمة أو عقوبة. والحكيم هو الذي يدبر عباده على وفق ما يقتضيه العدل والصلاح. ثم فصل ما أجمل من الرحمة بقوله وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ لآية. وقد كثر كلام أصحاب الآثار في معنى جنات عدن فقال الحسن: سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن ذلك فقالا: على الخبير سقطت سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هو قصر في الجنة من اللؤلؤ وفيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا على كل فراش زوجة من الحور العين، وفي كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام، وفي كل بيت سبعون وصيفة يعطى المؤمن من القوة ما يأتي على ذلك أجمع» . وعن ابن عباس أنها دار الله لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر. وقال ابن مسعود: جنات عدن بطنان الجنة أي وسطها قاله الأزهري. وبطنان الأودية المواضع التي يستنقع فيها السيل واحدها بطن. وقال عطاء عن ابن عباس: هي قصبة الجنة وسقفها عرش الرحمن وهي المدينة التي فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى. وسائر الجنات حولها. وفيها عين التسنيم وفيها قصور الدر والياقوت والذهب. فتهب الريح من تحت العرش فتدخل عليها كثبان المسك الأبيض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 وقال عبد الله بن عمر: وإن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج وله خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صدّيق أو شهيد. وفي هذه الأخبار دلالة على أن عدنا علم ويؤيده قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ [مريم: 61] ولو لم يكن علما لم يوصف بالمعرفة. ولا ريب أن أصله صفة من قولك عدن بالمكان إذا أقام به، ومنه المعدن للمكان الذي تخلق فيه الجواهر. وعلى هذا فالجنات كلها جنات عدن. إلا أن يغلب الاسم على بعضها. وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ شيء يسير من رضاه أَكْبَرُ من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز وكرامة وكل خطب مع رضا المولى هين، وكل نعيم مع سخطه منغص. وفيه دليل على أن السعادات الروحانية أعلى حالا وأشرف مآلا من السعادات الجسمانية بل لانسبة لتلك اللذة والابتهاج إلى هذه على أن الاعتراف بالسعادات الجسمانية واجب من حيث الشرع ذلِكَ الموعود والرضوان هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وحده دون ما يعده الناس فوزا. في الحديث «إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا وأي شيء أفضل من ذلك قال أدخل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» «1» ثم عاد مرة أخرى إلى شرح أحوال المنافقين فقال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ قال الضحاك: أي جاهد الكفار واغلظ على المنافقين لأن المنافق لا تجوز محاربته في ظاهر الشرع. وضعف بأن النسق يأباه. وقيل: المراد بهؤلاء المنافقين هم الذين عرفه الله حالهم فصاروا كسائر الكفرة فجاز قتالهم، وزيف بأنه وإن علم حالهم بالوحي إلا أنه مأمور بأن يحكم بالظاهر والقوم كانوا يظهرون الإسلام فكيف يجوز قتالهم؟ والصحيح أن الجهاد بذل المجهود في حصول المقصود وهو شامل للسيف واللسان، فالمراد جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة واغلظ عليهم في الجهادين جميعا عن ابن مسعود: إن لم يستطع بيده فبلسانه، فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه، فإن لم يستطع فبقلبه بأن يكرهه ويبغضه ويتبرأ منه. وحمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها. واعترض عليه بأن إقامة الحدود واجبة على كل فاسق فلا يكون لهذا تعلق بالنفاق. واعتذر عنه بأنه قال ذلك لأن عنده أن كل فاسق منافق أو   (1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 51. كتاب التوحيد باب 38. مسلم في كتاب الجنة حديث 9. الترمذي في كتاب الجنة باب 18. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 لأن الغالب ممن يقام عليه الحد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كونه منافقا. قال الضحاك: خرج المنافقون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وكانوا إذا خلا بعضهم إلى بعض سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وطعنوا في الدين، فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم؟ فحلفوا ما قالوا شيئا من ذلك فأنزل الله تعالى يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وعن قتادة أن رجلين اقتتلا رجل من جهينة ورجل من غفار فظهر الغفاري على الجهني فنادى عبد الله بن أبيّ يا بني الأوس انصروا أخاكم فو الله ما مثلنا محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك وقال لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 8] فسعى بها رجل من المسلمين إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فجعل يحلف بالله ما قال فنزلت الآية. ومعنى قوله وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أنهم أظهروا الكفر بعد ما كانوا يظهرون الإسلام. أما قوله وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا فهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من تبوك، وذلك أنه توافق خمسة عشر رجلا منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل، وكان عمار بن ياسر أخذ بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبيناهم كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلام فالتفت فإذا هم قوم متلثمون فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا. وقيل: همّ المنافقون بقتل عامر بن قيس لرده على الجلاس بن سويد وقد مر في تفسير قوله يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ [التوبة: 62] وقيل: أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَما نَقَمُوا وما أنكروا وما عابوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ كقول القائل. ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فظفروا بالغنائم وجمعوا الأموال. وروي أنه قتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى، ثم استعطف قلوبهم بعد صدور هذه الجنايات العظيمة عنهم فقال فَإِنْ يَتُوبُوا بك يعني ذلك الرجوع خَيْراً لَهُمْ وكان الجلاس ممن تاب فحست توبته وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يعرضوا عن التوبة يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي واغتنام الأموال. وقيل: بما ينالهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب. وقيل: في القبر وأما عذاب الآخرة فمعلوم وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ يحتمل أرض الدنيا وأرض القيامة. ثم بين أن هؤلاء كما ينافقون الرسول والمؤمنين فكذلك ينافقون ربهم فيما يعاهدونه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 عليه فقال وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ يروى عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يرزقني مالا فقال: ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. ثم قال مرة أخرى فقال: أما ترضى أن تكون مثل نبي الله، فو الذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال فضة وذهبا لسارت. فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالا لأوتين كل ذي حق حقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارزق ثعلبة مالا. فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر خبره فقال: يا ويح ثعلبة ثلاثا وأنزل الله عز وجل خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103] فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة رجلا من جهينة ورجلا من بني سليم، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة وقال لهما. مرا بثعلبة وبفلان رجل من بني سليم فخذا صدقاتهما. فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ما أدري ما هذا، انطلقا حتى تفرغا ثم تعودان إليّ. فانطلقا وأخبرا السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهم بها فلما رأوها قالوا: ما يجب هذا عليك وما نريد أن نأخذ هذا منك. قال: بلى خذوه فإن نفسي بها طيبة. فأخذوها منه ثم رجعا على ثعلبة فقال: أروني كتابكما ثم قال: ما هذه إلا أخت الجزية، انطلقا حتى أرى رأيي. فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآهما قال: يا ويح ثعلبة قبل أن يكلمهما ودعا للسلمي بالبركة ثم نزلت الآية وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة، فخرج إليه وقال: يا ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا. فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه صدقته فقال: إن الله قد منعني أن أقبل منك صدقتك. فجعل يحثو التراب على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني. فلما أبى أن يقبل منه شيئا رجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئا، ثم أتى أبا بكر حين استخلف فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي من الأنصاري فاقبل صدقتي. فقال: لم يقبلها رسول الله وأنا أقبلها؟ فقبض أبو بكر وأبى أن يقبلها، ثم جاء بها إلى عمر في خلافته فلم يقبلها في خلافة عثمان ولم يقبل صدقته واحد من الخلفاء اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقول وما ذاك إلا بشؤم اللجاج أولا وآخرا. قال بعض العلماء: المعاهدة أعم من أن تكون باللسان أو بالقلب. وقال المحققون: إنه لا بد من التلفظ بها لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به نفوسهم ولم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 يتلفظوا به» «1» ولأن قوله عز من قائل وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ظاهره مشعر بالقول اللساني. والمراد بالفضل إيتاء المال بطريق التجارة أو الاستغنام ونحوهما. وأصل لَنَصَّدَّقَنَّ لنتصدقن أدغمت التاء في الصاد. والمصدق المعطي لا السائل كقوله تعالى وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف: 88] ومعنى قوله وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ عن ابن عباس أنه أراد الحج. ولعل المراد إخراج كل ما يجب إخراجه إذ لا دليل على التقييد. ثم وصفهم بصفات ثلاث فقال فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فالبخل عبارة عن منع الحق الشرعي، والتولي نقض العهد، والإعراض أراد به الإحجام عن تكاليف الله وأن ذلك منهم عادة معتادة، ولترتب هذا الذم عل أمنع الصدقة ولإطلاق لفظة البخل عليه وهو في عرف الشرع عبارة عن منع الواجب. ذكر العلماء أن الصدقة الملتزمة في قوله لَنَصَّدَّقَنَّ هي الصدقة الواجبة. وأن الرجل قد عاهد ربه أن يقوم بما يلزمه من الإنفاقات الواجبة. إن وسع الله عليه دون ما يلتزمه الإنسان بالنذر من المندوبات إذ لا دليل في الآية على ذلك مع أن سبب النزول يأباه. فإن قيل: الزكاة لا تلزم بسبب الالتزام وإنما تلزم بسبب ملك النصاب وحلول الحول. قلنا إن قوله لَنَصَّدَّقَنَّ لا دليل فيه على الفور بل المراد لنصدقن في وقته الذي يليق به. وفي الآية دلالة على أن الرجل حين عاهد بهذا العهد كان مسلما ثم إنه لما بخل بالمال ولم يف بالعهد صار منافقا ويؤكده قوله سبحانه فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً عن الحسن وقتادة أن أعقب مسند إلى ضمير البخل أي أورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم لأنه كان سببا فيه وباعثا عليه، وكذا التأويل إن جعل عائدا إلى التولي أو الإعراض. وضعت بأن حاصل هذه الأمور كونه تاركا لأداء الواجب وذلك لا يمكن جعله مؤثرا في حصول النفاق فى القلب لأن ترك الواجب عدم والنفاق جهل وكفر وهو أمر وجودي والعدم لا يؤثر في الوجود، ولأن هذا الترك قد يوجد في حق كثير من الفساق مع أنه لا يحصل معه النفاق، ولأنه لو أوجب حصول الكفر في القلب لأوجبه سواء كان الترك جائزا شرعا أو محرما فسبب اختلافات الأحكام الشرعية لا يخرج السبب عن كونه مؤثرا، ولأن البخل أو التولي أو الإعراض هو بعينه خلاف ما وعدوا الله به فيصير تقدير الآية إن التولي أوجب النفاق بسبب التولي وهذا كلام كما ترى فلم يبق إلا أن يسند الفعل إلى الله تعالى فيكون فيه دليل   (1) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 15. مسلم في كتاب الإيمان حديث 201، 202. أبو داود في كتاب الطلاق باب 15. الترمذي في كتاب الطلاق باب 8. ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 14. أحمد في مسنده (2/ 255، 293) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 على أن خالق الكفر في القلوب هو الله، ومن هنا قال الزجاج: معناه أنهم لما ضلوا في الماضي فالله تعالى يضلهم عن الدين في المستقبل ومما يؤكد القول بأن الضمير في فَأَعْقَبَهُمْ لله أن الضمير في قوله إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ عائد إلى الله. وللمعتزلة أن يقولوا: النفاق وإن سلم أنه وجودي لكنه أمر شرعي ولا يبعد جعل شيء عدمي أمارة عليه. وأيضا الترك المقرون بالتولي والإعراض لا نسلم أنه لا يحصل معه النفاق، ولا يلزم من كون الترك المحرم موجبا للكفر بجعل الشارع كون الترك الجائز كذلك، ولا نسلم أن البخل هو بعينه إخلاف الوعد والكذب بل قد يقع البخل من غير سبق وعد. سلمنا عود الضمير إلى الله لكن من أين يلزم كونه خالقا للكفر والنفاق، ولم لا يجوز أن يراد فأعقبهم الله العقوبة على النفاق بإحداث الغم في قلوبهم وضيق الصدور ما ينالهم من الذل والخوف، أو يراد فخذلهم حتى نافقوا وتمكن في قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا؟ ولأهل السنة أن يقولوا هذا عدول عن الظاهر مع أن الدلائل الدالة على وجوب انتهاء الكل إلى مشيئة الله وتقديره تعضد ما قلناه. قال العلماء: ظاهر الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق، فعلى المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه. ومذهب الحسن البصري أن نقض العهد يوجب النفاق لا محالة تمسكا بهذه الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» «1» وقال عطاء بن أبي رباح: حدثني جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذكر قوله «ثلاث من كن فيه فهو منافق» في المنافقين خاصة الذين حدثوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذبوه واؤتمنوا على سره فخانوه ووعدوه أن يخرجوا معه إلى الغزو فأخلفوه. ونقل أن عمرو بن عبيد فسر الحديث فقال: إذا حدث عن الله كذب عليه وعلى دينه ورسوله، وإذا وعد أخلف كما ذكره الله فيمن عاهده، وإذا اؤتمن على دين الله خان في السر وكان قلبه على خلاف لسانه. ونقل أن واصل بن عطاء أرسل إلى الحسن رجلا فقال: إن أولاد يعقوب حدثوه في قولهم فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ [يوسف: 17] فكذبوا، ووعدوه في قولهم وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [يوسف: 12] فأخلفوا وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه، فهل تحكم بكونهم منافقين؟ فتوقف الحسن في مذهبه. قال أهل التفسير: قوله إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ دل على أن ذلك المعاهد يموت على ذلك وكان كما أخبر فيكون إخبارا بالغيب ومعجزا. قال الجبائي: هذا اللقاء لا شك أنه ليس بمعنى الرؤية لأن الكفار لا يرونه بالاتفاق فدل على   (1) رواه أحمد في كتاب الإيمان باب 24. مسلم في كتاب الإيمان حديث 107- 109. الترمذي في كتاب الإيمان باب 14. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 أن اللقاء في القرآن ليس بمعنى الرؤية، وضعف بأنه لا يلزم من عدم كون هذا اللقاء بمعنى الرؤية كون كل لقاء ورد في القرآن كذلك كقوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة: 46] . ثم وبخهم على التجاهل أو عدم العلم بعلم الله وإحاطته بضمائرهم وتناجيهم فقال أَلَمْ يَعْلَمُوا الآية. والسر ما ينطوي عليه الصدر، والنجوى ما يكون بين اثنين وأكثر مع الإخفاء عن غيرهم. والترتيب يدل على التخليص كما مر في الإنجاء كان المتناجيين تخلصا عن غيرهما ومنه خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف: 80] ومعنى الآية كيف تتجرؤون على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم مع أنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر ويعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر لأنه العالم بجميع المعلومات على أي وجه يفرض؟! عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم ذات يوم وحثهم على أن يجمعوا الصدقات، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالي ثمانية آلاف جئتك بنصفها فاجعلها في سبيل الله وأمسكت نصفها لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى إنه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمن ماله لهما مائة وستين ألف درهم. وقيل صولحت إحداهما على ثمانين ألفا. وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر وقال: أجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله فأخذت صاعين من تمر، أمسكت أحدهما لعيالي وأقرضت الآخر لربي، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضعه في الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلّا رياء وسمعة، وأما أبو عقيل فإنه جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر والله غني عن صاعه فأنزل الله سبحانه الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ أي المتطوعين فأدغمت. والتطوع التنفل وهو الطاعة لله بما ليس بواجب. والجهد بالضم والفتح شيء قليل يعيش به المقل، قاله الليث. وقال الفراء: الضم لغة أهل الحجاز والفتح لغيرهم. وفرق ابن السكيت بينهما فقال: الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة. وقال الشعبي: الأول في العمل والثاني في القوة سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ خير لا دعاء كقوله اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] وقد عرفت أن هذا من قبيل المشاكلة، أو المراد منه لازم السخرية وهو إيقاع الذل والهوان بهم. وقال الأصم: المراد أنه تعالى يكلفهم إنفاق المال مع أنه لا يثيبهم عليه، وإنما توجه الذم على المنافقين في هذا اللمز لأن الحكم بالرياء لمن يعطي الكثير كعبد الرحمن بن عوف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 وعاصم حكم على بواطن الأمور وذلك أمر استأثر الله به ورسوله. وأيضا لمز الفقير على جهد المقل سفه لأنه لما لم يقدر إلا عليه فقد بذلك كل ما له فعلم منه غالبا أنه إن قدر على أكثر من ذلك لم يكن منه منع، وسعي الإنسان في أن يضم نفسه إلى أهل الخير والدين خير له من أن يضم نفسه إلى أهل الكسل والبطالة، ولو لم تكن فيه إلا الثقة بالله والدخول في زمرة من يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة لكفى به منقبة وفضلا. التأويل بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لأن التعارف في عالم الأرواح يوجب التآلف في عالم الأشباح يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ الحقيقي أي بطلبه والمطلوب هو الله لقوله «فأحببت أن أعرف» وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهو ما يقطع العبد عن الله وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ الحقيقية وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ يعني ما فضل عن كفافهم الضروري وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بخلاف المنافقين فإنهم يطيعون النفس والهوى وَمَساكِنَ طَيِّبَةً على مراتب النفوس الطيبة فإن الطيبات للطيبين يا أَيُّهَا النَّبِيُّ يعني القلب الذي له نبأ من مقام الانباء جاهِدِ النفوس الكافرة بسيف الصدق والمخالفات، وجاهد نفوس المريدين الذين يدعون الإرادة في الظاهر دون الباطن وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ في المأخذات بأحكام الشريعة والطريقة حتى تتمرن نفوسهم وإلا وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ القطيعة وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وهي التي توجب الإنكار والاعتراض على الشيخ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا أي أثبتوا لأنفسهم مرتبة الشيخوخة قبل أوانها وَما نَقَمُوا إلا أن الشيخ رباهم بلبان فضل الله عن حلمة الولاية فلم يحتملوا لضيق حوصلة الهمة، ومربد الطريقة أعظم من مربد الشريعة فلهذا يكون عذابه أليما في الدنيا والآخرة كما قال الجنيد: لو أقبل صديق إلى الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ باستعداده الفطري لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ جعلنا متمكنين من اكتساب الكمال لَنَصَّدَّقَنَّ لنصرفن كل ما أعطانا فيما أعطى لأجله إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي يلقون جزاء النفاق وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعلم ما توسوس به أنفسهم وهو غيب عن الخلق ويعلم ما يستكن في قلوبهم وهو غيب في نفوسهم ولهذا قال الْغُيُوبِ. سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ذكره بلفظ الماضي ليعلم ان سخرية المنافقين نتيجة سخرية الله بهم في الأزل. [سورة التوبة (9) : الآيات 80 الى 89] اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 القراءات: مَعِيَ أَبَداً بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص والمفضل مَعِيَ عَدُوًّا بالفتح: حفص فقط. الوقوف: أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ط فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ط وَرَسُولِهِ ط الْفاسِقِينَ هـ فِي الْحَرِّ ط حَرًّا م لأن المعنى لو كانوا يفقهون حرارة النار لما قالوا لا تنفروا في الحر. ولو وصل لأوهم أن جهنم لا يكون نارها أشد حرا إذا لم يفقهوا ذلك يَفْقَهُونَ هـ كَثِيراً ج لأن جَزاءً يصلح أن يكون مفعولا له أو مصدر محذوف أي يجزون جزاء يَكْسِبُونَ هـ مَعِيَ عَدُوًّا ط الْخالِفِينَ هـ عَلى قَبْرِهِ ط فاسِقُونَ هـ وَأَوْلادُهُمْ ط كافِرُونَ هـ الْقاعِدِينَ هـ لا يَفْقَهُونَ هـ وَأَنْفُسِهِمْ ط الْخَيْراتُ ز لابتداء وعد الفلاح على التعظيم بدليل تكرار أُولئِكَ مع اتفاق الجملتين. الْمُفْلِحُونَ هـ خالِدِينَ فِيها ط الْعَظِيمُ هـ. التفسير: عن ابن عباس ان عند نزول الآية الأولى في المنافقين قالوا: يا رسول الله استغفر لنا واشتغل بالاستغفار لهم فنزل اسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية، ومن المفسرين من قال: إنهم طلبوا من الرسول صلّى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم وإن الله نهاه عنه. والنهي عن الشيء لا يدل على أن المنهي أقدم على ذلك الفعل. ثم إن الدليل قد يدل على أنه ما اشتغل بالاستغفار لأن المنافق كافر، وقد ظهر في شرعه ان الاستغفار للكافر غير جائز، ولأن الاستغفار للمنافق يجري مجرى إغرائه على مزيد النفاق ولأنه يلزم أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلم غير مجاب الدعوة وإن أكثر في الدعاء. ومن الفقهاء من قال: التخصيص بالعدد المعين يدل على أن الحال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 فيما وراء ذلك العدد بخلافه لما روي أنه لما نزلت الآية قال صلى الله عليه وسلم: لأزيدن على السبعين فنزل سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون: 6] فكف عنه. فلولا أنه فهم بدليل الخطاب أن الأمر فيما وراء السبعين بالخلاف لم يقل لأزيدنّ على ذلك. وأجيب بأنه أراد إظهار الرحمة والرأفة بأمته ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم لبعض لا أنه فهم منه ذلك، كيف وقد قال تعالى فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وأردفه بقوله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. فليس المقصود بهذا العدد تحديد المنع وإنما هو كقول القائل لمن يسأله حاجة: لو سألتني سبعين مرة لم أقضها. ولهذا بين العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول وهي كفرهم وفسقهم، وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين. وذكر بعضهم لتخصيص السبعين وجها هو أن السبعة عدد شريف لأنه عدد السموات والأرضين والبحار والأقاليم والنجوم السيارة والأعضاء وأيام الأسبوع، فضرب السبعة في عشرة لأن الحسنة بعشر أمثالها. وقيل: خص بالذكر لأنه صلى الله عليه وسلم كبّر على حمزة سبعين تكبيرة وكأنه قال: إن تستغفر لهم سبعين مرة بإزاء تكبيراتك على حمزة. هذا وقد مر في تفسير قوله قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [التوبة: 53] أن هذا أمر في معنى الخبر كأنه قيل: لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لا، وانتصاب سبعين على المصدر كقولك: ضربته عشرين ضربة. ثم ذكر نوعا آخر من قبائح أفعالهم فقال فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ قيل: إنهم احتالوا أن يتخلفوا وكان الأولى أن يقال فرح المتخلفون. وأجيب بأنهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لهم وخلفهم بالمدينة في غزوة تبوك، أو أريد خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان، أو المجاهدون لما لم يوافقوهم في القعود فكأنهم خلفوهم، أو أطلق عليهم المخلفون باعتبار أنهم سيصيرون ممنوعين من الخروج في الآية الآتية فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إلى قوله وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ومعنى بِمَقْعَدِهِمْ بقعودهم قاله مقاتل. أو بموضع قعودهم وهو المدينة قاله ابن عباس. ومعنى خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار وأقاموا قاله قطرب والزجاج فانتصابه على أنه مفعول له أي قعد والأجل خلافه أو على الحال مثل «فأرسلها العراك» أي مخالفين له. وقال الأخفش ويونس: الخلاف بمعنى الخلف أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن جهة الأمام التي يقصدها الإنسان يخالفها جهة الخلف وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا كيف لا يكرهون وليس فيهم باعث الإيمان وداعي الإخلاص ومعهم صارف الكفر والنفاق؟ وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين أموالهم وأرواحهم في الله المؤثرين ذلك على الدعة والخفض. واعلم أن الفرح بالإقامة يدل على كراهية الذهاب إلا أنه صريح بذلك للتوكيد، ولعل المراد أنه مال طبعهم إلى الإقامة لإلفهم بالبلد واستئناسهم بالأهل والولد، وكرهوا الخروج إلى الغزو لأنه تعريض بالنفس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 والمال للقتل والإهدار. قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ أن بعد هذه الدار دار أخرى وبعد هذه الحياة حياة أخرى. وهذه المشقة منقضية سهلة وتلك باقية صعبة ولبعضهم وكأنه صاحب الكشاف: مسرة أحقاب تلقيت بعدها ... مساءة يوم أنها شبه أنصاب فكيف بأن تلقى مسرة ساعة ... وراء تقضيها مساءة أحقاب وفي هذا استجهال عظيم لهم. ثم قال فَلْيَضْحَكُوا وهو خبر إلا أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم لا يكون غيره ومعناه فسيضحكون قليلا أي ضحكا قليلا أو زمانا قليلا وسيبكون كثيرا. يروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم. ثم عرف نبيه وجه الصلاح في سائر الغزوات فقال فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ أي إن ردّك إلى المدينة. الرجع متعد مثل الرد، والرجوع لازم. وإنما قال طائفه لأن منهم من تاب عن النفاق وندم أو اعتذر بعذر صحيح. وقيل: لم يكن المخلفون كلهم منافقين فأراد بالطائفة المخلفين من المنافقين. فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ إلى غزوة أخرى بعد غزوة تبوك فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً عاقبهم بإسقاط عن ديوان الغزاة جزاء على تخلفهم لما فيه من الذم والطرد وصلاحا لأمر الجهاد لما في استصحابهم من المفاسد المذكورة في قوله لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا [التوبة: 47] ويعني بأول مرة غزوة تبوك. وإنما لم يقل أول المرات معرفا مجموعا لأن المعنى إن فصلت المرات مرة مرة كانت هذه أولها نظيره «هو أفضل رجل» يعني إن عدّ الرجال رجلا رجلا كان هو أفضلهم. وإنما لم يقل «أولى مرة» لأن أكثر اللغتين «هند أكبر النساء» ولا يكاد يقال «هي كبرى امرأة» فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ كقوله وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ [التوبة: 46] والخالف من يخلف الرجل في قومه. وعن الأصمعي أنه الفاسد من خلف اللبن والنبيذ إذا فسد. وعن الفراء معناه المخالف. قال قتادة: ذكر لنا أن الخالفين الذين أمروا بالقعود كانوا اثني عشر رجلا. عن ابن عباس أنه لما اشتكى عبد الله ابن أبيّ ابن سلول عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره ويعطيه قميصه الذي يلي جلده ليكفن فيه ففعل كل ذلك. وعنه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لما توفي عبد الله بن أبيّ دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة تحوّلت حتى قمت في صدره فقلت: يا رسول الله أعلى عدوّ الله عبد الله ابن أبيّ القائل يوم كذا كذا وكذا؟ أعدد أيامه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: أخر عني يا عمر إني خيرت فاخترت، قد قيل لي استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، ولو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت. قال: ثم صلى عليه ومشى معه فقام على قبره حتى فرغ منه قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسوله أعلم. قال: فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزل وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً الآية. فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله. قال المفسرون: وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل بعبد الله بن أبيّ قال: وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله، والله إن كنت لأرجو أن يسلم به ألف من قومه وكان كما قال. وقيل: لعل السبب فيه أنه لما طلب من الرسول قميصه الذي مس جلده ليدفن فيه غلب على ظن الرسول أنه انتقل إلى الإيمان لأنه وقت يتوب فيه الكافرة فرغب أن يصلي عليه. وذكر من أسباب دفع القميص أن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أسيرا ببدر ولم يجدوا له قميصا طويلا فكساه عبد الله قميصه، ومنها أن المشركين قالوا له يوم الحديبية إنا لا ننقاد لمحمد ولكنا ننقاد لك. فقال: إن لي في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صنيعه. ومنها أنه كان لا يرد السائل لقوله تعالى وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى: 10] ومنها أن ابنه عبد الله كان من الصالحين فالرسول أكرمه لمكان ابنه. ومنها إظهار الرأفة والرحمة كما مر. قوله ماتَ صفة لأحد وأَبَداً ظرف لقوله لا تُصَلِّ وإنه يحتمل تأبيد النفي ونفي التأبيد والظاهر الأول، لأن القرائن تدل على منعه من أن يصلي عل أحد منهم منعا كليا دائما. قال الزجاج: معنى قوله وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فمنع هاهنا منه. وقال الكلبي: معناه لا تقم بإصلاح مهمات قبره وإِنَّهُمْ كَفَرُوا تعليل للنهي ويرد عليه أن الكفر حادث وحكم الله قديم والحادث لا يكون علة للقديم. وأجيب بأن العلة هاهنا بمعنى الإمارة المعرفة للحكم. قال في الكشاف: وإنما قيل مات وماتوا بلفظ الماضي والمعنى على الاستقبال على تقدير لكون والوجود لأنه كائن موجود لا محالة. وإنما وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر لأن الكافر قد يكون عدلا في دينه، والكذب والنفاق والخداع والجبن والخبث مستقبح في جميع الأديان. أما قوله وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ فقد سبق مثله في هذه السورة بتفاوت ألفاظ فوجب علينا أن نذكر سبب التفاوت، ثم فائدة التكرار فنقول والله تعالى أعلم بمراده: إنما ذكر النهي هاهنا بالواو وهناك بالفاء لأنه لا تعلق له هاهنا بما قبله وهو موتهم على حالة الفسق خلاف ما هنالك. وإنما قال هاهنا وَأَوْلادُهُمْ بدون «لا» لأن المراد هنالك الترقي من الأدون إلى الأعلى وهو أن إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 كقولك: لا يعجبني أمر النائب ولا أمر المنوب. وهاهنا أراد المعية فقط إما اكتفاء بما سبق هناك، وإما لأن هؤلاء أقوام آخرون لم يكن عندهم تفاوت بين الأمرين. وقيل: إنه هناك لما علق الثاني بالأول تعليق الجزاء بالشرط أكد معنى النهي بتكرار «لا» ، وإنما قال هاهنا أَنْ يُعَذِّبَهُمْ لأنه إخبار عن قوم ماتوا على الكفر فتعلق الإرادة بما هم فيه وهو العذاب. وأما في الآية المتقدمة فالمفعول محذوف وقد مر. وقيل: الفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله محال وأنه أينما ورد حرف التعليل فمعناه «أن» ، وإنما حذف الحياة هاهنا اكتفاء بما ذكر هنالك وقيل تنبيها على أن الحياة الدنيا لا تستحق أن تسمى حياة لخستها. وأما فائدة التكرير فهي المبالغة في التحذير من الأموال والأولاد لأنها جذابة للقلوب فتحتاج إلى صارف قوي، ويحتمل أن تكون الأولى في قوم والثانية في آخرين. وقيل: الثانية في اليهود والأولى في المنافقين. ثم عاد إلى توبيخ المنافقين فقال وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أي تمامها ويجوز أن يزاد عليها كما يقع القرآن والكتاب على بعضه. وقيل: هي براءة لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد أَنْ آمِنُوا «أن» هي المفسرة لأن إنزال السورة في معنى القول. وقال الواحدي: تقديره بأن آمنوا وإنما قدم الأمر بالإيمان لأن الاشتغال بالجهاد لا يفيد إلا بعد الإيمان أُولُوا الطَّوْلِ ذو الفضل والسمعة من طال عليه طولا قاله ابن عباس والحسن. وقال الأصم: الرؤساء والكبراء المنظور إليهم، وخصوا بالذكر لأن الذم لهم ألزم إذ لا عذر لهم في القعود مَعَ الْقاعِدِينَ مع أصحاب الأعذار من الضعفة والزمنى. والخوالف النساء اللواتي تخلفن في البيت، وجوز بعضهم أن يكون الخوالف جمع خالف وكان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخوالف. ثم قال وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ كقوله خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7] وقد مر البحث فيه، وقال الحسن: الطبع بلوغ القلب في الكفر إلى حد كأنه مات عن الإيمان. وقالت الأشاعرة: هو حصول داعية الكفر المانعة من الإيمان. والطبع في اللغة الختم وهو التأثير في الطين ونحوه، ومنه الطبع للسجية التي جبل عليها الإنسان فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ أسرار حكمة الله في الجهاد أو في الذهاب من السعادة وما في التخلف من الشقاء. وفي قوله لكِنِ الرَّسُولُ نكتة هي أنه إن تخلف هؤلاء فقد أنهض إلى الغزو من هو خير منهم وأصدق نية كقوله فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الأنعام: 89] ثم ذكر منافع الجهاد على الإجمال فقال وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وهي شاملة لمنافع الدارين. وقيل: هي الحور لقوله فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ [الرحمن: 70] وقوله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ المراد منه الخلاص من المكاره. ثم فصل ما أجمل فقال أَعَدَّ اللَّهُ الآية وقيل: الخيرات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 الفلاح في الدنيا وهذه في الآخرة. والْفَوْزُ الْعَظِيمُ عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعة ودرجة عالية. التأويل: إنما لم يؤثر استغفار الرسول في حقهم لقصور في القائل لا لتقصير في الفاعل، والأثر يتوقف على الأمرين جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من رين القلوب وكدورة الأرواح بظلمة الصفات الحيوانية. وَهُمْ كافِرُونَ مستورو القلوب بحجاب حب الأموال والأولاد. لهم الخيرات لما سعوا سعي العبودية نالوا خيرات الربوبية، هُمُ الْمُفْلِحُونَ المتخلصون عن حجب صفات النفس ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إذ لا حجاب أعظم من حجاب النفس والله أعلم. تم الجزء العاشر من تفسير النيسابوري ويليه الجزء الحادي عشر وأوله وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ ......... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الحادي عشر من أجزاء القرآن الكريم [سورة التوبة (9) : الآيات 90 الى 99] وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) القراآت: الْمُعَذِّرُونَ من الأعذار: قتيبة ويعقوب. الباقون: بالتشديد دائِرَةُ السَّوْءِ بضم السين وكذلك في الفتح: أبو عمرو وابن كثير. الآخرون بفتحها قُرْبَةٌ بضم الراء: نافع غير قالون. الباقون بإسكانها وكلاهما بمعنى. الوقوف: وَرَسُولَهُ ط أَلِيمٌ هـ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ط مِنْ سَبِيلٍ ط رَحِيمٌ هـ لا للعطف، ما يُنْفِقُونَ هـ أَغْنِياءُ ج لاحتمال أن يكون رَضُوا مستأنفا أو وصفا. مَعَ الْخَوالِفِ لا لأن الواو إما للعطف أو للحال. لا يَعْلَمُونَ هـ إِلَيْهِمْ ط مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 أَخْبارِكُمْ ط تَعْمَلُونَ هـ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ط عَنْهُمْ ط رِجْسٌ ز لاختلاف الجملتين مع شدة اتصال المعنى في إتمام الوعيد. جَهَنَّمُ ج لأن جزاء يصلح أن يكون مفعولا له أو مفعولا مطلقا لمحذوف أي يجزون جزاء يَكْسِبُونَ هـ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ط لابتداء الشرط مع فاء التعقيب. الْفاسِقِينَ هـ عَلى رَسُولِهِ ط حَكِيمٌ هـ الدَّوائِرَ ط دائِرَةُ السَّوْءِ ط عَلِيمٌ هـ الرَّسُولِ ط لَهُمْ ط فِي رَحْمَتِهِ ط رَحِيمٌ هـ. التفسير: لما شرح أحوال منافقي المدينة شرع في أحوال المنافقين من أهل البدو فقال وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ. من قرأ بالتخفيف فهو من أعذر إذا اجتهد في العذر وبالغ فيه ومنه قولهم: من أنذر فقد أعذر. فكأنه تعالى فصل بين أصحاب العذر وبين الكافرين فالمعذرون هم الذين أتوا بالعذر وهم أسد وغطفان قالوا: إن لنا أتباعا وعيالا وإن بنا جهدا فأذن لنا في التخلف. وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طيء على أهالينا ومواشينا فقال صلى الله عليه وآله: سيغنيني الله عنكم. وعن مجاهد: نفر من غفار. ومن قرأ بالتشديد ففيه وجهان: الأوّل أن يكون من التعذير وهو التقصير في الأمر والتواني فيه وحقيقته أن يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له. الثاني وقد ذكره الفراء والزجاج وابن الأنباري أنه من الاعتذار والأصل فيه المعتذرون أدغمت التاء في الذال بعد نقل حركتها إلى العين. والاعتذار قد يكون بالكذب كقوله تعالى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا وقد يكون صحيحا كقول القائل: ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر أي ما جاء بعذر صحيح. فإذا أخذنا بقراءة التخفيف كان المعذرون صادقين، وإذا أخذنا بقراءة التشديد وفسرناها بالمعتذرين فاحتمل الأمران. ومن المفسرين من رجح جانب صدقهم لأنه تعالى ميزهم من الكاذبين بقوله: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ومنهم من مال إلى أنهم كاذبون. روى الواحدي بإسناده عن أبي عمرو أنه قال: إن أقواما تكلفوا عذرا بباطل وهم الذين عناهم الله بقوله وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ وتخلف آخرون لا بعذر ولا بشبهة عذر جراءة على الله وهم الذين أرادهم الله بقوله: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وهم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان. سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أي من الأعراب عَذابٌ أَلِيمٌ في الدنيا بالقتل وفي العقبى بالنار. وإنما قال: مِنْهُمْ لعلمه بأن بعضهم سيؤمن ويتخلص من هذا العقاب. ثم ذكر أن تكليف الجهاد ساقط عن أصحاب الأعذار الحقيقية فقال لَيْسَ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 الضُّعَفاءِ وهم الذين في أبدانهم ضعف في أصل الخلقة أو لهرم وَلا عَلَى الْمَرْضى ويدخل فيه أصحاب العمى والعرج والزمانة وكل من كان موصوفا بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ في الغزو على أنفسهم حَرَجٌ قيل: هم مزينة وجهينة وبنو عذرة، وفيه دليل على أنه لا يحرم عليه الخروج إذا أمكنه الإعانة بمقدار القدرة كحفظ متاع المجاهدين وتكثير سوادهم وإنما يكون ذلك طاعة مقبولة منه إذا لم يجعل نفسه كلا ووبالا عليهم. ثم إنه شرط في جواز القعود النصح لله ورسوله ليحترزوا بعدهم عن إلقاء الإرجاف وإثارة الفتن ويقوموا على إصلاح مهمات بيوتهم. وبالجملة على كل ما له مدخل في طاعة الله ورسوله وموافقة السر العلن كما يفعل المولى الناصح بصاحبه. ثم قال: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ أي المعذورين الناصحين مِنْ سَبِيلٍ للعتاب والمؤاخذة. قال بعض أهل الظاهر كداود الأصفهاني وغيره: إن المحسن هو الآتي بالإحسان ورأس الإحسان وسنامه هو قول لا إله إلا الله محمد رسول الله. فهذا يدل على أن المكلف إذا تكلم بهذه الكلمة برئت ذمته عن مطالبة نفسه وماله إلا بدليل منفصل كما أن السلطان لو قال لأهل مملكته تكليفي عليكم كذا وكذا وبعد ذلك لا سبيل لأحد على أحد كان ذلك دليلا على أنه لا تكليف عليهم فيما وراء ذلك لأن باب النفي لا نهاية له فلا ينضبط إلا بهذا الطريق. وعلى هذا لو ورد في القرآن ألف تكليف أو أقل أو أكثر كان ذلك تنصيصا على أن التكاليف محصورة فيها وفيما وراءها ليس لله على الخلق تكليف وأمر ونهي، وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة ويكون القرآن وافيا ببيان التكاليف والأحكام، ولا حاجة إلى التمسك بالقياس لأن هذا النص دل على أن الأصل براءة الذمة. فإن كان القياس مفيدا للبراءة أيضا فضائع، وإن كان يفيد شغل الذمة صار مخصصا لعموم النص، وإنه لا يجوز لأن النص أقوى من القياس. ولما ذكر الضعفاء والمرضى والفقراء بيّن قسما رابعا وهم الذين لا يجدون الراحلة وإن قدروا على الزاد فقال: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ أي على المركوب. قلت: قال في الكشاف: هو حال من الكاف في أَتَوْكَ بإضمار «قد» أي إذا ما أتوك قائلا لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وجوز أن يكون واسطة بين الشرط والجزاء كالاعتراض. قلت: ويحتمل أن يكون بدلا من أَتَوْكَ. قال مجاهد: هم أبناء مقرن معقل وسويد والنعمان، وقيل: أبو موسى الأشعري وأصحابه أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله يستحملونه ووافق منه غضبا فقال: والله ما أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم مدبرون يبكون فدعاهم وأعطاهم ذو داغر الذري. فقال أبو موسى: ألست حلفت يا رسول الله فقال: أما إني إن شاء الله لا أحلف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 بيمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني. وقيل: هم البكاءون سبعة نفر من الأنصار معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وعلبة بن زيد وسالم بن عمير وثعلبة بن عنمة وعبد الله بن مغفل، أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا: يا نبي الله إن الله عز وجل قد ندبنا للخروج معك فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو معك. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه فولوا وهم يبكون. وقوله تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ كقولك تفيض دمعا وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كلها فائضة. و «من» للبيان والجار والمجرور في محل النصب على التمييز. حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا أي على أن لا يجدوا. إِنَّمَا السَّبِيلُ أي سبيل الخطاب والعتاب في أمر الغزو والجهاد عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ في التخلف وهم أغنياء. ثم قال على سبيل الاستئناف رَضُوا كأنه قيل ما لهم استأذنوا وهم قادرون على الاستعداد؟ فقيل: رضوا بالدناءة والانتظام في جملة الخوالف ومن جملة أسباب الاستئذان أن طبع الله تعالى على قلوبهم. قال أهل العلم: لما قال في الآية الأولى وإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ [التوبة: 86] قال هناك وَطُبِعَ [التوبة: 87] ليكون المجهول مبنيا على المجهول بخلافه في هذه الآية. ثم إن العلم فوق الفقه فكان أنسب بالمقام الذي جرى فيه ذكر الله. أما قوله قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ فإنه علة المنع من الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصير عذره مقبولا فإذا علم بأن القوم يكذبونه وجب عليه تركه. وقوله قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ علة لانتفاء التصديق. وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ يعني رؤية وقوع أي سيقع أنكم هل تبقون على الحالة التي تظهرونها أم لا. وفي قوله ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ تخويف شديد وفيه أنه مطلع على بواطنهم الخبيثة وضمائرهم المملوءة من النفاق والكذب. وإنما لم يقل في هذه الآية و «المؤمنون» كما في الآية التي تجيء، لأن هذه في المنافقين ولا يطلع على ما في باطنهم إلا الله ثم رسوله باطلاع الله إياه أو بنور نبوته كما قال قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ والآية الأخرى في المؤمنين وعباداتهم ظاهرة للكل. وختم آية المنافقين بقوله ثُمَّ تُرَدُّونَ لأنه وعيد فقطعه عن الأول بخلاف آية المؤمنين حيث وصلها بالواو لأنه وعد من الله. ثم ذكر أن منافقي الأعراب سيؤكدون أعذارهم بالأيمان الكاذبة مثل ما حكى تعالى عن منافقي المدينة فقال: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ أي لأجلكم إِذَا انْقَلَبْتُمْ أي رجعتم إِلَيْهِمْ ولم يذكر المحلوف عليه. والظاهر أنهم حلفوا على أنهم ما قدروا على الخروج ولكن بين غرضهم من الحلف فقال لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ أرادوا الصفح والعفو فأمر الله المؤمنين بإعطاء طلبتهم ولكن على سبيل المقت لا الصفح ولهذا قال ابن عباس: أراد ترك الكلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 والسلام. وقال مقاتل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة: لا تجالسوهم ولا تكلموهم وكانوا ثمانين رجلا منهم جد بن قيس ومعتب بن قشير. ثم بين علة الاجتناب عنهم فقال: إِنَّهُمْ رِجْسٌ فكأنهم نجس العين فلا سبيل إلى تطهيرهم بالعتاب والتوبيخ وفي أمثالهم إنما يعاتب الأديم ذو البشرة. المعاتبة المعاودة وبشرة الأديم ظاهره الذي عليه الشعر أي إنما يعاد إلى الدباغ من الأديم ما سلمت بشرته، يضرب لمن فيه مراجعة ومستعتب وإذا لم تكن المعاتبة نافعة فيهم فتركها هو الصواب وَمَأْواهُمْ جهنم منقلبهم النار عتابا توبيخا. ثم بين أنهم طلبوا إعراض الصفح بقوله يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ نهاهم عن الرضا بقوله فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ الآية، ذلك أن إرادة المؤمن يجب أن تكون موافقة لإرادة الله، وأي فائدة في رضا المؤمنين إذا كان الله تعالى ساخطا عليهم؟. ثم عدد مثالب الأعراب وأراد بهم جمعا معينين كانوا يوالون منافقي المدينة. قال أهل اللغة: رجل عربي إذا كان نسبه إلى العرب ثابتا، ورجل أعرابي إذا كان بدويا سواء كان من العرب أو من مواليهم وجمعه أعراب كالمجوسي والمجوس واليهودي واليهود. فالأعرابي إذا قيل له يا أعرابي فرح، وإذا قيل للعربي يا أعرابي غضب، وذلك أن من استوطن القرى العربية فهو عربي ومن نزل البادية فهو أعرابي ولهذا لا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب وإنما هم عرب. قال صلى الله عليه وسلم: «لا تؤمنّ امرأة رجلا ولا فاسق مؤمنا ولا أعرابي مهاجرا» «1» قيل: إنما سمى العرب عربا لأن أولاد إسماعيل عليه السلام نشؤا بالعربة وهي من تهامة ونسبوا إلى بلدهم، وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم. وقيل: لأن ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم لما في لسانهم من الفصاحة والبلاغة، يحكى عن بعض الحكماء أنه قال: حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة، وحكمة الهند في أوهامهم، وحكمة اليونان في أفئدتهم وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية، وحكمة العرب في ألسنتهم وذلك لحلاوة ألفاظهم وعذوبة عباراتهم. وإنما حكم على الأعراب بأنهم أشد كفرا ونفاقا لأنهم يشبهون الوحوش. سئل بعض الحكماء ما بال أهل البادية لا يحتاجون إلى الطبيب؟ فقال: كما لا يحتاج حمر الوحش الى البياطرة ولاستيلاء الهواء الحار عليهم الموجب لكثرة الطيش والخروج عن الاعتدال، وإن من أصبح وأمسى مشرفا عليه أنوار النبوة ومشرفا باستماع مواعظه وآدابه كيف يكون مساويا   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 31، 78. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 لمن نشأ كما يشاء من غير سياسة سائس ولا تأديب مؤدب؟! وإن شئت فقس الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن الجفاء والقسوة في الفدّادين» «1» أي الأكارين لأنهم يفدّون أي يصيحون. وقوله: وَأَجْدَرُ أي أولى وأحق ب أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي مقادير تكاليفه وأحكامه وما تنتهي إليه الأدلة العقلية والسمعية وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما في قلوب أهل البدو والحضر وأصحاب الوبر والمدر حَكِيمٌ في كل ما قدر من الشرائع وما يتبعها من الجزاء. ثم نوع جنس الأعراب فقال: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً هو مفعول ثان ليتخذ لأنه بمعنى الجعل والاعتقاد والزعم أي يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران. وقد عرفت أن أصل الغرم اللزوم كأنه اعتقد أنه لزمه لأمر من خارج كتقية أو رياء ليس مما ينبعث من النفس، والمغرم إما مصدر أو موضع. وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ نوب الزمان وتصاريفه ودوله وكأنها لا تستعمل إلا في المكروه تشبيها بالدائرة التي تحيط بما في ضمنها بحيث لا يوجد منها مخلص. ثم خيّب الله ظنونهم بالإسلام وذويه بأن دعا عليهم بقوله: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وإنها جملة معترضة كقوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة: 64] والسوء بالفتح مصدر أضيف إليه الدائرة للملابسة كقولك «رجل صدق» . قال في الكشاف: وهو ذم للدائرة لأن من دارت عليه ذامّ لها وبالضم اسم بمعنى البلاء. والعذاب، والمراد أنهم لا يرون في محمد ودينه إلا ما يسوءهم. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالهم عَلِيمٌ بنياتهم. قيل: هم أعراب أسد وغطفان وتميم. ثم ختم الكلام بذكر الصالحين منهم فقال: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ الآية. والمعنى أنهم يعتقدون ما ينفقونه سببا لحصول القربات عند الله وسببا لصلوات الرسول عليهم لأنه كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله: اللهم صل على آل أبي أوفى. ثم إنه تعالى شهد لهم ولأمثالهم بصحة ما اعتقدوه فقال على طريق الاستئناف مؤكدا بحرفي التنبيه والتحقيق أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ ثم فسر القربة بقوله: سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ والسين لتحقيق الوعد. قيل: هم عبد الله ذو البجاد بن ورهطه، أخذت أمه بجادا وهو كساء مخطط فشقته نصفين فردّته بأحدهما وأزرته بالثاني وبعثته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان قائده والله أعلم. التأويل: الناس ثلاثة: المتضررون المعذرون المعترفون بتقصيرهم، والقاعدون الكذابون، والناصحون المخلصون في الطلب ولكن فيهم الضعفاء والمرضى والفقراء فلا حرج عليهم في القعود عن طلب الكمال بالظواهر مع اشتغال البواطن في الطلب بقدر   (1) رواه البخاري في كتاب المغازي باب 74. أحمد في مسنده (2/ 258) (33/ 322) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 الاستعداد. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ بطريق المتابعة لِتَحْمِلَهُمْ على جناح الهمة النبوية وتوصلهم إلى مقامات لم يكونوا بالغيها بجناحي البشرية والروحانية قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ترفعا ودلالا واستيراء لزناد أشواقهم كما قيل لموسى لن تراني زيادة لشوقه وهم أغنياء لهم الاستعدادات الكاملة فلم يستعملوها في طلب الكمال كسلا وميلا إلى اللذات العاجلة. الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً إن في عالم الإنسانية بدوا هو نفسه وحضرا هو قلبه، والكفر والنفاق للنفس مقتضى الذات كما أن الإيمان للقلب لذاته بالفطرة، وقد يصير القلب كافرا بسراية النفس وقد تصير النفس مؤمنه بسراية القلب، ولكن النفس تكون أشد كفرا من القلب الكافر كما أن القلب يكون أشد إيمانا من النفس المؤمنة. حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ يعني الواردات النازلة على الروح فإن القلب حضر الروح كما أن المدينة حضر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن النفوس من يعتقد أن ما يصرف من أوقاته في طلب الكمال ضائع وخسار وينتظر بالقلب اشتغالا وفترة. عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ باستيلاء القلب عليها وقهرها بما يخالف هواها وَاللَّهُ سَمِيعٌ يجيب هذا الدعاء عَلِيمٌ بمن ينبغي أن يسمع في حقه. [سورة التوبة (9) : الآيات 100 الى 110] وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 القراآت: من تحتها بزيادة من: ابن كثير. والباقون بحذفها وبالنصب على الظرف. والْأَنْهارُ بالرفع: يعقوب. الآخرون بالجر. إِنَّ صَلاتَكَ على التوحيد: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون على الجمع بكسر التاء علامة للنصب مُرْجَوْنَ بواو ساكنة بعد الجيم: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى أبي بكر وحماد. الباقون بالهمزة المضمومة بعد الجيم. الَّذِينَ اتَّخَذُوا بغير واو: أبو جعفر ونافع وابن عامر أَسَّسَ بُنْيانَهُ مجهولا في الحرفين: ابن عامر ونافع حرف بسكون الراء: ابن عامر وحمزة وخلف ويحيى وحماد. الباقون بالضم هارٍ بالإمالة: أبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو وعلي غير ليث، وابن حمدون وحمدويه والنجاري عن ورش وابن ذكوان غير ابن مجاهد والنقاش ويحيى وحماد إلى أن قرأها يعقوب. الباقون إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ فعلا ماضيا أو مضارعا بحذف التاء من التفعل: ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص والمفضل وسهل ورويس. تقطع مضارعا مجهولا من التقطع: روح. الباقون تقطع مضارعا مجهولا من التقطيع. الوقوف: بِإِحْسانٍ لا لأن قوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خبر وَالسَّابِقُونَ أَبَداً ط هـ الْعَظِيمُ هـ مُنافِقُونَ ط لمن قدر ومن أهل المدينة قوم مردوا، ومن وصل وقف على أَهْلِ الْمَدِينَةِ تقديره هم مردوا عَلَى النِّفاقِ ط ومن قدر ومن أهل المدينة قوم احتمل أن يجعل لا تَعْلَمُهُمْ صفة للقوم فلم يقف لا تَعْلَمُهُمْ ط نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ط عَظِيمٍ هـ ج لاحتمال أن يكون التقدير ومنهم آخرون وأن يكون معطوفا على مُنافِقُونَ أو على قوم المقدر سَيِّئاً ط عَلَيْهِمْ ط رَحِيمٌ هـ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ط لَهُمْ ط عَلِيمٌ هـ الرَّحِيمُ هـ وَالْمُؤْمِنُونَ ط تَعْمَلُونَ هـ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ط حَكِيمٌ هـ مِنْ قَبْلُ ط الْحُسْنى ط لَكاذِبُونَ هـ أَبَداً ط أَنْ تَقُومَ فِيهِ ط أَنْ يَتَطَهَّرُوا ط الْمُطَّهِّرِينَ هـ فِي نارِ جَهَنَّمَ ط الظَّالِمِينَ ط قُلُوبِهِمْ ط حَكِيمٌ هـ. التفسير: لما ذكر الأعراب المخلصين بين أن فوق منازلهم منازل أعلى وأجل وهي منازل السابقين الأوّلين والتابعين لهم بإحسان قال ابن عباس: السابقون الأوّلون من المهاجرين هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدرا. وعن الشعبي: هم الذين بايعوا بيعة الرضوان بالحديبية ومن الأنصار أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة نفر، وأهل بيعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 العقبة الثانية وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن. والظاهر أن الآية عامة في كل من سبق في الهجرة والنصرة. قال أهل السنة: لا شك أن أبا بكر أسبق في الهجرة أو هو من السابقين فيها وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنه رضي عنهم. ولا شك أن الرضا معلل بالسبق إلى الهجرة فيدوم بدوامه، فدل ذلك على صحة إمامته وإلا استحق اللعن والمقت. قال أكثر العلماء: كلمة «من» في قوله مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ للتبعيض، وإنما استحق السابقون منهم هذا التعظيم لأنهم آمنوا وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وفيهم ضعف فقوي الإسلام بسببهم وكثر عدد المسلمين واقتدى بهم غيرهم. وقد قيل: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها. وقيل: للتبيين ليتناول المدح جميع الصحابة. وروي عن حميد بن زياد أنه قال: قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي: ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان بينهم؟ فقال لي: إن الله تعالى قد غفر لهم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم. قلت له: في أي موضع أوجب لهم الجنة؟ قال: سبحان الله ألا تقرأ قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ إلى آخر الآية؟ أوجب لجميعهم الرضوان وشرط على التابعين شرطا لم يشترط عليهم وهو الاتباع بالإحسان وذلك أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة لا السيئة، أو بإحسان في القول وهو أن لا يقولوا فيهم سوءا ويحفظوا لسانهم عن الاغتياب والطعن في حقهم. قال العلماء: معنى رضا الله عنهم قبول طاعاتهم. ثم عاد إلى شرح أحوال المنافقين فقال: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ هو خبر ومِنَ الْأَعْرابِ بيان أو حال ومُنافِقُونَ مبتدأ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عطف على الخبر أو خبر لمبتدأ آخر بناء على أن التقدير ومن أهل المدينة قوم مَرَدُوا التركيب يدل على الملابسة والبقاء على هيئة واحدة من ذلك «صرح ممرد» و «غلام أمرد» و «أرض مرداء» لا نبات فيها وتمرد إذا عتا فإن من لم يقبل قول غيره ولم يلتفت إليه بقي كما كان على هيئته الأصلية من غير تغير. فمعنى مردوا على النفاق تمهروا وتمرنوا وبقوا عليه حذاقا معوّدين إلى حيث لا تعلم أنت نفاقهم مع وفور حدسك وقوة ذكائك. ثم قال سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ قال ابن عباس: هما العذاب في الدنيا بالفضيحة والعذاب في القبر. روى السدي عن أبي مالك أنه صلى الله عليه وسلم قام خطيبا يوم الجمعة فقال: اخرج يا فلان إنك منافق، اخرج يا فلان إنك منافق، حتى أخرج ناسا وفضحهم. وقال مجاهد: هما القتل والسبي وعذاب القبر. وقال قتادة: بالدبيلة وعذاب القبر. وقال محمد بن إسحق: هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام والمسلمين ثم عذابهم في القبور. وقال الحسن: بأخذ الزكاة من أموالهم وبعذاب القبر. وقيل: أحد العذابين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 ضرب الملائكة الوجوه والإدبار والآخر عند البعث يوكل بهم عنق من نار. ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ هو الدرك الأسفل من النار. قال الكلبي: وممن حولكم جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار، ومن أهل المدينة عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قشير وأبو عامر الراهب وأضرابهم. ثم قال وَآخَرُونَ وهو معطوف على مُنافِقُونَ أو مبتدأ. واعْتَرَفُوا صفته وخَلَطُوا خبره عَسَى اللَّهُ جملة مستأنفة. وقيل: خَلَطُوا حال بإضمار «قد» عَسَى اللَّهُ خبر. وللمفسرين خلاف في أنهم قوم من المنافقين تابوا عن نفاقهم أو قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا للكفر والنفاق ولكن للكسل ثم ندموا على ما فعلوا. عن ابن عباس في رواية الوالبي نزلت في قوم كانوا قد تخلفوا ثم ندموا وقالوا نكون في الكن والظلال مع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد. روي أنهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة مروان بن عبد المنذر وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام. وقيل: كانوا عشرة فسبعة منهم حين بلغهم ما نزل في المتخلفين فأيقنوا بالهلاك أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد وقالوا: والله لا نطلق أنفسنا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا ويعذرنا. فقدم رسول الله فدخل المسجد وصلى ركعتين- وكانت هذه عادته كلما قدم من سفر- فرآهم موثقين فسأل عنهم فقالوا: هؤلاء تخلفوا عنك فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم. فقال رسول الله: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها فتصدق بها وطهرنا. فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزل خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً. الآية. والاعتراف هو الإقرار بالشيء عن معرفة والمراد أنهم أقروا بذنوبهم وهذه كالمقدمة للتوبة لأن الاعتراف بالذنب لا يكون توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي والعزم على تركه في الحال وفي الاستقبال. خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً أي خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك: خلطت الماء واللبن. وهذا أبلغ من قولك: خلطت الماء باللبن. لأنك جعلت في الأول كلا منهما مخلوطا ومخلوطا به كأنك قلت: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء. ويجوز أن يكون الواو بمعنى الباء من قولك: بعت شاة ودرهما أي شاة بدرهم. وذلك أن الواو للجمع والباء للإلصاق فهما متقاربان. ويجوز أن يقال: الخلط هاهنا بمعنى الجمع. قال أهل السنة: فيه دليل على نفي القول بالمحابطة لأنه لو لم يبق العملان لم يتصور اختلاطهما. وفي قوله عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ دليل على وقوع التوبة التي أخبر بحصول مقدمتها وهي الاعتراف منهم، وفيه دليل على قبول توبتهم لأن عَسَى من الكريم إطماع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 واجب. وفائدته أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق فلا يتكل ولا يهمل، وفيه أن التوبة بخلق الله. وقالت المعتزلة: معنى أن يتوب أن يقبل التوبة. ورد بأنه عدول عن الظاهر مع أن الدليل العام وهو وجوب انتهاء الكل إلى مشيئته وتكوينه يعضد ما قلناه. ثم قال سبحانه خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً عن الحسن: كانوا يقولون ليس المراد من هذه الآية الصدقة الواجبة وإنما هي صدقة كفارة الذنب الذي صدر عنهم وبهذا يحصل النظم بينها وبين ما قبلها كما مر. وقال أكثر الفقهاء: المراد بها الزكاة ووجه النظم أنهم لما أظهروا التوبة والندامة أمروا بإخراج الزكاة الواجبة تصحيحا لدعواهم. ومما يدل على ذلك أن الأمر ظاهره الوجوب وأيضا التطهير والتزكية يناسب الواجب لا التطوع. وفي قوله مِنْ أَمْوالِهِمْ دلالة على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال، وتعيين ذلك البعض إنما عرف من السنة. وفي إضافة المال إليهم دليل على أن المال مالهم ولا شركة للفقير فيه فتكون الزكاة متعلقة بذمته حتى لو تلف النصاب بعد الوجوب بقي الحق في ذمة المالك وهو قول الشافعي. وقوله تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ التاء فيهما للخطاب أي تطهرهم أيها الآخذ وتزكيهم بواسطة تلك الصدقة. وقيل: التاء في تُطَهِّرُهُمْ للتأنيث والضمير للصدقة وفيه نوع انقطاع للمعطوفين. قال العلماء: المعطوفان متغايران لا محالة فالتزكية مبالغة في التطهير أو هي بمعنى الإنماء كأنه تعالى جعل النقصان سببا للإنماء والزيادة والبركة، أو المراد بالتزكية تعظيم شأنهم والإثناء عليهم. قال أبو حنيفة: ظاهر الآية يدل على أن الزكاة طهرة للآثام فلا تجب إلا حيث يمكن حصول الآثام وذلك لا يعلم إلا في حق البالغ العاقل دون الصبي والمجنون. وقال الشافعي: تجب الزكاة في مالهما لأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ قال ابن عباس: معناه ادع لهم. فمن هنا قال الشافعي: السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول: أجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت. وقال آخرون بظاهر اللفظ لما روي عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أبي من أصحاب الشجرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى. وأكثر الأئمة الآن على أنه لا تحسن الصلاة لغير النبي على غيره إلا تبعا. وأطلق بعضهم- كالغزالي وإمام الحرمين- لفظ الكراهة وقالوا: السلام أيضا في معنى الصلاة. وأما الشيعة فإنهم يذكرون الصلاة والسلام في حق آل الرسول أيضا كعلي وأولاده عليه السلام وهم على العموم من القرشيين بنو هاشم والمطلب دون بني أمية وبني نوفل وغيرهم. قالوا: لأنها كانت جائزة في حق من يؤدي الزكاة فكيف يمتنع ذكره أو لا يحسن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 في أهل بيت الرسول؟ ولأن الكل أجمعوا على جوازها بالتبعية فما الفرق؟ وأما السلام فلا كلام عليه لأنه جائز في حق جمهور المسلمين فكيف لا يجوز في آل الرسول؟ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ والسكن ما يسكن إليه المرء وتطمئن به نفسه، وذلك لأن دعاءه يستجاب البتة فيتطهرون بها، وكيف لا يفيض إشراق نفسه عليهم بتوجهه إليهم والترحم لهم؟ احتج مانعو الزكاة بها في زمان أبي بكر قالوا: الوجوب مشروط بحصول السكن والآن لا سكن. وردّ عليهم بسائر الآيات. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حكم بصحة توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت أَلَمْ يَعْلَمُوا يعني غير التائبين. وقيل: معناه ألم يعلم التائبون قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ الصحيحة ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية. وفائدة توسط هو أن يعلم أن الإلهية هي الموجبة لقبول التوبة لاستغنائه عن طاعة المطيعين ومعصية المذنبين فإذا انتقل العبد من حالة المعصية إلى حالة الطاعة وجب على كرمه قبول توبته. وفيه أيضا أن قبول التوبة ليس إلى الرسول. وفي قوله عَنْ عِبادِهِ دون «من» إشارة إلى البعد الذي يحصل للعبد عن الله بسبب العصيان أو إلى تبعيده نفسه عن الله هضما وانكسارا. وفي إضافة أخذ الصدقات إلى الله بعد أن أمر الرسول بالأخذ تشريف عظيم لهذه الطاعة، وأنها من الله بمكان، وأنه يربيها كما يربي أحد نافلوه حتى إن اللقمة تكون عند الله أعظم من أحد وقد جاء هذا المعنى في الحديث. ثم أمر نبيه بأن يقول للتائبين أو لغير التائبين ترغيبا لهم في التوبة اعْمَلُوا فيه نوع تهديد وتخويف فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وقد مر تفسير مثله عن قريب. والحاصل أنه كأنه قيل لهم اجتهدوا في العمل فإن له في الدنيا حكما وهو أن يراه الله ورسوله والمؤمنون، وفي الآخرة حكما وهو الجزاء. وبوجه آخر كأنه قيل: إن كنت من المحققين فاعمل لله، وإن كنت من الظاهريين فاعمل لتفوز بثناء شهداء الخلق وهم الرسول والمؤمنون فإنهم شهداء الله يوم القيامة، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية. ولا شك أن رؤية الله تعالى شاملة لأفعال القلوب والجوارح جميعا. أما رؤية الرسول والمؤمنين فلا تشمل أفعال القلوب إلا بإرادة الله واطلاعه وإفشائه. واعلم أنه تعالى قسم المخلفين إلى ثلاثة أقسام: منهم المنافقون الذين مردوا على النفاق، والثاني التائبون المتعرفون بذنوبهم، والثالث الذين بقوا مرقوفا أمرهم وذلك قوله وَآخَرُونَ وإعرابه كإعراب قوله وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا ومعنى مُرْجَوْنَ أي مؤخرون من أرجيته وأرجأته إذا أخرته ومنه قوله: أَرْجِهْ وَأَخاهُ [الأعراف: 111] كما مرّ، وبه سميت المرجئة لأنهم جازمون بغفران ذنب التائب ولكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 يؤخرونها إلى مشيئة الله ويقولون: إنهم مرجون لأمر الله. وقال الأوزاعي: لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان. وقال ابن عباس: نزلت في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، أمر رسول الله أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ولم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شد أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم، فلما علموا أن أخذا لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله وأخلصوا نياتهم فقبلت توبتهم ونزل فيهم وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا كما سيجيء. وقال الحسن: إنهم قوم من المنافقين حذرهم الله بهذه الآية إن لم يتوبوا. وقوله: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ التشكيك فيه راجع إلى العباد أي ليكن أمرهم على الخوف والرجاء وكان يقول أناس هلكوا إن لم ينزل الله لهم عذرا، ويقول آخرون: عسى الله أن يغفر لهم. قال الجبائي: جعل أمرهم دائرا بين التعذيب والتوبة فدل ذلك على انتفاء القسم الثالث وهو العفو من غير التوبة، وأجيب بأنه يجوز أن تكون المنفصلة مانعة الجمع فقط. ولما ذكر أصناف المنافقين وبين طرائقهم المختلفة قال: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا كأنه قال: ومنهم الذين اتخذوا. في الكشاف: أن محله النصب على الاختصاص، أو الرفع على الابتداء وخبره محذوف أي وممن وصفوا هؤلاء الأقوام. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير: كانوا اثني عشر رجلا بنوا مسجدا يضارّون به مسجد قباء. وروي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا: نبني مسجدا كذلك. واعلم أنه سبحانه حكى أن الباعث لهم على هذا العمل كان أمورا أربعة: الأول الضرار وهو المضارة والثاني الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالإسلام وذلك أنهم أرادوا تقوية أهل النفاق، والثالث التفريق بين المؤمنين لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعتهم ولا سيما إذا صلى النبي في مسجدهم فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وبطلان الألفة، والرابع قوله: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وقوله مِنْ قَبْلُ يتعلق ب حارَبَ أي من قبل بناء مسجد الضرار. وقال في الكشاف: إنه متعلق ب اتَّخَذُوا والمراد من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف. قال الزجاج: الإرصاد الانتظار. وقال ابن قتيبة: الانتظار مع العداوة. وقال الأكثرون: إنه الإعداد. والمراد بمن حارب أبو عامر الراهب والد أبي حنظلة الذي غسلته الملائكة، وسماه رسول الله الفاسق وكان قد تنصر في الجاهلية وترهب وطلب العلم فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم عاداه لأنه زالت رياسته وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل يقاتله إلى يوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 حنين، فلما انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام وأرسل الى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر وآت بجنود ومخرج محمدا وأصحابه من المدينة، فبنوا مسجدا وانتظروا أبا عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد. ثم أخبر الله تعالى عن نفاقهم بقوله: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا أي ما أردنا ببناء هذا المسجد إِلَّا الخصلة الْحُسْنى وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المسلمين. قال المفسرون. إنهم لما بنوا مسجدهم وافق ذلك غزوة تبوك فأتوا رسول الله وقالوا: بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة. فقال صلى الله عليه وسلم: إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه. فلما قفل من الغزوة سألوه إتيان المسجد فنزل لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً الآية فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشي- قاتل حمزة- فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيه الجيف والقمامة، ومات أبو عامر بالشام بقنسرين. وقال الحسن: همّ رسول الله أن يذهب إلى ذلك المسجد فناداه جبرائيل لا تقم فيه. ولا ريب أن النهي عن القيام فيه يستلزم النهي عن الصلاة فيه. ثم بيّن علة النهي فقال: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أي من ابتداء وجوده أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ والمعنى لو كان القيام في غيره جائزا لكان هذا أولى لاشتماله على الخيرات الكثيرة فكيف إذا كان غيره مشتملا على المفاسد الكثيرة من الضرار وغيره؟ قالت الشيعة في هذا المقام: إن المسجد إذا كان مبنيا على التقوى من أول يوم كان أولى بالصلاة فيه فالإمام أولى بأن يكون متقيا من أول عمره وما ذاك إلا عليّ عليه السلام لأنه لم يكفر بالله طرفة عين. واختلفوا في هذا المسجد فقيل: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، عن أبي سعيد الخدري سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى. فأخذ الحصباء وضرب بها الأرض وقال: هو مسجدكم هذا مسجد المدينة. وقيل: هو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهي يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة، قال في الكشاف: وهذا أولى لأن الموازنة بين مسجدي قباء أوقع. وقال القاضي: كل مسجد بني على التقوى فإنه يدخل فيه كما لو قال قائل لرجل صالح أحق أن تجالسه لم يكن ذلك مقصورا على واحد. وأيضا كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى وجه الله أو بمال غير طيب فهو لاحق بمسجد الضرار. ثم ذكر لمسجد التقوى وصفا آخر وذلك قوله: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا فقيل: إنه التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار والإخلاص كما أن أهل مسجد الضرار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 529 وصفوا بأضداد هذه الأمور من الضرار والكفر والتفريق، ولأن طهارة الباطن أشد تأثيرا من طهارة الظاهر في القرب من الله. وقيل: إنه التطهر بالماء وذلك أنهم كانوا لا ينامون الليل على الجنابة ويتبعون الماء أثر البول. وروي أنها لما نزلت مشى رسول الله ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال: أمؤمنون أنتم؟ فسكت القوم. ثم أعادها فقال عمر: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم. فقال عليه السلام: أترضون بالقضاء؟ قالوا: نعم قال: أتصبرون على البلاء؟ قالوا: نعم. قال: أتشكرون في الرخاء؟ قالوا: نعم. فقال صلى الله عليه وسلم: مؤمنون ورب الكعبة. فجلس ثم قال: يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟ فقالوا: يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء. فتلا النبي صلى الله عليه وسلم: رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وقيل: يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم فحموا بأجمعهم. ومحبة التطهر إيثاره والحرص عليه ومحبة الله الرضا عنهم والإحسان إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه. ثم بين أنه لا نسبة بين الفريقين وأن بينهما بونا بعيدا فقال مستفهما على سبيل التقرير أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ وهو مصدر كالعمران وأريد به المبني والمعنى أن من أسس بناء دينه على قاعدة قوية محكمة وهي تقوى الله ورضوانه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ دينه على ضد ذلك. والشفا هو الشفير أي الشفة، والجرف هو ما إذا سال السيل وانحسر الوادي ويبقى على طرف المسيل طين واه مشرف على السقوط ساعة فساعة فذلك الموضع الذي هو بصدد السقوط جرف، والهار الهائر وهو أيضا المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط. قال الليث: الهاء مصدرها الجرف يهور إذا انصدع من خلفه وهو ثابت بعد في مكانه، فإذا سقط فقد انهار. وقال في الكشاف: إنه صفة قصرت عن فاعل كخلف من خالف وألفه ليست بألف فاعل إنما هي عينه وأصله «هور» على «فعل» ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل، فلكونه على شفا جرف هار كان مشرفا على السقوط، ولكونه على طرف جهنم كان إذا انهار فإنما يسقط في قعر جهنم، يروى أنه حفرت بقعة من مسجد الضرار فرؤي الدخان يخرج منه. ثم ذكر أن بنيانهم ذلك سبب لازدياد ريبهم فقال: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً في كونه سببا للريبة فِي قُلُوبِهِمْ وجوه منها: أن هدمه صار سببا لازدياد شكهم في نبوته، ومنها أنهم ظنوا أن تخريبه لأجل الحسد فارتفع أمانهم عنه وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم فلا تزول تلك الريبة إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ أجزاء متفرقة إما بالموت وإما بالسيف وإما بالبلاء فحينئذ يضمحل أثرها عنها. والمقصود أن هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 530 الشك يبقى في قلوبهم أبدا ويموتون على النفاق. قال في الكشاف: يجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويرا لحال زوال الريبة عنها، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار. وقيل: معناه إلا أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم. التأويل: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الذين سبقت لهم العناية الأزلية، أو السابقون الأوّلون عند الخروج من العدم وهم أهل الصف الأول من الجنود المجندة، أو السابقون في جواب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] الأولون في استماع هذا الخطاب، أو السابقون في استحقاق المحبة عند اختصاصهم بتشريف يحبهم في الأزل، الأولون بأداء حق المحبة في سر يحبونه، أو السابقون عند تخمير طينة آدم في مماسة ذراتهم يد القدرة، الأولون باستكمال تصرف القدرة في كمال الأربعين صباحا، أو السابقون عند رجوعهم بقدم السلوك إلى مقام الوصال، الأولون بالوصول إلى سرادقات الجلال، وهذا السبق مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأمته كما قال: «نحن الآخرون السابقون» «1» . مِنَ الْمُهاجِرِينَ عن الأوطان البشرية وَالْأَنْصارِ لهم في طلب الحق وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ بذلوا جهدهم في متابعتهم بقدر الإمكان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بإعطاء الاستعدادات الكاملة وَرَضُوا عَنْهُ بإيفاء حقوقها. وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ من أعراب صفات النفس مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ مدينة القلب فمن صفات النفس بعضها منافق كالقوة الشهوية للوقاع فإنها تتبدل بالعفة عند استيلاء القلب على النفس بسياسة الشريعة وتربية الطريقة ظاهرا لا حقيقة لأنها لا تتبدل بالكلية بل تميل إلى الشهوة إذا خليت وطباعها ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «وإن أخوف ما أخاف على أمتي النساء» ومنها كافرة كالقوة الشهوية في طلب الغذاء فإنها باقية على طلبها ما دام البدن باقيا لاحتياجه إلى بدل ما يتحلل، ومنها مسلمة كالقوة الغضبية والشيطانية من الكبر والحسد والكذب والخيانة فإنها يحتمل أن تتبدل بأضدادها من التواضع والمحبة والصدق والأمانة عند استنارة النفس بنور الإيمان والذكر. فهذه الصفات وغيرها من صفات النفس ما لم تتبدل بالكلية أو لم تكن مغلوبة بأنوار صفات القلب ففيها بعض النفاق كما قال صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدّث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق   (1) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 68. مسلم في كتاب الجمعة حديث 19، 21. النسائي في كتاب الجمعة باب 1. الدارمي في كتاب المقدمة باب 1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 531 حتى يدعها» «1» لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ يعني أن هذه الأفعال لا يعرفها أرباب العلوم الظاهرة وإنما يعرفها أصحاب الكشوف الباطنة. سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ مرة بأحكام الشريعة ومرة بآداب الطريقة ثُمَّ يُرَدُّونَ بجذبات اللطف إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ هو الفطام عن الكونين والفناء في الله أو بجذبات القهر إلى إسبال حجب البعد والبقاء في عالم الطبيعة وَآخَرُونَ يعني القلب وصفاته اعْتَرَفُوا بذنوب ثبوت صفات النفس والتلوث بها خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً هو صدق التوجه وَآخَرَ سَيِّئاً هو مطاوعة النفس والهوى في بعض الأوقات. عَسَى اللَّهُ أن يوفقهم للرجوع إلى طريق الحق بالكلية والإعراض عما سواه. خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها عن دنس حب الدنيا وَتُزَكِّيهِمْ بالأخلاق الفاضلة فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة. وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ فيه أن المعطي يجب أن لا ينظر إلا إلى الله ولا يمنّ على الفقير أصلا وَسَتُرَدُّونَ بأقدام أعمالكم إلى الله الذي يعلم ما غاب عنكم من نتائج أعمالكم وما غبتم عنه من التقدير الأزلي وما تشاهدون بالعيون والقلوب في عالمي الملك والملكوت. وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ أخرت توبتهم ليتردّدوا بين الخوف والرجاء فيطيروا بجناحي القبض والبسط إلى أن يصلوا إلى سرادقات الهيبة والأنس. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بتربية عباده حَكِيمٌ فيما يفعل من القبول والرد. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا في عالم الطبيعة مزبلة النفس مَسْجِداً ضِراراً لأرباب الحقيقة وَكُفْراً بأحوالهم لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ هم أهل الإباحة من مدعي الفقر لا تَقُمْ يا رسول الروح. أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى هو مسجد القلب جبل على العبودية والطاعة مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ من الميثاق رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا هم الأوصاف الحميدة والملكات المزكاة عن دنس الطبيعة ولوث الحدوث. ثم ميز بين أهل السعادة والشقاوة فقال: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ أي جبل على الخير وما فيه رضا الله لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً لأنهم جبلوا على الشقاء إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ غيروا عن طباعهم وذلك محال أو لا يزال يسري من مزبلة النفس وسخ وظلمة إلى قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم غيروا عن طباعهم وذلك بسكين الرياضة فتزول عنها تلك الملكات. [سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 119] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)   (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 106. البخاري في كتاب الإيمان باب 24. أبو داود في كتاب السنة باب 15. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 532 القراآت: فَيَقْتُلُونَ مبنيا للمفعول وَيُقْتَلُونَ مبنيا للفاعل: حمزة وعلي وخلف. الآخرون على العكس. وَيُقْتَلُونَ بالتشديد: أبو عون عن قنبل. إبراهام وكذلك ما بعده: هشام يَزِيغُ بياء الغيبة: حمزة وحفص والمفضل. والباقون بتاء التأنيث خُلِّفُوا بالتخفيف وفتح اللام روى ابن رومي عن عباس. الباقون بالتشديد مجهولا. الوقوف: الْجَنَّةَ ط وَيُقْتَلُونَ ط وَالْقُرْآنِ ط بايَعْتُمْ بِهِ ط الْعَظِيمُ هـ لِحُدُودِ اللَّهِ ط الْمُؤْمِنِينَ هـ الْجَحِيمِ هـ إِيَّاهُ ط مِنْهُ ط ج حَلِيمٌ هـ ط ما يَتَّقُونَ ط عَلِيمٌ هـ وَالْأَرْضِ ط وَيُمِيتُ ط نَصِيرٍ هـ تابَ عَلَيْهِمْ ط رَحِيمٌ هـ ط للعطف على النبي خُلِّفُوا ط إِلَّا إِلَيْهِ ط لِيَتُوبُوا ط الرَّحِيمُ هـ الصَّادِقِينَ هـ. التفسير: لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وذكر أقسامهم وفرع على كل قسم ما كان لائقا به، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد والترغيب فيه فقال: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى الآية. قال محمد بن كعب القرظي: لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة- وهم سبعون نفسا- قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 533 قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى الآية. قال مجاهد والحسن ومقاتل: ثامنهم فأغلى ثمنهم. وقال جعفر الصادق عليه السلام: والله ما لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها. واعلم أن هذا الاشتراء وقع مجازا عن الجزاء لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك والعبد وما يملكه لمولاه. ولهذا قال الحسن: اشترى أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها. والمراد بأنفسهم النفوس المجاهدة وبأموالهم التي ينفقونها في أسباب الجهاد وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم على الوجه المشروع. وهاهنا نكتة هي أن قيم الطفل له أن يبيع مال الطفل من نفسه بشرط رعاية الغبطة، ففي هذه الآية البائع والمشتري هو الله ففيه تنبيه على أن العبد كالطفل الذي لا يهتدي إلى مصالح نفسه وأنه تعالى هو المراعي لمصالحه حتى يوصله إلى أنواع الخيرات وأصناف العادات. وبوجه آخر الإنسان بالحقيقة عبارة عن الجوهر المجرد الذي هو من عالم الأرواح وهذا البدن وما يحتاج اليه من ضرورات المعاش كالآلات والوسائط لتحصيل الكمالات الموصلة الى الدرجات العاليات فالبائع هو جوهر الروح القدسي، والمشتري هو الله، وأحد العوضين الجسد البالي والمال الفاني، والعوض الآخر الجنة الباقية والسعادات الدائمة، فالربح حاصل والخسران زائل ولهذا قال فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وفي قوله يُقاتِلُونَ معنى الأمر كقوله وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصف: 11] وهو كالتفسير لتلك المبايعة فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ أي إنهم يقتلون الكفار فلا يرجعون عنهم حتى يصيروا مقتولين. ومن قرأ بتقديم المجهول فمعناه أن طائفة منهم إذا صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعا للباقين عن المقاتلة بقدر الإمكان. ومن العلماء من خصص هذا الوعد بجهاد السيف لظاهر قوله: يُقاتِلُونَ. والتحقيق أن كل أنواع الجهاد يدخل فيه لأن الجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل أثرا من القتال ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام: «لأن يهدي الله على يدك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس» «1» ولأن الجهاد بالسيف لا يحسن إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة، ولأن الإنسان جوهر شريف فمتى أمكن إزالة صفاته الرذيلة مع إبقاء ذاته الشريفة كان أولى من إفناء ذاته، ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعا به من بعض الوجوه حث الشرع على إبقائه فقال: «هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به» «2» قوله   (1) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 102. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث 35. أحمد في مسنده (5/ 238) . (2) رواه مسلم في كتاب الحيض حديث 100، 102. أبو داود في كتاب اللباس باب 38. النسائي في كتاب الفرع باب 5. أحمد في مسنده (4/ 329، 334) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 534 وَعْداً عَلَيْهِ قال الزجاج: إنه منصوب بمعنى قوله: بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ كأنه قيل: وعدهم الجنة وعدا فهو مصدر مؤكد، وكذا قوله حَقًّا أو هو نعت للمصدر مؤكد وما الذي حصل فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ قيل: وعد المجاهدين على الإطلاق، وقيل: ذكر هذا البيع لأمة محمد، وقيل: الأمر بالقتال وَمَنْ أَوْفى استفهام بمعنى الإنكار أي لا أحد أوفى بما وعد مِنَ اللَّهِ لأنه الغني عن كل الحاجات القادر على كل المقدورات. وفي الآية أنواع من التوكيدات فأولها قوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى وإذا كان المشتري هو الإله الواجب الذات المتصف بجميع الكمالات المفيض لك الخيرات فما ظنك به، ومنها أنه عبر عن إيصال الثواب بالبيع والشراء حتى يكون حقا مؤكدا. ومنها أنه قال بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ بحرف التحقيق وبلام التمليك دون أن يقول بالجنة. ومنها قوله وَعْداً وإنه لا يخلف الميعاد. ومنها قوله عَلَيْهِ وكلمة «على» للوجوب ظاهرا. ومنها قوله: حَقًّا وهو تأكيد التحقيق. ومنها قوله: فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وإنه يجري مجرى الإشهاد لجميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل هذه المبايعة. ومنها قوله: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ وفيه تنبيه على أنه لا يكذب ولا يخلف البتة. ومنها قوله: فَاسْتَبْشِرُوا والبشارة الخبر الصدق الأول. ومنها قوله: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ ثم وصف الفوز ب الْعَظِيمُ واعلم أن هذه الخاتمة تقع على ثلاثة أوجه: أحدها ذلك الفوز بغير «هو» وإنه في ستة مواضع: في «براءة» موضعان، وفي «النساء والمائدة والصف والتغابن» وما في «النساء» بزيادة واو. والآخر وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ بزيادة «هو» وذلك في ستة مواضع أخرى في «براءة» موضعان و «يونس» و «المؤمن» و «الدخان» و «الحديد» وما في براءة أحدهما بزيادة الواو وهو خاتمة هذه الآية، وكذلك ما في «المؤمن» . وسبب هذا الاختلاف أن الجملة إذا جاءت بعد جملة من غير تراخ بنزول جاءت مربوطة إما بواو العطف وإما بكناية تعود من الثانية إلى الأولى وإما بإشارة فيها إليها، وربما جمع بين الشيئين منها والثلاثة للدلالة على المبالغة. وقد جمع في هذه الخاتمة بين الثلاثة لغاية التوكيد والمبالغة، أو لأنه ذكر الكتب الثلاثة فكل رابطة في مقابلة كتاب واحد. وكذلك في «المؤمن» وقع الثلاثة في مقابلة ثلاثة أدعية فَاغْفِرْ وَقِهِمْ وَأَدْخِلْهُمْ قال أبو القاسم البلخي: لا بد من حصول الأعواض على الآلام للأطفال والبهائم قياسا على ما أثبته الله تعالى للمكلفين من العوض على ألم القتل وهو الجنة. ثم ذكر أن حكم سائر المؤمنين كذلك فقال: التَّائِبُونَ قال الزجاج: إنه مبتدأ محذوف الخبر أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا كقوله وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [النساء: 95] وقيل: التائبون رفع على البدل من الضمير في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 535 يُقاتِلُونَ وقيل: مبتدأ خبره الْعابِدُونَ وما بعده أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال. أما تفسير هذه الأوصاف فقد قال ابن عباس والحسن: التائبون هم الذين تابوا من الشرك وتبرأوا عن النفاق. ومال آخرون الى التعميم ليشمل المعاصي أيضا إذ لا دليل على التخصيص والْعابِدُونَ قال ابن عباس: هم الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم. وقال الحسن: هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء، والعبادة لا شك أنها عبارة عن نهاية التعظيم وغاية الخضوع. وقال قتادة: هم قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم. والْحامِدُونَ هم الذين يقومون بحق شكر نعم الله ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم، وذلك أن الحمد ذكر من كان قبل آدم لقول الملائكة وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [البقرة: 30] وذكر أهل الدنيا يقولون في كل يوم سبع عشرة مرة الحمد لله رب العالمين، وذكر من يكون بعد خراب الدنيا لقوله: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] والسَّائِحُونَ قال عامة المفسرين: هم الصائمون لقوله: «سياحة أمتي الصيام» . ثم قيل: هذا صوم الفرض. وقيل: الذين يديمون الصيام. قال الأزهري: إنما قيل للصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبد لا زاد معه فيكون ممسكا عن الأكل والشرب كالصائم. وقيل: أصل السياحة الاستمرار على الذهاب كالماء الذي يسيح والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المنهي عنه من الأكل والشرب والوقاع. وقال أهل المعنى: الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب انفتحت عليه أبواب المعاني والحكم وتحلت له أنوار المعارف والحقائق فيحصل له سياحة في عالم العقول. وقيل: السائحون طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم في مظانه، وكانت السياحة في بني إسرائيل. قال عكرمة عن وهب بن منبه: لا ريب أن للسياحة أثرا عظيما في تكميل النفس لأنه يلقى أنواعا من الضر والبؤس فيصبر عليها، وقد ينقطع زاده فيتوكل على الله فيصير ذلك ملكة له، وقد ينتفع بالمشاهد والزيارات للأحياء وللأموات ويستفيد ممن هو فوقه ويفيد من هو دونه ويكتسب التجارب ومعرفة الأحوال والأخلاق والسير والآثار الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ يعني المصلين قال بعض العلماء: إنما جعل الركوع والسجود كناية عن الصلاة لأن سائر هيئات المصلي موافقة للعادة كالقيام والقعود، وإنما الفصل بين المصلي وغيره بالركوع والسجود. وقيل: أول مراتب التواضع القيام وأوسطها الركوع وغايتها السجود فخصا بالذكر تنبيها على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع. ثم قال: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ ومعناهما مذكور فيما مر إلا أن هاهنا بحثا آخر وهو أنه لم أدخل الواو في قوله: وَالنَّاهُونَ وَالْحافِظُونَ دون سائر الأوصاف؟ وأجيب بأن النسق يجيء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 536 بالواو وبغيرها كقوله: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ [غافر: 2] أو المراد أن الموصوفين بالصفات الستة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ويكون فيه ترغيب في الجهاد لأن رأس المعروف الإيمان بالله ورأس المنكر الكفر به والجهاد يوجب حصول الإيمان وإزالة الكفر، أو النهي عن المنكر أصعب أقسام التكاليف لإفضائه في الأغلب إلى الخصومة وثوران الغضب فأدخل عليه الواو تنبيها على هذه المخالفة والمباينة. ولبعض النحويين جواب عام يشمل هذه الآية وما في «الكهف» في قوله: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الآية: 22] وما في «الزمر» في قوله في ذكر الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الآية: 73] وما في «التحريم» في قوله: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [الآية: 5] وذلك أنهم سموا هذه الواوات واو الثمانية قائلين إن السبعة نهاية العدد ولهذا أكثر ذكرها في القرآن والأخبار. فالثمانية تجري مجرى استئناف كلام فلهذا فصل بالواو. وأما قوله: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ فكإجمال بعد تفصيل وذلك أن التكاليف إما أن تتعلق بمصالح الدين وهي باب العبادات من الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والإعتاق والنذر ونحوها، أو بمصالح الدنيا وهي المعاملات. وإنها إما لجلب المنافع أو لدفع المضار والمنافع إما أن تكون مقصودة بالأصالة أو بالتبعية. فالمقصودة بالأصالة هي المنافع الحاصلة من طرق الحواس الخمس وهي المذوقات ويدخل فيها كتاب الأطعمة والأشربة والصيد والذبائح والضحايا، والملموسات ويدخل فيها باب أحكام الوقاع فمنها ما يفيد حله كالنكاح والرضاع وما يتبعهما من المهر والنفقة والسكنى وأحوال القسم والنشوز، ومنها ما يوجب إزالته كالطلاق والخلع والإيلاء والظهار واللعان، ومن أحكام الملموسات البحث عما يحل لبسه واستعماله وعما لا يحل كالأواني الذهبية وغيرها. والمبصرات وهو باب ما يحل النظر إليه وما لا يحل، والمسموعات وهو باب ما يحل سماعه وما لا يحل، والمشمومات وقد قيل إنه ليس للفقهاء فيه مجال، ويحتمل أن يقال إن منها جواز استعمال الطيب في بعض الأوقات ومنعه في بعضها كحالة الإحرام. ومنها ما يكره كأكل البصل والثوم للمصلي بالجماعة في المسجد. والمنافع المقصودة بالتبعية هي الأموال والبحث عنها إما من جهة الأسباب المفيدة للملك كالإرث والهبة والوصية وإحياء الموات والالتقاط وأخذ الفيء والغنائم والزكاة، وكالبيع بين العين بالعين أو بيع الدين بالعين وهو السلم أو بالعكس كما إذا اشترى شيئا في الذمة أو بيع الدين بالدين وهو بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه إلا عند تقاص الدينين، أو من جهة الأسباب المفيدة للمنفعة كالإجارة والجعالة وعقد المضاربة، أو من جهة الأسباب التي توجب لغير المالك التصرف فيه كالوكالة والوديعة، أو من جهة الأسباب التي تمنع المالك التصرف في ملكه كالرهن والإجارة والتفليس. وأما دفع المضار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 537 والمضرة إما في النفس وهو كتاب الجراح أو في الدين وهو كتاب الجهاد وباب الارتداد وأحكام البغاة، وإما في النسب وهو باب أحكام الزنا والقذف واللعان، وإما في العقل كباب تحريم الخمر، وإما في المال والضرر فيه إما على سبيل الإعلان والجهار وهو الغصب وقطع الطريق، أو على سبيل الخفية وهو السرقة. وهاهنا باب آخر وهو أن كل أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع ودفع المضار بنفسه عن نفسه لضعفه فلهذا السبب أمر الله بنصب الإمام لتنفيذ الأحكام، وقد يكون للإمام نواب وهم الأمراء والقضاة وليس قول الغير مقبولا إلا بحجة وهي الشهادة والأيمان فحصل من ذلك كتاب آداب القضاء وباب الدعاوى والبينات. فهذا ما أمكن من ضبط معاقد تكاليف الله تعالى وأحكامه وحدوده، وكلها منوطة بأعمال الجوارح دون أعمال القلوب التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى. ولكن قوله: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ يشمل ذلك أيضا بل رعايته أهم من رعاية أحوال الظواهر. ثم ختم الآية بتكرير البشارة وفيه من كمال العناية ما فيه. ولما بين من أول السورة إلى هاهنا وجوب إظهار البراءة من المنافقين الكفرة الأحياء أراد أن يبين وجوب البراءة من أمواتهم أيضا وإن كانوا أقارب فقال: ما كانَ لِلنَّبِيِّ ومعناه النهي أي ما صح له وما استقام وما ينبغي له ذلك. ثم علل المنع بقوله: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ لأنهم ماتوا على الشرك وقد قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 116] فطلب غفرانهم جار مجرى طلب إخلاف وعد الله ووعيده، وفيه حط لمرتبة النبي حيث يدعو بما لا يستجاب له. وهذه العلة لا تختلف بأن يكونوا من الأباعد أو من الأقارب فلهذا بالغ فيه بقوله: وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى روى الواحدي بإسناده عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية- فقال: أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل وابن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به أنا على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنه فاستغفر له بعد ما مات فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا قد استغفر إبراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه فاستغفروا للمشركين فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآيتان. وقيل عن ابن عباس: لما افتتح صلى الله عليه وسلم مكة سأل أي أبويه أحدث به صلى الله عليه وسلم عهدا أي آخرهما موتا؟ فقيل: أمك آمنة. فزار صلى الله عليه وسلم قبرها ثم قام باكيا فقال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 538 لي فيه ونزل عليّ ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآية. فقال بعضهم كصاحب الكشاف والحسين بن أبي الفضل: هذا أصح لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولا، وكانت وفاة أبي طالب بمكة في أول الإسلام. ويمكن أن يوجه الأول بأنه صلى الله عليه وسلم لعله بقي مستغفرا إلى حين نزول الآية. ثم اعتذر عن استغفار إبراهيم لأبيه بأنه صدر عن موعدة وعدها إياه، وذلك أن أباه كان وعد إبراهيم أن يؤمن فكان يستغفر له بناء على ذلك الوعد. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لإبراهيم أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ إما بإصراره على الكفر أو بموته على ذلك أو بطريق الوحي تَبَرَّأَ مِنْهُ وترك الاستغفار. ويجوز أن يكون الواعد إبراهيم عليه السلام ويوافقه قراءة الحسن وعدها أباه بالباء الموحدة وذلك في قوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة: 4] وعده أن يستغفر له رجاء إسلامه. وقيل: المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإسلام الموجب للغفران، وكان يتضرع إلى الله تعالى أن يرزقه الإيمان. وقيل: المقصود النهي عن صلاة الجنازة فكان قوله: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ [التوبة: 84] في حق المنافقين خاصة وهذه في حق الكافرين عامة. ثم ختم الآية بقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ قال أهل اللغة: أوّاه «فعال» مأخوذ من حروف «أوه» كلمة يقولها المتوجع، وذلك أن الروح القلبي يختنق عند الحزن في داخل القلب ويشتد حرارته فإذا تكلم صاحبه بها خرج ذلك النفس المختنق فخفف بعض ما به، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الأوّاه الخاشع المتضرع» والحلم ضد السفه، وصفه تعالى بشدّة الرأفة والشفقة والخوف والوجل فبين أن إبراهيم مع هذه العادة تبرأ من أبيه حين انقطع رجاؤه منه فأنتم بهذا المعنى أولى. ثم إن المسلمين خافوا أن يؤاخذوا بما سلف منهم من الاستغفار للمشركين فأنزل الله ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً أي عن طريق الجنة أو يحكم عليهم بالضلال أو يخذلهم أو يوقع الضلالة في قلوبهم حين يكون منهم الأمر الذي يستحق به العقاب بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ما يجب عليهم أن يحتزروا عنه. والحاصل أن الله لا يسمي قوما ضلالا بعد إذ سماهم مهديين ما لم يقدموا على شيء مبين خطره، وأما قبل العلم والبيان فلا يؤاخذهم كما لم يؤاخذ بشرب الخمر والربا قبل تحريمهما. وفي الآية تشديد عظيم حيث جعل المهدي للإسلام إذا أقدم على بعض المحظورات داخلا في حكم الضلال. ثم قال: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ والمراد أن من كان عالما قادرا هكذا لم يحتج إلى أن يفعل العقاب قبل البيان وإزاحة العذر. قالت المعتزلة: وفيه دليل على أنه يقبح من الله الابتداء بالعقاب. وأجيب بأن له ذلك بحكم المالكية غاية ما في الباب أنه لا يعاقب إلا بعد إزاحة العذر عادة، وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 539 وَالْأَرْضِ فائدة أخرى هي أنه لما أمر بالبراءة من الكفار بين غاية قدرته ونهاية نصرته لمن أراد استظهارا للمسلمين كيلا تضعف قلوبهم بالانقطاع عن الأقارب والأنصار كأنه قال: وجب عليكم أن تفيئوا إلى حكمي وتكاليفي لأني إلهكم وأنتم عبيدي. ثم عاد إلى بقية أحكام الكفار فقال لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ الآية. ولنبن تفسير الآيتين على أسئلة مع جواباتها. فالسؤال الأول: أن قبول التوبة دليل سبق الذنب، والنبي معصوم والمهاجرون والأنصار الذين اتبعوه تحملوا أعباء ذلك السفر الطويل فكان اللائق بحالهم أن يثني عليهم. والجواب أنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار لأنه لا ينفك عن هفوة إما من باب الكبائر وإما من باب الصغائر وإما من باب ترك الأولى. والأفضل كما أشير إلى ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] ولعله قد وقع في قلوب المؤمنين نوع نفرة من تلك السفرة لما عاينوا المتاعب ولا أقل من الوساوس والهواجس فأخبر الله سبحانه أن تلك الشدائد صارت مكفرة لجميع الزلات التي صدرت عنهم في ذلك السفر الطويل بل في مدة عمرهم وصارت قائمة مقام التوبة المقرونة بالإخلاص. ويجوز أن يكون ذكر الرسول لأجل تعظيم شأن المهاجرين والأنصار لا لأنه صدر عنه ذنب. السؤال الثاني: ما المراد بساعة العسرة؟ فالجواب قد تستعمل الساعة في معنى الزمان المطلق والعسرة تعذر الأمر وصعوبته. والمراد الزمان الذي صعب عليهم الأمر جدا في ذلك السفر، كانوا في عسرة من الظهر تعتقب العشرة على بعير واحد، وفي عسرة من الزاد تزوّدوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة المنتنة، وقد بلغت بهم الشدة إلى أن اقتسم التمرة اثنان ثم إلى أن مصتها جماعة ليشربوا عليها الماء، وفي عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها وفي شدة زمان من حرارة القيظ كما قال المنافقون لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة: 81] وقال أبو مسلم: يجوز أن يراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات العسرة التي مرت عليهم في غزواتهم كما ذكر الله تعالى في غزوة الخندق وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: 10] الثالث: ما معنى كادَ يَزِيغُ وكيف إعرابه؟ والجواب هما استعمالان: كاد زيد يخرج، وكاد يخرج زيد. ومعنى الأول كاد زيد خارجا أي قارب الخروج، ومعنى الثاني كاد الشأن يكون كذا يعني قارب الشأن هذا الخبر. وشبهه سيبويه بقولهم ليس خلق الله مثله أي ليس الشأن ذاك ولكن ضده، والزيغ الميل عن الجادة قيل: قارب بعضهم أن يميل عن الإيمان. وقيل: هم بعضهم عند تلك الشدة بالمفارقة ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 540 حبسوا أنفسهم وصبروا وثبتوا وندموا. وقيل: ما كان إلا حديث نفس بلا عزيمة ومع ذلك خافوا أن يكون معصية. الرابع: ذكر التوبة في أول الآية فلم كررها في قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ؟ الجواب إن عاد الضمير في عَلَيْهِمْ الى الفريق فلا تكرار، وإن عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار جميعا فالتكرير للتوكيد مع رعاية دقيقة هي أن التوبة اكتنفت الذنب من جانبيه، وذلك أنه بدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب تطييبا لقلوبهم ثم ذكر الذنب، ثم أردفه بذكر التوبة ليدل على أن العفو عفو متأكد كما يقول السلطان عند كمال الرضا: عفوت عنك ثم عفوت عنك. وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يغفر ذنب الرجل المسلم عشرين مرة» . وقال ابن عباس في تفسير قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ يريد ازداد عنهم رضا. ثم أكد هذه المعاني بقوله إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فيشبه أن يراد بالرأفة إزالة الضرر، وبالرحمة إيصال المنفعة. أو الأوّل رحمة سابقة، والثاني لاحقة. الخامس: الثلاثة الذين خلفوا من هم؟ الجواب هم المرجون لأمر الله كما مرّ، سمّوا مخلفين كما سموا مرجئين أي مؤخرين عن أبي لبابة وأصحابه حيث تيب عليهم بعد أولئك. وقيل: لأنهم خلفوا عن الغزو ومثله قراءة من قرأ بالتخفيف أي خلفوا الغازين. وقيل: المخلف من خلوف الفم أي فسدوا، وقرأ جعفر الصادق عليه السلام: خالفوا. حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ مع سعتها وهو مثل للحيرة في الأمر، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أي قلوبهم لا يسعها أنس ولا سرور وَظَنُّوا أي علموا وتيقنوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ سخط اللَّهِ إِلَّا إلى استغفاره كقوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بك منك» . وقيل: الظن بمعناه الأصلي وهو الرجحان وذلك أنهم ما كانوا قاطعين بأن ينزل الله في شأنهم قرآنا، وإن سلم أنهم قطعوا بذلك إلا أنهم جوزوا أن تكون المدة قصيرة وجواب «إذا» محذوف والتقدير حتى إذا كان كذا وكذا تاب عليهم، وحسن حذفه لتقدم ذكره. عن كعب بن مالك قال: لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه فرد عليّ كالمغضب بعد ما كان ذكرني في الطريق وقال: ليت شعري ما خلف كعبا فقيل له: ما خلفه إلا حسن برديه والنظر في عطفيه. فقال: معاذ الله ما أعلم إلا فضلا وإسلاما ونهى عن كلامنا- أيها الثلاثة- فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع- وهو جبل بالمدينة- أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجدا وكنت كما وصفني ربي ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ [التوبة: 25] وتتابعت البشارة فلبست ثوبي وانطلقت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون فقال إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول إلي حتى صافحني وقال: لتهنك توبة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 541 الله عليك فلن أنساها لطلحة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر: أبشر يا كعب بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ثم تلا علينا الآية. سئل أبو بكر الورّاق عن التوبة النصوح فقال: أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه. السادس: قد عرفنا فائدة قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ فما فائدة قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا؟ الجواب معناه رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم، أو تاب عليهم في الماضي ليتوبوا في المستقبل إذا فرطت منهم خطيئة علما منهم بأن الله تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة، أو تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين، أو تاب عليهم لينتفعوا بالتوبة وثوابها لأن الانتفاع بها لا يحصل إلا بعد توبة الله عليهم. وقالت الأشاعرة: المقصود بيان أن فعل العبد مخلوق لله تعالى حتى إنه لو لم يتب عليهم لم يتوبوا. وأيضا قالوا: في الآية دلالة على أن قبول التوبة غير واجب عقلا لأن توبة هؤلاء قد حصلت من أوّل الأمر، ثم إنه صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إليهم وتركهم خمسين يوما. ويمكن أن يجاب بأن شرائط التوبة من الإخلاص والنصح وغير ذلك لعلها لم تكن حاصلة من أوّل الأمر فلهذا تأخر القبول دليله قوله تعالى: حَتَّى إِذا ضاقَتْ الآية. ثم حث سبحانه المؤمنين على ملازمة سيرة التقوى والانضمام في زمرة أهل الصدق لا النفاق فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية. قال بعض العلماء: ظاهر الأمر للوجوب فوجب على المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين لا بمعنى أن يكونوا على طريقهم وسيرتهم، لأن ذلك عدول عن الظاهر بل بمعنى المصاحبة. والكون مع الشيء مشروط بوجود ذلك الشيء فلا بد من وجود الصادقين. ثم إنه ثبت بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن التكاليف المذكورة في القرآن متوجهة على المكلفين إلى يوم القيامة فلا يكون هذا الأمر مختصا بالكون مع الرسول وأصحابه في الغزوات بل أعم من ذلك. ثم إن الصادق لا يجوز أن يكون منحصرا في الإمام المعصوم الذي يمتنع خلو زمان التكليف عنه كما يقوله الشيعة، لأن كون كل واحد من المؤمنين مع ذلك الصادق بعد تسليم وجوده تكليف بما لا يطاق، فالمراد بالصادقين أهل الحل والعقد في كل حين، والمراد أنهم إذا أجمعوا على شيء كانوا صادقين فيه محقين ويجب على الباقين أن يكونوا معهم ظاهرا وباطنا. وقال أكثر المفسرين: الصادقون هم الذين صدقوا في دين الله وفيما عاهدوا عليه من الطاعة نية وقولا وعملا. وقيل: أي كونوا مع الثلاثة المذكورين في الصدق والثبات. وعن ابن عباس: الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب أي وافقوا المهاجرين والأنصار في الصدق، وقيل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 542 الخطاب للذين شدوا أنفسهم على السواري. وفي الآية دلالة على فضيلة الصدق وكمال درجته. ومن خصائص الصدق ما روي أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إني أريد أن أؤمن بك إلا أني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء كلها ولا طاقة لي بتركها بأسرها، فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت بك، فقبل ذلك وشرط له الصدق ثم أسلم. فلما خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه الخمر فقال: إن شربت وسألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد، وإن صدقت أقام الحد علي فتركها، ثم عرض عليه الزنا فجاءه ذلك الخاطر فتركه، وكذا في السرقة فعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أحسن ما فعلت، لما منعتني عن الكذب انسد أبواب المعاصي علي وتبت عن الكل. ومن فضائل الصدق أن الإيمان منه لا من سائر الطاعات، ومن معايب الكذب أن الكفر منه لا من سائر الذنوب، ومن مثالب الكذب أن إبليس مع تمرّده وكفره استنكف منه حتى استثنى في قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82] . ثم المقتضي لقبح الكذب هو كونه كذبا عند المعتزلة وكونه مفضيا إلى المفاسد عند الأشاعرة والله أعلم. التأويل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى في التقدير الأزلي ولهذا تيسر لهم الآن بذل النفس والمال في الجهاد الأصغر وفي الجهاد الأكبر، وإنه كما اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ اشترى من أوليائه الصديقين قلوبهم وأرواحهم بأن لهم الجنة. التَّائِبُونَ عما سوى الله الْعابِدُونَ المتوجهون إليه على قدم العبودية الْحامِدُونَ له على ما وفقهم لنعمة طلبه السَّائِحُونَ السائرون إليه بقدمي الصبر والشكر أو التبري والتولي الرَّاكِعُونَ أي الراجعون عن مقام القيام بوجودهم إلى القيام بموجدهم السَّاجِدُونَ الساقطون على عتبة الوحدة بلاهم الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ الحقيقي النَّاهُونَ عما سواه وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ لئلا يتجاوزوا عن طلبه إلى طلب غيره. ما كانَ لِلنَّبِيِّ فيه أن الاجتهاد ليس سببا لنيل المراد، وأن الهداية من مواهب الربوبية لا من مراتب العبودية إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ الأواه هو المتبرئ من المخلوقات لكثرة نيل المواجيد والكرامات فيكون لضيق البشرية تولاه مولاه، فمهما ورد له وأراد الحق ضاق عليه نطاق الخلق فيتأوه عند تنفس القلب المضطر من الخلق إلى الحق. حَلِيمٌ عما أصابه من الخلق للحق فلا رجوع له من الحق إلى الخلق بحال من الأحوال ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لجبرائيل حين سأله ألك حاجة: أما إليك فلا وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ليردّهم بالمكر إلى الاثنينية والبعد بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ إلى الوحدانية والفردانية بالتوحيد والتفريد حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ من آفات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 543 البشرية وعاهات الدنيا فهي رأس كل خطيئة، فإن لم يتحرزوا عنها وقعوا بالاستدراج إلى حيث خرجوا عنها نعوذ بالله من الحور بعد الكور أو نقول: إن الله تعالى بعد إذ هداهم بالإفناء عن الوجود إلى البقاء بالجود لا يردهم إلى بقاء البقاء وهو الإثبات بعد المحو والصحو بعد السكر وقد سماه المشايخ الإثبات التأني حتى يبين لهم ما يتقون من الأعمال والأقوال رعاية لتلك الأحوال. إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ سموات القلوب وَالْأَرْضِ أرض النفوس يُحْيِي بنور ربوبيته من يشاء وَيُمِيتُ عن صفات بشريته من يشاء وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ فلا يشغلنكم طلب الملك عن المالك فإن طالب الملك لا يجد الملك ولا المالك وطالب المالك يجد الملك والمالك جميعا لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ التوبة فضل من الله ورحمة، فقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم على المهاجرين ليكون وصول فضله إليهم بعد العبور على النبي تحقيقا لقوله وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ عسرة الدنيا وترك شهواتها. أو نقول لَقَدْ تابَ اللَّهُ أي أفاض أنوار عرفانه على نبي الروح ومهاجري صفاته الذين هاجروا معه من مكة- عالم الروح- إلى مدينة الجسد وَالْأَنْصارِ من القلب والنفس وصفاتهما الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ رجوعه إلى عالم العلو بالعسرة لأنهم من عالم السفل. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا من النفس والهوى والطبع وما تبعوا الروح عند رجوعه إلى عالمه ابتلاء حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ أرض البشرية شوقا إلى تلك الحضرة وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ تحننا إلى نيل تلك السعادات وتحقق لهم بنور اليقين أن لو بقوا في السفل لا ملجأ لهم من عذاب البعد عن الله إلا الفرار إليه ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ بجذبة العناية، ولو وكلهم إلى طبيعتهم ما سلكوا طريق الحق أبدا مع الصادقين الذين صدقوا يوم الميثاق والله أعلم. [سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 129] ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 544 القراآت: مَوْطِئاً ونحوه بالياء: يزيد والشموني وحمزة في الوقف غلظة بفتح الغين: المفضل. الباقون بكسرها. أولا ترون بتاء الخطاب للمؤمنين: حمزة ويعقوب. الباقون على الغيبة. الوقوف: عَنْ نَفْسِهِ ط صالِحٌ ط الْمُحْسِنِينَ هـ لا للعطف يَعْمَلُونَ هـ كَافَّةً ط يَحْذَرُونَ هـ غِلْظَةً ط الْمُتَّقِينَ هـ إِيماناً ط يَسْتَبْشِرُونَ هـ كافِرُونَ هـ يَذَّكَّرُونَ هـ إِلى بَعْضٍ ط لحق المحذوف أي يقولون هل يراكم ثُمَّ انْصَرَفُوا ط لا يَفْقَهُونَ هـ عَزِيزٌ ط، على تأويل عليه شفاعة ما عنتم والصحيح الوصل لأن المعنى شديد عليه ما أثمتم ولا وقف في الآية إلى قوله رحيم حَسْبِيَ اللَّهُ ط والأصح الوصل على جعل الجملة حالا أي يكفي الله غير مشارك في الألوهية إِلَّا هُوَ ط الْعَظِيمِ هـ. التفسير: لما أمر بموافقة النبي وأصحابه في جميع الغزوات والمشاهد بقوله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [الآية: 119] أكد ذلك المعنى بالنهي عن التخلف عنه فقال: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أي لا يستقيم ولا يجوز لهم. والأعراب الذين كانوا حول المدينة قد ذكرنا- عن ابن عباس- أنهم مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار، وكأنه أراد المعروفين منهم وإلا فاللفظ عام. ومعنى وَلا يَرْغَبُوا ولا أن يرغبوا. يقال: غبت بنفسي عن هذا الأمر أي أبخل بها عليه ولا أتركها له، والمراد أنه لا يصح لهم أن يرغبوا عن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب صلاح أنفسهم وبقائها بل عليهم أن يصحبوه على البأساء والضراء ويرضوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول لنفسه لأن نفسه أعز نفس عند الله، فإذا تعرضت مع كرامتها للخوض في شدة وجب على سائر الأنفس أن لا يضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه. وفي هذا النهي مع التهييج توبيخ عظيم، ولا يخفى أن الجهاد لا يجب على كل فرد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 545 بعينه للإجماع وأن أصحاب الأعذار من الضعفاء والمرضى ونحوهم مخصوصون بالعقل وبالنقل فيبقى ما وراء هاتين الصورتين داخلا تحت عموم الآية. ثم ذكر ترغيبا يجري مجرى علة المنع من التخلف فقال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي الوجوب الدال عليه بقوله: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ بسبب أنهم مثابون على أنواع المتاعب وأصناف الشدائد بل على جميع الحركات والسكنات مدة الذهاب والإياب. والظمأ شدة العطش، والنصب الإعياء والتعب، والمخمصة المجاعة الشديدة التي تظهر ضمور البطن، والموطئ إما مصدر كالمورد أو مكان وعلى التقديرين الضمير في يَغِيظُ عائد إلى الوطء الصريح أو المقدر. ثم الوطء يجوز أن يكون حقيقة فيراد به الدوس بالأقدام وبحوافر الخيول وبأخفاف الإبل، ويجوز أن يكون مجازا فيراد به الإيقاع والإهلاك. قال ابن الأعرابي: غاظه وغيظه وأغاظه بمعنى. ويقال نال منه إذا رزأه ونقصه وهو عام في كل ما يسوءهم ويلحق بهم ضررا من قتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة، والمراد أنهم لا يتصرفون في أرض الكفار تصرفا يغيظهم ويرزؤهم شيئا إلا كتب لهم به عمل صالح. وفيه دليل على أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله، وكذا القول في طرف المعصية ولكن بالضد فما أعظم بركة الطاعة وما أشد شؤم المعصية. وبهذه الآية استشهد أصحاب أبي حنيفة أن المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك الجيش في الغنيمة لأن وطء ديارهم مما يغيظهم وينكي فيهم. وقال الشافعي: لا يشاركون الغانمين في الغنيمة وإن شاركوهم في الثواب لأن الغنيمة من خواص المحاربين ومن قد تعاطى خطرا. قال قتادة: هذا الحكم من خواص رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر. وقال ابن زيد: هذا حين كان في المسلمين قلة فلما كثروا نسخه الله بقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً. وقال عطية: ما كان لهم التخلف إذا دعاهم الرسول وأمرهم. قال العلماء: وكذلك غيره من الأئمة والولاة إذا عينوا طائفة لأنا لو جوزنا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعض دون بعض فيؤدي الى تعطيل الجهاد. قوله: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً. قال المفسرون: يريد تمرة فما فوقها وعلاقة سيف أو سوط وما أربى عليها مثل ما أنفق عثمان في جيش العسرة وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً أي أرضا في ذهابهم ومجيئهم وهذا شائع في استعمال العرب يقولون: لا تصل في وادي غيرك. وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سال. والوادي كل منعطف بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل. إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ذلك الإنفاق والقطع أو ذلك العمل الصالح المعهود في الآية المتقدمة. ثم ذكر غاية الكتب فقال: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أي أثبت في صحائفهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 546 لأجل الجزاء جزاء أحسن من أعمالهم وأجل. وقيل: الأحسن من صفة الفعل أي يجزيهم على الأحسن وهو الواجب والمندوب دون المباح. واعلم أنه سبحانه عدد أشياء بعضها ليس من أعمال المجاهدين وهو الظمأ والنصب والمخمصة، وباقيها من أعمالهم وهي الوطء والنيل والإنفاق وقطع الأرض، وقسم هذا الباقي قسمين فضم شطرا منه إلى ما ليس من أعمالهم تنبيها على أنه في الثواب جار مجرى عملهم ولهذا صرح بذلك فقال: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ أي جزاء عمل صالح وأكد ذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. ثم أورد الشطر الباقي لغرض آخر وهو الوعد بأحسن الجزاء، واقتصر هاهنا على قوله إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لأن هذا القسم من عملهم فلم يحتج إلى تصريح بذلك، أو اكتفاء بما تقدم، أو لأن الضمير عائد إلى المصدر الدال عليه الفعل والله تعالى أعلم بمراده. ثم قال: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ وفيه قولان: أحدهما أنه من بقية أحكام الجهاد لأنه سبحانه لما بالغ في عيوب المنافقين كان المسلمون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الكفار ينفرون جميعا ويتركونه بالمدينة وحده فنزلت الآية. قاله ابن عباس. والمعنى أنه لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا بأسرهم إلى الجهاد بل يجب أن يصيروا طائفتين إحداهما لملازمة خدمة الرسول والأخرى للنفر إلى الغزو. ثم هاهنا احتمالان لأنه قال محرضا فَلَوْلا نَفَرَ أي هلا نفر مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ فذهب الأكثر إلى أن الضمير في لِيَتَفَقَّهُوا عائد إلى الفرقة الباقية في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم إذا بقوا في خدمته شاهدوا الوحي والتنزيل وضبطوا ما حدث من الشرائع، وعلى هذا فلا بد من إضمار والتقدير: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وأقام طائفة ليتفقه المقيمون في الدين وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ النافرين إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ معاصي الله عند ذلك وبهذا الطريق يتم أمر الدين بهاتين الطائفتين وإلا ضاع أحد الشقين، والاحتمال الآخر ما روي عن الحسن أن الضمير يعود إلى الطائفة النافرة. وتفقههم هو أنهم يشاهدون ظهور المسلمين على المشركين وأن العدد القليل منهم من غير زاد ولا سلاح كيف يغلبون الجم الغفير من الكفار فينتبهون لدقائق صنع الله في إعلاء كلمته. فإذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم بما شاهدوا من دلائل الحق فيحذروا أي يتركوا الكفر والشرك والنفاق. القول الثاني أنه ليس من بقية أحكام الجهاد وإنما هو حكم مستقل بنفسه، ووجه النظم أن الجهاد أمر يتعلق بالسفر وكذلك التفقه، أما في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فوجوبه ظاهر لمن ليس بحضرته حتى يصل إليه ويستفيد من خدمته لأن الشريعة ما كانت مستقرة بل كانت تتجدد كل يوم شيئا فشيئا، وأما في زماننا فلا ريب أنه متى عجز عن التفقه إلا بالسفر وجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 547 عليه، وإن أمكنه في الحضر فلا شك أن للسفر بركة أخرى يعرفها كل من زاول الأسفار وحاول الأخطار. ومعنى لِيَتَفَقَّهُوا ليتكلفوا الفقاهة في الدين ويتجشموا المتاعب في دلائلها التفصيلية. والظاهر أن المراد في الآية أعم من ذلك بحيث يشمل علوم الشرع كلها من التفسير والحديث وأصول الدين وأصول الفقه ومقدمات كل من ذلك وغاياتها بحسب الإمكان النوعي أو الشخصي. وفي قوله: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إشارة إلى أن الغرض الأصلي من التعلم هو الإنذار والإرشاد لا ما يقصده علماء السوء من الأغراض الفاسدة كالمطاعم والملابس والمناصب والمفاخر، أعاذنا الله تعالى بفضله من قبح النية وفساد الطوية، وجعلنا ممن لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا. القائلون بأن خبر الواحد حجة قالوا: أوجب الله تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة، والخارج من الثلاثة اثنين أو واحدا. ثم إنه أوجب العمل بأخبارهم بقوله: وَلِيُنْذِرُوا وأجيب بأن إيجاب الإنذار لا يدل على وجوب العمل لأن الشاهد الواحد يلزمه أداء الشهادة وإن لم يلزم القبول ورد بأن قوله: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إيجاب للعمل بأخبارهم. ثم أرشد سبحانه إلى ترتيب القتال فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ أي يقربون منكم مبتدأ من الأقرب ومنتقلا إلى الأبعد. والقتال واجب مع كافة الكفر بآية القتال، ولكن هذه الآية أخص لأن الغرض منها الترتيب ما لم يدع إلى قتال الأبعد قبل دفع الأقرب ضرورة فلا تكون هذه منسوخة بآية القتال على ما نقل عن الحسن، وإنما وجب الابتداء بالغزو من المواضع القريبة لأن قتال الكل دفعة متعذر وللأقرب ترجيح ظاهر كما في الدعوة وكما في سائر المهمات مثلا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يبتدأ بالجمع الحاضرين ثم ينتقل الى الغائبين. وأيضا المئونة في قتال الأقربين من النفقة والدواب تكون أقل والقتال معهم يكون أسهل للوقوف على أحوالهم وعدد عسكرهم، والفرقة المجاهدة إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد فقد عرضوا الذراري للفتنة. وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ثم غيرهم من عرب الحجاز ثم غزا الشام. ويروى أن أعرابيا جلس على المائدة وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة فقال صلى الله عليه وسلم: كل مما يليك. فثبت بهذه الوجوه أن الابتداء بالأقرب فالأقرب واجب ما لم يضطر الى العدول ضرورة. وقوله وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً أي شدة نظير قوله: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم: 9] ومن قرأ بفتح الغين فهو المصدر أيضا كالسخطة وهي لفظة جامعة للجراءة والصبر على القتال ولشدة العداوة والعنف في القتل والأسر، كل ذلك فيما يتصل بالدعوة إلى الدين إما بإقامة الحجة وإما بالسيف، أما فيما يتصل بالبيع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 548 والشراء والمجالسة فلا وليكن تقوى الله سبحانه على ذكر منه في موارده ومصادره، ولهذا ختم الآية بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ فإن قلته قتله لله وان تركه على الجزية تركه لله وإن كسر عدوه وآل الأمر إلى أخذ الغنيمة راعى فيه حدود الله. ثم حكى بقية فضائح أعمال المنافقين فقال: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أي يقول بعض المنافقين لبعض إنكارا واستهزاء بالمؤمنين المعتقدين زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به، أو يقولونه لقوم من المسلمين وغرضهم صرفهم عن الإيمان والمقول أَيُّكُمْ مرفوع بالابتداء وخبره زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً. ثم إنه تعالى حكى أنه حصل للمؤمنين بسبب نزول هذه السورة أمران: أحدهما ازدياد الإيمان وقد مر معناه في أول سورة الأنفال، والثاني الاستبشار وهو استدعاء البشارة إما بثواب الآخرة وإما بالعزة والنصرة في الدنيا والمراد أنهم يفرحون بسبب تلك التكاليف الزائدة من حيث إنه يتوسل بها إلى مزيد الثواب. وحصل للمنافقين الذين لهم عقائد فاسدة وأخلاق ذميمة أمران: أولهما زيادة الرجس لأن تكذيب سورة بعد تكذيب مثلها انضمام كفر إلى كفر أو لأن حصول حسد وغل ونفاق عقيب أمثالها ازدياد ملكة ذميمة غب أخرى، وثانيهما بقاؤهم على تلك العقائد والأعمال إلى أن ماتوا لأن الملكة الراسخة لا تزول إلا إن مات صاحبها، وإسناد زيادة الرجس إلى السورة إسناد حقيقي عند الأشاعرة لأنهم يقولون إنه سبحانه يخلق الكفر والإيمان في العبد فلا يبعد إحداث السورة فيهم الرجس، وإسناد مجازي عند المعتزلة لأنهم يقولون إنهم أحدثوا الرجس من عند أنفسهم حين نزول السورة بدليل أن الآخرين سمعوا السورة وازدادوا إيمانا. والتحقيق فيه أن النفس الطاهرة النقية عن درن الدنيا باستيلاء حب الله والآخرة إذا سمعتها صار سماعها موجبا لازدياد رغبته في الآخرة ونفرته عن الدنيا. وأما النفس الحريصة المتهالكة على لذات الدنيا وطيباتها الغافلة عن حب الآخرة وعشق المولى إذا سمعتها مشتملة على تعريض النفس للقتل والمال للنهب بسبب الجهاد زادت نفرته عنها وإنكاره عليها وكل بقدر. ثم عجب من حال المنافقين فقال: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قال ابن عباس: أي يمتحنون بالمرض ثُمَّ لا يَتُوبُونَ من النفاق ولا يتعظون بذلك المرض كما يتعظ المؤمن فإنه عند ذلك يتذكر ذنوبه وموقفه بين يدي ربه فيزيده ذلك إيمانا وخوفا. وقال مجاهد: بالقحط والجوع. وقال قتادة: بالغزو أو الجهاد فإن تخلفوا وقعوا في ألسنة الناس باللعن والخزي، وإن ذهبوا وهم على حالة النفاق عرضوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنهب من غير فائدة. وقال مقاتل: كانوا يجتمعون على ذكر الرسول بالطعن فيخبره جبرائيل فيوبخهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 549 بذلك ويعظهم فما كانوا يتعظون. ثم ذكر نوعا آخر من مخازيهم فقال وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي سورة مشتملة على ذكرهم أو أعم من ذلك. والنظر نظر الطعن والاستهزاء والازدراء بالوحي قائلين هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المسلمين لننصرف فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك فنخاف الافتضاح بينهم لأن نظر التغامز دال على ما في الباطن من الإنكار الشديد، أو أرادوا إن كان من ورائكم أحد فلا تخرجوا وإلا فاخرجوا لنتخلص من هذا الإيذاء وسماع الباطل. ثُمَّ انْصَرَفُوا أي من مكان الوحي إلى مكانهم أو عن استماع القرآن الى الطعن فيه. ومعنى صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ قال ابن عباس: منعهم عن كل رشد وخير. وقال الحسن: طبع الله على قلوبهم. وقال الزجاج: أضلهم الله. قالت الأشاعرة: هو إخبار عما فعل الله بهم من الصد عن الإيمان والمنع منه. وقالت المعتزلة: هو دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عن الانشراح، أو إخبار بأنه صرفهم عن الألطاف التي يختص بها من آمن بها، أو المراد صرف قلوبهم بما أورثهم من الغم والكيد. قالوا: ومعنى قوله: لا يَفْقَهُونَ لا يتدبرون حتى يفقهوا. وعند الأشاعرة: هم قوم جبلوا على ذلك. يحكى عن محمد بن إسحق أنه قال: لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوما انصرفوا صرف الله قلوبهم، لكن قولوا قضينا الصلاة كان مقصوده التفاؤل باللفظ الوارد في الخير دون الشر فإنه تعالى قال: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10] . ثم لما أمر رسوله في هذه السورة بتبليغ تكاليف شاقة يعسر تحملها ختم السورة بما يهون الخطب في تحملها فقال: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنس البشر لا الملك لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آلف وآنس، أو الخطاب للعرب والمقصود ترغيبهم في نصرته والقيام بخدمته لأن كل ما يحصل له من الدولة والرفعة فإن ذلك سبب لعزهم وفخرهم لأنه من أبناء جلدتهم، أو الخطاب لأهل الحرم خاصة لأنهم كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته وكانوا يخدمونهم ويقومون بإصلاح مهماتهم فكأنه قيل لهم: كنتم قبل مقدمه مجدين في خدمة أسلافه فلم تتكاسلون في خدمته مع أنه لا نسبة له في الشرف إلى آبائه؟ أو المقصود من ذكر هذه الصفة التنبيه على طهارته كأنه قيل: هو من عشيرتكم تعرفونه بالصدق والأمانة والعفاف، وتعرفون كونه حريصا على دفع الآفات عنكم وإيصال الخيرات إليكم. فإرسال من هذه حاله وصفته يكون من أعظم نعم الله عليكم. وقرىء مِنْ أَنْفُسِكُمْ بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم. وتنسب هذه القراءة الى النبي والوصي وأهل البيت عليهم السلام. ثم وصفه بما تستتبعه المجانسة والمناسبة من النتائج وذلك قوله: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ العزة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 550 الغلبة والشدة والعنت المشقة والوقوع في المكروه والإثم. و «ما» مصدرية أي شديد شاق عليه- لكونه بعضا منكم- عنتكم ولقاؤكم المكروه، وأولى المكاره بالدفع عقاب الله وهو إنما أرسل لدفع هذا المكروه. حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ الحرص يمتنع أن يتعلق بذواتهم فالمراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدارين فالصفة الأولى لدفع الآفات والثانية لإيصال الخيرات والسعادات فلا تكرار. وقال الفراء: الحريص الشحيح والمعنى أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار وفيه نوع تكرار. ثم بين أنه رحمة للعالمين فقال بِالْمُؤْمِنِينَ أي منكم ومن غيركم رَؤُفٌ رَحِيمٌ قال ابن عباس: لم يجمع الله بين اسمين من أسمائه إلا له، وحاصل هذه الخاتمة أن هذا الرسول منكم فكل ما يحصل له من العز والشرف فذاك عائد إليكم وإنه كالطبيب الحاذق وكالأب الشفيق وإذا عرف أن الطبيب حاذق والأب مشفق فالعلاج والتأديب منهما إحسان وإحمال، وإن كان صعبا مؤلما فاقبلوا ما أمركم به من التكاليف وإن كانت شاقة لتفوزوا بسعادة الدارين، ثم قال لرسوله فإن لم يقبلوا بل أعرضوا وتولوا فاتركهم ولا تلتفت إليهم وارجع في جميع أمورك إلى الله الذي بالحق أرسلك فهو كافيك وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فلا يخرج عن قبضة قدرته وتصرفه شيء لأنه يحيط بالعرش وبما يحويه العرش والله أعلم. التأويل: ما كانَ لِأَهْلِ مدينة القالب وهو النفس والهوى والقلب وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ الصفات النفسانية والقلبية أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ الروح السائر إليه ولا يبذلوا وجودهم عند بذل وجوده بالفناء في الله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ من ماء الشهوات وَلا نَصَبٌ من أنواع المجاهدات وَلا مَخْمَصَةٌ بترك اللذات وحطام الدنيا في طلب الله لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً من مقامات الفناء يَغِيظُ كفار النفس والهوى وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ الشيطان والنفس والدنيا بلاء ومحنة وفقرا وحزنا وغير ذلك من أسباب الفناء إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ من البقاء بالله بقدر الفناء في الله وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً هي بذل الصفات وَلا كَبِيرَةً هي بذل الذات في صفات الله وفي ذاته وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً من أودية الدنيا والآخرة والنفس والهوى والقلب والروح. أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لأن عملهم بقدر معرفتهم وجزاؤه يضيق عنه نطاق فهمهم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ [السجدة: 17] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا في السير إلى الله وبالله وفي الله، فهلا نفر من كل قوم وقبيلة فرقة طائفة هم خواصهم وأهل الاستعداد الكاملون ليتعلموا السلوك ويخبروا بذلك قومهم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ من غير الله. قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ من كفار النفس والهوى وصفاتها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 551 وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً عزيمة صادقة في ترك شهواتها وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ أي لموت قلبهم لتزايد ظلمة النفاق كل حين، ثم أخبر عن موت القلب بقوله: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ والفتنة موجبة لانتباه القلب الحي إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37] أي قلب حي هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ في مقام الإنكار والنفاق أي هل يرى محمد إنكارنا على رسالته والقرآن، فإن كان رسولا يرانا بنور رسالته ثُمَّ انْصَرَفُوا على هذا الحسبان لأن قلوبهم مصروفة وليس لهم فقه القلب لأن ذلك من أمارات حياة القلب. مِنْ أَنْفُسِكُمْ تسكين للعوام لئلا يتنفروا عنه وإشارة للخواص إلى أن البشر لهم استعداد الوصول والوصال، فإن لم يكن بالاستقلال فبالمتابعة فاتبعوني يحببكم الله. ومن قرأ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي أشرفكم فلأنه أوّل جوهر خلقه الله تعالى «أول ما خلق الله تعالى روحي» ولاختصاصه بالخلاص عن تعلق الكونين وبلوغه إلى قاب قوسين أو أدنى وتحليه بحلية فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10] ولعلو همته، ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] ولرؤيته سر القدر ولَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18] بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فمن رأفته أمر بالرفق كما قال: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه بالرفق» «1» ومن رحمته قيل له فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] وهاهنا نكتة وهي أن رأفته ورحمته لما كانت مخلوقة اختصت بالمؤمنين فقط، وكانت رحمته تعالى ورأفته للناس عامة إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ونكتة أخرى هي أن رحمته صلى الله عليه وسلم عامة للعالمين بقوله: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] وأما رحمته المضمومة الى الرأفة فخاصة بالمؤمنين وكأن الرأفة إشارة إلى ظهور أثر الدعوة في حقهم، فالمؤمنون أمة الدعوة والإجابة جميعا وغيرهم أمة الدعوة فقط فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لأن المقصود من التبليغ قد حصل لك وهو وصولك إلى الله أعرضوا عن دعوتك أو أقبلوا والله المستعان.   (1) رواه أحمد في مسنده (3/ 199) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 552 (سورة يونس) (مكية إلا ثلاث آيات قوله تعالى فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ إلى آخرهن حروفها 5567 كلماتها 1832 وآياتها 109) [سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) القراآت: الر بالإمالة وكذلك ما بعده: أبو عمرو وخلف وحمزة وعلي والخراز عن هبيرة والنجاري عن ورش ويحيى وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. لَساحِرٌ بالألف: ابن كثير وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون لسحر حَقًّا إِنَّهُ بالفتح. يزيد. ضِياءً بالهمز حيث كان: ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل يُفَصِّلُ بالياء: ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 553 كثير وعمرو وسهل ويعقوب وحفص والمفضل والعجلي. الباقون بالنون. وَاطْمَأَنُّوا بغير همز: الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف. الوقوف: الر ق كوفي الْحَكِيمِ هـ ط عِنْدَ رَبِّهِمْ ط مُبِينٌ هـ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ط إِذْنِهِ ط فَاعْبُدُوهُ ط تَذَكَّرُونَ هـ جَمِيعاً ط، حَقًّا ط، إلا لمن قرأ أنه بالفتح. بِالْقِسْطِ ط يَكْفُرُونَ هـ وَالْحِسابَ ط إِلَّا بِالْحَقِّ ط لمن قرأ نفصل بالنون، ومن قرأ بالياء أمكنه أن يجعل يُفَصِّلُ حالا. يَعْلَمُونَ هـ يَتَّقُونَ هـ غافِلُونَ هـ لا لأن غافِلُونَ خبر «إن» إِنَّ ج ط للحذف تقديره يهديهم ربهم بإيمانهم إلى دار البقاء مع اتحاد المقصود وتمام الموعود النَّعِيمِ هـ سَلامٌ ج ط لأن الجملتين وإن اتفقتا فقد اعترضت جملة معطوفة أخرى لأن قوله وَآخِرُ دَعْواهُمْ معطوف على دَعْواهُمْ الأوّل الْعالَمِينَ هـ. التفسير: اتفقوا على أن قوله الر ليس بآية وعلى أن طه آية. ولعل الفرق أن الر لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده، عن ابن عباس الر معناه انا الله أرى. وقيل: لا رب غيري. وقيل: الر وحم ون اسم الرحمن تِلْكَ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات، والتبعيد للتعظيم، والكتاب السورة، والحكيم ذو الحكمة لاشتماله عليها أو وصف بصفة من تكلم به ومنه قولهم للقصيدة حكيمة. وقيل: «فعيل» بمعنى «فاعل» لأنه يحكم بين الحق والباطل، أو يحكم بأن محمدا صادق لأن القرآن أظهر معجزاته وأبقاها. وقيل: بمعنى مفعول أي حكم فيه بجميع المأمورات والمنهيات وقيل: بمعنى المحكم والإحكام المنع من الفساد وذلك أنه لا يمحوه الماء ولا يحرقه النار ولا يغيره الدهور. ويحتمل أن يقال: الكتاب الحكيم هو القرآن أو اللوح المحفوظ أو التوراة والإنجيل، لأن جميع الكتب الإلهية متوافقة في الأصول، ويجوز أن يكون تِلْكَ إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن. واعلم أنه سبحانه لما ختم السورة المتقدمة بقوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 127] صدر هذه السورة بتعديد بعض الحروف على طريق التحدي، وذلك أن حروف القرآن من جنس الحروف التي يتلفظون بها فلولا أنه معجز لعارضوه وناقضوه. ولما بين بهذا الطريق أن محمدا رسول حق من عند الله أنكر على كفار قريش تعجبهم من كونه رسولا فقال: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً نصب على أنه خبر كان واسمه أَنْ أَوْحَيْنا وفائدة اللام في قوله: لِلنَّاسِ مع تقديمه هي أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتحدثون بها، ثم إن تعجبهم إما أن يكون من جعل البشر رسولا أو من تخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بالوحي والنبوة فقد روي أنهم كانوا يقولون العجب أن الله لم يجد رسولا يرسله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 554 إلى الناس إلا يتيم أبي طالب، وكلا الأمرين ليس بعجب، أما الأول فلأن الجنس إلى الجنس أميل وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الأنعام: 9] قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا. [الاسراء: 95] . وأما الثاني فلأن الفقر واليتم لا يوجب في النبوة قدحا لأن الله غني عن العالمين وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [سبأ: 37] وإنما المعتبر في الاستنباء كونه متصفا بالصدق والأمانة والتقوى، وكان لمحمد صلى الله عليه وسلم في ذلك قبل بعثه اليد الطولى إذ كان يدعى محمدا الأمين. و «أن» في قوله: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ هي المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول، أو مخففة من الثقيلة وقد عملت في ضمير شأن مقدر معناه إنه أي إن الشأن قولنا أنذر الناس. وقوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم، والإنذار إخبار مع تخويف وإنه عام للناس كلهم، ولكن البشارة خاصة بالمؤمنين. ويحتمل أن يراد بالناس الكفار فقط ويمكن أن يكون تعجبهم عائدا إلى الإنذار والتبشير وليس ذلك بعجب بل المنكر في العقول تعطيل الأعمال وأن يترك الإنسان سدى، وإرسال الرسل أمر ما أخلى الله تعالى المكلفين عنه شيئا من الأزمنة، وبه تتم المالكية والأمر والنهي والإذن والمنع والثواب والجزاء. وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن الإنذار تحذير عن فعل ما لا ينبغي، والتبشير ترغيب في فعل ما ينبغي والتخلية مقدمة على التحلية. ومعنى قَدَمَ صِدْقٍ سابقة فضل ومنزلة رفيعة أي سبق لهم عند الله خير. قال أحمد بن يحيى: القدم كل ما قدمت من خير. وقال ابن الأنباري: كناية عن العمل الذي لا يقع فيه تأخير ولا إبطاء. والسبب في إطلاق القدم على السابقة أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم فسمي المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد، وإضافة القدم إلى صدق لأجل المبالغة وللتنبيه على أنها من السوابق العظيمة أي القدم التي يصدق ويحق أن تسمى قدما. وأما عبارات المفسرين فمنهم من قال: قدم صدق هي الأعمال الصالحة، ومنهم من قال الثواب، ومنها من قال شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم. أما قوله: قالَ الْكافِرُونَ فقال القفال: فيه إضمار والتقدير: فلما أنذرهم قالوا ذلك. ثم من قرأ لساحر بالألف فقوله هذا إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قرأ السحر فهو إشارة الى القرآن وفيه دليل على عجزهم واعترافهم بأنهم قاصرون عن معارضته كالسحر، ومن هنا جوز بعضهم أن يكونوا أرادوا به المدح أي إنه لكمال فصاحته وتعذر الإتيان بمثله جار مجرى السحر. ثم لما أنكر عليهم تعجبهم من الأمور المذكورة وهي الواسطة أراد أن يقيم البرهان عليها بإثبات المبدأ ويبين غايتها بإثبات المعاد وذلك في آيتين متواليتين. وقد مر في الأعراف تفسير قوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 555 الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فلا حاجة إلى الإعادة. ثم ذكر ما يدل على مزيد عظمته وجلاله وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره فقال: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ وإنما فقد العاطف لأنهما كالتفسير والتفصيل لما دل عليه قوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ إلخ. والأمر الشأن أراد به أحوال الخلق وأحوال ملكوت السموات والأرض والعرش. والمعنى أنه يقضي ويقدر بمقتضى الحكمة ويفعل ما يفعله المصيب في أفعاله الناظر في أدبار الأمور وعواقبها لئلا يدخل في الوجود ما لا ينبغي. قال الزجاج: إن الكفار الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا يقولون إن الأصنام شفعاؤنا عند الله فرد الله عليهم بأنه ليس لأحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه لأنه أعلم بموضع الحكمة والصواب فلا يجوز لهم أن يسألوه ما لا يعلمون أنه صواب وصلاح. ففي قوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ إشارة إلى استقلاله في التصرف في جانب المبدإ، وفي قوله ما مِنْ شَفِيعٍ إشارة إلى استقلاله في طرف المعاد. ويمكن أن يقال: المراد أنه خلق العالم على أحسن الوجوه وأقربها من الأصلح مع أنه ما كان هناك شفيع يشفع في تحصيل المصالح فدل ذلك على أنه محسن إلى عباده مريد للخير والرأفة بهم كامل العناية بأحوالهم. قال أبو مسلم: الشفيع معناه الثاني من الشفع الذي يخالف الوتر أي خلق السموات والأرض وحده ولا حي معه ولا شريك يعينه ثم خلق الملائكة والثقلين، والمراد أنه لم يدخل في الوجود أحد إلا من بعد أن قال له: «كن» حتى كان وحصل. ثم أشار إلى المعلوم بالأوصاف المذكورة فقال: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ الذي يستأهل منكم العبادة بإزاء النعم الجسام من خلق السموات والأرض بما فيهما وعليهما فَاعْبُدُوهُ وحده أَفَلا تَذَكَّرُونَ فيه تنبيه على وجوب الاعتبار والنظر في الدلائل الدالة على عظمته وجلاله. ثم شرع في إثبات المعاد فقال: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ أي رجوعكم جَمِيعاً مجموعين. وتقديم الجار والمجرور للاختصاص والمعنى لا ترجعون في العاقبة إلا إلى جزائه وحكمه فاستعدوا للقائه، ثم أكد ذلك بقوله: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وفيه تأكيدان كما مر. ثم قال: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهو استئناف فيه معنى التعليل كأنه قال إن الذي قدر على الإبداء يقدر على الإعادة بالطريق الأولى كقوله: وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ [الواقعة: 61] يعني أنه سبحانه لما كان قادرا على إنشاء ذواتكم أوّلا ثم على إنشاء أجزائكم حال حياتكم ثانيا شيئا فشيئا من غير أن تكونوا عالمين بوقت حدوثه وبوقت نموّه، وجب القطع بأنه لا يمتنع عليه إعادة تلك الأجزاء بعد البلى والتفرق. ومن قرأ أنه بالفتح فعلى حذف لام التعليل أي لأنه، أو على أنه منصوب بالفعل الذي نصب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 556 وعد الله أي وعد الله وعدا بدء الخلق ثم إعادته، ويجوز أن يكون مرفوعا بما نصب حقا أي حق حقا بدء الخلق. ثم ذكر غاية الإعادة وحكمتها فقال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال المفسرون: في الآية إضمار والتقدير أنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة ثم يميتهم ثم يعيدهم ليجزي. وإنما حسن هذا الحذف لتقدم قوله: فَاعْبُدُوهُ ولأن الإعادة لا تكون إلا بعد الإماتة والإعدام. وقوله: بِالْقِسْطِ أي بالعدل متعلق ب لِيَجْزِيَ أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجرهم أو ليجزيهم بقسطهم وبما لم يظلموا أنفسهم حين آمنوا وعملوا صالحا وهذا وجه حسن لطباق قوله: بِما كانُوا يَكْفُرُونَ وفي قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا من غير أن يدخل لام العاقبة في الجملة كما أدخلها في الأولى دليل على أنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب، وإنما جاء التعذيب لغرض وقوعهم في طريق القهر. والحميم الماء الذي أسخن بالنار حتى انتهى حره. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على عدم منزلة بين المنزلتين على ما يقول بها المعتزلة. وأجيب بأن عدم الذكر لا يدل على العدم وردّ بأن الفساق أكثر من أهل الطاعة فكيف يجوز طي ذكرهم؟ واعلم أن للعلماء في إثبات المعاد طريقين: الأول طريق القائلين بالحسن والقبح العقليين، والثاني طريق من يقول لا يجب على الله شيء أصلا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. أما الفريق الأول فلهم على وجوب المعاد حجج عقلية منها: أنه تعالى خلق الخلق وأعطاهم عقولا وقدرا فيجب في حكمته أن يرغبهم في الخيرات ويزجرهم عن السيئات، وهذا الترغيب والزجر لا يمكن إلا بربط الثواب على الفعل والعقاب على الترك. هذا في المأمورات وبالعكس في المنهيات، وذلك الثواب المرغب والعقاب المرهب غير حاصل في الدنيا فلا بد من دار أخرى هي دار الآخرة ليحصل فيها ذلك وإلا لزم أن يكون الله تعالى كاذبا في قوله: لِيَجْزِيَ إلخ. فإن قيل: لم لا يكفي في الترغيب والردع ما أودع الله في العقول من تحسين الخيرات وتقبيح المنكرات فلا يحتاج إلى الوعد والوعيد؟ ولئن سلم فلم لا يجوز أن يكون الغرض من الترغيب والترهيب نظام العالم لا أنه يفعل ذلك ولا يلزم منه الكذب على الله، ألستم تخصصون أكثر عمومات القرآن ثم تزعمون أنه لا كذب؟ سلمنا أنه يفعل لكن لم لا يجوز أن يكون الثواب والعقاب هو ما يصل إلى الإنسان في دار الدنيا من الراحات والآلام؟ فالجواب أن العقل وإن كان يدعو إلى فعل الخير وترك الشر إلا أن الهوى والنفس يدعوان إلى الانهماك في الشهوات الجسمانية، وإذا حصل هذا التعارض فلا بد من مرجح وما ذاك إلا ترتيب الوعد والوعيد على الأعمال، وتجويز الخلف في ذلك مناف للغرض، وأخذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 557 الأجرة إنما يكون بعد الفراغ من العمل والعبد ما دام في الدنيا فهو في العمل، وقد ترى أزهد الناس وأعلمهم مبتلى بالآفات والبليات، وأفسقهم وأجهلهم في أتم اللذات والمسرات. ومنها أن صريح العقل يوجب في حكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن والمسيء والمظلوم والظالم وأن لا يجعل من كفر به وعصاه كمن آمن به وأطاعه وليس هذه التفرقة في الدنيا كما قيل: كم عالم عالم أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا فلا بد من دار أخرى يظهر فيها التفاوت. ومنها أنه كلف عبيده بأن يعبدوه، والحكيم إذا أمر عبده بشيء فلا بد أن يجعله فارغ البال منتظم الأحوال حتى يمكنه الاشتغال بأداء تكليفه، والناس جبلوا على طلب اللذات والتبادر إلى تحصيل أسباب الراحات فلو لم يكن زاجر من خوف المعاد لوقع الهرج والمرج والفتن وحينئذ لا يتفرغ المكلف لأداء ما أمر به. فإن قيل: لم لا يكفي في نظام العالم مهابة الملوك وسياستهم؟ قلنا: إن لم يكن السلطان قاهرا قادرا على الرعية فلا فائدة فيه، وإن كان قاهرا غالبا ولا خوف له من المعاد فحينئذ يقدم على أنواع الظلم والإيذاء لأن الداعية النفسانية قائمة ولا وازع له في الدنيا ولا في الآخرة. ومنها أنه تعالى خلق هذا العالم وخلق فيه الناس، والعبث لا يليق بالحكيم الرحيم فوجب أن يقال: إنه خلقهم لمقصود ومصلحة وخير وليس ذلك في الدنيا لأن لذات هذا العالم جسمانية لا حقيقة لها إلا إزالة الألم، وإزالة الألم أمر عدمي وكان هذا حاصلا قبل الوجود فلا يبقى للتخليق فائدة. وأيضا إن لذات الدنيا مشوبة بالآلام بل اللذة في الدنيا كالقطرة من البحر فعلمنا أن للراحة دار أخرى. فإن قيل: ليس أنه يعذب أهل النار لا لمصلحة وفائدة لهم؟ قلنا: الفرق أن ذلك الألم استحقوه على أعمالهم وهذا الألم الحاصل في الدنيا غير مستحق فوجب أن يعقبه خيرات عظيمة وإلا فينافي كونه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. ومنها أنه لو لم يحصل للإنسان معاد لكان أحسن من جميع الحيوانات لأنها تشاركه في اللذات الحسية لأن الروث في مذاق الجعل كاللوز في فم الإنسان، والإنسان يزيد عليها بعقل هو سبب تألمه وتأذيه في أغلب الأحوال، يتفكر في الأحوال الماضية فيتأسف، ويتأمل في الأحوال الآتية فيخاف، فلو لم يكن للإنسان معاد به يكمل حاله ويظهر سعادته كان عقله سببا لشقائه وخسته دون شرفه ومزيته. ومنها أن إيصال النعم إما أن يكون مشوبا بالآفات أو خالصا عنها، فلما أنعم الله تعالى علينا في الدنيا بالمرتبة الأولى وجب أن ينعم علينا بالمرتبة الثانية في دار أخرى إظهارا لكمال القدرة والرأفة والحكمة، فهناك ينعم على المطيعين ويعفو عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 558 المذنبين ويزيل الغموم والهموم والآفات والمخافات. ومما يقوّي هذا الكلام أن الإنسان دائما في الترقي من حين كونه جنينا في بطن أمه إلى أن يخلص من ذلك السجن ويخرج إلى فضاء الدنيا، وإلى أن ينتقل من تناول اللبن والشد الوثيق في المهد إلى تناول الأطعمة اللذيذة والمشي والعدو إلى أن يصير أميرا نافذ الحكم على الخلق أو عالما مشرفا على حقائق الأشياء، فوجب بحكم هذا الاستقراء أن يكون حاله بعد الموت أشرف وأبهى من اللذات العاجلة المشوبة بالآلام. ومنها طريقة الاحتياط فإنا إذا آمنا بالمعاد وتأهبنا له فإن كان هذا المذهب حقا فقد نجونا وهلك المنكر، وإن كان باطلا لم يضرنا هذا الاعتقاد، غاية ذلك فوات بعض اللذات الزائلة المشوبة بالمنغصات. ومنها أن أحوال الإنسان من صباه إلى هرمه تضاهي حال الأرض من الربيع إلى الشتاء. ثم إنا نرى الأرض في الربيع الثاني تعود إلى تلك الحياة فلم لا يعقل مثل ذلك في الإنسان؟ ومنها أن الإنسان إنما يتولد من نطفة نولدت من الأغذية الكائنة من الأجزاء العنصرية المتفرقة في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا مات وتفرقت تلك الأجزاء فكيف يمتنع أن تجتمع مرة أخرى على مثال الاجتماع الأول؟ ومنها أن النظر في تغيرات العالم أدى إلى إثبات صانع حكيم قادر قاهر، والعقل يحكم بأن هذا الحكيم لا يليق به أن يترك عبيده هملا يكذبون عليه ويجورون، فلا بد من أن يكون له أمر ونهي ووعد ووعيد من غير تجويز خلف فيهما كما مر، ولا يتحقق جميع ذلك إلا في دار الجزاء. وأما الفريق الآخر الذين لا يعللون أفعال الله تعالى برعاية المصالح فإنهم يقولون: المعاد أمر جائز الوجود لأن تعلق النفس بالبدن لما كان في المرة الأولى جائزا فالمرة الثانية أيضا جائزة. ثم إن إله العالم قادر مختار عالم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات فلا يعجز تمييز أجزاء بدن زيد- وإن اختلطت بأجزاء التراب والبحار- عن أجزاء بدن عمرو، وإذا ثبت هذا الإمكان وقد دل الدليل على صدق الأنبياء عليهم السلام وعلى أن القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثم إنهم قطعوا بوقوع هذا الممكن والقرآن مشحون بآيات البعث والجزاء فوجب علينا القطع بالمعاد الجسماني. أما شبهة المنكرين فمن ذلك أنهم قالوا الدار الآخرة إن كانت شرا من هذه فالتبديل سفه، وإن كانت مثلها فعبث، وإن كانت خيرا منها فإما أن يقال إنه قادر على خلق ذلك الأجود أولا ثم تركه وفعل الأرذل فذلك سفه، أو يقال إنه ما كان قادرا ثم حدثت له القدرة فذلك انتقال من العجز إلى القدرة ومن الجهل إلى الحكمة فهو محال على القديم. والجواب أن كلا من الدارين خير في وقتها فالأولى لتحصيل الكمالات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 559 النفسانية الممكنة للنوع الإنساني من قبيل العلم والعمل، والأخرى للراحة والجزاء، ومن ذلك أنهم قالوا: حركات الأفلاك مستديرة والمستدير لا ضد له وما لا ضد له لا يقبل الفساد. والجواب ما ذكرنا في كتبنا الحكمية من أن كل جسم مركب وكل مركب ينحل لا محالة. ولئن سلمنا أنها أزلية فحركاتها غير أزلية لأن الحركة عبارة عن الانتقال من حال إلى حال، وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها والأزلية تنافي المسبوقية بالغير فكان الجمع بين الأزل والحركة محالا. ولئن سلم أن الحركة أزلية فلم لا يجوز أن يكون بعض أوضاع الأفلاك مقتضيا لإعادة المعدومات من الأشخاص الإنسانية؟ ومن ذلك أنهم قالوا: الإنسان عبارة عن هذا البدن ذي الأجزاء لا كيف كانت بل بشرط وقوعها على تأليف مخصوص، لأن أجزاء البدن كانت موجودة قبل هذا الإنسان والموجود مغاير للمعدوم. فإذا مات الإنسان وتفرقت أجزاؤه فقد عدمت تلك الصورة والأعراض وعود المعدوم محال. وأجيب بأن الإنسان ليس عبارة عن هذا الجسد وإنما هو النفس سواء كانت جوهرا مجردا مفارقا أو جسما مخصوصا لطيفا باقيا في جميع أحوال البدن من الصبا إلى الهرم مصونا عن التحلل والتبدل وهو الذي يسميه المتكلمون بالأجزاء الأصلية. ومن ذلك أنهم قالوا: إذا قتل الإنسان واغتذى به إنسان آخر لزم أن تعاد تلك الأجزاء في بدن كل واحد من الشخصين وذلك محال. وأجيب بعين ما مر وهي أن الأجزاء الأصلية لا تصير جزءا من إنسان آخر. فهذه خلاصة ما وصل إليه العقول من أمر المعاد والله تعالى أعلم بحقائق الأمور. ثم عدد بعض نعمه على المكلفين فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وهو أجوف واوي مهموز اللام قلبت واوه ياء لكسرة ما قبلها، ومن قرأ بهمزتين بينهما ألف فمحمول على القلب لأن إذا قدم اللام على العين وقع حرف العلة على الطرف فانقلب همزة كما في «كساء» . وهو إما أن يكون جمع ضوء كحوض وحياض، أو مصدر ضاء يضوء مثل قام قياما وصام صياما، ولا بد من تقدير مضاف أي جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور إلا أن يحمل على المبالغة فجعلا نفس الضياء والنور كما يقال للرجل الكريم إنه كرم وجود. والضياء أقوى من النور. ولا خلاف بين العقلاء أن ضوء الشمس كيفية قائمة بها لذاتها، وأما نور القمر فقد ذهب جمهور الحكماء إلى أنه مستفاد من الشمس وبذلك يقع اختلاف أحواله من الهلالية إلى البدرية كما بينا في تفسير قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [البقرة: 189] وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ قال في الكشاف: أي قدّر مسيره منازل أو قدره ذا منازل. ومنزلة القمر المسافة التي يقطعها في يوم وليلة بحركته الخاصة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 560 به وجملتها ثمانية وعشرون وأساميها مشهورة: الشرطين الثريا البطين إلخ. وهي كواكب ثابتة معروفة عندهم جعلوها علامات المنازل، فنرى القمر كل ليلة نازلا بقرب أحدها وذلك أنهم قسموا دور الفلك وهو اثنا عشر برجا على ثمانية وعشرين- عدد أيام دور القمر- فأصاب كل برج منزلان وثلث فسموا كل منزل بالعلامة التي وقعت وقت التسمية بحذائه. ثم ذكر بعض منافعهما العائدة على المكلفين فقال: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي. وقد ذكرنا السنة الشمسية والسنة القمرية وكيفية دوران إحداهما على الأخرى في تفسير قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ [التوبة: 36] الآية فلا حاجة إلى التكرار. ثم أشار إلى سائر منافعهما وخواصهما بقوله: ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ المذكور إِلَّا ملتبسا بِالْحَقِّ والصواب دون الباطل والعبث، فالشمس سلطان النهار والقمر خليفتها بالليل، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى فصولها الأربعة، وبالفصول تنتظم مصالح هذا العالم ويتحصل معايش الخلائق، وبحركة القمر يحصل الشهور، وباختلاف حاله في زيادة النور ونقصانه تختلف أحوال الرطوبات إلى غير ذلك من الخواص التي يرشد إليها التأمل والتدبر ولهذا قال: يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لأنهم هم الذين ينتفعون بهذه الدلائل. وقيل: المراد بالعلم هاهنا العقل الذي يعم الكل. ثم ذكر المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار وقد مر تفسيره في سورة «البقرة» في قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية: 164] . ومعنى قوله: وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كقوله: وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الآية: 185] وقد مر في آخر «الأعراف» . وإنما خص كونها آيات بالمتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى التدبر والنظر. قال القفال: من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لشقاء الناس وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم بل جعلها لهم دار عمل، وإذا كان كذلك فلا بد من أمر ونهي ثم من ثواب وعقاب ليتميز المحسن عن المسيء، فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بالمبدإ والمعاد. ثم شرع في شرح أحوال من لا يؤمن بالمعاد ومن يؤمن به فقال: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا عن ابن عباس ومقاتل والكلبي: معناه لا يخافون البعث كقوله تعالى: وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 49] واستبعد الأكثرون تفسير الرجاء بالخوف وقالوا: إنه بمعنى الطمع أي لا يطمعون في حسن لقائه كما يأمله السعداء، أو لا يتوقعونه أصلا لأنهم لا يؤمنون بالمعاد فهم ذاهلون عن طلب اللذات الحقيقية فارغون عن التوجه نحو السعادات الباقية وَرَضُوا مع ذلك بِالْحَياةِ الدُّنْيا الحسية الخسيسة وَاطْمَأَنُّوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 561 بِها سكنوا إليها سكون العاشق إلى معشوقه وهذه غاية الانهماك والاستغراق في اللذات الجسمانية وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ فلا يعتبرون بالآيات ولا ينظرون في الدلائل الموصلة إلى حقيقة المبدإ والمعاد، فلم يقبلوها بالتقليد ولم ينظروا إليها بعين الاجتهاد أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ فيه معنى الجزاء ولذلك تعلق به قوله: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ وفيه أن الأعمال السابقة هي المؤثرة في حصول العذاب الجسماني وهو النار المحسوسة، والعذاب الروحاني وهو نار البعد من المألوفات والقطيعة من السعادات الباقيات فيكون مثاله مثال من أخرج عن مجالسة معشوقة فألقي في بئر ظلمانية لا إلف بها ولا مؤنس بل يكون فيها أنواع المؤذيات وأصناف الموحشات نعوذ بالله من تلك الحالات. هذا حال من لا يؤمن بالمعاد فلا يعمل له، وأما حال الذي يؤمن به فذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا استكملوا من جهة القوة النظرية وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ استكملوا من قبل القوة العملية أو صدقوا بقوله ثم حققوا التصديق بالعمل الصالح الذي جاءت به الأنبياء والكتب من عند الله، أو أشغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة ثم جوارحهم بالخدمة حتى تكون عيونهم مشغولة بالاعتبار، وآذانهم باستماع كلام الله، وألسنتهم بذكر الله وسائر أعضائهم بطاعة الله تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ قال أكثر المفسرين: معناه يهديهم إلى الجنة ثوابا لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة. ومعنى قوله: بِإِيمانِهِمْ أي بإيمانهم هذا المضموم إليه العمل الصالح، وهذا التفسير يوافق قوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الحديد: 12] وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله الصالح في صورة حسنة فيقول له: أنا عملك فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة. والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة فيقول: أنا عملك فينطلق به إلى النار» . وقيل: معنى الآية إن إيمانهم يهديهم إلى مزايا من الألطاف ولوامع من الأنوار بحيث تزول بواسطتها عنهم الشكوك والشبهات فتؤدي إلى حصول المثوبات ولذلك جعل تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ بيانا له وتفسيرا لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها. فهذه الهداية عبارة عن الفوائد الزوائد الحاصلة في الدنيا بعد الإيمان. قال القفال: فعلى هذا الوجه كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم وتجري من تحتهم الأنهار إلا أنه حذف الواو وجعل قوله: تَجْرِي خبرا مستأنفا منقطعا عما قبله. والتحقيق في تقرير هذا الوجه أن العلم نور والجهل ظلمة والروح كاللوح والعلوم والمعارف كالنقوش ولكن حالهم بالضد من النقوش الجسمانية، فإن تزاحم النقوش الجسمانية يكدر اللوح وتوارد النقوش المعنوية وتكاثرها يزيد لوح الروح لمعانا وإشراقا حتى إنه يقوى بها على تحصيل المعارف الباقية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 562 بسهولة، فليس فهم الرجل المنتهي للعلوم والحقائق كفهم المبتدئ، فإن الإنسان إذا آمن بالله فقد أشرق روحه بنور المعرفة، وإذا واظب على الأعمال الصالحة حصلت له ملكة التوجه إلى الآخرة والإعراض عن الدنيا، ولا تزال تتزايد إشراقات هذه المعارف والملكات فيرتقي في معارجها لحظة فلحظة، ولما كان لا نهاية لمراتب المعارف والأنوار العقلية فلا نهاية لمراتب هذه الهداية. وفي قوله: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ دليل لمن قال إن العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة ولكنهما يعدّان الذهن لحصول الفيض من الجواد المطلق. ومعنى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أنهم يكونون في البساتين على مواضع مرتفعة كالسرر والأرائك والأنهار تجري من بين أيديهم. دَعْواهُمْ فِيها قال بعض المفسرين: أي دعاؤهم ونداؤهم كما يدعو القانت بقوله: اللهم إياك نعبد. وقيل: الدعاء العبادة كقوله: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم: 48] وإنما تكون هذه عبادتهم لا على سبيل التكليف بل على سبيل الإلهام والعادة ابتهاجا بذكر الله. وقيل: الادعاء بين المتخاصمين والمعنى أن أهل الجنة يدعون في الدنيا والآخرة تنزيه الله من المعايب والإقرار له بالإلهية. قال القفال: أصله من الدعاء لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما. وقيل: أي طريقتهم وسيرتهم وذلك لأن المدعي للشيء مواظب عليه فيمكن أن يجعل الدعوى كناية عن الملازمة وإن لم يكن في قولهم سبحانك اللهم دعاء ولا دعوى. وقيل: أي تمنيهم كقوله: وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ [يس: 57] أي ما يتمنونه. وتقول العرب: ادّع عليّ ما شئت أي تمن فكان تمنيهم في الجنة ليس إلا تسبيح الله وتقديسه، ولقد كانوا في الدنيا يدعون في الحروب من يسكنون إليه ويستنصرونه فيقولون: يا آل فلان فأخبر الله تعالى عنهم أن أنسهم في الجنة بذكر الله وسكونهم بتحميده وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي بعضهم يحيي بعضا بالسلام. وقيل: هي تحية الله أو الملائكة إياهم إضافة للمصدر إلى المفعول وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ هي «أن» المخففة من الثقيلة وأصله أنه الحمد لِلَّهِ على أن الضمير للشأن. قال أهل الظاهر من المفسرين: في سبب تخصيص هذه الأذكار بأهل الجنة أن قوله: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ علم بين أهل الجنة وخدامهم إذا سمعوا ذلك منهم أتوهم بما يشتهونه. قال ابن جريج: ورد في الأخبار أنه إذا مرّ بهم طير يشتهونه قالوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فيأتيهم الملك بذلك المشتهى، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وقال القاضي: إنه وعد المتقين بالثواب العظيم فإذا دخل أهل الجنة الجنة ووجدوا تلك المواعيد قالوا سبحانك اللهم أي نسبحك عن الخلف في الوعد. وقيل: ألهم الله بني آدم في الجنة بعد انقراض الدنيا ما افتخر به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 563 الملائكة قبلهم في قولهم: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [البقرة: 30] ويمكن أن يقال: إن لكل إنسان معراجا بحسب قوته فإذا وصل العارف الصادق إلى صفات جلال الله تعالى قال سبحانك، وإذا ارتقى منها إلى الذات قال اللهم، فإذا عجز عن ذلك المضمار واحترق في أوائل تلك الأنوار رجع من عالم الجلال إلى عالم الإكرام فأفاض الخير على جميع المحتاجين ويدفع المخافات والمكاره عنهم بكل ما أمكنه وذلك قوله: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ثم إذا شاهدوا أثر نعمة الله عليهم بالاستفاضة والإفاضة اختتموا الكلام بقولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وعلى هذا يدور أمرهم في العروج والنزول ما داموا في الدنيا فيكون كذلك حالهم في العقبى لقوله: «كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون» . التأويل: الر فيه إشارتان: إحداهما من الحق المحق إلى حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم كأنه قال: بآلائي عليك في الأزل وأنت في العدم وبلطفي عليك في الوجود وبرحمتي ورأفتي لك من الأزل إلى الأبد. والثانية من الحق لنبيه عليه السلام إليه يقول بإنسك معي حين خلقت روحي ولم يكن ثالث، وبلبيك الذي أجبتني به حين دعوتك للخروج من العدم فقلت: ياسين أي يا سيد فقلت: لبيك وسعديك والخير كله بيديك. وبرجوعك منك إلى حين قلت لنفسك بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] تِلْكَ أي هذه الآيات المنزلة عليك آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ الذي وعدتك في الأزل وراثته لك ولأمتك. والحكيم الحاكم على الكتب كلها فلا ينسخه كتاب وهو ينسخ الشرائع والأحكام والكتب كلها إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ لما رأى فيه رجولية قبول الوحي دون غيره، ويحتمل أن يكون معنى للناس الناسي عهد الله قَدَمَ صِدْقٍ محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أول من خرج من العدم إلى الوجود، أو هو العناية الأزلية «سبقت رحمتي غضبي» «1» لَساحِرٌ مُبِينٌ صدقوا في أنهم مسحورون إلا أنه سحرهم سحرة صفات فرعون النفس. إن الذي يربيكم هو الذي خلق السموات سموات أرواحكم وأرض نفوسكم من ستة أنواع هي: الروح والقلب والعقل والنفس الحيواني والنفس النباتي والصورة المعدنية ثُمَّ اسْتَوى على عرش القلب يُدَبِّرُ أمر السعادة والشقاوة يقلبه كيف يشاء. إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فرجعوا مقبولين بجذبات العناية التي صورتها خطاب ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] وحقيقتها انجذاب القلب إلى الله ونتيجتها عزوف النفس عن الدنيا واستواء الذهب والمدر عندها ورجوع   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15. مسلم في كتاب التوبة حديث 14- 16. الترمذي في كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 242، 258) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 564 المردودين بغير الاختيار بالسلاسل والأغلال. ومن نتائجه تعلقات الدنيا واستيلاء صفات النفس بِالْقِسْطِ أي لكل بحسب كماله ونقصانه. جعل شمس الروح ضياء يستنير بها قمر القلب إذا وقع في مواجهتها، وإذا وقع في مقابلة أرض النفس انكسف ولهذا سمي قلبا لتقلب أحواله بين الروح والنفس. وتلك الأحوال هي منازله ومقاماته لتعلموا عدد سنين المقامات وحساب الكشوف والمشاهدات إِنَّ فِي اخْتِلافِ ليل صفات البشرية ونهار صفات الروحانية وَما خَلَقَ اللَّهُ في سموات الروحانية وأرض البشرية من الأوصاف والأخلاق وتبدل الأحوال لَآياتٍ دالة على التوحيد لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ الأخلاق الذميمة وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ وإن لم يركنوا إلى الدنيا وتمتعاتها كالرهابين والبراهمة وبعض الفلاسفة والله تعالى أعلم. [سورة يونس (10) : الآيات 11 الى 20] وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) القراآت: لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ مبنيا للفاعل أجلهم بالنصب: ابن عامر ويعقوب. الآخرون مبنيا للمفعول ورفع أَجَلُهُمْ أو بدله بضم اللام وسكون الهاء: روى خلف عن الكسائي والاختبار عنه وعن غيره الإشمام لي أن بفتح الياء وكذلك إِنِّي أَخافُ: أبو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 565 جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. نَفْسِي إِنْ بفتح الياء: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع. ولأدراكم بلام الابتداء فعلا ماضيا مثبتا: روى أبو ربيعة عن البزي وحمزة. وقرأ حمزة وعلي وأبو عمرو وخلف وورش من طريق النجاري والخراز عن جبيرة وهبيرة وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان، وحماد ويحيى من طريق أبي حمدون بالإمالة فعلا ماضيا منفيا بلا. الباقون: مثله ولكن بالتفخيم. تشركون بتاء الخطاب وكذلك في «النحل» و «الروم» : حمزة وعلي وخلف. الباقون بالياء. الوقوف: أَجَلُهُمْ ط لأن ما بعده مستقبل فنحن نذر يَعْمَهُونَ هـ أَوْ قائِماً ط مَسَّهُ ط يَعْمَلُونَ هـ ظَلَمُوا لا لأن الواو للحال لِيُؤْمِنُوا ط الْمُجْرِمِينَ هـ تَعْمَلُونَ هـ بَيِّناتٍ لا لأن ما بعده جواب «إذا» أَوْ بَدِّلْهُ ط. نَفْسِي ج ط لأن «ان» النافية لها صدر الكلام ولكن القائل متحد إِلَيَّ ط ج لمثل ما قلنا عَظِيمٍ هـ بِهِ ط والوصل أولى للفاء أو لشدة اتصال المعنى مِنْ قَبْلِهِ ط تَعْقِلُونَ هـ بِآياتِهِ ط الْمُجْرِمُونَ هـ عِنْدَ اللَّهِ ط فِي الْأَرْضِ ط يُشْرِكُونَ هـ فَاخْتَلَفُوا ط يَخْتَلِفُونَ هـ مِنْ رَبِّهِ ج ط للابتداء بالأمر مع الفاء فَانْتَظِرُوا ج لاحتمال الابتداء أو التعليل الْمُنْتَظِرِينَ هـ. التفسير: إنه سبحانه ابتدأ في هذه السورة بذكر شبهات القوم فالأولى أنهم تعجبوا من تخصيص الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالنبوة فأزال ذلك التعجب بالإنكار وبالدلائل الدالة على صحة المبدا والمعاد فكأنه قيل: إنه ما جاء إلا بدليل التوحيد والإقرار بالمعاد فليس للتعجب معنى. ثم شرع في شبهة أخرى وهي أنهم كانوا يقولون أبدا اللهم إن كان محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء فأجابهم بقوله: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ الآية. وقال القاضي: لما ذكر الوعيد على عدم الإيمان بالمبدإ والمعاد ذكر أن ذلك العذاب من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيا وإلا نافى التكليف. وقال القفال: لما وصفهم فيما مر بالغفلة أكد ذلك بأن من غاية غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب فبيّن الله تعالى أنه لا مصلحة في تعجيل إيصال الشر إليهم فلعلهم يؤمنون، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن. كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله بكشفها كما يجيء في الآية التالية، وفي الرخاء كانوا يستعجلون النبي بالعذاب فقال ما معناه: ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما يعجل لهم الخير ونجيبهم إليه لأميتوا وأهلكوا. قال في الكشاف: أصل الكلام ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير. فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 566 الخير إشعارا بسرعة إجابته لهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل منه لهم. وقيل: التعجيل معناه طلب العجلة إلا أن الاستعجال أشهر وأظهر. فمعنى الآية لو أراد الله عجلة الشر للناس كما أرادوا عجلة الخير لهم. وقيل: هما متلازمان فكل معجل يلزمه الاستعجال إلا أنه تعالى وصف نفسه بتكوين العجلة ووصفهم بطلبها لأن اللائق به التكوين واللائق بهم الطلب. وسمي العذاب في الآية شرا لأنه أذى وألم في حق المعاقب به. ثم إن قوله لَوْ يُعَجِّلُ كان متضمنا لمعنى نفي التعجيل فيمكن أن يكون قوله فَنَذَرُ الَّذِينَ معطوفا على منوي كأنه قيل: ولكن لا يعجل فيذرهم إلزاما للحجة أو لمصالح أخرى. ثم بين أنهم كاذبون في استعجال الشر ولو أصابهم ما طلبوه أظهروا العجل والطيش فقال: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ أي هذا الجنس دَعانا لِجَنْبِهِ اللام في معنى الوقت كقولك: جئته لشهر كذا. وإن شئت قلت في موضع الحال لأن الظرف والحال متآخيان فيصح عطف أحدهما على الآخر وتأويل أحدهما بالآخر أي دعانا مضطجعا أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً أو وقت اضطجاعه وقعوده وقيامه. والمراد أنه يدعو الله في جميع أحواله لا يفتر عن الدعاء. ثم إن خص الضر بالمرض احتمل أن يراد أنه يدعو الله حين كان مضطجعا غير قادر على القعود أو قاعدا غير قادر على القيام، أو قائما لا يطيق المشي إلى أن يخف كل الخفة ويرزق الصحة بكمالها. أو يراد أن من المضرورين من هو أسوأ حالا وهو صاحب الفراش، ومنهم من هو أخف وهو القادر على القعود، ومنهم المستطيع للقيام وكلهم لا يصبرون على الضراء. قال بعض المفسرين: الإنسان هاهنا هو الكافر. ومنهم من بالغ فقال: كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به الكافر. وهذا شبه تحكم لورود مثل قوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الدهر: 1] إلا أن يساعده نقل صحيح. والأصح عند العلماء العموم لأن الإنسان خلق ضعيفا لا يصبر على اللأواء ولا يشكر عند النعماء إلا من عصمه الله وقليل ما هم، وهم الذين نظرهم في جميع الأحوال على المقدر المؤجل للأمور حسب إرادته ومشيئته فلا جرم إن أصابهم السراء شكروا وإن أصابهم الضراء صبروا فأفنوا إرادتهم في إرادته ورضوا بقضائه. قال الزجاج: في الآية تقديم وتأخير والتقدير: وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعدا أو قائما. وضعف بأن تعديد أحوال الدعاء أبلغ من تعديد أحوال الضر لأنه إذا كان داعيا على الدوام ثم نسي ذلك في وقت الرخاء كان أعجب. ومعنى مَرَّ مضى على طريقته التي له قبل مس الضراء ومرّ عن موقف الدعاء والتضرع لا يرجع إليه. ومعنى كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن كَذلِكَ مثل ذلك التزيين زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 567 تتبع الشهوات. والمزين هو الله تعالى أو النفس أو الشيطان مفرع عن مسألة الجبر والقدر وقد مر مرارا. قال العلماء: سمي الكافر مسرفا لأنه أنفق ماله من الاستعداد الشريف من القوى البدنية والأموال النفيسة في الأمور الخسيسة الزائلة من الأصنام التي هي أحقر من لا شيء، ومن الشهوات الفانية التي لا أصل لها ولا دوام. والمسرف في اللغة هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس فصح ما قلنا. ثم ذكر ما يجري مجرى الردع والزجر لهم عن إلقاء الشبه والأغاليط فقال: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ وقد مضى تفسير القرن في أول الأنعام ولَمَّا ظرف لأهلكنا والواو في وَجاءَتْهُمْ للحال أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رُسُلُهُمْ بالدلائل والحجج على صدقهم وهي المعجزات. وقوله: وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إما أن يكون عطفا على ظَلَمُوا أو يكون اعتراضا واللام لتأكيد النفي، وإن الله قد علم منهم أنهم يصرون على الكفر والسبب في إهلاكهم تكذيب الرسل وعلم الله بإصرارهم كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء وهو الاستئصال الكلي نجزي كل مجرم، وفيه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم خاطب الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ أي استخلفناكم فِي الْأَرْضِ بعد تلك القرون لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ خيرا أو شرا. استعير النظر للعلم الحقيقي الذي لا يتطرق إليه شك، ويعني به العلم الذي يتعلق به الجزاء كما مر في «الأعراف» . قال قتادة: صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا فأروا الله من أعمالكم خيرا بالليل والنهار. ثم حكى نوعا ثالثا من شبهاتهم فقال: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا أي لا يؤمنون بالمعاد لأن كل من كان مؤمنا بالنشور فإنه يرجو ثواب الله ويخاف عقابه، وانتفاء اللازم دليل انتفاء الملزوم. طلبوا من الرسول أحد أمرين: إما الإتيان بقرآن غير هذا القرآن مع بقاء هذا القرآن على حاله، وإما تبديل هذا القرآن بنسخ بعض الآيات ووضع أخرى في مكانها، فأمره الله تعالى أن يقول في جوابهم ما يَكُونُ لِي أي ما ينبغي وما يحل أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي من قبل نفسي فنفى عن نفسه أحد القسمين الذي هو أسهل وأقل ليلزم منه نفي الأصعب الأكثر بالطريق الأولى. ثم أكد الجواب بقوله: إِنْ أَتَّبِعُ أي ما أتبع إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إن نسخت آية تبعت النسخ وإن بدلت آية مكان آية تبعت التبديل. وقد تمسك بهذا نفاة القياس ونفاة جواز الاجتهاد. وأجيب بأن رجوعهما أيضا إلى الوحي. ونقل عن ابن عباس أن قوله: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ منسوخ بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] وضعف بأن النسخ إنما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 568 يكون في الأحكام والتعبدات لا في ترتيب العقاب على المعصية. قال المفسرون: هذا الالتماس منهم يحتمل أن يكون على سبيل السخرية. فقد روى مقاتل والكلبي أنهم خمسة نفر من مشركي مكة وهم المستهزءون في قوله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] . ويحتمل أن يكون على سبيل التجربة والامتحان حتى إنه إن فعل ذلك علموا أنه كاذب، أو أرادوا أن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم فطلبوا قرآنا آخر لا يكون كذلك. ثم أكد كون هذا القرآن من عند الله سبحانه وأنه غير مستبد في إيراده فقال: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ ولا أعلمكم الله بِهِ على لساني. ومن قرأ بلام الابتداء فمعناه ما تلوته أنا عليكم ولأخبركم الله به على لسان غيري، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده فرآني أهلا لذلك دون غيري. وقرىء لا أَدْراكُمْ بِهِ بالهمزة. ووجهه أن تكون الهمزة مقلوبة من الألف، أو يكون من الدرء الدفع. ومعنى ادرأته جعلته دارئا أي لم أجعلكم بتلاوته خصما تدرؤنني بالجدال وتكذبونني فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً أي بعضا معتبرا من العمر وهو أربعون سنة مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن أَفَلا تَعْقِلُونَ فيه قدح في صحة عقولهم لأن ظهور مثل هذا الكتاب العظيم المشتمل على علوم الأوّلين والآخرين المعجز للثقلين عن معارضته على من عرفوا حاله من عدم التعلم والمدارسة ومخالطة العلماء إذا شك فيه أنه من قبيل الوحي والمدد السماوي، كان ذلك إنكارا للضروريات وافتراء على الله فلهذا قال فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً الآية. وفيه أن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله ثم نسبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله لم يكن أحد أظلم منه. ثم قبح الله أصنامهم معارضة لهم بنقض مقصودهم من الالتماس فقال وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ إن لم يعبدوه وَلا يَنْفَعُهُمْ إن عبدوه ومن حق المعبود أن يكون مثيبا معاقبا. وفيه إشعار بأنها جماد، والمعبود لا بد أن يكون أكمل من العابد، وإذا كانت المنافع والمضار كلها من الله فلا تليق العبادة إلا له وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ. قد ذكرنا وجه ذلك في أوائل سورة البقرة في قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الآية: 22] ثم أنكر عليهم معتقدهم بقوله: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ والمراد انه لا وجود لكونهم شفعاء إذ لو كان موجودا لكان معلوما للعالم بالذات المحيط بجميع المعلومات وهذا مجاز مشهور. تقول: ما علم الله ذلك مني. والمقصود أنه ما وجد منك ذلك قط. وفي قوله: فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ تأكيد آخر لنفيه لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم. قوله: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ إما أن يكون من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم، أو ابتداء كلام من الله تعالى تنزيها لنفسه عن إشراكهم أو عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 569 الشركاء الذين يشركونهم به. ثم بيّن أن عبادة الأصنام بدعة وأن الناس- يعني العرب أو البشر كلهم- كانوا على الدين الحق فاختلفوا. وقد مر تفسير مثله في سورة البقرة في قوله: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [الآية: 213] والمقصود هاهنا تقبيح صورة الشرك وعبادة الأصنام من دون الله في أعينهم، وتنفير طباعهم عن مثل هذا الأمر المستحدث الفظيع وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ من بناء أمر الثواب والعقاب على التكليف لا على الإلجاء والقسر، أو من تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة، أو من قوله: «سبقت رحمتي غضبي» «1» لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عاجلا ولميز المحق من المبطل. ثم ذكر نوعا رابعا من أغاليطهم فقال: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وقد مر تفسيره في «الأنعام» في قوله: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الأنعام: 37] كأنهم لم يعتدّوا بالقرآن آية فاقترحوا غيره تعنتا. فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ هو المختص بعلمه فَانْتَظِرُوا نزول ما اقترحتموه وهذا أمر فيه تهديد ووعيد والله ورسوله أعلم. [سورة يونس (10) : الآيات 21 الى 30] وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)   (1) المصدر السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 570 القراآت: يمكرون بياء الغيبة: سهل وروح. الباقون: بالتاء الفوقانية. ينشركم بالنون: ابن عامر ويزيد. الباقون يُسَيِّرُكُمْ من التسيير مَتاعَ بالنصب: حفص والمفضل. الباقون بالرفع قِطَعاً بسكون الطاء: ابن كثير وعلي وسهل ويعقوب. والآخرون بفتحها تتلوا بتاءين من التلاوة: حمزة وعلي وخلف وروح، وروي عن عاصم نبلوا بالنون ثم الباء الموحدة. كل نفس بالنصب الباقون: بتاء التأنيث كُلُّ بالرفع. الوقوف: آياتِنا ط مَكْراً ط، تَمْكُرُونَ هـ وَالْبَحْرِ ط فِي الْفُلْكِ ج ط للعدول مع أن جواب «إذا» منتظر، أُحِيطَ بِهِمْ لا لأن قوله: دَعَوُا بدل من ظَنُّوا لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو متلبس به، وإن جعل دَعَوُا جوابا عن سؤال سائل فما صنعوا كان للوقف وجه. الدِّينَ ج لاحتمال إضمار القول وجعل الدعاء في معنى القول الشَّاكِرِينَ هـ بِغَيْرِ الْحَقِّ ط. عَلى أَنْفُسِكُمْ ط، إلا لمن جعله متعلقا ب بَغْيُكُمْ تَعْمَلُونَ هـ الْأَنْعامُ ط عَلَيْها لا لأن ما بعده جواب «إذا» . بِالْأَمْسِ ط يَتَفَكَّرُونَ هـ السَّلامِ ط مُسْتَقِيمٍ هـ وَزِيادَةٌ ط وَلا ذِلَّةٌ ط، الْجَنَّةِ ج ط خالِدُونَ هـ بِمِثْلِها لا لأن قوله وَتَرْهَقُهُمْ معطوف على محذوف أي يلزمهم جزاء سيئة وترهقهم ذلة. عاصِمٍ ج ط لأن الكاف لا يتعلق ب عاصِمٍ مع تعلقها بذلة قبله معنى، لأن رهق الذلة سواد الوجه المعبر عنه بقوله كأنما مُظْلِماً ط أَصْحابُ النَّارِ ج ط خالِدُونَ هـ وَشُرَكاؤُكُمْ ج للعدول مع فاء التعقيب تَعْبُدُونَ هـ لَغافِلِينَ هـ يَفْتَرُونَ هـ. التفسير: لما بين في الآية المتقدمة أنهم يطلبون الآيات الزائدة عنادا ومكرا ولجاجا أكد ذلك بقوله: وَإِذا أَذَقْنَا روي أنه سبحانه سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم وأنزل الأمطار النافعة، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع إلى الأصنام- وقيل نسبوها إلى الأنواء- فقابلوا نعم الله بالكفران فذلك مكرهم وهو احتيالهم في دفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من إلقاء شبهة أو تخليط في المناظرة. وفي تخصيص الإذاقة بجانب الرحمة دليل على أن الكثير من الرحمة قليل بالنسبة إلى رحمته الواسعة. وفيه أن الإنسان لغاية ضعفه الفطري لا يطيق أدنى الرحمة كما أنه لا يطيق أدنى الألم الذي يمسه. قال في الكشاف: معنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم. وهذا أيضا من جملة الضعف لأنه نسي ما عهده من الضر الشديد. و «إذا» الثانية للمفاجأة وقع مقام الفاء في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 571 جواب الشرط كما في قوله: إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة: 58] وفائدته أن يعلم أنهم فاجأوا وقوع المكر منهم في وقت الإذاقة وسارعوا إليه ولم يلبثوا قدر ما ينفضون عن رؤوسهم غبار الضر ولهذا قال سبحانه قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً يقدر على إيصال جزاء مكرهم إليهم قبل أن يرتد إليهم طرفهم ولكنه يمهلهم لأجل معلوم ليتضاعف خبثهم مع كونه محفوظا بيانه قوله إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ وقد مر تحقيق هذا في تفسير قوله: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الأنعام: 62] . واعلم أن مضمون هذه الآية قريب من مضمون قوله: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ [يونس: 12] إلا أن هذه زائدة عليها بدقيقة هي أنهم بعد الإعراض عن الدعاء يطلبون الغوائل ويقابلون الرحمة بالمكر والخديعة ولا يرضون رأسا برأس. ثم ضرب لأجل ما وصفهم به مثالا حتى ينكشف المقصود تمام الانكشاف فقال: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ ومن قرأ ينشركم فكقوله: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 10] قال بعض العلماء: المسير في البحر هو الله سبحانه وتعالى، وأما في البر فالمراد من التسيير التمكين والإقدار. والحق أن جميع الأفعال والحركات مستندة إلى إحداث الله تعالى، غاية ذلك أن آثار إقداره وإحداثه في البحر أظهر كما مر في تفسير قوله: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ [البقرة: 164] قال القفال: هو الله الهادي لكم إلى السير في البحر طلبا للمعاش، وهو المسير لكم لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير. وحتى لانتهاء الغاية والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة: أولها الكون في الفلك، وثانيها جري الفلك بهم بالريح الطيبة، والضمير في جَرَيْنَ للفلك على أنها جمع كما مر. وثالثها فرحهم بها. والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة أيضا: أوّلها جاءَتْها أي الفلك أو الريح الطيبة تلتها ريح عاصف ذات عصوف كلابن لذات اللبن، أو لأن لفظ الريح مذكر والعصوف شدة هبوب الريح. وثانيها وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي من جميع جوانب أحياز الفلك، والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر. وثالثها وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي غلب على ظنونهم الهلاك. وأصله أن العدوّ إذا أحاط بقوم أو بلد فقد دنوا من البوار، فجعل إحاطة العدوّ بالشخص مثلا في الهلاك. وقرىء في الفلكي والياء زائدة كما في «الأحمري» أو أريد به الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه. قال في الكشاف: وإنما التفت في قوله: وَجَرَيْنَ بِهِمْ إلى آخره من الخطاب الى الغيبة للمبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح. وقال الإمام فخر الدين الرازي: الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذه الآية دليل المقت والتبعيد كما أن عكس ذلك في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 572 قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] دليل الرضا والتقريب. قلت: هذا وجه حسن. أما قوله: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ فقد قال ابن عباس: تركوا الشرك ولم يشركوا به من آلهتهم شيئا، وأقروا لله بالربوبية والوحدانية. وقال الحسن: ليس هذا إخلاص الإيمان لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله فيكون ذلك جاريا مجرى الإيمان الاضطراري. وقال ابن زيد: هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا جاء الضر والألم لم يدعوا إلا الله. وعن أبي عبيدة: أن المراد من ذلك الدعاء قولهم: «أهيا شراهيا» تفسيره «يا حي يا قيوم» يحكى أن رجلا قال لجعفر الصادق رضي الله عنه: ما الدليل على إثبات الصانع؟ فقال: أخبرني عن حرفتك. فقال: التجارة في البحر قال: صف لي كيف حالك؟ فقال: ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح من ألواحها وجاءت الرياح العاصفة. قال جعفر الصادق رضي الله عنه: هل وجدت في قلبك تضرعا؟ فقال: نعم. قال جعفر: فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت. لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ الشدة كما مر في الأنعام يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ البغي قصد الاستعلاء بالظلم من قولك بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد، وأصله الطلب فلهذا أكد المعنى بقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ قال في الكشاف: إنما زاد هذا القيد احترازا من استيلاء المسلمين على أرض الكفرة بهدم دورهم وإحراق زروعهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة. قلت: ويحتمل أن يراد بغير شبهة حق عندهم كقوله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة: 61] من قرأ متاع بالنصب فما قبله جملة تامة أي إنما بغيكم وبال على أنفسكم وهو مصدر مؤكد كأنه قيل: يتمتعون متاع الحياة الدنيا. ومن قرأ بالرفع فإما على أن التقدير هو متاع الدنيا بعد تمام الكلام، أو على أنه خبر وقوله: عَلى أَنْفُسِكُمْ صلة أي إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها والبغي من منكرات المعاصي قال صلى الله عليه وسلم: «أسرع الخير ثوابا صلة الرحم وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة» وروي «اثنتان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين» وعن محمد بن كعب: ثلاث من كن فيه كن عليه: البغي والنكث والمكر. قال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياما قلائل وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها ثُمَّ إلى ما وعدنا من المجازاة مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وهو في هذا الموضع وعيد بالعقاب كقول الرجل في معرض التهديد سأخبرك بما فعلت. ثم ذكر مثلا لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا ويشتد تمسكه بها فقال: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي صفتها العجيبة الشأن كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ أي اشتبك بسبب هذا الماء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 573 نَباتُ الْأَرْضِ فيحتمل أن يراد أن نباته ثم وصوله إلى حد الكمال كليهما بسبب المطر، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أول بروزه ومبدإ حدوثه غير مهتز ولا مترعوع، فإذا نزل المطر عليه اهتز وربا حتى اختلط بعض الأنواع ببعض وتكاثف. حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها قال الجوهري: الزخرف الذهب ثم يشبه به كل مموه مزوّر. وَازَّيَّنَتْ أصله تزينت فأدغم واجتلبت لذلك همزة الوصل. وهذا كلام في نهاية الفصاحة وفيه تشبيه الأرض بالعروس التي تأخذ الثياب الفاخرة من كل لون فتلبسها، ثم تزين بجميع الأقسام المعهودة لها من حمرة وبياض ونحوها وَظَنَّ أَهْلُها أي غلب على ظنونهم أو تيقنوا أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها متمكنون من تحصيل ريعها. أَتاها أَمْرُنا بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات. لَيْلًا أَوْ نَهاراً أي حين غفلتهم بالنوم أو حين اشتغالهم وتقلبهم في طلب معايشهم فَجَعَلْناها أي زرعها حَصِيداً شبيها بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله. كَأَنْ لَمْ تَغْنَ أي كأن الشأن لم يلبث زرعها بِالْأَمْسِ أي في زمان قريب. يقال: غنى بالمكان بالكسر يغنى بالفتح إذا أقام به. والأمس مثل في الوقت القريب. هذا والصحيح عند علماء البيان أن هذا التشبيه من التشبيه المركب. قال في الكشاف: شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاما بعد ما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه. وقيل: المراد أن عاقبة هذه الحياة التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء به وقع اليأس منه، لأن الغالب أن المتمسك بالدنيا إذا اطمأن بها وعظمت رغبته فيها وانتظم أمره بعض الانتظام أتاه الموت. وتلخيصه أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة تحمد فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد. ويحتمل أن يكون هذا مثلا لمن لا يؤمن بالمعاد، فإن الأرض المزينة إذا زال حسنها فإنه يعود رونقها مرة أخرى فكذا النشور كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ نذكر واحدة منها بعد الأخرى لتكون كثرتها وتواليها سببا لقوة اليقين وموجبا لزوال الشك لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في أحوال الآفاق والأنفس. ثم لما نفر المكلفين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق رغبهم في الآخرة بقوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ومثله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيد بنى دارا وصنع مائدة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل ورضي عنه السيد، ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد، فالله السيد والدار دار السلام والمائدة الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم» «1»   (1) رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 2. الدارمي في كتاب المقدمة باب 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 574 وعنه صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق إلا الثقلين أيها الناس هلموا إلى ربكم والله يدعو إلى دار السلام» واتفقوا على أن دار السلام هي الجنة واختلفوا في سبب التسمية. فقيل: لأن السلام هو الله والجنة داره فالإضافة للتشريف، وإنما أطلق اسم السلام عليه تعالى لأنه سلم من الفناء والتغير ومن جميع سمات النقص والحدوث ومن الظلم والعجز والجهل وهو القادر على تخليص المضطرين عن المكاره والآفات، وكفى بدار أضافها الله تعالى لنفسه فضلا وشرفا وبهجة وسرورا. وقيل: سميت دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات والمخافات. وقيل: لفشوّ السلام بينهم تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يونس: 10] وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: 24] سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] واعلم أن الدعوة عامة ولكن الهداية خاصة فلذلك قال وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ومن هنا ذهب أهل السنة إلى أن الهداية والضلالة والخير والشر كلها بمشيئة الله تعالى وإرادته. وقالت المعتزلة: المراد ويهدي من يشاء إلى إجابة تلك الدعوة ويعنون أن من أجاب الدعاء وأطاع واتقى فإن الله يهديه إليها. والمراد من الهداية الألطاف، ثم قسم أهل الدعوة إلى قسمين وبين حال كل طائفة فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ولا بد من تفسير هذه الألفاظ الثلاثة: فعن ابن عباس أحسنوا أي ذكروا كلمة لا إله إلا الله. وذهب غيره إلى أن المراد إتيان الطاعات واجتناب المنهيات لأن الدرجات العالية لا تليق إلا بهم. وأما الحسنى فقال في الكشاف: المراد المثوبة الحسنى. وقال ابن الأنباري: العرب توقع هذه اللفظة على الخلة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها، ولذلك ترك موصوفها. وأما الزيادة فحملها أهل السنة على رؤية الله لأن اللام في الحسنى للمعهود بين المسلمين من المنافع التي أعدها الله تعالى لعباده، فالزيادة عليها تكون مغايرة لها فما هي إلا الرؤية. وقالت المعتزلة: الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه، ورؤية الله تعالى بعد تسليم جوازها ليست من جنس نعيم الجنة، فالمراد بها ما يزيد على المثوبة من التفضل كقوله: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر: 30] . وزيف بأن الزيادة إذا كان المزيد عليه مقدرا بمقدار معين وجب أن يكون من جنسه كما لو قال الرجل لغيره: أعطيتك عشرة أمنان من الحنطة وزيادة. أما إذا كان غير مقدر كما لو قال: أعطيتك الحنطة وزيادة. لم يجب أن تكون الزيادة من جنس المزيد عليه. والمذكور في الآية لفظة الحسنى وهي الجنة وإنها مطلقة، فالزيادة عليها شيء مغاير لكل ما في الجنة. وعن علي عليه السلام: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة. وعن ابن عباس: الحسنى الجنة والزيادة عشر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 575 أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وعن مجاهد: مغفرة من الله ورضوان. وعن يزيد بن سمرة: هي أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول: ما تريدون أن أمطركم فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم. هذا شأن المنافع الحاصلة لهم، وأما أنها منافع خالصة عن الكدورات فأفاد ذلك بقوله: وَلا يَرْهَقُ أي لا يغشى وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ غبرة فيها سواد وَلا ذِلَّةٌ ولا أثر هوان وكسوف بال. ثم أشار إلى كون تلك المنافع الخالصة آمنة من الانقطاع بقوله: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وهذا معنى قول علماء الأصول «الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم» . ثم بين حال الفريق الآخر بقوله: وَالَّذِينَ أي وجزاء الذين كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها أي جزاؤهم أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها. ومن جوز العطف على عاملين مختلفين جوز أن يكون التقدير: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها. قالت المعتزلة: وفيه دليل على أن المراد بالزيادة في الآية المتقدمة الفضل، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله فناسب أن يكون قد دل هناك بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله. وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ فإنهم حين ماتوا ناقصين خالين عن الملكات الحميدة كان شعورهم بذلك سببا لذلهم وهوانهم على أنفسهم، وهذا على قاعدة حكماء الإسلام أن الجهل سواد وظلمة كما أن العلم والمعرفة بياض ونور ومنه قول الشبلي رضي الله عنه: كل بيت أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرج ومريض أنت عائده ... قد أتاه الله بالفرج ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي لا يعصمهم أحد من عذابه وسخطه، أو ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما للمؤمنين. والتحقيق أنه لا عاصم من الله لأحد في الدنيا ولا في الآخرة إلا بإذن الله إلا أن هذا المعنى في الآخرة أظهر كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] ثم بالغ في الكشف عن سواد وجوههم فقال: كَأَنَّما أُغْشِيَتْ أي ألبست وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ من قرأ بسكون الطاء فمعناه البعض والطائفة ومُظْلِماً صفته. ومن قرأ بفتحها على أنه جمع قطعة فمظلما حال من الليل والعامل فيه إما معنى الفعل في مِنَ اللَّيْلِ أو أُغْشِيَتْ لأن قوله: مِنَ اللَّيْلِ صفة لقوله: قِطَعاً فكان إفضاء العامل إلى الموصوف كإفضائه الى الصفة قاله في الكشاف. واعلم أن جمعا من العلماء ذهبوا إلى أن المراد بقوله: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ هم الكفار لأن سواد الوجه من علامات الكفر بدليل قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [آل عمران: 106] وقوله: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 576 تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس: 40- 42] ولقوله بعدها وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ والضمير عائد إلى هؤلاء. ثم إنه وصفهم بالشرك. وقال الآخرون: اللفظ عام يتناول الكافر والفاسق إلا أن الآيات المذكورة مخصصة. ثم شرح بعض أحوال المشركين في القيامة فقال: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ منصوب بإضمار «اذكر» أو ظرف متعلق بتبلو أي في يوم كذا تبلو كل نفس. وحاصل الكلام أنه يحشر العابد والمعبود ليسألوا فيتبرأ المعبود من العابد خلاف ما كانوا يزعمون من قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وفيه إشارة إلى أن الممكن لا نسبة له إلى الواجب الحق، فإذا اتخذ الممكن معبودا برىء من ذلك في مقام لا ينفع إلا الصدق. قال في الكشاف: مَكانَكُمْ أي الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما نفعل بكم. وعند أبي علي هو اسم من أسماء الأفعال وحركته حركة بناء وهو كلمة وعيد عند العرب. وأَنْتُمْ لتأكيد الضمير في مَكانَكُمْ لسده مسد قوله: «الزموا» . وَشُرَكاؤُكُمْ عطف عليه. فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ففرقنا بينهم وقطعنا الوصل التي كانت بينهم في الدنيا. قيل: عين الكلمة «واو» لأنه من زال يزول. وإنما قلبت ياء لأن وزن الكلمة «فيعل» أي زيولنا مثل بيطره أعل إعلال سيد. وقيل: هي من زلت الشيء أزيله، فعينه على هذا ياء والوزن «فعل» ونظير زيلنا قوله: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ [الآية: 48] لأن حكم الله بأنه سيكون كالكائن وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ في صحة هذه الإضافة وجوه منها: أنهم جعلوا نصيبا من أموالهم لتلك الأصنام فهم شركاؤهم. ومنها أنهم متشاركون في الخطاب في قوله: مَكانَكُمْ ومنها أنهم أثبتوا هذه الشركة والشركاء. وقيل: هم الملائكة لقوله: ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون وقيل: كل من عبد من دون الله. وقيل: الأصنام لأن هذا الخطاب مشتمل على التهديد وأنه لا يليق بالملائكة المقربين. وكيف تنطق هذه الأصنام؟ قيل: لأن الله يخلق فيهم الحياة والعقل والنطق. ثم هل يبقيهم أو يفنيهم؟ الكل محتمل ولا اعتراض لأحد عليه. وقيل: يخلق فيهم الكلام فقط. وهذا الخطاب تهديد في حق العابدين فهل يكون تهديدا في حق المعبودين؟ قالت المعتزلة: لا، لأنه لا ذنب للمعبودين ومن لا ذنب له يقبح من الله تهديده وتخويفه. وقالت الأشاعرة: لا يسأل عما يفعل. أما قول الشركاء ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ وهم كانوا قد عبدوهم فالمراد أنكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا لقولهم: فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً الآية. ومن أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لا حس لها ولا شعور. وقيل: لما في ذلك الموقف من الدهشة والحيرة فذلك الكذب يجري مجرى كذب الصبيان والمجانين والمدهوشين. وقيل: إنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا فجعلوها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 577 كالعدم. وقيل: المراد أنهم عبدوا الشياطين حيث أمروهم باتخاذ الأنداد، ومن جوز الكذب في القيامة فلا إشكال. وهُنالِكَ أي في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان. تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ تختبر وتذوق ما أَسْلَفَتْ من العمل. ومن قرأ بالنون فالمعنى نفعل بها فعل الخابر، أو نصيب بالبلاء وهو العذاب كل نفس عاصية لأجل ما أسلفت من الشر. ومن قرأ تتلوا بتاءين فمعناه تتبع ما أسلفت لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار، أو تقرأ في صحيفتها ما قدمت من خير أو شر. وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ الصادق ربوبيته وَضَلَّ عَنْهُمْ وضاع عنهم ما كانُوا يدعون أنهم شركاء الله أو ما كانوا يختلفون من شفاعة الآلهة. والحاصل أنهم يرجعون عن الباطل ويعترفون بالحق حين لا ينفعهم ذلك. التأويل: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ ذوق توبة وإنابة أو ذوق كشف وشهود مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ وهي الفسوق والأخلاق الذميمة وحجب الأوصاف إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا بإظهارها إلى غير أهلها بشرف النفس وطلب الجاه والقبول. قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً فيستدرجهم عن تلك المقامات إلى دركات البعد مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ في بر البشرية وبحر الروحانية، أو في بر العبودية وبحر الربوبية حَتَّى إِذا كُنْتُمْ في فلك جذبات العناية وَجَرَيْنَ بِهِمْ بهبوب نسيم شهود الجمال وَفَرِحُوا بالوصول والوصال جاءَتْها نكباء تجلى صفات الجلال وَجاءَهُمُ موج البلايا والمحن من أماكن النعم والبلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل فَلَمَّا أَنْجاهُمْ فيه إشارة إلى أن أرباب الطلب لما وصلوا بجذبات الحق إلى شهود الجمال واستغراق لجج بحر الجلال، استقبلتهم عواصف العزة والكبرياء فيستدرجهم إلى البغي وهو الطلب في أرض ما سوى الحق غير الحق كَماءٍ أَنْزَلْناهُ من سماء القلب إلى أرض البشرية فَاخْتَلَطَ بِهِ الصفات المولدة من أرض البشرية مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ من الصفات الحميدة الإنسانية والذميمة البهيمية أَتاها حكمنا الأزلي لَيْلًا عند استيلاء ظلمات صفات النفس أَوْ نَهاراً عند بقاء ضوء الفيض الروحاني، لكنه بامتزاج القوة الخيالية والوهمية وقع في ورطة العقائد الباطلة كما لبعض الفلاسفة والمبتدعة. وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وهي مقام الفناء لأن صاحبه يسلم عن آفات الحجب أو مقام العلم والمعرفة لأن صاحبه يسلم عن آفة الاثنينية والجهالة وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بجذبات العناية إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يؤدي إلى السير بالله في الله. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، والحسنى هي شواهد الحق والنظر إليه، والزيادة الجنة وما فيها من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 578 النعيم أو هي ما زاد على النظر من إفناء الناسوتية في اللاهوتية والله ولي التوفيق. [سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 41] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) القراآت: كلمات ربك وكذلك في آخر السورة على الجمع: أبو جعفر ونافع وابن عامر لا يهدي مثل يرمي: حمزة وعلي وخلف يَهْدِي بسكون الهاء وتشديد الدال: أبو جعفر ونافع غير ورش وعباس وأبو عمرو غير عباس بإشمام الفتحة قليلا يَهْدِي بكسر الهاء وتشديد الدال: عاصم غير يحيى وجبلة ورويس يهدي بكسرتين والتشديد: يحيى يهدي بفتحتين والتشديد: ابن كثير وابن عامر وورش وسهل ويعقوب غير رويس. الوقوف: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ط اللَّهُ ج تَتَّقُونَ هـ ج ط رَبُّكُمُ الْحَقُّ ج ط للاستفهام مع الفاء إِلَّا الضَّلالُ ج ط تُصْرَفُونَ هـ لا يُؤْمِنُونَ هـ ثُمَّ يُعِيدُهُ الأول ط تُؤْفَكُونَ هـ إِلَى الْحَقِّ ط لِلْحَقِّ ط أَنْ يُهْدى ج ط لما مر فَما لَكُمْ ص لحق الاستفهام الثاني تَحْكُمُونَ هـ ط إِلَّا ظَنًّا ط شَيْئاً ط يَفْعَلُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ افْتَراهُ ط صادِقِينَ هـ تَأْوِيلُهُ ط الظَّالِمِينَ هـ لا يُؤْمِنُ بِهِ ط بِالْمُفْسِدِينَ هـ عَمَلُكُمْ ج لأن أَنْتُمْ مبتدأ والعامل واحد تَعْمَلُونَ هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 579 التفسير: لما بين فضائح عبدة الأوثان أكدها بالحجج اللامعة والبراهين القاطعة من أحوال الرزق والموت والحياة والإبداء والإعادة والإرشاد والهداية، وقد بنى الحجج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسئول ليكون أبلغ في إلزام الحجة وأوقع في النفوس. فالحجة الأولى قوله: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ بإنزال الأمطار النافعة الموجبة لتولد الأغذية النباتية والحيوانية في الأرض بعد رعاية شرائط تربيتها وإنمائها وحفظها من العاهات. أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ خص الحاستين بالذكر لما في خلقهما وتسويتهما من الفطرة العجيبة، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «سبحان من بصّر بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم» ولما في تحصينهما من الآفات في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء مزيد قدرة ورأفة. وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ الحيوان الماشي والطائر من النطفة والبيضة وقد مر سائر الأقوال في سورة الأنعام. وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ عمم بعد ما خصص لأن أقسام تدبيره تعالى في العالم العلوي والعالم السفلي وعالمي الغيب والشهادة أمور لا نهاية لها. وذكر كلها كالمتعذر. فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ وفيه دليل على أنهم كانوا يعبدون الأصنام بناء على أنها شفعاؤهم وأنها تقربهم إلى الله زلفى، ولكنهم كانوا مخطئين في هذا الاعتقاد فلهذا ختم الآية بقوله فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ الله الذي اعترفتم بأنه سبب فيضان جميع الخيرات فكيف أشركتم بعبادته الجمادات التي لا تقدر على نفع أو ضر. فَذلِكُمُ الموصوف بالقدرة الكاملة والرحمة الشاملة اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ الثابت ربوبيته بالوجدان والبرهان. فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ «ذا» مزيدة و «ما» نافية أو استفهامية أو مجموع «ماذا» كلمة واحدة معناها أي شيء بعد الحق إِلَّا الضَّلالُ والمراد أنه لما ثبت وجود الواجب الحق كان ما سواه ممكنا لذاته باطلا دعوى الإلهية فيه، لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحدا في ذاته وفي صفاته وفي جميع اعتباراته وإلا لزم افتقاره إلى ما انقسم إليه فلا يكون واجبا هف محال ولهذا ختم الآية بقوله: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر وتقعون في الضلال، إذ لا واسطة بين الأمرين، فمن يخطىء أحدهما وقع في الآخر. كَذلِكَ أي كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق فكذلك حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ. وتفسير الكلمة أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ على أنه بدل أي حق عليهم انتفاء الإيمان وقد علم الله منهم ذلك في الأزل، وأراد بالكلمة العدة بالعذاب وأنهم لا يؤمنون تعليل على حذف اللام. احتجت المعتزلة بمثل قوله تعالى: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أن الصارف لو كان هو الله تعالى لم يصح منه هذا التعجيب والإنكار. وقالت الأشاعرة: قد تعلق علمه تعالى بأنهم لا يؤمنون كما قال: حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وتعلق خبره بأنهم لا يؤمنون وقدرته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه بل بخلق الكفر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 580 فيه، وأثبت ذلك في اللوح المحفوظ وأشهد عليه ملائكته وأنزله على أنبيائه وأشهدهم عليه، فلو حصل الإيمان لبطلت هذه الأشياء فينقلب علمه جهلا وخبره الصدق كذبا وقدرته عجزا وإرادته عبثا وإشهاده باطلا. الحجة الثانية قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وإنما قال: ثُمَّ يُعِيدُهُ مع أن الخصم لا يعترف به لأنه قدم في هذه السورة دلائل الإعادة بحيث لا يتمكن العاقل من دفعها إذا تأمل وأنصف فبنى الأمر على ذلك. وإنما أمر نبيه أن ينوب عنهم في الجواب بقوله قُلِ اللَّهُ الآية. تنبيها على أن هذا المعنى بلغ في الوضوح إلى حيث لا حاجة فيه الى إقرار الخصم المكابر، فكأنه قيل: تكلم عنهم إذ لا يدعهم لحاجهم أن ينطقوا بكلمة الحق. وقوله: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كقوله: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وقد مر في «المائدة» . الحجة الثالثة قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي الآية. الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أوّلا ثم بالهداية عادة مطردة في القرآن، فحكى عن الخليل صلى الله عليه وسلم الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: 78] وعن موسى رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 5] وأمر محمدا صلى الله عليه وسلم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: 1- 3] والسر فيه أن المقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح وارتسام العلوم والمعارف فيه بإرشاد الحق سبحانه إذ الطرق المنحرفة كثيرة والظنون والأغاليط غير محصورة، فتحصيل الوسط الحقيقي لا يمكن إلا بتوفيقه وهدايته، ولا مدخل في ذلك بالاستقلال لملك أو إنسي أو جني فضلا عن الأصنام التي هي في أدنى مراتب الوجود لأنها جمادات لا شعور لها هذا تقرير الحجة الثالثة. وقال الزجاج: يقال: هديت للحق وإلى الحق بمعنى، فجمع بين العبارتين. ويقال: هدى بنفسه بمعنى اهتدى كما يقال شرى بمعنى اشترى ومنه قوله: أَمَّنْ لا يَهِدِّي وسائر القراآت أصلها «يهتدي» فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء أو كسرت لالتقاء الساكنين، وقد كسرت الياء لاتباع ما بعدها. قيل: هذه الشركاء جمادات فكيف قال في حقها إِلَّا أَنْ يُهْدى وأجيب بوجوه منها: أن المراد في الآية رؤساؤهم وأشرافهم كقوله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً [التوبة: 31] والمراد أن الله سبحانه هو الذي يهدي الخلق إلى الدين الحق بالدلائل النقلية وبما يمكنهم منه من الدلائل العقلية، وأما هؤلاء الدعاة والرؤساء فإنهم لا يقدرون على أن يهدوا غيرهم إلا إذا هداهم الله. ومنها أنهم لما اتخذوها آلهة وصفهم الله تعالى بصفة من يعقل كقوله: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ [فاطر: 14] ومنها أن ذلك بالفرض والتقدير يعني أنها لو كانت بحيث يمكنها أن تهتدي فإنها لا تهدي غيرها إلا أن تهدى. ومنها أن البنية عندنا ليست بشرط في صحة الحياة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 581 والعقل فيصح من الله تعالى أن يجعلها حية عاقلة، ثم إنها تشتغل بهداية الغير. ومنها أن المراد من الهدي النقل والحركة يقال: هديت المرأة زوجها أي نقلت إليه، فالمعنى لا ينتقل إلى مكان إلا إذا نقل إليه. ثم عجب من مذهبهم الفاسد باستفهامين متواليين فقال: فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. ثم بين ما بنوا عليه أمر دينهم فقال: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا أي في إقرارهم بالله لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم بل سمعوه من أسلافهم أو في قولهم للأصنام أنها آلهة أو شفعاء، وعلى هذا فالمراد بالأكثر الجميع. إِنَّ الظَّنَّ في معرفة الله وفيما يجب تحقيقه لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ وهو العلم والتحقيق شَيْئاً من الغناء. والمعنى أن الظن لا يقوم مقام العلم في شيء من الأحوال. ثم أوعدهم على اتباعهم الظن وتقليد الآباء بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ. وتمسك نفاة القياس بالآية ظاهر من قبل أن القياس لا يفيد إلا الظن، وأجيب بأن التمسك بالعمومات لا يفيد إلا الظن وهذه الآية من العمومات فلم يجب اتباعها بزعمكم، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكا. ولما فرغ من دلائل التوحيد شرع في إثبات النبوة فقال: ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى أي افتراء من دون الله أو كلمة «أن» بمعنى اللام أي ما ينبغي له وما استقام أن يكون مفترى. والحاصل أن وصفه ليس وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله لأنه معجز لا يقدر البشر على إتيان مثله وإنما القادر عليه هو الله تعالى. وَلكِنْ كان تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب المنزلة لإعجازه دونها فهو عيار عليها شاهد بصحتها، ونفس هذا التصديق أيضا معجز لأن أقاصيصه موافقة لما في كتب الأولين مع أنه لم يتعلم قط ولم يتلمذ، ولأن بشارته جاءت في تلك الكتب على وفق دعواه، ولأنه يخبر عن الغيوب المستقبلة فيقع مطابقا فظهر أن القرآن معجز من قبل اشتماله على الغيوب الماضية والمستقبلة. أما أنه معجز من جهة اشتماله على العلوم الجمة فذلك قوله: وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ أي يبين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع كقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: 24] قال في الكشاف قوله: لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ داخل في حيز الاستدراك كأنه قال: ولكن كان تصديقا وتفصيلا منتفيا عنه الريب كائنا من رب العالمين، وجوز أن يكون مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ متعلقا بتصديق وتفصيل ولا رَيْبَ فِيهِ اعتراض كقولك: زيد لا شك فيه كريم. والمعنى ولكن كان تصديقا من رب العالمين وتفصيلا منه لا ريب فيه. ثم أعاد بيان إعجازه مرة أخرى فقال مستفهما على سبيل الإنكار أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إن كان الأمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 582 كما تزعمون فَأْتُوا أنتم على وجه الافتراء بِسُورَةٍ مِثْلِهِ في البلاغة وحسن النظم فأنتم مثلي في العربية والفصاحة وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا تستعينوا بالله وحده ثم استعينوا بكل من سواه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه افتراه. قال بعض العلماء: هذه الآية في سورة يونس وهي مكية، فلعل المراد بالسورة المتحدّي بها هذه السورة. والأصح أن التحدي واقع على أقصر سورة. قالت المعتزلة: لو لم يكن الإتيان بمثل القرآن صحيح الوجود في الجملة لم يتحدّ العرب به لكنهم تحدّوا بذلك فدل على أن القرآن محدث إذ لو كان قديما والإتيان بالقديم محال لم يصح هذا التحدي. وأجيب بأن القرآن يقال بالاشتراك على الصفة القديمة القائمة بذات الله وعلى هذه الحروف والأصوات المحدثة، والتحدي إنما وقع بهذه لا بتلك بَلْ كَذَّبُوا سارعوا إلى التكذيب بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وهو القرآن وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ومعنى التوقع فيه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل تقليدا للآباء، وكذبوا به بعد التدبر وتكرير التحدي عليهم واستيقان عجزهم عن هذا بغيا وحسدا وعنادا. وذلك إنما حملهم على التكذيب أوّلا وآخرا وجوه منها: أنهم وجدوا في القرآن أقاصيص الأولين ولم يعرفوا المقصود منها فقالوا أساطير الأوّلين، وخفي عليهم أن الغرض منها بيان قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم ونقل الأمم من العز إلى الذل وبالعكس، ليعرف المكلف أن الدنيا ليست مما يبقى، فنهاية كل حركة سكون وغاية كل سكون أن لا يكون كقوله: عز من قائل لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف: 111] . ومنها أنهم كلما سمعوا حروف التهجي في أوائل السور ولم يفهموا منها شيئا ساء ظنهم بالقرآن فأجاب الله تعالى عنه بقوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ إلى قوله: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7] الآية. ومنها أنهم رأوا القرآن يظهر شيئا فشيئا فاتهموا النبي وقالوا: لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة [الفرقان: 32] ومنها أنهم وجدوا القرآن مملوءا من حديث الحشر والنشر، وكانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا ذلك. وأنهم وجدوا فيه تكاليف كثيرة من الصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وكانوا يقولون. إن إله العالم غني عنا وعن طاعاتنا كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني قبل النظر في معجزات أنبيائهم. قال أهل التحقيق: في الآية دلالة على أن من كان غير عارف بوجوه التأويل قد يقع في الكفر والبدعة، لأن ظواهر النصوص قد تتعارض فيفتقر هنالك إلى تطبيق التنزيل على التأويل. وقيل: معنى الآية أن القرآن كتاب معجز من جهتين: من جهة إعجاز نظمه ومن جهة ما فيه من الأخبار بالغيوب ومن جملتها أحوال الآخرة. فقوله: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ إشارة إلى التكذيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 583 به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز، وقوله: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ إشارة إلى تكذيبهم قبل أن يمتحنوا غيوبه هل تطابق الواقع أم لا. ثم ختم الآية بقوله: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ والمراد أنهم طلبوا الدنيا وأعرضوا عن الآخرة فلم تبق عليهم الدنيا وفاتتهم الآخرة فبقوا في خسران الدارين. وقيل: المقصود عذاب الاستئصال الذي نزل بالمكذبين قبلهم. ثم قسم طوائف الأمم المكذبين فقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي بالقرآن أو بالرسول أي يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكنه يعاند وَمِنْهُمْ من يشك فيه لا يصدق به لا ظاهرا ولا باطنا، ويمكن أن يقال: المراد به قسمتهم في الاستقبال أي ومنهم من سيؤمن به ومنهم من يبقى على الكفر فتكون الآية كالعذر في تبقيتهم وعدم استئصالهم وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ فيجازيهم على حسب مراتبهم في التكذيب ويعلم طوياتهم هل يتوبون أو يصرفون. ثم بين اختصاص كل مكلف بأفعاله وبنتائج أعماله من الثواب والعقاب فقال: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي أي جزاء عملي على الطاعة والإيمان وتبليغ الرسالة وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ قال مقاتل والكلبي: هي منسوخة بآية القتال. والتحقيق أن آية القتال لا تدفع شيئا من مدلولات هذه فلا نسخ والله أعلم. التأويل: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ أي من ينزل من سماء النفس مطر الهواجس ويخرج من أرض النفس نبات الأفعال والأعمال، وينزل من سماء القلب مطر أثار فيض الروح ويخرج من أرض النفس نبات الصفات البشرية والحيوانية، أو ينزل من سماء الروح مطر فيض الروح ويخرج من أرض القلب نبات الأوصاف الحميدة، أو ينزل من سماء القدرة مطر تجلي الصفات والفيض الرباني ويخرج من أرض الروح المحبة والأخلاق الإلهية، أو ينزل من سماء الذات مطر تجلي الصفات ويخرج من أرض الوجود نبات الفناء في الله وثمرات البقاء بالله أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ فيكون سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به يبصر. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ النفس من القالب والقلب من الروح والروح من القلب وبالعكوس وَمَنْ يُدَبِّرُ أمر الإنسان بالتربية من التراب إلى أن يصل إلى رب الأرباب. فسيقولون هذه الأحوال كلها من الله فقل لمن بلغ نظره إلى هذه المراتب العلية وإنها عتبة باب التوحيد والمعرفة أَفَلا تَتَّقُونَ بالله عن غيره لتدخلوا بيت الوحدة كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ هكذا جرى القلم في الأزل على الذين خرجوا عن قبول فيض النور حين رش على الخلق من نوره. وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ وتفصيل الجملة التي هي مكتوبة عنده في أم الكتاب وهو علمه القائم بذاته. وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ الذين أفسدوا استعدادهم الفطري والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 584 [سورة يونس (10) : الآيات 42 الى 60] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) القراآت: أَفَأَنْتَ بتليين الهمزة ونحوه: الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف. وَلكِنَّ النَّاسَ بالتخفيف والرفع: حمزة وعلي وخلف يَحْشُرُهُمْ بالياء: حفص. الباقون بالنون نرينك أو نتوفينك بالنون الخفيفة: رويس آلان بوزن «عالان» بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام حيث كان: أبو جعفر ونافع وزمعة وحمزة في الوقف رَبِّي إِنَّهُ بفتح الياء: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع. فَلْيَفْرَحُوا بياء الغيبة تجمعون بتاء الخطاب: ابن عامر ويزيد. وقرأ زيد على ضده، وقرأ رويس كليهما على الخطاب. الباقون على الغيبة فيهما. الوقوف: إِلَيْكَ ط لا يَعْقِلُونَ هـ إِلَيْكَ ط لا يُبْصِرُونَ هـ يَظْلِمُونَ هـ بَيْنَهُمْ ط مُهْتَدِينَ هـ يَفْعَلُونَ هـ رَسُولٌ ج ط لا يُظْلَمُونَ هـ صادِقِينَ هـ ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 585 شاءَ اللَّهُ ط أَجَلٌ ط وَلا يَسْتَقْدِمُونَ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ آمَنْتُمْ بِهِ ط، تَسْتَعْجِلُونَ هـ الْخُلْدِ ج ط للاستفهام مع أن القائل واحد تَكْسِبُونَ هـ أَحَقٌّ هُوَ ط بِمُعْجِزِينَ هـ لَافْتَدَتْ بِهِ ط الْعَذابَ ج ط للعطف على أَسَرُّوا دون رَأَوُا يُظْلَمُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ تُرْجَعُونَ هـ لِلْمُؤْمِنِينَ هـ فَلْيَفْرَحُوا ط يَجْمَعُونَ هـ وَحَلالًا ط تَفْتَرُونَ هـ الْقِيامَةِ ط لا يَشْكُرُونَ هـ. التفسير: إن الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان آخر وعظمت نفرته عنه صارت نفسه متوجهة إلى طلب مقابحه في كلامه معرضة عن جهات محاسنه فيه، وكما أن الصمم في الأذن معنى ينافي حصول إدراك الصوت، والعمى في العين أمر ينافي حصول إدراك الصورة، فكذلك حصول هذا البغض الشديد يضاد وقوف الإنسان على محاسن من يعاديه، فبين الله سبحانه في أولئك الكفار من بلغت حاله في النفرة والعداوة إلى هذا الحد يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ولكنهم لا يسمعون ولا يقبلون وينظرون إليك يعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يتبصرون ولا يصدقون. قال أهل المعاني: المستمع إلى القرآن كالمستمع إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بخلاف النظر. فكان في المستمعين كثرة فجمع ليطابق اللفظ المعنى ووحد النظر حملا على اللفظ إذ لم يكثروا كثرتهم. ثم قال: أتطمع أن تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم، أو تقدر على هداية العمي ولا سيما إذا قرن بفقد البصر فقد البصيرة، إنما يقدر على ردهم إلى حالة الكمال خالق القدر والقوى وحده. وهذا الحصر إنما يفهم من قوله: أَفَأَنْتَ. والمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم فإن الطبيب إذا رأى مريضا لا يقبل العلاج أصلا أعرض عنه ولم يستوحش من ذلك لأن التقصير من المزاج لا من الصنعة والحذق. ثم أكد عدم قابليتهم في الفطرة مع إشارة إلى ما يلحقهم من الوعيد يوم القيامة بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ الآية. فسرها المعتزلة بأن المراد من نفي الظلم أنه ما ألجأ أحد إلى هذه القبائح والمنكرات ولكنهم باختيار أنفسهم أقدموا عليها. وأجاب الواحدي عنه بأنه إنما نفى الظلم عن نفسه لأنه يتصرف في ملك نفسه فلا اعتراض عليه. وإنما قال: وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب. والتحقيق أنه نفى الظلم عنه لأن وقوع فريق القهر ضروري، ونسب الظلم إليهم لخصوص وقوعهم في الطريق وفيه دقة. ثم ذكر وعيد الكفار فقال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي واذكر يوم يحشرهم كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا في محل النصب على الحال أي مشبهين بمن لم يلبث إِلَّا ساعَةً وقوله يَتَعارَفُونَ إما حال أخرى أو بيان لقوله: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا لأن التعارف لا يبقى مع طول العهد. ويجوز أن يكون قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 586 وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ متعلقا ب يَتَعارَفُونَ والمراد باللبث. قيل: لبثهم في الدنيا وقيل في القبور استقلوا المدد الطوال إما لأنهم ضيعوا أعمارهم في الدنيا فجعلوا وجودها كالعدم واستقصروها للدهش والحيرة، أو لطول وقوفهم في الحشر، أو لشدة ما هم فيه من العذاب نسوا لذات الدنيا واستحقروها. وأما التعارف فقد قيل: يعرّف بعضهم بعضا ما كانوا عليه من الخطإ والكفر وقيل: يعرف كل واحد أهل معرفته. والجمع بين ذلك وبين قوله: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج: 10] أن هذا تعارف توبيخ وتضليل يقول كل فريق لصاحبه أنت اضللتني يوم كذا، أو أنهم يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة. وإنما حذف «جميعا» في هذه الآية اكتفاء بما في الآية السابقة وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا [الأنعام: 122] ولأن الآية سيقت هناك لبيان حشر العابدين والمعبودين فأكد بقوله: جَمِيعاً ليشمل الفريقين صريحا والله أعلم. قوله: قَدْ خَسِرَ استئناف فيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أخسرهم! وفيه شهادة من الله على خسرانهم. وجوز في الكشاف أن يكون على إرادة القول أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك. ثم أكد خسرانهم بقوله: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أي في رعاية مصالح هذه التجارة لأنهم أعطوا الكثير الشريف الباقي وقنعوا بالقليل الخسيس الفاني كمن رأى زجاجة خسيسة فظنها جوهرة نفيسة فاشتراها بكل ماله، فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله. ثم سلى رسوله صلّى الله عليه وسلم فقال: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ وجوابه محذوف. وقوله: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ جواب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ والمعنى وإما نرينك في أعدائك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك، أو نتوفينك قبل أن تدركه فنحن نريكهم في الآخرة لأن مرجع الكل إلينا. ولقد صدق الله وعده فقد أراه في هذه الدار خزيهم وقهرهم بالقتل والأسر والاستعلاء عليهم والاستيلاء على ديارهم وأموالهم، والذي سيريه في الآخرة أكثر وأدوم يدل عليه لفظ «ثم» لتبعيد الرتبة في قوله: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ ولا يخفى نتيجة هذه الشهادة من السخط والعقاب، ويحتمل أن يراد إنطاق جوارحهم يوم القيامة جعل ذلك بمنزلة شهادة الله. ثم بيّن أنه ما أهمل أمة من الأمم من رسول في وقت من الأوقات فقال: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ وزمان الفترة محمول على ضعف دعوة النبي صلّى الله عليه وسلم المتقدم ووقوع موجبات التخليط في شرعه. فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ فبلغ فكذبه قوم وصدقه آخرون قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي حكم وفصل بالعدل فأنجى الرسول والمصدقون وعذب المكذبون فهذه الآية نظيرة قوله: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ويحتمل أن يقال: المراد ولكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول ينسبون إليه ويدعون به فكأنه تعالى يقول: أنا شهيد على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 587 أعمالهم ومع ذلك فإني أحضر في موقف القيامة، مع كل قوم رسولهم حتى يشهد عليهم بالكفر والإيمان. فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ وشهد لهم أو عليهم قُضِيَ بَيْنَهُمْ والمراد منه المبالغة في إظهار العدل والنصفة فتكون الآية كقوله: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء: 41] ثم ذكر شبهة أخرى من شبهات الكفرة، وذلك أنه صلّى الله عليه وسلم كلما هددهم بنزول العذاب ومر زمان ولم يظهر ذلك العذاب كانوا يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ استبعادا لنزوله وقدحا في نبوته وهذا مما يؤكد القول الأوّل في الآية المتقدمة، لأنه لا يجوز أن يقولوا متى هذا الوعد عند حضورهم في دار الآخرة لحصول اليقين والمعرفة حينئذ. وأيضا قوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لفظ الجمع موافق لقوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ثم أمره أن يجيب بما يحسم مادة الشبهة وهو قوله: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا من مرض أو فقر وَلا نَفْعاً من صحة أو غنى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ قال العلماء: إنه استثناء منقطع أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن فكيف أملك لكم الضر وجلب العذاب. ثم بين أن أحدا لا يموت إلا بالقضاء، وأن لعذاب كل طائفة أمدا محدودا لا يتجاوزه فلا وجه للاستعجال. فقال ولكل أمة أجل الآية. وقد مر تفسير الآية في أوائل الأعراف إلا أنه أدخل الفاء هاهنا في الجزاء، فإنه بنى الشرط على الاستئناف أو البيان بخلاف ما هنالك فإنه جعل الشرط مرتبا على قوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [الأعراف: 34] فلم يحسن الجمع بين الفاءين. ثم زيف رأيهم في استعجال العذاب مرة أخرى فقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أي في حين الغفلة والراحة. أَوْ نَهاراً حين الاشتغال بطلب المعاش كما مر في أول الأعراف ماذا يَسْتَعْجِلُ أي شيء يستعجل مِنْهُ أي من العذاب الْمُجْرِمُونَ وإنما لم يقل «ماذا يستعجلون منه» دلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام، لأن حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه وإن أبطأ مجيئه فضلا عن أن يستعجله. و «من» للبيان أو للابتداء والمعنى أن العذاب كله مر المذاق موجب للنفار فأيّ شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال؟ أو المراد التعجب كأنه قيل: أيّ شيء هائل شديد يستعجلون؟ وقيل: الضمير في «منه» لله تعالى وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه. و «ماذا» الجملة مفعول أَرَأَيْتُمْ ويجوز أن يكون جوابا للشرط كقولك إن أتيتك ماذا تطعمني، ثم تتعلق الجملة ب أَرَأَيْتُمْ ويجوز أن يكون اعتراضا وجواب الشرط ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ والمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان، ودخول حرف الاستفهام على «ثم» كدخوله على الواو والفاء إلا أنه على إرادة القول أي قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلْآنَ آمنتم به وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ على جهة التكذيب والإنكار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 588 وقوله ثُمَّ قِيلَ عطف على قيل المضمر قبل آلْآنَ والحاصل ان الذي تطلبونه ضرر محض عار عن المنفعة، والعاقل لا يطلب مثل ذلك. وإنما قلنا إنه ضرر محض لأنه إذا وقع العذاب فإما أن تؤمنوا وإيمان اليأس غير مقبول، وإما أن لا تؤمنوا فيحصل عقيب ذلك عذاب آخر أشد وأدوم ويقال على سبيل الإهانة. ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ فإن قلتم إلهنا أنت الغني عن الكل فكيف يليق برحمتك هذا الوعيد والتهديد؟ أجبتم هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ فالجزاء مرتب على العمل ترتب المعلول على العلة كما يقوله الحكيم، أو ترتب الأجر الواجب عند المعتزلة، أو بحكم الوعد المحض عند أهل السنة. وتفسير الكسب مذكور في البقرة في قوله: لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ [الآية: 134] . ثم حكى عنهم أنهم بعد هذه البيانات استفهموا تارة أخرى عن تحقيق العذاب فقال: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ وهو استخبار على جهة الاستهزاء والإنكار أي أحق ما تعدنا به من نزول العذاب في العاجل؟ وهذا السؤال جهل محض لأنه تقدم ذكره مع الجواب مرة واحدة فلا وجه للإعادة، ولأنه قد تبين بالبراهين القاطعة صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم فيلزم القطع بصحة كل ما يخبر عن وقوعه. وقيل: المراد أحق ما جئت به من القرآن والشرائع؟ وقيل: أي ما تعدنا من البعث والقيامة؟ فأمره الله تعالى أن يجيبهم بقوله: قُلْ إِي وَرَبِّي ومعناه نعم ولكنه مستعمل مع القسم البتة. وفائدة هذا القسم في جوابهم أن يكون قد أبرز الكلام معهم على الوجه المعتاد بينهم استمالة لقلوبهم. ومن الظاهر أن من أخبر عن شيء وأكده بالقسم فقد أخرجه عن حد الهزل وأدخله في باب الجد. فقد يكون هذا القدر مقنعا إذا لم يكن الخصم ألد. ثم أكد مضمون المقسم عليه بقوله وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فائتين العذاب. والغرض التنبيه على أن أحدا لا يدافع نفسه عما أراد الله وقضى. ثم زاد في التأكيد بقوله: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ الآية. وقد مر مثله في «آل عمران» و «المائدة» . وقوله: ظَلَمَتْ صفة لنفس. أما قوله: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ فقد قيل: الإسرار بمعنى الإظهار والهمزة للسلب أي أظهروا الندامة حينئذ لضعفهم وليس هناك تجلد. والمشهور أنه الإخفاء وسببه أنهم بهتوا حين عاينوا ما سلبهم قواهم فلم يطيقوا صراخا ولا بكاء، أو أخفوا الندامة من سفلتهم وأتباعهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم. وهذا التزوير في أول ما يرون العذاب، أما عند إحاطة النار بهم فلا يبقى هذا التماسك، أو أراد بالإخفاء الإخلاص لأن من أخلص في الدعاء أسره، وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم لأنهم أتوا بذلك في غير وقته وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ قيل: أي بين المؤمنين والكافرين. وقيل: بين الرؤساء والأتباع، وقيل: بين الكفار بإنزال العقوبة عليهم. وقيل: بين الظالمين من الكفار والمظلومين منهم فيكون في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 589 ذلك القضاء تخفيف من عذاب بعضهم وتثقيل لعذاب بعضهم وإن اشترك كلهم في العذاب. ثم ذكر آيتين أن له جميع ما قرر بحكم المالكية والقدرة على الإحياء والإماتة والإبداء والإعادة. وقيل: في وجه النظم أنه لما ذكر حديث الافتداء بيّن أنه ليس للظالم شيء يفتدي به فإن كل الأشياء ملكه وملكه. وقيل: إنه لما أقسم على حقية ما جاء به النبي وكان دليلا إقناعيا أراد أن يصححها بالبرهان النير فذكر أن كل ما في هذا العالم من نبات وحيوان وجسد وروح وظلمة ونور وعلوي وسفلي بسيط ومركب فهو ملكه، فلكونه قادرا على جميع الممكنات يقدر على إيصال الرحمة إلى أوليائه والعذاب إلى أعدائه، ولكونه منزها عن النقائص والآفات يكون بريئا عن الخلف في الوعد والإيعاد. وفي تصدير الكلام بكلمة «ألا» تنبيه للغافلين وإيقاظ للنائمين وتقريع للناظرين في الأسباب الظاهرة القائلين: البستان للأمير، والدار للوزير، والغلام لزيد والجارية لعمرو، ولا يعلمون أن كلها عوار وودائع. ولا بد يوما أن ترد الودائع واعلم أن الطريق إلى إثبات نبوة الأنبياء بأمور أحدها: إظهار المعجزة على يده مطابقا لدعواه، وقد قرره الله سبحانه في هذه السورة على أحسن الوجوه حيث قال: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى إلى تمام الآيتين. والثاني أن نعلم بعقولنا أن الاعتقاد الحق والعمل الصالح ما هو فكل من جاء ودعا الخلق إلى ذلك وادعى الرسالة وكان لنفسه قوّة تكميل الناقصين غلب على ظننا أنه النبي الحق، فأشار سبحانه إلى هذا الطريق بقوله: قل يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية. فوصف القرآن بصفات أربع: الأولى كونه موعظة والمراد بها الزجر عما لا ينبغي كالطبيب ينهى المريض أوّلا عما يضره. الثانية كونه شفاء لما في الصدور لحصول العقائد الحقة والأخلاق الحميدة فيها بدل أضدادها كالطبيب يعيد الصحة بدل المرض والأخلاط المحمودة بدل الأخلاط الفاسدة بالمعالجات الصائبة والأدوية النافعة. الثالثة حصول الهدى بسببه وذلك أنه إذا زالت الملكات الرديئة التي طبيعتها الظلمة وصارت مرآة النفس مصقولة محاذية لعالم القدس انطبع فيها نقش الملكوت وتجلى لها قدس اللاهوت. الرابعة كونه رحمة للمؤمنين وذلك بأن تصير النفس البالغة إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية بحيث تفيض أنوارها على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام هذا العالم. وإنما خص المؤمنين بهذه الرحمة لأن كل روح لم يتوجه إلى خدمة أرواح الأنبياء المطهرين لم ينتفع بأنوارهم كما أن كل جرم لم يقع في مواجهة قرص الشمس لا يستضيء بنورها. والحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 590 والأخلاق الرديئة بتحصيل أضدادها وهي الطريقة، والهدى عبارة عن ظهور نور الحق في قلوب الصدّيقين وهي الحقيقة، والرحمة إشارة إلى كونها بالغة في الكمال والإشراق إلى حيث تصير مكملة للباقين وهي النبوة. ولما أرشد سبحانه إلى الطريق الموصل إلى السعادات الباقية الروحانية ذكر أنها هي التي يجب أن يكمل الفرح بحصولها دون السعادات الفانية الجسمانية فقال: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ قال في الكشاف: أصل الكلام بفضل الله وبرحمته فليفرحوا فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا والتكرير للتقرير والتأكيد، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف أحد الفعلين لدلالة الآخر عليه. والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، وجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا، وأن يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك أي بمجيئها فليفرحوا. وعلى هذا يكون قُلْ اعتراضا. ومن قرأ بتاء الخطاب فمعناه على ما نقل عن زيد بن ثابت فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد هو خير مما يجمع الكفار، ونسبت هذه القراءة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو الأصل والقياس لأنه أدل على الأمر بالفرح وأشد تحريضا به. وإنما قلنا إنه الأصل لأن حكم الأمر في المخاطب والغائب واحد إلا أنه خفف أمر المخاطب بحذف اللام وبحذف حرف المضارعة لكثرة الاستعمال فاضطروا إلى همزة الوصل. ومن قرأ تجمعون بتاء الخطاب فإنه عنى المخاطبين والغائبين جميعا إلا أنه غلب الخطاب كما يغلب التذكير، أو كأنه أراد المؤمنين وفيه حث لهم على ترجيح الجواذب العقلية الروحانية على النوازع النفسانية الجسدانية لأنه لا معنى لهذه اللذات الجسمانية إلا دفع الآلام، والمعنى العدمي لا يستحق الفرح به، وبتقدير أن تكون صفات ثبوتية إلا أن التضرر بآلامها أقوى من الانتفاع بلذاتها فلا نسبة للذة الوقاع- وهي أقوى اللذات- إلى ألم القولنج وسائر الآلام القوية. وأيضا إن مداخل اللذات الجسمانية معظمها البطن والفرج، ومداخل الآلام كل جزء من أجزاء البدن. وأيضا اللذات الجسمانية لا بقاء لها مثلا إذا زال ألم الجوع زال الالتذاذ بالأكل، وكل ما لا بقاء له لا يشتد فرح العاقل بحصوله، ولو لم يحصل في لذة الأكل والوقاع إلا إتعاب الحواس والجوارح في مقدماتها ولواحقها لكفى. ومن المعلوم أن الفرح الحاصل بحدوث الولد لا يعادل الحزن الواقع عند موته وفيه قال المعري: إن حزنا في ساعة الموت ضعا ... ف سرور في ساعة الميلاد فتبين بهذه الوجوه أن الفرح إنما يجب أن يكون بالروحانيات الباقيات لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 591 بالجسمانيات الزائلات، أما المفسرون فقد قالوا: فضل الله الإسلام، ورحمته ما وعد عليه. وعن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تلا قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فقال: بكتاب الله والإسلام. ومثله ما روي عن أبي سعيد الخدري: فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله. ثم أشار إلى طريق ثالث في إثبات النبوة فقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية. وتقريره أنكم تحكمون بحل بعض الأشياء وبحرمة بعضها فإن كان هذا لمجرد التشهي فذلك طريق باطل مهجور بالاتفاق لأدائه إلى التنازع والتشاجر واختلاف الآراء وافتراق الأهواء، وإن كان لأنه حكم الله فيكم فبم عرفتم ذلك فإن كان بقول رسول أرسله إليكم فقد اعترفتم بصحة النبوة وإلا كان افتراء على الله. وفي الآية أيضا إشارة إلى فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم من تحريم السوائب والبحائر وقولهم: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الأنعام: 138] وغير ذلك. وما أَنْزَلَ الجملة في محل الرفع بالابتداء وخبره آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ وقُلْ مكرر للتأكيد والرابط محذوف، ومجموع المبتدأ والخبر متعلق ب أَرَأَيْتُمْ والمعنى أخبروني الذي أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا آلله أذن لكم في تحريمه وتحليله أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وعن الزجاج أن «ما» في ما أَنْزَلَ بمعنى الاستفهام منصوبا ب أَنْزَلَ وأنه مع معموله مفعول أَرَأَيْتُمْ معناه أخبرونيه. وعلى هذا يكون قُلْ آللَّهُ كلاما مستأنفا. ومعنى أنزل خلق وأنشأ كقوله: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: 6] وذلك أن كل ما في الأرض من زرع أو ضرع فإنه بسبب الماء النازل من السماء. قال في الكشاف: ويجوز أن تكون الهمزة في آللَّهُ للإنكار و «أم» منقطعة بمعنى «بل» أتفترون على الله تقريرا للافتراء. ثم قال: وَما ظَنُّ الَّذِينَ يعني أي شيء ظنهم في ذلك اليوم وما يصنع بهم فيه؟ وهو في صورة الاستعلام ولكن المراد تعظيم وعيد من يفتري على الله حيث أبهم أمره وكفى به زاجرا للمفتي في الأحكام بغير علم فليتق الله وليصمت لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ إذ أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بإرسال النبي وتعليم الشرائع وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ هذه النعمة بجحد نبيه أو مخالفته. التأويل: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ صم آذان القلوب أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ عمي أبصار البصائر. ويوم نحشرهم حشر العوام خروج أجسادهم من القبور إلى المحشر، وحشر الخواص خروج أرواحهم الأخروية من قبور أجسادهم الدنيوية بالسير والسلوك، وحشر الأخص خروجهم من قبور الأنانية الروحانية إلى هوية الربانية كما قال: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ [مريم: 85] كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار لأنه لا نسبة لمدة الدنيا إلى ما بين الأزل والأبد. يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ يعرفون تفاوت مقامات كل صنف من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 592 هؤلاء وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ بشرط الإيمان من نعيم الجنان ولقاء الرحمن أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فنبلغك أقصى المراتب ومقامك المحمود فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ رجوعا اضطراريا لا اختياريا ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ من خسارة الدارين وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ في الظاهر من الأنبياء وفي الباطن من إلهام الحق. لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ في استكمال السعادة والشقاوة بَياتاً أي في الأزل أَوْ نَهاراً أي يظهر الآن ما قدّر لكم في الأزل. قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ أي أقسم بربك الذي يريك أن وقوع الأمور الأخروية حق لأنك عبرت على الجنة والنار ليلة المعراج ظلمت بإفساد الاستعدادات. أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ الأرواح وأرض القلوب والنفوس أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ لأهل السعادة ولأهل الشقاوة في الأزل حَقٌّ ... هُوَ يُحيِي قلوب بعضهم بالمعرفة وَيُمِيتُ قلوب آخرين بالجهل، أو يحيي بالنور ويميت بالظلمة، أو يحيي بصفة الجمال ويميت بصفة الجلال يا أَيُّهَا النَّاسُ يا أهل النسيان قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ هي خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] وهو داء العشق وشفاء من ذلك الداء وهو توفيق إجابة بَلى لِما فِي الصُّدُورِ وهو القلب فإنها درة صدف الصدر وهدى عناية خاصة إذ الدعوة عامة والهداية خاصة. ورحمة اتصال إمداد الفيض إلى أن يبلغ غاية الكمال ويفوز بالوصول والوصال قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وهو إسماع الخطاب ورحمته وهو الإبقاء على مدلول الخطاب فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يجمعه أهل الدنيا في دنياهم ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ القلوب والأرواح فضلا عن النفوس والأشباح من الواردات والشواهد فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً على أنفسكم وَحَلالًا على غيركم أي حدثت أنفسكم بأن تحصيل هذه السعادات ونيل تلك الكرامات ليس من شأننا وإنما هو من شأن الأنبياء وخواص الأولياء قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أن تعرضوا عن هذه المقامات وتحيلوها إلى غيركم وتركنوا إلى الدنيا وزخارفها أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ بأن الدعوة اختصت بهم دوننا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ بتسوية الاستعداد الفطري. [سورة يونس (10) : الآيات 61 الى 70] وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 593 القراآت: شَأْنٍ بغير همز حيث كان: أبو عمرو غير شجاع والأعشى ويزيد والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف يَعْزُبُ بالكسر حيث كان: علي. الباقون بالضم. وَلا أَصْغَرَ وَلا أَكْبَرَ بالرفع فيهما: حمزة وخلف وسهل ويعقوب والمفضل. الآخرون بالنصب. الوقوف: تُفِيضُونَ فِيهِ ط مُبِينٍ هـ يَحْزَنُونَ هـ ج لأن الَّذِينَ يصلح صفة ل أَوْلِياءَ ويصلح نصبا أو رفعا على المدح فيوقف على يَتَّقُونَ أو مبتدأ خبره هُمُ الْبُشْرى فلا يوقف على يَتَّقُونَ فِي الْآخِرَةِ طكَلِماتِ اللَّهِ طْعَظِيمُ هـ ط لأنه لو وصل لأوهم أن الضمير عائد إلى أَوْلِياءَ وقول الأولياء لا يحزن الرسول. قَوْلُهُمْ م لئلا يوهم أن قوله: إِنَّ الْعِزَّةَ مقول الكفار. جَمِيعاً ط الْعَلِيمُ هـ الْأَرْضِ ط شُرَكاءَ ط يَخْرُصُونَ هـ مُبْصِراً ط يَسْمَعُونَ هـ سُبْحانَهُ ط الْغَنِيُّ ط وَما فِي الْأَرْضِ ط بِهذا ط ما لا تَعْلَمُونَ هـ لا يُفْلِحُونَ هـ ط، يَكْفُرُونَ هـ. التفسير: لما بين فساد طريقة الكفار في عقائدهم وأحكامهم بيّن كونه سبحانه عالما بعمل كل أحد وبما في قلبه من الدواعي والصوارف والرياء والإخلاص وغير ذلك فقال: وَما تَكُونُ يا محمد فِي شَأْنٍ أي أمر من الأمور. وأصله الهمز بمعنى القصد من شأنت شأنه إذا قصدت قصده. قال ابن عباس: أي في شأن من أعمال البر. وقال الحسن: في شأن الدنيا وحوائجها و «ما» في وَما تَكُونُ وما يتلوا نافية والضمير في مِنْهُ إما لله عز وجل أي نازل من عنده، وإما للشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شؤون رسول الله صلّى الله عليه وسلم بل هو معظم شأنه ولهذا أفرد بالذكر كقوله: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] وإما للقرآن والإضمار قبل الذكر تفخيم له كأنه قيل: وما تتلو من التنزيل من قرآن لأن كل جزء منه قرآن. ثم عمم الخطاب فقال: وَلا تَعْمَلُونَ أيها المكلفون مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 594 عَمَلٍ أيّ عمل كان إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً شاهدين رقباء والجمع للتعظيم أو لأن المراد الملائكة الموكلون إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ الإفاضة الشروع في العمل على جهة الانصباب والاندفاع ومنه قوله: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [البقرة: 198] قيل: شهادة الله علمه فيلزم أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وجودها. والجواب أن الشهادة علم خاص ولا يلزم منه امتناع تقدم العلم المطلق على الشيء كما لو أخبرنا الصادق أن زيدا يفعل كذا غدا فنكون عالمين بذلك لا شاهدين. ثم زاد في التعميم فقال: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ أي لا يبعد ولا يغيب ومنه كلأ عازب أي بعيد، والرجل العزب لبعده عن الأهل. ومعنى مِثْقالِ ذَرَّةٍ قد مر في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: 140] . وذلك في سورة النساء. والمقصود أنه لا يغيب عن علمه شيء أصلا وإن كان في غاية الحقارة. وإنما قال هاهنا فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ خلاف ما في سورة سبأ وهو المعهود في القرآن لأن الكلام سيق لشهادته على شؤون أهل الأرض فناسب أن يقدم ذكر ما في الأرض، هذا بعد تسليم أن الواو تفيد الترتيب. ثم بالغ في تعميم علمه فقال: وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ من قرأ بالنصب على نفي الجنس أو بالرفع على الابتداء ليكون كلاما برأسه فلا إشكال، وأما من جعله منصوبا معطوفا على لفظ مثقال لأنه في موضع الجر بالفتح لامتناع الصرف، أو جعله مرفوعا معطوفا على محل مِنْ مِثْقالِ لأنه فاعل يَعْزُبُ فأورد عليه الإشكال وهو أنه يصير تقدير الآية لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب، ويلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجا عن علم الله وإنه محال. ويمكن أن يجاب عنه بأن الأشياء المخلوقة قسمان: قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير واسطة كخلق الملائكة والسموات والأرض، وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأول من حوادث عالم الكون والفساد، ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة واجب الوجود، فالمراد من الآية أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده شيء في الأرض ولا في السماء إلا هو في كتاب مبين. وهو كتاب أثبت فيه صور تلك المعلومات، والغرض الرد على من يزعم أنه تعالى غير عالم بالجزئيات. أو نقول: إن الاستثناء منقطع بمعنى لكن هو في كتاب مبين. وذكر أبو علي الجرجاني صاحب النظم أن «إلا» بمعنى الواو على أن الكلام قد تم عند قوله: وَلا أَكْبَرَ ثم وقع الابتداء بكلام آخر فقال: إِلَّا فِي كِتابٍ أي وهو أيضا في كتاب مُبِينٍ والعرب تضع «إلا» موضع واو النسق كثيرا ومنه قوله: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [النمل: 11] يعني ومن ظلم. وقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني والذين ظلموا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 595 ثم إنه لما بين إحاطته بجميع الأشياء وكان في ذلك تقوية قلوب المطيعين وكسر قلوب المذنبين أتبعها تفصيل حال كل فريق فقال: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ الآية. والتركيب يدل على القرب فكأنهم قربوا منه تعالى لاستغراقهم في نور معرفته وجماله وجلاله. قال أبوبكر الأصم: هم الذين تولى الله هدايتهم بالبرهان وتولوا القيام بحق عبوديته والدعوة إليه. وقال المتكلمون: ولي الله من يكون آتيا بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل، ويكون آتيا بالأعمال الصالحة الواردة في الشريعة وعنوا بذلك قوله تعالى في وصفهم الَّذِينَ آمَنُوا وهو إشارة إلى كمال حال القوة النظرية. وَكانُوا يَتَّقُونَ وهو إشارة إلى كمال حال القوة العملية. وهاهنا مقام آخر وهو أن يحمل الإيمان على مجموع الاعتقاد والعمل ويكون الولي متقيا في كل الأحوال، أما في موقف العلم فبأن يقدس ذاته عن أن يكون مقصورا على ما عرفه أو يكون كما وصفه، وأما في مقام العمل فأن يرى عبوديته وعبادته قاصرة عما يليق بكبريائه وجلاله فيكون أبدا في الخوف والدهشة. وأما نفي الخوف والحزن عنهم فقد مر تفسيره في أوائل سورة البقرة. وعن سعيد بن جبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل من أولياء الله؟ فقال: هم الذين يذكر الله برؤيتهم. يعني أن مشاهدتهم تذكر أمر الآخرة لما فيهم من آثار الخشوع والإخبات والسكينة. وعن عمر سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله. قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم. قال: هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فو الله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس. ثم قرأ الآية» «1» . يحكى أن إبراهيم الخواص كان في البادية ومعه واحد يصحبه، فاتفق في بعض الليالي ظهور حالة قوية وكشف تام له فجلس في موضعه وجاءه السباع ووقفوا بالقرب منه والمريد تسلق على رأس شجرة خوفا منها والشيخ كان فارغا من تلك السباع، فلما أصبح زالت تلك الحالة. ففي الليلة الثانية وقعت بعوضة على بدنه فأظهر الجزع من تلك البعوضة فقال المريد: كيف تليق هذه الحالة بما قبلها؟ فقال الشيخ: تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي، فلما غاب ذلك الوارد فإنا أضعف خلق الله. ثم أخبر الله سبحانه عنهم بأن هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ فقيل: بشراهم في الدنيا ما   (1) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب 53. أحمد في مسنده (5/ 229، 239، 241) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 596 بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ [البقرة: 25] يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ [التوبة: 21] وقيل: إنها عبارة عن محبة الناس لهم وعن ذكرهم إياهم بالثناء الحسن. عن أبي ذر رضي الله عنه قلت: يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس. قال: تلك عاجل بشرى المؤمن. والدليل العقلي عليه أن الكمال محبوب لذاته فكل من اتصف بصفة الكمال كان محبوبا لكل أحد إذا أنصفه ولم يحسده، ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب في معرفة الله معرضا عما سواه. ونور الله مخدوم بالذات ففي أي قلب حصل كان مخدوما بالطبع لما سوى الله. وقيل: هي الرؤيا الصالحة. وعنه صلّى الله عليه وسلم: «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» «1» وسبب تخصيص هذا العدد أن النبي صلّى الله عليه وسلم استنبىء بعد أربعين سنة إلى كمال عمره- وهو ثلاث وستون سنة- وكان يأتيه الوحي أوّلا بطريق المنام ستة أشهر. ونسبة هذه المدة إلى ثلاث وعشرين سنة التي هي جميع مدة الوحي نسبة الواحد إلى ستة وأربعين. وأما أن الرؤيا الصادقة توجب لبشارة فلأنها دليل صفاء القلب واتصال النفس إلى عالم القدس والاطلاع على بعض ما هنالك. وعن عطاء: البشرى في الدنيا هي البشارة عند الموت تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فصلت: 30] وأما البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرأون منها إلى آخر أحوالهم في الجنة تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده وقد مر مثله في «الأنعام» لِكَ إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين، وكلتا الجملتين اعتراض ولا يجب أن يقع بعد الاعتراض كلام. تقول: فلان ينطق بالحق والحق أبلج، قال القاضي: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ يدل على أنها قابلة للتبديل، وكل ما يقبل العدم امتنع أن يكون قديما ومحل المنع ظاهر فإن نفي شيء عن شيء لا يلزم منه إمكانه له كقول الموحد: لا شريك لله. ثم سلى رسوله عن صنيع الفريق المكذبين فقال: وَلا يَحْزُنْكَ أو نقول: إنه كما أزال الحزن عنه في الآخرة بقوله: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ أزال الحزن عنه في الدنيا بقوله: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ أي تكذيبهم لك وتهديدهم بالخدم   (1) رواه البخاري في كتاب التعبير باب 2، 4، 10. مسلم في كتاب الرؤيا حديث 6، 7، 8، 9. أبو داود في كتاب الأدب باب 88. الترمذي في كتاب الرؤيا باب 1، 2، 6، ابن ماجه في كتاب الرؤيا باب 1، 3، 9. الدارمي في كتاب الرؤيا باب 2. الموطأ في كتاب الرؤيا حديث 1، 3. أحمد فى مسنده (2/ 18، 50) . [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 597 والأموال وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك، وبالجملة كل ما يتكلمون به في شأنك من المطاعن والقوادح. ثم استأنف قوله: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ كأنه قيل: ما لي لا أحزن؟ فقيل: لأن العزة لله. جَمِيعاً إن الغلبة والقهر له ولحزبه كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] وقرىء «أن» بالفتح لا على أنه بدل فإن ذلك يؤدي إلى أن القوم كانوا يقولون إن العزة لله جميعا والرسول كان يحزنه ذلك وهذا كفر، بل لأن التقدير لأن العزة على صريح التعليل، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم واثقا بوعد الله تعالى في جميع الأحوال وإن كان قد يقع في بعض الحروب والوقائع انكسار وهزيمة فإن الأمور بخواتيمها. ثم أكد الوعد بقوله: هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع ما يقولون ويعلم ما يدبرون فيكفيك شرهم. ثم زاد في التأكيد مع إشارة إلى فساد عقيدة المشركين فقال: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فخصص ذوي العقول إما للتغليب وإما لأن الآية سيقت لبيان فساد عقائد أهل الشرك، فذكر أن العقلاء المميزين- وهم الملائكة والثقلان- كلهم عبيد له ولا يصلح أحد منهم لأن يكون شريكا له فما وراءهم ممن لا يسمع ولا يعقل كالأصنام أولى بأن لا يكون ندا له. ثم أكد هذا المعنى بقوله وَما يَتَّبِعُ «ما» نافية ومفعول يَدْعُونَ محذوف أي ليس يتبع الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ شركاء في الحقيقة إنما هي أسماء لا مسميات لها لأن شركة الله في الربوبية محال. وإنما حذف أحد المكررين للدلالة، فالأول مفعول يَدْعُونَ والثاني مفعول يَتَّبِعُ ويجوز أن تكون «ما» استفهامية بمعنى أي شيء يتبعون. وشُرَكاءَ على هذا نصب ب يَدْعُونَ ولا حاجة إلى إضمار. ويجوز أن تكون «ما» موصولة معطوفة على «من» كأنه قيل: ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي وله شركاؤهم. ثم زاد في التأكيد فقال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وقد مر مثله في سورة الأنعام. ثم ذكر طرفا من آثار قدرته مع إشارة إلى بعض نعمه فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ طلبا للراحة وَالنَّهارَ مُبْصِراً ذا إبصار باعتبار صاحبه أي جعله مضيئا لتهتدوا به في حوائجكم وهذان طرفان من منافع الليل والنهار إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تأمل وتدبر وقبول. ثم حكى نوعا آخر من أباطيلهم فقال: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ وقد مر في «البقرة» . ولما نزه نفسه عن اتخاذ الولد برهن على ذلك بقوله: هُوَ الْغَنِيُّ وتقريره أن الغنى التام يوجب امتناع كونه ذا أجزاء، وحصول الولد لا يتصور إلا بعد انفصال جزء منه يكون كالبذر بالنسبة إلى النبات، وأيضا إنما يحتاج إلى الولد وإلى توليد المثل الذي يقوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 598 مقامه من يكون بصدد الانقضاء والانقراض فالأزلي القديم لا يفتقر إلى الولد ولا يصح له مثل. وأيضا الغني لا يفتقر إلى الشهوة ولا إلى إعانة الولد، ولو صح أن يتولد منه مثله لصح أن يكون هو أيضا متولدا من مثله ولا يشكل هذا بالولد الأول من الأشخاص الحيوانية فإن المدعي هو الصحة لا الوقوع. ثم بالغ في البرهان فقال: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وإذا كان الكل ملكه وعبيده فلا يكون شيء منها ولدا له لأن الأب يساوي الابن في الطبيعة بخلاف المالك. ثم زيف دعواهم الفاسدة فقال: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أي ما عندكم من حجة بهذا القول. قال في الكشاف: والباء حقها أن تتعلق بقوله: إِنْ عِنْدَكُمْ على أن يجعل القول مكانا للسلطان كقولك: ما عندكم بأرضكم موز. كأنه قيل: إن عندكم فيما تقولون سلطان. أقول: كأنه نظر إلى أن استعمال الباء بمعنى «في» أكثر منه بمعنى «على» . ثم وبخهم على القول بلا دليل ومعرفة فقال: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. ثم أوعدهم على افترائهم فقال: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ الآية. ثم بين أن ذلك المفتري إن فاز بشيء من المطالب العاجلة والمآرب الخسيسة من رياسة ظاهرة وغرض زائل فذلك مَتاعٌ قليل فِي الدُّنْيا. ثم لا بد من الموت والرجوع إلى حكم الله ثم حصول الشقاء المؤبد والعذاب الأليم أعاذنا الله منه. التأويل: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ من النبوة وَما تَتْلُوا من شأن النبوة مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ يا أمة محمد صلّى الله عليه وسلم مِنْ عَمَلٍ من الأعمال من قبول القرن ورده من مثقال ذرة مما أظهر من حركة في أرض البشرية بعمل من أعمال الخير والشر. وَلا فِي السَّماءِ أي في سماء القلوب بالنيات الصالحة والفاسدة وَلا أَصْغَرَ من الحركة وهو القصد دون الفعل وَلا أَكْبَرَ من النية وهو العمل أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ الذين هم أعداء النفوس لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من تمني النظر بنفوسهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما فاتهم من شهوات النفوس للعداوة القائمة بينهم هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالوقائع والمبشرات فِي الْآخِرَةِ بكشف القناع عن جمال العزة. تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ لأحكامه الأزلية حيث قال للولي كن وليا وللعدوّ كن عدوا وَلا يَحْزُنْكَ يا رسول القلب قول مشركي النفوس في تزيين شهوات الدنيا ولذاتها في نظرك إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً يعز من يشاء في الدنيا وفي الآخرة جميعا فلا يمنعه نعيم الدنيا عن نعيم الآخرة بل ربما يعينه على الآخرة كما جاء في الحديث الرباني «وإن من عبادي من لا يصلحه الا الغنى فإن أفقرته يفسده ذلك» أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي القلوب السماوية والنفوس الأرضية إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي يظنون أنهم يتبعون شركاء الدنيا والهوى باختيارهم لا باختيارنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 599 هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ليل البشرية لتستريحوا فيه من تعب المجاهدات، وتزول عنكم الملالة والكلالة ونهار الروحانية ذا ضياء وبصيرة يبصر بها مصالح السلوك والترقي في المقامات لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ حقائق القرآن بسمع القلوب الواعية. ثم أخبر عن الشبهات التي تقع في أثناء السلوك قالوا أي مشركو النفوس عند تجلي الروح بالخلافة في صفة الربوبية معترفا بتجلي صفة إبداع الحق ومبدعة الروح مع كمال قربه واختصاصه بالحق عند بقاء تصرفات الخيال حتى تثبت الأبوة والبنوة بين الله وبين العبد، إذ البنوة أخص التعلقات بالوالد. وهذا الكشف والابتداء هو مبتدأ ضلالة اليهود والنصارى لَهُ ما فِي السَّماواتِ الروحانية من الكشوف والأحوال وَما فِي الْأَرْضِ البشرية من الوهم والخيال وما ينشأ من الشبهات والآفات إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ هم النفوس الأمارة بالسوء لا يُفْلِحُونَ لا يظفرون بكشف الحقائق ثُمَّ نُذِيقُهُمُ لأن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فأحسوا بالألم والله أعلم. [سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 92] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 600 القراآت: وَشُرَكاؤُكُمْ بالرفع: يعقوب إِنْ أَجْرِيَ بفتح الياء حيث كان: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص ويكون لكما بياء الغيبة: حماد ويزيد وزيد. الباقون بتاء التأنيث آلسحر بالمد: يزيد وأبو عمرو أن تبويا بالياء: الخراز وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة. الآخرون بالهمز. لِيُضِلُّوا بضم الياء: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل وَلا تَتَّبِعانِّ بتخفيف النون: ابن عامر غير الحلواني عن هشام. تَتَّبِعانِّ خفيفة التاء والنون: ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان، وفي كلتا القراءتين خففت النون ثم كسرت لالتقاء الساكنين تشبيها بنون التثنية. الباقون والحلواني عن هشام تَتَّبِعانِّ بتشديدها في الحالين منت أنه بكسر الهمزة على الاستئناف بدلا من آمَنْتُ: حمزة وعلي وخلف. الآخرون بالفتح. ننجيك من الإنجاء: سهل ويعقوب وقتيبة. والآخرون بالتشديد. الوقوف: نَبَأَ نُوحٍ م لئلا يوهم أن «إذ» ظرف لقوله: اتْلُ بل التقدير: واذكر إذ قال. وَلا تُنْظِرُونِ هـ مِنْ أَجْرٍ ط عَلَى اللَّهِ ج لأن التقدير وقد أمرت مِنَ الْمُسْلِمِينَ هـ بِآياتِنا ج للفاء ولأن أمر النظر للعبرة يقتضي التثبيت للتدبر الْمُنْذَرِينَ هـ مِنْ قَبْلُ ط الْمُعْتَدِينَ هـ مُجْرِمِينَ هـ مُبِينٌ هـ لَمَّا جاءَكُمْ ط بناء على أن التقدير أتقولون للحق لما جاءكم هو سحر والاستفهام في قوله: أَسِحْرٌ يستحق الابتداء وسيجيء له مزيد بيان هذا ط للفصل بين الأخبار والاستخبار السَّاحِرُونَ هـ فِي الْأَرْضِ ط بِمُؤْمِنِينَ هـ عَلِيمٍ هـ مُلْقُونَ هـ ما جِئْتُمْ بِهِ ط لمن قرأ آلسحر مستفهما السِّحْرُ ط سَيُبْطِلُهُ ط الْمُفْسِدِينَ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ط فِي الْأَرْضِ ج لاتصال الكلام الْمُسْرِفِينَ هـ مُسْلِمِينَ هـ تَوَكَّلْنا ج للعدول مع اتحاد القائل الظَّالِمِينَ هـ لا للعطف. الْكافِرِينَ هـ ج وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ط لأن قوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 601 وَبَشِّرِ خطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلم وإن أريد به موسى فلا بد من العدول الْمُؤْمِنِينَ هـ الدُّنْيا لا لتعلق قوله: لِيُضِلُّوا بقوله: آتَيْتَ ورَبَّنا تكرار للأول لأجل التضرع. عَنْ سَبِيلِكَ ج لابتداء النداء مع اتحاد القائل الْأَلِيمَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ وَعَدْواً ط الْغَرَقُ لا لأن قال جواب «إذا» الْمُسْلِمِينَ هـ الْمُفْسِدِينَ هـ آيَةً ط لَغافِلُونَ هـ. التفسير: لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات والجواب عن الشبهات شرع في قصص الأنبياء المتقدمين، لأن نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب أقرب إلى انشراح الصدور ودفع الملال مع أن في ذكرها تسلية للرسول وعبرة للمعتبر إلى غير ذلك من الفوائد التي سبق ذكرها في «الأعراف» . ومعنى كبر ثقل وشق كقوله: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ [البقرة: 45] وفي مقامي وجوه منها: أنه زيادة كقولك: فعلت كذا لمكان فلان أي لأجله، وكقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ [الرحمن: 46] أي ربه ومثله قولهم: فلان ثقيل الظل. ومنها أن يراد به المكث أي شق عليكم مكثي بين أظهركم مددا طوالا ألف سنة إلا خمسين عاما، ولا شك أن من ألف طريقة ويدعى إلى خلافها ولا سيما إذا تكرر الدعاء كان ذلك موجبا للتنفر والثقل، وخاصة إذا كانت تلك الطريقة مقتضاة النفس والطبيعة الداعيتين إلى اللذات العاجلة. ومنها أن يكون المقام بمعنى القيام لأنهم كانوا يقومون على أرجلهم في الوعظ والتذكير ليكون مكانهم بينا وكلامهم مسموعا كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائما وهم قعود. وجواب الشرط إما قوله: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ أي إن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام على إيذائي وأنا لا أقابل ذلك الشر بالتوكل على الله فإن ذلك هجيراي قديما وحديثا وإما قوله: فَأَجْمِعُوا وقوله: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ اعتراض كقولك: إن كنت أنكرت عليّ شيئا فالله حسبي فاعمل ما تريد. ولا يحسن أن يقال: إن الفاء الثانية عاطفة للاختلاف طلبا وخبرا، ومعنى فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ اعزموا عليه من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه قاله الفراء. وقال أبو الهيثم: أجمع أمره أي جعله جميعا بعد ما كان متفرقا وتفرقه أنه يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا، فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه أي جعله جميعا. فهذا هو الأصل في الإجماع ثم صار بمعنى العزم حتى وصل ب «على» فقيل: أجمعت على الأمر أي عزمت عليه والفصيح أجمعت الأمر، والمراد بالأمر وجوه مكرهم وكيدهم. وانتصب شُرَكاءَكُمْ على المفعول معه أي مع شركائكم. ومن قرأ بالرفع جعله عطفا على الضمير المتصل، وإنما يحسن ذلك من غير تأكيد بالمنفصل للفصل. والمراد بالشركاء إما من هم على مثل قولهم ودينهم، وإما الأصنام. وحسن إسناد الإجماع إليهم على وجه التهكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 602 كقوله: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ [الأعراف: 195] واعلم أنه عليه السلام قال في أول الأمر فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ ليدل على أنه واثق بوعد الله جازم بأن تهديدهم إياه بالقتل لا يضره، ثم أورد عليهم ما يدل على صحة دعواه فقال: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ كأنه قال: حصلوا كل ما تقدرون عليه من الأسباب المؤدية الى مطلوبكم غير مقتصرين على ذلك بل ضامين إلى أنفسكم شركاءكم الذين تزعمون أن حالكم يقوى بمكانهم. ثم ضم إلى ذلك قيدا آخر فقال: ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً قال أبو الهيثم: أي مبهما من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم أي التبس. وقال الليث: لقي غمة من أمره إذا لم يهتد له. وقال الزجاج: أي ليكن أمركم الذي أجمعتموه ظاهرا منكشفا أي تجاهرونني بالإهلاك. ويحتمل أن يراد بهذا الأمر العيش والحال أي أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة أي غما وهما والغم والغمة كالكرب والكربة. ثم زاد قيدا آخر فقال: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ ذلك الأمر الذي تريدون بي أي أدوا إليّ قطعه واحكموا بصحته وإمضائه. وعن القفال أن فيه تضمينا والمعنى ألقوا إليّ ما استقر عليه رأيكم محكما مفروغا منه. ثم ختم الكلام بقوله: وَلا تُنْظِرُونِ أي عجلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير إهمال، ومعلوم أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عمن بلغ في التوكل الغاية القصوى. ثم بين أن كل ما أتى به فإن ذلك فارغ من الطمع الدنيوي والغرض الخسيس فقال: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن نصحي وتذكيري فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فما كان عندي ما ينفركم عني وتتهمونني لأجله من طمع أو غرض عاجل إِنْ أَجْرِيَ ليس أجري إِلَّا عَلَى اللَّهِ أي ما نصحتكم إلا لوجهه ولا يثيبني إلا هو. وفي الآية نكتة كأنه أراد أنه لا يخاف منهم بوجه من الوجوه لا بإيصال الشر وذلك قوله: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ إلى آخره. ولا بانقطاع الخير منهم وذلك قوله: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ الآية. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي سواء قبلتم دين الإسلام أو لم تقبلوه فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام، أو مأمور بالاستسلام لكل ما ألقى من قبل هذه الدعوة. فَكَذَّبُوهُ بقوا على تكذيبهم إلى آخر المدة المتطاولة. فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ قد ذكرنا في «الأعراف» الفرق بين هذه العبارة وبين ما هنالك وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ يخلفون الهالكين بالطوفان فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ تعظيم لشأن إهلاكهم وتحذير لغيرهم وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ من بعد نوح رُسُلًا كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالحجج الواضحات والمعجزات الباهرات فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ الآية وقد مر تفسيرها في أواسط الأعراف إلا أنه زيد هاهنا لفظة «به» فقيل: لتناسب ما قبله وهو كَذَّبُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 603 بِآياتِنا وكذلك في «الأعراف» راعى المناسبة لأن ما قبله وَلكِنْ كَذَّبُوا [الآية: 96] بغير الباء ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ بعد الرسل أو الأمم بِآياتِنا يعني الآيات التسع فَاسْتَكْبَرُوا عن قبولها وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ كفارا ذوي آثام ولذلك اجترءوا على رد الآيات. أما قوله: أَسِحْرٌ هذا فليس بمقول لقوله: أَتَقُولُونَ لأنهم قطعوا في قوله: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ بأنه سحر، وما استفهموا ولكن الوجه فيه أن يقال: إن القول هاهنا بمعنى الطعن والعيب كالذكر في قوله: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الأنبياء: 60] ومنه قولهم: فلان يخاف القالة أي مطاعن الناس فكأنه قال: أتعيبون الحق وتطعنون فيه؟ ثم أنكر عليهم قولهم فقال: أَسِحْرٌ هذا أو يقال: مفعول تقولون محذوف وهو قولهم إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ أو يقال: جملة قوله أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ حكاية لكلامهم كأنهم قالوا منكرين لما جاءا به أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ولا يفلح السحرة، لأن حاصل صنيعهم تخييل وتمويه قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا التركيب يدل على الالتواء ومنه الفتل والالتفات «افتعال» من اللفت وهو الصرف واللي وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ أي الملك والعز في أرض مصر. قال الزجاج: سمى الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا. وأيضا فالنبي صلّى الله عليه وسلم إذا اعترف القوم بصدقه صارت مقاليد أمر أمته إليه وصار أكبر القوم. وقيل: لأن الملوك موصوفون بالكبر والحاصل أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين: التمسك بالتقليد وهو عبادة آبائهم الأصنام، والحرص في طلب الدنيا والجد في بقاء الرياسة. ويجوز أن يقصدوا ذمهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا. ثم صرحوا بالتكذيب قائلين وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ ثم حاولوا المعارضة وقد مرت تلك القصة في «الأعراف» . أما قوله: ما جِئْتُمْ بِهِ فمعناه الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحرا من آيات الله. قال الفراء: وإنما قال السحر بالألف واللام لأنه جواب الكلام الذي سبق كأنهم قالوا لموسى ما جئت به سحر. فقال موسى: بل ما جئتم به السحر. فوجب دخول الألف واللام لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة. يقول الرجل لغيره: لقيت رجلا. فيقول له: من الرجل؟ ولو قال: من رجل؟ لم يقع في وهمه أنه يسأل عن الرجل الذي ذكره. ومن قرأ آلسحر بالاستفهام فما استفهامية مبتدأ وجِئْتُمْ بِهِ خبره كأنه قيل أي شيء جئتم به. ثم قال على وجه التوبيخ السحر أي أهو لسحر أو آلسحر جئتم به إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ بإظهار المعجزة عليه إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ لا يؤيده بجميل الخاتمة وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ يثبته بِكَلِماتِهِ بمواعيده أو بما سبق من قضائه أو بأوامره فَما آمَنَ لِمُوسى أي في أول أمره إِلَّا ذُرِّيَّةٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 604 مِنْ قَوْمِهِ قال ابن عباس: لفظة الذرية يعبر بها عن القوم على وجه التحقير، ولا ريب أن المراد هاهنا ليس هو الإهانة، فالمراد التصغير بمعنى قلة العدد. وقيل: المراد أولاد من أولاد قومه كأنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف من فرعون أن يصرفهم عن دينهم بتسليط أنواع البلاء عليهم. وقيل: إن الذرية أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل. وقيل: الذرية مؤمن آل فرعون وآسية امرأته وخازنه وامرأة خازنه وماشطته، فالضمير في قَوْمِهِ على هذا لفرعون وعوده إلى موسى أظهر لأنه أقرب المذكورين، ولما نقل أن الذين آمنوا به كانوا من بني إسرائيل والضمير في ملئهم إما لفرعون على جهة التعظيم لأنه ذو أصحاب يأتمرون له، أو المراد آل فرعون بحذف المضاف، أو للذرية يعني أشراف بني إسرائيل لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم يدل على ذلك قوله: أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي يعذبهم فرعون. ثم أكد أسباب الخوف بقوله: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ لغالب فِي الْأَرْضِ أرض مصر وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ في القتل والتعذيب أو لمن المجاوزين الحد لأنه من أخس العبيد فادعى الربوبية العليا وَقالَ مُوسى تثبيتا لقومه إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ صدقتم به وبآياته فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا خصوه بتفويض أموركم إليه إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ قال العلماء: المؤخر في مثل هذه السورة مقدم في المعنى نظيره: إن ضربك زيد فاضربه إن كانت بك قوة. والمراد إن كانت بك قوة فإن ضربك زيد فاضربه فكأنه قيل لهم في حال إسلامهم إن كنتم منقادين لتكاليف ربكم بالإخلاص مصدقين له بالتحقيق عارفين بأنه واجب الوجود لذاته وما سواه محدث مخلوق مقهور تحت حكمه وتدبيره، ففوضوا جميع أموركم إليه وحده. فَقالُوا مؤتمرين لموسى عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا ثم اشتغلوا بالدعاء قائلين رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً أي موضع فتنة لهم. والمراد بالفتنة تعذيبهم أو صرفهم عن دينهم، أو المراد لا تفتن بنا فرعون وقومه لأنك لو سلطتهم علينا صار ذلك شبهة لهم في أنا لسنا على الحق. ويجوز أن تكون الفتنة بمعنى المفتون أي لا تجعلنا مفتونين بأن تمكنهم من صرفنا عن الدين الحق، ولما قدموا التضرع إلى الله في أن يصون دينهم عن الفساد أتبعوه سؤال عصمة أنفسهم فقال: وَنَجِّنا الآية. وفي ذلك دليل على أن عنايتهم بمصالح الدين فوق اهتمامهم بمصالح النفس، وهكذا يجب أن تكون عقيدة كل مسلم والله الموفق. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً تبوّأ بالمكان اتخذه مباءة ومرجعا مثل توطنه إذا اتخذه وطنا. واختلف المفسرون في البيوت فمنهم من ذهب إلى أنها المساجد كقوله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 605 [النور: 36] فالمراد من قوله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أن يجعل تلك البيوت مساجد متوجهة نحو القبلة وهي جهة بيت المقدس أو الكعبة على ما نقل عن ابن عباس. وقال الحسن: الكعبة قبلة كل الأنبياء. وإنما وقع العدول عنه بأمر الله تعالى في أيام نبينا صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة. ومنهم من قال: إنها مطلق البيوت. ثم قيل: المراد واجعلوا دوركم قبلة أي صلوا في بيوتكم. وقيل: المراد اجعلوا بيوتكم متقابلة، أما السبب في اتخاذ هذه البيوت فأن يصلوا في بيوتهم خفية خيفة من الكفرة كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام بمكة، أو المقصود الجمعية واعتضاد البعض بالبعض. وقيل: على التفسير الأول لما أظهر فرعون العداوة الشديدة أمر الله موسى وهارون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء وتكفل أن يصونهم عن شرهم. وإنما ثنى الخطاب أوّلا ثم جمع لأن اختيار المكان للعبادة مما يفوض إلى الأنبياء فخوطب موسى وهارون بذلك، ثم جعل الخطاب عاما لهما ولقومهما لأن استقبال القبلة وإقامة الصلاة واجب على الجمهور. ثم خص موسى عليه السلام بالتبشير في قوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ لأن الغرض الأصلي من جميع العبادات هو هذه البشارة فلم تكن لائقة إلا بحال موسى الذي هو الأصل في الرسالة، وفيه تعظيم لشأن البشارة والمبشر (قال الضعيف مؤلف الكتاب) قد سنح في خاطري وقت هذه الكتابة أن الخطاب في قوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ لنبينا صلى الله عليه وسلم على طريقة الالتفات والاعتراض. ومضمون البشارة أنه جعلت الأرض كلها لهذه الأمة مسجدا وطهورا دون سائر الأمم فإنهم أمروا باتخاذ موضع يرجعون إليه البتة للعبادة والله أعلم بمراده. ثم إن موسى عليه السلام لما بالغ في إظهار المعجزات القاهرة، ورأى القوم مصرين على الجحود والإنكار أخذ يدعو عليهم، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أوّلا سبب الدعاء عليه فلهذا قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فالزينة عبارة عن الصحة والجمال واللباس والدواب وأثاث البيت والأموال ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق. عن ابن عباس كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة. قالت الأشاعرة: اللام في قوله: لِيُضِلُّوا لام التعليل كأن موسى عليه السلام قال: يا رب إنك أعطيتهم هذه الزينة والأموال لأجل أن يضلوا، ففيه دلالة على أنه تعالى تسبب لضلالهم وأراد منهم ذلك وإلا لم يهيىء أسبابه. ثم شرع في الدعاء عليهم بالطمس على أموالهم. والطمس المحو أو المسخ كما مر في سورة النساء في قوله سبحانه: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً [النساء: 47] وبالشد على قلوبهم ومعناه الاستيثاق والختم. وقالت المعتزلة: قوله لِيُضِلُّوا دعاء بلفظ الأمر للغائب، دعا عليهم بثلاثة أمور: بالضلال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 606 وبالطمس وبالشد. كأنه لما علم بالتجربة وطول الصحبة أن إيمانهم كالمحال أو علم ذلك بالوحي اشتد غضبه عليهم فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره قائلا ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال وليطبع الله على قلوبهم كما يقول الأب المشفق لولده إذا لم يقبل نصحه واستمر على غيه. سلمنا أن قوله: لِيُضِلُّوا ليس دعاء عليهم لكن اللام فيه للعاقبة كقوله: «لدوا للموت» . سلمنا أن اللام للتعليل لكنهم جعلوا الله سببا في الضلال فكأنهم أوتوها ليضلوا. ولم لا يجوز أن يكون «لا» مقدرة أي لئلا يضلوا كقوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] أي أن لا تضلوا، أو يكون حرف الاستفهام مقدرا في آتيت على سبيل التعجب. أما قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُوا فإما أن يكون معطوفا على قوله: لِيُضِلُّوا على التفاسير كلها وما بينهما اعتراض، وإما أن يكون جوابا لقوله وَاشْدُدْ ويجوز أن يكون دعاء بلفظ النهي معطوفا على اشْدُدْ. قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما أضاف الدعوة إليهما لأن موسى كان يدعو وهارون يؤمن، ويجوز أن يكونا جميعا يدعوان إلا أنه خص موسى بالذكر في الآية لأصالته في الرسالة، والمعنى أن دعاءكما مستجاب وما طلبتما كائن ولكن في وقته فَاسْتَقِيما فاثبتا على ما أنتما عليه من التبليغ والإنذار زيادة في إلزام الحجة، ولا تستعجلا فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا قليلا. قال ابن جريج: فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة يدعوهم إلى الله وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أن الاستعجال لا يفيد في اجابة الدعاء فقد يستجاب الدعاء ولكن يظهر الأثر بعد حين. وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ قد مرت تلك القصة في أوائل سورة البقرة في قوله: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة: 50] الآية، ومعنى قوله: فَأَتْبَعَهُمْ لحقهم. يقال: تبعه حتى أتبعه، والبغي الإفراط في الظلم والعدو ومجاوزة الحد. وفي الآية سؤال وهو أن فرعون تاب ثلاث مرات إحداها قوله: آمَنْتُ وثانيتها أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وثالثتها وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فلم تقبل توبته. والجواب من وجوه: الأول أنه إيمان اليائس وأنه لا يقبل لأن الإلجاء ينافي التكليف. الثاني أنها لم تكن مقرونة بالإخلاص وإنما كانت لدفع البلية الحاضرة والمحنة الناجزة. الثالث أن ذلك التوحيد كان مبنيا على محض التقليد والمخذول كان من الدهرية المنكرين لوجود الصانع، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته إلا بنور الحجة القطعية. الرابع ما روي أن بعض بني إسرائيل لما جاوز البحر اشتغلوا بعبادة العجل فلعله أراد الإيمان بذلك العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت، وكانت هذه الكلمة سببا لزيادة الكفر. الخامس أن أكثر اليهود يميلون إلى التجسيم والتشبيه ولذلك عبدوا العجل فكأنه ما آمن إلا بالإله الموصوف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 607 بالجسمية والحلول والنزول. السادس لعل الإيمان إنما يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى وبنبوة موسى كما أنه لو قيل ألف مرة لا إله إلا الله لم يصح إيمان إلا إذا قرن به محمد رسول الله إلى الناس كافة. السابع يروى أن جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتيا ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه يقول أبو العباس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعمته أن يغرق في البحر، ثم إن فرعون لما غرق دفع جبريل إليه خطه فعرفه. أما قوله آلْآنَ فالمشهور من الأخبار أنه قول جبريل. وقيل: إنه قول الله سبحانه والتقدير: أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين ألجمك الغرق وأدركك. وقوله: وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ في مقابلة قوله: وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يروى أن جبريل أخذ يملأ فاه بالطين حين قال: آمَنْتُ لئلا يتوب غضبا عليه، والأقرب عند العلماء أن هذا الخبر غير صحيح لأنه إن قال ذلك حين بقاء التكليف لم يجز على جبريل أن يمنعه من التوبة بل يجب أن يحثه عليها أو على كل طاعة لقوله تعالى: وَتَعاوَنُوا [المائدة: 2] ولو منعه لكانت التوبة ممكنة لأن الأخرس قد يتوب بأن يعزم بقلبه على ترك المعاودة إلى القبيح، ولو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر. وكيف يليق به سبحانه أن يقول لموسى وهارون فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] ثم يأمر جبريل بمنعه عن الإيمان. ولو قيل إن جبريل فعل ذلك من تلقاء نفسه كان منافيا لقوله: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم: 64] لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الأنبياء: 27] وإن كان قال ذلك بعد زوال التكليف فلم يكن لما فعل جبريل فائدة اللهم إلا أن يقال: إنه دس حال البحر في فيه في وقت لا ينفعه إيمانه غضبا لله على الكافر. قوله: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ فيه أقوال منها: أن معناه نخرجك من البحر ونخلصك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ولكن بعد أن تغرق. وقوله: بِبَدَنِكَ في موضع الحال أي في الحال التي لا روح فيك وإنما أنت بدن. قال كعب: رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور، أو المراد ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء ولم يتغير، أو عريانا لست إلا بدنا وفيه نوع تهكم كأنه قيل: ننجيك لكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك كما يقال: نعتقك أو نخلصك من السجن ولكن بعد أن تموت. وقيل: ننجيك ببدنك أي نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع. وقيل: ببدنك أي بدرعك. قال الليث: البدن الدرع القصير الكمين. عن ابن عباس قال: كان عليه درع من ذهب يعرف بها فأخرجه الله من الماء مع ذلك الدرع ليعرف، فإن صحت هذه الرواية كانت معجزة لموسى عليه السلام. وأما قوله: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 608 آيَةً فقيل: إن قوما اعتقدوا في إلهيته وزعموا أن مثله لا يموت فأظهر الله تعالى أمره بأن أخرجه من الماء بصورته حتى يشاهدوه، وزالت الشبهة عن قلوبهم وكانت مطروحة على ممر من بني إسرائيل فلهذا قيل: لِمَنْ خَلْفَكَ وقيل: إنه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والإهانة بعد ما سمعوا منه قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] ليكون ذلك زجرا للعابرين عن مثل طريقته، ويعرفوا أنه كان بالأمس في نهاية الجلالة ثم آل أمره إلى ما آل، فلا يجترأوا على نحو ما اجترأ عليه. وقيل: المراد ليكون طرحك بالساحل وحدك دون المغرقين آية من آيات الله للأمم الآتية، ثم زجر هذه الأمة عن ترك النظر في الدلائل وحثهم على التأمل والاعتبار فقال وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ. التأويل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ الروح إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ وهم القلب والسمع والنفس وصفاتها يا قَوْمِ إِنْ كانَ عظم عَلَيْكُمْ مَقامِي في الأخلاق الحميدة الروحانية ودعائي إلى الله ببراهينه الواضحة فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ من حظ من حظوظ مشاربكم الدنيوية ما حظي إلا من مواهب الله وشهود جماله. وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ خلفاء الله في أرضه وباقي التأويل كما مر في «الأعراف» . وهكذا في قصة موسى وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ لأن الفلاح هو الخلاص عن قيد الوجود المجازي. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ أي الذكر بِكَلِماتِهِ وهي لا إله إلا الله وَلَوْ كَرِهَ أهل الهوى والنفوس الأمارة فَما آمَنَ لِمُوسى القلب إلا صفاته أو بعض صفات فرعون النفس بتبديل أخلاقها الذميمة بالأخلاق الحميدة القلبية عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ النفس والهوى والدنيا وشهواتها أن يصرفهم إلى حالها الطبيعية التي جبلت عليها. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى القلب وهارون السر أن هيئا لصفاتكما بمصر عالم الروح مقامات ومنازل لا في عالم النفس السفلي. واجعلوا تلك المقامات متوجهة إلى طلب الحق. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أديموا العروج من المقامات الروحانية إلى المواصلات الربانية لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ليكون عاقبة أمرهم أن ينقطعوا أو يقطعوا بتلك الملاذ عن السير في طلبك رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ بمحقها وتحقيرها في نظرهم وَاشْدُدْ طريق النظر إلى الدنيا وما فيها عَلى قُلُوبِهِمْ واجعل همتهم عليه في طلبك والنظر إليك فقط حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فإن النفس وصفاتها لا يؤمنون بالآخرة وطلب الحق حتى يذيقهم ألم الفطام عن الدنيا ومشتهياتها. سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ طريق الوصول إلى الله ولا يعرفون قدره وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ هم القلب والسر وصفاتها. والبحر بحر الروحانية الملكوتية فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ النفس وصفاتها بعد الفطام عن شوائب عالم الملك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 609 قهرا وقسرا، حتى إذا هبت رياح اللطف وتموجت بحار الفضل واستغرق موسى القلب وصفاته في لجي بحر الوصال، وبلغت أفواج أمواجه إلى ساحل البشرية، أدرك فرعون النفس الغرق فاستمسك بعروة ذلك الفريق قال: آمَنْتُ ومن أمارات أجنبية فرعون النفس من عالم الروح أنه لم يتمسك بحبل التوحيد والمعرفة بيد الصدق والاستقلال، ولم يقل آمنت بالله الذي لا إله إلا هو وإنما تمسك بيد الاضطراب والتقليد فقال: لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ أي نخلصك مع قالبك من بحر الضلالة لتكون دليلا على كمال قدرتنا وعنايتنا. وإن من اتبع خواص عبادنا نجعله من أهل النجاة والدرجات بعد أن كان من أهل الهلاك والدركات والله حسبنا. [سورة يونس (10) : الآيات 93 الى 109] وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 610 القراآت: بَوَّأْنا مثل أَنْشَأْنا ونجعل بالنون: يحيى وحماد. الآخرون بالياء التحتانية. ثُمَّ نُنَجِّي من الإنجاء: نصر وروح ويزيد. نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ من الإنجاء أيضا: علي وسهل ويعقوب وحفص والمفضل. الآخرون بالتشديد فيهما. الوقوف: الطَّيِّباتِ ج للابتداء بالنفي مع الفاء الْعِلْمُ ط يَخْتَلِفُونَ 5 مِنْ قَبْلِكَ ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى المُمْتَرِينَ هـ لا للعطف الْخاسِرِينَ هـ لا يُؤْمِنُونَ هـ لا لتعلق لو بما قبلها الْأَلِيمَ هـ يُونُسَ ط حِينٍ هـ جَمِيعاً ط مُؤْمِنِينَ هـ بِإِذْنِ اللَّهِ ط أي وهو يجعل لا يَعْقِلُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط للفصل بين الاستخبار والإخبار. لا يُؤْمِنُونَ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ط مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ هـ كَذلِكَ ج لاحتمال يراد ننجيهم كإنجاء الرسل أو يكون الوقف على آمَنُوا والتقدير ننجي المؤمنين إنجاء كذلك وحَقًّا عَلَيْنا اعتراض. الْمُؤْمِنِينَ هـ يَتَوَفَّاكُمْ ج لاحتمال أن يراد وقد أمرت الْمُؤْمِنِينَ هـ لا للعطف حَنِيفاً ج للعطف مع زيادة نون التأكيد المؤذن بالاستئناف الْمُشْرِكِينَ هـ وَلا يَضُرُّكَ ج للابتداء بالشرط مع الفاء الظَّالِمِينَ هـ إِلَّا هُوَ ج للعطف مع حق الفصل بين المتضادين لِفَضْلِهِ ط مِنْ عِبادِهِ ط الرَّحِيمُ هـ مِنْ رَبِّكُمْ ج لِنَفْسِهِ ج عَلَيْها ج للعطف مع النفي بِوَكِيلٍ هـ ط يَحْكُمَ اللَّهُ ج لاحتمال العطف والاستئناف الْحاكِمِينَ هـ. التفسير: لما ذكر ما وقع عليه الختم في واقعة فرعون وجنوده أراد أن يذكر ما وقع عليه الختم في واقعة بني إسرائيل فقال: وَلَقَدْ بَوَّأْنا أي أسكناهم مسكن صدق أو إسكان صدق فيكون المبوأ اسم مكان أو مصدرا، والعرب إذا مدحت شيئا أضافته إلى الصدق ليعلم أن كل ما يظن به من الخير ويطلب منه فإنه يصدق ذلك الظن ويوجد فيه فيكون المعنى منزلا صالحا مرضيا. والمراد ببني إسرائيل إما اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام فمبوّأ الصدق الشام ومصر وما يدانيها فإنها بلاد كثيرة الخصب غزيرة الأرزاق ومع ذلك فقد أورثهم الله جميع ما كان تحت تصرف فرعون وقومه من الناطق والصامت فَمَا اخْتَلَفُوا في دينهم وما تشعبوا فيه شعبا وكانوا على طريقة واحدة حتى قرأوا التوراة فقابلوها بضد المقصود منها وبدلوا الاتفاق بالاختلاف وأحدثوا المذاهب المتعددة، وإما اليهود المعاصرون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهب جم غفير من المفسرين. عن ابن عباس: هم قريظة والنضير وبنو قينقاع، أنزلناهم منزل الصدق ما بين المدينة والشام ورزقناهم من طيبات تلك البلاد رطبا وتمرا ليس في غيرها، فبقوا على دينهم ولم يظهر فيهم الاختلاف حتى جاءهم سبب العلم وهو القرآن النازل على محمد صلّى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 611 فاختلفوا في نعته وصفته، وآمن به قوم وبقي على الكفر آخرون. وبالجملة فالله تعالى يقضي بين المحقين منهم والمبطلين في يوم الجزاء لأن دار التكليف ليست دار القضاء. ولما بيّن كيفية اختلاف اليهود في شأن كتابهم أو في شأن رسوله حقق حقيقته وحقيقة ما أنزل عليه بقوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ والشك في اللغة ضم الشيء بعضه إلى بعض ومنه شك الجوهر في العقد، وشككته بالرمح أي خرقته وانتظمته، والشكيكة الفرقة من الناس، والشكاك البيوت المصطفة. والشاك يضم إلى ما يتوهمه شيئا آخر خلافه، والخطاب فيه للرسول في الظاهر والمراد أمته كقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ [الطلاق: 1] والدليل عليه قوله بعيد ذلك قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي ولأنه لو كان شاكا في شأنه لكان غيره بالشك أولى. ويمكن أن يقال: الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم حقيقة ولكن ورد على سبيل الفرض والتمثيل كأنه قيل: فإن وقع لك شك مثلا والقضية الشرطية لا إشعار فيها البتة بوقوع الشرط ولا عدم وقوعه، بل المراد استلزام الأول للثاني على تقدير وقوع الأول. وقد يكونان محالين كقول القائل: إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين. وفيه من الفوائد الإرشاد إلى طلب الدلائل لأجل مزيد اليقين وحصول الطمأنينة، وفيه استمالة لأمته والحث لهم على السؤال عما كانوا منه في شك، وفيه أن أهل الكتاب من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك بحيث يصلحون لمراجعه مثلك فضلا عن غيرك فيكون الغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى الرسول لا وصف الرسول بالشك، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلم عند نزوله: لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق. وعن ابن عباس: لا والله ما شك طرفة عين ولا سأل أحدا منهم. وقيل: «إن» نافية أي فما كنت في شك يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ولكن لتزداد يقينا. وقيل: الخطاب لكل سامع يتأتى منه الشك. ومن المسئول منه قال المحققون: هم مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وعبد الله بن صوريا وتميم الداري وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم. ومنهم من قال: الكل سواء لأنهم إذا بلغوا حد التواتر وقرأوا آية من التوراة والإنجيل تدل على البشارة بمقدم محمد صلّى الله عليه وسلم فقد حصل الغرض، لأن تلك الآية لما بقيت مع توفر دواعيهم على تحريف نعته كانت من أقوى الدلائل. والظاهر أن المقصود من السؤال معرفة حقيقة القرآن وصحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم لقوله: مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ وقيل: السؤال راجع إلى قوله: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ. ثم إنه سبحانه لما بين الطريق المزيل للشك شهد بحقيته فقال: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ثم إن فرق المكلفين بعد المصدقين إما متوقفون في صدقه وإما مكذبون فنهى الفريقين مخاطبا في الظاهر لنبيه قائلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 612 فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ الآية. والمراد فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية وانتفاء التكذيب، وفيه من التهييج والبعث على اليقين والتصديق ما فيه. ثم لما زجر كل فريق عما زجر بين أن له عبادا قضى عليهم بالشقاء وعبادا ختم لهم بالحسنى فلا يتغيرون عن حالهم البتة. أما الأولون فأشار إليهم بقوله: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ الآية. وقد مر مثله في هذه السورة. وقالت المعتزلة: إن عدم إيمان هذا الفريق إلى حين وقوع اليأس وموتهم على الكفر مكتوب عند الله وثبت عليهم قوله في الأزل بما يجري عليهم، لكنها كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد. وقالت الأشاعرة: كلمته حكمة وإرادته وخلقه فيهم الكفر، وقد مر أمثال هذه الأبحاث مرارا كثيرة. وأما الآخرون فذلك قوله: فَلَوْلا كانَتْ أي فهلا حصلت قَرْيَةٌ واحدة آمَنَتْ تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل معاينة العذاب فَنَفَعَها إِيمانُها لوقوعه في وقت الاختيار والتكليف دون أوان اليأس والاضطرار إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ هو استثناء منقطع أي ولكن قوم يونس لأن أول الكلام جرى على القرية وإن كان المراد أهلها. وقيل: إن «لولا» في هذا المقام بمعنى النفي كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس. يروى أن يونس صلّى الله عليه وسلم بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضبا كما سيجيء في سورة الأنبياء، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة. وقيل: قال لهم يونس إن أجلكم أربعون ليلة فقالوا: إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسوّد سطوحهم، فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرّقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها، فحنّ بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا فرحمهم وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة. وعن ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم حتى إن الرجل منهم كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيرده. وقيل: خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم: قولوا يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت، فقالوها فكشف عنهم ومتعوا بالإيمان والأعمال الصالحة وبالخيرات الدنيوية إلى حين انقضاء آجالهم. وعن الفضيل بن عياض قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله. ثم بيّن أن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره فقال: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً قالت الأشاعرة: هذه القضية تفيد الشمول والإحاطة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 613 لكنه ما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل. وأول المعتزلة المشيئة بمشيئة الإلجاء والقسر. وأجيب بأن الكلام في الإيمان الذي كان يطلبه النبي منهم وهو الإيمان المنوط به التكليف لا الإيمان القسري الذي لا ينتفع به المكلف، فلو حمل الإيمان المذكور في الآية وكذا المشيئة على إيمان الإلجاء ومشيئة القسر لم ينتظم الكلام. ثم ذكر أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى فقال: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ فأولى الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الكلام في المكره من هو وما هو إلا الله وحده. فحمل المعتزلة هذا الإكراه على الإلجاء ومعناه أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان. وحمل الأشاعرة الإكراه على خلق الإيمان ومعناه أنه قادر على خلق الإيمان والكفر فيهم لا أنت بدليل قوله: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ أي الكفر والفسق عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وفسر المعتزلة الإذن بمنح الألطاف والرجس بالخذلان، لأن الرجس هو العذاب والخذلان سببه، وخصصوا النفس بالنفس المعلوم إيمانها والذين لا يعقلون يعني المصرين على الكفر. واستدلت الأشاعرة بقوله: وَما كانَ لِنَفْسٍ على أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع لأن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحجر. وإذا كان أصل الشرع- وهو الإيمان بإذن الله- فما ترتب عليه أولى. أجابت المعتزلة بأن المراد بالإذن التوفيق والتسهيل والألطاف. ولما بين أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض فقال: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي شيء فيهما من الآيات والعبر. ثم ذكر أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حق من حكم الله عليه في الأزل بالشقاء فقال: وَما تُغْنِي يحتمل أن تكون «ما» نافية أي لا تفيد هذه الْآياتُ وَالنُّذُرُ وهي جمع نذير صفة أو مصدر في حق المحكوم عليهم بعدم الإيمان. وأن تكون استفهامية للإنكار بمعنى أي شيء يغني عنهم؟ ثم قال: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ والمراد أن الأنبياء المتقدمين كانوا يتوعدون كفار زمانهم بأيام مشتملة على أنواع العذاب أو بوقائع الله فيهم وهم يكذبونهم ويسخرون منهم، وكذلك كان يفعل الكفار المعاصرون للرسول صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه قُلْ فَانْتَظِرُوا وفيه تهديد ووعيد بأنه سينزل بهؤلاء مثل ما أنزل بأولئك من الإهلاك بعد إنجاء الرسول وأتباعه كما حكى تلك الأحوال الماضية بقوله: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا الآية. قالت المعتزلة: حَقًّا عَلَيْنا المراد به الوجوب والاستحقاق إذ لا يحسن تعذيب الرسول والمؤمنين. وقالت الأشاعرة: إنه حق بحسب الوعد والحكم فإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 614 العبد لا يستحق على خالقه شيئا. ثم أمر رسوله بإظهار التباين الصريح بين طريقته وطريقة المشركين فقال: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ والمعنى يا أهل مكة إن كنتم لا تعرفون ديني فاعلموا أني مبرأ عن أديانكم الباطلة وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وتخصيص هذا الوصف لأنه يدل على الخلق أوّلا وعلى الإعادة ثانيا كما مر مرارا، أو لأن الموت أشد الأحوال مهابة في القلوب فكان أقوى في الزجر والردع، أو لأنه قد تقدم ذكر الإهلاك والوقائع النازلة بالأمم الخالية فكأنه قال: أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم وإنجائي. وفي الآية إشارة إلى أنه لن يوافقهم في دينهم كيلا يشكوا في أمره ويقطعوا أطماعهم عنه. ولما ذكر أنه لا يعبد إلا الله بين أنه مأمور بالإيمان والمعرفة فقال: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أي بأن أكون مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ثم عطف عليه قوله: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ ولا تدع نظرا إلى المعنى كأنه قيل له: كن مؤمنا ثم أقم ولا تدع، أو المراد وأمرت بكذا وأوحي إلي أن أقم. قال في الكشاف: قد سوغ سيبويه أن يوصل «أن» بالأمر والنهي وشبه ذلك بقولهم: أنت الذي تفعل على الخطاب لأن الغرض وصلها بما يكون معه في معنى المصدر، والأمر والنهي دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال. ومعنى أَقِمْ وَجْهَكَ استقم إليه ولا تلتفت يمينا ولا شمالا. وحَنِيفاً حال من لِلدِّينِ أو من الوجه. قال المحققون: الوجه هاهنا وجه العقل أو المراد توجه الكلية إلى طلب الدين كمن يريد أن ينظر إلى شيء نظرا تاما فإنه يقيم وجهه في مقابلته لا يصرفه عنه. ثم أكد الأمر بالنهي عن ضده فقال: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ أي فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، وكنى عنه بالفعل للاختصار. و «إذا» جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان وجعل من الظالمين لأن إضافة التصرف بالاستقلال إلى ما سوى مدبر الكل وضع للشيء في غير موضعه. ثم صرح بأنه مبدأ الكائنات ومنتهى الحاجات لا غيره فقال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ الآية. وقد مر تفسير مثلها في أول سورة الأنعام. قال الواحدي: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ من القلب وأصله وإن يرد بك الخير، ولكنه لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز إبدال كل واحد منهما بالآخر. وأقول في تخصيص الإرادة بجانب الخير والمس بجانب الشر دليل على أن الخير يصدر عنه سبحانه بالذات والشر بالعرض. ثم ختم السورة بما يستدل به على قضائه وقدره في الهداية والضلال فقال: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية. وفسرها الأشاعرة بأن من حكم له في الأزل بالاهتداء فسيقع له ذلك، وإن من حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في دفعه كما مر في سورة الأنعام قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ [الأنعام: 104] الآية. وقالت المعتزلة: المراد أنه بين الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة، فمن اختار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 615 الهدى فما نفع باختياره إلا نفسه، ومن آثر الضلال فلا يعود وباله إلا على نفسه. يروى عن ابن عباس أن الآية منسوخة بآية القتال ولا يخفى ضعفه. ثم أمره باتباع الوحي والتنزيل فإن وصل إليه بسبب الاتباع مكروه فليصبر عليه إلى أن يحكم الله وهو خير الحاكمين. ولبعضهم في الصبر: سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري ... وأصبر حتى يحكم الله في أمري سأصبر حتى يعلم الصبر أنني ... صبرت على شيء أمر من الصبر التأويل: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ يعني متولدات الروح العلوي من القلب والسر دون النفس لأنها من البنات لا من البنين مُبَوَّأَ صِدْقٍ منزلا عليا في العالم النوراني وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من الفيض الرباني الفائض على الروح لأن الروح مستو على عرش القلب، فكل ما فاض من صفة الروحانية على الروح يفيض الروح على القلب والسر، فما اختلف القلب والسر حتى جاءهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: فمن قبلها صار مقبولا، ومن ردها كان مردودا. وبوجه آخر مُبَوَّأَ صِدْقٍ بين الإصبعين من أصابع الرحمن فَمَا اخْتَلَفُوا حتى أدركهم علم الله الأزلي بالسعادة والشقاء فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ خلق الإنسان ضعيفا، فإذا انفتح عليه أبواب الكرامات وهبت رياح السعادات فربما ظن أنه مما يخادع به الأطفال فلا يدري هل هو من كرامة الاجتباء أو من وخامة الابتلاء، فكان النبي صلى الله عليه وسلم من خصوصية إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الكهف: 110] يرتع في هذه الرياض وباختصاص يُوحى إِلَيَّ [الكهف: 110] يسقى بكاسات المناولات من تلك الحياض، فشك عند سكره أنها من شهود التلوين أو من كشوف التمكين، فأدركته العناية الأزلية فأكرم بخطاب لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ بل كان هذا النهي نهي التكوين فما كان ممتريا ولهذا قال: والله لا أشك ولا أسأل. إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا من أنه كل ميسر لما خلق له قُلْ فَانْتَظِرُوا ظهور ما قدر لكم وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بالفناء عن النفس وصفاتها حنيفا طاهرا عن لوث الالتفات إلى ما سواه والله أعلم. تم الجزء الحادي عشر، وبه يتم المجلد الثالث من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري، ويليه المجلد الرابع وأوله تفسير سورة هود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 616 الفهرس فهرس المجلد الثالث من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 617 تتمة تفسير سورة المائدة الآيات: 82- 86/ 3 الآيات: 87- 100/ 6 الآيات: 101- 120/ 26 تفسير سورة الأنعام الآيات: 1- 11/ 45 الآيات: 12- 24/ 54 الآيات: 25- 37/ 63 الآيات: 38- 50/ 74 الآيات: 51- 60/ 84 الآيات: 61- 73/ 94 الآيات: 74- 83/ 102 الآيات: 84- 90/ 111 الآيات: 91- 100/ 116 الآيات: 101- 110/ 134 الآيات: 111- 121/ 146 الآيات: 122- 130/ 156 الآيات: 131- 140/ 168 الآيات: 141- 150/ 175 الآيات: 151- 165/ 186 تفسير سورة الأعراف الآيات: 1- 10/ 197 الآيات: 11- 25/ 205 الآيات: 26- 34/ 220 الآيات: 35- 43/ 230 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 619 الآيات: 44- 53/ 237 الآيات: 54- 58/ 245 الآيات: 59- 72/ 265 الآيات: 73- 84/ 273 الآيات: 85- 93/ 283 الآيات: 94- 102/ 290 الآيات: 103- 126/ 294 الآيات: 127- 141/ 304 الآيات: 142- 154/ 312 الآيات: 155- 159/ 325 الآيات: 160- 171/ 335 الآيات: 172- 183/ 342 الآيات: 184- 198/ 354 الآيات: 199- 206/ 364 تفسير سورة الأنفال الآيات: 1- 10/ 371 الآيات: 11- 19/ 380 الآيات: 20- 30/ 386 الآيات: 31- 40/ 394 الآيات: 41- 49/ 400 الآيات: 50- 66/ 408 الآيات: 67- 75/ 418 تفسير سورة التوبة الآيات: 1- 16/ 426 الآيات: 17- 28/ 441 الآيات: 29- 37/ 451 الآيات: 38- 49/ 468 الآيات: 50- 59/ 481 الآيات: 60- 69/ 488 الآيات: 70- 79/ 501 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 620 الآيات: 80- 89/ 510 الآيات: 90- 99/ 518 الآيات: 100- 110/ 523 الآيات: 111- 119/ 533 الآيات: 120- 129/ 545 تفسير سورة يونس الآيات: 1- 10/ 553 الآيات: 11- 20/ 565 الآيات: 21- 30/ 571 الآيات: 31- 41/ 579 الآيات: 42- 60/ 585 الآيات: 61- 70/ 594 الآيات: 71- 92/ 601 الآيات: 93- 109/ 611 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 621 [ المجلد الرابع ] بسم الله الرّحمن الرّحيم الجزء الثاني عشر من أجزاء القرآن الكريم (سورة هود) مكية غير آية قوله وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وحروفها 7605 وكلامها 1715 وآياتها 123 [سورة هود (11) : الآيات 1 الى 24] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 القراآت: وَإِنْ تَوَلَّوْا بإظهار النون وتشديد التاء: البزي وابن فليح فَإِنِّي أَخافُ بفتح الياء، أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير. عَنِّي إِنَّهُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابو عمرو. الوقوف: الر ق كوفي خَبِيرٍ هـ لا بناء على أنّ ألا يتعلق بما قبله إِلَّا اللَّهَ ط وَبَشِيرٌ هـ لا للعطف فَضْلَهُ ج كَبِيرٍ هـ مَرْجِعُكُمْ ج لاحتمال الحال والاستئناف قَدِيرٌ هـ مِنْهُ ط ثِيابَهُمْ لا بناء على أن عامل حِينَ قوله: يَعْلَمُ يُعْلِنُونَ ج الصُّدُورِ هـ وَمُسْتَوْدَعَها ط مُبِينٍ هـ عَمَلًا ط مُبِينٌ هـ ما يَحْبِسُهُ ط يَسْتَهْزِؤُنَ هـ مِنْهُ ج لحذف جواب لَئِنْ أي لييأسن. وقيل: جوابها إنه والأول أوجه كَفُورٌ هـ عَنِّي ط فَخُورٌ لا للاستثناء الصَّالِحاتِ ط كَبِيرٌ هـ مَلَكٌ ط نَذِيرٌ هـ وَكِيلٌ هـ ط «أم» استفهام تقريع افْتَراهُ ط صادِقِينَ هـ إِلَّا هُوَ ج ط للاستفهام مع الفاء. مُسْلِمُونَ هـ يُبْخَسُونَ هـ إِلَّا النَّارُ ز بناء على أن «ليس» بمنزلة حرف النفي والوصل أوجه لأن «ليس» فعل ماض وهو مع ما عطف عليه المجموع جزاء. يَعْمَلُونَ هـ رَحْمَةً ط يُؤْمِنُونَ بِهِ ط مَوْعِدُهُ ج لاختلاف الجملتين مع الفاء لا يُؤْمِنُونَ هـ كَذِباً ط عَلى رَبِّهِمْ الثاني ج لأن ما بعده يحتمل أن يكون من قول الأشهاد أو ابتداء إخبار. الظَّالِمِينَ هـ لا عِوَجاً ط مِنْ أَوْلِياءَ م لئلا يوهم أن ما بعده صفة أولياء الْعَذابُ ط يُبْصِرُونَ هـ يَفْتَرُونَ هـ الْأَخْسَرُونَ هـ إِلى رَبِّهِمْ لا لأن ما بعده خبر «إن» . الْجَنَّةِ ج خالِدُونَ هـ وَالسَّمِيعِ ط مَثَلًا ط تَذَكَّرُونَ هـ. التفسير: الر إن كان اسما للسورة فما بعده خبره، وإن كان واردا على سبيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 التعديد أو كان معناه أنا الله أرى فقوله: كِتابٌ خبر مبتدأ محذوف أي هذا الكتاب. والإشارة إما إلى هذا البعض وإما إلى مجموع القرآن. ومعنى أُحْكِمَتْ نظمت نظما رصينا من غير نقض ونقص، أو جعلت حكيمة من حكم بالضم إذا صار حكيما، أو منعت من الفساد والبطلان من قولهم: أحكمت الدابة وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح. أي لم ينسخ بكتاب سواه كما نسخ سائر الكتب وذلك لاشتماله على العلوم النظرية والعلمية والظاهرية والباطنية وعلى أصول جميع الشرائع، فلا محالة لا يتطرق إليه تبديل وتغيير. ثُمَّ فُصِّلَتْ كما تفصل القلائد بالفرائد من دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص، لكل معنى من هذه المعاني فصل انفرد به. أو جعلت فصولا سورة سورة وآية وآية، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة، أو فصل فيها تكاليف العباد وبين ما يحتاجون إليه في إصلاح المعاش والمعاد. ومعنى «ثم» التراخي في الحال كقولك: فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل. وأُحْكِمَتْ صفة كتاب. ومِنْ لَدُنْ صفة ثانية أو خبر بعد خبر أو صلة لأحكمت وفصلت أي من عنده إحكامها وتفصيلها. وفي قوله: حَكِيمٍ خَبِيرٍ لف ونشر لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها خبير عالم بمواقع الأمور. احتج الجبائي بقوله: أُحْكِمَتْ ثُمَّ فُصِّلَتْ على كون القرآن محدثا لأن الإحكام والتفصيل يكون بجعل جاعل، وكذا بقوله: مِنْ لَدُنْ لأن القديم لا يصدر من القديم. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الأصوات والحروف وإنما النزاع في الكلام النفسي. وقوله: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ مفعول له أي لأجل ذلك أو يكون «أن» مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول كأنه قيل: ثم قيل للنبي صلى الله عليه وسلم قل لهم لا تعبدوا. وجوز في الكشاف أن يكون كلاما مبتدأ منطقعا عما قبله محكيا على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم يغري أمته على اختصاص الله بالعبادة كأنه قال: ترك عبادة غير الله مثل فَضَرْبَ الرِّقابِ [محمد: 4] والضمير في مِنْهُ لله عز وجل حالا من نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ أي إنني لكم نذير من جهته إن لم تخصوه بالتعبد، وبشير إن خصصتموه بذلك. ويجوز أن يكون مِنْهُ صلة لنذير أي أنذركم منه ومن عذابه، ويكون صلة بشير محذوفا أي أبشركم بثوابه. ثم عطف على قوله: أَلَّا تَعْبُدُوا قوله: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا أي اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم. ثم بين الشيء الذي به يطلب ذلك وهو التوبة فقال: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ فالتوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار، وما كان آخرا في الحصول كان أولا في الطلب، فلهذا قدم الاستغفار على التوبة. وقيل: استغفروا أي توبوا ثم قال: تُوبُوا أي أخلصوا التوبة واستقيموا عليها. وقيل: استغفروا من سالف الذنوب ثم توبوا من أنف الذنوب. وقيل: استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة. وقيل: الاستغفار أن يطلب من الله الإعانة في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 إزالة ما لا ينبغي، والتوبة سعي الإنسان في الطاعة والاستعانة بفضل الله مقدم على الاستعانة بسعي النفس. ثم رتب على الامتثال أمرين: الأول التمتع بالمنافع الدنيوية إلى حين الوفاة كقوله فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النحل: 97] . سؤال: كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [الزخرف: 33] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن» «1» ، «البلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء» ؟ «2» وأجيب بأن المراد أن لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أو يرزقهم كيف كان. والجواب الثاني أن الإنسان إذا كان مشغولا بطاعة الله مستغرقا في نور معرفته وعبادته كان مبتهجا في نفسه مسرورا في ذاته، هينا عليه ما فاته من اللذات العاجلة، قانعا بما يصيبه من الخيرات الزائلة. الثاني قوله: وَيُؤْتِ أي في الآخرة كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي موجب فضل ذلك الشخص ومقتضاه يعني الجزاء المرتب على عمله بحسب تزايد الطاعات. وتسمية العمل الحسن فضلا تشريف ويجوز أن يعود الضمير في فَضْلَهُ إلى الله تعالى. وفيه تنبيه على أن الدرجات في الجنة تتفاضل بحسب تزايد الطاعات. ثم أوعد على مخالفة الأمر فقال: وَإِنْ تَوَلَّوْا أي تتولوا فحذفت إحدى التاءين والمعنى إن تعرضوا عن الإخلاص في العبادة وعن الاستغفار والتوبة فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو يوم القيامة الموصوف بالعظم والثقل أيضا وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الدهر: 27] . ثم بين كبر عذاب ذلك اليوم بقوله: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ أي لا حكم في ذلك اليوم إلا لله ولا رجوع إلا إلى جزائه، وهو مع ذلك كامل القدرة نافذ الحكم فما ظنكم بعذاب يكون المعذب به مثله. وفيه من التهديد ما فيه ولكن الآية تتضمن البشارة من وجه آخر. وذلك أن الحاكم الموصوف بمثل هذه العظمة والقدرة والاستقلال في الحكم إذا رأى عاجزا مشرفا على الهلاك فإنه يرحم عليه ولا يقيم لعذابه وزنا. اللهم لا تخيب رجاءنا فإنك واسع المغفرة. ثم ذكر أن التولي عن الأوامر المذكورة باطنا كالتولي عنها ظاهرا فقال: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ يقال ثنى صدره عن الشيء إذا ازورّ عنه وانحرف وطوى عنه كشحا.   (1) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث: 1. الترمذي في كتاب الزهد باب: 16. ابن ماجه في كتاب الزهد باب: 3. أحمد في مسنده (2/ 197، 323) . (2) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب: 57. البخاري في كتاب المرضى باب: 3. ابن ماجه في كتاب الفتن باب: 23. الدارمي في كتاب الرقاق باب: 67. أحمد في مسنده (1/ 172/ 180) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 قال المفسرون: وهاهنا إضمار أي يثنون صدورهم ويريدون لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أي من الله. ثم كرر كلمة أَلا تنبيها على وقت استخفائهم وهو حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ أي يريدون الاستخفاء في وقت استغشاء الثياب. قال الكلبي: ثني صدورهم كناية عن نفاقهم لما روي أن طائفة من المشركين منهم الأخنس بن شريق قالوا: إذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد فكيف يعلم بنا. وعلى هذا لا حاجة إلى الإضمار. وقيل: إنه حقيقة، وذلك أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه لئلا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتلو من القرآن، وليقول في نفسه ما يشتهي من الطعن. ثم استأنف قوله: يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ تنبيها على أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء لأنه تعالى عالم بالسرائر كما أنه عالم بالظواهر. ثم أكد كونه عالما بكل المعلومات بكونه كافلا لأرزاق جميع الحيوانات ضامنا لمصالحها ومهامها فضلا وامتنانا وكرما وإحسانا فقال: وَما مِنْ دَابَّةٍ الآية. والمستقر مكانها من الأرض، والمستودع ما قبل ذلك من الأمكنة من صلب أو رحم أو بيضة. وقال الفراء: مستقرها حيث تأوي إليه ليلا أو نهارا، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه. وقد مر تمام الأقوال في سورة الأنعام. واستدل الأشاعرة بالآية على أن الحرام رزق لأنها تدل على أن إيصال الرزق إلى كل حيوان واجب على الله بحسب الوعد عندنا أو بحسب الاستحقاق عند المعتزلة شبه النذر. ثم إنا نرى إنسانا لا يأكل من الحلال طول عمره وقد سماه الله تعالى رزقا. ثم ختم الآية بقوله: كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي كل واحد من الدواب. ورزقها ومستقرها ومستودعها ثابت. في علم الله أو في اللوح المحفوظ. وقد ذكرنا فائدته في قوله: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] يروى أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي عليه تعلق قلبه بأهله فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه صخرة فانشقت فخرجت منها صخرة ثانية، ثم ضرب فانشقت فخرجت ثالثة، ثم ضربها فخرجت دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها، فسمع الدودة تقول: سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني. ثم أكد دلائل قدرته بقوله: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قال كعب الأحبار: خلق الله ياقوتة خضراء، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ووضع العرش على الماء. وقال أبو بكر الأصم: هذا كقولك: لا سماء إلا على الأرض وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملصقا بالآخر. وعلى هذا فيكون الآن أيضا عرشه على الماء. وقال في الكشاف: المراد أنه ما كان تحت العرش خلق سوى الماء، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 وعلى أن الملائكة خلقت قبل العرش والماء ليعتبروا بهما وإلا لزم أن يكون خلقهما قبل أن يعتبر بهما عبثا إذ لا يتصور عود نفعهما إليه تعالى. وقال أبو مسلم: العرش البناء أي بناؤه للسموات كان على الماء. وقال حكماء الإسلام: المراد بالماء تحركه شبه سيلان الماء أي وكان عرشه يتحرك. وبالجملة مقصود الآية بيان كمال قدرته في إمساك الجرم العظيم على الصغير. أما قوله: لِيَبْلُوَكُمْ فالمعتزلة قالوا: اللام للتعليل، وذلك أنه خلق هذا العالم الكبير لأجل مصالح المكلفين وأن يعاملهم معاملة المختبر المبتلى لأحوالهم كيف يعملون فيجازي كل فريق بما يستحقه. والأشاعرة قالوا: إن أحكامه غير معللة بالمصالح ومعناه أنه فعل فعلا لو كان يفعله من يجوز عليه رعاية المصالح لما فعله إلا لهذا الغرض. وإنما علق فعل البلوى لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إلى العلم فهو ملابس له كالنظر والاستماع في قولك: انظر أيهم أحسن وجها واسمع أيهم أحسن كلاما. قال في الكشاف: الذين هم أحسن عملا هم المتقون، وإنما خصهم بالذكر وطرح ذكر من وراءهم من الفساق والكفار تشريفا لهم. قلت ويجوز أن يقال إن أحسن بمعنى حسن ليشمل الخطاب جميع المكلفين. ثم لما كان الابتلاء يتضمن حديث البعث أتبع ذلك قوله: وَلَئِنْ قُلْتَ الآية. والإشارة في قوله: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ إلى البعث أي هو باطل كبطلان السحر أو إلى القرآن لأنه الناطق بالبعث، فإذا جعلوه سحرا فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث. وقال القفال: معناه أن هذا القول خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا واجتذابهم إلى الانقياد لكم والدخول تحت طاعتكم. ومن قرأ ساحر فالإشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم بين أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم الرسول به أخذوا في الاستهزاء وقالوا ما الذي حبسه عنا فقال: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الآية. والأمة اشتقاقها من الأم وهو القصد والمراد بها الوقت المقصود لإيقاع الموعود. وقيل: هي في الأصل الجماعة من الناس وقد يسمى الحين باسم ما يحصل فيه كقولك: كنت عند فلان صلاة العصر أي في ذلك الحين. فالمراد إلى حين ينقضي أمة معدودة من الناس. وقال في الكشاف: أي جماعة من الأوقات. والعذاب عذاب الآخرة. وقيل: عذاب يوم بدر. عن ابن عباس: قتل جبريل المستهزئين. ومعنى ما يَحْبِسُهُ أيّ شيء يمنعه من النزول استعجالا له على جهة الاستهزاء والتكذيب فأجابهم الله بقوله: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ وهو متعلق بخبر ليس أي ليس العذاب مصروفا عنهم يوم يأتيهم. واستدل به من جوز تقديم خبر ليس على ليس لأنه إذا جاز تقديم معمول الخبر عليها فتقديم الخبر عليها أولى وإلا لزم للتابع مزية على المتبوع. ثم قال: وَحاقَ بِهِمْ أي أحاط بهم ما كانُوا بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 يَسْتَهْزِؤُنَ أراد يستعجلون ولكنه وضع يَسْتَهْزِؤُنَ موضعه لأن استعجالهم للعذاب كان على وجه الاستهزاء. وإنما قال: وَحاقَ بلفظ الماضي لأنه جعله كالواقع. ثم حكى ضعف حال الإنسان في حالتي السراء والضراء فقال: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ الآية. واختلف المفسرون فقيل: الإنسان مطلق بدليل صحة الاستثناء في قوله: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ولأن هذا النوع مجبول على الضعف والنقص والعجلة وقلة الثبات. وقيل: المراد الكافر، والاستثناء منقطع واللام للعهد. وقد مر ذكر الكافر، ولأن وصف اليأس والكفران والفرح المفرط بالأمور الزائلة والفخر بها لا يليق إلا بالكافر، وذلك أنه يعتقد أن السبب في حصول تلك النعم من الأمور الاتفاقية، فإذا زالت استبعد حدوثها مرة أخرى فيقع في اليأس الشديد، وعند حصولها كان ينسبها إلى الاتفاق فلا يشكر الله بل يكفره، وإذا انتقل من مكروه إلى محبوب ومن محنة إلى محنة اشتد فرحه بذلك وافتخر بها لذهوله عن السعادات الأخروية الروحانية فيظن أنه قد فاز بغاية الأماني ونهاية المقاصد. وأما المؤمن فحاله على العكس ولذلك استحق وعد الله بالمغفرة والأجر الكبير. أما تفسير الألفاظ فالإذاقة والذوق أقل ما يوجد به الطعم، وفيه دليل على أن الإنسان لا يصبر عن أقل القليل ولا عليه، وفيه أن جميع نعم الدنيا في قلة الاعتبار وسرعة الزوال تشبه حلم النائمين وخيالات المبرسمين. والرحمة النعمة من صحة أو أمن أو جدة، ونزعها سلبها. واليؤوس والكفور بناءان للمبالغة، والنعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه، والضراء مضرة كذلك. قال الواحدي لأنها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو حوراء وعوراء. والسيئات يريد بها المصائب التي ساءته. ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ قال ابن عباس: إن رؤساء مكة قالوا: إن كنت رسولا فاجعل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بالملائكة ليشهدوا لك فخاطب الله سبحانه نبيه بقوله: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ واختلفوا في ذلك البعض فعن ابن عباس أن المشركين قالوا له: ائتنا بكتاب ليس فيه شتم آلهتنا حتى نتبعك ونؤمن بكتابك. وقال الحسن: طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يترك قوله: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ [طه: 15] وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرسول أن يترك بعض ما أوحى الله إليه لأنه ينافي المقصود من الرسالة المعتبر فيها الأمانة، فأوّلوا الآية بأن أمثال هذه التهديدات لعلها سبب عدم التقصير في أداء الوحي فلهذا خوطب بها، أو لعله كان صلى الله عليه وسلم بين محذورين: أحدهما ترك أداء شيء من الوحي، وثانيهما أنهم كانوا يتلقون الوحي بالطعن والاستهزاء، فنبه بالآية على أن تحمل الضرر الثاني أهون وإذا وقع الإنسان بين مكروهين وجب أن يختار أسهلهما، والعربي يقول لغيره إذا أراد أن يزجره: لعلك تفعل كذا أي لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 تفعل. وإنما قال: وَضائِقٌ ولم يقل وضيق بِهِ صَدْرُكَ دلالة على أنه ضيق حادث لأنه صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدرا. ومعنى أَنْ يَقُولُوا مخافة أن يقولوا: لَوْلا أُنْزِلَ أي هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه. ثم بين أن حاله مقصور على النذارة لا يتخطاها الى إنزال المقترحات، والذي أرسله هو القادر على ذلك حفيظ عليه وعلى كل شيء، ومن كمال قدرته إنزال القرآن المعجز لدهماء المصاقع وأشار إلى ذلك بقوله: أَمْ يَقُولُونَ الآية. وقد مر مثله في سورة يونس. عن ابن عباس: السور العشر هي من أول القرآن إلى هاهنا. واعترض عليه بأن هذه السورة مكية وبعض السور المتقدمة عليها مدنية، فكيف يمكن أن يشار إلى ما ليس بمنزل بعد. فالأولى أن يقال: إن التحدي وقع بمطلق السور التي تظهر فيها قوة ترتيب الكلام وتأليفه. تحداهم أوّلا بمجموع القرآن في قوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء: 88] الآية. وبعشر سور في هذه الآية وذلك أن العشرة أول عقد من العقود، ثم بسورة في يونس وفي البقرة، وهذا كما يقول الرجل لصاحبه: اكتب كمثل ما أكتب فإذا عجز قال: اكتب عشرة أسطر مثل ما أكتب، فإذا ظهر عجزه عنه قال في آخر الأمر: قد اقتصرت منك على سطر واحد مثله، ثم إذا أراد غاية المبالغة قال: قد جوزت لك أن تستعين بكل من تريد فإذا ظهر عجزه حال الانفراد وحال الاجتماع والتعاون تبين عجزه عن المعارضة على الإطلاق ولهذا قال: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا إلى معارضة القرآن أو إلى الإيمان لَكُمْ أي لك وللمؤمنين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يتحدّونهم، أو الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أي ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله من النظم المعجز والاشتمال على العلوم الجمة الظاهرة والغائبة. ومعنى الأمر راجع إلى الثبات أي اثبتوا على ما أنتم عليه من العلم واليقين بشأن القرآن ودوموا على التوحيد الذي استفدتم من القرآن أو دلكم على ذلك عجز آلهتهم عن المعارضة والإعانة. ثم ختم الآية بقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وفيه نوع من التهديد كأنه قيل للمسلمين إذا تبينتم صدق قول محمد صلى الله عليه وسلم وازددتم بصيرة وطمأنينة وجب عليكم الزيادة في الإخلاص والطاعة. وتفسير آخر وهو أن يكون الضمير في فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لمن في مَنِ اسْتَطَعْتُمْ والخطاب في لَكُمْ للمشركين، وكذا في قوله: فَاعْلَمُوا وفي أَنْتُمْ والمعنى فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المظاهرة لعلمهم بالعجز عنه فاعلموا أنه منزل من عند الله وأن توحيده واجب. ثم رغبهم في أصل الإسلام وهددهم على تركه بقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ بعد لزوم الحجة مُسْلِمُونَ ثم أوعد من كانت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 همته مقصورة على زينة الحياة الدنيا وكان مائلا عن الدين جهلا أو عنادا فقال: مَنْ كانَ يُرِيدُ الآية. عن أنس أنهم اليهود والنصارى. وقيل: المنافقون كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول الغنائم فكان صلى الله عليه وسلم يسهم لهم فيها. وقال الأصم: هم منكر والبعث. وقال آخرون: هي عامة في الكافر والمسلم المرائي. وقال القاضي: المراد من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم، نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما ينالون من الصحة والكفاف وسائر اللذات والمنافع. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة يدعى برجل جامع للقرآن فيقال له: ما عملت فيه؟ فيقول: يا رب قمت فيه آناء الليل والنهار. فيقول الله: كذبت أردت أن يقال فلان قارئ. وقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله ألم أوسع عليك فماذا عملت فيه؟ فيقول: وصلت الرحم وتصدقت فيقول الله: كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك. ثم يؤتى بمن قتل في سبيل الله فيقول: قاتلت في الجهاد حتى قتلت فيقول الله تعالى: كذبت بل أردت أن يقال فلان جريء. قال أبو هريرة: ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي وقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة» «1» . وروي أن أبا هريرة ذكر هذا الحديث عند معاوية فبكى معاوية حتى ظننا أنه هالك ثم أفاق فقال: صدق الله ورسوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها الآيتان. ثم بين أن بين طالب الدنيا وحدها وبين طالب السعادات الباقية تفاوتا بينا فقال: أَفَمَنْ كانَ والمعنى أمن كان يريد الحياة الدنيا كما كان على بينة أي لا يعقبونهم في المنزلة عند الله ولا يقاربونهم؟ نظيره إذا أتاك العلماء والجهال فاستأذن الجهال للدخول قبل العلماء فتقول: الجهال ثم العلماء كلا وحاشا تريد أن العلماء ينبغي أن يدخلوا أولا ثم الجهال. ويمكن أن يقال: التقدير أفمن كان عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كمن يريد الحياة الدنيا فحذف الخبر للعلم به ومثله أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً [فاطر: 35] أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً [الزمر: 9] واعلم أن أول هذه الآية يشتمل على ألفاظ أربعة مجملة: الأول أن هذا الذي وصفه الله بأنه على بينة من هو؟ الثاني ما المراد بالبينة؟ الثالث ما معنى يتلوه أهو من التلاوة أم من التلو؟ الرابع الشاهد من هو؟ وللمفسرين فيها أقوال: أصحها أن معنى البينة البرهان العقلي الدال على صحة الدين الحق، والذي هو على البينة مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه، ومعنى يتلوه يعقبه وتذكير الضمير العائد إلى البينة   (1) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 152. الترمذي في كتاب الزهد باب: 48. النسائي في كتاب الجهاد باب: 22. أحمد في مسنده (2/ 322) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 بتأويل البيان والبرهان، والمراد بالشاهد القرآن ومنه أي من الله أو من القرآن المتقدم ذكره في قوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي ويتلو ذلك البرهان من قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة حال كونها إِماماً أو أعني إماما كتابا مؤتما به في الدين قدوة فيه وَرَحْمَةً ونعمة عظيمة على المنزل إليهم. والحاصل أن المعارف اليقينية المكتسبة إما أن يكون طريق اكتسابها بالحجة والبرهان، وإما أن يكون بالوحي والإلهام، وإذا اجتمع على بعض المطالب هذان الأمران واعتضد كل واحد منهما بالآخر كان المطلوب أوثق. ثم إذا توافقت كلمة الأنبياء على صحته بلغ المطلوب غاية القوة والوثوق، ثم إنه حصل في تقرير صحة هذا الدين هذه الأمور الثلاثة جميعا: البينة. وهي الدلائل العقلية اليقينية، والشاهد وهو القرآن المستفاد من الوحي، وكتاب موسى المشتمل على الشرائع المتقدمة عليه الصالح لاقتداء الخلف به، وعند اجتماع هذه الأمور لم يبق لطالب الحق المنصف في صحة هذا الدين شك وارتياب. وقيل: أفمن كان محمد صلى الله عليه وسلم، والبينة القرآن، ويتلوه يقرؤه شاهد هو جبرائيل نزل بأمر الله وقرأ القرآن على محمد أو شاهد من محمد هو لسانه، أو شاهد هو بعض محمد يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو يتلوه أي يعقب ذلك البرهان شاهد من النبي صلى الله عليه وسلم هو صورته ومخايله، فإن من نظر إليه بعقله تفرس أنه ليس بمجنون ولا وجهه وجه كذاب ولا كاهن. وقيل: الكائن على البينة هم المؤمنون، والبينة القرآن، ويتلوه يعقب القرآن شاهد من الله هو محمد صلى الله عليه وسلم أو الإنجيل لأنه يعقبه في التصديق والدلالة على المطلوب وإن كان موجودا قبله، أو ذلك الشاهد كون القرآن واقعا على وجه يعرف المتأمل فيه إعجازه لاشتماله على فنون الفصاحة وصنوف البلاغة إلى غير ذلك من المزايا التي قلما يخبر عنها إلا الذوق السليم. ثم مدح الكائن على البينة بقوله: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن. ثم أوعد غيرهم بقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ يعني أهل مكة ومن انحاز معهم كاليهود والنصارى والمجوس فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ في شك مِنْهُ من القرآن أو من الموعد، ولما أبطل بعض عادات الكفرة من شدة حرصهم على الدنيا وذلك قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا ومن إنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك قوله: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ أراد أن يبطل ما كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها شفعاء تشفع لهم فقال: وَمَنْ أَظْلَمُ. ثم قال: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ لم يحمل عليهم العرض لأنهم مخصوصون بالعرض فإن العرض عام، ولكن فائدة الحمل ترجع إلى المعطوف. أراد أنهم يعرضون فيفضحون بقول الأشهاد. ومعنى عرضهم على ربهم أنهم يعرضون على الأماكن المعدة للحساب. والسؤال أو المراد عرضهم على من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 يوبخ ويبكت بأمر الله من الأنبياء والمؤمنين، أو أراد أنهم يحبسون في المواقف وتعرض أعمالهم على الرب. قال مجاهد: الأشهاد الملائكة الحفظة. وقال قتادة: هم الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد أي الناس. وقيل: هم الأنبياء لقوله: وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] والأشهاد إما جمع شاهد كصاحب وأصحاب، أو جمع شهيد كشريف وأشراف. قال أبو علي: وهذا أرجح لكثرة ورود شهيد في القرآن وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضيحة. وباقي الآية قد مر تفسير مثلها في «الأعراف» . أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي لم يكن يمكنهم أن يهربوا من عذابنا لأنه سبحانه قادر على جميع الممكنات ولا تتفاوت قدرته بالنسبة إلى القريب والبعيد والضعيف والقوي. وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ تنصرهم وتمنعهم من عقابه. جمع تعالى بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم وبين بذلك انقطاع حيلهم في الخلاص من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة. وقيل: هذا من كلام الأشهاد والمراد أنه تعالى لو شاء عقابهم في الدنيا لعاقبهم ولكنه أراد إنظارهم وتأخيرهم إلى هذا اليوم يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ من قبل الكفر والصد أي الضلال والإضلال. ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ يريد ما هم عليه في الدنيا من صمم القلوب وعمى البصائر. ثم إن الأشاعرة قالوا: إن ذلك بتخليق الله تعالى حيث صيرهم عاجزين ممتنعين عن الوقوف على دلائل الحق، ويوافقه ما روي عن ابن عباس أنه قال: إنه تعالى منع الكافرين من الإيمان في الدنيا وذلك قوله: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ الآية. وفي الآخرة كما قال: يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم: 42] . وقالت المعتزلة: المراد استثقالهم لاستماع الحق ونفورهم عنه كقول القائل: هذا الكلام مما لا أستطيع أن أسمعه، وهذا الشخص لا أستطيع أن أبصره. والمراد بالأولياء الأصنام كأنه قال: الذي سموه أولياء ليسوا في الحقيقة بأولياء. ثم نفى كونهم أولياء بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون فكيف يصلحون للولاية؟ وعلى هذا يكون قوله: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ اعتراضا بوعيد. واعلم أنه سبحانه وصف الكفار في هذه الآيات بصفات كثيرة. الأولى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى الثانية أُولئِكَ يُعْرَضُونَ أي في موقف الذل والهوان. الثالثة بيان الخزي والفضيحة في قوله: وَيَقُولُ الْأَشْهادُ الرابعة اللعنة عليهم. الخامسة الصد عن سبيل الله. السادسة سعيهم في إلقاء الشبهات وذلك قوله: وَيَبْغُونَها عِوَجاً. السابعة كونهم كافرين بالآخرة. الثامنة كونهم عاجزين عن الفرار أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا. التاسعة وَما كانَ لَهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ. العاشرة مضاعفة العذاب لهم. الحادية عشرة والثانية عشرة ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ الآية. الثالثة عشرة أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وقد مر في «الأنعام» . الرابعة عشرة وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ وقد سبق في «يونس» . الخامسة عشرة لا جَرَمَ قال الفراء إنها بمنزلة قولك لا بد ولا محالة ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقا. وقال النحويون: «لا» حرف نفي وجرم أي قطع معناه لا قطع قاطع أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ وقال الزجاج «لا» نفي لما ظنوا أنه ينفعهم و «جرم» معناه كسب، والمعنى لا ينفعهم ذلك وكسب لهم ذلك الفعل خسار الدارين. قال الأزهري: وهذا من أحسن ما قيل في هذه اللفظة قوله في وعد المؤمنين وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ معناه اطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع من الخبت وهي الأرض المطمئنة، وفيه إشارة إلى أن الأعمال لا بد فيها من الأحوال القلبية الموجبة للالتفات عما سوى الله. وقيل: المراد اطمئنانهم وتصديقهم كل ما وعد الله به من الثواب وضده. وقيل: المراد كونهم خائفين من قوع الخلل في بعض تلك الأعمال. ثم ضرب للفريقين مثلا وهو إما تشبيهان بأن شبههما تارة بالأعمى والبصير وأخرى بالأصم والسميع، وإما تشبيه واحد والواو لعطف الصفة على الصفة فيكون قد شبه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين البصر والسمع. ولا شك أن الفريق الكافر هو الذي وصفه بالصفات الخمس عشرة، وأما الفريق المؤمن فقيل: المراد به قوله: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ وقيل: المذكورون في قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثم أنكر تساويهما في الأحكام والمراتب بقوله هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أي تشبيها. وفي قوله: أَفَلا تَذَكَّرُونَ تنبيه على أن علاج هذا العمى وهذا الصمم ممكن بتبديل الأخلاق وتغيير الأحوال بتيسير الله تعالى وتوفيقه. التأويل: الر الألف إشارة إلى الله، واللام الى جبرائيل، والراء إلى الرسول. يعني ما أنزل الله على لسان جبرائيل إلى الرسول كتاب مبين من لدن حكيم خبير كقوله: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا [الكهف: 65] ورأس العلم اللدني أن تقول لأمتك يا محمد أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ مما ضاع من عمركم في غير طلب الله ثُمَّ تُوبُوا ارجعوا إِلَيْهِ بقدم السلوك لتكون التوبة تحلية لكم بعد التزكية بالاستغفار. يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً هو الترقي في المقامات العلية إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو حين انقضاء المقامات وابتداء درجات الوصول وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي يؤت كل ذي صدق واجتهاد في الطلب درجات الوصول، فإن المشاهدات بقدر المجاهدات. والحاصل أن المتاع الحسن في مراتب السير إلى الله وإيتاء الفضل في درجات السير في الله. عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو عذاب الانقطاع عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 الله الكبير أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثياب الجسمية على وجه الروح كان يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من حرمان النور المرشش ومن نقص الحرمان تحت ثياب القالب وَما يُعْلِنُونَ من ثني الصدور إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما في الصدور من القلوب الظلمانية. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها لأن كل حيوان له صفة مخصوصة ومزاج مخصوص وغذاؤه يجب أن يكون ملائما لمزاجه. فعلى ذمة كرم الله أنه كما خلق أجسادها على الأمزجة المتعينة يخلق غذاءها موافقا لمزاج كل منها، ثم يهديها إلى ما هو أوفق لها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها في العدم كيف قدرها مستعدة للصور المختصة بها وَمُسْتَوْدَعَها الذي تؤول إليه عند ظهور ما فيها بالقوة إلى الفعل. لِيَبْلُوَكُمْ فإن العالم بما فيه محل الابتلاء ومحك السعداء والأشقياء. وَلَئِنْ قُلْتَ للأشقياء موتوا عن الطبيعة باستعمال الشريعة ومزاولة الطريقة لتحيوا بالحقيقة فإن الحياة الحقيقية تكون بعد الموت عن الحياة الطبيعية لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا حسن استعدادهم الفطري بتعلق الشهوات الفانية إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي كلام مموه لا أصل له. وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ عذاب البعد إِلى أُمَّةٍ إلى حين ظهور ذوق العذاب فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. [سورة هود (11) : الآيات 25 الى 49] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 القراآت: إِنِّي لَكُمْ بكسر الهمزة: نافع وابن عامر وعاصم وحمزة. والآخرون بفتحها بادِيَ بالهمزة: أبو عمرو ونصير. الرَّأْيِ بالياء: أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف فَعُمِّيَتْ مجهولا مشددا: حمزة وعلي وخلف وحفص. الباقون بضدهما أَنُلْزِمُكُمُوها باختلاس ضمة الميم: عباس أَجرِيَ إِلَّا بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص وَلكِنِّي أَراكُمْ بالفتح حيث كان: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو نُصْحِي إِنْ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو بِأَعْيُنِنا مدغما. حيث كان: عباس مِنْ كُلٍّ بالتنوين حيث كان: حفص والمفضل مَجْراها بفتح الميم بالإمالة: حمزة وعلي وخلف وحفص مَجْراها بالضم وبالإمالة: أبو عمرو. والباقون بالضم مفخما. يا بُنَيَّ بفتح الياء: عاصم ارْكَبْ مَعَنا مظهرا: عاصم وحمزة عمل على أنه فعل غير بالنصب: علي وسهل ويعقوب. الآخرون عَمَلٌ غير بالرفع فيهما تَسْئَلْنِ بالنون المشددة المكسورة لإدغام النون المخففة في نون الوقاية بعد حذف ياء المتكلم في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 الحالين: ابن عامر وقالون: بإثبات الياء في الوصل: أبو جعفر ونافع غير قالون بفتح النون المشددة: ابن كثير تَسْئَلْنِي بغير نون التأكيد وإثبات الياء في الحالين سهل ويعقوب الباقون بغير ياء في الحالين إِنِّي أَعِظُكَ إِنِّي أَعُوذُ بفتح الياء فيهما: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو. الوقوف: مُبِينٌ هـ لا إِلَّا اللَّهَ ط أَلِيمٍ هـ الرَّأْيِ ج كاذِبِينَ هـ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ط كارِهُونَ هـ مالًا ط آمَنُوا ط تَجْهَلُونَ هـ طَرَدْتُهُمْ ط تَذَكَّرُونَ 5 خَيْراً ط أَنْفُسِهِمْ ج الظَّالِمِينَ هـ الصَّادِقِينَ هـ بِمُعْجِزِينَ هـ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ط تُرْجَعُونَ هـ ط افْتَراهُ ط تُجْرِمُونَ هـ يَفْعَلُونَ هـ ج للآية والعطف ظَلَمُوا ج لاحتمال التعليل. مُغْرَقُونَ هـ سَخِرُوا مِنْهُ هـ تَسْخَرُونَ هـ ط تَعْلَمُونَ هـ لا لأن ما بعده مفعول مُقِيمٌ هـ التَّنُّورُ هـ لا لأن ما بعده جواب «إذا» وَمَنْ آمَنَ ط قَلِيلٌ هـ ط وَمُرْساها ط رَحِيمٌ هـ الْكافِرِينَ هـ مِنَ الْماءِ ط، رَحِمَ ج لاتفاق الجملتين مع اختلاف العامل. الْمُغْرَقِينَ هـ الظَّالِمِينَ هـ الْحاكِمِينَ هـ مِنْ أَهْلِكَ ج عِلْمٌ ط الْجاهِلِينَ هـ عِلْمٌ ط الْخاسِرِينَ هـ مَعَكَ ط أَلِيمٌ هـ إِلَيْكَ ج ط لاحتمال ما بعده الحال أو الاستئناف هذا ط وعلى قوله: فَاصْبِرْ أحسن للابتداء ب «أن» لِلْمُتَّقِينَ هـ. التفسير: لما أورد على الكفار أنواع الدلائل أكدها بالقصص على عادته من التفنن في الكلام والنقل من أسلوب إلى أسلوب في الموعظة فبدأ بقصة نوح. ومعنى إِنِّي لَكُمْ أي متلبسا بهذا الكلام وهو قوله: إِنِّي لَكُمْ فلما اتصل به الجار فتح ومن كسر فعلى إرادة القول. وأَنْ لا تَعْبُدُوا بدل من إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ أي أرسلناه بأن لا تعبدوا إِلَّا اللَّهَ أو يكون «أن» مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير. ووصف اليوم بأليم لوقوع الألم فيه فيكون مجازا. وكذا لو جعل الوصف للعذاب والجر بالجوار. ثم حكى أنه طعن أشراف قومه في نبوته من ثلاث جهات: الأولى أنه بشر مثلهم. الثانية أنه لم يتبعه إلا الأراذل يعنون أصحاب الحرف الخسيسة كالحياكة وغيرها قالوا: لو كنت صادقا لا تبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم. والأراذل جمع أرذل. وقيل: جمع الأرذال جمع رذل وهو الدون من كل شيء في منظره وحالاته. ومعنى بادِيَ الرَّأْيِ أول الرأي وهو نصب على الظرف أي اتبعوك في ابتداء حدوث الرأي من غير روية، أو معناه ظاهر الرأي من قولك بدا الشيء إذا ظهر، ومنه البادية للبرية لظهورها وبروزها للناظر. وهذا تفسير من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 قرأ بغير همز. وعلى هذا فالمراد أنهم اتبعوك في الظاهر وباطنهم بخلافه، أو اتبعوك وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ويجوز أن يتعلق بادِيَ الرَّأْيِ بقوله: أَراذِلُنا أي كونهم كذلك أمر ظاهر لكل من يراهم عيانا، ويتأكد هذا التأويل بما نقل عن مجاهد أنه قرأ إلا الذين هم أراذلنا رأي العين وإنما استرذلوا المؤمنين لاعتقادهم أن المزية عند الله سبحانه بالمال والجاه ولم يعلموا أن ذلك مبعد من الحق لا مقرب منه، وأن الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف يجعل قلة المال طعنا في النبوة وفي متابعة النبي. الشبهة الثالثة: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ لا في العقل ولا في كيفية رعاية المصالح ولا في قوة الجدل بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ خطاب لنوح ولمن آمن به بتبعيته، أو خطاب للأراذل كأنهم نسبوهم إلى الكذب في ادعاء الإيمان. ثم حكى ما أجاب به نوح قومه وهو أن حصول المساواة في صفة البشرية لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة وذلك قوله: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ برهان مِنْ رَبِّي وَآتانِي بإيتاء تلك البينة رَحْمَةً وعلى هذا البينة هي الرحمة، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة وبالرحمة النبوة وقيل بالعكس فَعُمِّيَتْ خفيت أو أخفيت البينة أو كل من البينة والرحمة أي صارت مظلمة مشتبهة في عقولكم. والبينة توصف بالإبصار والعمى مجازا باعتبار نتيجتها كما أن دليل القوم إن كان بصيرا اهتدوا وإن كان أعمى بقوا خابطين متحيرين. ثم قال: أَنُلْزِمُكُمُوها أي أنكرهكم على قبول البينة وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ والمراد أنا لا نقدر على إيصال حقيقة البينة إليك. وإنما يقدر على ذلك من هو قادر على الإيجاد والإعدام وتغيير الأحوال وتبديل الأخلاق. ثم ذكر أنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالا حتى يتفاوت الحال بسبب كون المجيب غنيا أو فقيرا وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا عن ابن جريج أنهم قالوا: إن أحببت يا نوح أن نتبعك فاطردهم فإنا لا نرضى بمشاركتهم، فلم يبذل ملتمسهم وعلل ذلك بقوله إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيعاقب من يطردهم أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من الإيمان الصحيح أو النفاق بزعمكم، أو المراد أنهم معتقدون لقاء ربهم وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ لقاء ربكم وأنهم خير منكم، أو قوما تسفهون حيث تسمون المؤمنين أراذل. ثم أكد عدم طردهم بقوله: وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ من يمنعني من عقابه إِنْ طَرَدْتُهُمْ لأن العقل والشرع توافقا على أنه لا بد من تعظيم المؤمن البر المتقي ومن إهانة الكافر الفاجر فكيف يليق بنبي الله أن يقلب هذه القضية. سؤال: إن كان طرد المؤمن لطلب مرضاة الكافر معصية فكيف فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نهي عنه بقوله: وَلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ؟ الجواب أنه لم يكن ذلك طردا مطلقا وإنما عين لأجلهم أوقاتا مخصوصة، ولأشراف قريش أوقاتا أخرى فعوتب على ذلك القدر. احتجت المعتزلة بالآية على عدم الشفاعة للفاسق إذ لو كانت جائزة لكانت في حق نوح أولى، فلم يقل من الذي يخلصني من عذابه. وأجيب بأنه مخصوص بآيات العفو. ثم ذكر أنه كما لا يسألهم مالا فإنه لا يدعي أن عنده خزائن الله حتى يجحدوا أن له فضلا عليهم من هذه الجهة. وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ حتى أصل به إلى ما أريده لنفسي ولأتباعي وأطلع على الضمائر وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ أتعظم بذلك عليكم بل طريقي الخضوع والتواضع وعدم الاستنكاف عن مخالطة الفقراء وقد مر في «الأنعام» سائر ما يتعلق بالآية. ومعنى تَزْدَرِي تعيب وتحقر والازدراء افتعال من زرى عليه إذا عابه. وفي قوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ دلالة على أنهم كانوا ينسبون اتباعه مع الفقر والذلة الى النفاق إِنِّي إِذاً أي إن قلت شيئا من ذلك كنت من الظالمين لنفسي. أو إن قلت إن الله لن يؤتيهم خيرا مع أنه لا وقوف لي على باطنهم. ثم إن قومه وصفوه بكثرة الجدال قائلين يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا قال أهل المعاني: أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته كقولك: جاد لي فلان فأكثر. لم ترد أنه أعطى عطيتين أقل فأكثر بل تريد أن الوصف مقارن للموصوف. وفي الآية دلالة على أن الجدال في تقرير دلائل التوحيد من دأب أكابر الأنبياء. ثم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به فأجاب نبي الله بأن ذلك ليس إليّ وإنما هو بمشيئة الله وإرادته ولا يعجزه عن ذلك أحد. وقوله: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي كقول القائل لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار إن أكلت الخبز لم يقع الطلاق إلا إذا دخل الدار فأكل الخبز. ولهذا قال الفقهاء: المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى فكأنه قيل: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فإن أردت أن أنصح لكم لم ينفعكم نصحي. واحتجاج الأشاعرة بالآية ظاهر. وأجابت المعتزلة بأنه لا يلزم من فرض أمر وقوعه، ولعل نوحا إنما قال ذلك ليبين لهم أنه تعالى بنى أمر التكليف على الاختيار وإلا لم يكن للنصح فائدة، ولو تشبت الخصم بالجبر لزم إفحام النبي. ومن الجائز أن يراد بالإغواء التعذيب من غوى الفصيل إذا بشم فهلك، أو يراد به الخيبة كقوله: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59] أي خيبة من خير الآخرة، أو يراد به منع الألطاف وقد تقدم أمثال ذلك مرارا. ثم أشار إلى المبدإ والمعاد بقوله: هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ثم أنكر الله سبحانه عليهم قولهم إنما ادعاء نوح أنه أوحي إليه مفترى فقال: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ فأمره بأن يجيب بكلام منصف وهو قوله: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي عقاب إثمي وهو الافتراء. وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ أي من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 إجرامكم وهو إسناد الافتراء إليّ وهاهنا إضمار كأنه قيل: لكني ما افتريته فالإجرام وعقابه عليكم وأنا بريء منه. وأكثر المفسرين على أن هذه الآية من تمام قصة نوح. وعن مقاتل أنها من قصة محمد صلى الله عليه وسلم وقعت في أثناء قصة نوح. قوله سبحانه: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ إقناط له من إيمانهم الذي كان يتوقعه منهم بدليل قوله: إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فإن «قد» للتوقع. وقوله: فَلا تَبْتَئِسْ تسلية له أي لا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك فقد حان وقت الانتقام منهم. قال أكثر المعتزلة: إنه لا يجوز أن ينزل الله عذاب الاستئصال على قوم يعلم أن فيهم من يؤمن أوفي أولادهم من يؤمن بدليل دعاء نوح رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إلى قوله: إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: 27] علل الإهلاك بمجموع الأمرين فدل ذلك على أنهما لو لم يحصلا لم يجز الإهلاك. وذهب كثير منهم إلى الجواز، فليس كل خبر معلوم بواجب الوقوع نعم كلما يقع يجب أن يكون على الوجه الأصلح. ومذهب الأشاعرة في هذا المعنى ظاهر فله أن يفعل في ملكه ما شاء. ثم عرفه وجه إهلاكهم وألهمه وجه خلاص من آمن فقال: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ وهو أمر إيجاب على الأظهر لأنه لا سبيل إلى صون روحه عن الهلاك في الطوفان إلا بذلك، وصون النفس واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقيل: أمر إباحة كمن أمر أن يتخذ الإنسان لنفسه دارا يسكنها. والإنصاف أن الأمر ظاهره الوجوب وإن قطعنا النظر عن فائدته وغايته. وقوله: بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا في موضع الحال أي متلبسا بذلك. والسبب فيه أن إقدامه على صنعة السفينة مشروط بأمرين: أحدهما أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل وأشار إليه بقوله: بِأَعْيُنِنا وليست العين بمعنى الجارحة لأنه منزه عن الجوارح والأعضاء فالمراد بها الحفظ والحياطة والكلاءة لأن العين آلة الحفظ والحراسة. والثاني أن يكون عالما بكيفية تركيب الأخشاب ونحتها. عن ابن عباس: لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر. وقيل: المراد عين الملك الذي كان يعرّفه كيفية اتخاذ السفينة. ثم قال: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي في شأنهم. وقيل: علل عدم الخطاب بقوله: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي إنهم محكوم عليهم بالإغراق وقد جف القلم عليهم بذلك فلا فائدة للشفاعة. وقيل: لا تخاطبني في تعجيل عقابهم فإنهم يغرقون في الوقت المعين لذلك فلا فائدة في الاستعجال فلكل أمة أجل. وقيل: المراد بالذين ظلموا امرأته واعلة وكنعان ابنه. ثم حكى الحال الماضية بقوله: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ والحال أنه كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ يحتمل أن يكون هذا جوابا ل «كلما» وقوله: قالَ إِنْ تَسْخَرُوا استئناف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 على تقدير سؤال سائل كأنه قيل: ماذا قال نوح حينئذ؟ ويحتمل أن يكون سَخِرُوا بدلا من مَرَّ أو صفة ل مَلَأٌ وقالَ جواب قيل كانوا يقولون: يا نوح كنت نبيا فصرت نجارا، ولو كنت صادقا في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق. وقيل: إنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك فكانوا يتعجبون ويسخرون. وقيل: إنها كانت كبيرة وكان يصنعها في مفازة بعيدة عن الماء فكانوا يقولون هذا من باب الجنون. وقيل: طالت مدته وكان ينذرهم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة وليس منه عين ولا أثر فغلب على ظنونهم كونه كاذبا فيسخرون منه فأجابهم بقوله: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا في الحال فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ في المستقبل إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة، أو إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله، أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم لأنكم لا تستجهلون إلا عن الجهل بحقيقة الأمر. والبناء على ظاهر الحال كما هو عادة الأغمار. وسمي جزاء السخرية سخرية كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] ثم هددهم بقوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ في الدنيا وهو عذاب الغرق وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ في الآخرة لازم لزوم الدين الحال للغريم. و «من» موصولة أو استفهامية وقد مر في «الأنعام» . روي أن نوحا عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا وارتفاعها ثلاثين، وكانت من خشب الساج، وجعل لها ثلاثة بطون: الأسفل للوحوش والسباع والهوام، والأوسط للدواب والأنعام، والأعلى للناس ولما يحتاجون إليه من الزاد وحمل معه جسد آدم. وقال الحسن: كان طولها ألفا ومائتي ذراع وعرضها ستمائة. قوله: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا هي غاية لقوله: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ أي كان يصنعها إلى أن جاء وقت الأمر بالإهلاك. وَفارَ التَّنُّورُ أي نبع الماء منه بشدة وسرعة تشبيها بغليان القدر. والتنور هي التي يختبز فيها فقيل: هو مما استوى فيه العربي والعجمي. وقيل: معرب لأنه لا يعرف في كلام العرب نون قبل راء. عن ابن عباس والحسن ومجاهد: هو تنور نوح. وقيل: كان لآدم وحواء حتى صار لنوح وموضعه بناحية الكوفة قاله مجاهد والشعبي. وعن علي رضي الله عنه أنه في مسجد الكوفة وقد صلى فيه سبعون نبيا. وقيل: بالشام بموضع يقال له عين وردة قاله مقاتل. وقيل: بالهند. روي أن امرأته كانت تخبز فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في تلك الحال بوضع الأشياء في السفينة وكان الله تعالى جعل هذه الحالة علامة لواقعة الطوفان. ويروى عن علي رضي الله عنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 أيضا أن المراد بالتنور وجه الأرض لقوله: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: 12] وعنه أيضا كرم الله وجهه أن معنى فارَ التَّنُّورُ طلع الصبح. وقيل: معناه اشتد الأمر كما يقال حمي الوطيس. والمراد إذا رأيت الأمر يشتد والماء يكثر فاركب في السفينة وذلك قوله قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ والزوجان شيئان يكون أحدهما ذكرا والآخر أنثى. فمن قرأ بالإضافة فمعناه احمل من كل صنفين بهذا الوصف اثنين، ومن قرأ بالتنوين فالمراد حمل من كل شيء زوجين. واثنين للتأكيد ولا يبعد أن يكون النبات داخلا فيه لاحتياج الناس إليه وَأَهْلَكَ معطوف على مفعول احْمِلْ وكذا مَنْ آمَنَ وقوله إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ قال الضحاك: أراد ابنه وامرأته قدر الله لهما الكفر إذ علم منهما ذلك. ثم قال وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ أي نفر قليل: عن مقاتل أنهم ثمانون وبهم سموا قرية الثمانين بناحية الموصل لأنهم لما خرجوا من السفينة بنوها. وقيل: اثنان وسبعون رجلا وامرأة، وأولاد نوح: سام وحام ويافث ونساؤهم. فالجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء. وعن محمد بن إسحق كانوا عشرة، وعن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ثمانية، نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم. وقيل في بعض الروايات: إن إبليس دخل معه السفينة وفيه بعد لأنه جسم ناري فلا يؤثر الغرق فيه. قوله سبحانه وتعالى حكاية عن نوح وأهله وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها الآية. فيه أبحاث الأول: أن الركوب متعد بنفسه يقال: ركبت الدابة والبحر والسفينة أي علوتها. فما الفائدة في زيادة لفظة «في» ؟ قال الواحدي: فائدته أن يعلم أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهره. الثاني قوله: بِسْمِ اللَّهِ إما أن تتعلق بقوله: ارْكَبُوا حالا من الواو أي مسمين الله، أو قائلين باسم الله ومَجْراها وَمُرْساها مصدران حذف منهما الوقت المضاف كقولهم: جئتك خفوق النجم ومقدم الحاج، أو يراد مكان الإجراء والإرساء أو زمانهما. وانتصابهما بما في بسم الله من معنى الفعل، أو بالقول المقدر. وعلى التقادير يكون مجموع قوله: وَقالَ ارْكَبُوا إلى قوله: وَمُرْساها كلاما واحدا. وإما أن يكون بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها كلاما آخر من مبتدإ وخبر أي باسم الله إجراؤها وإرساؤها. يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله فرست. ويجوز أن يقحم الاسم كقوله: تم اسم السلام عليكما، ويراد بالله إجراؤها وإرساؤها، وكان نوح أمرهم بالركوب أوّلا ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. وجوز في الكشاف أن تكون هذه الجملة في موضع الحال من ضمير الفلك ولا تكون جملة مستأنفة ولكن فضلة من تتمة الكلام الأول كأنه قال اركبوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 فيها مقدرين أن إجراءها وإرساءها باسم الله تعالى. يقال: رسا الشيء يرسو إذا ثبت، وأرساه غيره. يروى أنها سارت لأول يوم من رجب أو لعشر مضين منه فسارت ستة أشهر ثم استوت على الجودي يوم العاشر من المحرم. ويروى أنها مرت بالبيت وطافت به سبعا فأعتقها الله من الغرق. البحث الثالث قوله: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ كيف ناسب مقام الإهلاك وإظهار العزة؟ والجواب كان القوم اعتقدوا أنهم نجوا ببركة إيمانهم وعملهم، فنبههم الله تعالى بهذا الذكر على أن الإنسان في كل حال من أحواله لا ينفك عن ظلمات الخطأ والزلل فيحتاج إلى مغفرة الله ورحمته. وفي الآية إشارة إلى أن العاقل إذا ركب في سفينة الفكر ينبغي أن يكون قد برىء من حوله وقوته وقطع النظر عن الأسباب وربط قلبه وعلق همته بفضل واهب العقل فيقول بلسان الحال باسم الله مجريها ومرسيها حتى تصل سفينة فكره إلى ساحل الإيقان، وتتخلص عن أمواج الشبه والظنون والأوهام. قال في الكشاف: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ متصل بمحذوف كأنه قيل: فركبوا فيها يقولون باسم الله وهي تجري بهم وهم فيها فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ في التراكم والارتفاع، فلعل الأمواج أحاطت بالسفينة من الجوانب فصارت كأنها في داخل تلك الأمواج. واختلف المفسرون في قوله: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ فالأكثرون على أنه ابن له في الحقيقة لئلا يلزم صرف الكلام عن الحقيقة الى المجاز من غير ضرورة، ولا استبعاد في كون ولد النبي كافرا كعكسه. واعترض على هذا القول بأنه كيف ناداه مع كفره وقد قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً؟ [نوح: 26] وأجيب بأنه كان منافقا وظن نوح أنه مؤمن أو ظن أنه كافر إلا أنه توقع منه الإيمان عند مشاهدة العذاب بدليل قوله: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ أو لعل شفقة الأبوة حملته على ذلك النداء. وعن محمد بن علي الباقر والحسن البصري أنه كان ابن امرأته ويؤيده ما روي أن عليا رضي الله عنه قرأ ونادى نوح ابنها ويؤكد هذا الظن قوله: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي دون أن يقول «إنه مني» وقيل: إنه ولد على فراشه لغير رشدة وإليه الإشارة بقوله تعالى فَخانَتاهُما [التحريم: 10] ورد هذا القول بأنه يجب صون منصب الأنبياء عن مثل هذه الفضيحة لقوله: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور: 26] وفسر ابن عباس تلك الخيانة بأن امرأة نوح كانت تقول زوجي مجنون. وامرأة لوط دلت الناس على ضيفه. وقوله: وَكانَ فِي مَعْزِلٍ هو مفعل من عزله عنه إذا نحاه أو أبعده أي كان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن السفينة وعمن فيها، أو كان في معزل عن دين أبيه. وقيل في معزل عن الكفار ولهذا ظن نوح أنه يريد مفارقة الكفرة، ولكن قوله: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ لا يساعد هذا القول. وقوله يا بُنَيَّ بكسر الياء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 لأجل الاكتفاء به عن ياء الإضافة، وبفتحها اكتفاء به عن الألف المبدلة من الياء، ويجوز أن يكون الياء والألف ساقطتين من اللفظ فقط لالتقاء الساكنين. ثم حكى إصرار ابنه على الكفر بأن قال سَآوِي إِلى جَبَلٍ فأجاب نوح بأنه لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ واعترض عليه بأن معنى مَنْ رَحِمَ من رحمه الله وهو معصوم فكيف يصح استثناؤه من العاصم؟ وأجيب بأن «من» فاعلة في المعنى لا مفعول، والمراد نوح لأنه سبب الرحمة والنجاة كما أضيف الإحياء إلى عيسى عليه السلام، أو الرحيم الذي مر ذكره في قوله: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وهو عاصم لا معصوم، أو هو استثناء مفرغ والتقدير لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا لمن رحم، أو العاصم بمعنى ذو العصمة كلابن وتامر. وذو العصمة المعصوم أو المضاف محذوف والتقدير لا عاصم قط إلا مكان من رحمهم الله ونجاهم يعني السفينة، أو هو استثناء منقطع كأنه قيل: ولكن من رحمه الله فهو المعصوم وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي بسبب هذه الحيلولة خرج من أن يخاطبه نوح فصار من جملة الغرقى. قوله سبحانه: وَقِيلَ يا أَرْضُ الآية. مما اختص بمزيد البلاغة حتى صارت متداولة بين علماء المعاني فتكلموا فيها وفي وجوه محاسنها فلا علينا أن نورد هاهنا بعض ما استفدنا منهم فنقول: النظر فيها من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني، ومن جهتي الفصاحتين المعنوية واللفظية. أما من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها. فالقول فيه أنه عز سلطانه أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح وهو إنجاؤه وإغراق قومه كما وعدناه فقضي، وأن تستوي السفينة على الجودي- وهو جبل بقرب الموصل- فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى، فبنى الكلام على تشبيه الأرض والسماء بالمأمور الذي لا يتأتى منه- لكمال هيبته- العصيان، وعلى تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوّن المقصود تصويرا لاقتداره، وأن السماء والأرض مع عظم جرمهما تابعتان لإرادته إيجادا وإعداما وتغييرا وتصريفا كأنهما عقلاء مميزون قد أحاطا علما يوجب الامتثال والإذعان لخالقهما، فاستعمل قِيلَ بدل «أريد» مجازا إطلاقا للمسبب على السبب، فإن صدور القول إنما يكون بعد إرادته. وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد بقوله: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ والخطابان أيضا على سبيل الاستعارة للشبه المذكور وهو كون السماء والأرض كالمأمورين المنقادين. وأيضا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو إعمال القوة الجاذبة في الطعوم للشبه بين الغور والبلع وهو الذهاب إلى مقر خفيّ. وو جعل قرينة الاستعارة نسبة الفعل إلى المفعول، وفي جعل الماء مكان الغذاء أيضا استعارة لأنه شبه الماء بالغذاء لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوّي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة ابْلَعِي لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء. ثم أمر الجماد على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره وخاطب في الأمر دون أن يقول ليبلع ترشيحا لاستعارة النداء إذ كونه مخاطبا من صفات الحي كما أن كونه منادى من صفاته ثم قال ماءَكِ بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك. واختار ضمير الخطاب دون أن يقول «ليبلع ماؤها» لأجل الترشيح المذكور. ثم اختار مستعيرا لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر لمثل ما تقدم في ابْلَعِي من ترشيح استعارة النداء. ثم قال وَغِيضَ الْماءُ غاض الماء قل ونضب، وغاضه الله يتعدى ولا يتعدى وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً فلم يصرح بالفاعل سلوكا لسبيل الكناية لأن هذه الأمور لا تتأتى إلا من قدير قهار فلا مجال لذهاب الوهم إلى غيره، ومثله في صدر الآية ليستدل من ذكر الفعل وهو اللازم على الفاعل وهو الملزوم وهذا شأن الكناية، ثم ختم الكلام بالتعريض لأنه ينبىء عن الظلم المطلق وعن علة قيامة الطوفان. وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة منها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، فذلك أنه اختير «يا» للنداء لأنها أكثر استعمالا ولدلالتها على تبعيد المنادى الذي يستدعيه مقام العزة والهيبة، ولهذا لم يقل «يا أرضي» بالإضافة تهاونا بالمنادى، ولم يقل «يا أيتها الأرض» للاختصار مع الاحتراز عن تكلف التنبيه لمن ليس من شأنه التنبيه. واختير لفظ الأرض والسماء لكثرة دورانهما مع قصد المطابقة، واختير ابْلَعِي على ابتلعي لكونه أخصر ولمجيء حظ التجانس بينه وبين أَقْلِعِي أوفر. وقيل: ماءَكِ بلفظ المفرد لما في الجمع من الاستكثار المتأتي عنه مقام العزة والاقتدار، وكذا في إفراد الأرض والسماء. ولم يحذف مفعول ابْلَعِي لئلا يلزم تعميم الابتلاع لكل ما على الأرض. ولما علم اختصاص الفعل فيه اقتصر عليه فحذف من أَقْلِعِي حذرا من التطويل. وإنما لم يقل «ابلعي ماءك فبلعت» لأن عدم تخلف المأمور به عن أمر الآمر المطاع معلوم. واختير غِيضَ على غيض المشددة للاختصار ولمثل هذا عرف الماء والأمر دون أن يقال ماء الطوفان، أو أمر نوح للاستغناء عن الإضافة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 بالتعريف العهدي ولم يقل سويت لتناسب أول القصة وهي تجري بهم من بناء الفعل للفاعل، ولأن اسْتَوَتْ أخصر لسقوط همزة الوصل. ثم قيل: بُعْداً لِلْقَوْمِ دون أن يقال «ليبعد القوم من بعد» بالكسر يبعد بالفتح إذا هلك، للتأكيد مع الاختصار ودلالة «لام» الملك على أن البعد حق لهم. وقول القائل «بعدا له» من المصادر التي لا يستعمل إظهار فعلها. ثم أطلق الظلم ليتناول ظلم أنفسهم وظلمهم غيرهم. وأما ترتيب الجمل فقدم النداء على الأمر ليتمكن الأمر الوارد عقيب النداء كما في نداء الحي، وقدم نداء الأرض لابتداء الطوفان منها بدليل قوله: وَفارَ التَّنُّورُ ثم بين نتيجة البلع والإقلاع بقوله: وَغِيضَ الْماءُ ثم ذكر مقصود القصة وهو قوله وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة وإنجاء المؤمنين. ثم بين حال استقرار السفينة بقوله: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وكان جبلا منخفضا فكان استواء السفينة عليه دليلا على انقطاع مادة الماء. ثم ختمت القصة بما ختمت من التعريض. قيل: كيف يليق بحكمة الله تغريق الأطفال بسبب إجرام الكفار؟ وأجيب على أصول الأشاعرة بأنه لا يسأل عما يفعل، وعلى أصول المعتزلة بأنه يعوض الأطفال والحيوانات كما في ذبحها واستعمالها في الأعمال الشاقة. وقد روى جمع من المفسرين أنه سبحانه أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ أربعين. وهذا مع تكلفه لا يتمشى في الجواب عن إهلاك سائر الحيوانات. والظاهر أن القائل في قوله: وَقِيلَ بُعْداً هو الله تعالى لتناسب صدر الآية، ويحتمل أن يكون القائل نوحا وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع القوم الظلمة أنه يقول مثل هذا الكلام، ولأنه جار مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق. وأما النظر في الآية من جهة الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف، وتأدية المراد بأبلغ وجه وأتمه. وأما من جهة الفصاحة اللفظية فهي أنها كالعسل في الحلاوة، وكالنسيم في الرقة عذبة على العذبات سلسة على الأسلات، ولعل ما تركنا من لطائف هذه الآية بل كل آية أكثر مما نذكر والله تعالى أعلم بمراده من كلامه. وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ أي أراده أن يدعوه فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي بعض سواء كان من صلبه أو ربيبا له وَإِنَّ وَعْدَكَ أي كل ما تعد به الْحَقُّ الثابت الذي لا شك في إنجازه وقد وعدتني أن تنجي أهلي وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ أعلمهم وأعدلهم لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل، ويجوز أن يكون الحاكم بمعنى ذي الحكمة كدارع. قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي من أهل دينك أو من أهلك الذين وعدتهم الإنجاء معك. ثم صرح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 بأن العبرة بقرابة الدين والعمل الصالح لا بقرابة النسب فقال: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ من قرأ على لفظ الفعل فمعناه أنه عمل عملا غير صالح وهو الإشراك والتكذيب، ومن قرأ على لفظ الاسم فللمبالغة كما يقال: فلان كرم وجود إذا غلب عليه الكرم والجود وفي قوله: غَيْرُ صالِحٍ دون أن يقول «فاسد» تعريض بل تصريح بأنه إنما نجا من نجا بالصلاح، ويحتمل على هذه القراءة أن يعود الضمير في إِنَّهُ إلى سؤال نوح أي إن نداءك هذا المتضمن لسؤال إنجاء ابنك عمل غير صالح. وقيل: المراد أن هذا الابن ولد زنا وقد عرفت سقوطه. ثم نهاه عن مثل هذا السؤال ووبخه عليه بقوله: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ قال المحققون: الظاهر أن ابنه كان منافقا فلذلك اشتبه أمره على نوح، وحمله شفقة الأبوة أوّلا على دعوته إلى ركوب السفينة، فلما حال بينهما الموج لجأ إلى الله في خلاصه من الغرق، فعوتب على ذلك لأنه لما وعده الله إنجاءه أهله واستثنى منهم من سبق عليه القول كان عليه أن يتوكل على الله حق توكله ويعلم أن كل من كان من أهله مؤمنا فإنه يخلص من الغرق لا محالة. ولما لم يصبر إلى تبين الحال توجه إليه العتاب على ترك الأولى فلذلك تنبه ورجع إلى الله قائلا رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ فيما يستقبل من الزمان ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ تأدبا بآدابك واتعاظا بعظتك. وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ما فرط مني من الخطأ في باب الاجتهاد، أو من قلة الصبر على ما يجب عليه الصبر، وهذا التضرع مثل تضرع أبيه وأبينا آدم في قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا [الأعراف: 23] الآية. فلذلك عفى عنه. وقِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ أي من السفينة بعد استوائها على الجبل، أو انزل من الجبل إلى الفضاء ملتبسا بِسَلامٍ مِنَّا بسلامة من التهديد والوعيد بل من جميع الآفات والمخافات، لأنه لما خرج من السفينة كان خائفا من عدم المأكول والملبوس وسائر جهات الحاجات لأنه لم يبق في الأرض شيء يمكن أن ينتفع به من النبات والحيوانات. وقيل: أي مسلما عليك مكرما. والبركات الخيرات النامية الثابتة، وفسروها في هذا المقام بأنه وعد له بأن جميع أهل الأرض من الأشخاص الإنسانية يكون من نسله إما لأنه لم يكن في السفينة إلا من هو من ذريته، وإما لأنه لما خرج من السفينة مات من لم يكن من أهله وبقي النسل والتوالد في ذرّيته، دليله قوله سبحانه وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات: 77] فنوح آدم الأصغر. وقيل: لما وعده السلامة من الآفات وعده أن موجبات السلامة والراحة تكون في التزايد والثبات لا عليك وحدك بل وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ إن كان «من» للبيان فالمراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات، أو هم أصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 الأمم التي انشعبت منه. وإن كان لابتداء الغاية فالمعنى على أمم ناشئة ممن معك إلى آخر الدهر. وهذا شأن الأمة المؤمنة ثم ذكر حال الأمة الكافرة المتوالدة فقال: وَأُمَمٌ وهو رفع على الابتداء والخبر محذوف أي وممن معك أمم سَنُمَتِّعُهُمْ في الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ في الآخرة مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ عن ابن زيد: هبطوا والله عنهم راض، ثم أخرج منهم نسلا منهم من رحم ومنهم من عذب. وخصص بعضهم الأمم الممتعة بقوم هود وصالح ولوط وشعيب وتِلْكَ إشارة إلى قصة نوح وهو مبتدأ والجمل بعدها أخبار. وقوله وَلا قَوْمُكَ للمبالغة كقول القائل: لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا قومك ولا أهل بلدك. والمراد تفاصيل القصة وإلا فمجملها أشهر من أن يخفى. ومعنى مِنْ قَبْلِ هذا أي من قبل هذا الإيحاء أو العلم الذي كسبته بالوحي، أو من قبل هذا الوقت وكأن هذه القصة أعيدت في هذه السورة تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم على إنذار قومه ولذلك ختمت بقوله: فَاصْبِرْ كما صبر نوح وإِنَّ الْعاقِبَةَ الحميدة لِلْمُتَّقِينَ. التأويل: ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أي مخلوقا محتاجا مثلنا. وفيه أن النفس بنظرها السفلي ترى الروح العلوي سفليا فلهذا تنظر إلى النبي ولا ترى نبوته الحميدة، بل تراه بنظر الكذب والسحر والجنون إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ والأراذل من اتباع الروح البدن والجوارح الظاهرة، فإن الغالب على الخلق أن البدن يقبل دعوة الروح ويستعمل الجوارح بالأفعال الشرعية، ولكن النفس الأمارة تكون على كفرها ولا تخلي البدن أن يشتغل بالأعمال الشرعية الدينية إلا لغرض فاسد ومصلحة دنيوية كما هو المعتاد لأكثر الخلق. وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا من طبع النفس أن تتأذى من استعمال البدن وجوارحه في التكاليف الشرعية فتقول للروح: إن ترد أن أو من بك وأتخلق بأخلاقك فأمتع البدن وجوارحه في التكاليف مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ من يمنعني من قهره إن منعت البدن من الطاعة، فاقتصر على مجرد إيمان النفس وتخلقها بأخلاق الروح كما هو معتقد أهل الفلسفة والإباحة يقولون: إن أصل العبودية معرفة الربوبية وجمعية الباطن والتحلي بالأخلاق الحميدة. أَفَلا تَذَكَّرُونَ أن جمعية الباطن ونوره من نتائج استعمال الشرع في الظاهر؟ فالنور في الشرع والظلمة في الطبع، وإنما بعث الأنبياء ليخرجوا الخلق من ظلمات الطبع إلى نور الشرع لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً أي استعدادا لتحصيل الدرجات العلوية وإنهم مخلوقون من السفليات الله أعلم بما في نفس كل جارحة من استعداد تحصيل الكمال وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ من التكذيب. وفيه أن ذنوب النفس لا تؤثر في صفاء الروح ولا يتكدر بها ما كان الروح متبرئا من ذنوب النفس متأسفا على معاملات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 النفس وتتبع هواها. وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ الروح أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ وهم القلب وصفاته والسر والنفس وصفاتها والبدن وجوارحه إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ من خواص العباد وهم القلب وصفاتها والسر وصفات النفس والبدن وجوارحه. فأما النفس فإنها لا تؤمن أبدا اللهم إلا نفوس الأنبياء وخواص الأولياء فإنها تسلم أحيانا دون الإيمان فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ لأن أعمال الشر لنفوس السعداء كالجسد للإكسير ينقلب ذهبا مقبولا عند طرح الروح عليها، فكذلك تنقلب أعمال الشر خيرا عند طرح التوبة عليها فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ولا تبتئس على نفوس الأشقياء لأن أعمالها حجة الله على شقاوتهم، وبتلك السلاسل يسحبون في النار على وجوههم وَاصْنَعِ الْفُلْكَ اتخذ يا نوح الروح سفينة الشريعة بنظرنا لا بنظرك فإن نظرك تبع الحواس يبصر ظاهرها ويغفل عن أسرارها وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا فإن الظلم من شيم النفوس إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ في بحر الدنيا وشهواتها. وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ هم النفس وهواها وصفاتها تَسْخَرُونَ من استعمال أركان الشريعة إذ لم يفهموا حقائقها حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وهو حد البلوغ والركوب في سفينة الشريعة وَفارَ ماء الشهوة من تنور القالب قُلْنَا احْمِلْ في سفينة الشريعة من كل صفة وزوجها: كالشهوة وزوجها العفة، والحرص وزوجها القناعة، والبخل وزوجها السخاء، والغضب وزوجها الحلم، وكذا الحقد مع السلامة، والعداوة مع المحبة، والكبر مع التواضع، والتأني مع العجلة وَأَهْلَكَ وهم صفات الروح لا النفس وَمَنْ آمَنَ وهم القلب والسر. وفي قوله تعالى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ إشارة إلى أن من ركب سفينة الشرع بالطبع وتقليد الآباء والمعلمين لم يحصل له النجاة الحقيقية كما ركب إبليس بالطبع في سفينة نوح وإنما النجاة لمن ركب بأمر الله وذكره مجراها من الله ومرساها إلى الله كقوله: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42] فِي مَوْجٍ من الفتن كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ الروح ابْنَهُ كنعان النفس المتولد بينه وبين القالب وَكانَ فِي مَعْزِلٍ من معرفة الله وطلبه سَآوِي إِلى جَبَلٍ العقل يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ الفتن لا عاصِمَ الْيَوْمَ أي إذا نبع ماء الشهوات من أرض البشرية ونزل ماء ملاذ الدنيا وزينتها من سماء القضاء فلا يتخلص منه إلا من يرحمه الله بالاعتصام بسفينة الشريعة ابْلَعِي ماء شهواتك أَقْلِعِي عن إنزال مطر الآفات وَغِيضَ ماء الفتن ببركة الشرع وَقُضِيَ الْأَمْرُ ما كان مقدرا من طوفان الفتن للابتلاء والتربية، وَاسْتَوَتْ سفينة الشريعة عَلَى الْجُودِيِّ وهو مقام التمكين بعد مقامات التلوين وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وهو ما وعد نوح الروح عند إهباطه إلى العالم السفلي من الرجوع إلى العالم العلوي: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ وكان للروح أربعة بنين: ثلاثة من المؤمنين وهم القلب والسر والعقل، وواحد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 كافر وهو النفس. فنفى عن النفس أهلية الدين والملة لأنها خلقت للأمارية اهْبِطْ من سفينة الشريعة عند مفارقة الجسد والخلاص من طوفان الفتن وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ هم النفوس متعت بالحظوظ الدنيوية ثُمَّ يَمَسُّهُمْ في الآخرة عذاب البعد عن المألوفات، فَاصْبِرْ على تربية الروح والنفس إِنَّ الْعاقِبَةَ لمن اتقى طوفان فتن الدنيا والنفس والهوى. [سورة هود (11) : الآيات 50 الى 68] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) القراآت: فطرني بفتح الياء: أبو جعفر ونافع والبزي غير الخزاعي إِنِّي أُشْهِدُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 بالفتح: أبو جعفر ونافع. فَإِنْ تَوَلَّوْا بتشديد التاء: البزي وابن فليح. وَيَسْتَخْلِفُ بالجزم: الخزاز عن هبيرة. الباقون بالرفع يَوْمِئِذٍ بفتح الميم وكذلك في «المعارج» : أبو جعفر ونافع غير إسماعيل وعلي الشموني والبرجمي وعباس. الآخرون بالجر. أَلا إِنَّ ثَمُودَ غير منصرف والوقف بغير الألف: حمزة وحفص وسهل ويعقوب. الباقون بالتنوين والوقف بالألف. لِثَمُودَ بالتنوين في الوصل: علي. الوقوف: هُوداً ط غَيْرُهُ ط مُفْتَرُونَ هـ أَجْراً ط فَطَرَنِي ط تَعْقِلُونَ هـ مُجْرِمِينَ هـ بِمُؤْمِنِينَ هـ بِسُوءٍ ط تُشْرِكُونَ هـ لا لا تُنْظِرُونِ 5 وَرَبِّكُمْ ط بِناصِيَتِها ط مُسْتَقِيمٍ هـ بِهِ إِلَيْكُمْ ط للاستئناف إلا لمن قرأ وَيَسْتَخْلِفُ بالجزم غَيْرَكُمْ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال شَيْئاً ط حَفِيظٌ هـ مِنَّا ج لحق المحذوف أي وقد نجيناهم غَلِيظٍ هـ ط عَنِيدٍ هـ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ط رَبَّهُمْ ط هُودٍ هـ صالِحاً م لما مر في «الأعراف» . غَيْرُهُ ط إِلَيْهِ ط مُجِيبٌ هـ مُرِيبٍ هـ تَخْسِيرٍ هـ قَرِيبٌ هـ أَيَّامٍ ط مَكْذُوبٍ ط يَوْمِئِذٍ ط الْعَزِيزُ هـ جاثِمِينَ هـ لا لكاف التشبيه فِيها ط رَبَّهُمْ ط لِثَمُودَ 5. التفسير: قد مر في «الأعراف» تفسير قوله: وَإِلى عادٍ الآية، ومعنى قوله: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ أنكم كاذبون في قولكم إن هذه الأصنام يحسن عبادتها مع أنها لا حس لها ولا شعور. ثم قال مثل قول نوح يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً لأن النصيحة لا يمحضها إلا حسم المطامع أَفَلا تَعْقِلُونَ أن نصح من لا يطلب الأجر إلا من الله لا يكون من التهمة في شيء. قيل: إنما قال في قصة نوح مالًا دون أَجْراً لذكر الخزائن بعده، فلفظ المال بها أليق. وحذف الواو من يا قَوْمِ لأنه أراد الاستئناف أو البدل دون العطف. وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ قد مر مثله في أول السورة. وقال الأصم: المراد سلوه أن يغفر لكم ما تقدم لكم من إسرافكم ثم اعزموا على أن لا تعودوا إلى مثله. ثم قصد استمالتهم وترغيبهم في الإيمان بكثرة المطر وزيادة القوة لأن القوم كانوا حراصا على جميع الأموال من وجوه العمارة والزراعة مفتخرين بما أوتوا من البطش والقوة، فقدم إليهم في باب الدعوة إلى الدين والترغيب فيه ما كانت همتهم معقودة به ليحصل في ضمنه الغرض الكلي والمقصود الأصلي وهو الفوز بالسعادات الأخروية، وكأنه إنما خصص هذين النوعين من السعادات الدنيوية لأن الأول أصل جميع النعم، والثاني أصل في الانتفاع بتلك النعم. وقيل: المراد بالقوة الزيادة في المال. وقيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 في النكاح. وروي أنه حبس عنهم القطر بشؤم التكذيب ثلاث سنين وأعقم نساؤهم فوعدوا أنهم إن آمنوا أحيا الله بلادهم ورزقهم المال والولد. والمدرار الكثير الدر كما مر في أول «الأنعام» . عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنه وفد على معاوية فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال: إني رجل ذو مال لا يولد لي فقال: عليك بالاستغفار. فكان يكثر الاستغفار حتى إنه ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة فولد له عشرة بنين فبلغ ذلك معاوية فقال: هلا سألته مم قال ذلك؟ فوفد وفدة أخرى فسأله الرجل فقال: ألم تسمع قول هود وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وقول نوح وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ [نوح: 12] ثم قال هود لا تَتَوَلَّوْا أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه مُجْرِمِينَ مصرين على الإجرام والآثام. فجحدوا هودا وقالوا ما جئتنا ببينة كما قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الرعد: 27] ولم يشتهر منه معجزة ولكن العلماء قالوا: إظهار الدعوة مع أولئك الأقوام من غير مبالاة وتوان آية من الآيات. وقوله: عَنْ قَوْلِكَ حال من الضمير كأنه قيل: وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ لا يصدق مثلنا مثلك أبدا. ثم زعموا أن بعض آلهتهم اعتراه بسوء أي غشيه وأورثه الخبل والجنون لأنه كان يسب آلهتهم وذلك قولهم: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ وإلا لغو أي ما نقول شيئا إلا هذا القول فمن ثم يتكلم بكلام المجانين. والمراد أن الأصنام كافأته على سوء فعله بسوء الجزاء فأظهر نبي الله الجلادة والثقة بالله فيما هو بصدده وتبرأ منهم ومن شركهم فأشهد الله وذلك إشهاد صحيح، وأشهدهم أيضا وهذا كالتهاون وقلة المبالاة بهم كقول الرجل لمن نوى قطعه بالكلية: اشهد عليّ أني لا أحبك تهكما به. وقد مر قوله: فَكِيدُونِي الآية في آخر سورة الأعراف. وقوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها تمثيل لغاية التسخير ونهاية التدليل، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته فكان علامة لقهره. قالت المعتزلة: هذا دليل التوحيد لدلالته على أنه لا مالك إلا هو. وقوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دليل العدل. والأشاعرة قالوا: معناه معنى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: 14] أي لا يخفى عليه شيء ولا يفوته هارب فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ كقول القائل إن أكرمتني الآن فقد أكرمتك فيما مضى. والمراد فإن تتولوا فأنا غير معاتب ولا مقصر لأني قد قضيت حق الرسالة. وفي قوله: وَيَسْتَخْلِفُ إشارة إلى عذاب الاستئصال وأنه يخلق بعدهم من هو أطوع منهم وأنه لا ينقص من ملكه شيئا إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ يحفظ أعمال العباد حتى يجازيهم عليها، أو يحفظني من شرككم وكيدكم، أو يحفظني من الهلاك وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قيل: كانوا أربعة آلاف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 بِرَحْمَةٍ مِنَّا أي بفضل وامتنان أو بسبب ما هم فيه من الإيمان والعمل الصالح وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أطلق التنجية أوّلا ثم قيدها على معنى وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ سموم تدخل في أفواههم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضوا عضوا. ويحتمل أن يراد بالثانية النجاة من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه. ولما ذكر قصتهم خاطب محمدا وأشار إلى قبورهم وآثارهم بقوله: وَتِلْكَ عادٌ فانظروا واعتبروا. ثم استأنف وصف أحوالهم مجملة فقال: جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فلم يتسلقوا من المعجزات إلى صدق الأنبياء، ولم يرتقوا من الممكنات إلى وجود الواجب بالذات وَعَصَوْا رُسُلَهُ قيل: لم يرسل إليهم إلا هود، وصح الجمع لأن عصيان رسول واحد يتضمن عصيان كلهم لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285] وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أطاعوا رؤساءهم وكبراءهم المتمردة والمعاندة ولهذا جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين. وفي تكرير «ألا» والنداء على كفرهم، والدعاء عليهم بالبعد بعد إهلاكهم دلالة على تفظيع شأنهم وأنهم كانوا مستأهلين للدعاء عليهم بالهلاك، ويحتمل أن يراد البعد من رحمة الله في الآخرة. وقوله: قَوْمِ هُودٍ عطف بيان لعاد إما للتأكيد ومزيد التقرير، وإما لأن عادا عادان القديمة التي هي قوم هود، والأخرى وهي إرم. قوله في قصة ثمود هُوَ أَنْشَأَكُمْ تقديم الضمير للحصر أي لم ينشئكم إلا هو، ومعنى الإنشاء من الأرض أن الكل مخلوق من صلب آدم وهو مخلوق من الأرض. ويمكن أن يقال: إن الإنسان مخلوق من المني وهو يحصل من الغذاء والغذاء ينتهي إلى النبات ثم إلى الأرض. وقيل: إن «من» بمعنى «في» . وَاسْتَعْمَرَكُمْ من العمارة أي جعلكم عمارا للأرض وأمركم بالعمارة. فمنها واجب وندب ومباح ومكروه، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار فعمروا الأعمار الطوال مع ما كان منهم من الظلم. فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم فأوحى إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي وقيل: من العمر نحو استبقاكم من البقاء. وقيل: من العمرى. ومعناه أعمركم الله فيها دياركم ثم هو وارثها منكم عند انقضاء أعماركم، أو جعلكم معمرين دياركم فيها لأن الرجل إذا ورّث داره من بعده فكأنه أعمره إياها لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لوارثه. ومعنى كونه تعالى قريبا قد مر في قوله: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة: 186] وذلك في «البقرة» . قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا عن ابن عباس: فاضلا خيرا نقدمك على جميعنا. وقيل: كنا نظن بك الرشد والصلاح وكمال العقل وإصابة الرأي. وقيل: كنت تعطف على فقيرنا وتعين ضعيفنا وتعود مرضانا فظننا أنك من الأنصار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 والأحباب وأهل الموافقة في الدين، فكيف أظهرت العداوة والبغضاء؟ ثم أضافوا إلى هذا الكلام التمسك بالتقليد ومتابعة الآباء، ثم صرحوا بالتوقف والريب في أمره. ومريب من أرابه إذا أوقعه في الريبة، أو من أراب الرجل إذا كان ذا ريبة وهو من الإسناد المجازي واعلم أن قوله وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ بنون الوقاية هاهنا على الأصل، وأما في سورة إبراهيم فإنما قال: وإنا بغير نون الوقاية لقوله بعده: تَدْعُونَنا [الآية: 9] على الجمع فكان اجتماع النونات مستكرها. فأجابهم هو بقوله: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ الآية. وبنى أمره على الفرض والتقدير لأن خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبول كأنه قال: قدروا أني على بينة مِنْ رَبِّي وأني نبي على الحقيقة فمن يمنعني من عذاب الله إِنْ عَصَيْتُهُ في أوامره فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ أي على هذا التقدير تخسرون أعمالي وتبطلونها، أو فما تزيدونني بما تحملونني عليه إلا أني أنسبكم إلى الخسران وأقول إنكم خاسرون. والمعنى الأول أقرب لأنه كالدلالة على أن متابعتهم لا تزيده إلا خسران الدارين. وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ قد مر تفسيره في «الأعراف» . ومعنى عَذابٌ قَرِيبٌ عاجل لا يستأخر إلا ثلاثة أيام وغَيْرُ مَكْذُوبٍ من باب الاتساع أي غير مكذوب فيه فحذف الحرف. وأجرى الضمير مجرى المفعول به أو من باب المجاز كأن الوعد إذا أوفى به فقد صدق ولم يكذب أو المكذوب مصدر كالمجلود وصف به. قوله: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بالفاء. وفي قصة هود بالواو ولمكان التعقيب هاهنا بدليل قوله: عَذابٌ قَرِيبٌ ومثله في قصة لوط لقوله: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود: 81] وأما في قصة هود فإنه قال: وَيَسْتَخْلِفُ بلفظ المستقبل ومثله في قصة شعيب فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ بحرف التسويف فلم يكن الفاء مناسبا. واعتبر هذا المعنى في سائر المواضع كما في سورة يوسف قال: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ [الآية: 59] بالواو أوّلا لأن التعقيب لم يكن مرادا ثم قال: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ [الآية: 70] لمكان التعقيب والله أعلم. قوله: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ معطوف على محذوف والتقدير نجينا صالحا ومن معه من العذاب النازل بقومه ومن الخزي الذي لزمهم، أو يتعلق بمعطوف محذوف أي ونجيناهم من خزي يومئذ كما قال: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ والمعنيان كما قلنا هناك. والقراءتان في يَوْمِئِذٍ لأن الظرف المضاف إلى «إذ» يجوز بناؤه على الفتح، والتنوين في «إذ» عوض من المضاف إليه أعني الجملة، والتقدير يوم إذ كان كذا وكسر الذال للساكنين إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ القادر الغالب فمن قدرته ميز المؤمن من الكافر، ومن عزته وقهره أهلك الكفار بالصيحة التي سمعوها من جانب السماء إما بواسطة جبرائيل وإما لإحداثها في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 سحاب مع برق شديد محرق. وإنما تصير الصيحة سببا للهلاك لأن التموج الشديد في الهواء يوجب تأذي صماخ الإنسان، وقد يتمزق غشاء الدماغ بذلك، والأعراض النفسانية أيضا إذا قويت أوجبت الموت وتمام القصة مذكور في سورة الأعراف. وقوله: أَلا إِنَّ ثَمُودَ إلى آخره. شبيه بما مر في قصة هود، والتأويل كما مر في سورة الأعراف والله أعلم. [سورة هود (11) : الآيات 69 الى 83] وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) القراآت: سلم بكسر السين بلا ألف فيهما: حمزة وعلي ويَعْقُوبَ بالنصب: ابن عامر وحمزة وحفص، الآخرون بالرفع. سِيءَ بِهِمْ وبابه كضرب مجهولا: أبو جعفر ونافع وابن عامر وعلي ورويس. الآخرون سِيءَ مثل قِيلَ تخزوني بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل. وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل ضيفي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو فَأَسْرِ وبابه بهمزة الوصل: أبو جعفر ونافع وابن كثير وعباس من طريق الموصلي وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة إلا امرأتك بالرفع: ابن كثير وأبو عمرو. الباقون بالنصب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 الوقوف: سَلاماً ط حَنِيذٍ هـ خِيفَةً ط قَوْمِ لُوطٍ هـ ط بِإِسْحاقَ ط لمن قرأ يعقوب بالرفع يَعْقُوبَ هـ شَيْخاً ط عَجِيبٌ هـ أَهْلَ الْبَيْتِ ط مَجِيدٌ هـ فِي قَوْمِ لُوطٍ ط مُنِيبٌ هـ عَنْ هذا ج لاحتمال التعليل أَمْرُ رَبِّكَ ج للابتداء بأن مع اتصال المعنى. مَرْدُودٍ هـ عَصِيبٌ هـ إِلَيْهِ ج للعطف ولاختلاف النظم السَّيِّئاتِ ط ضَيْفِي ط رَشِيدٌ هـ مِنْ حَقٍّ ج لما مر ما نُرِيدُ هـ شَدِيدٍ هـ. إِلَّا امْرَأَتَكَ ط أَصابَهُمْ ط الصُّبْحُ ط بِقَرِيبٍ هـ مَنْضُودٍ هـ لا لأن ما بعده صفة حجارة عِنْدَ رَبِّكَ ط بِبَعِيدٍ هـ. التفسير: الرسل هاهنا الملائكة، وأجمعوا على أن الأصل فيهم جبرائيل، ثم اختلفوا فقيل: كان معه اثنا عشر ملكا على أحسن ما يكون من صورة الغلمان. وقال الضحاك: كانوا تسعة. وقال ابن عباس: كانوا ثلاثة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وهم الذين ذكر الله تعالى في سورة الحجر وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الآية: 51] وفي الذاريات هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الآية: 24] والظاهر أن البشرى هي البشارة بالولد. وقيل: بهلاك قوم لوط. ومعنى سَلاماً سلمنا عليك. ومعنى سَلامٌ أمركم سلام أو سلام عليكم، ولأن الرفع يدل على الثبات والاستقرار، والنصب يدل على الحدوث لمكان تقدير الفعل. قال العلماء: إن سلام إبراهيم كان أحسن اقتداء بقوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها [النساء: 86] وإنما صح وقوع سَلامٌ مبتدأ مع كونه نكرة لتخصصها بالإضافة إلى المتكلم إذ أصله سلمت سلاما فعدل إلى الرفع لإفادة الثبات. ومن قرأ سلما فمعناه السلام أيضا. قال الفراء: سلم وسلام كحل وحلال وحرم وحرام. وقال أبو علي الفارسي: يحتمل أن يراد بالسلم خلاف الحرب. قالوا: مكث إبراهيم خمس عشرة ليلة لا يأتيه ضيف فاغتم لذلك فجاءته الملائكة فرأى أضيافا لم ير مثلهم فما لبث أَنْ جاءَ أي فما لبث في أن جاء بل عجل أو فما لبث مجيئه بِعِجْلٍ هو ولد البقرة حَنِيذٍ مشوي في حفرة من الأرض بالحجارة المحماة وهو من فعل أهل البادية معروف، ومعناه محنوذ كطبيخ بمعنى مطبوخ. وقيل: الحنيذ الذي يقطر دسما لقوله: بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات: 26] تقول: حنذت الفرس إذا ألقيت عليها الجل حتى يقطر عرقا فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ إلى العجل أو الطعام نَكِرَهُمْ أي أنكرهم واستنكر فعلهم وَأَوْجَسَ أضمر مِنْهُمْ خِيفَةً لأنه ما كان يعرف أنهم ملائكة وكان من عادة العرب أنه إذا نزل بهم الضيف ولم يتناول طعامهم توقعوا منه المكروه والشر. وقيل: إنه كان ينزل في طرف من الأرض بعيد عن الناس، فلما امتنعوا من الأكل خاف أن يريدوا به شرا. وقيل: إنه كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 يعرف أنهم ملائكة الله لقولهم: لا تَخَفْ. وإِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ لم يقولوا لا تخف إنا ملائكة بل ذكروا سبب الإرسال وهو إهلاك قوم لوط. وعلى هذا فإنما خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله أو لتعذيب قومه، والاحتمال الأول وهو أنه كان لا يعرف أنهم ملائكة أقرب بدليل إحضاره الطعام واستدلاله بترك أكلهم على توقع الشر منهم. وإنما ذكروا سبب الإرسال إيجازا واختصارا لدلالة الإرسال على كونهم رسلا لا أضافيا. وإنما أتوه على صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها لأنه كان مشغوفا بالضيافة. وبم عرف الملائكة خوفه؟ قيل: بالتغير في وجهه أو بتعريف الله، أو علموا أن علمه بأنهم ملائكة موجب للخوف لأنهم كانوا لا ينزلون إلا بعذاب وَامْرَأَتُهُ وهي سارة بنت هاران بن ناحورا بنت عم إبراهيم قائِمَةٌ وراء الستر تسمع تحاورهم، أو كانت قائمة على رؤوسهم تخدمهم وهم قعود فَضَحِكَتْ. قال العلماء: لا بد للضحك من سبب فقيل: سببه السرور بزوال الخيفة. وقيل: بهلاك أهل الخبائث. وعن السدي أن إبراهيم قال لهم: ألا تأكلون؟ قالوا: إنا لا نأكل طعاما إلا بالثمن. فقال: ثمنه أن تذكروا اسم الله على أوله وتحمدوه في آخره. فقال جبرائيل لميكائيل: حق لمصل هذا الرجل أن يتخذه ربه خليلا، فضحكت امرأته فرحا بهذا الكلام. وقيل: كانت تقول لإبراهيم اضمم لوطا ابن أخيك إليك فإني أعلم أنه ينزل بهؤلاء القوم عذاب، ففرحت بموافقة قولهم لقولها فضحكت. وقيل: طلب إبراهيم صلى الله عليه وسلم منهم معجزة دالة على أنهم من الملائكة فدعوا ربهم بإحياء العجل المشوي فطفر ذلك العجل المشوي إلى مرعاه فضحكت سارة من طفرته. وقيل: ضحكت تعجبا من قوم أتاهم العذاب وهم غافلون. وقيل: تعجبت من خوف إبراهيم مع كثرة خدمه وحشمه من ثلاثة أنفس. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير أي فبشرناها بإسحاق فضحكت سرورا. وعن مجاهد وعكرمة ضحكت أي حاضت ومنه ضحكت الطلعة إذا انشقت يعني استعدادها لعلوق الولد. من قرأ يعقوب بالرفع فعلى الابتداء والخبر محذوف أي يعقوب مولود أو موجود بعد إسحق، ومن قرأ بالنصب فعلى العبارة المتروكة كأنه قيل: ووهبنا لها إسحق ومن بعد إسحق يعقوب. أقول: من المحتمل أن يكون يَعْقُوبَ مجرورا بالعبارة الموجودة أي وبشرناها بيعقوب من بعد إسحق وقيل: الوراء ولد الولد ووجهه أن يراد بيعقوب أولاده كما يقال هاشم ويراد أولاده يا وَيْلَتى كلمة تلهف وقد مرت في «المائدة» في يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ [المائدة: 31] وشَيْخاً نصب على الحال والعامل فيه ما في هذا من معنى أنبه أو أشير إِنَّ هذا يعني إن تولد ولد من هرمين لَشَيْءٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 عَجِيبٌ عادة فأزال الملائكة تعجبها منكرين عليها بقولهم على سبيل الاستئناف رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ يا أهل بيت خليل الرحمن. والمقصود أن رحمته عليكم متكاثرة وبركاته فيكم متواترة وخرق العادات في أهل بيت النبوة غير عجيب. ويحتمل أن يكون انتصاب أَهْلَ الْبَيْتِ على الاختصاص. وقيل: الرحمة النبوة والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء منهم وكلهم من ولد إبراهيم. ثم أكدوا إزالة التعجب بقولهم: إِنَّهُ حَمِيدٌ محمود في أفعاله مَجِيدٌ ذو الكرم الكامل فلا يليق به منع الطالب عن مطلوبه. فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ الخوف الذي لحقه حين أنكر أضيافه وَجاءَتْهُ الْبُشْرى البشارة بحصول الولد يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ في معناهم وفي شأنهم وهو جواب «لما» على حكاية الحال، أو لأن «لما» ترد المضارع إلى الماضي عكس «إن» ، ويحتمل أن يكون جواب «لما» محذوفا دل عليه يُجادِلُنا أي اجترأ على خطابنا أو قال كذا، ثم ابتدأ فقال: يُجادِلُنا. وقيل: معناه أخذ يجادلنا ولا بد من حذف مضاف أي يجادل رسلنا لا بمعنى مخالفة أمر الله فإن ذلك يكون معصية بل سعيا في تأخير العذاب عنهم رجاء إيمانهم وتوبتهم. يروى أنهم قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية فقال: أرأيتم لو كان فيها خمسون من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا قال: فأربعون؟ قالوا: لا حتى بلغ العشرة قالوا لا. قال: فإن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فعند ذلك قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ [العنكبوت: 32] قال الأصوليون: إن إبراهيم كان يقول: إن أمر الله ورد بايصال العذاب ومطلق الأمر لا يوجب الفور، والملائكة يدعون الفور إما للقرائن أو لأن مطلق الأمر يستدعي ذلك، فهذه هي المجادلة. أو لعل إبراهيم كان يدعي أن الأمر مشروط بشرط لم يحصل بعدوهم لا يسلمون. وبالجملة فإن العلماء يجادل بعضهم بعضا عند التمسك بالنصوص وليس يوجب القدح في واحد منهم فكذلك هاهنا ولذلك مدحه بقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ غير عجول في الأمور أَوَّاهٌ كثير التأوّه من الذنوب مُنِيبٌ راجع إلى الله في كل ما يسنح له. وهذه الصفات تدل على رقة القلب والشفقة على خلق الله حتى حملته على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع العذاب عنهم. ولما عرفت الملائكة أن العذاب قد حق عليهم قالوا: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا الجدال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بإهلاكهم وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ لا حق بهم عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ فلا راد لقضائه فلا ينفع فيهم جدال ولا دعاء. وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا المذكورون لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أصله «سوىء» لأنه من ساءه يسوءه نقيض سره يسره، نقلت الكسرة إلى الفاء وأبدلت العين ياء، ومن قرأ سِيءَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 بإبدال العين ياء مكسورة فلكراهة اجتماع الواو والهمزة. وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً قال الأزهري: الذرع يوضع موضع الطاقة وأصله أن البعير يذرع بيده في سيره على قدر سعة خطوه، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فجعل ضيق الذرع عبارة عن قلة الوسع والطاقة، وربما قالوا ضقت بالأمر ذرعا. وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ أي شديد من العصب الشد كأنه أريد اشتداد ما فيه من الأمور. عن ابن عباس: انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم في غاية الحسن، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله فساءه مجيئهم واغتم لذلك لأنه خاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم. وقيل: سبب المساءة أنه لم يكن قادرا على القيام بحق ضيافتهم لأنه ما كان يجد ما ينفق عليهم. وقيل: السبب أن قومه منعوه عن إدخال الضيف داره. وقيل: عرف أنهم ملائكة جاؤوا لإهلاك قومه فرق قلبه على قومه. والصحيح هو الأول. يروى أنه تعالى قال لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات. فلما مشى معهم منطلقا بهم إلى منزله قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملا- يقول ذلك أربع مرات- فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها فذلك قوله: وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ قال أبو عبيدة: يستحثون إليه كأنه يحث بعضهم بعضا. وقال الجوهري: الإهراع الإسراع، وأهرع الرجل على ما لم يسم فاعله فهو مهرع إذا كان يرعد من حمى أو غضب أو فزع، وقيل: إنما لم يسم فاعله للعلم به. والمعنى أهرعه خوفه أو حرصه. ثم بين إسراعهم إنما كان لأجل العمل الخبيث فقال: وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الفواحش فمرنوا عليها فلذلك جاؤوا مجاهرين لا يكفهم حياء. وقيل: معناه وكان لوط قد عرف عادتهم في ذلك العمل قبل ذلك فأراد أن يقي أضيافه ببناته فقال: هؤُلاءِ بَناتِي عن قتادة: بناته من صلبه. وعن مجاهد وسعيد بن جبير: أراد نساء أمته لأن النبي كالأب لأمته. واختير هذا القول لأن عرض البنات الحقيقيات على الفجار لا يليق بذوي المروءات، ولأن اللواتي من صلبه لا تكفي للجمع العظيم، ولما روي أنه لم يكن له إلا بنتان وأقل الجمع ثلاثة. والقائلون بالقول الأول قالوا ما دعا القوم إلى الزنا بهن وإنما دعاهم إلى التزوج بهن بعد الإيمان أو مع الكفر، فلعل تزويج المسلمات من الكفار كان جائزا كما في أول الإسلام، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع بن عبد العزى- وهما كافران- فنسخ بقوله: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة: 221] وقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه، وقيل: إن بناته كن أكثر من ثنتين. ويجوز أن يكون قد عرض البنات عليهم لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 بطريق الجد بل طمعا فيهم أن يستحيوا منه ويرقوا له. وأَطْهَرُ بمعنى الطاهر لأنه لا طهارة في نكاح الرجال فَاتَّقُوا اللَّهَ بإيثارهن عليهم وَلا تُخْزُونِ ولا تفضحوني من الخزي أو لا تخجلوني من الخزاية وهي الحياء. فِي ضَيْفِي في حق أضيافي فخزي الضيف والجار يورث للمضيف العار والشنار. والضيف يستوي فيه الواحد والجمع ويجوز أن يكون مصدرا. أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ صالح أو مصلح مرشد يمتنع أو يمنع عن مثل هذا العمل القبيح. قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ من شهوة ولا حاجة لأن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق ولذلك قالوا وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ ويجوز أن يراد إنهن لسن لنا بأزواج فلا حق لنا فيهن من حيث الشرع ومن حيث الطبع، أو يراد إنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ونحن لا نؤمن البتة فلا يتصور لنا حق فيهن. قال لوط لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً وجوابه محذوف أي لفعلت بكم وصنعت وبالغت في دفعكم. قال أهل المعاني: حذف الجواب أبلغ لأن الوهم يذهب إلى أنواع كثيرة من الدفع والمنع. والمراد لو أن لي ما أتقوى به عليكم فسمى موجب القوة بالقوة، ويحتمل أن يريد بالقوة القدرة والطاقة أَوْ آوِي أنضم إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ حام منيع شبه الركن من الجبل في شدته. وقوله: أَوْ آوِي عطف على الفعل المقدر بعد «لو» . والحاصل أنه تمنى دفعهم بنفسه أو بمعاونة غيره، قال ذلك من شدة القلق والحيرة في الأمر النازل به ولهذا قالت الملائكة وقد رقت عليه وحزنت له: إن ركنك لشديد. وقال النبي صلى الله عليه وسلم «رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد فما بعث نبي بعد ذلك إلا في ثروة من قومه» «1» ويحتمل أن يريد بالركن الشديد حصنا يتحصن به فيأمن من شرهم، ويحتمل أنه لما شاهد سفاهة القوم وإقدامهم على سوء الأدب تمني حصول قوة قوية على الدفع. ثم استدرك وقال بل الأولى أن آوي إلى ركن شديد وهو الاعتصام بعناية الله. روي أنه أغلق بابه لما جاؤوا فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ وهذه جملة موضحة للتي قبلها لأنهم إذا كانوا رسل الله لم يصل الأعداء إليه ولن يقدروا على ضرره، فأمره الملائكة أن يفتح الباب فدخلوا فاستأذن جبرائيل ربه في عقوبتهم فأذن له، فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم كما قال سبحانه وَلَقَدْ راوَدُوهُ   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب: 19. ابن ماجه في كتاب الفتن باب: 23. أحمد في مسنده (2/ 326، 332) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ [القمر: 37] فصاروا لا يعرفون الطريق فخرجوا وهم يقولون إن في بيت لوط سحرة. ثم بين نزول العذاب ووجه خلاص لوط وأهله فقال: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ الباء للتعدية إن كانت الهمزة للوصل من السرى، أو زائدة وإن كانت للقطع من الإسراء. بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ عن ابن عباس: أي في آخر الليل بسحر. وقال قتادة: بعد طائفة من الليل. وقيل نصف الليل كأنه قطع نصفين وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي لا ينظر إلى ما وراءه إِلَّا امْرَأَتَكَ أكثر القراء على النصب فاعترض بأن الفصيح في مثله هو البدل لأن الكلام غير موجب فكيف اجتمع القراء على غير فصيح؟ فأجاب جار الله بأن الرفع بدل من أَحَدٌ على القياسي والنصب مستثنى من قوله: فَأَسْرِ لا من قوله لا يَلْتَفِتْ وزيف بأن الاستثناء من فَأَسْرِ يقتضي كونها غير مسرى بها، والاستثناء من لا يَلْتَفِتْ يقتضي كونها مسريا بها لأن الالتفات بعد الإسراء فتكون مسريا بها غير مسرى بها. ويمكن أن يجاب بأن فَأَسْرِ وإن كان مطلقا في الظاهر إلا أنه في المعنى مقيد بعدم الالتفات إذ المراد أسر بأهلك إسراء لا التفات فيه إلا امرأتك فإنك تسري بها إسراء مع الالتفات، فاستثن على هذا إن شئت من فَأَسْرِ وإن شئت من لا يَلْتَفِتْ ولا تناقض. وبعضهم- كابن الحاجب- جعل إِلَّا امْرَأَتَكَ في كلتا القراءتين مستثنى من لا يَلْتَفِتْ ولم يستبعد اجتماع القراء على قراءة غير الأقوى. ويمكن أن يقال: إنما اجتمعوا على النصب ليكون استثناء من فَأَسْرِ إذ لو جعل استثناء من لا يَلْتَفِتْ لزم أن تكون مأمورة بالالتفات لأن القائل إذا قال لا يقم منكم إلا زيد كان ذلك أمرا لزيد بالقيام اللهم إلا أن يجعل الاستثناء منقطعا على معنى ولا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم، وإذا كان هذا الاستثناء منقطعا كان التفاتها موجبا للمعصية. قاله في الكشاف. وروي أنه أمر أن يخلفها مع قومها فلم يسر بها. واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين. أقول: في هذا الكلام خلل لا يمكن اجتماعهما على الصحة، والقراءتان يجب اجتماعهما على الصحة لتواتر القراآت كلها. روي أنها لما سمعت هدّة العذاب أي صوته التفتت وقالت: يا قوماه. فأدركها حجر فقتلها. وقيل: المراد بعدم الالتفات قطع تعلق القلب عن الأصدقاء والأموال والأمتعة. فعلى هذا يصح الاستثناءان من غير شائبة التناقض كأنه أمر لوطا أن يخرج بقومه ويترك هذه المرأة فإنها هالكة من الهالكين. ثم أمر أن يقعطوا العلائق وأخبر أن امرأته تبقى متعلقة القلب بها. يروى أنه قال لهم متى موعد هلاكهم فقيل له إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ فقال أريد أسرع من ذلك فقالوا: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ؟ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بإهلاكهم جَعَلْنا أي جعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 رسلنا عالِيَها سافِلَها روي أن جبرائيل أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط وقلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير ونباح الكلاب وصياح الديوك لم يتبدد لهم طعام ولم يتكسر لهم إناء، ثم قلبها دفعة وضربها على الأرض، ثم أمطر عليهم حجارة من سجيل- وهو معرب سنك وكل- كأنه مركب من حجر وطين وهو في غاية الصلابة. وقيل: سجيل أي مثل السجل وهي الدلو العظيمة أو مثلها في تضمن الأحكام الكثيرة، وقيل: أي مرسلة عليهم من أسجلته إذا أرسلته. وقيل: أي مما كتب الله أن يعذب به أو كتب عليه أسماء المعذبين من السجل وقد سجل لفلان. وقيل: من سجين أي من جهنم فأبدلت النون لاما. وقيل: إنه اسم من أسماء السماء الدنيا. ومعنى مَنْضُودٍ موضوع بعضها فوق بعض في النزول يأتي على سبيل المتابعة والتلاصق، أو نضد في السماء نضدا معدا لإهلاك الظلمة وفي السماء معادنها في جبال مخصوصة كقوله: مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النور: 43] مُسَوَّمَةً معلمة للعذاب أو بياض وحمزة، عن الحسن والسدي عليها أمثال الخواتيم. وقال ابن جريج: كان عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض. وقال الربيع: مكتوب على كل حجر اسم من يرمى به. وقال أبو صالح: رأيت منها عند أم هانىء حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع. ومعنى عِنْدَ رَبِّكَ أي في خزائنه لا يتصرف في شيء منها إلا هو، أو مقرر في علمه إهلاك من أهلك بكل واحد منها وَما هِيَ أي تلك الحجارة مِنَ الظَّالِمِينَ أي من كل ظالم بِبَعِيدٍ وهو وعيد لأهل مكة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبرائيل عن هذا فقال يعني من ظالمي أمتك ما من ظالم إلا وهو بصدد سقوط الحجر عليه ساعة فساعة. وقيل: أي تلك القرى ليست ببعيدة من ظالمي أهل مكة يمرون بها في مسايرهم إلى الشام. وقيل: المراد أنها وإن كانت في السماء إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقا بالمرمى فكانت كأنها بمكان قريب والله تعالى أعلم بمراده. [سورة هود (11) : الآيات 84 الى 102] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 القراآت: إني بالفتح أريكم بالإمالة: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو والبزي، وكذلك روى عن أهل مكة. إِنِّي أَخافُ شِقاقِي أَنْ بفتح الياء فيهما: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وصلواتك كما مر في سورة التوبة في قوله: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ [التوبة: 103] تَوْفِيقِي بالفتح: أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ونافع أرهطي بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بَعِدَتْ ثَمُودُ بالإظهار: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وخلف ويعقوب وعاصم غير الأعشى. الوقوف: شُعَيْباً ط غَيْرُهُ ط مُحِيطٍ هـ مُفْسِدِينَ هـ مُؤْمِنِينَ ج للابتداء بالنفي مع الواو بِحَفِيظٍ هـ ما نَشؤُا ط الرَّشِيدُ هـ حَسَناً ط عَنْهُ ط مَا اسْتَطَعْتُ ط إِلَّا بِاللَّهِ ط أُنِيبُ هـ صالِحٍ ط بِبَعِيدٍ هـ إِلَيْهِ ط وَدُودٌ هـ ضَعِيفاً ج لأن «لولا» للابتداء مع الواو لَرَجَمْناكَ ز لحق النفي وكون الواو للحال أوجه بِعَزِيزٍ هـ مِنَ اللَّهِ ط للفصل بين الاستخبار والاخبار واتحاد المقصود وجه للوصل ظِهْرِيًّا ط مُحِيطٌ هـ عامِلٌ ط تَعْلَمُونَ هـ لا كاذِبٌ ط للفصل بين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 الخير والطلب رَقِيبٌ هـ جاثِمِينَ هـ لا فِيها ط ثَمُودُ هـ مُبِينٍ هـ لا لتعلق الجار فِرْعَوْنَ ج للنفي مع الواو للعطف أو للحال بِرَشِيدٍ هـ النَّارَ ط الْمَوْرُودُ 5 الْقِيامَةِ ط الْمَرْفُودُ هـ وَحَصِيدٌ هـ أَمْرُ رَبِّكَ ج تَتْبِيبٍ هـ ظالِمَةٌ ط شَدِيدٌ هـ. التفسير: نقص المكيال يشمل معنيين: بأن ينقص في الإيفاء من القدر الواجب، ويزيد في الاستيفاء على القدر الواجب فيلزم في كلا الحالين نقصان حق الغير. ثم علل النهي بقوله: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أي بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف، أو بنعمة من الله حقها أن تشكر لتزداد لا أن تكفر فتزال. وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عن ابن عباس أنه فسر الخوف بالعلم. وقال آخرون: إنه الظن الغالب لأنه كان يجوز ازدجارهم وانتهاءهم. والعذاب المحيط المهلك المستأصل كأنه أحاط بهم بحيث لا ينفلت منهم أحد. وزيادة اليوم لأجل المبالغة والإسناد المجازي باعتبار ما هو واقع فيه واشتمل عليه ذلك اليوم. قيل: هو عذاب الاستئصال في الدنيا. وقيل: عذاب الآخرة والأظهر العموم. قوله: أَوْفُوا الْمِكْيالَ إلى قوله أَشْياءَهُمْ قد مر تفسير مثله في الأعراف. وقوله: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ مضى تفسيره في أوائل البقرة، بقي في الآية سؤال وهو أنه سبحانه نهى أوّلا عن النقص ثم أمر بالإيفاء فهل فيه فائدة سوى التأكيد والتقرير؟ والجواب بعد تسليم أن النهي عن الشيء أمر بضده، هو أن النهي عن النقص في المبايعة وإن كان يفيد تصريحه تعييرا وتوبيخا لكنه يوهم النهي عن أصل المبايعة، فلدفع هذا الخيال أمر بإيفاء الكيل، ففيه إباحة أصل المبايعة، مع التصريح بالنعت المستحسن في العقول لزيادة الترغيب. وفيه أيضا فائدة أخرى من قبل تقييد الإيفاء بالقسط ليعلم أن ما جاوز العدل ليس بواجب بل هو فضل ومروءة لا تقف عند حد، وإنما الواجب شيء من الإيفاء بقدر ما يخرج عن العهدة بيقين كما أن غسل الوجه لا يحصل باليقين إلا عند غسل شيء من الرأس بَقِيَّتُ اللَّهِ قيل: ثواب الله. وقيل: طاعته ورضاه كقوله: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ [الكهف: 46] وقيل: أي ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم خَيْرٌ لَكُمْ بشرط أن تؤمنوا لأن شيئا من الأعمال لا ينفع مع الكفر إن كنتم مصدقين لي فيما أنصح لكم. ولا ريب أن الأمانة تجر الرزق لاعتماد الناس وإقبالهم عليه فينفتح له أبواب المكاسب، والخيانة تجر الفقر لتنفر الناس عنه وعن معاملته وصحبته. قالت المعتزلة: في إضافة البقية إلى الله دليل على أن الحرام لا يسمى رزق الله. وقرىء تقاة الله بالتاء الفوقانية أي اتقاؤه الصارف عن المعاصي والقبائح وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 أعمالكم لأجازيكم إنما أنا مبلغ ناصح وقد أعذر من أنذر. قوله: أَصَلاتُكَ قيل: أي دينك وإيمانك لأن الصلاة عماد الدين فعبر عن الشيء باسم معظم أركانه. وقيل: المراد الأتباع لأن أصل الصلاة ومنه المصلي للذي يتلو السابق والمعنى دينك أي أتباعه يأمرك بذلك. والأظهر أن المراد به الأعمال المخصوصة يروى أن شعيبا عليه السلام كان كثير الصلاة فكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا فقصدوا بقولهم: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ السخرية والهزء فكأن الصلاة التي يداوم عليها ليلا ونهارا هي من باب الجنون والوساوس. ومعنى تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ تأمرك بتكليف أن نترك على حذف المضاف لأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره. وقوله أَوْ أَنْ نَفْعَلَ معطوف على ما في ما يعبد أي تأمرك صلاتك بترك ما عبد آباؤنا وبترك أن نفعل فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا روي أنه كان ينهاهم عن قطع أطراف الدراهم كما كان يأمرهم بترك التطفيف والاقتناع بالحلال القليل من الحرام الكثير. إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قيل: إنه مجاز والمراد نسبته إلى غاية السفاهة والغواية فعكسوا تهكما به. وقيل: حقيقة وإنه كان معروفا فيما بينهم بالحلم والرشد فكأنهم قالوا له: إنك المعروف بهذه السيرة فكيف تنهانا عن دين ألفناه وسيرة تعودناها. ثم أشار عليه السلام إلى ما آتاه الله من العلم والهداية والنبوة والكرامة والرزق الحلال الحاصل من غير بخس ولا تطفيف، وجواب الشرط محذوف اكتفي عنه بما ذكر في قصتي نوح وصالح، والمعنى أرأيتم إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وقد آتاني بعد هذه السعادات الروحانية السعادات الدنيوية من الخيرات والمنافع الجليلة هل يسعني مع هذه الإكرامات أن أخون في وحيه ولا آمركم بترك الشرك وبفعل الطاعة والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ يقال: خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه. فالمعنى لا أجعل فعلي مخالفا لقولي فلا أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ إلا أن أصلحكم بالموعظة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. مَا اسْتَطَعْتُ ما للمدة ظرفا للإصلاح أي مدة استطاعتي لإصلاحكم، أو بدل من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته منه، أو المضاف محذوف أي إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت، أو مفعولا للإصلاح فقد يعمل المصدر المعرف كقوله: ضعيف النكاية أعداءه. أي إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم. ثم بين أن كل ما يأتي ويذر فوقوعه بتسهيل الله وتأييده فقال: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ والتوفيق أن توافق إرادة العبد إرادة الله تعالى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أخصه بتفويض الأمور إليه لأنه مبدأ المبادئ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ لأنه المعاد الحقيقي وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم منه. ثم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 أوعدهم بقوله لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي لا يكسبنكم خلافي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح العقيم أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الصيحة وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ لم يقل «ببعيدة» حملا على لفظ القوم لأنه مؤنث، ولا «ببعيدين» حملا على معناه ولكنه على تقدير مضاف أي وما إهلاكهم ببعيد لأنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدهم. أو المراد وما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد. وجوزوا أن بسوّى في بعيد وقريب وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما. إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ يجوز أن يكون بمعنى «فاعل» أو «مفعول» كقوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] وهذا حث لهم على الاستغفار والتوبة، وتنبيه على أن سبق الكفر والمعصية لا ينبغي أن يمنعهم عن الإيمان والطاعة. ولما بالغ خطيب الأنبياء في التقرير والبيان قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ إما لقلة الرغبة أو قالوا تهكما واستهانة كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبا بحديثه: ما أدري ما تقول. كأنهم جعلوا كلامه تخليطا وهذيانا لا ينفعهم كثير منه. وقيل: لأنه كان ألثغ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً عن الحسن: مهينا أي لا عزة لك فيما بيننا ولا قوة فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروها. وفسر بعضهم الضعيف بالأعمى لأن العمى سبب الضعف، أو لأنه لغة حمير. وزيف هذا القول أما عند من جوز العمى على الأنبياء فلأن لفظة فِينا يأباه لأن الأعمى فيهم وفي غيرهم، وأما عند من لا يجوزه- كبعض المعتزلة- فلأن الأعمى لا يمكنه الاحتراز من النجاسات وأنه يخل بجواز كونه حاكما وشاهدا، فلأن يمنع من النبوة كان أولى. ثم ذكروا أنهم إنما لم يريدوا به المكروه ولم يوقعوا به الشر لأجل رهطه- والرهط من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى السبعة- والرجم شر القتل وهو الرمي بالحجارة، أو المراد الطرد والإبعاد ومنه الشيطان الرجيم. ثم أكدوا المذكور بقولهم وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ وإنما العزيز علينا رهطك لا خوفا من شوكتهم ولكن لأنهم من أهل ديننا، فالكلام واقع في فاعل العز لا في الفعل وهو العز ولذلك قال في جوابهم أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ولو قيل وما عززت علينا لم يصح هذا الجواب، وإنما لم يقل أعز عليكم مني إيذانا بأن التهاون بنبي الله كالتهاون بالله كقوله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] وَاتَّخَذْتُمُوهُ أي أمر الله أو ما جئت به وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب أي جعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر غير ملتفت إليه. ثم وصف الله تعالى بما يتضمن الوعيد في حقهم قال: إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. ثم زاد في الوعيد والتهديد بقوله: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ وقد مر تفسير مثله في «الأنعام» . قال في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 الكشاف: الاستئناف يعني في سَوْفَ تَعْلَمُونَ وصل خفي تقديري وإنه أقوى من الوصل بالفاء وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه. ثم بالغ في التهديد بقوله: وَارْتَقِبُوا انتظروا عاقبة الشقاق إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ راقب كالضريب بمعنى الضارب، أو مراقب كالعشير والنديم، أو مرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع. وباقي القصة على قياس قصة صالح وأخذ الصيحة وأخذت الصيحة كلتا العبارتين فصيحة لمكان الفاصل إلا أنه لما جاء في قصة شعيب مرة الرجفة ومرة الظلة ومرة الصيحة ازداد التأنيث حسنا بخلاف قصة صالح. وإنما دعا عليهم بقوله: كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ لما روى الكلبي عن ابن عباس قال: لم يعذب الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح. فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وأما قوم شعيب فأخذتهم من فوقهم. قوله سبحانه بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ قال في التفسير الكبير: الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات المفيدة للظن وبين الدلائل التي تفيد اليقين. والسلطان اسم لما يفيد القطع وإن لم يتأكد بالحس، والسلطان المبين مخصوص بالدليل القاطع الذي يعضده الحس. وقال في الكشاف: يجوز أن يراد أن الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوته، وأن يراد بالسلطان المبين العصا لأنها أبهرها وقوله: إِلى فِرْعَوْنَ متعلق ب أَرْسَلْنا فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي شأنه وطريقه أو أمره إياهم بالكفر والجحود وتكذيب موسى وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي ليس في أمره رشد إنما فيه غي وضلال، وفيه تعريض بأن الرشد والحق في أمر موسى. ثم إن قومه عدلوا عن اتباعه الى اتباع من ليس في أمره رشد قط، فلا جرم كما كان فرعون قدوة لهم في الضلال فكذلك يقدمهم أي يتقدمهم يوم القيامة إلى النار وهم على أثره، ويجوز أن يراد بالرشد الإحماد وحسن العاقبة فيكون المعنى وما أمر فرعون بحميد العاقبة. ثم فسره بأنه يَقْدُمُ قَوْمَهُ أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته. ويقال: قدمه وقدمه بالتخفيف والتشديد بمعنى تقدمه ومنه مقدمة الجيش ومثله أقدم ومنه مقدم العين. وإنما قال فَأَوْرَدَهُمُ بلفظ الماضي تحقيقا للوقوع. والورد المورود الذي وردوه، شبّه فرعون بمن يتقدم الواردة إلى الماء، وشبه أتباعه بالواردة. ثم نعى عليهم بقوله: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الذي يردونه النار لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضده. وتذكير بِئْسَ لتذكير الورد وإن كان هو عبارة عن النار كقولك: نعم المنزل دارك ولو قلت: نعمت جاز نظرا إلى الدار. وفي تشبيه النار بالماء نوع تهكم بهم وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ حذف صفته في هذه الآية اكتفاء بما مر في قصة عاد. وبِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي بئس العطاء المعطى ذلك. وقيل: الرفد العون والمرفود المعان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 وذلك أن اللعنة في الدنيا رفدت أي أعينت وأمدت باللعنة في الآخرة، قال قتادة: ترادفت عليهم لعنتان لعنة من الله والملائكة واللاعنين في الدنيا ولعنة في الآخرة. ذلِكَ الذي ذكرنا أو ذلك النبأ بعض أَنْباءِ الْقُرى المهلكة نَقُصُّهُ عَلَيْكَ خبر بعد خبر. ثم استأنف فقال: مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ أي ومنها حصيد والمراد بعضها باق كالزرع القائم على ساقه وبعضها عافي الأثر كالزرع المحصود وَما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكنا إياهم وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بارتكاب ما به أهلكوا. عن ابن عباس: وما نقصناهم في الدنيا من النعيم والرزق ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفوا بحقوق الله فَما أَغْنَتْ فما قدرت أن ترد عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ يعبدون وهي حكاية حال ماضية بأس الله حين جاء وَما زادُوهُمْ يعني آلهتهم غَيْرَ تَتْبِيبٍ تخسير. تب خسر وتببه غيره أوقعه في الخسران. كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تعين في الدنيا على تحصيل المنافع ودفع المضار وستنفعهم عند الله في الآخرة فلم تنفعهم في الدنيا حين جاءهم عذاب الله وسيورثهم ذلك الاعتقاد عذاب النار في الآخرة فهم في خسران الدارين. ثم بيّن أن عذابه غير مقصور على أولئك الأقوام ولكنه يعم كل ظالم سيوجد فقال: وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الأخذ أَخْذُ رَبِّكَ فالأخذ مبتدأ وكذلك خبره وقوله وَهِيَ ظالِمَةٌ حال من القرى باعتبار أهلها إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ وجيع صعب على المأخوذ وهو تحذير من وخامة عاقبة كل ظلم على الغير أو على النفس فعلى العاقل أن يبادر إلى التوبة ولا يغتر بالإمهال. التأويل: وَلا تَنْقُصُوا مكيال المحبة وميزان الطلب، فمكيال المحبة عداوة ما سوى الله، وميزان الطلب السير على قدمي الشريعة والطريقة إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ هو حسن الاستعداد الفطري وإني أخاف عذاب فساد الاستعداد في طلب غير الحق بِالْقِسْطِ في تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ حقوق النصيحة وحسن العشرة في الله ولله وَلا تَعْثَوْا في أرض وجودكم مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ بقاؤكم ببقائه خَيْرٌ لَكُمْ مما فاتكم بإيفاء المكيال والميزان. رِزْقاً حَسَناً نورا تاما أراني به إصلاح الأمور والاستعدادات إن ساعدني التوفيق وَما معاملة قَوْمُ لُوطٍ من معاملتكم بِبَعِيدٍ لأن الكفر كله ملة واحدة. وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ لأن فرعون النفس أمارة بالسوء. إِذا أَخَذَ الْقُرى قرى الأجساد مِنْها قائِمٌ قابل لتدارك ما فات، ومنها ما هو محصود بفوات الاستعداد والله تعالى أعلم بالصواب. [سورة هود (11) : الآيات 103 الى 123] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 القراآت: وما يؤخره بالياء: يعقوب والمفضل. الباقون بالنون يَوْمَ يَأْتِي بإثبات الياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وعلي في الوصل. الآخرون بحذف الياء لا تَكَلَّمُ بتشديد التاء: البزي وابن فليح سُعِدُوا بضم السين: حمزة وعلي وخلف وحفص. قيل إنه على حذف الهمزة من «أسعدوا» لأن سُعِدُوا لازم ولكنه قد جاء المسعود، الآخرون بفتحها وَإِنَّ كُلًّا بالتخفيف: ابن كثير ونافع وأبو بكر وحماد. الباقون بالتشديد. لَمَّا مشددا: ابن عامر وعاصم ويزيد وحمزة وكذلك في «الطارق» . الباقون بالتخفيف وَزُلَفاً بضمتين: يزيد. الآخرون بفتح اللام فُؤادَكَ وبابه بغير همز: الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف يُرْجَعُ مجهولا: نافع وحفص والمفضل تَعْمَلُونَ خطابا وكذلك في آخر «النمل» : أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب وحفص. الباقون على الغيبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 الوقوف: الْآخِرَةِ ط مَشْهُودٌ هـ مَعْدُودٍ ط بِإِذْنِهِ ج لاختلاف الجملتين مع فاء التعقيب. وَسَعِيدٌ هـ شَهِيقٌ هـ لا لأن ما يتلوه حال والعامل فيه ما في النار من معنى الفعل شاءَ رَبُّكَ ط يُرِيدُ هـ شاءَ رَبُّكَ ط لأن التقدير يعطون عطاء مَجْذُوذٍ هـ هؤُلاءِ ط مِنْ قَبْلُ ط مَنْقُوصٍ هـ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ط بَيْنَهُمْ ط مُرِيبٍ هـ أَعْمالَهُمْ ط خَبِيرٌ هـ وَلا تَطْغَوْا ط بَصِيرٌ هـ النَّارُ لا لأن ما بعده من تمام جزاء ولا تركنوا تُنْصَرُونَ هـ مِنَ اللَّيْلِ ط السَّيِّئاتِ ط لِلذَّاكِرِينَ 5 الْمُحْسِنِينَ هـ مِنْهُمْ ج لأن التقدير وقد اتبع مُجْرِمِينَ هـ مُصْلِحُونَ هـ مُخْتَلِفِينَ هـ لا رَحِمَ رَبُّكَ ط خَلَقَهُمْ ط أَجْمَعِينَ هـ فُؤادَكَ ج إذ التقدير وقد جاءك لِلْمُؤْمِنِينَ هـ مَكانَتِكُمْ ط عامِلُونَ هـ لا للعطف وَانْتَظِرُوا ج أي فإنا مُنْتَظِرُونَ ط وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ط تَعْمَلُونَ هـ. التفسير: إِنَّ فِي ذلِكَ الذي قصصنا عليك من أحوال الأمم لَآيَةً لعبرة لِمَنْ خافَ أي لمن هو أهل لأن يخاف عَذابَ الْآخِرَةِ كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] لأن انتفاعه يعود إليهم. قال القفال- في تقرير هذا الاعتبار: إنه إذا علم أن هؤلاء عذبوا على ذنوبهم في الدنيا وهي دار العمل فلأن يعذبوا عليها في الآخرة التي هي دار الجزاء أولى. واعترض عليه في التفسير الكبير بأن ظاهر الآية يقتضي أن العلم بأن القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بظهور عذاب الاستئصال في الدنيا. والقفال جعل الأمر على العكس قال: والأصوب عندي أن هذا تعريض لمن زعم أن إله العالم موجب بالذات لا فاعل مختار، وأن هذه الأحوال التي ظهرت في أيام الأنبياء عليهم السلام مثل الغرق والخسف والصيحة إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب، وإذا كان كذلك فلا يكون حصولها دليلا على صدق الأنبياء عليهم السلام. أما الذي يؤمن بالقيامة ويخاف عذابها فيقطع بأن هذه الوقائع ليست بسبب الكواكب واتصالاتها فيستفيد مزيد الخشية والاعتبار. أقول: وهذا نظر عميق والأظهر ما ذكرت أوّلا ومثله في القرآن كثير. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات: 26] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [النحل: 13] ثم لما كان لعذاب الآخرة دلالة على يوم القيامة أشار إليه بقوله: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ أي يجمع لما فيه من الحساب والثواب والعقاب. النَّاسُ وأوثر اسم المفعول على فعله لأجل إفادة الثبات وأن حشر الأولين والآخرين فيه صفة له لازمة نظيره قول المتهدد: إنك لمنهوب مالك محروب قومك. فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي مشهود فيه الخلائق فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به. والفرق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 بين هذا الوصف والوصف الأول أن هذا يدل على حضور الناس فيه مع اطلاع البعض منهم على أحوال الباقين من المحاسبة والمساءلة ليس بحيث لا يعرف كل واحد إلا واقعة نفسه. والجمع المطلق لا يفيد هذا المعنى وإنما فسرنا اليوم بأنه مشهود فيه لا أنه مشهود في نفسه لأن سائر الأيام تشركه في كونها مشهودات، وإنما يحصل التمييز بأنه مشهود فيه دون غيره كما تميز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهودا فيه دونها وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لانتهاء لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي انقضاء مدة معلومة عيّن الله وقوع الجزاء بعدها وفيه فائدتان: إحداهما أن وقت القيامة متعين لا يتقدم ولا يتأخر، والثانية أن ذلك الأجل متناه وكل منتاه فإنه يفنى لا محالة وكل آت قريب. ثم ذكر بعض أهوال ذلك اليوم فقال: يَوْمَ يَأْتِ حذف الياء والاكتفاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل، وفاعل يأتي قيل: الله كقوله: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام: 158] أي أمره أو حكمه دليله قراءة من قرأ وما يؤخره بالياء وقوله: بِإِذْنِهِ. وقيل: المراد الشيء المهيب الهائل المستعظم فحذف ذكره بتعيينه ليكون أقوى في التخويف. وقيل: فاعله ضمير اليوم والمراد إتيان هو له وشدائده كيلا يصير اليوم ظرفا لإتيان اليوم. وانتصاب يَوْمَ ب لا تَكَلَّمُ أو باذكر مضمرا أو بالانتهاء المقدر أي ينتهي الأجل يوم يأتي وتاء التأنيث محذوفة من لا تكلم، والآيات الدالة على التكلم في ذلك اليوم مع الآيات الدالة على نفي التكلم كقوله تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النحل: 111] وكقوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ [المرسلات: 35] محمولة على اختلاف المواطن والأزمنة، أو نفى العذر الصحيح المقبول وأثبت العذر الباطل الكاذب. ثم قسم أهل الموقف المجموعين للحساب أو الأفراد العامة التي دلت عليها نفس فقال: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ أي ومنهم سعيد. ولا خلاف في أن الشقاء والسعادة مقترنان بالعمل الفاسد والعمل الصالح ويترتب عليهما الجنة والنار في الآخرة، وإنما النزاع في أن العمل سبب للشقاء مثلا كما هو مذهب المعتزلة، أو الشقاء سبب العمل كما هو مذهب أهل السنة، فيختلف تفسير الشقاء بحسب المذهبين فهو عند المعتزلة الحكم بوجوب النار له لإساءته، وعند السني جريان القلم عليه في الأزل بأنه من أهل النار وأنه يعمل عمل أهل النار والتحقيق في المسألة قد مر مرارا. قيل: قد بقي هاهنا قسم آخر ليسوا من أهل النار ولا من أهل الجنة كالمجانين والأطفال فهم أصحاب الأعراف، وتخصيص القسمين بالذكر لا يدل على نفي الثالث. أما قوله في صفة أهل النار لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ففيه وجوه قال الليث وكثير من الأدباء: الزفير استدخال الهواء الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 وحينئذ يرتفع صدره وينتفخ جنباه، والشهيق إخراج ذلك الهواء بجهد شديد من الطبيعة، وكلتا الحالتين تدل على كرب شديد وغم عظيم. والحاصل أنهم جعلوا الزفير بمنزلة ابتداء نهيق الحمار، والشهيق بمنزلة آخره. وقال الحسن: إن لهب جهنم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلوا إلى أعلى دركات جهنم وطمعوا في أن يخرجوا منها ضربتهم الملائكة بمقامع من حديد ويردونهم إلى الدرك الأسفل من النار، فارتفاعهم في النار هو الزفير، وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق. وقال أبو مسلم: الزفير ما يجتمع في الصدر من النفس عند البكاء الشديد فينقطع النفس، والشهيق هو الصوت الذي يظهر عند اشتداد الكربة والحزن، وربما يتبعها الغشية، وربما يحصل عقيبه الموت. وقال أبو العالية: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر. وقيل: الزفير الصوت الشديد، والشهيق الصوت الضعيف. وعن ابن عباس: لهم فيها بكاء لا ينقطع وحزن لا يندفع. وقال أهل التحقيق: قوة ميلهم إلى الدنيا ولذاتها زفير، وضعفهم عن الاستسعاد بكمالات الروحانيات شهيق. ثم إن قوما ذهبوا إلى أن عذاب الكفار منقطع وله نهاية واستدلوا على ذلك بالقرآن والحديث والمعقول. أما القرآن فقوله سبحانه: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي مدة بقائهما إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ وفيه استدلالان: الأول أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات والأرض المتناهية بالاتفاق. الثاني استثناء المشيئة ويؤكد هذا النص قوله: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً [النبأ: 23] وأما الحديث فما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص «ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد» وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا. وأما المعقول فهو أن العقاب ضرر خال عن النفع لا في حق الله تعالى ولا في حق المكلف فيكون قبيحا. وأيضا الكفر جرم متناه ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب لا نهاية له ظلم. والجمهور من الأمة على أن عذاب الكافر دائم، وأجابوا عن الآية بأن المراد سموات الآخرة وأرضها المشار إليهما بقوله: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [ابراهيم: 48] ولا بد لأهل الآخرة مما يظلهم ويقلهم فهما السماء والأرض، وإذا علق حصول العذاب للكافر بوجودهما لزم الدوام. وأيضا القرآن قد ورد على استعمالات العرب، وإنهم يعبرون عن الدوام والتأبيد بقولهم «ما دامت السموات والأرض» ونظيره قولهم: «ما اختلف الليل والنهار» و «ما أقام ثبير وما لاح كوكب» . ويمكن أيضا أن يقال: حاصل الآية يرجع إلى شرطية هي قولنا: إن دامت السموات والأرض دام عقابهم فإذا قلنا لكن السموات والأرض دائمة لزم دوام عقابهم وهو المطلوب، وإن قلنا لكنهما لم تدوما فإنه لا ينتج مطلوب الخصم لأن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئا. وبعبارة أخرى دلت الآية على أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 كلما وجدت السموات والأرض وجد عقابهم. فلو قلنا لكنهما لم يوجدا لم يلزم منه أن لا يوجد عقابهم، أو يوجد فالآية لا تدل إلا على حصول العقاب لهم دهرا طويلا ومدة مديدة. وأما إنه هل يكون له آخر أم لا فذلك إنما يستفاد من دليل آخر كقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] وأما الاستدلال بالاستثناء فقد ذكر ابن قتيبة وابن الأنباري والفراء أن هذا الاستثناء لا ينافي عدم المشيئة كقولك و «الله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك» وقد يكون عزمك على ضربه البتة وتعلم أنك لا ترى غير ذلك. وردّ بالفرق، فإن معنى الآية الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء الله، فالمشيئة قد حصلت جزما. ولقائل أن يقول: الماضي هاهنا في معنى الاستقبال مثل وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ [النساء: 48] وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الزمر: 73] فلم يبق فرق. وقيل: «إلا» بمعنى «سوى» أي سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له. وقال الأصم وغيره: المراد زمان مكثهم في الدنيا أو في البرزخ أو في الموقف. وقيل: الاستثناء يرجع إلى قوله: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ كأنهم يصيرون آخر الأمر إلى الهمود والخمود. وقيل: فائدة الاستثناء أن يعلم إخراج أهل التوحيد من النار والمراد إلا من شاء ربك، وهذا التأويل إنما يليق بقاعدة الأشاعرة وأكدوه بقوله: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ فكأنه تعالى يقول: أظهرت القهر والقدرة ثم أظهرت المغفرة والرحمة لأني فعال لما أريد، وليس لأحد عليّ حكم البتة. وأما المعتزلة فكأنهم لا يرضون بهذا ويقولون: إن الاستثناء الثاني لا يساعده لحصول الإجماع على أن أحدا من أهل الجنة لا يدخل النار. فالصواب أن يقال: إنه استثناء من الخلود في عذاب النار ومن الخلود في نعيم الجنة، فإن أهل النار ينقلون إلى الزمهرير وإلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله، وأهل الجنة ينقلون إلى العرش أو إلى ما هو أعلى حالا من الجنة كقوله: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] ثم قالوا: إنه ختم آية الوعيد بقوله: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وآية الوعد بقوله: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ رعاية للمطابقة كأنه قال: إنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له والجذ القطع. وأما الجواب عن الحديث فقد قال في الكشاف: إن صح فمعناه أنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير فذلك خلوّ جهنم وصفق أبوابها. وأقول: يحتمل أن يكون الألف سبب عدم الإحساس بالعذاب بل يكون سبب الالتذاذ بالمألوف فيكون خلوّ جهنم إشارة إلى هذا المعنى. وأما الجواب عن المعقول فهو أن السير في الله ومبدأه من عالم التكاليف لما كان غير متناه فعذاب البعد عنه أيضا يجب أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 يكون غير متناه. أو نقول: لا نهاية لنوره فلا غاية لظلمة الغافل عنه والمنكر له. أو نقول: أوضح الأشياء الوجود الواجب فإذا كان الشخص ذاهلا عنه كان مسلوب الاستعداد بالكلية فلا يكون إنسانا في الحقيقة، فلا يتصور له عروج من عالم الطبيعة، والعبارات في هذا المقام كثيرة والمعنى واحد يدركه من وفق له وخلق لأجله. ولما فرغ من أقاصيص عبدة الأصنام وبيان أحوال الأشقياء والسعداء سلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرح أحوال الكفرة من قومه في ضمن نهي له عن الامتراء في سوء مغبتهم قائلا فَلا تَكُ حذف النون لكثرة الاستعمال فِي مِرْيَةٍ في شك مِمَّا يَعْبُدُ «ما» مصدرية أو موصولة أي من عبادة هؤُلاءِ أو من الذي يعبده هؤلاء المشركون والمراد النهي عن الشك في سوء عاقبة عبادتهم. ثم علل النهي مستأنفا فقال: ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ كالذي يعبده آباؤُهُمْ أو كعبادة آبائهم. والحاصل أنهم شبهوا بآبائهم في لزوم الجهل والتقليد. وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ من الرزق والخيرات الدنيوية أو من إزالة العذر وإزاحة العلة بإرسال الرسول وإنزال الكتاب، أو نصيبهم من العذاب كما وفينا آباؤهم أنصباءهم. وفي الكشاف أن غَيْرَ مَنْقُوصٍ حال من النصيب ليعلم أنه تام كامل إذ يجوز أن يوفي بعض الشيء كقولك وفيته شطر حقه. قلت: هي مغالطة لأن قول القائل: «وفيته شطر حقه» التوفية تعود إلى الشطر. فلو قيل: غير منقوص كان كالمكرر. وعاد السؤال. فالصواب أن يقال: إنه حال مؤكدة أو صفة تقوم مقام المصدر أي توفية نحو وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة: 60] أي إفسادا. ثم أورد نظيرا لإنكارهم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ آمن به قوم وكفر به قوم آخرون كما اختلف في القرآن، والغرض أن إنكار الحق عادة قديمة للخلق وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ هي أن رحمتي سبقت غضبي أو هي أن دار الجزاء الآخرة لا الدنيا أو هي أن هذه الأمة لا يعذبون بعذاب الاستئصال. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين قوم موسى أو بين قومك بتمييز المحق من المبطل بسبب الإنجاء والإهلاك وهذه من جملة التسلية أيضا وَإِنَّهُمْ يعني قوم موسى أو قومك لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من كتابه أو من كتابك أو من أمر المعاد أو القضاء أو الجزاء. ثم جمع الأولين والآخرين في حكم توفية الجزاء ثوابا أو عقابا فقال: وَإِنَّ كُلًّا التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي وإن كلهم يعني أن جميع المختلفين فيه. ومن قرأ بالتخفيف فعلى إعمال المخففة إذ لا يلزم من التخفيف إبطال العمل كما في «لم يكن» «ولم يك» . ومن قرأ «لما» مخففا فاللام هي الداخلة في خبر «إن» و «ما» مزيدة للفصل بين لام «إن» وبين لام جواب القسم المقدر كما فصلوا بالألف بين النونات في قولهم «اضربنان» . ويمكن أن يكون «ما» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 نكرة أي لخلق أو جمع. والله ليوفينهم ربك أعمالهم من حسن وقبيح وإيمان وجحود. ومن قرأ «لما» مشددا فأصله «لمن ما» قلبت النون ميما فاجتمع ثلاث ميمات، فحذفت الأولى تخفيفا، وجاز حذف الأولى وإبقاء الساكنة لاتصال اللام بها. ويجوز أن يكون أصله «لما» بالتنوين- كما في قراءتي الزهري وسليمن بن أرقم- فحذف فبقى «لما» ممدودا ومعناه ملمومين أي مجموعين. وقرأ أبيّ وإن كل لما ليوفينهم على أن «إن» نافية و «لما» بمعنى «إلا» كما في الطارق. ولا يخفى ما في الآية من مؤكدات توفية الجزاء وأن شيئا من الحقوق لا يضيع عنده. منها لفظة «إن» ، ومنها لام خبر «إن» ، ومنها «كل» ، ومنها «ما» المزيدة، ومنها القسم، ومنها لام القسم، ومنها نون التأكيد، ومنها لفظ التوفية، ومنها ربك فإن من يربيك يقدر على توفية حقك، ومنها الجمع المضاف، ومنها ختم الآية بقوله: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فإنه إذا كان عالما بكل المعلومات قادرا على كل المقدورات كان عالما بعمل كل أحد وبمقدار جزاء عمله، وقادرا على إيصال ذلك إليه، ثم إن كلامه حق وصدق وقد أخبر عن التوفية مع المؤكدات المذكورة فيقع وعده ووعيده لا محالة. ثم أمر نبيه لتقتدي به أمته بكلمة جامعة للعقائد والأعمال قائلا فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ عن جعفر الصادق رضي الله عنه: معناه افتقر إلى الله بصحة العزم يعني الوثوق به والتوكل عليه وَمَنْ تابَ مَعَكَ عطف على الضمير في فَاسْتَقِمْ وصح للفصل أو هو ابتداء أي ومن تاب معك فليستقم أو مفعول معه. ثم كما أمر بالاستقامة على جادّة الحق نهى عن الانحراف عنها فقال وَلا تَطْغَوْا والطغيان مجاوزة الحد. وقال ابن عباس: يريد تواضعوا للحق ولا تتكبروا على الخلق. وخصص بعضهم الطغيان بالتجاوز عن حدود القرآن بتحليل حرامه وتحريم حلاله. وهذه الآية أصل عظيم في الشريعة فيكون الترتيب في الوضوء واجبا كما ورد في القرآن، وكذلك القول في الحدود والكفارات ونصاب الزكاة وأعداد الركعات وغيرها من جميع المأمورات والمنهيات. ويجب الاحتياط في المسائل الاجتهادية وفي القياسات، وكذا في الأخلاق والملكات وفي كل ما له طرفا إفراط وتفريط فهما مذمومان. والمحمود هو الوسط وهو الصراط المستقيم المأمور بالاستقامة والثبات عليه. ولا ريب أن معرفته صعبة وبتقدير معرفته فالعمل به والبقاء عليه أصعب ولهذا قال ابن عباس: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية في القرآن أشد ولا أشق من هذه حتى إن أصحابه قالوا له: لقد أسرع فيك الشيب فقال صلى الله عليه وسلم: شيبتني هود أعني هذه الآية منها. ثم لما كان لقرين السوء مدخل عظيم في تغيير العقائد وتبديل الأخلاق نهى عن مخالطة من يضع الشيء في غير موضعه فقال: وَلا تَرْكَنُوا أي لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 تميلوا بالمحبة والهوى إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فقال المحققون: الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم وتحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب، فأما مداخلتهم لدفع ضرر واجتلاب منفعة عاجلة فغير داخلة في الركون. أقول: هذا من طريق المعاش والرخصة، ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] وفي قوله: فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ إشارة إلى أن الظلمة أهل النار بل هم في النار أو كالنار أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة: 174] ومصاحبة النار توجب لا محالة مس النار. وقوله: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ من تتمة الجزاء. وقال في الكشاف: الواو للحال مِنْ أَوْلِياءَ من أنصار أي لا يقدر على منعكم من عذاب الله إلا هو. ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ثم لا ينصركم هو أيضا. وفيه إقناط كلي. وفائدة «ثم» تبعيد النصرة من الظلم. قال أهل التحقيق: الركون الميل اليسير وقوله: إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي الذين حدث منهم الظلم. فلم يقل «ولا تميلوا إلى الظالمين» ليدل على أن قليلا من الميل إلى من حدث منه شيء من الظلم يوجب هذا العقاب، وإذا كان هذا حال من ركن إلى من ظلم فكيف يكون حال الظالم في نفسه؟ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من دعا الظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه» وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. وعن محمد بن مسلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء. ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء؟ فقال: لا. فقيل له: يموت. فقال: دعه يموت. ثم خص من أنواع الاستقامة إقامة الصلاة تنبيها على شرفها فقال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ قيل: تمسك بعض الخوارج بهذه الآية على أن الواجب من الصلاة ليس إلا الفجر والعشاء لأنهما طرفا النهار وهما الموصوفان بكونهما زلفا من الليل، فإن ما لا يكون نهارا يكون ليلا. غاية ما في الباب أن هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف وهو كثير في كلامهم، ولئن سلم وجوب صلاة أخرى إلا أن قوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يشعر بأن إقامة الصلاة طرفي النهار كفارة لترك سائر الصلوات. وجمهور الأمة على بطلان هذا القول واستدلوا بالآية على وجوب الصلوات الخمس لأن طرفي النهار منصوب على الظرف لإضافتهما إلى الوقت فيكتسب المضاف حكم المضاف إليه كقولك «أتيته نصف النهار» والطرفان هما الغدوة وهي الفجر والعشية وفيها الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشيّ وَزُلَفاً جمع زلفة كظلم وظلمة أي ساعات مِنَ اللَّيْلِ قريبة من آخر النهار من أزلفه إذا قربه وازدلف إليه. وقرىء زُلَفاً بسكون اللام نحو «بسرة» و «بسر» . والزلف فيمن قرأ بضمتين نحو «بسر» و «بسر» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 وقيل: زُلَفاً أي قربا فيكون معطوفا على الصلاة أي أقم الصلاة وأقم زلفا أي صلوات يتقرب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل. وبالجملة فصلاة الزلف والمغرب والعشاء. وقيل: إن طرفي النهار لا يشمل إلا الفجر والعصر وبه استدل على مذهب أبي حنيفة أن التنوير بالفجر أفضل وتأخير العصر أفضل، لأن الأمة أجمعت على أن نفس الطرفين- وهما وقت الطلوع والغروب- لا يصلح لإقامة الصلاة، فكل وقت كان أقرب إلى الطرفين كان أولى بإقامة الصلاة فيه حملا للمجاز على ما هو أقرب إلى الحقيقة ما أمكن. هذا ما ذكره فخر الدين الرازي في تفسيره. ولقائل أن يقول: هذا لا يتمشى في صلاة الفجر لأن الطرف الأول للنهار في الشرع هو طلوع الصبح الصادق، والتنوير مبعد الصلاة منه لا مقرّب. ولا أدري كيف ذهب عليه هذا المعنى مع إفراط عصبيته للشافعي. واستدل أيضا لأبي حنيفة على مذهبه في وجوب الوتر أن أقل الجمع ثلاثة فتجب إقامة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث زلف من الليل أي ثلاث ساعات ذهب منها ساعتان للمغرب والعشاء فتعين أن تكون الساعة الثالثة للوتر، وإذا وجب عليه وجب على أمته لقوله: فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] ولمانع أن يمنع أن أقل الجمع ثلاثة أشياء، ثم إن كل ساعة لأجل صلاة، ثم إن كل ما يجب على النبي صلى الله عليه وسلم يجب على الأمة لأن الاتباع هو الإتيان بمثل فعله أعم من أن يكون على تلك الجهة أم لا. إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ قال المفسرون: نزلت في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري، كان يبيع التمر فأتته امرأة فأعجبته فقال لها: إن في البيت أجود من هذا. فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها وأصاب منها كل ما يصيب الرجل من زوجته سوى الجماع، ثم ندم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل فقال: أنتظر أمر ربي فلما صلى صلاة العصر نزلت فقال: نعم اذهب فإنها كفارة لما عملت. فقيل له: هذا له خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال له: توضأ وضوءا حسنا وصل ركعتين. إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ قال ابن عباس: أي الصلوات الخمس كفارة لسائر الذنوب ما لم تكن كبيرة. وقيل: المراد إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. وعن مجاهد: الحسنات قول العبد سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وقد يحتج بالآية على أن المعصية لا تضرّ مع الإيمان الذي هو رأس الأعمال الحسنة. ذلِكَ المذكور من قوله: فَاسْتَقِمْ إلى هاهنا ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ عظة للمتعظين وإرشاد للمسترشدين. ثم أمر بالصبر على التكاليف المذكورة أمرا ونهيا، ونص عن أن الإتيان بها إحسان وأن جزاءه سيحصل لا محالة فقال: وَاصْبِرْ الآية. ثم عاد إلى أحوال الأمم الخالية وبين أن السبب في حلول عذاب الاستئصال بهم أمران: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 الأول أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد وذلك قوله: فَلَوْلا أي فهلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ ذوو خير ورشد وفضل، وذلك أن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصارت البقية مثلا في الجودة. يقال: فلان من بقية القوم أي من خيارهم. ومن أمثالهم «في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا» . وجوّز في الكشاف أن يكون من البقوى كالتقية في التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه إِلَّا قَلِيلًا استثناء متصل لأن في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل: ما كان من القرون ناس ناهون إلا ناسا قليلا. ومن في مِمَّنْ أَنْجَيْنا للبيان أي هم الذين أنجيناهم. قال في الكشاف: لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم. ولقائل أن يقول: إذا كان النهي عن المنكر فرض كفاية لم يلزم أن تنحصر النجاة في الناهين؟ فيحتمل أن تكون من للتبعيض ويجوز- على ما في الكشاف- أن يكون الاستثناء منقطعا معناه ولكن قليلا ممن أنجيناه من القرون نهوا عن الفساد. قال: ولو جعلته متصلا على ما عليه ظاهر الكلام كان المعنى فاسدا لأنه يكون تحضيضا لأولي البقية على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول: هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم. تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن. أقول: لم لا يجوز أن يكون المراد من استثناء الصلحاء منهم أنه لا حاجة لهم إلى التحضيض كأنك قلت: أحضض قومك على القراءة إلا الصلحاء فإنهم لا يحتاجون إلى ذلك لأنهم مواظبون عليها، على أن في جعل الاستثناء منقطعا شبه تناقض، لأن أول الكلام يدل على أنه لم يكن فيهم ناه وآخره يدل على أن القليل منهم قد نهوا فتأمل في هذا المقام فإنه من مزلة الأقدام. السبب الثاني: في نزول العذاب قوله: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا ما غرقوا فِيهِ من التنعم والتترف من حيث الرياسة والثروة وأسباب العيش الهنيّ ورفضوا ما وراء ذلك مما يتعلق بأمر الدين، فهذه الجملة معطوفة على مدلول الجملة التحضيضية أي ما كان من القرون ناس كذا واتبع الظالمون كذا. ويجوز أن يكون في الكلام إضمار والواو للحال كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاء إترافهم. والمترف الذي أبطرته النعمة، وصبي مترف منعم البدن. وقوله: وَكانُوا مُجْرِمِينَ إما معترضة وإما معطوف على اتَّبَعَ أي وكانوا مجرمين بذلك، أو على أُتْرِفُوا أي اتبعوا الإتراف. وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر. ثم بين أنه ما ينبغي له سبحانه أن يهلك القرى بظلم. قال أهل السنة: أي بسبب مجرد الشرك والحال أنهم مصلحون في المعاملة والعشرة فيما بينهم، وذلك أن حقوق الله تعالى مبنية على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 المساهلة بخلاف حقوق العباد، وهذا كما قيل: الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم. ويؤكد هذا التفسير أن عذاب الاستئصال إنما نزل بقوم لوط وشعيب لما حكى الله عنهم من إيذاء الناس والإفساد في الأرض. وقالت المعتزلة قوله: بِظُلْمٍ حال من الفاعل والمعنى استحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالما لها وأهلها قوم مصلحون في العمل تنزيها لذاته عن الظلم وإيذانا بأن إهلاك المصلحين ظلم. ثم ذكر أن الكل بمشيئته وإرادته فقال: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً مهدية. والمعتزلة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر وقد مر مرارا. وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في الأديان والأخلاق والأفعال، فمنهم من أنكر العلوم كلها حتى الحسيات والضروريات وهم السوفسطائية، ومنهم من سلم استنتاج العلوم كلها والمعارف ولم يثبت لهذا العالم الجسماني مبدأ أصلا وهم الدهرية، ومنهم من أثبت له مبدأ موجبا بالذات وهم الفلاسفة على ما اشتهر منهم ولهذا المقام تحقيق ليس هاهنا موضع بيانه، ومنهم من أنكر النبوات وهم البراهمة، ومنهم من أثبتها وهم المسلمون والمجوس واليهود والنصارى. وفي كل واحدة من هذه الطوائف اختلافات لا تكاد تدخل تحت الحصر، وإنما لا يحمل الاختلاف في الآية على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمار بل حملناه على الاختلاف في الأديان وما يتعلق بها لأنه ينبو عن ذلك ما قبل الكلام وهو قوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وما بعده وهو قوله: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ قالت المعتزلة: إلا ناسا هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على الدين الحق. وقال أهل السنة: جميع الألطاف التي فعلها في حق المؤمن فهي مفعولة أيضا في حق الكافر وهذه الرحمة أمر مختص بالمؤمن مرجع لجانب الإيمان وصدوره منه فإذن الإيمان بخلق الله وتكوينه وكذا ضده. ثم قال: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ فاختلف العلماء في المشار إليه بذلك، فالمعتزلة قالوا: ولذلك من التمكين والاختيار الذي كان منه الاختلاف خلقهم يثيب مختار الحق بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره، أو ولما ذكر من الرحمة خلقهم. والأشاعرة قالوا: ولأجل ما ذكر من الاختلاف خلقهم لما صح في الحديث أنه خلق الجنة وخلق لها أهلا، وخلق النار وخلق لها أهلا. وللدلائل الدالة على أن الكل بإيجاده وتخليقه وأن خلاف معلومه محال وإلى هذا أشار بقوله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي علمه وإرادته أو قوله للملائكة لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ الآية. وفرق المعتزلة بين معلومه ومراده. ثم ذكر طرفا من فوائد القصص المذكور في السورة فقال: وَكُلًّا أي وكل نبأ نَقُصُّ عَلَيْكَ وقوله: مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ بيان لكل وما نُثَبِّتُ بدل من كُلًّا أو المراد وكل نوع من الاقتصاص على أنه مصدر أي على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 الأساليب المختلفة نقص، وما نُثَبِّتُ مفعول. ومعنى تثبيت فؤاده زيادة اليقين والطمأنينة لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم، أو المعنى تثبيت قلبه على أداء الرسالة وتحمل الأذى من قومه أسوة بسائر الأنبياء. وَجاءَكَ فِي هذِهِ السورة أو في هذه الأنباء الْحَقُّ وهو البراهين القاطعة الدالة على صحة المبدأ والوسط والمعاد وَمَوْعِظَةٌ وهي الدلائل المقنعة الموقعة للتصديق بقدر الإمكان والأول للخواص أنفع والثاني للعوام أنجع. وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ وهي الإرشاد إلى الأعمال الصالحة النافعة في الآخرة المحصلة لما هنالك من السعادة، فإن حسن هذا الدين معلوم لمن رجع إلى نفسه وعمل بمقتضى تذكره وفكره. وأعلم أن المعارف الإلهية لا بد لها من قابل وفاعل، وقابلها القلب وإنه ما لم يكن مستعدا لم يحصل له الانتفاع بسماع الدلائل وورودها عليه فلهذا السبب قدم ذكر إصلاح القلب وعلاجه وهو تثبيت الفؤاد، ثم عقبه بذكر المؤثر الفاعل وهو مجيء هذه السورة بل آية منها وهي قوله: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ مشتملة على الحق والموعظة والذكرى، وهذا ترتيب في غاية الحسن. ثم أمر بالتهديد لمن لم يؤثر فيهم هذه البيانات من أهل مكة وغيرهم فقال: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا وقد مر تفسير مثله في هذه السورة وفي «الأنعام» وَانْتَظِرُوا ما يعدكم الشيطان إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ما وعدنا الرحمن من الغفران والإحسان. وعن ابن عباس: انتظروا بنا الدوائر فإنا منتظرون بكم العذاب كما حل بنظرائكم. ثم ختم السورة بآية مشتملة على جميع المطالب من أمر المبدإ والوسط والمعاد وقد سبق تقريره في آخر «البقرة» في تفسير آية آمَنَ الرَّسُولُ [البقرة: 285] فلا حاجة إلى الإعادة. التأويل: ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي ما دامت سموات الأرواح والقلوب وأرض النفوس البشرية إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من الأشقياء، وذلك أن أهل الشقاء ضربان: شقي وأشقى. فالشقي بالمعاصي سعيد بالتوحيد فيخلص من النار آخرا، والأشقى وهو الكافر يبقى فيها مخلدا، ومن أهل الجنة سعيد يبقى خالدا فيها، وأسعد وهم الذين يترقون إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر. وهناك مقام الوحدة الذي لا انقطاع له كما قال: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ الذي قدر لهم في الأزل من الشقاء. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ باستكمال الشقاء لقضي بينهم بالهلاك عاجلا لَفِي شَكٍّ مِنْهُ إشارة إلى الضلال. وقوله: مُرِيبٍ إشارة إلى الإضلال. وَإِنَّ كُلًّا أي كل واحد من الضالين ومن المضلين فَاسْتَقِمْ أمر التكوين ولذلك قال: كَما أُمِرْتَ أي في الأزل، وفي قوله: وَمَنْ تابَ مَعَكَ إشارة إلى أن النفوس جبلت على الاعوجاج فيحتاج إلى الرجوع من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 الطريق المنحرف إلى الصراط المستقيم إلى من اختص بالاستقامة بسبب أمر التكوين كالنبي صلى الله عليه وسلم إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يعني أن الأعمال الصالحة في الأوقات المعدودة تزيل ظلمات الأوقات المصروفة في قضاء الحوائج النفسانية الضرورية، وذلك أن تعلق الروح النوري العلوي بالجسد الظلماني السفلي موجب لخسران الروح كقوله: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 1] إلا أن يتداركه أنوار العمل الصالح فيرقيه من حضيض البشرية إلى ذروة الروحانية بل إلى الوحدة الربانية، فتندفع عنه ظلمة الجسد السفلي مثاله: إلقاء الحبة في الأرض فإنه من خسران الحبة إلا أن يتداركه الماء وسائر الأسباب فيربيها إلى أن تصير الحبة الواحدة إلى سبعمائة. وما زاد ذلك الذي ذكرنا من التدارك عظة للذاكرين الذين يريدون أن يذكروا الله في جميع الأحوال فإنهم إذا حافظوا على هذه الأوقات فكأنهم حافظوا على جميعها لأن الإنسان خلق ضعيفا ليس يقدر على صرف جميع الأوقات في محض العبودية والعبادة. فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ صورة التحضيض وحقيقته السؤال ليجاب بأنه لم يكن كذلك لأنك فاعل مختار، فعال لما تريد، خلقت خلقا للإقرار وخلقت خلقا للإنكار ولا اعتراض لأحد عليك يؤيده قوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً طالبة للحق متوجهة إليه وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ منهم من يطلب الدنيا، ومنهم من يطلب العقبى، ومنهم من يطلب المولى وهم المشار إليهم بقوله: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ أي لطلب الله خَلَقَهُمْ بحسن الاستعداد ولأن رحمته سبقت غضبه، ولكن وقوع فريق في طريق القهر ضروري في الوجود وهو قوله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ جرى به القلم للضرورة وما نثبت به فؤادك التثبيت منه والتشكيك منه، بيده مفاتيح أبواب اللطف والقهر وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ لطلب الحق ووجدانه اعْمَلُوا في طلب المقاصد من باب القهر إِنَّا عامِلُونَ في طلب الحق من باب لطفه وَانْتَظِرُوا نتائج أعمالكم إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ثمرات أعمالنا وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما غاب عنكم مما أودع من لطفه في سموات القلوب ومن قهره في أرض النفوس وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ أمر أهل السعادة والشقاء ومظاهر اللطف والقهر فَاعْبُدْهُ أيها الطالب للحق فإنك مظهر اللطف وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ في الطلب لا على طلبك فإنك إن طلبته بك لم تجده وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ في الأزل عَمَّا تَعْمَلُونَ إلى الأبد والله حسبي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 (سورة يوسف عليه السلام) (مكية وقيل نزلت فيما بين مكة الى المدينة وقت الهجرة حروفها سبعة آلاف ومائة وست وستون كلمها ألف وسبعمائة وست وأربعون آياتها مائة وإحدى عشرة) [سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 القراآت: يا أبت بفتح التاء والوقف بالهاء: يزيد وابن عامر. وقرأ ابن كثير ويعقوب بكسر التاء والوقف بالهاء. الباقون بالكسر في الحالين أَحَدَ عَشَرَ بسكون العين: يزيد وابن عباس والخزاز لِي ساجِدِينَ بفتح الياء: الأعشى والبرجمي يا بُنَيَّ بفتح الياء أيا كان: حفص والمفضل. الباقون بكسرها رُؤْياكَ بالإمالة: عليّ غير قتيبة وليث. وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة، وقرأ يزيد وأبو عمر غير شجاع، وورش من طريق الأصبهاني والأعشى وحمزة في الوقف بغير همزة آية للسائلين على التوحيد: ابن كثير: الآخرون آيات على الجمع. يَخْلُ لَكُمْ بالإدغام: شجاع من طريق أبي غالب وأبو شعيب غيابات وما بعده على الجمع: أبو جعفر ونافع. الباقون غَيابَتِ على التوحيد لا تَأْمَنَّا بغير إشمام ضمة النون: يزيد والحلواني عن قالون. الآخرون بإشمام الذِّئْبُ وما بعده بغير همزة: أبو عمرو غير شجاع وأوقية ويزيد والأعشى وورش وخلف وعلي وحمزة في الوقف يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ بالياء فيهما وبالجزم: عاصم وحمزة وعليّ وخلف. بكسر العين في الأول: أبو جعفر ونافع. بالنون فيهما وبالجزم: ابن عامر وأبو عمرو. وبكسر العين: ابن كثير سوى الهاشمي وأبي ربيعة عن قنبل فإنهما نرتعي بالكسر مع الياء بعده نرتع ويلعب بالجزم فيهما مع النون في الأول والياء في الثاني: يعقوب عن رويس لَيَحْزُنُنِي أَنْ بفتح الياء أبو جعفر ونافع وابن كثير. وقرأ نافع لَيَحْزُنُنِي أَنْ بفتح الياء أيضا ولكن من باب الأفعال بَلْ سَوَّلَتْ وبابه مدغما: حمزة وعلي وهشام. يا بُشْرى بالإمالة غير مضافة: حمزة وعليّ وخلف وحماد والخزاز عن هبيرة. يا بُشْرى بغير إمالة وإضافة: عاصم غير حماد والخزاز. الباقون يا بشراي بالإضافة إلى ياء المتكلم. الوقوف: الر قف كوفي الْمُبِينِ هـ ط كوفي أيضا وغيرهم لا يقفون عليها لأنهم يجعلون إنا جواب معنى القسم في الر الْقُرْآنَ ق والوصل أصح لأن الواو للحال الْغافِلِينَ هـ ساجِدِينَ هـ كَيْداً ط مُبِينٌ هـ وَإِسْحاقَ ط حَكِيمٌ 5 لِلسَّائِلِينَ هـ عُصْبَةٌ ط مُبِينٍ هـ ج والعربية توجب الوقف وإن قيل إن الابتداء به لا يحسن صالِحِينَ هـ فاعِلِينَ هـ لَناصِحُونَ هـ لَحافِظُونَ هـ غافِلُونَ هـ لَخاسِرُونَ هـ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ج لاحتمال أن يكون جواب «لما» محذوفا والواو في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 وَأَوْحَيْنا للاستئناف تقديره فعلوا وأمضوا عليه، وأن تكون الواو مقحمة والجواب أَوْحَيْنا لا يَشْعُرُونَ هـ يَبْكُونَ هـ ط فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ج لابتداء النفي مع واو العطف صادِقِينَ هـ كَذِبٍ ط أَمْراً ط جَمِيلٌ ط تَصِفُونَ هـ دَلْوَهُ ط غُلامٌ ط بِضاعَةً ط يَعْمَلُونَ هـ مَعْدُودَةٍ ج لاحتمال الواو والحال الزَّاهِدِينَ 5. التفسير: قال في الكشاف: تِلْكَ إشارة إلى آياتُ السورة والْكِتابِ الْمُبِينِ السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم، أو التي بين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر، أو الواضحة التي لا يشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم، أو قد أبين فيها ما سألت اليهود عنه من قصة يوسف، فقد روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف. أقول: مدار هذه التفاسير على أن أبان لازم ومتعد يقال: أبان الشيء وأبان هو بنفسه إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف يعني هذه السورة في حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا والقرآن اسم جنس يقع على كله وعلى بعضه. وقوله: قُرْآناً عَرَبِيًّا يسمى حالا موطئة لأن المراد وصفه بالعربية. احتج الجبائي بإنزال القرآن وبكونه عربيا وآيات على أنه محدث لأن هذه من أوصاف المحدثات. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الألفاظ وإنما النزاع في الكلام النفسي ومعنى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم لأنه بلغتكم. قال الجبائي: فيه دليل على أنه أراد من المكلفين كلهم أن يعقلوا توحيده وأمر دينه. وأجيب بأن الآية لا تدل إلا على أنه أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفية هذه القصة، ولا دلالة فيه على أنه أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح. قال أهل اللغة: القصص اشتقاقه من قص أثره إذا اتبعه لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئا فشيئا، ومثله التلاوة لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية، ثم إن كان القصص مصدرا بمعنى الاقتصاص فيكون أَحْسَنَ مثله لإضافته إلى المصدر، ويكون المفعول أي المقصوص محذوفا وهو الوحي لدلالة أَوْحَيْنا عليه، أو يكون هذا القرآن مفعوله ومفعول أَوْحَيْنا محذوفا كأنه قيل: نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إياه إليك. وعلى هذا فالحسن يرجع إلى المنطق لا إلى القصة. وحسن المنطق كونه على أبدع طريقة وأعجب أسلوب لأن هذه الحكاية مقتصة في كتب الأولين وفي كتب التواريخ ولم يبلغ شيء منه إلى حد الإعجاز، وإن أريد بالقصص المقصوص كما يراد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 بالنبإ والخبر المنبأ والمخبر، فالحسن يرجع إلى القصة ولا سيما فيما يرجع إلى صلاح حال المكلف في الدارين، ووجه حسنها اشتمالها على الغرائب والعجائب والنكت والعبر وأن الصبر مفتاح الفرج، وأن ما قضى الله كائن لا محالة لا يردّه كيد كائد ولا حسد حاسد. ويروى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا. فأنزل الله عز وجل اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً [الزمر: 23] ثم إنهم ملوا فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ كل ذلك يؤمرون بالقرآن. وَإِنْ كُنْتَ هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة. والمعنى وإن الشأن كنت أنت من قبل إيحائنا إليك لَمِنَ الْغافِلِينَ عن هذه القصة أو عن الدين والشريعة إِذْ قالَ بدل اشتمال من أحسن القصص لأن الوقت مشتمل على القصص فإذا قص وقته فقد قص المقصوص أو منصوب بإضمار «اذكر» . ويُوسُفُ ليس عربيا على الأصح إذ لا سبب فيه بعد التعريف إلا العجمة فهو اسم عبراني، ومن ظن أنه من آسف يؤسف بناء على أنه قرىء بكسر السين وبفتحها فيوجد فيه وزن الفعل أيضا فقد أخطأ، لأن القراءة المشهورة تأباه ولن يكون الاسم عربيا تارة وأعجميا أخرى. وهذا الخلاف روي في «يونس» أيضا. عن النبي صلى الله عليه وسلم «الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم» «1» قال النحويون: التاء في يا أَبَتِ عوض من ياء الإضافة وهي للتأنيث لأنها قد تقلب هاء في الوقف. ويجوز إلحاق التاء بالمذكر نحو «حمامة» ذكر والكسرة فيه لمناسبة الياء التي هي بدل منها. والفتحة إما فتحة الياء فيمن يفتحها أو الفتحة الباقية بعد حذف الألف من ياء يا أبتا إِنِّي رَأَيْتُ هو من الرؤيا التي تختص بالمنام لا من الرؤية التي تشمل اليقظة بدليل قول يعقوب له لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ ولأن ذلك لو كان في اليقظة لكانت آية عظيمة ولم تخف على أحد. من قرأ أَحَدَ عَشَرَ بسكون العين فلكراهة توالي المتحركات فيما هو في حكم كلمة، وكذا الى تسعة عشر إلا اثني عشر لئلا يلتقي ساكنان. قال في الكشاف: روى جابر أن يهوديا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل فأخبره بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي: إن أخبرتك هل تسلم؟ قال: نعم. قال: جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب: 19. كتاب المناقب باب: 13. الترمذي في كتاب تفسير سورة 12 باب: 1. أحمد في مسنده (2/ 96) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 الكتفين. رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له. فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها. وأقول: إن أكثر هذه الأسماء ليست مما اشتهر عند أهل الهيئة، فإن صح الخبر فهي من العلوم التي تفرد بها الأنبياء. وإفراد الشمس والقمر من الكواكب بعد ذكرها دليل على شرفهما كقوله وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] وإنما كرر الفعل لطول الكلام أو على تقدير سؤال كأنه قيل له: كيف رأيتها؟ فقال: رأيتهم لي ساجدين. والظاهر أن هذه السجدة كانت بمعنى وضع الجبهة إذ لا مانع من حملها على الحقيقة لكنها كانت على وجه التواضع. وإنما أجريت الكواكب مجرى العقلاء في عود الضمير إليها لأن السجود من شأن العقلاء كقوله للأصنام: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ [الأعراف: 198] وعند الفلاسفة هم أحياء ناطقة فلا حاجة إلى العذر. عبر أبوه رؤياه بأن إخوته سيسجدون له وهم أحد عشر، وكذا أبواه وهما الشمس والقمر. وقيل: هما أبوه وخالته لأن أمه لم تدخل مصر وتوفيت قبل ذلك. وعن وهب أن يوسف رأى- وهو ابن سبع سنين- أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة التي حول القمر وهي الهالة، وإذا عصا صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال: إياك أن تذكر هذا لإخوتك. ثم رأى- وهو ابن اثنتي عشرة سنة- الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال له: لا تقصها عليهم فيبغوا لك الغوائل. وقيل: كان بين رؤيا يوسف ومسير إخوته إليه أربعون سنة. وقيل: ثمانون. قال علماء التعبير: إن الرؤيا الردية يظهر أثرها عن قريب كيلا يبقى المؤمن في الغم والحزن، والرؤيا الجيدة يبطىء أثرها لتكون بهجة المؤمن أدوم. قوله فَيَكِيدُوا منصوب بإضمار «أن» جوابا للنهي. واللام في لَكَ لتأكيد الصلة مثل «نصحتك» و «نصحت لك» . وقال في الكشاف: ضمن الكيد معنى الاحتيال ليفيد معنى الفعلين فيكون أبلغ في التخويف. وقيل: متعلق بالمصدر الذي بعده. ثم إنه وصل بهذه النصيحة شيئا من تعبير رؤياه فقال: وَكَذلِكَ أي ومثل اجتبائك لهذه الرؤيا الشريفة يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ لأمور عظام. والاجتباء افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك، وجبيت الماء في الحوض جمعته، وخصص الحسن الاجتباء بالنبوة. قال في الكشاف وَيُعَلِّمُكَ كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل: وهو يعلمك ويتم نعمته عليك. أقول: ولعل إدخاله في حكم التشبيه ليس بضائر. وفي تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وجوه منها: أنه تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم، سمى التعبير تأويلا لأنه يؤول أمره إلى ما رآه في المنام أو يؤول أمر ما رآه في المنام إلى ذلك. والأحاديث اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة لأنها التي يتحدث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 بها الناس. ومنها أنه تبيين معاني كتب الله وسنن الأنبياء لأن المفسر والمحدّث يحدّثان عن الله ورسوله فيقولان: قال الله كذا وقال الرسول كذا. ومنها أن الحديث بمعنى الحادث والمراد كيفية الاستدلال بالحادث على القديم سبحانه. وأما إتمام النعمة فمن فسر الاجتباء بالنبوة فسر الإتمام بالسعادات الدنيوية والأخروية من المال والجاه والعلوم والأخلاق الفاضلة، ومن فسر ذلك بالدرجات العالية فسر هذا بالنبوة لأن التمام المطلق في حق البشر ليس إلا بالنبوة، ولأن إتمام النعمة عليه مشبه بإتمامها على إبراهيم وإسحق، ومن المعلوم أن الامتياز بينهما وبين أقرانهما لم يكن إلا بالنبوة. وقد يفسر إتمام النعمة على إبراهيم بالخلة والإنجاء من النار ومن ذبح الولد، وعلى إسحق بإنجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه، ويكون وجه التشبيه إنجاءه من السجن والمحن كإنجائهما من النار والذبح. والمراد بآل يعقوب نسله قيل: علم يعقوب أن يوسف وإخوته أنبياء استدلالا بضوء الكواكب. واعترض بما فرط منهم في حق يوسف. وأجيب بأن ذلك قبل النبوة. وقيل: إتمام النعمة وصل نعمة الدنيا بنعم الآخرة وذلك أنه جعلهم ملوكا وأنبياء. وإِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ عطف بيان لأبويك لأن أبا الجد في حكم الأب إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بمن يستحق الاجتباء حَكِيمٌ لا يضع الشيء إلا في موضعه فلا يجعل الرسالة إلا في نفس قدسية وجوهر مشرق. قيل: حكم يعقوب بوقوع هذه الأمور دليل على جزمه بها فكيف خاف بعدها على يوسف حتى قال: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ؟ والجواب لعل جزمه بذلك كان مشروطا بعدم كيد إخوته، ولعل قوله: أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ كيلا يتهاونوا في حفظه فإن للوسائط والأسباب مدخلا عظيما في وجود الأشياء وحصولها لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أي في قصتهم وحديثهم آياتٌ لِلسَّائِلِينَ لمن سأل عن تلك القصة وعرفها، أو آيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم بها من غير سماع العلم. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم يجب أن يصبر على بغي قومه إلى أن يظهر أمره كما فعل يوسف. يروى أن أسامي إخوته: يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وربالون ويشجر ودينة- وهؤلاء من ليا بنت خالة يعقوب- ودان ونفتالي وجاد وآشر- وهم من سريتين زلفة وبلهة- فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف. إِذْ قالُوا ظرف لكان أو منصوب بإضمار «اذكر» لَيُوسُفُ في لام الابتداء تحقيق لمضمون الجملة. وَأَخُوهُ أي لأبيه وأمه عنوا بنيامين. أَحَبُّ إذا كان أفعل التفضيل مستعملا بمن لم يتصرف فيه وَنَحْنُ عُصْبَةٌ الواو للحال والعصبة العشرة فصاعدا لأن الأمور تعصب بكفايتهم أي إنه يفضلهما في المحبة علينا وهما ابنان صغيران الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 لا كفاية فيهما ولا منفعة ونحن جماعة نكفي مهماته ونقوم بمصالحه إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أرادوا ضلالا خاصا وهو البعد عن طريق الصلاح وحسن المعاشرة مع الأولاد، ولم يعلموا أن المحبة أمر يتعلق بالقلب وليس لله فيه تكليف، ولعل يعقوب تفرس في يوسف ما أوجب اختصاصه بمزيد البر. ومن جملة أقوالهم أنهم قالوا لما تشاوروا في أمره اقْتُلُوا يُوسُفَ قيل: الآمر بالقتل شمعون أو دان ورضي به الباقون فجعلوا جميعا آمرين. والظاهر أنه قال بعضهم بذلك بدليل أنه لم يقع القتل ولقولهم أَوِ اطْرَحُوهُ فكان بعضهم أشار إلى القتل وبعضهم إلى الطرح ومهما صدر أمر من بعض القوم صح إسناده إليهم كقوله وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [البقرة: 72] وانتصب أَرْضاً على الظرف كالظروف المبهمة أي أرضا مجهولة بعيدة عن العمارة يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ تخلص محبته لكم سليمة عن التنازل فيها وكان ذكر الوجه تصويرا لإقباله عليهم بالكلية، ويجوز أن يراد بالوجه ذاته أو المراد يفرغ لكم من الشغل بيوسف وَتَكُونُوا مجزوم لأنه معطوف على جواب الأمر مِنْ بَعْدِهِ من بعد قتله أو إطراحه أو من بعد يوسف إذا قتل أو غرب قَوْماً صالِحِينَ تائبين إلى الله أو إلى أبيه لعذر تمهدونه مما جنيتم عليه، أو المراد صلاح دنياهم وانتظام أمورهم وتفرغهم لمهماتهم بعد يوسف بفراغ البال قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو يهوذا وكان أحسنهم فيه رأيا وأدبا وهو الذي قال: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ [يوسف: 80] لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ لأن القتل عظيم ولا سيما قتل الأخ وخاصة إذا كان القاتل والمقتول من أولاد الأنبياء وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ سمى البئر جبا لأنها قطعت قطعا ولم يحصل فيها شيء سوى القطع للأرض، والغيابة غور البئر وما غاب منها عن عين الناظر وأظلم من أسفلها. ومن قرأ على الجمع فلأن للجب أقطارا ونواحي يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ أي الرفقة السائرة قال ابن عباس: أي المارة، والالتقاط تناول الشيء من الطريق ونحوه يستعمل في الإنسان وغيره ومنه اللقيط للمنبوذ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ إن لم يكن من فعل هذا الأمر بد فهذا هو الرأي. ثم إن يعقوب كان خائفا على يوسف من كيدهم وكان يظهر أمارات ذلك على صحائف أعماله وأقواله فلذلك قالوا: ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ما وجد منا في بابه سوى النصح والإشفاق على الإطلاق أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ من قرأ بالجزم فمن الرتعة كالأمنة وهي الخصب والسعة، ومن قرأ بالكسر فعلى حذف الياء من يرتعي مستعارا من ارتعاء الإبل والماشية. واللعب ترك ما ينفع إلى ما لا ينفع. فمن قرأ بالياء فلا إشكال لأن الصبي لا تكليف عليه، ومن قرأ بالنون قال كان لعبهم الاستباق والانتضال بدليل قوله إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ سمي لعبا لأنه في صورته، أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 اللعب قد يطلق على استعمال المباحات لأجل انشراح الصدر قال صلى الله عليه وسلم لجابر: فهلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك. قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي لام الابتداء للتأكيد أو لتخصيص المضارع بالحال وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ أصله الهمز ولهذا قال بعضهم: إنه مشتق من تذأبت الريح إذا أتت من كل جهة. قيل: كان أرضهم مذأبة فلذلك قال: أَخافُ. وقيل: رأى في النوم أن الذئب قد شد على يوسف وكان يحذره فلقنهم العذر كما جاء في أمثالهم البلاء موكل بالمنطق. قوله: إِنَّا إِذاً جواب للقسم ساد مسد جواب الشرط، حلفوا له أن كان ما خافه وحالهم أنهم رجال كفاة وحماة فهم إذ ذاك خاسرون عاجزون أو مستحقون للدعاء عليهم بالخسار، أو المراد إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا وخسرناها. كان يعقوب قد اعتذر إليهم بأمرين: أحدهما أن ذهابهم به مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة، والثاني خوفه عليه من الذئب فلم يجيبوا عن الأول لأنه هو الذي كان يغيظهم فلم يعبئوا بذلك الكلام فخصوا الجواب بالثاني، وهاهنا إضمار والتقدير فأذن لهم وأرسله معهم فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا عزموا على أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ قيل: هو بئر ببيت المقدس. وقيل: بأرض الأردن. وقيل: بين مصر ومدين. وقيل: على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. ثم إن كان جواب «لما» محذوفا ففي الآية إضمار آخر كما تقدم في الوقوف. قال السدي: إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة وأخذوا يهينونه ويضربونه وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء. فقال يهوذا أما أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه، فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم. فقال: يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به فقالوا له: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا حتى ينقذوك ودلوه في البئر، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا وكان يهوذا يأتيه بالطعام. وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال: يا شاهدا غير غائب، ويا قريبا غير بعيد، ويا غالبا غير مغلوب، اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا. وحكي أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحق وإسحق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف فجاء جبرائيل فأخرجه وألبسه إياه وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ في صغر السن كما أوحي إلى يحيى وعيسى. وقيل: كان إذ ذاك بالغا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 وعن الحسن كان له سبع عشر سنة لَتُنَبِّئَنَّهُمْ لتحدثن إخوتك بما فعلوا بك وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنك يوسف لعلو شأنك وبعد حالك عن أوهامهم ولطول العهد المنسي المغير للهيئات والأشكال. يروى أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم ويقال له يوسف وكان يدنيه دونكم وإنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيه أكله الذئب وبعتموه بثمن بخس. ويجوز أن يراد وهم لا يشعرون أنا آنسناه بالوحى وأزلنا الوحشة عن قلبه فتتعلق الجملة بقوله وَأَوْحَيْنا روي أن امرأة حاكمت إلى شريح فبكت فقال له الشعبي: يا أبا أمية أما تراها تبكي؟ قال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة وما ينبغي لأحد أن يقضي إلا بما أمر أن يقضي به من السنة المرضية. عن مقاتل: إنما جاءوا عشاء لئلا تظهر أمارة الخجل والكذب على وجوههم. ولما سمع صوتهم يعقوب فزع وقال: ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا لا. قال: فما لكم وأين يوسف قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أي نتسابق في العدو أو في الرمي وقيل ننتضل وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدق لشدة محبتك ليوسف، وفيه دليل لمن يزعم أن الإيمان هو التصديق وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ نصب على الظرف أي فوق قميصه لا على الحال المتقدمة لأن حال المجرور لا تتقدم عليه بِدَمٍ كَذِبٍ ذي كذب أو دم هو الكذب بعينه مبالغة. يروى أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها، ويروى أن يعقوب لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال: أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص. وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه. وقيل: كان في قميص يوسف ثلاث آيات آية ليعقوب على كذبهم، وآية حين ألقاه البشير على وجهه فارتد بصيرا، وآية على براءة يوسف حين قدّ من دبر. ولما تبين يعقوب بالآيات المذكورة أو بالوحي أنهم كاذبون قال على سبيل الإضراب بَلْ سَوَّلَتْ قال ابن عباس بل زينت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً في شأنه وهو تفعيل من السول الأمنية. قال الأزهري: وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمزة. وقال في الكشاف: سوّلت سهلت من السول بفتحتين وهو الاسترخاء والتنكير دليل التعظيم فَصَبْرٌ جَمِيلٌ لا بد من تقدير مبتدأ أو خبر أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أمثل. وفي الحديث أنه الذي لا شكوى فيه أي إلى الخلق لقوله: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف: 86] وقيل: أي لا أعايشكم على كآبة الوجه بل أكون لكم كما كنت. يحكى أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 سقط حاجبا يعقوب على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني؟ قال: يا رب خطيئة فاغفرها لي. ثم بين أن الصبر على ما وصفوه من هلاك يوسف لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى فقال: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ فالقرينتان كقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] ويعلم من الآية أن الصبر إن كان لأجل الرضا بقضاء الله تعالى أو لاستغراقه في شهود نور الحق بحيث يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء فذلك صبر جميل وإلا فلا. واعترض بأن هذا الصبر كان فيه إعانة الظالمين وإهمال لتخليص المظلوم من المحن والشدائد والترقية فكيف جاز صبر يعقوب حتى لم يبالغ في التفتيش والتنقير، ولو بالغ لظهر عليه الأمر لشهرته وعظم قدره؟ وأجيب بأن الله سبحانه لعله منعه عن الطلب تشديدا للمحنة عليه، أو لعله إن بالغ في البحث أقدموا على قتله، أو علم أن الله تعالى يصون يوسف وسيعظم أمره بالآخرة فلم يرد هتك ستر أولاده وإلقاءهم في ألسنة الناس كقول القائل: فإذا رميت يصيبني سهمي فكان الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى. ثم شرع في حكاية خلاص يوسف فقال: وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ عن ابن عباس: قوم يسيرون من مدين إلى مصر وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب فأخطئوا الطريق فنزلوا قريبا منه، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران لم يكن إلا للرعاة. وقيل: كان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف. فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ رجلا يقال له مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء. ومعنى الوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم فَأَدْلى دَلْوَهُ أرسلها في البئر. قال الواحدي: فإذا نزعها وأخرجها قيل دلا يدلو. قالَ يا بُشْرى التقدير فظهر يوسف فقال الوارد: يا بشرى كأنه ينادي البشرى ويقول تعالي فهذا أوانك. ومتى قال الوارد هذا الكلام؟ قال جمع من المفسرين: حين رأى يوسف متعلقا بالحبل. وقال آخرون: لما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به. قال السدي: كان للوارد صاحب يقال له بشرى فنادى يا بشرى كما يقال يا زيد. والأكثرون على أنها بمعنى البشارة. فقال أبو علي: يحتمل أن يكون منادى مضموما مثل يا رجل وأن يكون منصوبا مثل يا رجلا كأنه جعل ذلك النداء شائعا في جنس البشرى. ومن قرأ بالإضافة فنصبه ظاهر. والضمير في وَأَسَرُّوهُ إما عائد إلى الوارد وأصحابه أي أخفوه من الرفقة لئلا يدعوا المشاركة في الالتقاط، أو في الشراء إن قالوا اشتريناه. وطريق الإخفاء أنهم كتموه من الرفقة أو قالوا إن أهل الماء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر، وإما عائد الى إخوة يوسف بناء على ما روي عن ابن عباس أنهم قالوا للرفقة: هذا غلام لنا قد آبق فاشتروه منا، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه، ولعل الوجه الأول أولى بدليل قوله بِضاعَةً وهي نصب على الحال أي أخفوه متاعا للتجارة. وأصل البضع القطع والبضاعة قطعة من المال للتجارة والله تعالى أعلم. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ فيه وعيد إما للوارد وأصحابه حيث استبضعوا ما ليس لهم أو لإخوة يوسف وذلك ظاهر، وفيه أن كيد الأعداء لا يدفع شيئا مما علم الله من حال المرء. والضمير في قوله: وَشَرَوْهُ إما أن يعود إلى الوارد وأصحابه أي باعوه بِثَمَنٍ قليل لأن الملتقط للشيء متهاون به وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ممن يرغب عما في يده. قال أهل اللغة: زهد فيه معناه رغب عنه وزهد عنه معناه رغب فيه، وإما أن يعود إلى الإخوة والمعنى باعوه، أو إلى الرفقة والمعنى اشتروه، وهكذا الضمير في وَكانُوا إن عاد إلى الإخوة فقلة رغبتهم في يوسف ظاهرة وإلا لم يفعلوا به ما فعلوا، وإن عاد إلى الرفقة فذلك أنهم اعتقدوا أنه أبق فخافوا إعطاء الثمن الكثير. عن ابن عباس أن إخوته عادوا إلى الجب بعد ثلاثة أيام يتعرفون خبره، فلما لم يروه في الجب ورأوا آثار السيارة طلبوهم فلما رأوا يوسف قالوا: هذا عبد أبق منا فقالوا لهم: فبيعوه منا فباعوه منهم، ولعلهم عرفوا أنه ولد يعقوب فكرهوا اشتراءه خوفا من الله ومن ظهور تلك الواقعة إلا أنهم مع ذلك اشتروه بالآخرة بثمن بخس أي مبخوس ناقص عن القيمة أو ناقص العيار. وقال ابن عباس: البخس هنا الحرام لأن ثمن الحر حرام دراهم لا دنانير معدودة قليلة تعد عدّا ولا توزن لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية وهي الأربعون. عن ابن عباس كانت عشرين درهما. وعن السدي اثنين وعشرين أخذ كل واحد من الإخوة درهمين إلا يهوذا فإنه لم يأخذ شيئا. ويروى أن إخوته اتبعوهم يقولون استوثقوا منه لا يأبق. والظاهر أن الضمير في فِيهِ عائد إلى يوسف، ويحتمل أن يعود إلى الثمن البخس أي أخذوا في ثمنه ما ليس يرغب فيه. قال النحويون: قوله: فِيهِ ليس من متعلقات الزاهدين لأن الألف واللام فيه موصول وزاهدين صلة، وكما لا تتقدم نفس الصلة فكذا ما هو متعلق به فلا يقال مثلا: وكانوا زيدا من الضاربين فهو بيان كأنه قيل في أي شيء زهدوا؟ فقيل: زهدوا فيه والله تعالى أعلم. التأويل: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ دلالات كتاب المحبوب إلى المحب للهداية إلى طريق الوصال ولهذا كانت أحسن القصص لأنها أتم قصص القرآن مناسبة ومشابهة بأحوال الإنسان إِذْ قالَ يُوسُفُ القلب لِأَبِيهِ يعقوب الروح إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً هن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 الحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة أي المذكرة والحافظة والمتخيلة والمتوهمة والحس المشترك مع المفكرة، وبكل من هذه إضاءة أي أدراك للمعنى المناسب له وهم إخوة يوسف القلب لأنهم تولدوا بازدواج يعقوب الروح وزوج النفس والشمس والقمر الروح والنفس رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ وهذا مقام كمالية الإنسان أن يصير القلب سلطانا يسجد له الروح والنفس والحواس والقوى وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ على سائر المخلوقات وهذا كمال حسن يوسف وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ العلم اللدني المختص بالقلب وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بأن يتجلى لك ويستوي لك إذ القلب عرش حقيقي للرب وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ أي متولدات الروح من القوى والحواس كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ السر وَإِسْحاقَ الخفي وبهما يستحق القلب لقبول فيض التجلي، وهناك لله ألطاف خفية لا يتبع الإنسان فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل. آياتٌ لِلسَّائِلِينَ عن طريق الوصول إلى الله لَيُوسُفُ القلب وَأَخُوهُ بنيامين الحس المشترك فإن له اختصاصا بالقلب أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا لأن القلب عرض الروح ومحل استوائه عليه، والحس المشترك بمثابة الكرسي للعرش. اقْتُلُوا يُوسُفَ القلب بسكين الهوى وبسم الميل إلى الدنيا أَوِ اطْرَحُوهُ في أرض البشرية يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ يقبل الروح بوجهه إلى الحواس والقوى لتحصيل شهواتها وَتَكُونُوا بعد موت القلب قَوْماً صالِحِينَ للنعم الحيواني والنفساني. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو يهوذا القوة المفكرة لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ القلب وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ القالب وسفل البشرية يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ سيارة الجواذب النفسانية. يَرْتَعْ في المراتع البهيمية وَيَلْعَبْ في ملاعب الدنيا وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من فتنة الدنيا وآفاتها لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ الشيطان إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ لأن خسران جميع أجزاء الإنسان في هلاك القلب وربحها في سلامة القلب وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فيه إشارة إلى أن من خصوصية تعلق الروح بالقالب أن يتولد منهما القلب العلوي والنفس السفلية والحواس والقوى فيحصل التجاذب. فإن كانت الغلبة للروح سعد، وإن كانت للنفس شقي وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً أي في النصف الآخر من مدّة العمر نَسْتَبِقُ نتشاغل باللهو في أيام الشباب وَتَرَكْنا يُوسُفَ القلب مهملا معطلا عن الاستكمال فَأَكَلَهُ ذئب الشيطان. وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ أي قالب القلب بِدَمٍ كَذِبٍ هو آثار الملكات الردية، زعموا أنها قد سرت إلى القلب وأزالت نور الإيمان عنه بالكلية. قالَ يعقوب الروح بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ على ما قضى الله وقدر وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ من رين القلب وموته وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ هي هبوب نفحات ألطاف الحق فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ واردا من واردات الحق فَأَدْلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 دَلْوَهُ جذبة من جذبات الرحمن قالَ يا بُشْرى فيه إشارة إلى أن للجذبة بشارة في تعلقها بالقلب كما أن للقلب بشارة في خلاصه من جب الطبيعة كما قال تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] وَاللَّهُ عَلِيمٌ بحكمة البشارتين وبِما يَعْمَلُونَ من شرائه بِثَمَنٍ بَخْسٍ هو الحظوظ الفانية في أيام معدودة وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ لأنهم ما عرفوا قدره وإنما ميلهم إلى استجلاب المنافع الردية العاجلة والله أعلم. [سورة يوسف (12) : الآيات 21 الى 35] وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) القراآت: هَيْتَ لَكَ بضم التاء وفتح الهاء: ابن كثير هَيْتَ بكسر الهاء وفتح التاء: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان والرازي عن هشام مثله ولكن بالهمز، الحلواني عن هشام مثل هذا ولكن بضم التاء، النجاري عن هشام. الباقون هَيْتَ لَكَ بفتحتين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 وسكون الياء الْمُخْلَصِينَ بفتح اللام حيث كان: أبو جعفر ونافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف رَبِّي أَحْسَنَ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن كثير مِنْ قُبُلٍ ومِنْ دُبُرٍ بالاختلاس: عباس قَدْ شَغَفَها مدغما: أبو عمرو وعلي وحمزة وخلف وهشام وَقالَتِ اخْرُجْ بكسر التاء: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم. الآخرون بالضم للإتباع. حاشا لله وما بعده في الحالين بالألف: أبو عمرو ربي السجن بفتح السين على أنه مصدر: يعقوب. الباقون: بالكسر. الوقوف: وَلَداً ط فِي الْأَرْضِ ز بناء على أن الواو مقحمة واللام متعلقة ب مَكَّنَّا أو هي عطف على محذوف قبله أي ليتمكن ولنعلمه، والأظهر أنها تتعلق بمحذوف بعده أي ولنعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك التمكن الْأَحادِيثِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ وَعِلْماً ط الْمُحْسِنِينَ هـ هَيْتَ لَكَ ط الظَّالِمُونَ هـ هَمَّتْ بِهِ ز قد قيل بناء على أن قوله وَهَمَّ جواب «لولا» وليس بصحيح لأن جواب «لولا» لا يتقدم عليه وإنما جوابه محذوف وهو لحقق ما هم به كذا. قال السجاوندي: وأقول لو وقف للفرق بين الهمين لم يبعد وَهَمَّ بِها ج بُرْهانَ رَبِّهِ ط وَالْفَحْشاءَ ط الْمُخْلَصِينَ 5 لَدَى الْبابِ هـ أَلِيمٌ هـ عَنْ نَفْسِي لم يذكر الأئمة عليه وقفا ولعل الوقف عليه حسن كيلا يظن عطف وَشَهِدَ على راوَدَتْنِي أو على جملة هِيَ راوَدَتْنِي. مِنْ أَهْلِها ج على تقدير وقال إن كان مِنَ الْكاذِبِينَ هـ الصَّادِقِينَ هـ مِنْ كَيْدِكُنَّ ط عَظِيمٌ هـ عَنْ هذا سكتة للعدول عن مخاطب إلى مخاطب لِذَنْبِكِ ج لاحتمال التعليل الْخاطِئِينَ هـ عَنْ نَفْسِهِ ج لأن «قد» لتحسين الابتداء مع اتحاد القائل حُبًّا ط مُبِينٍ هـ عَلَيْهِنَّ ج بَشَراً ط كَرِيمٌ هـ فِيهِ ط فَاسْتَعْصَمَ ط لاحتمال القسم الصَّاغِرِينَ هـ إِلَيْهِ ج للشرط مع الواو الْجاهِلِينَ هـ كَيْدَهُنَّ ط الْعَلِيمُ هـ حِينٍ هـ. التفسير: قد ثبت في الأخبار أن الذي اشتراه إما من الإخوة أو من الواردين ذهب به إلى مصر وباعه فاشتراه العزيز- واسمه قطفير أو أطفير- ولم يكن ملكا ولكنه كان يلي خزائن مصر، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف فملك بعده قابوس بن مصعب ولم يؤمن بيوسف. روي أن العزيز اشتراه ابن سبع عشرة سنة وأقام في منزلة ثلاث عشرة واستوزره بعد ذلك ريان بن الوليد ثم آتاه الله الحكمة والعلم ابن ثلاث وثلاثين وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: كان الملك في أيامه فرعون موسى، عاش أربعمائة سنة دليله قوله: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 بِالْبَيِّناتِ [غافر: 34] وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف. والمعنى ولقد جاء آباءكم. وقيل: اشتراه العزيز بعشرين دينارا وزوجي نعل وثوبين أبيضين. وقيل: أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا وورقا وحريرا فابتاعه قطفير بذلك المبلغ. ومعنى أَكْرِمِي مَثْواهُ اجعلي منزله ومقامه عندنا كريما أي حسنا مرضيا. وفي هذه العبارة دلالة على أنه عظم شأن يوسف كما يقال سلام على المجلس العالي. وقال في الكشاف: المراد تعهديه بحسن الملكة حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا. ويقال للرجل: كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل الرجل به من إنسان رجل أو امرأة يراد هل تطيب نفسك بثوائك عنده؟ واللام في لِامْرَأَتِهِ تتعلق ب قالَ. ثم بين الغرض من الإكرام فقال: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا بكفاية بعض مهماتنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً لأن قطفير كان لا يولد له ولد وكان حصورا. وعن ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته أكرمي مثواه فتفرس في يوسف ما تفرس، والمرأة التي أتت موسى وقالت لأبيها يا أبت استأجره، وأبو بكر حين استخلف عمر. وروي أنه سأله عن نفسه فأخبره بنسبه فعرفه. ثم قال: وَكَذلِكَ أي كما أنعمنا عليه بالإنجاء من الجب وعطف قلب العزيز عليه مَكَّنَّا لَهُ في أرض مصر حتى يتصرف فيها بالأمر والنهي وَلِنُعَلِّمَهُ قد مر في الوقوف بيان متعلقه وفي أوائل السورة معنى تأويل الأحاديث. والمراد من الآية حكاية إعلاء شأن يوسف في الكمالات الحقيقية وأصولها القدرة، وأشار إليها بقوله: مَكَّنَّا والعلم وأشار إليه بقوله: وَلِنُعَلِّمَهُ ولا ريب أن ابتداء ذلك كان حين ألقي في الجب كما قال وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ وكان يرتقي في ذلك إلى أن بلغ حد الكمال وصار مستعدا للدعوة إلى الدين الحق وللإرسال إلى الخلق وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أي على أمر نفسه لا منازع له ولا مدافع، أو على أمر يوسف لم يكله إلى غيره ولم ينجح كيد إخوته فيه ولم يكن إلا ما أراد الله ودبر. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن الأمر كله بيد الله. ثم إنه سبحانه بين وقت استكمال أمره فقال: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ قيل في الأشد ثماني عشرة سنة وعشرون، وثلاث وثلاثون وأربعون إلى ثنتين وستين آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً فالحكم الحكمة العملية والعلم الحكمة النظرية، وإنما قدمت العملية لأن أصحاب الرياضات والمجاهدات يصلون أوّلا إلى الحكمة العملية ثم إلى العلم اللدني بخلاف أصحاب الأفكار والأنظار، والأول هو طريقة يوسف لأنه صبر على البلاء والمحن ففتح عليه أبواب المكاشفات، وقيل: الحكم النبوّة لأن النبي حاكم على الخلق والعلم علم الدين. وقيل: الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على النفس الأمارة قاهرة لها، فحينئذ تفيض الأنوار القدسية والأضواء الإلهية من عالم القدس على جوهر النفس. والتحقيق في هذا الباب أن استكمال النفس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 الناطقة إنما يتيسر بواسطة استعمال الآلات الجسدانية، وفي أوان الصغر تكون الرطوبات مستولية عليها فتضعف تلك الآلات، فإذا كبر الإنسان واستولت الحرارة الغريزية على البدن نضجت تلك الرطوبات وقلت واعتدلت فصارت الآلات صالحة لأن تستعملها النفس الإنسانية في تحصيل المعارف واكتساب الحقائق. فقوله وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ إشارة إلى اعتدال الآلات البدنية، وقوله: آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً إشارة إلى استكمال النفس الناطقة وقوة لمعان الأضواء القدسية فيها. قال في الكشاف: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ فيه تنبيه على أنه كان محسنا في عمله متقيا في عنفوان أمره، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه. واعترض عليه بأن النبوة غير مكتسبة. والحق أن الكل بفضل الله ورحمته ولكن للوسائط والمعدات مدخل عظيم في كل ما يصل إلى الإنسان من الفيوض والآثار، فالأنوار السابقة تصير سببا للأضواء اللاحقة وهلم جرا. عن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله. ثم إن يوسف كان في غاية الحسن والجمال، فلما شب طمعت فيه امرأة العزيز وذلك قوله: وَراوَدَتْهُ والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب، ضمنت معنى الخداع أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه حتى يزله عن الشيء الذي يريد أن يخرجه من يده، وقد يخص بمحاولة الوقاع فيقال: راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حارل كل منهما الوطء والجماع، وإنما قال: الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها ولم يقل زليخا قصدا إلى زيادة التقرير مع استهجان اسم المرأة وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ لا ريب أن التشديد يدل على التكثير لأن غلق متعد كنقيضه وهو فتح. والمفسرون رووا أن الأبواب كانت سبعة وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ هذه اللغة في جميع القراآت اسم فعل بمعنى هلم إلا عند من قرأ هَيْتَ لَكَ بهاء مكسورة بعدها همزة ساكنة ثم تاء مضمومة فإنها بمعنى تهيأت لك. يقال: هاء يهيء مثل جاء يجيء بمعنى تهيأ. قال النحويون: هيت جاء بالحركات الثلاثة: فالفتح للخفة، والكسر لالتقاء الساكنين، والضم تشبيها بحيث. وإذا بين باللام نحو «هيت لك» فهي صوت قائم مقام المصدر كأف له أي لك أقول هذا. وإذا لم يبين باللام فهو صوت قائم مقام مصدر قائم مقام الفعل ويكون اسم فعل، ومعناه إما خبر أي تهيأت وإما أمر أي أقبل. وقد روى الواحدي بإسناده عن أبي زيد قالَتْ هَيْتَ لَكَ بالعبرانية هيتالج أي تعال عربه القرآن. وقال الفراء: إنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها. وقال ابن الأنباري: هذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران كما اتفقت لغة العرب والروم في القسطاس، ولغة العرب والفرس في السجيل، ولغة العرب والترك في الغساق، ولغة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 العرب والحبشة في ناشئة الليل. ثم إن المرأة لما ذكرت هذا الكلام أجاب يوسف عليه السلام بثلاثة أجوبة: الأول قالَ مَعاذَ اللَّهِ وهو من المصادر التي لا يجوز إظهار فعلها أي أعوذ بالله معاذا، وفيه إشارة إلى أن حق الله تعالى يمنع عن هذا العمل. الثاني إِنَّهُ والضمير للشأن رَبِّي أي سيدي ومالكي بزعمهم واعتقادهم وإلا فيوسف كان عالما بأنه حر والحر لا يصير عبدا بالبيع، أو المراد التربية أي الذي رباني أَحْسَنَ مَثْوايَ حين قال أَكْرِمِي مَثْواهُ وفي هذا إشارة إلى أن حق الخلق أيضا يمنع عن ذلك العمل. وقيل: أراد بقوله: رَبِّي الله تعالى لأنه مسبب الأسباب. الثالث قوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الذين يجازون الحسن بالسيء، أو أراد الذين يزنون لأنهم ظلموا أنفسهم. وفيه إشارة إلى الدليل العقلي فإن صون النفس عن الضرر واجب وهذه اللذة قليلة يتبعها خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة، فعلى العاقل أن يحترز عنها فما أحسن نسق هذه الأجوبة. قوله سبحانه وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لا شك أن الهم لغة هو القصد والعزم، لكن العلماء اختلفوا فقال جم غفير من المفسرين الظاهريين: إن تلك الهمة بلغت حد المخالطة فقال أبو جعفر الباقر رضي الله عنه بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنها طمعت فيه وإنه طمع فيها حتى هم أن يحل التكة. وعن ابن عباس أنه حل الهميان أي السربال وجلس منها مجلس المجامع. وعنه أيضا أنها استلقت له وقعد هو بين شعبها الأربع. وروي أن يوسف حين قال: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبرائيل: ولا حين هممت يا يوسف؟ فقال يوسف عند ذلك وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ وقال آخرون: إن الهمة ما كانت إلا ميلة النفس ولم يخرج شيء منها من القوة إلى الفعل ولكن كانت داعية الطبيعة وداعية العقل والحكمة متجاذبتين. أما الأولون فقد فسروا برهان ربه بأن المرأة قامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في زاوية من زوايا البيت فسترته بالأثواب فقال يوسف: ولم؟ فقالت: أستحيي من إلهي هذا أن يراني على المعصية. فقال يوسف: تستحيي من صنم لا يسمع ولا يعقل ولا أستحيي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت، فو الله لا أفعل ذلك أبدا. وعن ابن عباس أنه مثل له يعقوب عاضا فوه على أصابعه قائلا: أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء؟ وإلى هذا ذهب عكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين. وقال سعيد بن جبير: تمثل له يعقوب فضربه في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقيل: صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش فلما زنى قعد لا ريش له. وقيل: بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 [الإنفطار: 11، 12] فلم ينصرف ثم رأى فيها وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32] فلم ينته ثم رأى فيها وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 281] فلم ينجع فيه فقال الله تعالى لجبرائيل: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة. فانحط لجبرائيل وهو يقول: يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان زمرة الأنبياء؟ وقيل: رأى تمثال العزيز. وأما الآخرون فما سلموا شيئا من هذه الروايات. وعلى تقدير التسليم فتوارد الدلائل على المطلوب الواحد غير بعيد وكذا ترادف الزواجر فهو عليه السلام كان ممتنعا عن ذلك العمل بحسب النظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم وبحسب ما أعطاه الله من النفس القدسية المطهرة النبوية، لكنه انضاف إلى ذلك البرهان هذه الزواجر تكميلا للألطاف وتتميما للعناية. قالوا: ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم إذا لقي ما لقي به نبي الله مما ذكروا لما بقي منه عرق ينبض وعضو يتحرك فكيف احتاج النبي إلى جميع هذه الزواجر والمؤكدات حتى ينتهي عن إمضاء العزمة. قالوا: والهم لا يتعلق بالأعيان وإنما يتعلق بالمعاني، فأنتم تضمرون أنه قد هم بمخالطتها ونحن نقول هم بدفعها لولا أن عرف برهان ربه وهو أن الشاهد سيشهد له أنه كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، فلعله لو اشتغل بأن يدفعها أمكن أن يتمزق قميصه من قبل فكانت الشهادة عليه لا له فلذلك ولى هاربا عنها. وفي قوله: وَهَمَّ بِها فائدة أخرى هي أن ترك المخالطة بها ما كان لعدم رغبته في النساء وعوز قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل، وكيف يظن بيوسف معصية وقد ادعى البراءة بقوله: هِيَ راوَدَتْنِي وبقوله: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ والمرأة اعترفت بذلك حين قالت للنسوة وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وقالت الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ وزوج المرأة صدّقه فقال: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ وشهد له شاهد من أهلها كما يجيء وشهد له الله تعالى فقال: كَذلِكَ أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو الأمر مثل ذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ خيانة السيد وَالْفَحْشاءَ الزنا أو السوء مقدمات الجماع من القبلة والنظر بشهوة ونحو ذلك. ثم أكد الشهادة بقوله: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا والإضافة للتشريف كقوله: وَعِبادُ الرَّحْمنِ [الفرقان: 63] ثم زاد في التأكيد فوصفه بالمخلصين أي هو من جملة من اتصف في طاعاته بصفة الإخلاص، أو من جملة من أخلصه الله تعالى بناء على قراءتي فتح اللام وكسرها. ويحتمل أن يكون «من» للابتداء لا للتبعيض أي هو ناشىء منهم لأنه من ذرية إبراهيم عليه السلام. فكل هذه الدلائل تدل على عصمة يوسف عليه السلام وأنه بريء من الذنب، ولو كان قد وجدت منه زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره كما في آدم وذي النون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 وغيرهما ولما استحق هذا الثناء والله أعلم بحقائق الأمور. وقوله: وَاسْتَبَقَا الْبابَ أي تسابقا إليه على حذف الجار وإيصال الفعل مثل وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] أو على تضمين استبقا معنى ابتدرا. وإنما وحد الباب لأنه أراد الداني لا جميع الأبواب التي غلقتها. روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى حرج من الأبواب وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ لأنها اجتذبته من خلفه فانقد أي انشق طولا وَأَلْفَيا سَيِّدَها صادفا بعلها وهو قطفير. وإنما لم يقل سيدهما لأن ملك يوسف لم يكن ملكا في الحقيقة. روي أنهما ألفياه مقبلا يريد أن يدخل وقيل جالسا مع ابن عم للمرأة. ثم إنه كان للسائل أن يسأل فما قالت المرأة إذ ذاك؟ فقيل: قالت: ما جَزاءُ هي استفهامية أو نافية معناه أي شيء جزاؤه، أو ليس جزاؤه إلا السجن أو العذاب الأليم. وربما فسر العذاب الأليم بالضرب بالسياط جمعت بين غرضين تنزيه ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف وتخويفه طمعا في أن يواتيها خوفا وإن لم يواتها طوعا. ثم إنها لحبها يوسف راعت دقائق المحبة فذكرت السجن أوّلا ثم العذاب لأن المحب لا يريد ألم المحبوب ما أمكن. وأيضا لم تصرح بذكر يوسف وأنه أراد بها سوءا بل قصدت العموم ليندرج يوسف فيه. وفي قولها: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ إشعار بأن ذلك السجن غير دائم بخلاف قول فرعون لموسى لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء: 29] ففيه إشعار بالتأبيد قالَ يوسف هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وإنما صرح بذلك لأنها عرضته للسجن والعذاب فوجب عليه الدفع عن نفسه ولولا ذلك لكتم عليها. قال سبحانه وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قال جمع من المفسرين: الشاهد ابن عم المرأة وكان رجلا حكيما، اتفق في ذلك الوقت أنه كان مع العزيز فقال: قد سمعت الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنا لا ندري أيكما قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدام فأنت صادقة والرجل كاذب، وإن كان من خلف فالرجل صادق وأنت كاذبة، فلما نظروا إلى القميص ورأوا الشق من خلفه قال ابن عمها: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ وعن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك أن الشاهد ابن خال لها وكان صبيا في المهد وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم» «1» وعن مجاهد: الشاهد هو القميص المشقوق من خلف وضعف بأن القميص لا يوصف بالشهادة ولا بكونه من الأهل، واعترض على القول الأول   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 307) بدون «شاهد يوسف» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 بأن العلامة المذكورة لا تدل قطعا على براءة يوسف لاحتمال أن الرجل قصد المرأة وهي قد غضبت عليه ففر فعدت خلفه كي تدركه وتضربه ضربا وجميعا. وأجيب بأن هناك أمارات أخر منها أن يوسف كان عبدا لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد، ومنها قرينة الحال كتزين المرأة فوق المعتاد وما شوهد من أحوال يوسف في مدة إقامته بمنزلهم. واعتراض على القول الثاني بأن شهادة الصبي أمر خارق للعادة فتكون حجة قطعية فلم يبق للاستدلال بحال القميص ولا لكونه من أهلها فائدة. وأيضا لفظ شاهِدٌ لا يقع في العرف إلا على من تقدمت معرفته بالواقعة. والجواب أن تعيين الطريق في الإخبار والإعلام غير لازم، وكون الشاهد من أهلها أوجب للحجة عليها وألزم لها والشاهد هاهنا مجاز ووجه حسنه أنه أدى مؤدى الشاهد حيث ثبت به قول يوسف وبطل قولها. قال في الكشاف: التنكير في «قبل» و «دبر» معناه من جهة يقال لها قبل ومن جهة يقال لها دبر. أما الضمير في قوله: فَلَمَّا رَأى وفي قوله: قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ فقيل: إنه للشاهد الذي هو ابن عمها كما ذكرنا أي إن قولك وهو ما جزاء من أراد بأهلك سوءا، أو إن هذا الأمر وهو الذي أفضى إلى هذه الريبة من عملكن إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ قال بعض العلماء: أنا أخاف النساء أكثر مما أخاف الشيطان لأنه تعالى يقول: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً [النساء: 76] وقال للنساء: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ وأقول: لا شك أن القرآن كلام الله إلا أن هذا حكاية قول الشاهد فلا يثبت به ما ادعاه ذلك العالم ولو سلم فالمراد إن كيد الشيطان ضعيف بالنسبة إلى ما يريد الله تعالى إمضاءه وتنفيذه، وكيد النساء عظيم بالنسبة إلى كيد الرجال فإنهم يغلبنهم ويسلبن عقولهم إذا عرضن أنفسهن عليهم ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «النساء حبائل الشيطان» . ثم قال الشاهد: يُوسُفُ أي يا يوسف فحذف حرف النداء أَعْرِضْ عَنْ هذا الأمر واكتمه ولا تحدّث به وَاسْتَغْفِرِي يا امرأة لِذَنْبِكِ والاستغفار إما من الزوج أو من الله تعالى لأنهم كانوا يثبتون الإله الأعظم ويجعلون الأصنام شفعاء ولهذا قال يوسف لصاحبه في السجن أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: 39] إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ من المتعمدين للذنب. يقال: خطىء إذا أذنب متعمدا والتذكير للتغليب. وقيل: الضمير في رَأى وفي قالَ لزوج المرأة وأنه كان قليل الغيرة فلذلك اكتفى منها بالاستغفار قاله أبو بكر الأصم. وَقالَ نِسْوَةٌ هو اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي ولذلك حسن حذف التاء من فعله وقد تضم نونها. قال الكلبي: هن أربع في مدينة مصر: امرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب الدواب وامرأة صاحب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 السجن، وزاد مقاتل امرأة الحاجب، والفتى الغلام الشاب والفتاة الجارية قَدْ شَغَفَها أي خرق حبه شغاف قلبها والشغاف حجاب القلب، وقيل: جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب وحُبًّا نصب على التمييز وحقيقة شغفه أصاب شغافه كما يقال: كبده إذا أصاب كبده وكذا قياس سائر الأعضاء. وقرىء بالعين المهملة أي أحرقها مع تلذذ من شغف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران. وقال ابن الأنباري: هذا من الشغف وهو رؤوس الجبال أي ارتفع محبته إلى أعلى المواضع من قلبها. والضلال المبين الخطأ عن طريق الصواب. فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ اغتيابهن وسوء قالتهن فيها، وإنما حسن التعبير عن الاغتياب بالمكر لاشتراكهما في الإخفاء. وقيل: التمست منهن كتمان سرها فأفشينه فسمي مكرا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ تدعوهن. وقيل: أردن بذلك أن يتوسلن إلى رؤية يوسف عليه السلام فلهذا سمي مكرا. وقيل: كن أربعين. وَأَعْتَدَتْ وهيأت لَهُنَّ مُتَّكَأً موضع اتكاء وأصله موتكئا لأنه من توكأت أبدلت الواو تاء ثم أدغمت، والمراد هيأت لهن نمارق يتكئن عليها كعادة المترفهات كأنها قصدت بذلك تهويل يوسف عليه السلام من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهن السكاكين توهمه أنهن يثبن عليه. وقيل: المتكأ مجلس الطعام لأنهن كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث على هيئة المتنعمات، ولذلك نهى أن يأكل الرجل متكئا. وآتتهن السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن بها. وقيل: أراد بالمتكأ الطعام على سبيل الكناية لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له متكأ. وقال مجاهد: هو طعام يحتاج الى أن يقطع بالسكين لأن القاطع متكىء على المقطوع بآلة القطع وقرىء متكا مضموم الميم ساكن التاء مقصورا وهو الأترج فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أعظمنه وهبن ذلك الجمال، وكان أحسن خلق الله إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان أملح. قيل: كان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه ربه وما كان أحد يستطيع وصفه ويرى تلألؤ وجهه على الجدران وقد ورث الجمال من جدته سارّة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «مررت بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء فقلت لجبرائيل: من هذا؟ فقال: يوسف. فقيل: يا رسول الله كيف رأيته؟ قال: كالقمر ليلة البدر» وقال الأزهري: أكبرن بمعنى حضن والهاء للسكت. يقال: أكبرت المرأة أي دخلت في الكبر بالحيض، ووجه حيضهن حينئذ بأن المرأة إذا فزعت أسقطت ولدها فحاضت، فالمراد حضن ودهشن. وقيل: أكبرنه لما رأين عليه من نور النبوة وسيماء الرسالة وآثار الخضوع والإخبات والأخلاق الفاضلة الملكية كعدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح فلذلك وقعت الهيبة والرعب في قلوبهن وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي جرحنها بأن لم يعرفن الفاكهة من اليد، أو بأن لم يفرقوا بين الجانب الحاد من السكين وبين مقابله فوقع الطرف الحاد في أيديهن وكفهن وحصل الاعتماد على ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 الطرف فجرح الكف وهذا القول شديد الملاءمة لقولهن حاشَ لِلَّهِ أي ننزهه عما يشينه من خصلة ذميمة إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ في السيرة والعفة والطهارة. وأما قول زليخا: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ فإنما ينطبق على هذا التأويل من حيث إن الصورة الحسنة مع العفة الكاملة توجب حصول اليأس من الوصال وحصول الغرض المجازي وذلك يستتبع فرط الحيرة وزيادة العشق. وعلى القولين الأولين فالمعنى تنزيه الله من صفات العجز والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله، كما أن قولهن حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ تعجب من قدرته على خلق عفيف مثله، قال صاحب الكشاف: «حاشا» كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء واللام في لِلَّهِ لبيان من يبرأ وينزه وهي حرف من حروف الجر وضع موضع التنزيه والبراءة. وقال أبو البقاء: الجمهور على أنه هاهنا فعل لدخوله على حرف الجر وفاعله مضمر، وحذف الألف من آخره للتخفيف وكثرة دوره على الألسنة تقديره حاشى يوسف أي بعد عن المعصية لخشية الله وصار في حاشية أي ناحية. ما هذا بَشَراً إعمال ما عمل ليس لغة حجازية إِنْ هذا أي ما هذا الشخص إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ استدل بعضهم بالآية على أفضلية الملك كما مر في أول سورة البقرة قالوا: وإنما قلن ذلك لما ركز في العقول أن لا أحسن من صورة الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من صورة الشيطان. واعترض عليه بأنه لا مشابهة بين صورة الإنسان وصورة الملك. وأجيب بعد التسليم بتغيير المدعي وهو أنهن أردن المشابهة في الأخلاق الباطنة وبها يحصل المطلوب، وزيف بأن قول النساء لا يصلح للحجة، وفي الآية دلالة على أن اللوم انتفى لأنه لحقهن بنظرة واحدة يلحقها في مدة طويلة وأنظار كثيرة فلذلك قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وسئل هاهنا إن يوسف كان حاضرا فلم أشارت بعبارة البعيد؟ وأجاب ابن الأنباري بأنها أشارت إليه بعد انصرافه من المجلس وهذا شيء يتعلق بالنقل. وأما علماء البيان فإنهم بنوا الأمر على أن يوسف حاضر وأجابوا بأنهم لم تقل فهذا رفعا لمنزلته في الحسن واستحقاق أن يحب ويفتتن به واستبعادا لمحله، أو هو إشارة إلى المعنيّ بقولهن في المدينة عشقت عبدها الكنعاني كأنها قالت هو ذلك العبد الكنعاني الذي صوّرتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه يعني أنكن لم تصوّرنه قبل ذلك حق التصوير وإلا عذرتنني في الافتتان به. ولما أظهرت عذرها عند النسوة صرحت بحقيقة الحال فقالت: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ قال السدي: أي بعد حل السراويل. والذين يثبتون عصمة الأنبياء قالوا: إن فَاسْتَعْصَمَ بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحرز الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها، وفيه شهادة من المرأة على أن يوسف ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 صدر عنه أمر بخلاف الشرع والعقل أصلا. وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ قال في الكشاف: معناه الذي آمر به فحذف الجار كما في أمرتك الخير، أو ما مصدرية والضمير ليوسف أي أمري إياه أي موجب أمري ومقتضاه وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ هي نون التأكيد المخففة ولهذا تكتب بالألف لأن الوقف عليها بالألف. والصغار الذل والهوان، ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس جليل القدر مثل يوسف. ثم إنه اجتمع على يوسف في هذه الحالة أنواع من المحن والفتن منها: أن زليخا كانت في غاية الحسن، ومنها أنها كانت ذات مال وثروة وقد عزمت أن تبذل الكل ليوسف على تقدير أن يساعدها، ومنها أن النسوة اجتمعن عليه مرغبات ومخوفات، ومنها أنها كانت ذات قدرة ومكنة وكان خائفا من شرها ومن إقدامها على قتله، ولا ريب أن نطاق عصمة البشرية يضيق عن بعض هذه الأسباب فضلا عن كلها وعن أزيد منها ولهذا لجأ يوسف عليه السلام إلى الله تعالى قائلا: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لأن السجن وإن كان مشقة فهي زائلة والذي يدعونه إليه وإن كان لذة إلا أنها عاجلة مستعقبة لخزي الدنيا وعذاب الآخرة وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ بترجيح داعية الخير وعزوف النفس أو بمزيد الألطاف والعصمة أَصْبُ إِلَيْهِنَّ والصبوة الميل إلى الهوى ومنها الصبا لأن النفوس تصبو إلى روحها. وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ الذين لا يعملون بما يعلمون ولا يكون في علمهم فائدة، أو من السفهاء لأن الحكيم لا يفعل القبيح. ولما كان في قوله: وَإِلَّا تَصْرِفْ معنى الدعاء وطلب الصرف قال سبحانه: فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ ثم إن المرأة أخذت في الاحتيال وقالت لزوجها إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس ويقول لهم في المجالس إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر، وإما أن تحبسه كما حبستني فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى ينسى الناس هذا الحديث فذلك قوله تعالى: ثُمَّ بَدا أي ظهر لَهُمْ للعزيز ومن يليه أو له وحده والجمع على عادتهم في تعظيم الأشراف مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ الدالة على براءة يوسف من شهادة الصبي واعتراف المرأة وشهادة النسوة له بالسيرة الملكية والعفة. وفاعل بدا مضمر أي ظهر لهم رأي أو سجنه وإنما حذف لدلالة ما يفسره عليه وهو لَيَسْجُنُنَّهُ والقسم محذوف حَتَّى حِينٍ إلى زمان ممتد. عن ابن عباس: إلى زمان انقطاع القالة وما شاع في المدينة. وعن الحسن: خمس سنين. وعن غيره سبع سنين. وعن مقاتل: أنه حبس اثنتي عشرة سنة. التأويل: لما أخرجوا يوسف القلب من جب الطبيعة ذهبوا به إلى مصر الشريعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 فاشتراه عزيز مصرها وهو الدليل المربي على جادة الطريقة ليوصله إلى عالم الحقيقة. ف قالَ لِامْرَأَتِهِ وهي الدنيا أَكْرِمِي مَثْواهُ اخدميه بقدر الحاجة الضرورية عَسى أَنْ يَنْفَعَنا حتى يكون صاحب الشريعة فيتصرف في الدنيا باكسير النبوة فتصير الشريعة حقيقة والدنيا آخرة أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً نربيه بلبان ثدي الشريعة والطريقة إلى أن يرى الفطام عن الدنيا الدنية وَكَذلِكَ مَكَّنَّا يشير إلى أن تمكين يوسف القلب في أرض البشرية إنما هو لتعلم العلم اللدني، لأن الثمرة إنما تظهر على الشجرة إذا كان أصل الشجرة راسخا في الأرض وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أمر القلب في توجيهه إلى محبة الله وطلبه، أو على أمر القالب بجذبات العناية وإقامته على الصراط المستقيم فتكون تصرفاته بالله ولله وفي الله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنهم خلقوا مستعدّين لهذا الكمال وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي كما أفضنا على القلب ما هو مستحقه من الحكمة والعلم كذلك نجزي الأعضاء الرئيسية والجوارح إذا أحسنوا الأعمال والأخلاق على قاعدة الشريعة والطريقة خير الجزاء، وهو التبليغ إلى مقام الحقيقة. وَراوَدَتْهُ فيه إشارة إلى أن يوسف القلب وإن استغرق في بحر صفات الألوهية لا ينقطع عنه تصرفات زليخا الدنيا ما دام هو في بيتها أي في الجسد الدنياوي وَغَلَّقَتِ أبواب أركان الشريعة وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ أقبل إلي وأعرض عن الحق قالَ أي القلب الفاني عن نفسه الباقي ببقاء ربه مَعاذَ اللَّهِ عما سواه. أَحْسَنَ مَثْوايَ في عالم الحقيقة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الذين يقبلون على الدنيا ويعرضون عن المولى وَهَمَّ بِها فوق الحاجة الضرورية لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ وهو نور خصلة القناعة التي هي من نتائج نظر العناية لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ الحرص على الدنيا وَالْفَحْشاءَ بصرف حب الدنيا فيه إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ الذين خلصوا من سجن الوجود المجازي ووصلوا إلى الوجود الحقيقي. وَاسْتَبَقَا باب الموت الاختياري وَقَدَّتْ قميص بشريته مِنْ دُبُرٍ بيد شهواتها قبل خروجه من الباب وَأَلْفَيا سَيِّدَها وهو صاحب ولاية تربية يوسف القلب وزوج زليخا الدنيا لأنه يتصرف في الدنيا كما ينبغي تصرف الرجل في المرأة وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها هو حاكم العقل الغريزي دون العقل المجرد الذي هو ليس من الدنيا وأهلها في شيء، فبين حاكم العقل أن يد تصرف زليخا الدنيا لا تصل إلى يوسف القلب إلا بواسطة قميص بشريته إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ وهو قطع طريق الوصول إلى الله لعظيم على القلب السليم. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا فإن ذكر الدنيا يورث محبتها وحب الدنيا رأس كل خطيئة. وَقالَ نِسْوَةٌ هي الصفات البشرية من البهيمية والسبعية والشيطانية في مدينة الجسد تُراوِدُ فَتاها لأن الرب إذا تجلى للعبد خضع له كل شيء «يا دنيا اخدمي من خدمني» وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً أطعمة مناسبة لكل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 منها وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً هو سكين الذكر وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ إشارة إلى غلبات أحوال القلب على الصفات البشرية وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ بالذكر عما سوى الله. ثُمَّ بَدا لَهُمْ أي ظهر لمربي القلب بلبان الشريعة وهو شيخ الطريقة ومن يراعي صلاح حال القلب مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا آثار عناية الله وعصمة القلب من الالتفات إلى ما سواه لَيَسْجُنُنَّهُ في سجن الشرع إلى حين قطع تعلقه عن الجسد بالموت نظيره وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99] وإذا كان النبي مع نهاية كماله مأمورا بأن يكون مسجونا في هذا السجن فكيف بمن دونه والله أعلم. [سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 53] وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 القراآت إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ بالفتح في الحرفين: أبو جعفر ونافع، وأبو عمرو وافق ابن كثير في أَرانِي كليهما. الباقون: بسكون ياء المتكلم في الكل. نَبِّئْنا بغير همزة: أوقية والأعشى وحمزة في الوقف. تُرْزَقانِهِ مختلسة: الحلواني عن قالون نَبَّأْتُكُما مثل أَنْشَأْنا رَبِّي إِنِّي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو آبائِي بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر إني أرى بالفتح: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو رؤياي بالإمالة: عليّ غير قتيبة. أبو عمرو بالإمالة اللطيفة. والقول في ترك الهمزة مثل ما تقدم للرؤيا ممالة: عليّ، وأبو عمرو بالإمالة اللطيفة. لَعَلِّي أَرْجِعُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ابن مجاهد عن ابن ذكوان وأبو عمرو دَأَباً بفتح الهمزة: حفص. الآخرون بالسكون تعصرون بتاء الخطاب: حمزة وعليّ وخلف والمفضل. الباقون على الغيبة. ما بالُ النِّسْوَةِ بضم النون: الشموني والبرجمي نَفْسِي رَحِمَ رَبِّي بالفتح فيهما: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. الوقوف: فَتَيانِ ط خَمْراً ج فصلا بين القضيتين مع اتفاق الجملتين الطَّيْرُ مِنْهُ ط للعدول عن قول آخر منهما إلى قولهما المضمر أي فقالا. نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ ج لاحتمال التعليل. الْمُحْسِنِينَ هـ أَنْ يَأْتِيَكُما ط رَبِّي ط كافِرُونَ 5 وَيَعْقُوبَ ط مِنْ شَيْءٍ ط لا يَشْكُرُونَ هـ الْقَهَّارُ هـ ط مِنْ سُلْطانٍ ط إِلَّا لِلَّهِ ط إِلَّا إِيَّاهُ ط لا يَعْلَمُونَ هـ خَمْراً ج فصلا بين الجوابين مع اتفاق الجملتين مِنْ رَأْسِهِ ط لأن قوله: قُضِيَ جواب قولهما كذبنا وما رأينا رؤيا تَسْتَفْتِيانِ ط لاستئناف حكاية أخرى عِنْدَ رَبِّكَ ز سِنِينَ هـ ط يابِساتٍ ط تَعْبُرُونَ 5 أَحْلامٍ ج للنفي مع العطف بِعالِمِينَ هـ فَأَرْسِلُونِ هـ يابِساتٍ لا لتعلق «لعلى» يَعْلَمُونَ هـ دَأَباً ج للشرط مع الفاء تَأْكُلُونَ هـ تُحْصِنُونَ هـ يَعْصِرُونَ هـ ائْتُونِي بِهِ ج أَيْدِيَهُنَّ ط عَلِيمٌ هـ عَنْ نَفْسِهِ ط مِنْ سُوءٍ ط الْحَقُّ ز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 لانقطاع النظم واتصال المعنى واتحاد القائل. الصَّادِقِينَ هـ الْخائِنِينَ هـ نَفْسِي ج للحذف أي عن السوء رَبِّي ط رَحِيمٌ هـ. التفسير: تقدير الكلام فحبسوه وَدَخَلَ مَعَهُ أي مصاحبا له في الدخول السِّجْنَ فَتَيانِ غلامان للملك الأكبر خبازه وشرابيه نقلا عن أئمة التفسير أو استدلالا برؤياهما المناسبة لحرفتهما. رفع إلى الملك أنهما أراد سمه في الطعام والشراب فأمر بإدخالهما السجن ساعة إذ دخل يوسف قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أي في المنام لقولهما: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ وهو حكاية حال ماضية أَعْصِرُ خَمْراً أي عنبا تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه. وقيل: الخمر بلغة عمان اسم العنب. والضمير في قوله: بِتَأْوِيلِهِ يعود إلى ما قصا عليه وقد يوضع الضمير موضع اسم الإشارة كأنه قيل: نبئنا بتأويل ذلك إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ عبارة الرؤيا. وكان أهل السجن يقصون عليه رؤياهم فيؤوّلها لهم، أو نراك من العلماء عرفا ذلك بالقرائن أو من المحسنين إلى أهل السجن كان يعود مرضاهم ويوسع عليهم ويراعي دقائق مكارم الأخلاق معهم، أو من المحسنين في طاعة الله وطلب مرضاته ففرج عنا الغمة بتأويل ما رأينا وإن كانت لك يد في تأويل الرؤيا. وعن قتادة: كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول: أبشروا اصبروا تؤجروا. فقالوا: ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت يا فتى؟ فقال: أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحق بن خليل الله إبراهيم. فقال له عامل السجن: لو استطعت خليت سبيلك ولكني أحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت. وعن الشعبي ومجاهد أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي: أراني في بستان فإذا بأصل كرم عليه ثلاثة عناقيد من عنب فقطعتها وعصرتها في كأس الملك وسقيته. وقال الخباز: إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة، وإذا سباع الطير تنهش منها قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ إلى آخره هذا ليس بجواب لهما ظاهرا وإنما قدم هذا الكلام لوجوه منها: أن أحد التعبيرين لما كان هو الصلب وكان في إسماعه كراهة ونفرة أراد أن يقدم قبل ذلك ما يوثق بقوله ويخرجه عن معرض التهمة والعداوة، أو أراد أن يبين علوّ مرتبته في العلم وأنه ليس من المعبرين الذين يعبرون عن ظن وتخمين، ولهذا قال السدي: أراد لا يأتيكما طعام ترزقانه في النوم. بين بذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس مقصورا على شيء دون غيره. وقيل: إنه محمول على اليقظة وإنه ادعى معرفة الغيب كقول عيسى عليه السلام وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ [آل عمران: 49] أي أخبركما قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما أنه أيّ طعام هو وأيّ لون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 هو وكيف تكون عاقبته أهو ضار أم نافع وأن فيه سما أم لا. فقد روي أن الملك كان إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما مسموما فأرسله إليه. ثم قال: ذلِكُما أي هذا التأويل والإخبار بالمغيبات من قبيل الوحي والإلهام لا من التكهن والتنجيم الذي يكثر فيهما وقوع الخطأ. ثم بيّن سيرته وملته مشيرا فيه إلى أنه رسول من عند الله ومنبها على أن الاشتغال بمصالح الدين أهم من الاشتغال بمصالح الدنيا حتى إن الرجل الذي سيصلب لعله يسلم فلا يموت على الكفر فقال: إِنِّي تَرَكْتُ أي رفضت بل ما كنت قط، ويجوز أن يكون قبل ذلك غير مظهر للتوحيد خوفا منهم لأنه كان تحت أيديهم. وإنما كررت لفظة «هم» تنبيها على أنهم مختصون في ذلك الزمان بإنكار المعاد وتعريضا بأن إيداعه السجن بعد معاينة الآيات الشاهدة على براءته لا يصدر إلا عمن ينكر الجزاء أشد الإنكار. والمراد باتباع ملة آبائه الاتباع في الأصول التي لا تتبدل بتبدل الشرائع، ومعنى التنكير في قوله: مِنْ شَيْءٍ الرد على كل طائفة خالفت الملة الحنيفية من عبدة الأصنام والكواكب وغيرهم ذلِكَ التوحيد مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ نعمة الإيمان أو نعمة إعطاء القدرة والاختيار على الإيمان فلا ينظرون في الدلائل، وهذا يناسب أصول المعتزلة. وعن بعضهم إنا لا نشكر الله على الإيمان بل الله يشكرنا عليه كما قال: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء: 19] . يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أراد يا صاحبي السجن كقوله «يا سارق الليلة» خصهما بهذا النداء لأنهما دخلا السجن معه أو أراد يا ساكني السجن كقوله: أَصْحابَ النَّارِ [الأعراف: 44] فسبب التعيين أنهما استفتياه من بين الساكنين. ثم أنكر عليهم عبادة الأصنام فقال: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ في العدد وفي الحجمية وفيما يتبعها من اختلاف الأعراض والأبعاض خَيْرٌ إن فرض فيهم خير أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ لأن وحدة المعبود تستدعي توحيد المطلب وتفريد المقصد، وكونه قهارا غالبا غير مغلوب من وجه يوجب حصول كل ما يرجى منه من ثواب وصلاح إذا تعلقت إرادته بذلك فلا يصلح للمعبودية إلا هو ولا تصلح حقيقة الإلهية في غيره فلذلك قال: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أي سميتم الآلهة بتلك الأسماء أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ والخطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر فكأنهم لا يعبدون إلا أسماء فارغة عن المسميات ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها بتسميتها مِنْ سُلْطانٍ أي حجة. ثم لما نفى معبودية الغير بين أن لا حكم في أمر الدين والعبادة إلا له فقال: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ثم ذكر ما حكم به فقال: أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الثابت بالبراهين وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنه مبدأ المبادئ والمعاد الحقيقي فيتخذون غيره معبودا ويجعلون لغيره من الأصنام والأجرام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 بالاستقلال فعلا وتأثيرا. ثم شرع في إجابة مقترحهما وهو تأويل رؤياهما فقال: أَمَّا أَحَدُكُما يعني الشرابي فَيَسْقِي رَبَّهُ سيده خَمْراً يروى أنه قال له: ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه. وقال للثاني: ما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتصلب فتأكل الطير من رأسك. قوله: قُضِيَ الْأَمْرُ قال في الكشاف: إنما وحد الأمر وهما أمران مختلفان استفتيا فيهما، لأن المراد بالأمر ما اتهما به من سم الملك وما سجنا لأجله فكأنهما استفتياه في الأمر الذي نزل بهما أعاقبته نجاة أم هلاك استدلالا برؤياهما فقال: إن ذلك الذي ذكرت من أمر التأويل كائن لا محالة صدقتما أو كذبتما. وقيل: جحدا رؤياهما. وقيل: عكسا رؤياهما، فلما علم الخباز أن تأويل رؤياه شر أنكر كونه صاحب تلك الرؤيا فقال يوسف: إن الذي حكمت به لكل منكما واقع لا بد منه ومن هنا قالت الحكماء: ينبغي أن لا يتصرف في الرؤيا ولا تغير عن وجهها فإن الفأل على ما جرى. وَقالَ يوسف لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أي اذكر عند الملك أني مظلوم من جهة إخوتي أخرجوني وباعوني، ثم إني مظلوم من جهة النسوة اللاتي حسبتني. والضمير في ظَنَّ إن كان للرجل الناجي فلا إشكال لأنهما ما كانا مؤمنين بنبوة يوسف بل كانا حسني الاعتقاد فيه وكأن قوله لم يفد في حقهما إلا مجرد الظن، وإن عاد إلى يوسف فيرد عليه أنه كان قاطعا بنجاته فما المعنى للظن؟ وأجيب بأنه إنما ذكر ذلك التعبير بناء على الأصول المقررة في ذلك العلم فكان كالمسائل الاجتهادية. والأصح أنه قضى بذلك على سبيل ألبت والقطع لقوله: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ إلى قوله: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي فالظن على هذا بمعنى اليقين كقوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة: 46] أما الضمير في قوله: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ فمن الناس من قال: إنه يعود إلى الرجل الناجي أي أنساه الشيطان ذكر يوسف لسيده أو عند سيده فإضافة الذكر إلى الرب للملابسة لا لأجل أنه فاعل أو مفعول، أو المضاف محذوف تقديره فأنساه ذكر إخبار ربه، وإسناد الإنساء إلى الشيطان مجاز لأن الإنساء عبارة عن إزالة العلم عن القلب والشيطان لا قدرة له على ذلك وإلا لأزال معرفة الله من قلوب بني آدم، وإنما فعله إلقاء الوسوسة وأخطار الهواجس التي هي من أسباب النسيان. ومنهم من قال: الضمير راجع إلى يوسف، والمراد بالرب هو الله تعالى أي الشيطان أنسى يوسف أن يذكر الله تعالى، وعلى القولين عوتب باللبث في السجن بضع سنين. والبضع ما بين الثلاثة إلى العشرة لأنه القطعة من العدد والبضع القطع ومثله العضب. والأكثرون على أن المراد به في الآية سبع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 سنين. وعن ابن عباس: كان قد لبث خمس سنين وقد اقترب خروجه، فلما تضرع إلى ذلك الرجل لبث بعد ذلك سبع سنين. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «رحم الله يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن» وعن مالك أنه لما قال له اذكرني عند ربك قيل له: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا، لأطيلن حبسك. فبكى يوسف وقال: طول البلاء أنساني ذكر المولى فويل لإخوتي. قال المحققون: الاستعانة بغير الله في دفع الظلم جائزة. فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذه النوم ليلة من الليالي وكان يطلب من يحرسه حتى جاء سعد بن أبي وقاص فنام. وقال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [الصف: 14] ولا خلاف في جواز الاستعانة بالكفار في دفع الظلم والغرق والحرق إلا أن يوسف عليه السلام عوتب على قوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ لوجوه منها: أنه لم يقتد بالخليل جده حين وضع في المنجنيق فلقيه جبرائيل في الهواء وقال: هل من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا مع أنه زعم أنه اتبع ملة آبائه. ومنها أنه قال: ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وهذا يقتضي نفي الشرك على الإطلاق وتفويض الأمر بالكلية إلى الله سبحانه. فقوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ كالمناقض لهذا الكلام. ومنها أنه قال: عِنْدَ رَبِّكَ ومعاذ الله أنه زعم أنه الرب بمعنى الإله إلا أن إطلاق هذا اللفظ على الله لا يليق بمثله وإن كان رب الدار ورب الغلام مستعملا في كلامهم. ومنها أنه لم يقرن بكلامه إن شاء الله، ولما دنا فرج يوسف أرى الله الملك في المنام سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعا أخر يابسات قد استحصدت وأدركت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فاضطرب الملك بسببه لأن فطرته قد شهدت بأن استيلاء الضعيف على القوي ينذر بنوع من أنواع الشر إلا أنه لم يعرف تفصيله، والشيء إذا علم من بعض الوجوه عظم الشوق إلى تكميل تلك المعرفة ولا سيما إذا كان صاحبه ذا قدرة وتمكين، فبهذا الطريق أمر الملك بجمع الكهنة والمعبرين وقال: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ ثم إنه تعالى إذا أراد أمرا هيأ أسبابه فأعجز الله أولئك الملأ عن جواب المسألة وعماه عليهم حتى قالُوا إنها أَضْغاثُ أَحْلامٍ ونفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بتأويلها. واعلم أن الله سبحانه خلق جوهر النفس الناطقة بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك ومطالعة اللوح المحفوظ إلا أن المانع لها عن ذلك في اليقظة هو اشتغالها بتدبير البدن وبما يرد عليها من طريق الحواس، وفي وقت النوم تقل تلك الشواغل فتقوى النفس على تلك المطالعة، فإذا وقفت الروح على حالة من تلك الأحوال فإن بقيت في الخيال كما شوهدت لم يحتج إلى التأويل، وإن نزلت آثار مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الروحاني إلى عالم الخيال فهناك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 يفتقر إلى المعبر. ثم منها ما هي منتسقة منظمة يسهل على المعبر الانتقال من تلك المتخيلات إلى الحقائق الروحانيات، ومنها ما تكون مختلطة مضطربة لا يضبط تحليلها وتركيبها لتشويش وقع في ترتيبها وتأليفها فهي المسماة بالأضغاث. وبالحقيقة، الأضغاث ما يكون مبدؤها تشويش القوة المتخيلة لفساد وقع في القوى البدنية، أو لورود أمر غريب عليه من خارج، لكن القسم المذكور قد يعد من الأضغاث من حيث إنها أعيت المعبرين عن تأويلها. ولنشتغل بتفسير الألفاظ، أما الملك فريان بن الوليد ملك مصر، وقوله: إِنِّي أَرى حكاية حال ماضية. وسمان جمع سمينة وسمين وسمينة يجمع على سمان كما يقال: رجال كرام ونسوة كرام قال النحويون: إذا وصف المميز فالأولى أن يوقع الوصف وصفا للمميز كما في الآية دون العدد، لأنه ليس بمقصود بالذات فلهذا قيل سمان بالجر ليكون وصفا لبقرات، ويحصل التمييز لسبع بنوع من البقرات وهي السمان منهن، ولو نصب جعل تمييز السبع بجنس البقرات أولا ثم يعلم من الوصف أن المميز بالجنس موصوف بالسمن. والعجف هو الهزال الذي ليس بعده هزال، والنعت أعجف وعجفاء وهما لا يجمعان على فعال ولكنه حمل على سمان لأنه نقيضه. وقوله سبع عجاف تقديره بقرات سبع عجاف فحذف للعلم به كما في قوله: وَأُخَرَ يابِساتٍ التقدير وسبعا أخر لانصباب المعنى إلى هذا العدد. وإنما لم يقال سبع عجاف على الإضافة لأن البيان لا يقع بالوصف وحده. وقولهم «ثلاثة فرسان» و «خمسة أصحاب» لأنه وصف جرى مجرى الاسم، ولا يجوز أن يكون قوله وَأُخَرَ مجرورا عطفا على سُنْبُلاتٍ لأن لفظ الأخر يأباه ويبطل مقابلة السبع بالسبع. وأراد بالملأ الأعيان من العلماء والحكماء، واللام في لِلرُّءْيا للبيان كما قلنا في وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف: 20] أو لأن عمل العامل فيما تقدم عليه يضعف فيعضد باللام كما يعضد اسم الفاعل بها وإن تأخر معموله، أو لأن قوله: لِلرُّءْيا خبر «كان» كقوله هو لهذا الأمر أي متمكن منه مستقل به وتَعْبُرُونَ خبر آخر أو حال أو لتضمن تَعْبُرُونَ معنى تنتدبون لعبارة الرؤيا والفصيح عبرت الرؤيا بالتخفيف، وقد يشدد واشتقاقه من العبر بالكسر فالسكون وهو جانب النهر فيقال: عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه، وعبرت الرؤيا إذا تأملت ناحيتها فانتقلت من أحد الطرفين إلى الآخر. والأضغاث جمع ضغث وهو الحزمة من أنواع النبت والحشيش مما طال ولم يقم على ساق، والإضافة بمعنى من أي أضغاث من أحلام والصيغة للجمع ولكن الواحد قد يوصف به كما قال: رمح أقصاد وبرمة أعشار. فالمراد هي حلم أضغاث أحلام. وقد يطلق الجمع ويراد به الواحد كقولهم «فلان يركب الخيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 ويلبس العمائم» وإن لم يركب إلا فرسا واحدا ولم يلبس إلا عمامة واحدة. ويجوز أن يكون قد قص عليهم أحلاما أخر. واللام في الْأَحْلامِ اما للعهد كأنهم أرادوا المنامات الباطلة، أو للجنس وأرادوا أنهم غير متبحرين في علم تأويل الرؤيا. ولما أعضل على الملأ تأويل رؤيا الملك تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤياه ورؤيا صاحبه المصلوب، وتذكر قوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ وذلك قوله سبحانه: واذكر وأصله «اذتكر» قلبت التاء والذال كلاهما دالا مهملة وأدغمت. بَعْدَ أُمَّةٍ أي بعد حين كأنها حصلت من اجتماع أيام كثيرة. وقرىء بكسر الهمزة وهي النعمة أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة، وقرىء بَعْدَ أُمَّةٍ بوزن عمه. ومعنى أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ أخبركم به عمن عنده علمه فَأَرْسِلُونِ إليه لأسأله والخطاب للملك والجمع للتعظيم أو له وللملأ حوله. والمعنى مروني باستعباره. وعن ابن عباس: لم يكن السجن في المدينة. وهاهنا إضمار والمراد فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال يُوسُفُ أي يا يوسف أَيُّهَا الصِّدِّيقُ البليغ الكامل في الصدق وصفه بهذه الصفة لأنه تعرف أحواله من قبل. وفيه أنه يجب على المتعلم تقديم ما يفيد المدح لمعلمه. وإنما أعاد عبارة الملك بعينها لأن التعبير يختلف باختلاف العبارات. وقوله: لَعَلِّي أَرْجِعُ فيه نوع من حسن الأدب لأنه لم يقطع بأنه يعيش إلى أن يعود إليهم، وعلى تقدير أن يعيش فربما عرض له ما يمنعه عن الوصول إليهم من الموانع التي لا تحصى كثرة. وكذا في قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ فضلك ومكانك من العلم فيخلصوك أو يعلمون فتواك فيكون فيه نوع شك لأنه رأى عجز سائر المعبرين. وقيل: كرر لعل مراعاة لفواصل الآي وإلا كان مقتضى النسق لعلي أرجع إلى الناس فيعلموا، ومثله في هذه السورة لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [يوسف: 62] . قالَ يوسف في جواب الفتوى تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ وهو خبر في معنى الأمر يفيد المبالغة في إيجاب إيجاد المأمور به. قال في الكشاف: والدليل على كونه في معنى الأمر قوله: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ وأقول: يمكن أن يكون قوله: تَزْرَعُونَ إخبارا عما سيوجد منهم في زمن الغيث والمطر، لأن الزرع يلزم بنزول الأمطار عادة، وقوله: فَما حَصَدْتُمْ إرشاد لهم إلى الأصلح لهم في ذلك الوقت. ودَأَباً بتسكين الهمزة وتحريكها مصدر دأب في العمل إذا استمر عليه. وانتصابه على الحال أي تزرعون ذوي دأب، أو على المصدر والعامل فعله أي تدأبون دأبا. وإنما أمرهم بأن يتركوه في السنابل إلا القدر الذي يأكلونه في الحال لئلا يقع فيه السوس. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فيه دليل على أن تَزْرَعُونَ إخبار لا أمر سَبْعٌ سنين شِدادٌ على الناس يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 لَهُنَّ من الإسناد المجازي لأن الآكلين أهل تلك السنين لا السنون إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ تحرزون وتخبئون. والإحصان جعل الشيء في الحصن كالإحراز جعل الشيء في الحرز أخبر أنه يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس من الغوث، أو من الغيث يقال: غيثت البلاد إذا مطرت وَفِيهِ يَعْصِرُونَ العنب والزيتون والسمسم. وقيل: يحلبون الضروع، تأول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب والعجاف واليابسات بالسنين، ثم بشرهم بالبركة في العام الثامن. فقال المفسرون: إنه قد عرف ذلك بالوحي. عن قتادة: زاده الله علم سنة. وقيل: عرف استدلالا فليس بعد انتهاء الجدب، إلا الخصب. والجواب أنه لا يلزم من انتهاء الجدب الخصب والخير الكثير فقد يكون توسط الحال. وأيضا في قوله: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ نوع تفصيل لا يعرف إلا بالوحي. ولما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير استحسنه وقال: ائْتُونِي بِهِ فجعل الله سبحانه علمه مبدأ لخلاصه من المحنة الدنيوية فيعلم منه أن العلم سبب للخلاص من المحن الأخروية أيضا. فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ وهو الشرابي فقال: أجب الملك. قالَ يوسف ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ما شأنهن وما حالهن إِنَّ رَبِّي أي الله العالم بخفيات الأمور أو العزيز الذي رباه بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ وعلى الأول أراد إنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله لبعد غوره، أو استشهد بعلم الله على أنهن كذبة، أو أراد الوعيد أي هو عليم بكيدهن فيجازيهن عليه. وكيدهن ترغيبهن إياه في مواقعة سيدته أو تقبيح صورته عند العزيز حتى يرضى بسجنه. ومن لطائف الآية أنه أراد فسأل الملك أن يسأل ما بالهن إلا أنه راعى الأدب فاقتصر على سؤال الملك عن كيفية الواقعة فإن ذلك مما يهيجه على البحث والتفتيش. ومنها أنه لم يذكر سيدته بسوء بل ذكر النسوة على التعميم ومع ذلك راعى جانبهن أيضا فوصفهن بتقطيع الأيدي فقط لا بالترغيب في الخيانة. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني. ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر إن كان لحليما ذا أناة» «1» . قال العلماء: الذي عمله يوسف هو اللائق بالحزم والعقل، لأنه لو خرج في الحال فربما بقي في قلب الملك من تلك التهمة أثر، ولعل الحساد يتسلقون بذلك إلى تقبيح أمره عنده،   (1) رواه البخاري في كتاب التعبير باب: 9. كتاب الأنبياء باب: 11، 19. مسلم في كتاب الإيمان حديث 238. الترمذي في كتاب تفسير سورة 12 باب: 1. أحمد في مسنده (6/ 326، 332) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 وفي هذا التأني والتثبت تلاف لما صدر منه في قوله للشرابي: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ. قالَ الملك بعد إحضار النسوة ما خَطْبُكُنَّ ما شأنكن العظيم إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ هل وجدتن منه ميلا إليكن أو إلى زليخا؟ قيل: الخطاب لزليخا والجمع للتعظيم. وقيل: خاطبهن جميعا لأن كل واحدة منهن راودت يوسف لنفسها أو لأجل امرأة العزيز. قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تعجبا من عفته ونزاهته قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ حين عرفت أن لا بد من الاعتراف الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ وضح وانكشف وتمكن في القلوب من قولهم حصحص البعير إذا ألقى ثفناته للإناخة والاستقرار على الأرض. وقال الزجاج: اشتقاقه من الحصة أي بانت حصة الحق من حصة الباطل. أما قوله سبحانه: ذلِكَ لِيَعْلَمَ إلى تمام الآيتين ففيه قولان: الأول- وعليه الأكثرون- أنه حكاية قول يوسف. قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة الصارفة لكل منهما إلى ما يليق به. والإشارة إلى الحادثة الحاضرة بقوله: ذلِكَ لأجل التعظيم والمراد ما ذكر من رد الرسول والتثبت وإظهار البراءة. وعن ابن عباس: أنه لما دخل على الملك قال ذلك، والأظهر أنه قال ذلك في السجن عند عود الرسول إليه. ومحل بِالْغَيْبِ نصب على الحال من الفاعل أي وأنا غائب عنه، أو من المفعول أي وهو غائب عني، أو على الظرف أي بمكان الغيب وهو الاستتار وراء الأبواب المغلقة. قيل: هذه الخيانة قد وقعت في حق العزيز فكيف قال ذلك ليعلم الملك؟ وأجيب بأنه إذا خان وزيره فقد خان الملك من بعض الوجوه، أو أراد ليعلم الله لأن المعصية خيانة، أو المراد ليعلم الملك أني لم أخن العزيز، أو ليعلم العزيز أني لم أخنه وليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين لا ينفذه ولا يسدده، وفيه تعريض بامرأته الخائنة وبالعزيز حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه فكأنه خان حكم الله، وفيه تأكيد لأمانته وأنه لو كان خائنا لم يهد الله كيده. ولا يخفى أن هذه الكلمات من يوسف مع الشهادة الجازمة والاعتراف الصريح من المرأة دليل على نزاهة يوسف عليه السلام من كل سوء. قال أهل التحقيق: إنه لما راعى حرمة سيدته في قوله: ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي دون أن يقول «ما بال زليخا» أرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلا جرم أزالت الغطاء واعترفت بأن الذنب كله منها، فنظيره ما يحكى أن امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادعت عليه المهر فأمر القاضي بأن يكشف عن وجهها حتى يتمكن الشهود من أداء الشهادة. فقال الزوج: لا حاجة إلى ذلك فإني مقر بصدقها في دعواها. فقالت المرأة: لما أكرمني إلى هذا الحد فاشهدوا أني أبرأت ذمته من كل حق لي عليه. ولما كان قول يوسف عليه السلام ذلك ليعلم جاريا مجرى تزكية النفس على الإطلاق أو في هذه الواقعة وقد قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 32] أتبع ذلك قوله: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ أي هذا الجنس لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ميالة إلى القبائح راغبة في المعاصي. وفيه أن ترك تلك الخيانة ما كان حظ النفس وشربها ولكن كان بتوفيق الله تعالى وتسهيله وصرفه إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة، أو المراد أنها أمارة بالسوء في كل وقت وأوان إلا وقت رحمة ربي، أو الاستثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة. القول الثاني أنه حكاية قول المرأة لأن يوسف عليه السلام ما كان حاضرا في ذلك المجلس والمعنى، وإن كنت أحلت عليه الذنب عند حضوره ولكني ما أحلته عليه في غيبته حين كان في السجن وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي فيه تعريض بأنها لما أقدمت على المكر فلا جرم افتضحت، وأنه لما كان بريئا من الذنب لا جرم طهره الله منه وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي من الخيانة مطلقا فإني قد خنثه حين قلت ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً أو حين أودعته السجن. ثم إنها اعتذرت عما كان منها فقالت: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي كنفس يوسف إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أو استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت. قال المحققون: النفس الإنسانية شيء واحد فإذا مالت إلى العالم العلوي كانت مطمئنة، وإذا مالت إلى العالم السفلي وإلى الشهوة والغضب سميت أمارة وهذا في أغلب أحوالها لإلفها إلى العالم الحسي وقرارها فيه فلا جرم إذا خليت وطباعها انجذبت إلى هذه الحالة فلهذا قيل: إنها من حيث هي أمارة بالسوء. وإذا كانت منجذبة مرة إلى العالم العلوي ومرة إلى العالم السفلي سميت لوامة. ومنهم من زعم أن النفس المطمئنة هي الناطقة العلوية، والنفس الأمارة منطبعة في البدن تحمله على الشهوة والغضب وسائر الأخلاق الرذيلة. وتمسكت الأشاعرة بقوله: إِلَّا ما رَحِمَ ظاهرا لأنه دل على أن صرف النفس عن السوء بخلق الله وتكوينه. وحملته المعتزلة على منح الألطاف والله أعلم بالحقائق. التأويل: لما أدخل يوسف القلب سجن الشريعة دخل معه غلامان لملك الروح هما النفس والبدن، فإن الروح العلوي لا يعمل عملا في السفل الدنيوي إلا من مشرب النفس فهي صاحب شرابه. والبدن يهيىء من الأعمال الصالحة ما يصلح لغذاء الروح، فإن الروح لا يبقى إلا بغذاء روحاني كما أن الجسم لا يبقى إلا بغذاء جسماني. وإنما حبسا في سجن الشريعة لأنهما متهمان بجعل سم الهوى والمعصية في شراب ملك الروح وطعامه، وفي رؤياهما دلالة على أنهما من الدنيا، وأهل الدنيا نيام فإذا ماتوا انتبهوا إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الذين يعبدون الله عيانا وشهودا إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ فيه إشارة إلى أن القلب مهما ترك ملة النفس والهوى والطبيعة علمه الله علم الحقيقة أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ أي سيده بأقداح المعاملات والمجاهدات شراب الكشوف والمشاهدات وهي باقية في خدمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 ملك الروح أبدا وَأَمَّا الْآخَرُ وهو البدن فَيُصْلَبُ بنخيل الموت فَتَأْكُلُ طير أعوان ملك الموت من رأسه الخيالات الفاسدة قُضِيَ في الأزل هذا الْأَمْرُ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ يعني أن القلب المسجون في بدء أمره يلهم النفس بأن تذكره المعاملات المستحسنة الشرعية عند الروح ليتقوى بها الروح وينتبه عن نوم الغفلة الناشئة من الحواس الخمس ويسعى في استخلاص القلب عن أثر الصفات البشرية بالمعاملات الروحانية مستمدا من الألطاف الربانية. ثم إن الشيطان بوساوسه محا عن النفس أثر إلهامات القلب، أو الشيطان أنسى القلب ذكر الله حين استغاث النفس لتذكره عند الروح، ولو استغاث بالله لخلصه في الحال فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ إشارة إلى الصفات البشرية السبع التي بها القلب محبوس وهي: الحرص والبخل والشهوة والحسد والعداوة والغضب والكبر إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ هن الصفات المذكورة يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ هن أضدادها وهي: القناعة والسخاوة والعفة والغبطة والشفقة والحلم والتواضع يا أَيُّهَا الْمَلَأُ يعني الأعضاء والجوارح والحواس والقوى أَفْتُونِي فيما رأيت في غيب الملكوت وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ أي ليس التصرف في الملكوت وشواهدها من شأننا فَأَرْسِلُونِ فيه أن النفس إذا أرادت أن تعلم شيئا مما يجري في الملكوت ترجع بقوة التفكر إلى القلب فتستخبر عنه، فالقلب ترجمان بين الروحانيات والنفس فيما يفهم من لسان الغيب أَيُّهَا الصِّدِّيقُ لأنه مصدق فيما يرى من شواهد الحق، ويصدق فيما يروي للخلق ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: 11] «حدثني قلبي عن ربي» قال في الكشاف: أرجع إلى الناس أي إلى الأجزاء الإنسانية تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ إشارة إلى تربية الصفات البشرية السبع بالعادة والطبيعة في أوان الطفولية فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ أي ما حصلتم من هذه الصفات فذروه في أماكنه ولا تستعملوه إِلَّا قَلِيلًا مما تعيشون به إلى أوان البلوغ وظهور نور العقل في مصباح السر في زجاجة القلب كأنه كوكب دري. ثم إذا أيد نور العقل بأنوار تكاليف الشرع وشرف بإلهام الحق في إظهار فجور النفس وتقواها فيزكيها عن هذه الصفات ويجليها بالصفات الروحانية السبع، فكأن السبع العجاف أكلن السبع السمان. وإنما سمى ما هو من عالم الأرواح عجافا للطافتها، وما هو من عالم الأجسام سمانا لكثافتها كثيرا إلا قليلا مما يحسن به الإنسان حياة قالبه ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ أي بعد غلبات الصفات الروحانية واضمحلال الصفات البشرية يظهر مقام فيه يتدارك السالك جذبات العناية، وفيه يبرأ العبد من معاملاته وينجو من حبس وجوده وحجب أنانيته. ولما أخبر القلب بنور الله؟؟؟ رآه الروح في عالم الملكوت وتأوله استحق قرب الروح وصحبته فاستدعى حضوره على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 لسان رسول النفس فرده إليه وقال سله ما بالُ النِّسْوَةِ لأن الأوصاف الإنسانية لما رأين جمال القلب المنور بنور الله قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ من ملاذ الدنيا وشهواتها وآثرن السعادة الأخروية على الشهوات الفانية لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ أي القلب المنظور بنظر العناية لما غاب عن حضرة الروح لاشتغاله بتربية النفس والقالب ما خانه بالالتفات إلى الدنيا ونعيمها وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ الذين يبيعون الدين بالدنيا. ثم قال إظهارا للعجز عن نفسه وللفضل من ربه وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ جبلت على الأمارية، ولكن إذا رحمها ربها يقلبها ويغيرها فإذا تنفس صبح الهداية صارت لوامة نادمة على فعلها، والندم توبة وإذا طلعت شمس العناية وصارت ملهمة فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: 8] وإذا بلغت شمس العناية وسط سماء الهداية أشرقت الأرض بنور ربها وصارت النفس مطمئنة مستعدة لجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر: 28] إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ لنفس تابت ورجعت إليه رَحِيمٌ لمن أحسن طاعته وعبادته والله حسبنا ونعم الوكيل. تم الجزء الثاني عشر ويليه الجزء الثالث عشر أوله: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الثالث عشر من أجزاء القرآن الكريم [سورة يوسف (12) : الآيات 54 الى 68] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) القراآت حيث نشاء بالنون: ابن كثير. الآخرون بياء الغيبة أني أوف بفتح ياء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 المتكلم: نافع غير إسماعيل. لِفِتْيانِهِ خَيْرٌ حافِظاً حمزة وعلي وخلف غير أبي بكر وحماد. الباقون لفتيته خَيْرٌ حافِظاً يكتل بياء الغيبة: حمزة وعلي وخلف. الباقون بالنون. تؤتوني بالياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو عمرو يزيد وإسماعيل في الوصل. الوقوف: لِنَفْسِي ج أَمِينٌ هـ الْأَرْضِ ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى عَلِيمٌ هـ فِي الْأَرْضِ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف أو الحال حيث نشاء ط الْمُحْسِنِينَ هـ يَتَّقُونَ هـ مُنْكِرُونَ هـ مِنْ أَبِيكُمْ ج لحق الاستفهام مع اتحاد القائل الْمُنْزِلِينَ هـ وَلا تَقْرَبُونِ هـ لَفاعِلُونَ هـ يَرْجِعُونَ هـ لَحافِظُونَ هـ مِنْ قَبْلُ ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار حافِظاً ص الرَّاحِمِينَ هـ إِلَيْهِمْ ط لتمام جواب «لما» ما نَبْغِي ط لأن ما بعده جملة مستأنفة موضحة للاستفهامية أو المنفية قبلها إِلَيْنا ج لاحتمال الاستئناف والعطف على ونحن نمير كَيْلَ بَعِيرٍ هـ ط يَسِيرٌ هـ بِكُمْ ط قالَ اللَّهُ قيل: يسكت بين الفعل والاسم لأن القائل يعقوب لا الله سبحانه، والأحسن أن يفرق بينهما بقوة النغمة فقط لئلا يلزم الفصل بين القائل والمقول وَكِيلٌ هـ مُتَفَرِّقَةٍ ط مِنْ شَيْءٍ ط لِلَّهِ ط تَوَكَّلْتُ ط الْمُتَوَكِّلُونَ هـ أَبُوهُمْ ط لأن جواب «لما» محذوف أي سلموا بإذن الله قَضاها ط لا يَعْلَمُونَ هـ. التفسير: الأظهر أن هذا الملك هو الريان لا العزيز لأن قوله أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصا له وقد كان يوسف قبل ذلك خالصا للعزيز. وفي قول يوسف: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ دلالة أيضا على ما قلنا. والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الاشتراك، ومن عادة الملوك أن يتفردوا بالأشياء النفيسة. روي أن جبريل دخل على يوسف في السجن وقال: قل اللهم اجعل لي من عندك فرجا ومخرجا وارزقني من حيث لا أحتسب. فقبل الله دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه فجاءه الرسول وقال: أجب الملك فخرج من السجن ودعا لأهله وكتب على باب السجن: «هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء» ثم اغتسل وتنطف من درن السجن ولبس ثيابا جددا، فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم سلم عليه. فَلَمَّا كَلَّمَهُ احتمل أن يكون ضمير الفاعل ليوسف وللملك، وهذا أولى لأن مجالس الملوك لا يحسن ابتداء الكلام فيها لغيرهم. يروى أن الملك قال له: أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك. قال: رأيت بقرات فوصف لونهن وأحوالهن ومكان خروجهن، ووصف السنابل وما كان منها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 على الهيئة التي رآها الملك بعينها، فتعجب من وفور علمه وحدسه- وكان قد علم من حاله ما علم من نزاهة ساحته وعدم مسارعته في الخروج من السجن- وقد وصف له الشرابي من جده في الطاعة والإحسان إلى سكان السجن ما وصف فعظم اعتقاده فيه فعند ذلك قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ويندرج في المكانة كمال القدرة والعلم. أما القدرة فظاهرة، وأما العلم فلأن كونه متمكنا من أفعال الخير يتوقف على العلم بأفعال الخير وبأضدادها، وكونه أمينا متفرع عن كونه حكيما لأن لا يفعل الفعل لداعي الشهوة وإنما يفعله لداعي الحكمة. قال المفسرون: لما حكى يوسف رؤيا الملك وعبرها بين يديه قال له الملك: فما ترى أيها الصديق؟ قال: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا وتبني الخزائن والأهراء وتجمع الطعام فيها فيأتيك الخلق من النواحي ويمتارون منك ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد من قبلك، فقال الملك: ومن لي بهذا الشغل؟ فقال يوسف: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ اللام للعهد أي ولني خزائن أرض مصر. والخزائن جمع الخزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء أي يحفظ إِنِّي حَفِيظٌ للأمانات وأموال الخزائن عَلِيمٌ بوجوه التصرف فيها على وجه الغبطة والمصلحة. وقيل: حفيظ لوجوه أياديكم عليم بوجوب مقابلتها بالطاعة والشفقة. قال الواحدي: هذا الطلب خطيئة منه فكانت عقوبته أن أخر عنه المقصود سنة. عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته لكن لما قال ذلك أخره الله تعالى عنه سنة» . وقال آخرون: إن التصرف في أمور الخلق كان واجبا عليه لأن النبي يجب عليه رعاية الأصلح لأمته بقدر الإمكان، وقد علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضنك فأراد السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم، وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى دفع الظلم والضر عن الناس إلا بالاستعانة من كافر أو فاسق فله أن يستظهر به، على أن مجاهدا قد زعم أن الملك كان قد أسلم. وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه فكان في حكم التابع لا المتبوع. ووصف نفسه عليه السلام بالحفظ والعلم على سبيل المبالغة لم يكن لأجل التمدح ولكن للتوصل إلى الغرض المذكور. وَكَذلِكَ أي مثل ذلك التقريب والإنجاء من السجن مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أرض مصر وهي أربعون فرسخا في أربعين. يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ هو أو نشاء نحن على القراءتين والمراد بيان استقلاله بالتقلب والتصرف فيها بحيث لا ينازعه أحد. نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ فيه أن الكل من الله وبتيسيره. وقالت المعتزلة: تلك المملكة لما لم تتم إلا بأمور فعلها الله صارت كأنها من قبل الله تعالى، وعلقوا أيضا المشيئة بالحكمة ورعاية الأصلح. والأشاعرة ناقشوا في هذا القيد. وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 الْمُحْسِنِينَ لأن إضاعة الأجر تكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حقه تعالى. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ من أجر الدنيا أو خير في نفسه. وفي قوله المحسنين وقوله: لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ إشارة إلى أن يوسف كان في الزمان السابق من المحسنين ومن المتقين ففيه دلالة على نزاهة يوسف عن كل سوء. قال سفيان بن عيينة: المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق. يروى أن الملك توجه وختمه بخاتمه وردّاه بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت فقال له: أما السرير فأشدّ به ملكك، وأما الخاتم فأدبر به أمرك، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي. فقال: قد وضعته إجلالا لك وإقرارا بفضلك. فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوّض الملك إليه أمره وعزل قطفير، ثم مات بعد فزوّجه الملك امرأته فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما طلبت فوجدها عذراء فولدت له ولدين: إفرائيم وميشا. وأقام العدل بمصر وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلي والجواهر ثم بالدواب، ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم جميعا فقالوا: والله ما رأينا كاليوم ملكا أجل ولا أعظم منه فقال للملك: كيف رأيت صنع الله بي فيما خوّلني مما ترى؟ قال: الرأي رأيك. قال: فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس. وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا فذلك قوله سبحانه: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ لم يعرفوه لأن طول العهد ينسي ولاعتقادهم أنه قد هلك أو لذهابه عن أوهامهم حين فارقوه مبيعا بدراهم معدودة ثم رأوه ملكا مهيبا جالسا على السرير في زي الفراعنة، ويحتمل أن يكون بينه وبينهم مسافة وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج. وإنما عرفهم لأن أثر تغيير الهيئات عليهم كان أقل لأنه فارقهم وهم رجال ولم يغيروا زيهم عما هو عادتهم، ولأن همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم، ويحتمل أن يكون عرفهم بالوحي. وعن الحسن ما عرفهم حتى تعرفوا له. وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ هو ما يحتاج إليه في كل باب ومنه جهاز العروس والميت. قال الليث: جهزت القوم تجهيزا إذا تكلفت لهم جهازا للسفر. قال: وسمعت أهل البصرة يحكون الجهاز بالكسر. وقال الأزهري: القراء كلهم على فتح الجيم والكسر لغة جيدة قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ قال العلماء: لا بد من كلام يجر هذا الكلام فروي أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم: من أنتم؟ وما شأنكم فإني أنكركم. قالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد وجئنا نمتار. فقال: لعلكم جئتم عيونا؟ قالوا: معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب. قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر فهلك منا واحد. فقال: فكم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة قال: فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك. قال: فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون؟ قالوا: إنا ببلاد لا يعرفنا أحد. قال: فدعوا بعضكم عندي رهينا وأتوني بأخيكم من أبيكم يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم. فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأيا في يوسف فخلفوه عنده. وقيل: كانوا عشرة فأعطاهم عشرة أحمال فقالوا: إن لنا شيخا كبيرا وأخا آخر فبقي معه ولا بد لهما من حملين آخرين. فاستدل الملك ببقائه عند أبيه على زيادة محبته إياه وكونه فائقا في الجمال والأدب فاستدعى منهم إحضاره. وقيل: لعلهم لما ذكروا أباهم قال يوسف: فلم تركتموه وحيدا فريدا؟ فقالوا: بل بقي عنده واحد. فقال لهم: لم خصه بهذا المعنى لأجل نقص في جسده؟ قالوا: لا بل لزيادة محبته. فقال: إن أباكم رجل عالم حكيم، ثم إنه خصه بمزيد المحبة مع أنكم فضلاء أدباء فلا بد أن يكون هو زائدا عليكم في الكمال والجمال فائتوني به لأشاهده. والأوّل قول المفسرين، والآخران محتملان. ولما طلب منهم إحضار الأخ جمع لهم بين الترغيب والترهيب فالأوّل قوله: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ المضيفين وكان قد أحسن ضيافتهم أو زاد لكل من الأب والأخ الغائب حملا، والثاني فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ مجزوم على النهي أو لأنه داخل في حكم الجزاء كأنه قيل: فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ سنخادعه عنه ونجتهد حتى ننتزعه من يده وَإِنَّا لَفاعِلُونَ كل ما في وسعنا في هذا الباب أو لقادرون على ذلك. وَقالَ لِفِتْيانِهِ أو لفتيته قراءتان وهما جمع فتى كالأخوان والإخوة في أخ ففعلة للقلة ووجهه أن هذا العمل من الأسرار فوجب كتمانه عن العدد الكثير، وفعلان للكثرة ووجهه أنه قال: اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ والرحال عدد كثير ويناسبه الجم الغفير من الغلمان الكيالين، والبضاعة ما قطع من المال للتجارة، والرحال جمع رحل والمراد به هاهنا ما يستصحبه الرجل معه من الأثاث. والأكثرون على أنه أمر بوضع بضاعتهم في رحالهم على وجه لا يعرفون بدليل قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ وفرغوا ظروفهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا وكانت بضاعتهم النعل والأدم. وقيل: أمر بوصفها على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 وجه عرفوها، والمعنى لعلهم يعرفون حق ردّها. أما السبب الذي لأجله أمر يوسف بذلك فقيل: ليعلموا كرم يوسف فيبعثهم ذلك على المعاودة. وقيل: خاف أن لا يكون عند أبيه من البضاعة ما يدعوهم إلى الرجوع، أو أراد به التوسعة على أبيه لأن الزمان كان زمان قحط، أو لأن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته لؤم، أو أراد أن يرجعوا ليعرفوا سبب الرد لأنهم أولاد الأنبياء فيحترزوا أن يكون ذلك على سبيل السهو، أو أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم عيب ولا منة فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه. وقيل: يَرْجِعُونَ متعد أي لعلهم يردونها. قالُوا: يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ أرادوا قول يوسف فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ لأن إنذار المنع بمنزلة المنع يؤيده قراءة من قرأ نَكْتَلْ بالنون أي نرفع المانع ونأخذ من الطعام ما نحتاج إليه، ويحتمل أن يراد بالمنع أنهم إذا طلبوا الطعام لأبيهم والأخ المخلف فلعله منع من ذلك، ويقوّي هذا الاحتمال قراءة الغيبة أي يكتل أخونا فينضم اكتياله إلى اكتيالنا. قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ ضمنوا كونهم حافظين له فقال يعقوب: إنكم ذكرتم مثل هذا الكلام في يوسف فهل يكون أماني الآن إلا كأماني فيما قبل يعني كما لم يحصل الأمان وقتئذ فكذا الآن. والظاهر أن هاهنا إضمارا والتقدير فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم وقال: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وحافِظاً نصب على التمييز واحتمل الثاني الحال نحو «لله درّه فارسا» وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أرجو أن لا يجمع عليّ مصيبتين. وقيل: إنه تذكر يوسف فقال: فالله خير حافظا أي ليوسف لأنه كان يعلم أنه حي وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ هو عام في كل ما يستمتع به ويجوز أن يراد به هاهنا الطعام أو الأوعية. أما قوله ما نَبْغِي فالبغي بمعنى الطلب و «ما» نافية أو استفهامية. المعنى ما نطلب شيئا وراء ما فعل بنا من الإحسان أو ما نريد منك بضاعة أخرى أو أيّ شيء نطلب وراء هذا نستظهر بالبضاعة المردودة إلينا. وَنَمِيرُ أَهْلَنا في رجوعنا إلى الملك وَنَحْفَظُ أَخانا فما يصيبه شيء مما يخافه وَنَزْدادُ باستصحاب أخينا وسق بعير زائدا على أوساق أباعرنا فأيّ شيء نبغي وراء هذه المباغي؟!. ويجوز أن يكون البغي بمعنى الكذب والتزيد في القول على أن «ما» نافية أي ما نكذب فيما وصفنا لك من إحسان الملك وإكرامه، وكانوا قالوا له: إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا تلك الكرامة. قال في الكشاف: فعلى هذا التفسير لا يكون قوله: وَنَمِيرُ معطوفا على معنى قوله: هذِهِ بِضاعَتُنا وإنما يكون قوله: هذِهِ بِضاعَتُنا بيانا لصدقهم، وقوله: وَنَمِيرُ معطوفا على ما نَبْغِي أو يكون كلاما مبتدأ أي ونبغي أن نمير كما تقول: سعيت في حاجة فلان ويجب أو ينبغي أن أسعى ويجوز أن يراد ما نبغي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 ما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من إرسال أخينا معنا. ثم بينوا كونهم مصيبين في رأيهم بقولهم: هذِهِ بِضاعَتُنا نستظهر بها ونمير أهلنا إلى آخره. يقال: ماره يميره إذا أتاه بميرة أي بطعام ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ أي ذلك المكيل لأجلنا قليل نريد أن ينضاف إليه ما يكال لأجل أخينا. وقال مقاتل: ذلك إشارة إلى كيل بعير أي ذلك القدر سهل على الملك لا يضايقنا فيه ولا يطول مقامنا بسببه، واختاره الزجاج. وجوز في الكشاف أن يكون هذا من كلام يعقوب يعني أن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد. قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً تعطوني ما أثق به من عند الله وهو الحلف لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ استثناء من أعم العام في المفعول وقد يقع مثل هذا الاستثناء في الإثبات إذا استقام المعنى نحو «قرأت إلا يوم كذا» وإن شئت فأوّله بالنفي أي لا تمتنعون من الإتيان به لعلة من العلل إلا بعلة واحدة هي أن يحاط بكم أي تهلكوا جميعا قاله مجاهد، أو تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به قاله قتادة: عَلى ما نَقُولُ من طلب الموثق وإعطائه وَكِيلٌ مطلع رقيب. قال جمهور المفسرين: إنما نهاهم أن يدخلوا من باب واحد خوفا عليهم من إصابة العين. وهاهنا مقامان: الأوّل أن الإصابة بالعين حق لإطباق كثير من الأمه ولما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة. أي جامعة لشر من لمه إذا جمعه أو المراد ملمة والتغيير للمزاوجة. وعن عبادة بن الصامت قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول النهار فرأيته شديد الوجع، ثم عدت إليه آخر النهار فرءته معافى. فقال: إن جبرائيل عليه السلام أتاني فرقاني وقال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من كل عين وحاسد الله يشفيك. قال: فأفقت. وروي أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أم سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا: يا رسول الله أصابته العين. قال: أفلا تسترقون له من العين؟ وعنه صلى الله عليه وسلم: «العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين القدر» «1» . وقالت عائشة: كان يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين. المقام الثاني في الكشف عن حقيقته. قال الجاحظ: يمتد من العين أجزاء فتتصل بالشخص المستحسن فتؤثر وتسري فيه كتأثير اللسع والسم. واعترض الجبائي وغيره بأنه لو كان كذلك لأثر في غير المستحسن كتأثيره في المستحسن. وأجيب بأن المستحسن إن كان صديقا حصل للعائن عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله،   (1) رواه البخاري في كتاب الطب باب: 36. مسلم في كتاب السلام حديث 41، 42. أبو داود في كتاب الطب باب: 15. الترمذي في كتاب الطب باب: 19. الموطأ في كتاب العين حديث: 1. أحمد في مسنده (1/ 274) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 وإن كان عدوا حصل له خوف شديد من حصوله، وعلى التقديرين يسخن الروح وينحصر في داخل القلب ويحصل في الروح الباصرة كيفية مسخنة مؤثرة، فلهذا السبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم العائن بالوضوء ومن أصابته العين بالاغتسال منه. وقال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي: لا يمتنع أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به كانت المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشخص حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف معلقا به. وقال الحكماء: ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة بل قد يكون التأثير نفسانيا محضا أو وهميا كما للماشي على الجذع، أو تصوّريا كما في الحركات البدنية، وقد يكون للنفوس خواص عجيبة تتصرف في غير أبدانها بحسبها فمنها المعجز ومنها السحر ومنها الإصابة بالعين. أما الجبائي وغيره ممن أنكر العين فقد قالوا: إن أولاد يعقوب اشتهروا بمصر وتحدث الناس بكمالهم وجمالهم وهيئتهم فلم يأمن يعقوب أن يخافهم الملك الأعظم على ملكه فيحبسهم. وقيل: إنه كان عالما بأن الملك ولده إلا أن الله تعالى لم يأمره بإظهاره وكان غرضه أن يصل بنيامين إليه في غيبتهم قاله إبراهيم النخعي. واعلم أن العبد يجب عليه أن يسعى بأقصى الجهد والقدرة ولكنه بعد السعي البليغ يجب أن يعلم أن كل ما يدخل في الوجود فهو بقضاء الله وقدره وأن الحذر لا يغني عن القدر فلهذا قال يعقوب: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فقوله الأوّل مبني على رعاية الأسباب والوسائط، وقوله الثاني إلى آخر الآية إشارة إلى الحقيقة وتفويض الأمر بالكلية إلى مسبب الأسباب. وقد صدقه الله تعالى في ذلك بقوله: ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قال ابن عباس: ما كان ذلك التفرق يردّ قضاء الله تعالى. وقال الزجاج وابن الأنباري: لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم عند الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم. وقال آخرون: ما كان يغني عنهم رأي يعقوب شيئا قط حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم وأخذ الأخ وتضاعف المصيبة على الأب إِلَّا حاجَةً استثناء منقطع أي ولكن حاجة فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وهي إظهار الشفقة والنصيحة، أو الخوف من إصابة العين، أو من حسد أهل مصر، أو من قصد الملك. ثم مدحه الله تعالى بقوله: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ يعنى علمه بأن الحذر لا يدفع القدر لِما عَلَّمْناهُ «ما» مصدرية أو موصولة أي لتعليمنا إياه، أو للذي علمناه. وقيل: العلم الحفظ والمراقبة. وقيل: المضاف محذوف أي لفوائد ما علمناه وحسن آثاره وإشارة إلى كونه عاملا بعلمه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مثل علم يعقوب أو لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة في العلم. وقيل: المراد بأكثر الناس المشركون لا يعلمون أن الله تعالى كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 التأويل: لما تبين لملك الروح قدر يوسف القلب وأمانته وصدقه وحسن استعداده سعى في خلاصه من سجن صفات البشرية ليكون خالصا له في كشف حقائق الأشياء، ولم يعلم أنه خلق لصلاح جميع رعايا مملكة روحانية وجسمانية. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في جسد بني آدم مضغة: إن صلحت صلح بها سائر الجسد وإن فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب» «1» . وللقلب اختصاص آخر بالله دون سائر المخلوقات قال سبحانه: «لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن» . اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ أرض الجسد فإن لله تعالى في كل عضو من الأعضاء خزانة من اللطف إن استعمله الإنسان فيما خلق ذلك العضو لأجله، وخزانة من القهر إن استعمله في ضده إِنِّي حَفِيظٌ للخزائن عَلِيمٌ باستعمالها فيما ينفعها دون ما يضرها نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا فيه أن إصابة اللطف من تلك الخزائن دون القهر موكولة إلى مشيئة الله تعالى. وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ وهم الأوصاف البشرية فَعَرَفَهُمْ يوسف القلب لأنه ينظر بنور الله وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ لبقائهم في الظلمة وحرمانهم عن النور. وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ يشير إلى أن يوسف القلب لما التجأت إليه الأوصاف البشرية بدل صفاتها الذميمة النفسانية بالصفات الحميدة الروحانية، فاستدعى منهم إحضار بنيامين السر لأن السر لا يحضر مع القلب إلا بعد التبديل المذكور، وإذا حضر معه يوفى بأوفى الكيل ما لم يوف إلى الأوصاف البشرية اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ فيه أن البضاعة كل عمل من الأعمال البدنية التي تحيا بها الأوصاف البشرية إلى حضرة يوسف مردودة إليها، لأن القلب مستغن عنها. وإنما الأوصاف البشرية محتاجة إليها لأن النفس تتأدب وتتزكى بها كما قال تعالى إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الإسراء: 7] وأن تربية القلب بالأعمال القلبية كالنيات الصالحة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: نية المؤمن خير من عمله. وكالعزائم الخالصة والأخلاق الحميدة والتوكل والإخلاص. ثم قال: كمال تربية القلب بالتخلية وتجلي صفات الحق وصفات ذاته لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ من صفة الأمارية إلى المأمورية والاطمئنان فيستحق بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] رُدَّتْ إِلَيْنا فوائده ما ترجع إلى يوسف القلب وَنَمِيرُ أَهْلَنا الأعضاء والجوارح نحصل لهم قوّة زائدة على الطاعة بواسطة رسوخ الملكة له وَنَحْفَظُ أَخانا من الحوادث النفسانية والوساوس الشيطانية وَنَزْدادُ بواسطة حضور السر عند القلب كَيْلَ بَعِيرٍ من الفوائد الربانية ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ لمن يسره الله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ مع   (1) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب: 39. مسلم في كتاب المساقاة حديث: 107. ابن ماجه في كتاب الفتن باب: 14. الدارمي في كتاب البيوع باب: 1. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 الفوائد الربانية إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ إلا أن يغالب عليكم الأحكام الأزلية لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ لا تتقربوا إلى القلب بنوع واحد من المعاملات فللأسباب مدخل في التقريب إلا أن الكل موكول إلى مسبب الأسباب. [سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 83] وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) القراآت: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ بفتح الياء: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع. نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بالإضافة وبياء الغيبة في الفعلين: سهل ويعقوب. بالنون وبالتنوين: عاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بالنون وعلى الإضافة. فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا وبابه بالألف ثم الياء: أبو ربيعة عن البزي وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة. الباقون: بياء ثم همزة على الأصل لِي أَبِي بفتح الياء فيهما: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وافق ابن كثير في أبي. الوقوف: يَعْمَلُونَ هـ لَسارِقُونَ هـ تَفْقِدُونَ هـ زَعِيمٌ هـ سارِقِينَ هـ كاذِبِينَ هـ فَهُوَ جَزاؤُهُ ط الظَّالِمِينَ هـ مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ط لِيُوسُفَ ط يَشاءَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 اللَّهُ ط لأن ما بعده مستأنف نَشاءُ ط عَلِيمٌ هـ مِنْ قَبْلُ ط مَكاناً ج تَصِفُونَ 5 مَكانَهُ ج الثلاثة لانقطاع النظم مع اتصال المعنى الْمُحْسِنِينَ هـ عنده لا لتعلق «إذا» بما قبلها لَظالِمُونَ هـ نَجِيًّا ط يُوسُفَ ط للابتداء بالنفي مع فاء التعقيب يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ج لاحتمال ما بعده الابتداء أو الحال الْحاكِمِينَ هـ سَرَقَ ج لانقطاع النظم مع اتحاد القائل حافِظِينَ هـ أَقْبَلْنا فِيها ط لاختلاف الجملتين والابتداء بأنّ. لَصادِقُونَ هـ أَمْراً ط جَمِيلٌ ط جَمِيعاً ط الْحَكِيمُ هـ. التفسير: روي أنهم لما أتوه بأخيهم بنيامين أنزلهم وأكرمهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحده فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه. فقال يوسف: بقي أخوكم وحيدا فأجلسه معه على مائدته. ثم أمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتا وقال: هذا لا ثاني له فاتركوه معي فآواه إليه أي أنزله في المنزل الذي كان يأوي إليه، فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح. ولما رأى تأسفه لأخ هلك قال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل. فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ قال وهب: أراد إني أقوم لك مقام أخيك في الإيناس وعدم التوحش. وقال ابن عباس وسائر المفسرين: أراد تعريف النسب لأن ذلك أقوى في إزالة الوحشة ولا وجه لصرف اللفظ عن ظاهره من غير ضرورة فَلا تَبْتَئِسْ افتعال من البؤس الشدّة والضر أراد نهيه عن اجتلاب الحزن بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من دواعي الحسد والأعمال المنكرة التي أقدموا عليها. يروى أن بنيامين قال ليوسف: أنا لا أفارقك. فقال له يوسف: قد علمت اغتمام والدي بي فإذا حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن أنسبك إلى ما ليس يحسن. قال: أنا راض بما رضيت. قال: فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك أنك قد سرقته فذلك قوله سبحانه فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ والسقاية مشربة يسقى بها وهي الصواع كان يسقى بها الملك أو الدواب ثم جعلت صاعا يكال به. وكان مستطيلا من ذهب أو فضة مموهة بالذهب أو مرصعا بالجواهر أقوال ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مناد ومعناه راجع إلى الإيذان والإعلام إلا أن التشديد يفيد التكثير أو التصويت بالنداء أَيَّتُهَا الْعِيرُ أراد أصحاب العير كقوله صلى الله عليه وسلم: «يا خيل الله اركبي» والعير الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجيء. وقيل: هي قافلة الحمير كأنها جمع عير وأصلها «فعل» بالضم كسقف فأبدلت الضمة كسرة لأجل الياء كما في «بيض» ثم كثر في الاستعمال حتى قيل لكل قافلة عير. وهاهنا سؤال وهو أنه كيف جاز لنبي الله أن يرضى بنسبة قومه إلى السرقة وهم برآء؟ وأجاب العلماء بأنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم لأنهم لما لم يجدوا السقاية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 غلب على ظنونهم أنهم أخذوها، أو المؤذن ذكر ما ذكر على سبيل الاستفهام، أو المراد أنهم سرقوا يوسف عليه السلام من أبيهم، أو المراد أن فيكم سارقا وهو الأخ الذي رضي بذلك البهتان فلا ذنب لأن الخصم رضي بأن يقال في حقه ذلك. ثم إن إخوة يوسف قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ قيل: صواع اسم للصاع والسقاية وصف وَلِمَنْ جاءَ بِهِ أي بالصواع حِمْلُ بَعِيرٍ من طعام جعلا لمن حصله وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ كفيل هو من قول المؤذن وفيه أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم أيضا إذا كان معلوما فكأن حمل بعير كان عندهم شيئا معلوما كوسق مثلا إلا أن هذه كفالة مال لرد السرقة وهو كفالة ما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئا على رد السرقة ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم قالُوا تَاللَّهِ التاء مبدلة من الواو فضعفت عن التصرف في سائر الأسماء وجعلت فيما هو أحق بالقسم وهو اسم الله عز وجل. حلفوا على أمرين معجبين: أحدهما أنهم علموا أن إخوة يوسف ما جاءوا لأجل الفساد في الأرض بالنهب والغصب ونحو ذلك حتى روي أنهم دخلوا وأفواه دوابهم مشدودة خوفا من أن تتناول زرعا أو طعاما لأحد في الطرق والأسواق، وكانوا مواظبين على أنواع الطاعات ورد المظالم حتى حكي أنهم ردوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم. وثانيهما أنهم ما وصفوا قط بالسرقة. قالُوا أي أصحاب يوسف: فَما جَزاؤُهُ قال في الكشاف: الضمير للصواع والمضاف محذوف أي فما جزاء سرقته إن كنتم من الكاذبين في جحودكم وادعائكم البراءة؟ قلت: ويحتمل أن يعود إلى السارق، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترق سنة فلذلك استفتوا في الجزاء حتى قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أي جزاؤه الرق. قال الزجاج: وقوله فَهُوَ جَزاؤُهُ زيادة في البيان أي فأخد السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كما يقال حق السارق القطع جزاؤه لتقرر ما ذكر من استحقاقه، ويجوز أن يكون مبتدأ وباقي الكلام جملة شرطية مرفوعة المحل بالخبرية على أن الأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو ليكون الضمير الثاني عائد إلى المبتدأ والأول إلى «من» ولكنه وضع المظهر مقام المضمر للتأكيد والمبالغة. وجوز في الكشاف أن يكون جَزاؤُهُ خبر مبتدأ محذوف أي المسئول عنه جزاؤه، ثم أفتوا بقولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه. أما قوله: كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء نَجْزِي الظَّالِمِينَ فيحتمل أن يكون من بقية كلام إخوة يوسف وأن يكون من كلام أصحاب يوسف والله أعلم. ثم قال لهم المؤذن ومن معه: لا بد من تفتيش أوعيتكم فانصرف بهم إلى يوسف فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ لنفي التهمة والوعاء كل ما إذا وضع فيه شيء أحاط به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 قال قتادة: كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثما مما قذفهم به حتى إذا لم يبق إلا أخوه قال: ما أظن هذا أخذ شيئا. فقالوا: والله لا تتركه حتى تنظر في رحله فنظر. ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث. مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ فأخذوا برقبته وحكموا برقيته. ثم قال سبحانه كَذلِكَ أي مثل ذلك الكيد العظيم كِدْنا لِيُوسُفَ يعني علمناه إياه وأوحينا به إليه. والكيد مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة ونهايته إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر به في أمر مكروه ولا سبيل إلى دفعه، وقد سبق فيما تقدم أن أمثال هذه الألفاظ في حقه تعالى محمولة على النهايات لا على البدايات. وما هذا الكيد؟ قيل: هو أن إخوة يوسف سعوا في إبطال أمره والله تعالى نصره وقواه. وقيل: الكيد يستعمل في الخير أيضا والمعنى كفعلنا بيوسف من الإحسان إليه ابتداء فعلنا به انتهاء. وقيل: تفسير هذا الكيد هو قوله: ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ لأن حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم مثلي ما سرق فما كان يوسف قادرا على حبس أخيه بناء على دين الملك وحكمه. ومعنى إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هو أن الله كاد له فأجرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق حتى توصل بذلك إلى أخذ أخيه، وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى بعض الأغراض الدينية والدنيوية. ثم مدحه على الهداية إلى هذه الحيلة كما مدح إبراهيم على ما حكى عنه من دلائل التوحيد والبراءة من إلهية الكوكب ثم القمر ثم الشمس فقال: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فوقه أرفع درجة منه في علمه. ثم إن أطلق على الله تعالى أنه ذو علم كان هذا العام مخصوصا لأنه لا عليم فوقه، وإن قيل: إنه عالم بلا علم كما يقوله بعض المعتزلة كان النص باقيا على عمومه، وإن قلنا إن الكل بمعنى المجموع كان المعنى وفوق جميع العلماء عليم هم دونه في العلم وهو الله تعالى. والميل إلى هذا التفسير لأن قوله: لَذُو عِلْمٍ مشعر بكون علمه زائدا على حقيقته ووصفه تعالى عين ذاته، وفي هذا البحث طول وفي الرمز كفاية. يروى أنهم لما استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء وأقبلوا عليه وقالوا له: ما الذي صنعت ففضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل، ما يزال لنا منكم بلاء متى أخذت هذا الصاع؟ فقال: بنو راحيل هم الذين لا يزال منكم عليهم البلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم فعند ذلك قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ عنوا به يوسف. واختلف في تلك السرقة فعن سعيد بن جبير أن جده أبا أمه كان يعبد الوثن فأمرته أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها فلعله يترك عبادتها. وقيل: سرق عناقا من أبيه أو دجاجة ودفعها إلى مسكين. وقيل: كانت لإبراهيم عليه السلام منطقة يتوارثها أكابر ولده فورثها إسحق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 ثم وقعت إلى ابنته عمة يوسف فحضنت يوسف إلى أن شب فأراد يعقوب أن ينتزعه منها وكانت تحبه حبا شديدا فشدت المنطقة على يوسف تحت ثيابه ثم زعمت أنه قد سرقها، وكان في شرعهم استرقاق السارق فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها. وقيل: إنهم كذبوا عليه وبهتوه حسدا وغيظا. فَأَسَرَّها يُوسُفُ قال الزجاج وغيره: الضمير يعود إلى الكلمة أو الجملة كأنه قيل: فأسر الجملة في نفسه ولم يبدها لهم، ثم فسرها بقوله: قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً والمعنى أنه قال هذه الجملة على سبيل الخفية. وطعن الفارسي في هذا الوجه فقال: إن هذا النوع من الإضمار على شريطة التفسير غير مستعمل، والحق أن القرآن حجة على غيره. وقيل: الضمير عائد إلى الإجابة أي أسر يوسف إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر. وقيل: يعود إلى المقالة أو السرقة أي لم يبين يوسف أن تلك السرقة كيف وقعت وأنه ليس فيها ما يوجب الذم والعار. وعن ابن عباس أنه قال: عوقب يوسف ثلاث مرات: عوقب بالحبس لأجل همه بها، وبالحبس الطويل لقوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ وبقولهم: فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ لقوله: إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ومعنى شَرٌّ مَكاناً شر منزلة لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم على التحقيق وقلتم أكله الذئب وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ المراد أنه يعلم أني لست بسارق في التحقيق ولا أخي، أو الله أعلم بأن الذي وصفتموه هل يوجب ذما أم لا. قال ابن عباس: لما قال يوسف هذا القول غضب يهوذا وكان إذا غضب وصاح لم تسمع صوته حامل إلا وضعت وقام شعره على جلده فلا يسكن حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه. فقال لبعض إخوته: اكفوني أسواق أهل مصر وأنا أكفيكم الملك فقال يوسف لابن صغير له: مسه فمسه فذهب غضبه وهم أن يصيح فركض يوسف رجله على الأرض ليريه أنه شديد وجذبه فسقط فعند ذلك قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً في السن أو في القدر وهو أحب إليه منا فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ استعبادا أو رهنا حتى نبعث الفداء إليك فلعل العفو أو الفداء كان جائزا أيضا عندهم إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ لو فعلت ذلك أو من المحسنين إلينا بأنواع الكرامة ورد البضاعة إلى رحالنا أو أرادوا الإحسان إلى أهل مصر حيث أعتقهم بعد ما اشترى رقابهم بالطعام قالَ يوسف مَعاذَ اللَّهِ من أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً أي إذا أخذنا غيره لَظالِمُونَ في مذهبكم لأن استعباد غير من وجد الصواع في رحله ظلم عندكم، أو أراد إن الله أمرني وأوحى إليّ بأخذ بنيامين فلو أخذت غيره كنت عاملا بخلاف الوحي فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ حيث لم يقبل الشفاعة أي يئسوا والزيادة للمبالغة. خَلَصُوا اعتزلوا عن الناس خالصين لا يخالطهم غيرهم نَجِيًّا مصدر والمضاف محذوف أي ذوي نجوى، أو المراد أنهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 التناجي في أنفسهم لاستجماعهم بذلك واندفاعهم فيه بجد واهتمام كما يقال: رجل جور ورجال عدل، أو صفة لموصوف محذوف أي فوجا نجيا بمعنى مناجيا بعضهم لبعض كالعشير بمعنى المعاشر. وفيم كان تناجيهم؟ الجواب في تدبير أمرهم على أيّ وجه يذهبون وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم فعند ذلك قالَ كَبِيرُهُمْ في السن وهو روبيل، أو في القدر وهو شمعون لأنه كان رئيسهم، أو في العقل والرأي وهو يهوذا. وقوله: ما فَرَّطْتُمْ إما أن تكون «ما» صلة أي ومن قبل هذا قصرتم فِي شأن يُوسُفَ ولم توفوا بعهدكم أباكم، وإما أن تكون مصدرية محله الرفع على الابتداء وخبره بالظرف تقديره ومن قبل تفريطكم أي وقع من قبل تقصيركم في حقه، أو النصب عطفا على مفعول ألم تعلموا كأنه ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا وتفريطكم من قبل، وإما أن تكون موصولة بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي قدمتموه في شأن يوسف من الجناية والخيانة ومحل الموصول الرفع أو النصب على الوجهين. فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ فلن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الانصراف أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج منها أو بالانتصاف من أخذ أخي أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب. ثم إنه بقي ذلك الكبير في مصر وقال لغيره من الإخوة: ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ قاله بناء على ما شاهد من استخراج الصواع من وعائه، أو أراد أنه سرق في قول الملك وأصحابه كقول قوم شعيب إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: 87] أي في زعمك واعتقادك، أو المراد إن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة. وإطلاق اسم أحد الشبيهين على الآخر جائز أو القوم ما كانوا حينئذ أنبياء فلا يبعد منهم الذنب. وعن ابن عباس أنه قرأ سَرَقَ مشددا مبنيا للمفعول أي نسب إلى السرقة. وعلى هذا فلا إشكال، ومما يدل على أنهم بنوا الأمر على الظاهر قوله وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا أي إلا بقدر ما تيقناه من رؤية الصواع في وعائه وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ للأمر الخفي حافِظِينَ فإن الغيب لا يعلمه إلا الله. وعن عكرمة أن الغيب الليل معناه لعل الصواع دس في رحله بالليل من حيث لا يشعر، أو ما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق قاله مجاهد والحسن وقتادة، أو ما علمنا أنا إذا قلنا إن شرع بني إسرائيل هو استرقاق السارق أخذ أخونا بتلك الحيلة. ثم بالغوا في إزالة التهمة فقالوا: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها الأكثرون على أنها مصر. وقيل: قرية على باب مصر وقع فيها التفتيش أي أرسل إلى أهلها فاسألهم عن كنه القصة وَاسأل أصحاب الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وكانوا قوما من كنعان من جيران يعقوب. وقيل: قوما من أهل صنعاء. وقال ابن الأنباري: إن يعقوب كان من أكابر الأنبياء فلا يبعد أن يحمل سؤال القرية على الحقيقة بأن ينطق الله الجمادات لأجله معجزة، فالمراد اسأل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 القرية والعير والجدران والحيطان فإنها تجيبك بصحة ما ذكرنا. وقيل: إن الشيء إذا ظهر ظهورا تاما فقد يقال سل عنه السماء والأرض وجميع الأشياء ويراد إنه ليس للشك فيه مجال. ثم زادوا في تأكيد نفي التهمة قائلين وَإِنَّا لَصادِقُونَ وليس غرضهم إثبات صدقهم فإن ذلك يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه ولكن الإنسان إذا ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده أنا صادق فتأمل فيما ذكرته ليزول عنك الشك. وهاهنا إضمار التقدير فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ما قال لهم أخوهم فعند ذلك: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وقد مر تفسيره في أول السورة. ولكن المفسرين زادوا شيئا آخر فقيل: المراد أنه خيل إليكم أنه سرق وما سرق. وقيل: أراد سوّلت لكم أنفسكم إخراج بنيامين والمصير به إلى مصر طلبا للمنفعة فعاد من ذلك شر وضرر وألححتم عليّ في إرساله معكم ولم تعلموا أن قضاء الله ربما جاء على خلاف تقديركم. وقيل: أراد فتواهم وتعليمهم وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته. واعترض على هذا القول بأنه كيف يجوز على يعقوب السعي في إخفاء حكم الله تعالى؟ وأجيب بأن ذلك الحكم لعله كان مخصوصا بما إذا كان المسروق له مسلما وكان الملك في ظن يعقوب كافرا، ولما طال بلاؤه ومحنته علم بحسن الظن والرجاء أنه سبحانه سيجعل له فرجا ومخرجا عما قريب، أو لعله علم بالوحي أن يوسف حي وكان بنيامين والكبير الذي قال: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ قد بقيا في مصر فلذلك قال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ أي بالثلاثة الغائبين جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي الْحَكِيمُ في كل ما يفعله من الابتلاء والإبلاء. التأويل: لما دخل الأوصاف البشرية ومعهم السر عَلى يُوسُفَ القلب آوى القلب السر إِلَيْهِ لأنه أخوه الحقيقي بالمناسبة الروحانية فَلا تَبْتَئِسْ إذا وصلت بي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ معك في مفارقتي لأن السر مهما كان مفارقا من قلب مقارنا للأوصاف كان محروما عن كمالات هو مستعد لها فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ جهز القلب الأوصاف بما يلائم أحوالها جَعَلَ السِّقايَةَ وهي مشربة كان منها شربه فِي رَحْلِ أَخِيهِ لأنهما رضيعا لبان واحد إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ سرقتم في الأول يوسف القلب وشريتموه بثمن بخس من متاع الدنيا وشهواتها، وسرقتم في الآخر مشربة ليست من مشاربكم، وفيه أن من ادعى الشرب من مشارب الرجال وهو طفل بعد أخذ بالسرقة واستردت منه وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ من علف الدواب ومراتع الحيوانات لأنه ليس مستحقا للشرب من مشارب الملوك لَقَدْ عَلِمْتُمْ أنا من المقبولين المقبلين على يوسف القلب لا نريد الإفساد في أرض الدنيا كما قالت الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] وَما كُنَّا سارِقِينَ إذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 أخذنا يوسف القلب وألقيناه في غيابة الجب البشرية بل سعينا في أن ينال مملكة مصر العبودية ليكون عزيزا فيها ونحن أذلاء له جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أي لكل شارب مشرب ولكل شرب فدية. ففدية الشارب من مشرب الدنيا صنعته وحرفته وكسبه، وفدية الشارب من مشرب الآخرة الدنيا وشهواتها، وفدية الشارب من شرب المحبة بذل الوجود كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الذين وضعوا صواع الملك في غير موضعه طمعا في أن يكونوا حريف الملك وشريبه كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ أي كما كاد الأوصاف البشرية في الابتداء بيوسف القلب إذ ألقوه في جب البشرية كدنا بهم عند قسمة الأقوات من خزانة الملك فجعلنا قسمتهم من مراتع الحيوانات يأكلون كما تأكل الأنعام، وقسمة بنيامين السر من مشربة الملك. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ آتيناه علم الصعود عَلِيمٌ بجذبه من المصعد الذي يصعد إليه بالعلم المخلوق إلى مصعد لا يصعد إليه إلا بالعلم القديم وهو السير في الله بالله إلى الله، وهذا صواع لا تسعه أوعية الإنسانية إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فيه إشارة إلى السر والقلب مع أنهما مخصوصان بالحظوظ الأخروية والروحانية فإنهما قابلان للاسترقاق من الشهوات الدنياوية والنفسانية. ولما رأت الأوصاف البشرية عزة القلب وعرفت اختصاص البشرية أرادت أن تفدي نفسها وسيلة إلى يعقوب الروح فقالت: فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ قالَ مَعاذَ اللَّهِ أن نقبل بالصحبة والمخالطة إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا من الصدق والمحبة والإخلاص عنده أي لا تكون صحبتنا بالكراهية والنفاق وإنما تكون بعلة الجنسية فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا من صحبة القلب خَلَصُوا عن الأوصاف الذميمة للتناجي قالَ كَبِيرُهُمْ هو العقل ألم تعلموا أن أباكم وهو الروح قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ يوم الميثاق أن لا تعبدوا إلا الله فَلَنْ أَبْرَحَ أرض فناء القلب وهي الصدر. والحاصل أن صفة العقل لما تخلصت عن الأوصاف البشرية خرجت عن أوامر النفس وتصرفاتها وصارت محكومة لأوامر الروح مستسلمة لأحكام الحق. ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ الروح على أقدام العبودية وتبديل الأخلاق إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ لأنه وجد في رحله مشربة المحبة التي بها يكال الحب على وفده. وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ عند ارتحالنا من الغيب إلى الشهادة حافِظِينَ لأنه جعل السقاية في رحله في غيبتنا. وَسْئَلِ أهل مصر الملكوت وأرواح الأنبياء والأولياء قالَ بَلْ سَوَّلَتْ فيه أن للنفس تزيينات وللأوصاف البشرية خيالات يتأذى بها يعقوب الروح لكن عليه أن يصبر على إمضاء أحكام الله وتنفيذ قضائه عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي فيه أن متولدات الروح من القلب والأوصاف وغيرها وإن تفرقوا وتباعدوا عن الروح في الجسد للاستكمال فإن الله بجذبات العناية يجمعهم في مقعد صدق عنده مليك مقتدر إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بافتراقهم الْحَكِيمُ بما في التفريق والجمع من الفوائد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 [سورة يوسف (12) : الآيات 84 الى 101] وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) القراآت: مُزْجاةٍ بالإمالة: حمزة وعلي وخلف زْنِي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو. قالوا إنك على الخبر أو على حذف حرف الاستفهام: ابن كثير ويزيد. أَإِنَّكَ بهمزتين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وهشام يدخل بينهما مدة. أينك بهمز ثم ياء: نافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد آينك بهمزة ممدودة ثم ياء: أبو عمرو وزيد وقالون. من يتقي بالياء في الحالين: ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل. الباقون بغير ياء إِنِّي أَعْلَمُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 عمرو رَبِّي إِنَّهُ بالفتح أيضا: أبو جعفر وأبو عمرو أبي إذ بالفتح أيضا عندهم إِخْوَتِي ربي بفتح الياء أيضا: يزيد والنجاري عن ورش وقالون غير الحلواني والله أعلم. الوقوف: كَظِيمٌ هـ الْهالِكِينَ هـ تَعْلَمُونَ هـ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ط الْكافِرُونَ هـ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ط الْمُتَصَدِّقِينَ هـ جاهِلُونَ هـ لَأَنْتَ يُوسُفُ ط أَخِي ز لتعجيل الشكر مع اختلاف الجملتين. عَلَيْنا ط لاحتمال أنه ابتداء إخبار من الله، وإن كان من قول يوسف جاز الوقف أيضا لاتحاد القائل مع الابتداء بأن الْمُحْسِنِينَ هـ لَخاطِئِينَ هـ الْيَوْمَ ط لاختلاف الجملتين نفيا وإثباتا أو خبرا ودعاء لَكُمْ ط لاحتمال الاستئناف والحال أوضح الرَّاحِمِينَ هـ يَأْتِ بَصِيراً ج لطول الكلام واعتراض الجواب مع اتفاق الجملتين أَجْمَعِينَ هـ تُفَنِّدُونِ هـ الْقَدِيمِ هـ بَصِيراً ج لاحتمال أن يكون ما بعده جواب «لما» وقوله أَلْقاهُ حالا بإضمار «قد» ما لا تَعْلَمُونَ هـ خاطِئِينَ هـ رَبِّي ط الرَّحِيمُ هـ آمِنِينَ هـ سُجَّداً ج مِنْ قَبْلُ ز لتمام الجملة لفظا دون المعنى. حَقًّا ط لتمام بيان الجملة الأولى وابتداء جملة عظمى إِخْوَتِي ط لِما يَشاءُ ط الْحَكِيمُ هـ الْأَحادِيثِ ج لحق حذف حرف النداء مع اتصال الكلام وَالْآخِرَةِ ج لانقطاع النظم مع اتصال الثناء بالدعاء بِالصَّالِحِينَ هـ. التفسير: لما سمع يعقوب ما سمع من حال ابنه ضاق قلبه جدا وَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي أعرض عن بنيه الذين جاءوا بالخبر وفارقهم وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ الأسف أشد الحزن. والألف فيه مبدل من ياء الإضافة ونداء الأسف كنداء الويل وقد مر في المائدة. والتجانس بين لفظي الأسف ويوسف لا يخفى حسنه وهو من الفصاحة اللفظية. وكيف تأسف على يوسف دون أخيه الآخر الذي أقام بمصر والرزء الأحدث أشد؟ الجواب لأن الحزن الجديد يذكر العتيق والأسى يجلب الأسى، ولأن رزء يوسف كان أصل تلك الرزايا فكان الأسف عليه أسفا على الكل ولأنه كان عالما بحياة الآخرين دون حياة يوسف وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ أي من البكاء الذي كان سببه الحزن. قال الحكماء: إذا كثر الاستعبار أوجب كدورة في سواد العين مائلة فيكون منها العمى لإيلام الطبقات ولا سيما القرينة وانصباب الفضول الردية إليها. قال مقاتل: لم يبصر ست سنين حتى كشفه الله تعالى بقميص يوسف. وقال آخرون: لم يبلغ حد العمى وكان يدرك إدراكا ضعيفا، أو المراد بالبياض غلبة البكاء كأن العين ابيضت من بياض ذلك الماء. روي أنه لم تجف عين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟ وجد سبعين ثكلى. قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله ساعة قط. ونقل أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف حين ما كان في السجن فقال: إن بصر أبيك ذهب من الحزن عليك. فوضع يوسف يده على رأسه وقال: ليت أمي لم تلدني فلم أكن حزنا على أبي، قال أكثر أهل اللغة: الحزن والحزن لغتان بمعنى. وقال بعضهم: الحزن بالضم فالسكون البكاء، والحزن بفتحتين ضد الفرح. وقد روى يونس عن أبي عمرو قال: إذا كان في موضع النصب فتحوا كقوله تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً [التوبة: 92] . وإذا كان في موضع الجر أو الرفع ضموا كقوله من الحزن. وقوله: َّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ قال: هو في موضع رفع بالابتداء. قيل: كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟ وأجيب بأن المنهي من الجزع هو الصياح والنياحة وضرب الخد وشق الثوب لا البكاء ونفثة المصدور، فلقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال: القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون. ومما يدل على أن يعقوب عليه السلام أمسك لسانه عن النياحة وعما لا ينبغي قوله: فَهُوَ كَظِيمٌ «فعيل» بمعنى «مفعول» أي مملوء من الغيظ على أولاده من غير إظهار ما يسوءهم، أو مملوء من الحزن مع سد طريق نفثة المصدور من كظم السقاء إذا شده على ملئه، أو بمعنى الفاعل أي الممسك لحزنه غير مظهر إياه. والحاصل أنه غرق ثلاثة أعضاء شريفة منه في بحر المحنة: فاللسان كان مشغولا بذكر يا أَسَفى والعين كانت مستغرقة في البكاء، والقلب كان مملوءا من الحزن. ومثل هذا إذا لم يكن بالاختيار لم يدخل تحت التكليف فلا يوجب العقاب. يروى أن ملك الموت دخل على يعقوب فقال له: جئتني لتقبضني قبل أن أرى حبيبي؟ قال: لا ولكن جئت لأحزن لحزنك وأشجو لشجوك. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لم تعط أمة من الأمم إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ عند المصيبة إلا أمة محمد، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وإنما قال يا أسفا» وضعف هذه الرواية فخر الدين الرازي في تفسيره وقال: من المحال أن لا تعرف أمة من الأمم أن الكل من الله وأن الرجوع لا محالة إليه. وأقول: هذا نوع من المكابرة فإن منكري المبدأ والمعاد أكثر من حصباء الوادي، على أن المراد من الإعطاء الإرشاد إلى هذا الذكر وخصوصا عند المصيبة وقد أخبر الصادق عليه السلام أن هذا مما خصت هذه الأمة به والله أعلم. قالُوا الأظهر أنهم ليسوا أولاده الذين تولى عنهم وإنما هم جماعة كانوا في الدار من خدمه وأولاد أولاده. تَاللَّهِ تَفْتَؤُا أراد «لا تفتؤ» فحذف حرف النفي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 لعدم الإلباس إذ لو كان إثباتا لم يكن بد من اللام والنون. قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة: أي لا تزال تذكر. وعن مجاهد: لا تفتر من حبه كأنه جعل الفتور والفتوء أخوين. قال أبو زيد: ما فتئت أذكره أي ما زلت لا يتكلم به إلا مع الجحد حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً وصف بالمصدر للمبالغة. والحرض فساد في الجسم والعقل للحزن والحب حتى لا يكون كالأحياء ولا كالأموات، أرادوا أنك تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تشفى على الهلاك أو تهلك فأجابهم بقوله: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ قالت العلماء: إذا أسر الإنسان حزنه كان هما، وإذا لم يقدر على إسراره فذكر لغيره كان بثا. فالبث أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه فيبثه إلى الناس. فمعنى الآية إني لا أذكر الحزن الشديد ولا القليل إلا مع الله ملتجئا إليه وداعيا له فخلوني وشكايتي. وهذا مقام العارفين الصديقين كقول نبينا صلى الله عليه وسلم «أعوذ بك منك» . ويحتمل أن يكون هذا معنى توليه عنهم أي تولى عنهم إلى الله والشكاية إليه. يحكى أنه دخل على يعقوب رجل وقال له: ضعف جسمك ونحف بدنك وما بلغت سنا عاليا. فقال: الذي بي لكثرة غمومي. فأوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي فغفر له. فكان بعد ذلك إذا سأل قال: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وروي أنه أوحي إلى يعقوب إنما وجدت- أي غضبت- عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه وإن أحب خلقي إليّ الأنبياء ثم المساكين فاصنع طعاما وادع عليه المساكين. وقيل: اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت. واعلم أن حال يعقوب في تلك الواقعة كانت مختلفة فتارة كان مستغرقا في بحار معرفة الله، وتارة كان يستولي عليه الحزن والأسف فلهذا كانت هذه الحادثة بالنسبة إليه كإلقاء إبراهيم في النار، وكابتلاء إسحق بالذبح، وكان شغل همه بيوسف بغير اختيار منه، وكذا تأسفه عليه، وما روي أنه عوتب على ذلك فلأن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وبالحقيقة كانت واقعة يعقوب أمرا خارق العادة أراد الله تعالى بذلك ابتلاءه وتمادي أسفه وحزنه وإلا فمع غاية شهرته وشدة محبته وقرب المسافة بينه وبين ابنه كيف خفي حال يوسف ولم لم يبعث يوسف إليه رسولا بعد تملكه وقدرته، ولم زاد في حزن أبيه بحبس أخيه عنده؟! أما قوله: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فمعناه أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون، فأرجو أن يأتيني الفرج من حيث لا أحتسب. وقيل: إنه رأى ملك الموت في المنام فقال له: يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال: لا يا نبي الله. ثم أشار إلى جانب مصر وقال: اطلبه هاهنا. وقيل: إنه كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 قد رأى أمارات الرشد والكمال في يوسف فعلم أن رؤياه صادقة لا تخطىء. وقال السدي: أخبره بنوه بسيرة الملك وكمال حاله في أقواله وأفعاله أنه ابنه، أو علم أن بنيامين لا يسرق وسمع أن الملك ما آذاه فغلب على ظنه أن الملك هو يوسف. وقيل: أوحى الله تعالى إليه أنه سيلقى ابنه ولكنه ما عين الوقت فلذلك قال ما قال. ثم دعا بنيه على سبيل التلطف فقال: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وهو طلب الشيء بالحاسة كالتسمع والتبصر ومثله التجسس بالجيم. وقد قرىء بهما وربما يخص الجيم بطلب الخبر في ضد الخير وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ من فرجه وتنفيسه وقرىء بالضم أي من رحمته التي تحيا بها العباد. قال الأصمعي: الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه، والتركيب يدل على الحركة والهزة فكل ما تهتز بوجوده وتلتذ به فهو روح إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ لأن هذا اليأس دليل على أنه اعتقد أن الله تعالى غير قادر على كل المقدورات، أو غير عالم بجميع المعلومات، أو ليس بجواد مطلق ولا حكيم لا يفعل العبث، وكل واحدة من هذه العقائد كفر فضلا عن جميعها اللهم إني لا أيأس من روحك فافعل بي ما أنت أهله. ثم هاهنا إضمار والتقدير فقبلوا وصية أبيهم وعادوا إلى مصر فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ أي الملك القادر المنيع مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ الفقر والحاجة إلى الطعام وعنوا بأهلهم من خلفهم وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها من أزجيته إذا دفعته قال سبحانه أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً [النور: 43] ومنه قولهم: «فلان يزجي العيش» أي يدفع الزمان بالقليل. قال الكلبي: هي من لغة العجم. وقيل: لغة القبط. والأصح أنها عربية لوضوح اشتقاقها. قيل: كانت بضاعتهم الصوف والسمن. وقيل: الصنوبر والحبة الخضراء. وقيل: سويق المقل والأقط. وقيل: دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بنقص لأنها لم يكن عليها صورة يوسف وكانت دراهم مصر ينقش عليها صورته. فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ الذي هو حقنا. وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا واعلم أنهم طلبوا المسامحة بما بين الثمنين وأن يسعر لهم بالرديء كما يسعر بالجيد. واختلف العلماء في أنه هل كان ذلك منهم طلب الصدقة؟ فقال سفيان بن عيينة: إن الصدقة كانت حلالا على الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: أرادوا بالصدقة التفضل بالإغماض عن رداءة البضاعة وبإيفاء الكيل والصدقات محظورة على الأنبياء كلهم. وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ يمكن تنزيله على القولين لأن كل إحسان يبتغى به وجه الله فإن ذلك لا يضيع عنده والصدقة العطية التي ترجى بها المثوبة عند الله ومن ثم لم يجوز العلماء أن يقال: الله تعالى متصدق أو اللهم تصدق علي بل يجب أن يقال: اللهم أعطني أو تفضل علي أو ارحمني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 كان يعقوب أمرهم بالتحسس من يوسف وأخيه والمتحسس يجب عليه أن يتوسل إلى مطلوبه بجميع الطرق كما قيل: الغريق يتعلق بكل شيء. فبدأوا بالعجز والاعتراف بضيق اليد وإظهار الفاقة فرقق الله تعالى قلبه وارفضت عيناه فعند ذلك قال: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وقيل: أدوا إليه كتاب يعقوب: من يعقوب إسرائيل الله بن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء. أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله تعالى وجعلت النار عليه بردا وسلاما، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا إنه سرق وإنك حبسته لذلك، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ذلك. وروي أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب: «اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا» . وقوله: هَلْ عَلِمْتُمْ استفهام يفيد تعظيم الواقعة ومعناه ما أعظم الأمر الذي ارتكبتم من يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه كما يقال للمذنب: هل تدري من عصيت. وفيه تصديق لقوله سبحانه: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا [يوسف: 15] وأما فعلهم بأخيه فتعريضهم إياه للغم بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه وإيذاؤهم له بالاحتقار والامتهان. وقوله: إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ جار مجرى الاعتذار عنهم كأنه قال: إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال ما كنتم في أوان الصبا وزمان الجهالة. والغرة إزالة للخجالة عنهم فإن مطية الجهل الشباب وتنصحا لهم في الدين أي هل علمتم قبحه فتبتم لأن العلم بالقبح يدعو إلى التوبة غالبا فآثر كما هو عادة الأنبياء حق الله على نفسه في المقام الذي يتشفى المغيظ وينفث المصدور ويدرك ثأره الموتور. وقيل: إنما نفى العلم عنهم لأنهم لم يعملوا بعلمهم. ولما كلمهم بذلك قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ عرفوه بالخطاب الذي لا يصدر إلا عن حنيف مسلم عن سنخ إبراهيم، أو تبسم عليه السلام فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم، أو رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء كان ليعقوب وسارة مثلها قالَ أَنَا يُوسُفُ صرح بالاسم تعظيما لما جرى عليه من ظلم إخوته كأنه قال: أنا الذي ظلمتموني على أشنع الوجوه والله أوصلني إلى أعظم المناصب، أنا ذلك الأخ الذي قصدتم قتله ثم صرت كما ترون ولهذا قال: وَهذا أَخِي مع أنهم كانوا يعرفونه لأن مقصوده أن يقول وهذا أيضا كان مظلوما كما كنت صار منعما عليه من الله وذلك قوله: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي بكل خير دنيوي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 وأخروي أو بالجمع بعد التفريق إِنَّهُ أي الشأن مَنْ يَتَّقِ عقاب الله وَيَصْبِرْ عن معاصيه وعلى طاعته فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أراد أجرهم فاكتفى من الربط بالعموم. ومن قرأ يَتَّقِي بإثبات الياء فوجهه أن يجعل «من» بمعنى «الذي» ، ويجوز على هذا الوجه أن يكون قوله: وَيَصْبِرْ في موضع الرفع إلا أنه حذفت الحركة للتخفيف أو المشاكلة. وفي الآية دليل على براءة ساحة يوسف ونزاهة جانبه من كل سوء وإلا لم يكن من المتقين الصابرين. قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا اعتراف منهم بتفضيله عليهم بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين وصورة الأحسنين. ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا أنبياء وإن احتج به بعضهم لأن الأنبياء متفاوتون في الدرجات تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة: 253] وَإِنْ كُنَّا وإن شأننا أنا كنا خاطئين. قال أبو عبيدة: خطىء وأخطأ بمعنى واحد. وقال الأموي: المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره ومنه قولهم: «المجتهد يخطىء ويصيب» . والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي. قال أبو علي الجبائي: إنهم لم يعتذروا عن ذلك الذي فعلوا بيوسف لأنه وقع منهم قبل البلوغ ومثل ذلك لا يعد ذنبا، وإنما اعتذروا من حيث إنهم أخطئوا بعد ذلك حين لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنه حي وأن الذئب لم يأكله. واعترض عليه فخر الدين الرازي بأنه يبعد من مثل يعقوب أن يبعث جمعا من الصبيان من غير أن يبعث معهم رجلا بالغا عاقلا، فالظاهر أنه وقع ذلك منهم بعد البلوغ. سلمنا لكن ليس كل ما لا يجب الاعتذار عنه لا يحسن الاعتذار عنه، ولما اعترفوا بفضله عليهم وبكونهم متعمدين للإثم قالَ يوسف لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ لا تأنيب ولا توبيخ. وقيل: لا أذكر لكم ذنبكم. وقيل: لا مجازاة لكم عندي على ما فعلتهم. وقيل: لا تخليط ولا إفساد عليكم واشتقاقه من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش ومعناه إزالة الثرب كالتجليد والتقريد لإزالة الجلد والقراد وذلك لأنه إذا ذهب منه الثرب كان في غاية الهزال والعجف فصار مثلا للتقريع المدنف المضني. وقوله: الْيَوْمَ إما أن يتعلق بالتثريب أو بالاستقرار المقدر في عليكم أي لا أثربكم اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره. ثم ابتدأ فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم ليكون عقاب الدارين مزالا عنهم. وأصل الدعاء أن يقع على لفظ المستقبل فإذا أوقعوه لفظ الماضي فذلك للتفاؤل، ويحتمل أن يكون الْيَوْمَ متعلقا بالدعاء فيكون فيه بشارة بعاجل غفران الله لتجدد توبتهم وحدوثها في ذلك اليوم. يروى أن إخوته لما عرفوه أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشيا ونحن نستحيي منك لما فرط منا فيك. فقال يوسف: إن أهل مصر وإن ملكت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 فيهم فإنهم ينظرون إليّ شزرا ويقولون: سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيم. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخذ يوم الفتح بعضادتي باب الكعبة فقال لقريش: ما ترونني فاعلا بكم؟ قالوا: نظن خيرا أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت. فقال صلى الله عليه وسلم: أقول ما قال أخي يوسف لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ. قال عطاء الخراساني: طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ، ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وقول يعقوب: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ولما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيهم فقالوا ذهبت عيناه فقال: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً كقولك جاء البنيان محكما ومثله فَارْتَدَّ بَصِيراً أو المراد يأت إلي وهو بصير دليله قوله: وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ قيل: هو القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف وكان من الجنة أوحى الله إليه أن فيه عافية كل مبتلي وشفاء كل سقيم. وقالت الحكماء: لعله علم أن أباه ما كان أعمى وإنما صار ضعيف البصر من كثرة البكاء فإذا ألقى عليه قميصه صار منشرح الصدر فتقوى روحه ويزول ضعفه. روي أن يهوذا حمل القميص وقال: أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخا بالدم فأفرحه كما أحزنته، فحمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخا. عن الكلبي: كان أهله نحوا من سبعين إنسانا. وقال مسروق: دخل قوم يوسف مصر وهم ثلاثة وتسعون من بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم نحو من ستمائة ألف. وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ خرجت من عريش مصر فصل من البلد فصولا انفصل منه وجاوز حيطانه، وفصل مني إليه كتاب إذا نفذ وإذا كان فصل متعديا كان مصدره الفصل قالَ أَبُوهُمْ لمن حوله من قومه إِنِّي لَأَجِدُ بحاسة الشم رِيحَ يُوسُفَ قال مجاهد: هبت ريح فصفقت القميص ففاحت رائحة الجنة في الدنيا فعلم يعقوب أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص. قال أهل التحقيق: إن الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عند انقضاء مدة المحنة ومجيء أوان الروح والفرح من مسيرة ثمان، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب البلدين في مدة ثمانين سنة أو أربعين عند الأكثرين وكلاهما معجزة ليعقوب خارقة للعادة، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب وكل صعب فإنه في زمان الإقبال سهل. وقوله: لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ جوابه محذوف أي لولا تفنيدكم إياي لصدّقتموني. والتفنيد النسبة إلى الفند وهو الخرف وتغير العقل من هرم يقال: شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة لأنها لم تكن ذات رأي فتفند في الكبر. قالُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 يعني الحاضرين عنده تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ أي فيما كنت فيه قدما من البعد عن الصواب في إفراط محبة يوسف كما قال بنوه إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف: 8] . وقيل: لفي شقائك القديم بما تكابد على يوسف من الأحزان. قال الحسن: إنما قالوا هذه الكلمة الغليظة لاعتقادهم أن يوسف قد مات. فَلَمَّا أَنْ جاءَ «أن صلة» أي فلما جاء مثل فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ [هود: 74] وقيل: هي مع الفعل في محل الرفع بفعل مضمر أي فلما ظهر أن جاء البشير وهو يهوذا أَلْقاهُ طرحه البشير أو يعقوب على وجهه فَارْتَدَّ بَصِيراً أي انقلب من العمى إلى البصر أو من الضعف إلى القوة قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ جوز في الكشاف أن يكون مفعوله محذوفا وهو قوله: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أو قوله: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ويكون قوله: إِنِّي أَعْلَمُ كلاما مستأنفا. والظاهر أن مفعوله قوله: إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وذلك أنه كان قال لهم: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. روي أنه سأل البشير كيف يوسف؟ فقال: هو ملك مصر. قال: ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. قال: الآن تمت النعمة. ثم إن أولاده أخذوا يعتذرون إليه فوعدهم الاستغفار. قال ابن عباس والأكثرون: أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر لأنه أرجى الأوقات إجابة. وعن ابن عباس في رواية أخرى أخر إلى ليلة الجمعة تحريا لوقت الإجابة. وقيل: أخر لتعرف حالهم في الإخلاص. وقيل: استغفر لهم في الحال ووعدهم دوام الاستغفار في الاستقبال. فقد روي أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. روي أنه قام إلى الصلاة في وقت السحر فلما فرغ رفع يديه وقال: اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم فأوحي إليه أن الله قد غفر لك ولهم أجمعين. وروي أنهم قالوا له- وقد علتهم الكآبة- وما يغني عنا عفوكما إن لم يعف عنا ربنا فإن لم يوح إليك بالعفو فلا قرت لنا عين أبدا. فاستقبل الشيخ القبلة قائما يدعو وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى جهدوا وظنوا أنهم هلكوا نزل جبريل فقال: إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة. واختلاف الناس في نبوتهم مشهور، يحكى أنه وجه يوسف إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه، وخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم فتلقوا يعقوب وهو يمشي ويتوكأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا أهذا فرعون مصر؟ قال: لا هذا ولدك. فلما لقيه قال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان. فأجابه يوسف وقال: يا أبت بكيت حتى ذهب بصرك ألم تعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 أن القيامة تجمعنا؟ قال: بلى ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك. ومعنى آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ضمهما إليه واعتنقهما. قال ابن إسحق: كانت أمه باقية إلى ذلك الوقت أو ماتت إلا أن الله تعالى أحياها ونشرها من قبرها تحقيقا لرؤيا يوسف. وقيل: المراد بأبويه أبوه وخالته لأن أمه ماتت في النفاس بأخيه بنيامين حتى قيل إن بنيامين بالعبرية ابن الوجع، ولما توفيت أمه تزوج أبوه بخالته فسماها الله تعالى أحد الأبوين لأن الخالة تدعى أما لقيامها مقام الأم، أو لأن الخالة أم كما أن العم أب فكيف وقد اجتمع هاهنا الأمران. قال السدي: كان دخولهم على يوسف قبل دخولهم على مصر كأنه حين استقبلهم نزل لأجلهم في خيمة أو بيت هناك فدخلوا عليه وضم إليه أبويه وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ فعلى هذا جاز أن يكون الاستثناء عائدا إلى الدخول. وعن ابن عباس: ادخلوا مصر أي أقيموا بها. وقوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ تعلق بالدخول المكيف بالأمن فكأنه قيل: اسلموا وأمنوا في دخولكم وإقامتكم إن شاء الله وجواب الشرط بالحقيقة محذوف والتقدير ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين، أراد الأمن على أنفسهم وأموالهم وأهليهم بحيث لا يخافون أحدا وكانوا فيما سلف يخافون ملك مصر، أو أراد الأمن من القحط والشدة أو من تعييره إياهم بالجرم السالف. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ السرير الرفيع الذي كان يجلس عليه وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً لسائل أن يقول: السجود لا يجوز لغير الله فكيف سجدوا ليوسف؟ وأيضا تعظيم الأبوين تالي تعظيم الله سبحانه فمن أين جاز سجدة أبويه له؟ والجواب عن ابن عباس في رواية عطاء أن المراد خرّوا لأجل وجدانه سجدا لله فكانت سجدة الشكر لله سبحانه، وكذا التأويل في قوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] أي أنها سجدت لله تعالى لأجل طلب مصلحتي وإعلاء منصبي. وأحسن من هذا أن يقال: إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكرا على لقائه، أو يراد بالسجدة التواضع التام على ما كانت عادتهم في ذلك الزمان من التحية، ولعلها ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجبهة. واعترض على هذا الوجه بأن لفظ الخرور يأباه. وأجيب بأن الخرور قد يعني به المرور قال تعالى: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً [الفرقان: 73] أي لم يمروا. وقيل: الضمير عائد إلى إخوته فقط. ورد بأن قوله: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ من قبل ينبو عنه. وأجيب بأن التعبير لا يلزم أن يكون مطابقا للرؤيا من كل الوجوه فيحتمل أن تكون السجدة في حق الإخوة التواضع التام، وفي حق أبويه مجرد ذهابهما من كنعان إلى مصر، ففيه تعظيم تام للولد. وقيل: إنما سجد الأبوان لئلا تحمل الأنفة إخوته على عدم السجود فيصير سببا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 لثوران الفتن وإحياء الأحقاد والضغائن، أو لعله تعالى أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية لا يعرفها إلا الله تعالى، ورضي بذلك يوسف موافقة لأمر الله ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن يوسف لما رأى سجودهم له اقشعر جلده ولكن لم يقل شيئا وكأن الأمر بتلك السجدة كان من تمام التشديد والبلية والله أعلم. وَقَدْ أَحْسَنَ بِي يقال: أحسن به وإليه بمعنى. إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ لم يذكر إخراجه من البئر لأنه نوع تثريب للإخوة وقد قال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ولأنه لم يكن نعمة لأنه حينئذ صار عبدا وصار مبتلى بالمرأة ولأن هذا الإخراج أقرب وأشمل وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ أي من البادية سمى المكان باسم المصدر لظهور الشخص فيه من بعيد، وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش يتنقلون في المياه والصحارى. قال ابن الأنباري: بدا موضع معروف هنالك. روي عن ابن عباس أن يعقوب كان قد تحول إليه وسكن فيه ومنه قدم إلى يوسف، على هذا كان يعقوب وولده أهل الحضر والبدو قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا والمعنى جاء بكم من قصد بدا ذكره الواحدي في البسيط. قال الجبائي والكعبي والقاضي: إنه تعالى أخبر عن يوسف أنه أضاف الإحسان إلى الله ونسب النزغ إلى الشيطان وهو الإفساد والإغراء، ففيه دليل على أن الخير من الله دون الشر. وأجيب بأنه إنما راعى الأدب وإلا فليس فعل الشيطان إلا الوسوسة، وأما صرف الداعية إلى الشر فلا يقدر عليه إلا الله تعالى فإن العاقل لا يريد ضرر نفسه. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ فإذا أراد حصول أمر هيأ أسبابه وإن كان في غاية البعد عن الأوهام. إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بالوجه الذي تسهل به الصعاب الْحَكِيمُ في أفعاله حتى تجيء على الوجه الأصوب والنحو الأصلح. يحكى أن يوسف أخذ بيد يعقوب وطاف به في خزائنه فأدخله خزائن الورق والذهب وخزائن الحلي والثياب والسلاح وغير ذلك، فلما أدخله خزائن القراطيس قال: يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل! قال: أمرني جبريل. قال: أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط إليه مني فسأله قال جبريل: الله أمرني بذلك لقولك: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يوسف: 13] قال: فهلا خفتني. ثم إن يعقوب أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثم عاد إلى مصر وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له قال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ شيئا من ملك الدنيا أو من ملك مصر لأنه كان دون ملك فوقه وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ بعضا من ذلك لأنه لا يمكن أن يحصل للإنسان في العمر المتناهي والاستعداد المعين المحصور سوى المتناهي من السعادات الدنيوية والكمالات الأخروية فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ منادى ثان أو صفة النداء الأول أي مبدعهما على النحو الأفضل من مادة سابقة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 كالدخان أو من عدم محض أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لا يتولى إصلاح مهماتي في الدارين غيرك. ولما قدم النداء والثناء كما هو شرط الأدب الحسن ذكر المسألة فقال تَوَفَّنِي مُسْلِماً أراد الوفاة على حال الإسلام والختم بالحسنى كقول يعقوب لولده: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102] وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من آبائي أو على العموم. قيل: الصلاح أول درجات المؤمنين الصالحين فالواصل إلى الغاية وهي النبوة كيف يليق به أن يطلب البداية؟ والجواب إن أراد الإلحاق بالآباء فظاهر، وإن أراد العموم فكذلك لأن طلب الصلاح غير الإلحاق بأهل الصلاح فإن اجتماع النفوس المشرقة بالأنوار الإلهية له أثر عظيم وفوائد جمة كالمرآة المستنيرة المتقابلة التي يتعاكس أضواؤها ويتكامل أنوارها إلى حيث لا تطيقها العيون الضعيفة، هذا مع أن الختم على الصلاح نهاية مراتب الصديقين. وهاهنا بحث للأشاعرة وهو أن التوفي على الإسلام والإلحاق بأهل الصلاح لو لم يكن من فعل الله تعالى كان طلبه من الله جاريا مجرى قول القائل: افعل يا من لا يفعل. وهل هذا إلا كتشنيع المعتزلة علينا إذ كان الفعل من الله فكيف يجوز أن يقول للمكلف افعل مع أنه ليس بفاعل؟ أجاب الجبائي والكعبي بأن المراد ألطف بي بالإقامة على الإسلام إلى أن أموت فألحق بالصلحاء. ورد بأنه عدول عن الظاهر مع أن كل ما في مقدور الله من الألطاف فقد فعله في حق الكل. سؤال آخر: الأنبياء يعلمون أنهم يموتون على الإسلام البتة، فما الفائدة في الطلب؟ الجواب: العلم الإجمالي لا يغني عن العلم التفصيلي ولا سيما في مقام الخشية والرهبة. وقال في التفسير الكبير: المطلوب هاهنا حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر وهي الاستسلام لحكم الله والرضا بقضائه. وعن قتادة وكثير من المفسرين أنه تمنى الموت واللحوق بدار البقاء في زمرة الصلحاء ولم يتمن الموت نبي قبله ولا بعده. قال أهل التحقيق: لا يبعد من الرجل العاقل إذا كمل عقله أن تعظم رغبته في الموت لوجوه منها: أن مراتب الموجودات ثلاث: المؤثر الذي لا يتأثر وهو الإله تعالى وتقدس، والمتأثر الذي لا يؤثر وهو عالم الأجساد فإنها قابلة للتشكيل والتصوير والصفات المختلفة والأعراض المتضادة، ويتوسطهما قسم ثالث هو عالم الأرواح لأنها تقبل الأثر والتصرف من العالم الإلهي، ثم إذا أقبلت على عالم الأجساد تصرفت فيه وأثرت. وللنفوس في التأثير والتأثر مراتب غير متناهية لأن تأثيرها بحسب تأثرها مما فوقها والكمال الإلهي غير متناه فإذن لا تنفك النفس من نقصان ما، والناقص إذا حصل له شعور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 بنقصانه وقد ذاق لذة الكمال بقي في القلق وألم الطلب ولا سبيل له إلى دفع هذا القلق والألم إلا الموت فحينئذ يتمنى الموت. ومنها أن سعادات الدنيا ولذاتها سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها، ثم إنها مخلوطة بالمنغصات والأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها بل ربما كانت حصة الأراذل أكثر فلا جرم يتمنى العاقل موته ليتخلص من هذه الآفات. ومنها أن اللذات الجسمانية لا حقيقة لها لأن حاصلها يرجع إلى دفع الآلام، وقد قررنا هذا المعنى فيما سلف. ومنها أن مداخل اللذات الدنيوية ثلاثة: لذة الأكل ولذة الوقاع ولذة الرياسة ولكل منها عيوب فلذة الأكل مع أنها غير باقية بعد البلع فإن المأكول يختلط بالبصاق المجتمع في الفم ولا شك أنه شيء منفر، ثم لما يصل إلى المعدة يستحيل إلى ما ذكره منفر فكيف به ومن هنا قالت العقلاء: من كانت همته ما يدخل في جوفه كانت قيمته ما يخرج من بطنه، هذا مع اشتراك الحيوانات الخسيسة فيها. وأيضا اشتداد الجوع حاجة والحاجة نقص وآفة وكذا الكلام في لذة النكاح وعيوبها مع أن فيها احتياجا إلى زيادة المال والنفقة للزوج والولد وما يلزمهما، والاحتياج إلى المال يلقي المرء في مهالك الاكتساب ومهاوي الانتجاع، ولذة الرياسة أدنى عيوبها أن كل واحد يكره بالطبع أن يكون خادما مأمورا ويحب أن يكون مخدوما، فسعي الإنسان في الرياسة سعي في مخالفة كل من سواه. ولا ريب أن هذا أمر صعب الحصول منيع المرام وإذا ناله كان على شرف الزوال في كل حين وأوان لأن كثرة الأسباب توجب قوة حصول الأثر فيكون دائما في الحزن والخوف. فإذا تأمل العاقل في هذه المعاني علم قطعا أنه لا صلاح في اللذات العاجلة ولكن النفس جبلت على طلبها والرغبة فيها فيكون دائما في بحر الآفات وغمرات الحسرات فحينئذ يتمنى زوال هذه الحياة. وقد سبق منا في تمني الموت كلام آخر في سورة البقرة في تفسير قوله: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الجمعة: 6] فليتذكر. قال أهل السير: لما توفي يوسف تخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال، فرأوا من الرأي أن عملوا له صندوقا من مرمر فجعلوه فيه ودفنوه في النيل بمكان يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا فيه شرعا. وولد له إفرائيم وميشا وولد لإفراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى، ثم بقي يوسف هناك إلى أن بعث الله موسى فأخرج عظامه من مصر ودفنها عند قبر أبيه والله تعالى أعلم بحقائق الأمور. التأويل: إن يعقوب الروح لا يتأسف على فوات شيء من المخلوقات إلا على يوسف القلب لأنه مرآة جمال الحق لا يشاهد الحق إلا فيها فلذلك ابيضت عيناه في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 انتظارها فلامه على ذلك الأوصاف البشرية بقولهم تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ وأين أهل السلوة من أهل العشق، أين الخلي من الشجي، ولا بد للمحب من ملامة الخلق فأول ملامتي آدم عليه السلام حين قالت الملائكة لأجله أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] بل أول ملامتي هو الله تعالى حين قالوا له: أَتَجْعَلُ فِيها وذلك أنه أول محب ادعى المحبة وهو قوله يُحِبُّهُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 62] من جماله وكماله اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا فيه أن الواجب على كل مسلم أن يطلب يوسف قلبه وبنيامين سره، وإن ترك لطف الله واليأس عن وجدانه كفر. فلما رأت الأوصاف البشرية آثار العزة من رب العزة على صفحات أحوال يوسف القلب حين وصلوا بتيسير أحكام الشريعة وتدبير آداب الطريقة إلى سرادقات حضرة القلب قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا وهم القوى الإنسانية الضُّرُّ البعد عن الحضرة الربانية وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ من الأعمال البدنية فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ بإفاضة سجال العوارف وإسباغ ظلال العواطف إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ إذ كنتم على صفة الظلومية والجهولية لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا بالطلب والصدق والشوق والمحبة والوصول والوصال وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ في الإقبال على استيفاء الحظوظ الحيوانية التي تضر القلب والسر والروح لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ لأنه صدر منها ما صدر بحكمة من الله تعالى وتربية القلب وإن كان مضرا له ظاهرا كما أن صنيع إخوة يوسف في البداية صار سببا لرفعة منزلته في النهاية اذْهَبُوا بِقَمِيصِي وهو نور جمال الله وَلَمَّا فَصَلَتِ عير واردات القلب وهبت نفحات ألطاف الحق إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ: يا عاذل العاشقين دع فئة ... أضلها الله كيف ترشدها فَارْتَدَّ بَصِيراً لأن الروح كان بصيرا في بدو الفطرة ثم عمي لتعلقه بالدنيا وتصرفه فيها ثم صار بصيرا بوارد من القلب: ورد البشير بما أقر الأعينا ... وشفى النفوس فنلن غايات المنى والقلب في بدو الأمر كان محتاجا إلى الروح في الاستكمال، فلما كمل وصلح لقبول فيضان الحق بين إصبعين ونال مملكة الخلافة بمصر القربة في النهاية صار الروح محتاجا إليه لاستنارته بأنوار الحق، وذلك أن القلب بمثابة المصباح في قبول نار النور الإلهي والروح كالزيت فيحتاج المصباح في البداية إلى الزيت في قبول النار، ولكن الزيت يحتاج إلى المصباح في البداية وتزكيته في النهاية لتقبل بواسطة النار ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ لأنه لا يصل إلى الحضرة الأحدية إلا بجذبة المشيئة آمنين من الانقطاع والانفصال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً لما رأوه وعرفوه أنه عرش الحق تعالى، فالسجدة كانت في الحقيقة لرب العرش لا للعرش هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ إن كنت نائما في نوم العدم إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ سجن الوجود ولم يقل من الجب لأنه لا يخرج من جب البشرية ما دام في الدنيا مِنَ الْبَدْوِ بدو الطبيعة آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ملك الوصال والوصول فاطِرَ السَّماواتِ عالم الأرواح وأرض البشرية تَوَفَّنِي مُسْلِماً أخرجني من قيد الوجود المجازي وأبقني ببقائك مع الباقين بك بفضلك وكرمك. [سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) القراآت: سَبِيلِي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع نُوحِي بالنون وكسر الحاء: حفص. الآخرون بالياء وفتح الحاء يعقلون على الغيبة: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام وابن كثير والأعشى والبرجمي. والباقون بتاء الخطاب. كُذِبُوا مخففا: عاصم وحمزة وعلي وخلف ويزيد. الباقون بالتشديد. فَنُجِّيَ بضم النون وكسر الجيم المشددة وفتح الياء: ابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب. فعلى هذا يكون فعلا ماضيا مبنيا للمفعول. وعن الكسائي مثل هذا ولكن بسكون الياء، وخطأه علي بن عيسى بناء على أنه فعل مستقبل من الإنجاء والنون لا يدغم في الجيم، أو من التنجية والنون المتحركة لا تدغم في الساكن. وأقول: إن كان فعلا ماضيا من التنجية والنون المتحركة لا تدغم كما في القراءة الأولى ولكن سكن الياء للتخفيف لم يلزم منه خطأ. الآخرون: قرأوا بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء فعلا مضارعا من الإنجاء على حكاية الحال الماضية. الوقوف: إِلَيْكَ ج لابتداء النفي مع واو العطف يَمْكُرُونَ هـ بِمُؤْمِنِينَ هـ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 أَجْرٍ ط لِلْعالَمِينَ هـ مُعْرِضُونَ هـ مُشْرِكُونَ هـ لا يَشْعُرُونَ هـ ومن اتبعن ط الْمُشْرِكِينَ هـ الْقُرى ط مِنْ قَبْلِهِمْ ط اتَّقَوْا ط تَعْقِلُونَ هـ نَصْرُنا ط لمن قرأ فننجي بالتخفيف ولا وقف على مَنْ نَشاءُ ومن قرأ فَنُجِّيَ مشددة وصله بما قبله ووقف على مَنْ نَشاءُ الْمُجْرِمِينَ هـ الْأَلْبابِ ط يُؤْمِنُونَ 5. التفسير: ذلِكَ الذي ذكر من نبأ يوسف هو من أخبار الغيب وقد مر تفسير مثل هذا في آخر قصة زكريا في سورة آل عمران. ومعنى إجماع الأمر العزم عليه كما مر في سورة يونس في قصة نوح. وأراد عزمهم على إلقاء يوسف في البئر وهو المكر بعينه وذلك مع سائر الغوائل من المجيء على قميصه بدم كذب ومن شراهم إياه بثمن بخس. قال أهل النظم: إن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التعنت، فاعتقد رسول الله أنه إذا ذكرها فربما آمنوا فلما ذكرها لهم أصروا على كفرهم فنزل: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ أي أكثر خلق الله المكلفين أو أكثر أهل مكة قاله ابن عباس. وَلَوْ حَرَصْتَ جوابه مثل ما تقدم أي ولو حرصت فما هم بِمُؤْمِنِينَ والحرص طلب الشيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد ونظير الآية قوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ على ما تحدثهم به مِنْ أَجْرٍ كما يسأل القاص إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ عظة من الله لِلْعالَمِينَ عامة على لسان رسوله. وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ الأكثرون على أنه لفظ مركب من كاف التشبيه وأيّ التي هي في غاية الإبهام إذا قطعت عن الإضافة لكنه انمحى عن الجزأين معناهما الإفرادي وصار المجموع كاسم مفرد بمعنى «كم» الخبرية. والتمييز عن الكاف لا عن أي كما في مثلك رجلا، والأكثر إدخال «من» في تمييزه وقد مر في سورة البقرة في تفسير قوله سبحانه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. [الآية: 164] وفي مواضع أخر تفصيل بعض الآيات السماوية والأرضية الدالة على توحيد الصانع وصفات جلاله، ومن جملة الآيات قصص الأوّلين وأحوال الأقدمين. ومعنى يَمُرُّونَ عَلَيْها أشياء يشاهدونها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ لا يعتبرون بها. وقرىء وَالْأَرْضِ بالرفع على الابتداء خبره يَمُرُّونَ والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر. والحاصل أن جملة العالم العلوي والعالم السفلي محتوية على الدلائل والبينات على وجود الصانع ونعوت كماله ولكن الغافل يتعامى عن ذلك. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ وذلك أنهم كانوا مقرين بالإله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] لكنهم كانوا يثبتون له شريكا في المعبودية هو الأصنام ويقولون: هم الشفعاء. وكان أهل مكة يقولون: الملائكة بنات الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 وعن الحسن: هم أهل الكتاب يقولون عزيز ابن الله والمسيح ابن الله. وعن ابن عباس: هم الذين يشبهون الله بخلقه. احتجت الكرامية بالآية على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار. والجواب أن مجرد الإقرار لو كان كافيا لما اجتمع مع الشرك غاشية عقوبة تغشاهم وتغمرهم. قُلْ يا محمد لهم هذِهِ السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان سَبِيلِي وسيرتي وقوله أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ تفسير ل سَبِيلِي وعَلى بَصِيرَةٍ يتعلق بأدعو وأَنَا تأكيد للمستتر في أدعو وَمَنِ اتَّبَعَنِ عطف عليه ويجوز أن يكون عَلى بَصِيرَةٍ حالا من أدعو عاملة في أنا ومن اتبعن، ويجوز أن يكون أَنَا مبتدأ معطوفا عليه ومَنِ اتَّبَعَنِ وعَلى بَصِيرَةٍ خبرا مقدما فيكون ابتداء إخبار بأنه ومن اتبعه على حجة وبرهان لا على هوى وتشه وَقل سُبْحانَ اللَّهِ تنزيها له عما أشركوا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لا شركا جليا ولا شركا خفيا. قال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ وفي «الأنبياء» قَبْلَكَ [الأنبياء: 7] بغير «من» لأن قبلا اسم للزمان السابق على ما أضيف إليه و «من» تفيد استيعاب الطرفين، وفي هذه السورة أريد الاستيعاب. قوله: إِلَّا رِجالًا ردّ على من زعم أن الرسول ينبغي أن يكون ملكا أو يمكن أن يكون امرأة مثل سجاح المتنبئة. وقوله: مِنْ أَهْلِ الْقُرى خصهم بالاستنباء لما في أهل البادية من الغلظ والجفاء فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] قال صلى الله عليه وسلم: «من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل» «1» أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا إلى مصارع الأمم المكذبة إنما قال: أَفَلَمْ يَسِيرُوا بالفاء بخلاف ما في «الروم» والملائكة لاتصاله بقوله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فكان الفاء أنسب من الواو وَلَدارُ الْآخِرَةِ موصوفه محذوف أي ولدار الساعة والحال الآخرة لأن للناس حالين: حال الدنيا وحال الآخرة. وبيان الخيرية قد مر في «الأنعام» . وإنما خصت هاهنا بالحذف لتقدم ذكر الساعة. قال في الكشاف: حتى غاية لمحذوف دل عليه الكلام والتقدير فتراخى نصر أولئك الرجال حتى إذا استيأسوا عن النصر أو عن إيمان القوم وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا فيه وجوه لقراءتي التخفيف والتشديد ولإمكان عود الضمير في الفعلين إلى الرسل أو إلى المرسل إليهم الدال عليهم ذكر الرسل أو السابق ذكرهم في أَفَلَمْ يَسِيرُوا وأما وجوه التخفيف فمنها: وظن الرسل أنهم قد كذبوا أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون، أو كذب رجاؤهم لقولهم رجاء صادق وكاذب. والمراد أن مدة التكذيب   (1) رواه أحمد في مسند (2/ 371) ، (4/ 297) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله قد تطاولت وتمادت حتى توهموا أن لا نصر لهم في الدنيا. قال ابن عباس: ظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر. قال: وكانوا بشرا ألا ترى إلى قوله: وَزُلْزِلُوا والعلماء حملوا قول ابن عباس على ما يخطر بالبال شبه الوسواس وحديث النفس من عالم البشرية. وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فلا، لأن الرسل أعرف الناس بالله وبأن ميعاده مبرأ عن وصمة الأخلاف. ومنها وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا من النصر والظفر. ومنها وظن المرسل إليهم أنهم قد كذبوا من جهة الرسل أي كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم ولم يصدقوهم فيه. وأما قراءة التشديد فإن كان الظن بمعنى اليقين فمعناه أيقن الرسل أن الأمم كذبوهم تكذيبا لا يصدر عنهم الإيمان بعد فحينئذ دعوا عليهم فهناك نزل عذاب الاستئصال، أو كذبوهم فيما وعدوهم من العذاب والنصرة عليهم. وإن كان بمعنى الحسبان فالمعنى توهم الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم وهذا تأويل عائشة قالت: ما وعد الله محمدا شيئا إلا وعلم أنه سيوفيه، ولكن البلاء لم يزل بالأنبياء حتى خافوا من أن يكذبهم الذين كانوا قد آمنوا بهم. لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ قصص الرسل إضافة للمصدر إلى الفاعل، ويحسن أن يقال: الضمير لإخوة يوسف وله لاختصاص هذه السورة بهم. والعبرة نوع من الاعتبار وهي العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول، ووجه الاعتبار على العموم أن يعلم أنه لا خير إلا في العمل الصالح والتزوّد بزاد التقوى فإن الملوك الذي عمروا البلاد وقهروا العباد ثم لم يراعوا حق الله في شيء من ذلك ماتوا وانقرضوا وبقي الوزر والوبال عليهم. وعلى الخصوص أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب وإعلاء شأنه بعد حبسه في السجن واجتماعه بأهله بعد طول البعاد قادر على إظهار محمد وإعلاء كلمته. والكل مشترك في الدلالة على صدق محمد لأن هذا النوع من القصص الذي أعجز حملة الأحاديث ورواة الأخبار ممن لم يطالع الكتب ولم يخالط العلماء دليل ظاهر وبرهان باهر على أنه بطريق الوحي والتنزيل، وإنما يكون دليلا واعتبارا لِأُولِي الْأَلْبابِ وأصحاب العقول الذين يتأملون ويتفكرون لا الذين يمرون ويعرضون على أن الدليل دليل في نفسه للعقلاء وإن لم ينظر فيه مستدل قط كما أن الرئيس الحقيقي من له أهلية الرياسة وإن كان في نهاية الخمول ما كانَ مدلول القصص وهو المقصوص أو القرآن حَدِيثاً يُفْتَرى لظهور إعجازه وَلكِنْ كان تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السماوية وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه في الدين لأنه القانون الذي يستند إليه السنة والإجماع والقياس. وقيل: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 تفصيل كل شيء من واقعة يوسف مع أبيه وإخوته. قال الواحدي: وعلى التفسيرين فهو ليس على عمومه لأن المراد به الأصول والقوانين وما يؤل إليها وَهُدىً في الدنيا وَرَحْمَةً في الآخرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم هم المنتفعون بذلك. التأويل: مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ لأن هذا الترتيب في السلوك لا يعلمه إلا الوالجون ملكوت السماء الغوّاصون في بحر بطن القرآن وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ بالصورة ولكن كنت حاضرا بالمعنى وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وهم صفات الناسوتية وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ لأن اللاهوتية غير محتاجة إلى الناسوتية وإن دعتها إلى الاستكمال لأنها كاملة في ذاتها مكملة لغيرها وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ في سموات القلوب وأرض النفوس تمر الأوصاف الإنسانية عليها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ لإقبالها على الدنيا وشهواتها وَما يُؤْمِنُ أكثر الصفات الإنسانية بطلب الله وتبدل صفاته إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ في طلب الدنيا وشهواتها، أو طلب الآخرة ونعمها، أو وما يؤمن أكثر الخلق بالله وطلبه إلا وهم مشركون برؤية الإيمان والطلب أنها منهم لا من الله، فكل من يرى السبب فهو مشرك، وكل من يرى المسبب فهو موحد كل شيء هالك في نظر الموحد إلا وجهه، أو وما يؤمن أكثر الناس بالله وبقدرته وإيجاده إلا وهم مشركون في طلب الحاجة من غير الله غاشِيَةٌ جذبة تقهر إرادتهم وتسلب اختيارهم كما قيل: العشق عذاب الله أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ ساعة الانجذاب إلى الله هذِهِ سَبِيلِي لأن طريق السير والسلوك مختص به وبأمته إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى الملكوت دون مدن الملك والأجساد، والرجال من القرى ويشبه أن يعبر عن عالم الأرواح بالقرى لبساطتها. والقرى أقل أجزاء من المدن أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي أرض البشرية على قدمي الشريعة والطريقة ليصلوا إلى فضاء عالم الحقيقة وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ففي إبطاء النصر ابتلاء للرسل الله حسبي ونعم الوكيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 (سورة الرعد) (مكية وقيل مدنية سوى آية نزلت بجحفة قوله وَهُمْ يَكْفُرُونَ حروفها 3506 كلمها 855 آياتها 43) [سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) القراآت: وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ بالرفع فيهن: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحفص والمفضل. الآخرون بالجر فيهن عطفا على أَعْنابٍ. يُسْقى بالياء المثناة من تحت على تقدير يسقى كله أو للتغليب: ابن عامر وعاصم ويزيد ورويس. الباقون بتاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 التأنيث لقوله: جَنَّاتٌ ويفضل على الغيبة: حمزة وعلي وخلف. الباقون بالنون على ونحن نفضل أَإِذا بهمزتين إِنَّا بهمزة واحدة على أيذا بقلب الثانية ياء والباقي كما مر: نافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد آئذا إنا بالمد والباقي مثله: زيد وقالون إذا بهمزة واحدة أإنا بهمزتين: ابن عامر. هشام يدخل بينهما مدة إذا بهمزة واحدة آينا بهمزة ممدودة ثم ياء: يزيد أيذا أينا بهمزة ثم ياء فيهما: ابن كثير مثله ولكن بالمد أبو عمرو اإذا آئنا بهمزتين فيهما: عاصم وحمزة وخلف هادي وافى وإلى باقي في الوقف: يعقوب وابن كثير غير ابن فليح وزمعة، وروى ابن شنبوذ عن قنبل بالياء في الوقف وعن البزي بغير ياء المتعالي في الحالين: ابن كثير ويعقوب وافق سهل وعباس في الوصل. الوقوف: المر كوفي آياتُ الْكِتابِ ط لا يُؤْمِنُونَ هـ وَالْقَمَرَ ط مُسَمًّى ط يوقنون هـ وَأَنْهاراً ط النَّهارَ ط يَتَفَكَّرُونَ هـ بِماءٍ واحِدٍ ز قف لمن قرأ وَنُفَضِّلُ بالنون فِي الْأُكُلِ ط يَعْقِلُونَ هـ جَدِيدٍ ط بِرَبِّهِمْ ط فِي أَعْناقِهِمْ ج النَّارِ ج خالِدُونَ هـ الْمَثُلاتُ ط عَلى ظُلْمِهِمْ ج لتنافي الجملتين الْعِقابِ هـ مِنْ رَبِّهِ ط هادٍ هـ وَما تَزْدادُ ط بِمِقْدارٍ هـ الْمُتَعالِ 5 بِالنَّهارِ هـ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ط ما بِأَنْفُسِهِمْ ط فَلا مَرَدَّ لَهُ ج لاختلاف الجملتين والٍ هـ. التفسير: تِلْكَ الآيات التي في هذه السورة آيات السورة العجيبة الكاملة في بابها وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي القرآن كله هو الْحَقُّ الذي لا محيد عنه والمراد أنه لا تنحصر الحقية في هذه السورة وحدها. ثم أخذ في تفصيل الحق فبدأ بالدلالة على صحة المبدأ والمعاد فقال: اللَّهُ وهو مبتدأ خبره الَّذِي أو الموصول صفة المبتدأ، وقوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ خبر بعد خبر. والعمد بفتحتين جمع عمود وهو ما يعمد به الشيء شبه الأسطوانة. وقوله: تَرَوْنَها كلام مستأنف على سبيل الاستشهاد أي وأنتم ترونها مرفوعة بلا عماد. وقال الحسن: في الآية تقديم وتأخير تقديره رفع السموات ترونها مرفوعة بغير عمد وفيه تكلف. وقيل: ترونها صفة للعمد. ثم زعم من تمسك بالمفهوم أن للسموات عمدا لكنا لا نراها وما تلك العمد؟ قال بعض الظاهريين: هي جبل من زبرجد محيط بالدنيا يسمى جبل قاف. ولا يخفى سقوط هذا القول لأن كل جسم لو كان يلزم أن يكون معتمدا على شيء فذلك الجبل أيضا كان معتمدا على شيء وتسلسل. وقال بعض من ترقى في حضيض الصورة إلى ذروة عالم المعقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 إن تلك العمد هي قدرة الله تعالى وحفظه الذي أوقفها في الجوّ العالي. ونحن لا نرى ذلك التدبير ولا نعرف كيفية ذلك الإمساك. أما قوله: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى فعن ابن عباس أن للشمس مائة وثمانين منزلا في مائة وثمانين يوما، إنها تعود مرة أخرى إلى واحد واحد منها في أمثال تلك الأيام ومجموع تلك الأيام سنة تامة. أقول: إن صح عنه فلعله أراد تصاعدها في دائرة نصف النهار وتنازلها عنها في أيام السنة، وأراد نزولها في فلكها الخارج المركز من الأوج إلى الحضيض، ثم صعودها من الحضيض إلى الأوج فإن لها بحسب كل جزء من تلك الأجزاء في كل يوم من أيام السنة تعديلا خاصا زائدا أو ناقصا كما برهن عليه أهل النجوم. وأما القمر فسيره في منازله مشهور. وقال سائر المفسرين: المراد كونهما متحركين إلى يوم القيامة وبعد ذلك تنقطع الحركات وتنتهي المسيرات كقوله: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الأنعام: 2] واللام للتاريخ كما تقول: كتبت لثلاث خلون. وإنما قال في سورة لقمان إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [لقمان: 29] موافقة لقبيل ذلك ومن يسلم وجهه إلى الله والقياس لله كما في قوله: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمران: 20] يُدَبِّرُ الْأَمْرَ إجمال بعد التفصيل أي أمر العالم العلوي والعالم السفلي من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن، لأن تدبيره لعالم الأرواح كتدبيره لعالم الأشباح، وتدبيره للكبير كتدبيره للصغير لا يختلف بالنسبة إلى قدرته أحوال شيء من ذلك في الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة وتبديل الصور والأعراض وتغيير الأشكال والأوضاع يُفَصِّلُ الْآياتِ الدالة على وحدانيته وقدرته، ويحتمل أن يراد بتدبير الأمر تدبير عالم الملكوت، ويكون معنى تفصيل الآيات إنزال الكتب وبعث الرسل وتكليف العباد الذي هو أثر ذلك العالم في العالم السفلي. ويجوز أن يكون تدبير الأمر إشارة إلى القضاء، وتفضيل الآيات إشارة إلى القدر. وقوله: لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ على كل التفاسير إشارة إلى إثبات المعاد لأن المقر بتدبيره وتقديره على الأنهاج المذكورة لا بد أن يعترف باقتداره على الإعادة والجزاء. ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها الدلائل الأرضية فقال: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ قال الأصم: أي بسطها إلى ما لا يدرك منتهاه، وهذا الامتداد الظاهر لحس البصر لا ينافي كريتها لتباعد أطرافها وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت في أحيازها غير منتقلة عن أماكنها. وكيفية تكوّن الجبال على بسيط الأرض لا يعلم تفصيلها إلا موجدها. وزعمت الفلاسفة أنها من تأثير السموات في الأجزاء الأرضية القابلة لذلك الأثر بعد امتزاجها بالأجزاء المائية وغيرها، وقد يعين على ذلك نزول الأمطار وهبوب الرياح وهذا إن صح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 فعلم إجمالي. وزعم بعضهم أن البحار كانت في جانب الشمال مدة كون حضيض الشمس هناك، وحين انتقل الحضيض إلى الجنوب انجذبت المياه إلى ذلك الجانب لأن الشمس تصير في الحضيض أقرب إلى الأرض فتوجب شدة السخونة الجاذبة للرطوبات فصار الطين اللزج حجرا وحدثت الجبال والأغوار بحسب المواضع المرتفعة والمنخفضة وبإعانة من السموات والآثار العلوية. وبالجملة فالأسباب تنتهي لا محالة إلى مسبب لا سبب له وهو الله سبحانه. ومن الدلائل الدالة على وجود الصانع ووحدانيته جريان الأنهار العظيمة على وجه الأرض الكائنة فيها من احتباس الأبخرة، وأكثر ذلك إنما يتكوّن في الجبال فلذا قرن الجبال بالأنهار في القرآن كثيرا كقوله: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً [المرسلات: 27] وقد يحصل فيها معادن الفلزات ومواضع الجواهر ومكامن الأجسام المائعة من النفط والقير والكبريت وغيرها، وكل ذلك دليل على وجود فاعل مختار ومدبر قهار. ثم يحدث على الأرض بتربية المياه وتغذيتها أنواع النبات فلذلك قال: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وللمفسرين فيه قولان: الأول أنه حين مد الأرض خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوّعت فيكون كل زوجين بالنسبة إلى ذلك النوع كآدم وحواء بالإضافة إلى الإنسان. القول الثاني: إنه أراد بالزوجين الأسود والأبيض والحلو والحامض والصغير والكبير وما أشبه ذلك من الاختلاف الصنفي. ووصف الزوجين بالاثنين للتأكيد مثل نفخة واحدة. أما قوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فقد مر تفسيره في «الأعراف» وإنما ذكر هذا الإنعام في أثناء الدلائل الأرضية لأن النور والظلمة إنما يحدثان في الجوّ الذي يسميه الحكماء كرة النسيم وكرة البحار وليس فيما وراء ذلك ضياء ولا ظلام. فتعاقب الليل والنهار من جملة الأحداث السفلية وإن كان سببها طلوع الشمس وغروبها في الأفق. ويحتمل أن يقال: إن هذا دليل سماوي وإنه سبحانه عاد مرة أخرى إلى الدليل السماوي ثم إلى الدليل الأرضي وذلك قوله: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ أي بقاع مختلفة مع كونها متجاورة ومتلاصقة طيبة إلى سبخة، وصلبة إلى رخوة، وصالحة للزرع لا للشجر إلى أخرى على خلافها، وفي هذا دلالة ظاهرة على أنها بجعل فاعل مختار موقع لأفعاله على حسب إرادته، وكذا الكروم والزروع والنخيل الكائنة في هذه القطع مختلفة الطباع متخالفة الثمار في اللون والطعم والشكل وهي تسقى بماء واحد، فدل ذلك على أن هذه الاختلافات لا تستند إلى الطبيعة فقط ولكنها بتقدير العزيز العليم. وإنما ذكر الزرع بين الأعناب والنخيل لأنها كثيرا ما تكون كذلك في الوجود كقوله جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً [الكهف: 32] والصنوان جمع صنو وهي النخلة لها رأسان وأصلهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 واحد. وعن ابن الأعرابي: الصنو المثل ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «عم الرجل صنو أبيه» «1» . فمعنى الآية على هذا أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون، والأكل الثمر الذي يؤكل. قاله الزجاج. وعن غيره أنه عام في جميع المطعومات. وإنما ختم الآية السابقة بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وهذه بقوله: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لأن المقام الأوّل يحتاج إلى التفكر لأن الفلاسفة يسندون الحوادث السفلية إلى الآباء الأثيرية والأمهات العنصرية، لكن العاقل إذا تفكر في اختصاص كل ممتزج بحيز معين وشكل معين وطبيعة وخاصية مخالفتين لغيره علم أن كل هذه الاختلافات لا تستند إلى أشعة كواكب معدودة ولا إلى طبائع عناصر محصورة كما أشير إلى ذلك بقوله: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ الآية. ولئن سلم أن الاتصالات الفلكية واختلافات الفواعل والقوابل قد ترتقي إلى حد يظهر منها هذه الآثار فلا بد لكل سبب من الانتهاء إلى مسبب لا سبب فوقه وليس ذلك إلا الله وحده، فهذا مقام لا يجحده إلا عادم عقل بل فاقد حس. والحاصل أن التفكر في الآيات يوجب عقلية ما جعلت الآيات دليلا عليه فهو الأوّل المؤدي إلى الثاني والله ولي التوفيق. ثم عاد سبحانه إلى ذكر المعاد فقال: وَإِنْ تَعْجَبْ قال ابن عباس: إن تعجب يا محمد من تكذيبهم إياك بعد ما كانوا حكموا أنك من الصادقين، فهذا أعجب. أو إن تعجب من عبادتهم الأصنام بعد الدلائل الدالة على التوحيد، أو إن تعجب يا محمد فقد عجبت في موضع العجب لأنهم اعترفوا بأنه تعالى رفع السموات بغير عمد وسخر الشمس والقمر على وفق مصالح العباد وأظهر الغرائب والعجائب في عالم الخلق، ثم أنكروا الإعادة التي هي أهون وأسهل. قال المتكلمون: موضع العجب هو الذي لا يعرف سببه وذلك في حقه تعالى محال، فالمراد وإن تعجب فَعَجَبٌ عندك قَوْلُهُمْ وإن سلم أن المراد عجب عند الله كما قرىء في الصافات بَلْ عَجِبْتَ [الصافات: 12] بضم التاء فتأويله أنه محمول على النهاية لا على البداية أي منكر عند الله ما قالوه فإن الإنسان إذا تعجب من شيء أنكره. قال في الكشاف أَإِذا كُنَّا إلى آخر قولهم، يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من قولهم، وأن يكون منصوبا بالقول. وإذا نصب بما دل عليه قوله: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو نبعث أو نحشر. ثم حكم عليهم بأمور ثلاثة: الأول أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يعني أولئك الكاملون المتمادون في كفرهم وذلك أن إنكار البعث لا   (1) رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث: 11. أبو داود في كتاب الزكاة باب: 22. الترمذي في كتاب المناقب باب: 28. أحمد في مسنده (1/ 94) ، (2/ 322) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 يكون إلا عن إنكار القدرة أو عن إنكار كمالها بأن يقال: إنه موجب بالذات لا فاعل بالاختيار فلا يمكنه إيجاد الحيوان إلا بواسطة الأبوين وتأثير الطبائع والأفلاك أو إنكار العلم بأن يقال: إنه غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز المطيع عن العاصي، أو تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو، أو إنكار الصدق كما إذا قيل: إنه أخبر عنه ولكنه لا يفعل لأن الكذب جائز عليه كما لا يكذب أحدنا بناء على مصلحة عامة أو خاصة وكل واحدة من هذه العقائد كفر فضلا عن جميعها. والثاني: وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ قال الأصم: المراد بذلك كفرهم وذلتهم وانقيادهم للأصنام. يقال للرجل هذا غل في عنقك للعمل الرديء إذا كان لازما له وهو مصر على فعله. وقال آخرون: هو من جملة الوعيد. ولا بد من تجوّز على القولين: أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن المراد أنه سيحصل هذا المعنى. والظاهر أنه حاصل في الحال ويؤيد القول الثاني قوله: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ والأول قوله: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس: 8] والثالث: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وربما يستدل الأشاعرة به أن الصيغة للحصر فيدل على أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار، ويمكن أن يناقش في إفادتها الحصر. ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان يهددهم تارة بعذاب الآخرة وكانوا ينكرون البعث لذلك كما تقدم، ويخوفهم تارة أخرى بعذاب الدنيا فيستعجلونه به زعما منهم أنه كلام لا أصل له وإلى هذا أشير بقوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ بالعذاب والعقوبة التي تسوءهم. قَبْلَ تمام الْحَسَنَةِ وهي العافية والإحسان إليهم بالإهمال والتأخير وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ أي عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها؟ وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه لأن العقاب مماثل للمعاقب عليه ومنه «المثلة» بالضم والسكون لتقبيح الصورة بقطع الأنف والأذن وسمل العين ونحو ذلك، وذلك أنه ليس تغييرا كليا لا يماثل الصورة الأولى وإنما ذلك تغيير تبقى الصورة معه قبيحة. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ قالت الأشاعرة: فيه دلالة على جواز العفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة لأن قوله: عَلى ظُلْمِهِمْ حال منهم، ومن المعلوم أن الإنسان حال اشتغاله بالظلم لا يكون تائبا لكن الآية دلت على أنه تعالى يغفر الذنوب قبل الاشتغال بالتوبة ترك العمل بها في حق الكافر فيبقى معمولا بها في حق أهل الكبائر. لا يقال: إن المراد من هذه المغفرة تأخير العقاب إلى الآخرة ليقع جوابا عن استعجالهم، أو المراد غفران الصغائر لمجتنب الكبائر، أو غفران الكبائر بشرط التوبة فإن تاب وإلا فهو شديد العقاب لأنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 نقول: تأخير العقاب إلى الآخرة لا يسمى مغفرة وإلا كان غافرا للكفار. وأيضا إنه تعالى مدح نفسه بهذا والتمدح إنما يحصل بالتفضل لا بأداء الواجب. وعندكم يجب غفران الصغائر لمن اجتنب الكبائر. وجواب الباقي ما مر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد» قال أهل النظم: إن الكفار طعنوا في نبوته بسبب الطعن في الحشر والنشور، ثم طعنوا في نبوّته بسبب استبطاء نزول العذاب، ثم طعنوا في نبوّته بسبب عدم الاعتداد بمعجزاته وذلك قوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وقد تقدم مثل هذا في «الأنعام» في تفسير قوله: وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه [الأنعام: 8] ويجيء مثل هذه بعينها في هذه السورة. قيل: وليس بتكرار محض لأن المراد بالأول آية مما اقترحوا نحو ما في قوله: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ [الإسراء: 90] الآيات. وبالثاني آية ما لأنهم لم يهتدوا إلى أن القرآن آية فوق كل آية وأنكروا سائر آياته صلى الله عليه وسلم، أو لعلهم ذكروا هذا الكلام قبل مشاهدة سائر المعجزات فأجاب سبحانه تسلية لرسوله إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ما عليك إلا الإتيان بما يصح به دعوى إنذارك ورسالتك وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ من الأنبياء يدعوهم إلى الله بوجه من الهداية والإرشاد يليق بزمانه وبأمته. ولم يجعل الأنبياء شرعا في المعجزات فعلى هذا التقدير المنذر النبي والهادي نبي إلا أن الأول محمد والثاني نبي كل زمان. وقيل: المنذر محمد والهادي هو الله تعالى قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك. والمعنى أنهم إن جحدوا كون القرآن. معجزا فلا يضيقن قلبك بسببه فما عليك إلا الإنذار، وأما الهداية فمن الله. وقيل: المنذر النبي والهادي هو علي. روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره فقال: أنا المنذر وأومأ إلى منكب علي فقال: وأنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون بعدي قاله في التفسير الكبير. ثم أكد المعاني المذكورة في الآيات السابقة بقوله: اللَّهُ يَعْلَمُ لأنه إذا كان عالما بجميع المعلومات قدر على تمييز أجزاء بدن كل مكلف من غيره فلا يستنكر منه البعث، ويكون نزول العذاب مفوّضا إلى عمله فلا يجوز استعجاله به، وكذا إنزال الآيات يكون موكولا إلى تدبيره فإن علم أن المكلفين اقترحوها لأجل الاسترشاد ومزيد البيان أظهرها الله تعالى لهم وإلا فلا، وفيه أن إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره أمر مدبر بالعلم النافذ مقدر بالحكمة الربانية. وعلى القول الثاني فيه أن من هذه قدرته وهذا علمه هو القادر وحده على هدايتهم بأي طريق شاء، وعلى هذا احتمل أن يكون اللَّهُ خبر مبتدأ محذوف والجملة مفسرة ل هادٍ أي هو الله. ثم ابتدأ فقيل: يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 أُنْثى قال في الكشاف: لفظة «ما» في ما تَحْمِلُ وما تَغِيضُ وما تَزْدادُ إما أن تكون مصدرية والمعنى يعلم حمل كل أنثى ويعلم غيض الأرحام وازديادها أو غيوض ما فيها وزيادته على أن الفعلين غير متعديين فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها. والازدياد «افتعال» من زاد فأبدلت التاء دالا، وإنه يتعدى ولا يتعدى كثلاثيه. أو موصولة والمراد يعلم ما تحمله من الولد ذكورته وأنوثته وتخاطيط أعضائه وسائر أحواله من السعادة وضدها ومن العلم وضده إلى غير ذلك، ويعلم ما تغيضه الأرحام أي تنقصه كقوله: وَغِيضَ الْماءُ [هود: 44] وما تزداده من العدد فقد يكون واحدا وأكثر، ومن الخلقة فقد يكون تاما أو مخدجا، ومن المدة فقد يكون أقل من تسعة أشهر أو أزيد إلى سنتين عند أبي حنيفة، وإلى أربع عند الشافعي، وإلى خمس عند مالك، ومن دم الحيض. قال ابن عباس: كلما سال الحيض يوما زاد في مدة الحمل يوما ليحصل الجبر ويعتدل الأمر. ثم بين كمال علمه ونفاذ أمره بقوله: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ واحد لا يتجاوزه في طرفي التفريط والإفراط، والمراد بالعندية العلم كما يقال: هذه المسألة عند الشافعي كذا. وذلك أنه سبحانه خصص كل حادث بوقت معين وحالة معينة حسب مشيئته الأزلية وإرادته السرمدية. وقال حكماء الإسلام: وضع أسبابا كلية وأودع فيها قوى وخواص وحرك الأجرام بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزئية معينة ومناسبات معلومة مقدّرة، ومن جملتها أفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم ولذلك ختم الآية بقوله: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي هو عالم بما غاب عن الحس وبما حضر له، أو بما غاب عن الخلق وبما شهدوه أو بالمعدومات وبالموجودات الْكَبِيرُ في ذاته لا بحسب الحجمية بل بالرتبة والشرف لأنه أجل الموجودات الْمُتَعالِ المنزه عن كل ما يجوز عليه في ذاته في صفاته وفي أفعاله. ثم زاد في التأكيد فقال: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ أي مستوفى علمه هذان لأنه يعلم السر كما يعلم الجهر لا يتفاوت في علمه أحد الحالين وَسواء عنده مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ على أن سارِبٌ معطوف على مَنْ لا على مُسْتَخْفٍ ليتناول معنى الاستواء شخصين: أحدهما مستخف والآخر سارب. وإلا فلم يتناول إلا واحدا هو مستخف وسارب إلا أن يكون «من» في معنى الاثنين حتى كأنه قيل: سواء منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بِالنَّهارِ وفي المستخفي والسارب قولان: أحدهما أن المستخفي هو المستتر الطالب للخفاء في ظلمة الليل، والسارب من يضطرب في الطرقات ظاهرا بالنهار يبصره كل أحد. يقال: سرب في الأرض سروبا أي ذهب في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 سربه بالفتح والسكون وهو الطريق ويؤيده قول مجاهد: معناه سواء من يقدم على القبائح في ظلمات الليالي ومن يأتي بها في النهار الظاهر على سبيل التوالي. وثانيهما نقل الواحدي عن الأخفش وقطرب: المستخفي الظاهر من قولهم: «اختفيت الشيء» أي استخرجته، والسارب المتواري الداخل سربا بفتحتين ومنه انسرب الوحش إذا دخل في كناسه. وهذا وإن صح من حيث اللغة لكن قرينتي الليل والنهار إنما تساعدان القول الأول، ولهذا أطبق أكثر المفسرين عليه. ثم ذكر ما يجري في الظاهر مجرى السبب لاستواء علمه بحال المسر والمعلن فقال: لَهُ أي لمن أسر ومن جهر ومن استخفى ومن سرب مُعَقِّباتٌ جماعات من الملائكة تعقب في حفظه وكلاءته. والأصل معتقبات فأدغمت، أو هو على أصله من عقبه بالتشديد إذا جاء على عقبه لأن بعضهم يعقب بعضا، أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه. والتأنيث للمبالغة نحو «نسابة» و «علامة» ، أو لأنه جمع معقبة أي ملائكة معقبة أو جماعة معقبة. وقوله: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ليس من صلة الحفظ لأنه لا قدرة للملك ولا لأحد من الخلق على أن يحفظوا أحدا من قضاء الله وإنما هو صفة أخرى كأنه قيل: له معقبات من أمر الله يحفظونه، أو له معقبات يحفظونه، ثم بين سبب الحفظ فقال: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي من أجل أن الله أمرهم بحفظه فمن بمعنى الباء وقرأ به عليّ وابن عباس وغيرهما، ويجوز أن يكون صلة على معنى يحفظونه من بأس الله إذا أذنب بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب. قال ابن جريج: هو مثل قوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: 17] صاحب اليمين يكتب الحسنات والذي عن يساره يكتب السيئات. وقال مجاهد: ما من عبد إلا وله ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته. وقيل: المراد يحفظونه من جميع المهالك من بين يديه ومن خلفه لأن كلا من المستخفي والسارب إذا سعى في مهماته فإنما يحذر من الجهتين. وما الفائدة في تسليط هؤلاء على ابن آدم؟ قال علماء الشريعة: إن الشياطين يدعون إلى المعاصي والشرور وهؤلاء الملائكة يدعون إلى الخيرات والطاعات بالإلهامات الحسنة والإخطارات الشريفة، وإذا علم ابن آدم أن معه ملائكة يحصون عليه أفعاله وأقواله استحيا منهم وكان ذلك له رادعا قويا، وقد مر في هذا الباب كلام في «الأنعام» في قوله: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً فليتذكر [الآية: 61] . وللآية تفسير آخر منقول عن ابن عباس واختاره أبو مسلم الأصفهاني قال: المعقبات الحرس وأعوان الملوك، والجملة وهي قوله: لَهُ مُعَقِّباتٌ صفة للمستخفي والسارب أو حال منه لكونه نكرة موصوفة أي يستوي في علم الله السر والجهر، والمستخفي بظلمة الليل والسارب بالنهار مستظهرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 بالمعاونين والأنصار. والمقصود بعث الأمراء والسلاطين على أن يطلبوا الخلاص عن المكاره بعصمة الله لا بالحرس والأعوان ولذلك ختم الآية بقوله وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ممن يلي أمرهم ويدفع عنهم. قالت الأشاعرة: في هذا الكلام دلالة على أن العبد غير مستقل في الفعل لأنه إذا كفر العبد فلا شك أنه تعالى حكم بكونه مستحقا للذم في الدنيا والعقاب في الآخرة، فلو كان العبد مستقلا لحصل الإيمان وكان رادا لقضاء الله تعالى. وقالت المعتزلة: هذا معارض بما تقدم عليه من كلام الله وهو قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ لأنه لو ابتدأ بالعبد أول ما يبلغ بالضلال والخذلان كان ذلك من أعظم العقاب مع أنه ما كان منه تغيير. قالوا: وفيه دليل على أنه لا يعاقب أطفال المشركين بذنوب آبائهم لأنهم لم يغيروا ما بأنفسهم من نعمة فيغير الله ما بهم من النعمة إلى العقاب. أجابت الأشاعرة بأن هذا راجع إلى قوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بين الله سبحانه بذلك أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر حتى قالوا: إذا كان المعلوم أن فيهم من يؤمن أو في أعقابهم من يؤمن فإنه لا يستأصلهم. ورد بأن هذا خلاف الظاهر وقد صرح بذلك في سورة الأنفال في قوله: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً [الآية: 53] الآية. والحق أن ترتب النقمة على تغيير النعمة لا ينافي استناد تغيير النعمة إليه فإنه مبدأ المبادئ وانتهاء الوسائط وسبب الأسباب. التأويل: المر الألف الله لا إله إلا هو الحي القيوم، اللام له مقاليد السموات والأرض، الميم مالك يوم الدين، الراء رب العالمين من الأزل إلى الأبد. أقسم بهذه الأمور أن الذي أنزل على عبده محمد هو الحق، وأنه حبل الله الذي به يوصل المؤمن من هبوط عالم الطبيعة إلى ذروة عالم الحقيقة لأنه اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ المحسوسة بِغَيْرِ عَمَدٍ فكما أنه رفع السموات بقدرته فكذلك رفع الدرجات برحمته، أو كما أنه رفع السموات المحسوسة بعمد القدرة كذلك يرفع سموات القلوب بجذبة العناية، وسخر شمس الروح وقمر القلب أو النفس لتدبير مصالح العالم الصغير. وإنما تظهر هذه الغرائب والعجائب لحصول كمال الإيقان بالرجوع إلى الله والفناء فيه بل البقاء به. ومن حسن تدبيره أنه مد أرض البشرية وجعل فيها رواسي من الأوصاف الروحانية وأنهارا من منابع العناية، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وهي الملكات والأخلاق جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ملكة روحانية حميدة وأخرى نفسانية وذميمة. فالأولى نورانية كالنهار والأخرى ظلمانية كالليل، يغلب هذه تارة وتلك أخرى وهذا معنى قوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ وفي أرض الإنسانية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ هي النفس والقلب والروح السر والخفي حيوانية وملكوتية روحانية وجبروتية وعظموتية وَجَنَّاتٌ هي هذه الأعيان المستعدة لقبول الفيض عند بلوغها مِنْ أَعْنابٍ هي ثمرة النفس من الصفات التي هي أصل الإسكار كالغفلة والحمق والسهو واللهو وَزَرْعٌ هو ثمرة القلب فإن القلب كالأرض الطيبة التي منها غذاء الروح وَنَخِيلٌ هو الروح ذو الأخلاق الحميدة كالكرم والجود والشجاعة والقناعة والحياء والتواضع والشفقة صِنْوانٌ هو السر الجبروتي الكاشف عن أسرار الجبروت بين الرب والعبد فإنه إذا حكى السر للعبد كان المحكي مثالا لما عليه الوجود وَغَيْرُ صِنْوانٍ هو الخفي الواقف على أسرار العظموت التي لا مثل لها ولا أمثال ولا تحكى لعبده كما قال فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10] وكما قال: بين المحبين سر ليس يفشيه يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ هو ماء القدرة والحكمة اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى أي ما في استعداد كل مستعد من الفضائل، أو ما في كل ذرّة من ذرّات المكونات من الخواص والطبائع، أو ما في كل منها من الآيات الدالة على موجدها سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ أي ما يظهر من تلك الآيات الاستعدادات في جانبي التفريط والإفراط، والمراد ما ينقص من أرحام الموجودات أو المعدومات فمهما أوجد شيء نقص من رحم العدم واحد وزاد في رحم الوجود واحد وبالعكس في جانب الإعدام. مستخف بليل العدم وظاهر النهار الوجود له أي لله معقبات من العلم والقدرة من بين يدي المعلوم ومن خلفه أي في حالتي عدمه ووجوده من أزله إلى أبده يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي لأجل أمره حتى لا يخرج من قبضة تدبيره إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من الوجود والعدم حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من استدعاء الوجود أو العدم بلسان استحقاق الوجود أو العدم كما تقتضيه حكمته وتدبيره. [سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 29] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 القراآت: كَباسِطِ مثل بَسْطَةً [البقرة: 247] وقد مر في البقرة أم هل يستوي بياء تحتانية: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل. الآخرون بتاء التأنيث. يُوقِدُونَ على الغيبة: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون: على الخطاب إما للكفرة في قوله: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ وإما للمكلفين على العموم كما في القراءة الأخرى والضمير يعود إلى الناس المعلوم من سياق الكلام. الوقوف: الثِّقالَ هـ ج لاختلاف الفاعل مع اتفاق اللفظ مِنْ خِيفَتِهِ ج لذلك فِي اللَّهِ ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف الْمِحالِ هـ ط للآية وانقطاع النظم دَعْوَةُ الْحَقِّ ط يبالغه ط ضَلالٍ هـ وَالْآصالِ هـ وَالْأَرْضِ ط قُلِ اللَّهُ ط وَلا ضَرًّا ط وَالْبَصِيرُ هـ ط للعطف وَالنُّورُ ج لاحتمال أن يكون هذا الاستفهام بدلا عن الأوّل عَلَيْهِمْ ط الْقَهَّارُ هـ رابِياً ط مِثْلُهُ ط وَالْباطِلَ ط جُفاءً ج لاتفاق الجملتين مع كون «أما» للتفصيل فِي الْأَرْضِ ط الْأَمْثالَ هـ ط الْحُسْنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 ط لَافْتَدَوْا بِهِ ط الْحِسابِ هـ لا جَهَنَّمُ ج الْمِهادُ هـ هُوَ أَعْمى ط الْأَلْبابِ هـ لا الْمِيثاقَ ط للعطف سُوءَ الْحِسابِ هـ ط الدَّارِ هـ لا لأن قوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من عُقْبَى مِنْ كُلِّ بابٍ هـ ج لحق المحذوف أي قائلين. عُقْبَى الدَّارِ ط فِي الْأَرْضِ لا سُوءُ الدَّارِ هـ وَيَقْدِرُ ط الدُّنْيا ط مَتاعٌ ز مِنْ رَبِّهِ ط أَنابَ هـ بِذِكْرِ اللَّهِ الأوّل ط الْقُلُوبُ هـ مَآبٍ هـ. التفسير: لما خوّف عباده بإنزال ما لا مردّ له أتبعه دلائل تشبه اللطف من بعض الوجوه والقهر من بعضها وهي أربعة: البرق والسحاب والرعد والصاعقة. وقد مر في أوّل سورة البقرة تفسير هذه الألفاظ وقول الحكماء في أسباب حدوثها. وانتصاب خَوْفاً وَطَمَعاً إما على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع والتقدير ذا خوف وطمع، أو من المخاطبين أي خائفين وطامعين، وإما على أنه مفعول له على تقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع. وإنما وجب تقدير المضاف ليكون فعلا لفاعل الفعل المعلل كما هو شرط نصب المفعول له. ومعنى الخوف والطمع الخوف من وقوع الصواعق والطمع في نزول الغيث. وقيل: يخاف المطر من له فيه ضرر إما بحسب الزمان وإما بحسب المكان، فمن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر ويطمع فيه من له فيه نفع. وعن ابن عباس أن اليهود سألت النبي عن الرعد فقال: ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب. فعلى هذا الصوت المسموع هو صوت ذلك الملك الموكل المسمى بالرعد. وعن الحسن: خلق من خلق الله ليس بملك. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينشىء السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك فنطقه الرعد وضحكه البرق» . وهذا غير مستبعد من قدرة الله وخصوصا عند من لا يجعل البنية شرطا في الحياة. وقيل: المضاف محذوف أي يسبح سامعو الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له أو متلبسين بسبحان الله والحمد لله. وعن علي رضي الله عنه: سبحان من سبحت له. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا اشتد الرعد: «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك» . وقيل: معنى تسبيح الرعد أن هذا الصوت المخصوص لهوله ومهابته يدل على وجود إله قهار كقوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] . قال في الكشاف: ومن بدع المتصوّفة الرعد صعقات الملائكة، والبرق زفرات أفئدتهم. والمطر بكاؤهم. أما قوله: وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أي ويسبح الملائكة من هيبته وجلاله فقد ذكر جمع من المفسرين أنه عنى بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد فإنه سبحانه جعل له أعوانا. قال ابن عباس: إنهم خائفون من الله لا كخوف ابن آدم فإن أحدهم لا يعرف من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 على يمينه ومن على يساره ولم يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء. وقالت الحكماء: إنما تتم الآثار العلوية بقوى روحانية فلكية، فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار فهذا هو المراد بالملائكة في الآية. قوله: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ قد عرفت أنها نار تتولد من السحاب وتنزل بقوّة شديدة فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان. ووجه الاستدلال بها على الصانع أن النار حارة يابسة وطبيعة السحاب يغلب عليها الرطوبة والبرودة للأجزاء المائية فيه، وحصول الضد من الضد لا يكون بالطبع وإنما يكون بتدبير القادر المختار وتسخيره. ولما بين دلائل كمال العلم في قوله: اللَّهُ يَعْلَمُ ودلائل كمال القدرة في هذه الآية قال: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ لأن إنكار المدلول بعد وضوح الدليل جدال بالباطل وعناد محض، ويحتمل أن تكون الواو للحال أي فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم ويؤكده ما روي عن ابن عباس في رواية أبي صالح وابن جريج وابن زيد أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد بن ربيعة أقبلا يريدان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك. فقال: دعه فإن يرد الله به خيرا يهده. فأقبل حتى قام عليه فقال: يا محمد ما لي إن أسلمت؟ فقال: لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم. قال: تجعل لي الأمر بعدك. قال: لا ليس ذلك إليّ إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء. قال: فتجعلني على الوبر وأنت على المدر. قال: لا. قال: فماذا تجعل لي؟ قال: أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها. قال: أوليس ذلك إليّ اليوم؟ وكان أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر عليه من خلفه فاضربه بالسيف. فجعل يخاصم رسول الله ويراجعه ويجادل في الله يقول أخبرني عن ربك أمن نحاس هو أم من حديد، فدار أربد خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه فاخترط من سيفه شبرا ثم حبسه الله فلم يقدر على سله، وجعل عامر يومىء إليه فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع بسيفه فقال: اللهم أكفنيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته وولى عامر هاربا وقال: يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلا جردا وفرسانا مردا. فقال رسول الله: يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة- يريد الأوس والخزرج- فنزل عامر بيت امرأة سلولية فلما أصبح ضم عليه سلاحه وخرج وهو يقول: واللات لئن أصحر إليّ محمد وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذنهما برمحي فأرسل الله إليه ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التراب وخرجت على ركبته غدة في الوقت عظيمة فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: أغدّة كغدة البعير وموت في بيت السلولية؟ ثم مات على ظهر فرسه وأنزل الله الآية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 في هذه القصة. قوله: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ معناه شديد المكر والكيد لأعدائه. والمماحلة شدة المماكرة ومنه تمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه، ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان ومنه الحديث: «اللهم اجعله- أي القرآن- لنا شافعا مشفعا ولا تجعله علينا ماحلا مصدّقا» . ومنه سنة المحل لشدتها وصعوبة أمرها. وأما عبارات المفسرين فقال مجاهد وقتادة: شديد القوّة. أبو عبيدة: شديد العقوبة. الحسن: شديد النقمة. وقيل: شديد الحقد ومعناه راجع إلى إرادة إيصال الشر إلى مستحقه مع إخفاء تلك الإرادة عنه. ثم أثنى على نفسه بالحقية وشهد على الأصنام بالبطلان فقال: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ فأضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل كما تضاف الكلمة إلى الحق والمراد أنه سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة إذا أراد فهو حقيق بأن يوجه إليه الدعاء لما في دعوته من الجدوى والنفع بخلاف ما لا فائدة في دعائه. وعن الحسن: الحق هو الله والمعنى له دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب ولهذا أجاب النبي صلى الله عليه وسلم في الكافرين حين دعا عليهما. وعن ابن عباس: دعوة الحق قوله لا إله إلا الله. وقيل: الدعوة العبادة فإن عبادته هي الحق والصدق وقد سلف تحقيق الحق في أوّل هذا الكتاب في تفسير البسملة. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي الآلهة الذين يدعوهم أو يعبدهم الكفار من دون الله. لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إلا استجابة كاستجابة الماء من بسط يديه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر به. والحاصل أن الكفار وذلك الطالب كليهما مشترك في الخيبة لاشتراكهما في دعاء الجماد. وقيل: شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فبسطهما ناشرا أصابعه فلا جرم لا يبلغ طلبته. ثم أكد خيبتهم بقوله: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ في ضياع وذهاب عن المنفعة لأنهم إن دعوا الله لا يجيبهم لحقارة أمرهم عنده، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم. ثم زاد في الثناء فقال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإن كان السجود بمعنى وضع الجبهة فذلك ظاهر في المؤمنين لأنهم يسجدون له طَوْعاً أي بسهولة ونشاط وَكَرْهاً أي على تعب واصطبار ومجاهدة، وأما في حق الكفار فمشكل ووجهه أن يقال: المراد حق له أن يسجد لأجله جميع المكلفين من الملائكة والثقلين فعبر عن الوجوب بالوقوع، وإن كان بمعنى الانقياد والخضوع والاعتراف بالإلهية وترك الامتناع عن نفوذ مشيئته فيهم فلا إشكال نظيره قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 83] وقد مر في «آل عمران» أما قوله: وَظِلالُهُمْ فقد قال جمع من المفسرين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 كمجاهد والزجاج وابن الأنباري: لا يبعد أن يخلق الله للظلال أفهاما تسجد بها لله وتخضع له كما جعل للجبال أفهاما حتى اشتغلت بتسبيحه فظل المؤمن يسجد لله طوعا وهو طائع وظل الكافر يسجد لغير الله كرها ويسجد لله طوعا. وقال آخرون: المراد من سجود الظلال تقلصها وامتدادها بحسب ارتفاع الشمس وانحطاطها فهي منقادة مستسلمة لما أتاح الله لها في الأحوال. وتخصيص الغدوّ والآصال بالذكر لغاية ظهورها وازديادها في الوقتين. ومعنى الغدو والآصال قد مر في آخر «الأعراف» . واعلم أنه سبحانه ذكر آية السجدة في النحل بعبارة أخرى فقال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ [الآية: 49] لأنه تقدم ذكر ما خلق الله على العموم ولم يكن فيه ذكر الملائكة ولا الإنس بالصريح فعمم ليشمل الإنس وصرح بالملائكة. وقال في «الحج» أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الحج: 18] بتكرير «من» لأنه تقدم ذكر المؤمنين وسائر الأديان فقدم ذكر مَنْ فِي السَّماواتِ تعظيما لهم ولها وذكر من في الأرض لأنهم هم الذين تقدم ذكرهم. وأما في هذه السورة فقد تقدم ذكر العلويات من الرعد والبرق، ثم ذكر الملائكة وتسبيحهم، ثم انجر الكلام إلى ذكر الأصنام والكفار فبدأ في آية السجدة بذكر من في السموات والأرض وذكر الأرض تبعا ولم يذكر من فيها استخفافا بالكفرة وأصنافهم فتبين أنه أورد كل آية بما لاق بمقامها والله تعالى أعلم بمراده. ثم أخبر عن التسخير بسؤال التقرير ردّا على عبدة الأصنام فقال: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وهذه حكاية لاعترافهم لأنهم كانوا يعترفون بأنه الإله الأعظم وهذا كما يقول المناظر لصاحبه: أهذا قولك؟ فإذا قال هذا قولي قال هذا قولك فيحكي إقراره استئنافا منه ثم يقول له: فيلزمك على هذا القول كيت وكيت وذلك قوله: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ ويجوز أن يكون تلقينا لما ليسوا منكرين له. والهمزة في أَفَاتَّخَذْتُمْ للإنكار والمعنى أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ جمادات عجزة عن تحصيل المنافع والمضارّ لأنفسهم فضلا عن غيرهم. وموضع الإنكار أنهم جعلوا ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من العلم والإقرار سبب الإشراك، ثم جعلوا مع ذلك أخس الأشياء مكان أشرف الذوات وهذا جهل لا مزيد عليه فلهذا شبههم بالأعمى وشبه جهالاتهم بالظلمات وأنكر أن يكون شيء منهما مساويا لنقيضه فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ جمع الظلمات ووحد النور لأن السبل المنحرفة غير محصورة والصراط المستقيم واحد. ثم أكد الإنكار المذكور بقوله: أَمْ جَعَلُوا والمراد بل جعلوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خالقين مثل خلقه فَتَشابَهَ الْخَلْقُ أي خلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 الله وخلقهم عَلَيْهِمْ أي ليس لهذه الشركاء خلق مثل خلق الله حتى يشتبه الأمر عليهم بل ليس لهم خلق أصلا بل كان ما سوى الله عاجز عن الخلق بدليل قوله: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ المتوحد بالربوبية الذي لا يغالب وما عداه مربوب ومقهور. قالت المعتزلة: للعبد فعل وتأثير ولكنا لا نقول إنه يخلق كخلق الله لأن العبد يفعل لجلب منفعة أو دفع مضرة والله تعالى منزه عن ذلك. وأجيب بأن المخالفة من بعض الوجوه لا تقدح في المماثلة من وجه آخر، فلو كان فعل العبد كالتحريك مثلا واقعا بقدرته لكان مثلا للتحريك الواقع بقدرة الله تعالى وهذا الإشكال وارد أيضا على من يثبت للعبد كسبا. ثم ضرب مثلا آخر للحق وذويه والباطل ومنتحليه فقال: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ أي مياهها والوادي الفضاء المنخفض عن الجبال والتلال الذي يجري فيه السيل. وقيل: الوادي اسم للماء من ودى إذا سال، والمعنى سالت مياه. قال الفارسي: لا نعلم فاعلا جمع على «أفعلة» إلا هذا وكأنه حمل على «فعيل» فجمع على «أفعلة» كجريب وأجرية كما أن فعيلا حمل على فاعل فجمع على «أفعال» مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر. وقال غيره: نظير واد وأودية ناد وأندية. ومعنى التنكير في أودية أن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض. قال في الكشاف: معنى بِقَدَرِها بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم بدليل قوله: وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ وقال الواحدي: معناه سالت مياه الأودية بقدر الأودية فإن صغر الوادي قل الماء وإن اتسع كثر الماء. والزبد هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل ونحوه. ومعنى رابِياً قال الزجاج: طافيا فوق الماء. وقال غيره: زائدا بسبب انتفاخه من ربا يربو إذا زاد. ثم قال سبحانه إظهارا للكبرياء كما هو ديدن الملوك وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ «من» لابتداء الغاية أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء. أو للتبعيض بمعنى بعضه زبد مثله أراد به الأجسام المتطرقة المتفرقة الرابية. والإيقاد على الشيء قسمان: أحدهما أن لا يكون ذلك الشيء في النار كالآجر في قوله: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ [القصص: 38] والثاني أن يكون في النار كأنواع الفلز ولهذا قال هاهنا بزيادة لفظة فِي النَّارِ قال في الكشاف: فائدة قوله ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ مثل فائدة قوله بِقَدَرِها لأنه جمع بين الماء والفلز في النفع في قوله: وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ أي وأما ما ينفعهم به من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع بالفلز وهو اتخاذ الحلي من الذهب والفضة واتخاذ سائر أثاث البيت وأمتعته من الحديد والنحاس والرصاص والأسرب وما يتركب منها والمتاع كل ما تمتع به. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 وَالْباطِلَ أي يضرب الأمثال للحق والباطل ومثله في آخر الآية فاختصر الكلام بأن حذف الأمثال من الأوّل والحق والباطل من الثاني تأكيدا للمقصود مع رعاية الاختصار. ثم شرع في تتميم المثل قائلا فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً نصب على الحال وهو اسم لما ينفيه السيل. يقال: جفأ الوادي بالهمزة جفأ إذا رمى بالقذر والزبد، وكذلك القدر إذا رمت بزبدها عند الغليان وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ حاصل المثل أن الوادي إذا جرى طفا عليه زبد وذلك الزبد يبطل ويبقى الماء النافع في العيون والآبار والأنهار، وكذا الأجساد المتطرقة إذا أديبت لأجل اتخاذ الحلي أو سائر الأمتعة انفصل عنها خبث وزبد فيبطل ويتلاشى ويبقى ذلك الجوهر المنتفع به أزمنة متطاولة. وتطبيق المثل على الحق والباطل أنه سبحانه أنزل من سماء الوحي ماء بيان القرآن فسالت أودية القلوب بقدرها فإن كل قلب إنما يحصل فيه من أنوار علم القرآن ما يليق بذلك القلب على قدر استعداده. ثم إنه يختلط بذلك البيان شكوك وشبهات ولكنها بالآخرة تضمحل ويبقى العلم واليقين، فزبد السيل والفلز مثل للباطل في سرعة اضمحلاله وانسلاخه من المنفعة، والماء والفلز الصافي مثل للحق في البقاء والانتفاع به. ثم ذكر أحوال السعداء وتبعات الأشقياء فقال لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ أي فيما دعاهم إليه من التوحيد والنبوة والتكاليف الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ مبتدأ آخر خبره الجملة الشرطية بعده. وقيل: إن الكلام متصل بما قبله أي يضرب الله الأمثال لهذين الفريقين. وقوله: الْحُسْنى صفة لمصدر استجابوا أي الاستجابة الحسنى. وقوله: لَوْ أَنَّ لَهُمْ كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين ومن ذلك قوله أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ قال الزجاج: لأن كفرهم أحبط أعمالهم. وقال غيره: سوء الحساب المناقشة فيه. وعن النخعي: هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء. وقال الحكماء: هو ظهور آثار الملكات الردية والهيئات الذميمة على النفس ولم يكن قبل ذلك له شعور بها لاشتغاله بعالم الحس. وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ لأنهم أقبلوا على الدنيا وأعرضوا عن المولى فلا جرم إذا ماتوا فارقوا معشوقهم فأورثهم الحرمان والخسران والاحتراق بنار الفراق. ثم أنكر بعد هذه البيانات أن يسوّى بين الناقد والبصير والجاهل الضرير فقال أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أي أن الذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى القلب إِنَّما يَتَذَكَّرُ أي لا ينتفع بالأمثال إلا أُولُوا الْأَلْبابِ الذين يعبرون من القشر إلى الباب. ثم وصفهم بقوله: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ويجوز أن يكون نصبا على المدح وأن يكون مبتدأ خبره أُولئِكَ أما عهد الله فعن ابن عباس: هو المذكور في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ [الأعراف: 172] وقيل: هو كل ما قام عليه دليل عقلي أو سمعي من الأفعال والتروك ولا عهد أوكد من الحجة بدليل أن من حلف على الشيء فإنما يلزمه الوفاء به إذا ثبت بالدليل جوازه وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ تأكيد للوفاء بالعهد بعبارة أخرى تلزم الأولى كقولك: لما وجب وجوده لزم أن يمتنع عدمه. وقيل: الوفاء بعهد الله إشارة إلى ما كلف الله العبد به ابتداء، وعدم نقض الميثاق أراد به مما التزمه العبد بالنذر. وقيل: الوفاء بالعهد عهد الربوبية والعبودية والميثاق أعم لشموله كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله ومن سائر المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد، والوفاء بالعهد أمر مستحسن في العقول والشرائع كلها قال صلى الله عليه وسلم: «من عاهد الله فغدر كانت فيه خصلة من النفاق» «1» وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إفراد لما بينه وبين العباد بالذكر فقيل: المراد صلة الرحم. وقيل: هو مؤازة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاونته ونصرته في الجهاد. وقيل: رعاية جميع حقوق الناس بالشفقة عليهم والنصيحة في كل حال وكل حين ومن ذلك عيادة المريض وشهود الجنائز ومراعاة الرفقاء والجيران والخدم ومن يطيف به حتى الهرة والدجاجة وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وإن أتوا بكل ما قدروا عليه في باب التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله خوفا من وعيده كله وَيَخافُونَ خصوصا سُوءَ الْحِسابِ ويلزم ذلك أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا. وقيل: الخشية نوعان: خشية الجلال كالعبد إذا حضر بين يدي السلطان ومن ذلك خشية الملائكة يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50] وإلى هذا أشار بقوله: وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وخشية أن يقع في العبادة خلل أو نقص يوجب فسادها أو نقصان ثوابها. وإليه الإشارة بقوله: وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ. وَالَّذِينَ صَبَرُوا عن المعاصي وعلى الطاعات وعلى المصائب ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ لا لأجل أن يقال ما أورعه وما أزهده وما أصبره وغير ذلك من الأغراض الفاسدة، وإنما يصبر على التكاليف لأنها أحكام المعبود الحق ويصبر على الرزايا لأنها قسمة قسام متصرف في ملكه كيف يشاء، أو لأنه مشغول بالمقدر والقاضي لا بالقدر والقضاء. وقد يرضى العاشق بالضرب والإيلام لالتذاذه بالنظر إلى وجه معشوقه فهكذا العارف يصبر على البلايا والمحن لاستغراقه في بحر العرفان وفيضان أنوار المعروف عليه. وَأَقامُوا   (1) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب: 24. مسلم في كتاب الإيمان حديث: 106. أبو داود في كتاب السنّة باب: 15. الترمذي في كتاب الإيمان باب: 14. النسائي في كتاب الإيمان باب: 20. أحمد في مسنده (2/ 189، 198) بلفظ: «أربع من كن فيه كان منافقا أو كانت فيه خصلة من الأربع كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ..... وإذا عاهد غدر» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 الصَّلاةَ ولا يمتنع دخول النوافل فيها لقوله: «ما زال العبد يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحببته» «1» . وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يتناول النفل لأنه في السر أفضل، والفرض لأنه في الجهر أفضل كما مر في أواخر سورة البقرة وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعون بالتوبة وهي الخصلة الحسنة المعصية. قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها» «2» . وقيل لا يقابلون الشر بالشر وإنما يقابلونه بالخير كما روي عن الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. وعن ابن عباس: يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيىء غيرهم. يروى أن شقيق بن إبراهيم البلخي دخل على عبد الله بن المبارك متفكرا فقال: من أين أتيت؟ قال: من بلخ. فقال: وهل تعرف شقيقا؟ فقال: نعم. فقال: كيف طريقة أصحابه؟ فقال: إذا منعوا صبروا وإذا أعطوا شكروا فقال عبد الله: هكذا طريقة كلابنا، وإنما الكاملون الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا. وقيل: مراد الآية أنهم إذا رأوا منكرا أمروا بتغييره أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ عاقبة الدنيا وهي الجنة التي أرادها الله تعالى أن تكون مرجع أهلها. والعقبى مصدر كالعاقبة ومثله البشرى والقربى، ويجوز أن يكون مضافا إلى الفاعل والمعنى أولئك لهم أن يعقب أعمالهم الدار التي هي الجنة. ومعنى جَنَّاتُ عَدْنٍ تقدم في سورة براءة وَمَنْ صَلَحَ معطوف على فاعل يَدْخُلُونَها ويجوز أن يكون مفعولا معه. قال ابن عباس: يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعمل مثل أعمالهم. وقال الزجاج: بين أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة. قال الواحدي: والأول أصح لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة فلو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع، ويمكن أن يوجه قول الزجاج بأن المقصود بشارة المؤمن بأن أهل الصلاح من أصوله وفصوله وأزواجه يجتمعون به في دار الثواب فقد يمكن أن يكونوا جميعا في الجنة ولا يجتمعون في موضع. ولقائل أن يقول: الدخول أعم من الاجتماع ولا دلالة للعام على الخاص فصح اعتراض الواحدي. والآباء جمع أبوي كل واحد منهم فكأنه قيل: من آبائهم وأمهاتهم. وليس في الآية ما يدل على التمييز بين زوجه وزوجة ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه ويؤيده ما روي عن سودة أنه لما هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلاقها قالت: دعني يا رسول الله أحشر في زمرة نسائك.   (1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب: 38. (2) رواه الترمذي في كتاب البر باب: 55. الدارمي في كتاب الرقاق باب: 74. أحمد في مسنده (5/ 153، 158) . [ ..... ] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 قال ابن عباس: لهم خيمة من درة مجوّفة طولها فرسخ وعرضها فرسخ لها أبواب مصاريعها من ذهب يدخل عليهم الملائكة من كل باب يقولون لهم سلام عليكم بما صبرتم على أمر الله. وقال أبو بكر الأصم: من كل باب من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر ويقولون: نعم ما أعقبكم الله بعد الدار الأولى. وهذا يناسب قول حكماء الإسلام: إن لكل مرتبة من مراتب الكمالات جوهرا قدسيا وروحا علويا يختص بتلك الصفة، فبعد المفارقة يفيض على النفس الكاملة من ملك الصبر كمال مخصوص، ومن ملك الشكر كذلك وعلى هذا القياس. وقد يستدل بالآية على أن الملك أفضل من البشر وإلا فلم يكن دخولهم على المؤمنين موجبا لتحيتهم وإكرامهم. ويمكن أن يجاب بأن وجه التكريم هو مجيئهم بإذن الله ومن عنده لا مجرد المجيء: والباء في قوله: بِما صَبَرْتُمْ يتعلق بالسلام. والمعنى إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم على الطاعات وعن المحرمات. وقيل: يتعلق بمحذوف أي هذا الثواب بسبب صبركم أو بدل صبركم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. ثم أتبع أحوال السعداء أحوال الأشقياء وقد مر تفسيره في أوّل «البقرة» على أن الضد قد يعلم من الضد بسهولة وقد مر آنفا. وقوله: سُوءُ الدَّارِ في مقابلة عُقْبَى الدَّارِ كأن العاقبة لا تطلق إلا على العاقبة الحميدة كقوله وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] لأن غير الحميدة لا تستأهل لأن تكون عاقبة. وقال في الكشاف: المراد سوء عاقبة الدنيا ولا حاجة إلى هذا الإضمار بناء على ما قلنا. قال: ويجوز أن يراد بالدار جهنم وبسوئها عذابها ذكر أهل النظم أنه لما بين سوء حال الناقصين كان لقائل أن يقول: فما بالهم قد فتح الله عليهم أبواب الرزق في الدنيا فأجاب بقوله: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ والمراد أن الدنيا دار امتحان لا دار جزاء، فقد يتفق أن يكون الجاهل الكافر خليّ البال والعالم المؤمن رديّ الحال ولا تعلق لهذا المعنى بالكفر والإيمان. والتركيب للحصر أي هو وحده يوسع الرزق على من يشاء كأهل مكة ويَقْدِرُ أي يضيق ومعناه أنه يعطيه بقدر الضرورة وسد الرمق لا يفضل منه شيء وَفَرِحُوا يعني أهل مكة وأضرابهم بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح تحدث بنعمة الله وإظهارا لفضله عليهم وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا ونعيمها في جنب نعيم الآخرة إِلَّا مَتاعٌ شيء نزر يتمتع به أياما قلائل ثم بعد ذلك حسرات لا نهاية لها، ومثل هذا لا يوجب الفرح بل لا يجوّزه. ثم حكى نوعا آخر من قبائح الكفرة فقال: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وقد مر مثله في هذه السورة وذكرنا أنه ليس بتكرار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 محض إلا أن قوله في جوابهم قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ أقبل على الحق وحقيقته دخل في نوبة الخير فيه غموض. وأجيب بأنه يجري مجرى التعجب كأنه قيل: ما أعظم عنادكم بعد ما أنزلت من الآيات الباهرة أن الإضلال والهداية من الله، أو المراد لا تشتغلوا بطلب الآيات ولكن تضرعوا إلى الله في طلب الهدايات فإن الذي أضله الله يرى الآية سحرا، والذي هداه يراها معجزة. وقال الجبائي: المعنى إن الله يضل من يشاء عن طريق الصواب ويهدي إليه أقواما آخرين فلولا أنكم تستحقون العقاب لهداكم لهداكم إلى الصواب بإنزال ما اقترحتموه. وقيل: المراد أنه تعالى أنزل آيات ظاهرة ولكن الإضلال والهداية من الله فلو شاء لهداكم فلا فائدة في تكثير المعجزات الَّذِينَ آمَنُوا بدل ممن أناب وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ عن ابن عباس: يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت. والاطمئنان بآيات الوعد لا ينافي الوجل من آيات الوعيد حيث قال إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] أو المراد أن علمهم بكون القرآن معجزا يوجب حصول الطمأنينة لهم بأنه سبحانه واحد لا شريك له صادق في وعده ووعيده وبأن محمدا نبي حق أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ التحقيق فيه أن الإنسان متوسط الرتبة بين عالم الأرواح وعالم الأجساد، فإذا توجه إلى عالم الجسد اشتاق إلى التصرف فيه فيظهر له هناك أمور ضرورية في التعيش أدونها ليس بأهون من خرط القتاد فيتوزع فكره وتضطرب أحواله، أما إذا توجه إلى عالم الروح فإنه يزول الاضطراب ويتوحد المطلب ويحصل الاستغراق في بحر العرفان والاستنارة بنور الإيقان، ومن وقع في لجة البحر لا يبالي أين وقع: أنا الغريق فما خوفي من البلل وقيل: إن الإكسير إذا وقعت منه ذرة على النحاس انقلب ذهبا صافيا باقيا على كر الدهور، فإكسير جلال الله إذا وقع في القلب السليم كيف لا يقلبه جوهرا صافيا نورانيا آمنا من التغير والزوال الَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ خبره طُوبى لَهُمْ وجوّز في الكشاف أن يكون بدلا على حذف المضاف أي قلوب الذين آمنوا. وطُوبى مصدر من طاب يطيب كبشرى وواو منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها واللام للبيان مثل «سقيا لك» . والمعنى طيب لهم على الدعاء أو الخبر. عن ابن عباس: فرح وقرة عين. الضحاك: غبطة لهم. قتادة: حسنى لهم. الأصم: خير وكرامة. الزجاج: عيش طيب. والكل متقارب والعبارة الجامعة أن أطيب الأشياء في كل الأمور حاصل لهم. وقيل: طوبى شجرة في الجنة. حكى الأصم أن أصلها في دار النبي صلى الله عليه وسلم وفي دار كل مؤمن منها غصن. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «طوبى شجرة غرسها الله بيده تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 الجنة» وعن بعضهم أن طوبى هي الجنة بالحبشية والمآب المرجع. التأويل: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ برق أنوار الجلال فيغلب عليكم خوف الانقطاع واليأس، ويريكم برق أضواء الجمال فيغلب عليكم طمع الوصل ورجاء الاستئناس وَيُنْشِئُ السَّحابَ النوال والأفضال الثِّقالَ بمطر القبول والإقبال وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ وهو الملك المخلوق من نور الهيبة والجلال فتقع الهيبة في قلوب الخلق كلهم حتى الملائكة فيسبحون من خيفته، ويرسل صواعق القهر فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ من أهل الخذلان فيحرق حسن استعدادهم في قبول الإيمان. ومن نتائج ذلك أنهم يجادلون في ذات الله وفي صفاته كالفلاسفة الذين لا يتابعون الأنبياء والشرائع، وكبعض المتكلمين من أهل الأهواء والبدع لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ أي دعوته حق لمن دعاه فيستجيبه كما قالت السموات والأرض أتينا طائعين وأيضا له دعاة يدعون الخلق بالحق إلى الحق وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي بغير الحق لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إذ لا يؤثر في الخلق نصحهم كمن يبسط يده إلى الماء إراءة إلى الحق أنه يريد شربه وَما هُوَ بِبالِغِهِ فلا يستجابون على الحقيقة وإن استجيبوا في الظاهر لأنهم استجابوا لهم على الهوى كما دعوا إلى الحق بالهوى يدل عليه قوله: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء والصلحاء طَوْعاً ومن أرواح الكافرين والمنافقين والشياطين كَرْهاً بالتذليل والتسخير تحت الأحكام والتقدير وَظِلالُهُمْ أي نفوسهم فإن النفوس ظلال الأرواح، وليس السجود من شأنها لأنها أمارة بالسوء إلا ما رحم الرب فإنها تسجد بتبعية الروح. معنى آخر: ولله يسجد من في سموات القلوب من صفات القلوب والأرواح والعقول، طوعا ومن في أرض النفوس من صفات النفس والقوى الحيوانية والسبعية والشيطانية كرها، وظلالهم وهي آثارها ونتائجها. آخر: ولله يسجد الأرواح في الحقيقة وظلالهم وهي أجسادهم بالتبعية، وهذا السجود بمعنى وضع الجبهة، وخص الوقتان بالذكر لأن آثار القدرة فيهما أكثر، وإن أريد الانقياد والتسخير احتمل أن يراد بالوقتين وقتا الانتباه والنوم، ففي الأول تطلع شمس الروح من أفق الجسد، وفي الثاني تغرب فيه أنزل من سماء القلوب ماء المحبة. فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ النفوس فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً من الأخلاق الذميمة النفسانية والحيوانية، أو أنزل من سماء الأرواح ماء مشاهدة أنوار الجمال فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ القلوب فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً من الأوصاف البشرية، أو أنزل من سماء الأسرار ماء كشوف الجمال فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ الأرواح فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً من أنانية الروحانية، أو أنزل من سماء الجبروت ماء تجلي صفات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 الألوهية فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ الأسرار بقدرها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زبد الوجود المجازي وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ من البقاء في نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فلا تبقي ولا تذر وهي التذكية بالفناء ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ وهي التحلية بالبقاء الحقيقي أَوْ مَتاعٍ وهو التمتع به زَبَدٌ مِثْلُهُ مثل زبد البشرية وهو زبد المعرفة والتوحيد فَأَمَّا الزَّبَدُ في الأحوال كلها فَيَذْهَبُ جُفاءً بالفناء وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من البقاء بالله فَيَمْكُثُ فِي أرض الوحدة المستعدة لقبول الفيض الإلهي. لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وهي العناية الأزلية التي الاستجابة من نتائجها كقوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الأنبياء: 101] وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ حين دعاهم للوصول والوصال لو حصل لهم ما في أرض البشرية من أنواع اللذات والحظوظ وأضعافها لجعلوه فداء ألم عذاب القطيعة. وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ أي انفصلوا عما سواه ليتصلوا به سِرًّا بالانقطاع عما يشغل بواطنهم وَعَلانِيَةً بالانفصال عما يشغل ظواهرهم وَيَدْرَؤُنَ بالأعمال والأحوال الحسنة في صدق الطلب الأحوال السيئة من الوقائع والفترات وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ تبركا وتيمنا بهم تبعا لهم من كل باب دخلوه بالاستقلال على أقدام السير بالله إلى الله سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ عن غير الله وعلى صدق الطلب أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ القلوب أربعة: قلب قاس كقلوب الكفار والمنافقين فاطمئنانه بالدنيا وشهواتها رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، وقلب ناس وهو قلب المسلم المذنب كقوله: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] فاطمئنانه بالتوبة فتاب عليه وهدى، وقلب مشتاق وهو قلب المؤمن فاطمئناته بذكر الله كما في الآية. وقلب وحداني وهو قلب الأنبياء وخواص الأولياء فاطمئنانه بالله وصفاته كقول الخليل صلى الله عليه وسلم وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] أي بتجلي صفات الأحياء، وإذا صار القلب مطمئنا انعكس نور الاطمئنان من مرآة قلبه على نفسه فتصير مطمئنة أيضا فيستحق بجذبات العناية لخطاب ارْجِعِي [الفجر: 28] ثم أشار إلى أنّ الاطمئنان ثمرة غرس شجرة الإيمان والعمل الصالح في أرض القلب فقال: الَّذِينَ آمَنُوا الآية. فالإشارة بطوبى إلى حقيقة شجرة «لا إله إلا الله» مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة ولم يكن إلا في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وبتبعيته في قلوب المؤمنين ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «طوبى شجرة أصلها في داري وفرعها على أهل الجنة» . فافهم. [سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 43] كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 القراآت: متابي وعقابي ومآبي بالياء في الحالين: يعقوب والسرنديبي عن قنبل وافق سهل وعباس في الوصل بَلْ زُيِّنَ ونحوه بالإدغام: علي وهشام وَصُدُّوا بضم الصاد وكذا في «حم المؤمن» : عاصم وحمزة وعلي وخلف ويعقوب. الباقون بفتحها. وَيُثْبِتُ مخففا من الإثبات: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم. الآخرون بالتشديد من التثبيت الكافر لمن على التوحيد: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير. الباقون الْكُفَّارُ على الجمع. الوقوف: بِالرَّحْمنِ ط إِلَّا هُوَ ج لانقطاع النظم مع اتحاد القائل. مَتابِ 5 الْمَوْتى ط لأن جواب «لو» محذوف أي لكان هذا القرآن. جَمِيعاً ط في الموضعين وَعْدُ اللَّهِ ط الْمِيعادَ هـ أَخَذْتُهُمْ ج للاستفهام مع الفاء عِقابِ هـ بِما كَسَبَتْ ج لحق الخبر المحذوف التقدير كمن ينفع ولا يضر، ولأن قوله: وَجَعَلُوا يصلح استئنافا أو حالا بإضمار «قد» شُرَكاءَ ط سَمُّوهُمْ ط لحق الاستفهام مِنَ الْقَوْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 ط عَنِ السَّبِيلِ هـ هادٍ هـ أَشَقُ ج لاتفاق الجملتين مع النفي في الثانية واقٍ هـ الْمُتَّقُونَ هـ ط لأن التقدير فما يتلى عليك مثل الجنة وللوصل وجه يذكر في التفسير. الْأَنْهارُ ط وَظِلُّها ط اتَّقَوْا ق قد قيل: والوصل أجوز لأن الجمع بين بيان الحالين أدل على الانتباه النَّارُ هـ بَعْضَهُ ط وَلا أُشْرِكَ بِهِ ط مَآبِ هـ عَرَبِيًّا ط الْعِلْمِ لا لأن ما بعده جواب. واقٍ هـ وَذُرِّيَّةً ط بِإِذْنِ اللَّهِ ط كِتابٌ هـ وَيُثْبِتُ ج والوصل أجوز لتمام مقصود الكلام الْكِتابِ هـ الْحِسابُ هـ أَطْرافِها ط لِحُكْمِهِ ط الْحِسابِ هـ جَمِيعاً ط كُلُّ نَفْسٍ ط الدَّارِ هـ مُرْسَلًا ط وَبَيْنَكُمْ ط للعطف الْكِتابِ هـ. التفسير: عن ابن عباس والحسن أَرْسَلْناكَ كما أرسلنا الأنبياء قبلك فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ وقال آخرون: معنى التشبيه كما أرسلنا إلى أمم وآتيناهم كتبا تتلى عليهم كذلك آتيناك هذا الكتاب وأنت تتلوه عليهم فلم اقترحوا غيره؟ وقال في الكشاف: معناه مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني أرسلناك إرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات. ثم فسر كيف أرسله فقال: فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء. ثم ذكر مقصود الإرسال فقال لِتَتْلُوَا أي لتقرأ عَلَيْهِمُ الكتاب العظيم الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ وحال هؤلاء أنهم يكفرون بِالرَّحْمنِ للمفسرين خلاف في تخصيص لفظ الرحمن بالمقام فقال جار الله: المراد كفرهم بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء وما بهم من نعمة فمنه، فكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال مثل هذا القرآن المعجز المصدق لسائر الكتب عليهم. وعن ابن عباس في رواية الضحاك: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: اسجدوا للرحمن فقالوا وما الرحمن؟ فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: قُلْ لهم إن الرحمن الذين أنكرتم معرفته هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الواحد القهار المتعالي عن الشركاء. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في نصرتي عليكم وَإِلَيْهِ مَتابِ رجوعي فيثيبني على مصابرتكم. وقيل: نزلت في صلح الحديبية حين أرادوا كتاب الصلح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل بن عمرو والمشركون: ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة- يعنون مسيلمة الكذاب- اكتب باسمك اللهم وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون. فأنزل الله الآية. فعلى هاتين الروايتين كان الذم متوجها على كفرهم بإطلاق هذا الاسم على غير الله تعالى لا على جحودهم أو إشراكهم. روي أن أهل مكة قعدوا في فناء الكعبة فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليهم الإسلام فقال له رؤساؤهم- كأبي جهل وعبد الله بن أمية المخزومي- سير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 لنا جبال مكة حتى ينفسح المكان علينا واجعل لنا فيها أنهارا نزرع فيها، وأحي لنا بعض أمواتنا لنسألهم أحق ما تقوله أم باطل فقد كان عيسى يحيي الموتى، أو سخر لنا الريح حتى نركبها ونسير في البلاد فقد كانت الريح مسخرة لسليمان ولست بأهون على ربك منه فنزل قوله: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ عن مقارها وأزيلت عن مراكزها أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أي وقع به السير في البلاد فوق المعتاد شبه طي الأرض أو شققت فجعلت أنهارا وعيونا أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بعد إحيائهم به لكن هذا القرآن. قال الراوي: لما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذا الوحي قال: والذي نفسي بيده لقد أعطاني ما سألتم ولو شئت لكان ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم ثم إن كفرتم يعذبكم عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فاخترت باب الرحمة. وقال الزجاج: معناه ولو أن قرآنا وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى أي تنبيههم لما آمنوا به كقوله: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ [الأنعام: 111] الآية. وقال في الكشاف: هذه الآية لبيان تعظيم شأن القرآن. ومعنى تقطيع الأرض تصدعها كقوله ولَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً [الحشر: 21] ونقل في الكشاف عن الفراء أن الآية تتعلق بما قبلها والمعنى وهم يكفرون بالرحمن. وبمدلول هذا الكلام وهو قوله: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ وما بينهما اعتراض. ثم قال ردا عليهم بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً قال أهل السنة: يعني إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ولا اعتراض لأحد عليه. وقالت المعتزلة: له القدرة على الآيات التي اقترحتموها إلا أن علمه بأن إظهارها مفسدة يصرفه، أوله أن يلجئهم إلى الإيمان إلا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار. قالوا: ويعضده قوله: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ مشيئة الإلجاء لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً أولو يشاء لهداهم إلى الجنة، أو المراد نفي العموم لا عموم النفي وذلك أنه ما شاء هداية الأطفال والمجانين. أجاب أهل السنة بأن كل هذا خلاف الظاهر. ومعنى أَفَلَمْ يَيْأَسِ أفلم يعلم. وهذا لغة قوم من النخع. وقال الزجاج: إنه مجاز لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون نظيره استعمال الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك لتضمنهما إياهما، ويؤيده قراءة علي عليه السلام وابن عباس وجماعة أفلم يتبين وهو تفسير أَفَلَمْ يَيْأَسِ. وقيل: إن قراءتهم أصل والمشهورة تصحيف وقع من جهة أن الكاتب كتبه مستوي السينات. وهذا القول سخيف جدا والظن بأولئك الثقات الحفظة غير ذلك ولهذا قال في الكشاف: هذه والله فرية ما فيها مرية. وجوز أن يتعلق أَنْ لَوْ يَشاءُ ب آمَنُوا معناه أفلم يقنط من إيمان هؤلاء الكفرة الذين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا. ثم أوعد الكافرين بقوله: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني عامة الكفار تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارِعَةٌ داهية تقرعهم من السبي والقتل أَوْ تَحُلُّ القارعة قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ فيتطاير إليهم شررها. حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ وهو إسلامهم أو موتهم أو القيامة. وقيل: خاصة في أهل مكة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يبعث السرايا حول مكة فتغير عليهم وتختطف منهم، وعلى هذا احتمل أن يكون قوله: أَوْ تَحُلُّ خطابا أي تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم بجيشك كما في يوم الحديبية حتى يأتي وعد الله وهو فتح مكة، وكان قد وعده الله الفتح عموما وخصوصا وكان كما وعد وكان معجزا إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ قد مر البحث في أول سورة آل عمران ثم ازداد في الوعيد فقال: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ الآية. والإملاء الإمهال وقد مر هناك. والاستفهام في قوله: فَكَيْفَ كانَ عِقابِ للتقرير والتهديد. ثم أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجاج والتوبيخ والتعجب من عقولهم فقال: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ومعنى القائم الحفيظ والرقيب أي الله العالم بكل المعلومات القادر على كل الممكنات كمن ليس كذلك. وجوز في الكشاف أن يقدر الخبر بحيث يمكن عطف وجعلوا عليه التقدير: أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه وجعلوا له شركاء فيكون قوله: «لله» من وضع الظاهر مقام الضمير، وذكر السيد صاحب حل العقد أنه يجوز أن يجعل الواو في قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ للحال ويضمر للمبتدأ خبر يكون المبتدأ معه جملة مقررة لإنكار ما يقارنها من الحال والتقدير: أفمن هو قائم على كل نفس موجود والحال أنهم جعلوا له شُرَكاءَ فأقيم الظاهر مقام المضمر كما قلنا تقريرا للإلهية وتصريحا بها وإنه هو الذي يستحق العبادة وحده وهذا كما تقول معطي الناس ومغنيهم موجود ويحرم مثلي. ثم زاد في المحاجة فقال: قُلْ سَمُّوهُمْ أي جعلتم له شركاء فسموهم له من هم وأنبئوه بأسمائهم. وإنما يقال ذلك في الشيء المستحقر الذي لا يستحق أن يلتفت إليه فيقال: سمه إن شئت يعني أنه أخس من أن يسمى ويذكر، ولكنك إن شئت أن تضع له اسما فافعل. وقيل: المراد سموهم بالآلهة على سبيل التهديد. قال في الكشاف: «أم» في قوله أَمْ تُنَبِّئُونَهُ منقطعة كقولك للرجل قل لي من زيد أم هو أقل من أن يعرف. أقول: وذلك لأنه لا شيء محض إذ لو كان الشريك موجودا وهو أرضيّ لتعلق به علم العالم بالذات المحيط بجميع السفليات ونحوه قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ [يونس: 18] وقد مر في أول «يونس» . ثم أكد هذا المعنى بقوله: أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من الكلام من غير أن يكون له حقيقة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 كقوله: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها [يوسف: 40] وهذا الاحتجاج من أعاجيب الأساليب التي اختص بها القرآن الكريم المعجز فلله در شأن التنزيل. ثم بين سوء طريقتهم فقال: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ قال الواحدي: معنى «بل» هاهنا كما يقال دع ذكر الدليل فإنه لا فائدة فيه إنه كذا وكذا. والكلام في أن المزين هو الله تعالى أو غيره قد مر في أول سورة آل عمران، وكذا البحث فيمن قرأ وَصُدُّوا بضم الصاد، وأما من قرأ بالفتح فيحتمل أن يكون لازما أي أعرضوا عنه، ويحتمل أن يكون متعديا أي صرفوا غيرهم. والخلاف في قوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ تقدم في مواضع منها آخر الأعراف ثم عاد إلى الإيعاد فقال: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا من القتل والقتال واللعن والذم لا المصائب والأمراض لأنها قد تصيب المؤمنين أيضا، ولأنها مأمور بالصبر عليها والعقاب لا يكون كذلك وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ لأنه أشد وأدوم وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ أي من عذابه مِنْ واقٍ من حافظ أو ما لهم من جهة الله واق أي دافع ومانع من رحمته بل إنما يمنع رحمته منهم باختياره وحكمه. ثم عقب الوعيد بالوعد فقال: مَثَلُ الْجَنَّةِ وتقديره عند سيبويه فيما قصصنا عليكم في الجنة. وقال غيره: الخبر تَجْرِي كما تقول صفة زيد أسمر. وقال الزجاج: إنه تمثيل للغائب بالشاهد ومعناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار. وقيل: إن فائدة الخبر ترجع إلى قوله: أُكُلُها دائِمٌ كأنه قال مثل الجنة الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كما تعلمون من حال جناتكم إلا أن هذه أُكُلُها دائِمٌ كقوله: لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة: 33] . وَظِلُّها دائم أيضا. والمراد أنه لا حر هناك ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة، وقد مر هذا البحث في سورة النساء في قوله: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [الآية: 57] قيل: في الآية دلالة على أن حركات الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم كما يقوله أبو الهذيل وأتباعه. قال القاضي: وفيها دليل على أن الجنة لم تخلق بعد وإلا انقطع أكلها لقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] ، كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] قال: ولم ننكر أن تحصل الآن في السموات جنات تتمتع بها الملائكة ومن يعد حيا من الأنبياء والشهداء وغيرهم إلا أن جنة الخلد خاصة إنما تخلق بعد الإعادة. وأجيب بأنا نخصص عموم كل شيء هالك بالدليل الدال على أن الجنة مخلوقة وهو قوله: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] . ثم ذكر عقائد الفرق في شأن القرآن المتلو فقال: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ قيل: أراد بالكتاب القرآن يعني أن المسلمين يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من الشرائع والعلوم وَمِنَ الْأَحْزابِ الجماعات من اليهود والنصارى وغيرهم مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ لأنهم كانوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام المطابقة لشرائعهم وعقائدهم، وإنما أنكروا ما يختص به الإسلام من نعت الرسول وغيره قاله الحسن وقتادة. واعترض عليه بأن أهل الإسلام فرحهم بنزول القرآن معلوم فلا فائدة في ذكره. ويمكن أن يقال: المراد زيادة الفرح والاستبشار بما فيه من العلوم والفوائد وأنهم يتلقون نزول الوحي بالبشر والطلاقة لا بالتثاقل والجهالة. وقيل: الكتاب التوراة والإنجيل، والمراد من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وكعب ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلا: أربعون بنجران، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة، وثمانية من أهل اليمن، فرحوا بالقرآن لأنهم آمنوا به وصدقوه، والأحزاب بقية أهل الكتاب والمشركون قاله ابن عباس. وقال مجاهد: أراد أن اليهود والنصارى كلهم يفرحون بما أنزل إليك لأنه مصدق لما معهم، ومن سائر الكفرة من ينكر بعضه. واعترض بأنهم كلهم لا يفرحون بكل ما أنزل إلى رسولنا. وقوله: بِما أُنْزِلَ يفيد العموم. وأجيب بالمنع من أن ما يفيد العموم لصحة الاستثناء ولصحة إدخال كل عليه ولا تكرير وإدخال بعض ولا نقص. ثم لما بين عقائد الفرق أمر نبيه بأن يصرح بطريقته فقال: قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ ما أمرت إلا بعبادته وعدم الإشراك به ويندرج فيه جميع وظائف العبودية. ثم ذكر أنه مع كماله مكمل فقال: إِلَيْهِ أَدْعُوا خصه بالدعاء إلى عبوديته دون غيره كائنا من كان. ثم ختم بذكر المعاد فقال وَإِلَيْهِ مَآبِ لا مرجع لي إلا إليه. ومن تأمل في هذه الألفاظ عرف أنها مع قلتها مشتملة على حاصل علوم المبدأ والوسط والمعاد. ثم ذكر بعض فضائل القرآن وأوعد على الإعراض عن اتباعه فقال: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ الضمير يعود إلى ما في قوله: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أو إلى القرآن في قوله: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً ووجه التشبيه كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم كذلك أنزلنا إليك هذا القرآن. وقال في الكشاف: معناه ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأمورا فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه والإنذار بدار الجزاء حُكْماً عَرَبِيًّا نصب على الحال أي حكمة مترجمة بلسان العرب. وقيل: سمي حكما لأنه حكم على جميع المكلفين بقبوله والعمل به، أو لأنه اشتمل على أصول الأحكام والشرائع فجعل نفس الحكم للمبالغة. روي أن الكفار كانوا يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمور ليوافقهم فيها منها: أن يصلي إلى قبلتهم بعد ما حوله الله عنها فأوعد على ذلك. وعن ابن عباس: الخطاب له والمراد أمته وقد مر الوجوه في مثله في أوائل سورة البقرة. قال الكلبي: عيرت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح. ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء فأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 أَرْسَلْنا الآية. وفيه أن الرسل كانوا من جنس البشر لا من جنس الملك وما كان لهم نقص من قبل الزواج والولاد فقد كان لسليمان ثلاثمائة امرأة منكوحة وسبعمائة سرية، ولداود مائة، وذراري يعقوب أكثر من أن تحصى، وكانوا يقترحون الآيات فأجاب الله تعالى عنه بقوله: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ولا بد لكل نبي من معجز واحد والزائد على ذلك بل أصل النبوة وتعيين المعجز الواحد مفوض إلى مشيئته سبحانه ولا حكم لأحد عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخوفهم بنزول العذاب وظهور نصرة الإسلام وذويه فكانوا يكذبونه ويستبطئون موعده فأجيبوا بقوله: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ أي لكل وقت حكم مكتوب وحادث معين لا يتأخر ذلك الحكم والحادث عنه ولا يتقدم عليه. وقيل: هذا على القلب أي لكل مكتوب وقت معين. والتحقيق أنه لا حاجة إلى ارتكاب القلب لأن المعية تقتضي التلازم وكانوا ينكرون النسخ في الشرائع وفي التكاليف فنزل: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ أي يثبته فاستغنى بالصريح عن الكناية. والمحو ذهاب أثر الكتابة ونحوها. وفي الآية قولان: الأول أنها عامة وأنه سبحانه يمحو من الرزق ويزيد فيه وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر وابن مسعود، وقد رواه جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذاهبون إليه كانوا يدعون ويتضرعون إلى الله في أن يجعلهم سعداء إن كانوا أشقياء وهذا لا ينافي قوله: «جف القلم» «1» لأن المحو والإثبات أيضا من جملة ما قضى به. الثاني أنها خاصة في بعض الأشياء فقيل: أراد نسخ حكم وإثبات آخر مكانه وقد مر تمام البحث في النسخ في «البقرة» في قوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [الآية: 106] . وقيل: يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل ويثبت غيره. واعترض الأصم عليه بأنه ينافي قوله تعالى مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49] وأجاب القاضي بأن المراد صغائر الذنوب وكبائرها. ورد بأن هذا اصطلاح المتكلمين والمفهوم اللغوي أعم فيتناول المباحات أيضا. وقيل: يمحو بالتوبة ما يشاء من الكفر والمعاصي ويثبت بدلها الحسنة كقوله: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان: 70] . وقيل: يثبت في أول السنة أحكام تلك السنة فإذا مضت السنة محيت ويثبت كتاب آخر للمستقبل. وقيل: يمحو نور القمر ويثبت نور الشمس أو يمحو الدنيا ويثبت الآخرة. أما قوله: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أي أصله فقيل: هو اللوح المحفوظ. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان الله ولا   (1) رواه البخاري في كتاب القدر باب: 2. الترمذي في كتاب الإيمان باب: 18. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب: 10. أحمد في مسنده (2/ 176، 197) بلفظ: «جفّ القلم على علم الله» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 شيء ثم خلق اللوح المحفوظ وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى يوم القيامة» فعلى هذا عند الله كتابان: أحدهما اللوح المحفوظ وإنه لا يتغير، وثانيهما الذي تكتبه الملائكة على الخلق وهو محل المحو والإثبات. روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله سبحانه في ثلاث ساعات بقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء» . وقيل: هو علم الله تعالى المتعلق بجميع الموجودات والمعلومات وإنه لا يتغير ولا يتبدل بتغير المتزمنات وتبدلها، وقد مر تحقيقه في مواضع. ولما بين كيفية انطباق الحوادث على أوقاتها قال: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ يعني كيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من العذاب أو توفيناك قبل ذلك، فليس يجب عليك إلا التبليغ وما حسابهم وما جزاؤهم إلا علينا. والبلاغ بمعنى التبليغ كالسلام والكلام. ثم ذكر أن آثار حصول تلك المواعيد وأماراتها قد ظهرت وقربت وأن تباشير الظفر قد طلعت ولاحت فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ يعني إتيان القهر والغلبة بدليل نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها والأرض أرض مكة كان المسلمون ينالون من أهاليها ونواحيها في البعوث والسرايا والجيوش، والآن صارت الأرض أعم وأشمل ولله الحمد على إعلاء شأن المسلمين زاده الله علوا، فلا يزال ينقص شيء من ديار الكفر ويريد في بلاد الإسلام. ونقل عن ابن عباس أن المراد بنقص أطراف الأرض موت أشرافها وكبرائها وعلمائها وصلحائها. قال الواحدي: الأليق بالمقام هو القول الأول. وقد يوجه الثاني بأنه أراد أنهم إذا شاهدوا هذه التغيرات فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله عليهم الأمر فيجعلهم أذلة مغلوبين بعد أن كانوا أعزة غالبين. ثم أكد هذا المعنى بقوله: وَاللَّهُ يَحْكُمُ ومحل لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ نصب على الحال والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله وذلك أنه يعقبه بالرد والإبطال فكأنه قيل: والله يحكم نافذا حكمه. وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ عن ابن عباس: هو سريع الانتقام فيعاقبهم في الدنيا ثم في الآخرة. ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ برسلهم كنمرود بإبراهيم وفرعون بموسى واليهود بعيسى. فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً. قال الواحدي: لأن مكر جميع الماكرين بتخليقه وإرادته ولأنه لا يضر إلا بإذنه ولا يؤثر إلا بتقديره. وقالت المعتزلة: إنه جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره. وقيل: أراد فلله جزاء مكر الماكرين. قال الواحدي: والقول الأوّل أظهر بدليل قوله: يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ يريد أن أكسابها بأسرها معلومة لله تعالى وخلاف معلومه ممتنع الوقوع فلا يقدر العبد على خلاف معلومه. وناقضت المعتزلة بأنه أثبت لكل نفس كسبا فدل على أنه مقدور العبد. وأجيب بأن المقتضي للفعل عندنا هو مجموع القدرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 والداعي وهذا معنى قولهم الكسب حاصل للعبد. ثم ختم الآية بوعيد آخر إجمالي فقال: وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ من قرأ على الجمع فظاهر، ومن قرأ على الوحدة فالمراد الجنس. وعن ابن عباس أن المراد أبو جهل. وعن عطاء أراد المستهزئين وهم خمسة، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون. ثم ذكر حاصل شبههم مع الجواب القاطع فقال: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً والمراد من هذه الشهادة أنه أظهر المعجزات على وفق دعواه ولا شهادة أعلى من هذه لأن الشهادة القولية منا لا تفيد إلا غلبة الظن وهذه تفيد القطع بصحة نبوته. ثم عطف على اسم الله قوله: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أي الذي حصل عنده علم القرآن وفهم معانيه واشتماله على دلائل الإعجاز من النظم الأنيق والأسلوب العجيب الفائت لقوى البشر. فمن علم هذا الكتاب على هذا الوجه شهد بأنه معجز قاهر وأن الذي ظهر هذا المعجز عليه نبي حق ورسول صدق. وعن الحسن وسعيد بن جبير والزجاج: أن الكتاب هو اللوح المحفوظ. والمعنى كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح المحفوظ إلا هو يعني الله جل وعلا شهيدا. ويعضده قراءة من قرأ ومن عنده على من الجارة. واعترض على هذا القول بأن عطف الصفة على الموصوف بعيد لا يقال: شهد بهذا زيد والفقيه، وإنما يقال: زيد الفقيه. وقيل: المراد شهادة أهل الكتاب من الذين آمنوا برسول الله كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم. والاعتراض بأن إثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع جواز الكذب على أمثالهما لكونهم غير معصومين لا يجوز. وقال الزجاج: الأشبه أن الله تعالى لا يستشهد على صحة حكمه بغيره. وعن الحسن: لا والله ما يعني إلا الله. وعن سعيد بن جبير أن السورة مكية وابن سلام وأصحابه آمنوا بالمدينة بعد الهجرة والله أعلم بمراده. التأويل: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ يعنى أن الصفة الرحمانية اقتضت إيجاد جميع الموجودات وإفاضة جميع النعم كما أن صفة القهارية كانت مقتضية للوحدة بأن لا يكون معه شيء ولا نعمة أجل من بعث الرسل، ففيه صلاح حال الدارين لهم، فإذا جحدوا الرسول فقد جحدوا الرحمن وهذا سبب تخصيص هذا الاسم بالمقام كقوله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم: 93] ولذلك أمر بأن يقول في الجواب: هُوَ رَبِّي الذي رباني لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا يستحق العبادة إلا هو ولا أفوض أمري إلا إليه وإليه مرجعي كما كان منه مبدئي سُيِّرَتْ بِهِ جبال النفوس أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ أرض البشرية أَوْ كُلِّمَ بِهِ القلوب الميتة بتلاوته عليهم تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من كفرهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 بالرحمن قارِعَةٌ من الأحكام الأزلية تقرعهم في أنواع المعاملات التي تصدر عنهم موجبة للشقاوة أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ قالبهم بأن تصدر تلك المعاملة ممن يصحبهم: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ يدرك الشقاء الأزلي. ومن أمارات الشقاوة الاستهزاء بالأنبياء والأولياء ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أي أمسكتهم لئلا يرجعوا عن مقام الشقاوة لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالبعد والحجاب وعبودية النفس والهوى وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ بأنواع الحسرات والشعور بالهيئات والملكات الموجبة للدركات أُكُلُها دائِمٌ هي مشاهدات الجمال ومكاشفات الجلال وَظِلُّها أي إنهم في ظل معاملاتهم وأحوالهم التابعة لشمس وجودهم على الدوام وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هم السر والروح والقلب الذين فهموا أسرار القرآن وَمِنَ الْأَحْزابِ النفس والهوى والقوى مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ لثقل التكليف عليهم وللجهل بفوائده وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ المخالفين بالشرك في الطلب من بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ وهو طلب الوحدانية ببذل الأنانية وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً فيه أن الرسل جذبتهم العناية في البداية فترقوا من حضيض الحيوانية إلى أوج الروحانية ثم إلى معارج النبوة والرسالة في النهاية فلم يبق فيهم من دواعي البشرية ما يزعجهم إلى طلب الأزواج بالطبيعة والركون إلى الأولاد بخصائص الحيوانية بل رغبهم الله سبحانه في ذلك على وفق الشريعة بخصوصية الخلافة بإظهار صفة الخالقية ومثله وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الأنبياء: 8] يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ لأهل السعادة من أفاعيل أهل الشقاوة وَيُثْبِتُ لهم من خصال أهل السعادة وبالعكس لأهل الشقاوة وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ الذي قدر فيه خاتمة كل من الفريقين وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بالكشف بعض مقاماتهم كما أخبر عن العشرة المبشرة بأنهم في الجنة وعن غيرهم بأنه في النار. أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أرض البشرية فننقص منها بالازدياد في الأوصاف الروحانية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 (سورة إبراهيم عليه السلام) (مكية غير آيتين نزلتا في بدر أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا الآيتان حروفها 3434 كلمها 855 آياتها اثنتان وخمسون) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 17] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 القراآت: اللَّهِ الَّذِي بالرفع على الابتداء في الحالين: أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل، وقرأ يعقوب والخزاعي عن ابن فليح بالرفع إذا ابتدأ وبالخفض إذا وصل. الباقون بالجر مطلقا وعيدي بالياء في الحالين: يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل. الوقوف: الر قف كوفي الْحَمِيدِ هـ ط لمن قرأ اللَّهِ بالرفع. وَما فِي الْأَرْضِ ط شَدِيدٍ هـ لا بناء على أن الَّذِينَ صفة الكافرين عِوَجاً ط بناء على ما قلنا أو على أن الَّذِينَ منصوب أو مرفوع على الذم أي أعني الذين أوهم الذين، وإن جعل الَّذِينَ مبتدأ خبره أُولئِكَ فِي ضَلالٍ فلا وقف على عِوَجاً ولك أن تقف على شَدِيدٍ للآية بَعِيدٍ هـ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ط لأن قوله: فَيُضِلُّ حكم مبتدأ خارج عن تعليل الإرسال وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ط الْحَكِيمُ هـ بِأَيَّامِ اللَّهِ ط شَكُورٍ هـ ط نِساءَكُمْ ط عَظِيمٌ هـ لَشَدِيدٌ هـ جَمِيعاً لا لأن ما بعده جزاء حَمِيدٌ 5 وَثَمُودَ ط لمن لم يعطف وجعله مستأنفا ومن عطف فوقه على مِنْ بَعْدِهِمْ ط إِلَّا اللَّهُ ط مُرِيبٍ هـ وَالْأَرْضِ ط فصلا بين الاستخبار والإخبار مُسَمًّى ط لتقدير همزة الاستفهام في تُرِيدُونَ. مُبِينٍ هـ مِنْ عِبادِهِ ط بِإِذْنِ اللَّهِ ط الْمُؤْمِنُونَ هـ سُبُلَنا ط آذَيْتُمُونا ط الْمُتَوَكِّلُونَ هـ فِي مِلَّتِنا ط مِنْ بَعْدِهِمْ ط وَعِيدِ هـ عَنِيدٍ هـ لا لأن ما بعده وصف صَدِيدٍ هـ لا لذلك بِمَيِّتٍ ط غَلِيظٌ هـ. التفسير: كون السورة مكية أو مدنية إنما يفيد في الأحكام لتعرف المنسوخ من الناسخ وفي غير ذلك المكية والمدنية سيان. قوله: الر كِتابٌ أي السورة المسماة ب الر كتاب أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لغرض كذا وإن كان الر مذكورا على جهة التعديد فقوله: كِتابٌ خبر مبتدأ محذوف أي هذا القرآن أو هذه السورة كتاب. والظلمات استعارة لطرق الضلال ومظانه والنور مستعار للحق. واللام في لِتُخْرِجَ للغرض عند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 المعتزلة، وللغاية عند الحكيم، وإن شئت فقل: للعاقبة. واللام في النَّاسَ للجنس المستغرق ظاهرا ففيه دليل على أن دعوته صلى الله عليه وسلم عامة. ومعنى إخراج النبي صلى الله عليه وسلم إياهم مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أنه سبحانه جعل إنزال الكتاب عليه ودعوته صلى الله عليه وسلم إياهم به إلى الحق واسطة لهدايتهم لا مطلقا ولكن بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بتسهيله وتيسيره وكل ميسر لما خلق له. والحاصل أن المراد من الإذن معنى يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم ومتى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب عند المحققين، ولك أن تعبر عن ذلك المعنى بداعية الإيمان. احتج بالآية من قال: إن معرفة الله تعالى لا تمكن إلا بالتعليم الذي عبر عنه بالإخراج من الظلمة إلى النور. وأجيب بأن معنى الإخراج التنبيه، وأما المعرفة فإنما تحصل من الدليل وقوله إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بدل من قوله: إِلَى النُّورِ بتكرير العامل الجار. وجوز في الكشاف أن يكون على جهة الاستئناف كأنه قيل: إلى أي نور؟ فقيل: إلى صراط العزيز الحميد. وفي ذكر الوصفين تأكيد لحقية الصراط واستنارته لأن العزيز هو القادر الغالب، والحميد هو الكامل في خصائص الحمد من العلم والغنى وغير ذلك. ولا ريب أن من هذه صفته كان سبيله الذي نهج لعباده مفضيا إلى صلاح حالهم دينا ودنيا، إذ لا حاجة به إلى ارتكاب عبث أو قبيح. قال بعض العلماء: إنما قدم ذكر العزيز لأن الصحيح أن أول العلم بالله العلم بكونه قادرا غالبا وهو معنى العزيز، ثم بعد ذلك العلم بكونه عالما والعلم بكونه غنيا عن الحاجات والنقائص وهذا معنى الحميد، ثم أثنى على نفسه تحقيقا لحقية صراطه وبيانا لتنزهه عن العبث فقال: اللَّهِ الَّذِي مبتدأ وخبر والمبتدأ محذوف تقديره هو الله. ومن قرأ بالجر فعلى أنه عطف بيان للوصفين بناء على أن لفظ اللَّهِ جار مجرى اسم العلم، وقد سبق هذا البحث مشبعا في تفسير البسملة من سورة الفاتحة. ثم ختم الآية بوعيد من لا يعترف بربوبيته ولا يقر بوحدانيته وذلك قوله: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ وهو دعاء عليهم بالهلاك والثبور وكل سوء. قال في الكشاف: وجه اتصال قوله: مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ بالويل أنهم يولولون من العذاب ويقولون يا ويلاه. الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ أي يؤثرون ويختارون لأن المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون ذلك الشيء عنده أحب من الآخر وذلك أن الإنسان قد يحب الشيء ولكنه يكره كونه محبا له، أما إذا أحب الشيء وطلب كونه محبا له وأحب تلك المحبة فتلك نهاية المحبة وهذا شأن محبة أهل الدنيا للدنيا ولكنها أدنى مراتب الضلال. وقوله: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إشارة إلى الضلال. وقوله: وَيَبْغُونَها عِوَجاً أراد به الإضلال بإلقاء الشكوك والشبهات، واجتماع هذه الخصال نهاية الضلال فلهذا وصف ضلالهم بالبعد عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 الحق لأنه وقع عنه في الطرف الآخر فبينهما غاية الخلاف. ويمكن أن يكون إسنادا مجازيا باعتبار أن صاحبه بعيد عن طريق الحق. ثم لما منّ على المكلفين بإنزال الكتاب وإرسال الرسول ذكر أن من كمال تلك النعمة أن يكون ذلك الكتاب بلسان المرسل إليهم. احتج أصحاب أبي هاشم بالآية على أن اللغات اصطلاحية وضعها البشر واحد وجماعة وحصل التعريف للباقين بالإشارة والقرائن كالأطفال. قالوا: إن كانت توقيفية والتوقيف إنما يكون بالوحي والوحي موقوف على لغة سابقة لقوله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ أي بلغتهم لزم الدور. أجيب بأن الآية تختص برسول له قوم ولا قوم لآدم فينتهي التوقيف إليه فيندفع الدور. وتمسك طائفة من اليهود- يقال لهم العيسوية- بهذه الآية في أن محمدا رسول الله ولكن إلى العرب لأنهم قومه وهم الذين عرفوا فصاحة القرآن وإعجازه، فيكون القرآن حجة عليهم لا على غيرهم. والجواب سلمنا أن قومه هم العرب ولكن قوم النبي أخص من أهل دعوته. فقد يكون أهل دعوته الناس كافة بل الثقلين كما في حق نبينا صلى الله عليه وسلم لأن التحدي وقع بالفريقين في قوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء: 88] وإنما يكون أولى الألسنة لسان قوم الرسول لأنهم أقرب إليه فيرسل الرسول أوّلا إليهم ليبين لهم فيفقهوا عنه ما يدعوهم إليه، ثم ينوب التراجم في كل أمة من أمم دعوته مقام الأصل ويكفي التطويل ويؤمن اللبس والتخليط ويوجب للمفسرين الثواب الجزيل في التعلم والتعليم والإرشاد والاجتهاد. وقالت المعتزلة: إن مقدمة هذه الآيات وهي قوله: لِتُخْرِجَ النَّاسَ ووسطها وهو قوله: لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فإن فائدة النبيين إنما تظهر إذا كان للمكلف قدرة واختيار، وآخرها وهو قوله الْحَكِيمُ فإن الحكمة تنافي خلق الكفر، والقبائح تدل على صحة مذهب الاعتزال. وقالت الأشاعرة: قوله: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ وقوله: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وقوله: الْعَزِيزُ فإن العزة لا تجامع أن يكون لغيره قدرة وتصرف يؤيد مذهبنا. أقول: نحن قد حققنا مسألة الجبر مرارا فتذكر. ومما يخص هذا الموضع قول الفراء إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر فإن لم يكن النسق مشاكلا للأول فالرفع على الاستئناف هو الوجه كقوله: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ [الحج: 5] بالرفع نظيره في الآية قوله: فَيُضِلُّ بالرفع على الاستئناف كأنه قال: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلغة ألفوها واعتادوها. ومع ذلك فإن المضل والهادي هو الله والبيان لا يوجب حصول الهداية إلا إذا جعله الله واسطة وسببا لما بين أن المقصود من بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، أراد أن يبين أن الغرض من إرسال جميع الأنبياء لم يكن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 إلا ذلك وذكر لذلك مثالا. وخص موسى بالذكر لأن أمته أكثر الأمم سوى أمة محمد كما جاء في الحديث ولكثرة معجزاته الباهرة. ومعنى أَنْ أَخْرِجْ أي أخرج لأن الإرسال فيه معنى القول، ويجوز أن تكون أن ناصبة والتقدير بأن أخرج. ومعنى التذكير بأيام الله الإنذار بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم. ويقال: أيام العرب لحروبها وملاحمها. وعن ابن عباس: أيام الله نعماؤه من تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وبلاؤه إهلاك القرون، أو الأيام التي كانوا فيها تحت تسخير فرعون، أو المراد عظهم بالترغيب والترهيب إِنَّ فِي ذلِكَ التذكير والتنبيه دلائل لِكُلِّ صَبَّارٍ على الضراء شَكُورٍ على السراء. وذلك أن فائدة الآيات إنما تعود عليهم حيث ينتفعون بها. ولما أمر الله موسى بالتذكير حكى عنه أنه ذكرهم ولم يقل هاهنا «يا قوم» كما ذكر في المائدة اقتصارا على ما ذكره هناك. وقوله: عَلَيْكُمْ إن كان صلة للنعمة بمعنى الإنعام فقوله: إِذْ أَنْجاكُمْ ظرف للإنعام أيضا، وإن كان مستقرا بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرة عليكم جاز أن ينتصب إِذْ أَنْجاكُمْ ب عَلَيْكُمْ وفي الوجهين جاز أن يكون «إذ» بدلا من النعمة أي اذكروا وقت إنجائكم وهو بدل الاشتمال، وباقي الآية قد مر في أول البقرة. ومن جملة النعم قوله: وَإِذْ تَأَذَّنَ أي واذكروا حين آذن رَبُّكُمْ إيذانا بليغا ينتفي عنده الشكوك وتنزاح معه الشبهات. وقد تقدم في أواخر «الأعراف» أن فيه معنى القسم ولذلك دخلت اللام الموطئة في الشرط والنون المؤكدة في الجزاء، وقد سلف منا في هذا الكتاب أن الشكر بالحقيقة عبارة عن صرف العبد جميع أقسام ما أنعم الله تعالى به عليه فيما أعطاه لأجله. ولا شك أن المكلف إذا سلك هذا الطريق كان دائما في مطالعة أقسام نعم الله وفي ملاحظة دقائق لطفه وصنعه وفي إعمال الجوارح في الأعمال الصالحة الكاسبة لأنوار الملكات الحميدة، وشغل النفس بمطالعة النعم يوجب مزيد محبة المنعم، وقد يترقى العبد من هذه الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلا له عن رؤية النعم، ويصدر منه الأعمال الصالحة بطريق الاعتياد حتى يصير التطبع طباعا والتكلف خلقا، وهذا معنى اقتضاء الشكر مزيد الإنعام وقد يفيض عليه بحكم وعد الله الذي هو الحق والصدق سجال مواهبه الدينية والدنيوية لأنه مهما صار مطيعا منقادا لواجب الوجود سبحانه تجلى فيه نور الوجود، فلا غرو- أي لا عجب- أن ينقاد لذلك النور كثير من الممكنات وينفتح عليه باب التصرف في الخلق بالحق للحق، وإن كان حال المكلف بضد ما قلنا ظهر عليه أضداد تلك الآثار لا محالة وذلك قوله: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ يعني كفران النعم إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ثم بين أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحبه أو عليه والله تعالى غني عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 ذلك كله فقال: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ الآية. وذلك أن واجب الوجود في ذاته واجب الوجود في جميع صفاته ولن يكون كذلك إلا إذا كان غنيا عن الحاجات متصفا بكل الكمالات أهلا للحمد وإن لم يكن حامدا. قوله: أَلَمْ يَأْتِكُمْ يحتمل أن يكون خطابا من موسى لقومه والغرض تخويفهم بمثل هلاك من تقدم من القرون فيكون داخلا تحت التذكير بأيام الله، واحتمل أن يكون مخاطبة من الله على لسان موسى لقومه يذكرهم أمر القرون الأولى قاله أبو مسلم. والأكثرون على أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول صلى الله عليه وسلم تحذيرا لهم عن مخالفته. وقوله: وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ إن كان جملة من مبتدأو خبره فالمجموع اعتراض وإن كان قوله: وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ معطوفا على قوم نوح فقوله: لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ وحده اعتراض. ثم إن عدم العلم إما أن يكون راجعا إلى صفاتهم بأن تكون أحوالهم وأخلاقهم ومدد أعمارهم غير معلومة، وإما أن يكون عائدا إلى ذواتهم بأن يكون فيما بين القرون أقوام ما بلغنا أخبارهم كما روي عن ابن عباس: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون. وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله علمها عن العباد. ونظير الآية قوله: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الفرقان: 38] مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر: 78] قال القاضي: وعلى هذا الوجه لا يمكن القطع بمقدار السنين من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الوقت لأنه لو أمكن ذلك لم يبعد تحصيل العلم بالأنساب الموصولة. ثم إنه تعالى حكى عن هؤلاء الأقوام أنهم لما جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أتوا بأمور أحدها فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وفيه قولان: أحدهما أن المراد باليد والفم الجارحتان، وعلى هذا فيه احتمالان: الأول أن الكفار ردّوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل كقوله: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران: 119] . قاله ابن عباس وابن مسعود وهو الأظهر، أو وضعوا الأيدي على الأفواه ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك، أو وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن قفوا عن هذا الكلام واسكتوا عن ذكر هذا الحديث قاله الكلبي، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطا لهم من التصديق، وهذا قول قويّ لعطف قوله: وَقالُوا على قوله: فَرَدُّوا الاحتمال الثاني: أن تكون الضمائر راجعة إلى الرسل والمراد أن الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم على أفواه أنفسهم أرادوا أنهم لا يعودون إلى ذلك الكلام البتة، أو يكون الضميران الأخيران راجعين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 إلى الرسل، والمعنى أن الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم، أو يكون الضمير الأخير فقط عائدا إلى الرسل والمراد أن الكفار لما سمعوا وعظ الأنبياء ونصائحهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل تكذيبا لهم وردّا عليهم، أو وضعوا أيديهم على أفواه الأنبياء منعا لهم من الكلام فهذه جملة الاحتمالات على القول الأول. القول الثاني: أن ذكر اليد والفم توسع ومجاز. عن أبي مسلم: أن المراد باليد ما نطقت به الرسل بأفواههم من الحجج لأن دلائل الوحي من أجل النعم لأنهم إذا كذبوا الآيات ولم يقبلوها فكأنهم ردّوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل. ونقل محمد بن جرير عن بعضهم أنه يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب ردّ يده في فيه. فمعنى الآية أنهم سكتوا عن الجواب، وزيف بأنهم قد أجابوا بالتكذيب وقالوا: إنا كفرنا بما أرسلتم به. والمراد بما زعمتم أن الله أرسلكم به وكأنهم في أوّل الأمر حاولوا إسكات الأنبياء، وفي المرتبة الثانية صرحوا بتكذيبهم، وفي الثالثة قالوا: وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ وقد مر مثله في سورة هود. فإن قلت: كيف صرحوا بالكفر ثم بنوا أمرهم على الشك؟ قلنا: أرادوا إنا كافرون برسالتكم وإن نزلنا عن هذا المقام فلا أقل من أنا نشك في صحة نبوتكم، ومع كمال الشك لا مطمع في الاعتراف بنبوتكم. ثم إنه سبحانه حكى جواب الرسل وذلك قولهم: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أدخل همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في المشكوك فيه وأن وجود الله لا يحتمل الشك. قال الضعيف المذنب المفتقر إلى عفو ربه الكريم مؤلف الكتاب الحسن بن محمد المشتهر بنظام النيسابوري نظم الله أحواله في الدارين: إنه كان من عقيدتي أن العلم بوجود الواجب في الخارج من جملة البديهيات وكان يستبعد ذلك كثير من أقراني وأصحابي لما رأوا أن الأقدمين ما زالوا يبرهنون على ذلك في الكتب الكلامية والحكمية، فكنت قد كتبت لأجلهم رسالة في الإلهيات مشتملة على دلائل تجري مجرى المنبهات على ذلك المعنى، فإن الضروريات قد ينبه عليها وإن لم تحتج في الاقتناص إلى البراهين. والآن أرى أن أذكر بعض تلك المنبهات في هذا المقام لأنها مقررة لقوله سبحانه: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فأقول وبالله التوفيق: المفهوم بالنظر إلى ذاته وإلى الخارج إما أن يكون واجب الوجود فقط، أو واجب العدم فقط، أو ممكن الوجود والعدم معا، أو واجب الوجود والعدم معا، أو واجب الوجود وممكن الوجود والعدم معا، أو واجب العدم وممكن الوجود والعدم معا، أو واجب الوجود وواجب العدم وممكن الوجود والعدم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 جميعا. فهذه أقسام سبعة والعقل الصريح لا يشك في استحالة خمسة أقسام منها في الخارج: الأول واجب العدم لذاته فقط، الثاني واجب الوجود لذاته وواجب العدم في ذاته معا، الثالث واجب الوجود لذاته وممكن الوجود والعدم لذاته، والرابع واجب العدم لذاته وممكن الوجود والعدم لذاته، الخامس واجب الوجود لذاته وواجب العدم لذاته وممكن الوجود والعدم في ذاته. ثم نقول: إن العقل كما لا يشك في استحالة الوجود الخارجي لهذه الأقسام الخمسة ينبغي أن لا يشك في وجود الواجب لذاته فقط في الخارج، لأنه لو لم يكن موجودا في الخارج كان معدوما في الخارج. فإن كان عدمه لذاته كان من القسم الثاني من الممتنعات، وإن كان لغيره كان من القسم الثالث منها وكلاهما محال إذ المفروض خلاف ذلك فثبت كونه موجودا في الخارج بالضرورة وهو المطلوب، فهذه طريقة عذراء تيسرت لنا من غير احتياج إلى دور وتسلسل يرد عليها المنوع المشهورة. وجه ثان: الموجود في الخارج إما واجب أو ممكن، وهذه قضية اتفقوا على ضروريتها لأنها إن كان مستغنيا عن المؤثر في وجوده الخارجي فواجب وإلا فممكن فنقول: إن كانت القسمة قسمة تنويع حتى يكون المعنى أن الموجود في الخارج هذان النوعان فقد ثبت وجود الواجب في الخارج بالضرورة وهو المطلوب، وإن كانت القسمة قسمة انفصال ولا محالة تكون مانعة الخلو فقط. أما كونها مانعة الخلو فلاستحالة العقل رفعهما معا في الخارج ضرورة ثبوت موجود ما في الخارج بالضرورة، وأما أنها ليست بمانعة الجمع فلأن الممكن موجود بالضرورة ولا منافاة بين وجود الواجب ووجود الممكن بالضرورة وإلا لم يستدل العقلاء من وجود الممكن على إثبات الواجب، بل يستدلون منه على نفيه. وإذا كان الجمع بين الواجب والممكن ممكنا في الوجود والممكن موجود بالضرورة مع أنه مفتقر في وجوده إلى مؤثر موجود، فلأن يكون الواجب موجودا يكون أولى بالضرورة لاستغنائه عن المؤثر وكون ذاته كافية في إيجاب الوجود له وهذه مقدمة جلية مكشوفة لمن تأمل في مفهوم واجب الوجود إذ لا معنى لوجوب الوجود إلا أنه وجود يوجد البتة من تلقاء نفسه ومع قطع النظر عما سواه ولهذا قال المحققون: إن الوجود يقع على الواجب وعلى الممكن بالتشكيك بمعنى أنه في الواجب أولى وأولى منه في الممكن. وجه ثالث: طبيعة الواجب وطبيعة الممكن من حيث ذاتاهما يشتركان في صحة وجودهما الخارجي بالضرورة، ويفترقان في أن الواجب ذاته كافية في إيجاب الوجود له. والممكن لا يكفي فيه ذلك بل يحتاج في إيجاب وجوده الخارجي إلى الغير، ولا ريب أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 الأوّل أقرب إلى طبيعة الوجود من الثاني لأن الموقوف على مقدمات أكثر أعسر وجودا والثاني واقع بالضرورة فالأول أولى بكونه ضروري الوقوع. وجه رابع: نسبة كل محمول إلى موضوعه لا تخلو في نفس الأمر من أن تكون بالوجوب أو بالإمكان أو بالامتناع. فنسبة الوجود الخارجي إلى الماهيات الخارجية من حيث ذواتها لا تخلو من أحد الأمور الثلاثة، لكن نسبته إليها بالامتناع ظاهرة الاستحالة، فهي إما بالإمكان أو بالوجوب، ولا شك أن نسبة الوجود إلى ذات الموجود أولى من نسبته إلى غيره إذ الأصل عدم الغير، فكل ما دل البرهان على أن وجوده من غيره لتغير فيه أو نقص يحكم عليه بأنه ممكن الوجود، وما لم يدل البرهان فيه على ذلك بل يدل على وجوب وجوده بجميع صفاته الكمالية فهو واجب الوجود. ومن شك في وجود ما وجوده من تلقاء نفسه ويكون متصفا بجميع الكمالات بعد مشاهدة ما وجوده من غيره وهو عرضة للنقائص والرذائل كان أهلا لأن يهجر الحكمة. وجه خامس: نفس الإمكان نقص لا نقص فوقه لاستتباعه العجز والافتقار وصحة العدم عليه الذي لا ضعف مثله، والوجود المتصف به متحقق بالضرورة. فالوجود الذي يجوّزه العقل الصريح متصفا بصفة الوجوب كيف لا يكون متحققا، ومن استبهم عليه مثل هذا الجلي فلا يلومن إلا نفسه. وجه سادس: مقتضى ذات الشيء أقرب إيجابا له عند العقل من مقتضى كل ما يغايره، لكن الوجود الذي مقتضاه الإمكان ثابت في الخارج مع أن ثبوته في الخارج مقتضي الغير، فالوجود الذي مقتضاه الوجوب ثابت بالطريق الأولى. وجه سابع: الوجود الممكن ثابت بالضرورة وليس ثبوت ذلك الوجود من تلقاء نفسه وإلا كان وجودا واجبا لأنا لا نعني بالوجود الواجب إلا هذا. فإما أن يكون من وجود واجب وهو المطلوب، أو من وجود مثله وحينئذ ما لم يكن ثابتا في نفسه لم يتصوّر منه إفادة مثله، فإذن حصل لنا وجود ممكن موصوف الثبوت في نفسه وموصوفا بكونه مفيدا لوجود مثله. فإذا صح هذان الوصفان للوجود الممكن المفتقر فكيف لا يصحان للوجود الواجب الغني بل نسبتهما إلى الثاني أولى من نسبتهما إلى الأوّل بحكم الفهم الصحيح. وجه ثامن: كون الشيء موجودا في نفسه أقرب وأقبل عند العقل من كونه موجدا لغيره، إذ ليس كل من له وجود في نفسه يكون موجدا لغيره، وكل موجد لغيره موجود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 في نفسه. وإذا كان اتصاف الوجود الممكن مع ضعفه بأبعد الأمرين عن القبول واقعا، فكيف لا يكون اتصاف الوجود الواجب مع قوّته بأقربهما من القبول واقعا؟ وجه تاسع: انجذاب النفوس السليمة وغير السليمة من الأنبياء والأولياء والحكماء وسائر العقلاء من إخوان الصفاء وأخدان الوفاء وأرباب البدع والأهواء إلى وجود واجب متى رجعوا إلى أنفسهم وطالعوا ملكوت السموات والأرض وتأملوا في الأحوال الواردة عليهم من كشف كرب أو هجوم نعمة، أجلى دليل على وجود رب جليل منزه عن سمات النقص والأفول في حيز الإمكان، مفيض للخيرات مدبر للممكنات ولهذا قال رب السموات والأرضين عن الظلمة المعاندين وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] ثم أخبر أنهم يعتذرون عن أصنامهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، إذ لم يكن جحدهم وعنادهم عن تحقيق وصدق وإنما كانوا مكابرين في الظاهر ابتلاء من الله وشقاء منهم. فالحاصل أن المؤمن والمشرك والمقر والجاحد سيان في أنه تشهد فطرته بوجود صانع للعالم واجب في ذاته وصفاته، ولا أدل من ذلك على أنه ضروري الوجود. وجه عاشر: وهو الاستدلال بالآفاق كل موجود سوى الواجب فله ظهور في الخارج، لكنه إذا اعتبر في نفسه لم يكن له ذلك من تلقاء نفسه فكان فقيرا في نفسه وذلك أفول له في أفق الإمكان، وإذا كان ما مقتضى ذاته الأفول طالعا فما مقتضى ذاته الطلوع أولى بأن يكون طالعا. وجه حادي عشر: وهو الاستدلال بالأنفس. من تأمل في ذاته وفرض شخصه في هواء طلق لا يحس فيه بمتضاد وأغفل الحواس عن أفعالها وجد شيئا هو به هو، وبذلك يصح إنيته وهو نفسه الناطقة التي نسبتها إلى بدنه نسبة الملك إلى المدينة يتصرف فيها كيف يشاء. ومهما انقطعت علاقته عن البدن مات صاحبه وانخرط في سلك الجمادات، فكما أن البدن لضعفه وخسته مفتقر في قوامه وقيامه إلى مدبر يديمه ويقيمه، فجميع العالم الجسماني بل الممكنات بأسرها لخستها وفقرها تستند لا محالة إلى ما هو أشرف منها وذلك ما وجوده من تلقاء نفسه وهو الواجب الحق تعالى شأنه، ولولاه لتبدد نظام العالم ولم يكن من الوجود عين ولا أثر. وجه ثاني عشر: وهو أنور الوجوه وأظهرها وهو الاستدلال بالنور على النور. لا شك أنه نور ونعني به ما هو ظاهر في نفسه مظهر لغيره فنقول: إن كان ظهوره في نفسه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 بنفسه فهو المطلوب وإلا فيحتاج إلى ما يظهره. وما يظهره لا يمكن أن لا يكون ظاهرا في نفسه لأن ما لا يكون له ظهور في نفسه لا يفيد ظهورا لغيره فننقل الكلام إلى ذلك الظاهر بأن نقول: إن كان ظهوره في نفسه بنفسه فذاك وإلا احتاج إلى ما يظهره، ولا بد أن ينتهي في طرف الصعود إلى ما يكون ظهوره في نفسه بنفسه وإلا لم ينته الأمر في طرف النزول إلى الظاهر المفروض أوّلا. فنهاية ما لا نهاية له محال من أي جانب فرض، ولا تنتهض العودة اليومية نقضا علينا بناء على أنها مسبوقة بعودات ما لا تتناهى، فإن لا تناهيها في جانب الأزل محال عندنا. وكنا قد كتبنا في بعض كتبنا بيان استحالة ذلك، فإن نقلت الكلام إلى فيض الواجب وقلت الفيض الواقع في زمان الحال مسبوق بإفاضات غير متناهية لا محالة، قلنا: لو سلمنا ذلك لكنه لا يستحيل في الواجب لأن وجوده وأوصافه المعتبرة كلها مقتضيات ذاته، ومقتضى ذات الشيء يدوم بدوام الشيء ومستحيل انفكاكه عنه، فلا نهاية فيضانه تابعة للامسبوقة بغيره وكون وجوده من ذاته. ولا يلزم من كون مطلق الفيض أزليا أن يكون الفيض المخصوص أزليا، وإذا ثبت وجوب انتهاء الظاهر المفروض إلى ما هو ظاهر في نفسه بنفسه ثبت المطلوب وهو وجود نور الأنوار تعالى شأنه وبهر برهانه، وهو نهاية الممكنات في جانب الأزل وبدايتها في جانب الأبد، فهو قديم أزلي، ولأن وجوده مقتضى ذاته وما بالذات لا يزول فهو الباقي الدائم. هذا ما سنح من المنبهات لهذا الضعيف أثبتها في هذا الكتاب الشريف ليبقى إن شاء الله على وجه الدهر، وينظر فيها من هو من أهلها في كل عصر والله المستعان. قال بعض العقلاء: من لطم على وجه صبي فتلك اللطمة تدل على وجود الصانع المختار، وعلى حصول التكليف، وعلى ثبوت دار الجزاء، وعلى ضرورة بعثة النبي. أما الأوّل فلأن الصبي يصيح ويقول: من الذي ضربني وما ذاك إلا بشهادة فطرته على أن هذه اللطمة لما حدثت بعد عدمها وجب أن يكون حدوثها لأجل فاعل مختار أدخلها في الوجود، وإذا كان حال هذا الحادث مع حقارته هكذا فما ظنك بجميع الحوادث الكائنة في العالم العلوي والعالم السفلي؟! وأما دلالتها على وجوب التكليف فلأن ذلك الصبي ينادي ويصيح ويقول: لم ضربني ذلك الضارب؟ وفيه دلالة على أن الأفعال الإنسانية داخلة تحت التكليف، وأن الإنسان ما خلق حتى يفعل أي شيء اشتهى. وأما دلالتها على الجزاء فلأنه يطلب الجزاء على تلك اللطمة ولا يتركه ما أمكنه. وإذا كان الحال في هذا العمل القليل كذلك فكيف يكون الحال في جميع الأعمال؟! وأما وجوب النبوّة فلأنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم أن العقوبة الواجبة على ذلك القدر من الجناية كم هي، ولا فائدة في بعثة النبي إلا تبيين الشرائع والأحكام، ومما يدعو العاقل إلى الاعتراف بالمبدأ والمعاد أنه لو أقر بهما ثم بان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 أن الأمر على خلافه فلا ضرر فيه البتة، أما إذا أنكر الصانع والتكليف والجزاء وكانت هذه الأمور في الخارج ثابتة حقة ففي إنكارها أعظم المضار، فيلزم على العاقل أن يعترف بهذه الأمور أخذا بالأحوط. ثم إن الرسل بعد التنبيه على وجود الصانع ذكروا فائدة الدعوة وغايتها وذلك ثنتان: الأولى قوله: يَدْعُوكُمْ أي إلى الإيمان لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ استدل بالآية من جوّز زيادة «من» في الإثبات وذلك لقوله تعالى في موضع آخر: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53] . وأجيب بأنه لا يلزم من غفران جميع الذنوب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم غفران جميع الذنوب لغيرهم، فالوجه أن تكون «من» للتبعيض تمييزا بين الفريقين، ويؤيد ما ذكرنا استقراء الآيات فإنها ما جاءت في خطاب الكافرين إلا مقرونة ب «من» كما في هذه الآية، وفي سورة نوح وسورة الأحقاف. وقال في خطاب المؤمنين في سورة الصف يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الآية: 12] بغير «من» . وقيل: أراد أن يغفر لهم ما بينهم وبين الله بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم. وقيل: «من» للبدل أي لتكون المغفرة بدلا من الذنوب. وضعف بأنه لم يوجد له في اللغة نظير. وعن الأصم: أنه أراد إذا تبتم يغفر لكم بعض الذنوب التي هي الكبائر. فأما الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في أنفسها مغفورة. وزيفه القاضي بأن الصغيرة إنما تكون مغفورة من الموحدين حيث يزيد ثوابهم على عقابهم، فأما من لا ثواب له أصلا فلا يكون شيء من ذنوبه صغيرا ولا كبيرا مغفورا. وقيل: المراد أن الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته وإيمانه فلا يكون المغفور منها إلا ما ذكره وتاب منه. وقال الإمام فخر الدين الرازي: في الآية دلالة على أنه تعالى قد يغفر ذنب أهل الإيمان من غير توبة لأنه وعد بغفران بعض الذنوب مطلقا من غير اشتراط التوبة، وذلك البعض ليس هو الكفر لانعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان، فوجب أن يكون ذلك البعض هو ما عدا الكفر من الذنوب. ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه لم يشترط التوبة في الآية، لأن قوله: يَدْعُوكُمْ أي إلى الإيمان معناه آمنوا ليغفر لكم فكأنه قيل: إن الإيمان شرط غفران بعض الذنب فلم لا يجوز أن يكون ذلك البعض هو الكفر؟. الغاية الثانية قوله: وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى عن ابن عباس: أي يمتعكم في الدنيا باللذات والطيبات إلى الموت الطبيعي وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال. وقد مر تحقيق الأجل في أوّل «الأنعام» . ثم شرع في حكاية شبه الكفار وأنها ثلاث: الأولى قولهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وذلك لاعتقادهم أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية، فيمتنع أن يبلغ التفاوت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 بينهم إلى هذا الحد مع اشتراك الكل في الضروريات البشرية من الحاجة إلى الأكل والشرب والوقاع وغير ذلك. الثانية التمسك بطريقة التقليد وذلك قولهم: تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا الثالثة إنكارهم دلالة المعجزة على الصدق. وعلى تقدير التسليم زعموا أنهم ما أتوا بحجة أصلا لاعتقادهم أن معجزاتهم من جنس الأمور المعتادة، فاقترحوا سلطانا مبينا أي برهانا باهرا وحجة قاهرة. ثم إن الأنبياء سلموا أنهم بشر مثلهم ولكنهم وصفوا أنفسهم بمزية من عند الله بطريق المنة والعطية، وبهذا استدل من جعل النبوّة محض العطاء من الله. أجاب المخالف بأنهم لم يذكروا فضائلهم النفسانية والجسمانية تواضعا منهم، ولأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لها لخصائص فيهم. وأما الشبهة الثانية فإنما لم يذكروا الجواب عنها لأن صحة النبوّة تهدم قاعدة التقليد، وأما الشبهة الثالثة فجوابها وَما كانَ لَنا أي ما صح منا أن نأتي بآية اقترحتموها من تلقاء أنفسنا وإنما ذلك أمر يتعلق بمشيئة الله. والظاهر أن الأنبياء لما أجابوا عن شبهاتهم بما أجابوا فالقوم أخذوا في السفاهة والتخويف وعند ذلك قالت الأنبياء وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ إلى قوله: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ قال علماء المعاني: الأول لاستحداث التوكل، والثاني للسعي في إبقائه وإدامته. وقيل: معنى الأول أن الذين يطلبون المعجزات يجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله لا علينا، فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها. ومعنى الثاني إبداء التوكل على الله في دفع شر الكفار وسفاهتهم. وفي قولهم: وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا إشارة إلى ما سهل الله عليهم من طريقة التكميل والإرشاد وتحمل أعباء الرسالة والصبر على متاعبها، فإن تأثير نفوسهم في عالم الأرواح كتأثير الشمس في عالم الأجسام بالإضاءة والإنارة، وقد عرفوا بالنفوس المشرقة والأنوار الإلهية أو بالوحي الصريح أنه تعالى يعصمهم من كيد الأعداء ومكر الحساد. وفي قولهم: وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا دليل على أن الصبر مفتاح الفرج ومطلع الخيرات ومثمر السعادات. أما قول الكفار للرسل: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فقد مر البحث عليه في سورة الأعراف في قصة شعيب. وقال صاحب الكشاف: العود هاهنا بمعنى الصيرورة، حلفوا أن يخرجوهم البتة إلا أن يصيروا كافرين مثلهم فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ أجرى الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه أو أضمر القول. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من آذى جاره ورّثه الله داره» . ذلِكَ الذي قضى الله به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم حق لِمَنْ خافَ مَقامِي يريد موقف الله الذي يقف به عباده يوم القيامة وهو موقف الحساب، أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 المقام مصدر أي خاف قيامي عليه بالحفظ والمراقبة كقوله: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ [الرعد: 33] أو قيامي بالعدل والصواب مثل قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18] أو المقام مقحم أي خافني مثل سلام الله على المجلس العالي. وَخافَ وَعِيدِ قال الواحدي: هو اسم من الإيعاد وهو التهديد. قال المحققون: إن الخوف من الله مغاير للخوف من وعيد الله كما أن حب الله مغاير لحب ثواب الله، وهذه فائدة عطف أحد الخوفين على الآخر. قوله: وَاسْتَفْتَحُوا الضمير إما للرسل والمعنى استنصروا الله على أعدائهم أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة، وإما للكفرة بناء على ظنهم أنهم على الحق والرسل على الباطل. وعلى الأول يكون في الكلام إضمار التقدير: فنصروا وفازوا بالمقصود. وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ معاند. وأصل العنود الميل من العند الناحية والجانب كأن كلا من المتعاندين في جانب آخر. قيل: الجبار وهو المتكبر إشارة إلى أن فيه خلق الاستكبار، والعنيد إشارة إلى الأثر الصادر عن ذلك الخلق وهو كونه مجانبا للحق منحرفا عنه وأصل الكلام على الأول: واستفتح الرسل وخاب الكفرة، وعلى الثاني: استفتحوا وخابوا. فوضع الأعم موضع الأخص. والظاهر مقام الضمير تنصيصا على الكفرة بأن سبب خيبتهم عن السعادة الحقيقية تجبرهم وعنادهم مِنْ وَرائِهِ أي من بين يديه. يقال: الموت وراء كل أحد. وذلك أن قدام وخلف كلاهما متوار عن الشخص فصح إطلاق لفظ وراء على كل واحد منهما. وقال أبو عبيدة: هو من الأضداد لأن أحدهما ينقلب إلى الآخر. وهذا وصف حاله في الدنيا أو في الآخرة حين يبعث ويوقف. قال جار الله: قوله: وَيُسْقى معطوف على محذوف تقديره يلقى في جهنم ما يلقى وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ أي من ماء بيانه أو صفته هذا. والصديد ما يسيل من جلود أهل النار واشتقاقه من الصد لأنه يصد الناظر عن رؤيته أو تناوله. وقيل: يخلق الله في جهنم ما يشبه الصديد في النتن والغلظ والقذارة. يَتَجَرَّعُهُ يتكلف جرعه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي لم يقارب الإساغة فضلا عن الإساغة قيل: ليس المراد بالإساغة مجرد حصول المشروب في الجوف لأن هذا المعنى حاصل لأهل النار بدليل قوله: يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ [الحج: 20] وإنما المراد جريان المشروب في الحلق في الاستطابة وقبول النفس لا بالكراهية والتأذي. قلت: يحتمل أن يراد بالإساغة مجرد الحصول، والآية- أعني قوله: ويصهر- لا تدل على الحصول لقوله قبله: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ [الحج: 19] . وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ من جسده حتى من إبهام رجله. وقيل: من أصل كل شعرة. وقيل: المراد أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات ومع ذلك فإنه لا يموت فيها ولا يحيا. ثم أخبر- والعياذ بالله- أن العذاب في كل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 وقت يفرض من الأوقات المستقبلة يكون أشد وأنكى مما قبله فقال: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ عن الفضيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد. قال في الكشاف: يحتمل أن يكون أهل مكة استفتحوا أي استمطروا. والفتح المطر في سني القحط التي سلطت عليهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسقوا فذكر سبحانه ذلك، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء أحرّ وهو صديد أهل النار. وعلى هذا التفسير يكون قوله: وَاسْتَفْتَحُوا كلاما مستأنفا منقطعا عن حديث الرسل وأممهم. التأويل: بسم الله أي باسم الذات وهو الاسم الأعظم ابتدأت بخلق عالم الدنيا. إظهار الصفات الرحمانية التي هي للمبالغة لاشتراك الحيوان والجماد والمؤمن والكافر في الرحمة، وبخلق عالم الآخرة إظهار الصفة الرحيمية لاختصاصها بالمؤمنين خاصة. قوله: الر أي بآلائي وبلطفي إن القرآن أنزلناه إليك لتخرج الناس بدلالة نوره من ظلمات عالم الطبيعة والكثرة إلى نور عالم الروح والوحدة. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ الذي يربيهم هو لا أنت. وفي قوله: إِلى صِراطِ إشارة إلى أن القرآن هو طريق الوصول إلى من احتجب بحجب العزة والمحمدة واستتر بأستار مظاهر القهر واللطف. وفي الاختتام بقوله: اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إشارة إلى أن من بقي في أفعاله وهي المكونات لم يصل إلى صفاته، ومن بقي في صفاته لم يصل إلى ذاته، ومن وصل إلى ذاته بالخروج عن أنانيته إلى هويته انتفع بصفاته وأفعاله. وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ من شدة ألم الانقطاع عن الله. ثم أخبر أن الكافر الحقيقي هو الذي قنع بالإيمان التقليدي فأقبل على الدنيا وأعرض عن المولى فضل وأضل. إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ أي يتكلم معهم بلسان عقولهم. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا بواسطة جبريل الجذبة مُوسى القلب بآيات عصا الذكر واليد البيضاء من الصدق والإخلاص. أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ وهم الروح والسر والخفي من ظلمات الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ التي كان الله ولم يكن معه شيء وهو بحبهم بلاهم إِنَّ فِي ذلِكَ التذكير لَآياتٍ في نفي الوجود لِكُلِّ صَبَّارٍ بالله مع الله عن غير الله شَكُورٍ لنعمة الوجود الحقيقي ببذل الوجود المجازي ولَئِنْ شَكَرْتُمْ بالطاعة لَأَزِيدَنَّكُمْ في تقربي إليكم، لأزيدنكم في محبتي لكم، ولئن شكرتم في محبتي لكم لأزيدنكم في الخدمة، ولئن شكرتم في الخدمة لأزيدنكم في الوصول، ولئن شكرتم في الوصول لأزيدنكم في التجلي، ولئن شكرتم في التجلي لأزيدنكم في الفناء عنكم، ولئن شكرتم في الفناء لأزيدنكم في البقاء، ولئن شكرتم في البقاء لأزيدنكم في الوحدة، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ نعمتي في المعاملات كلها إِنَّ عَذابِي قطيعتي لَشَدِيدٌ وَقالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 مُوسى القلب إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ أيها الروح والسر والخفي بالإعراض عن الحق والإقبال على الدنيا بتبعية النفس ومن في أرض البشرية من النفس والهوى والطبيعة. يَدْعُوكُمْ من المكونات إلى الملكوت لِيَغْفِرَ لَكُمْ بصفة الغفارية مِنْ ذُنُوبِكُمْ التي أصابتكم من حجب عالم الخلق وَيُؤَخِّرَكُمْ في التخلق بأخلاقه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو وقت الفناء في الذات وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ للتوكل مقامات: فتوكل المبتدئ قطع النظر عن الأسباب في طلب المرام ثقة بالمسبب، وتوكل المتوسط قطع تعلق الأسباب بالمسبب، وتوكل المنتهي قطع تعلق ما سوى الله والاعتصام ببابه. لِمَنْ خافَ مَقامِي وهو مقام الوصول إليّ فإن هذا مقام الأخص، وأما خوف الخواص فعن مقام الجنة، وخوف العوام عن مقام النار وَخافَ وَعِيدِ القطعية واستنصر القلب والروح من أمر الله على النفس والهوى. مِنْ وَرائِهِ أي قدام النفس في متابعة الهوى جَهَنَّمُ الصفات الذميمة وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ هو ما يتولد من الصفات والأخلاق من الأفعال الرذيلة، يسقى منه صاحب النفس الأمارة يَتَجَرَّعُهُ بالتكلف وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ لأنه ليس من شربه يَأْتِيهِ أسباب الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ من كل فعل مذموم وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ هو عذاب القطيعة والبعد والله أعلم بالصواب. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 34] مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 القراآت: الرياح على الجمع: أبو جعفر ونافع. الباقون على التوحيد خالق السماوات والأرض بلفظ اسم الفاعل: حمزة وعلي وخلف. الباقون بلفظ الفعل. سُبُلَنا بإسكان الباء حيث كان: أبو عمرو لِي عَلَيْكُمْ بفتح الياء: حفص. بِمُصْرِخِيَّ بكسر الياء: حمزة. الآخرون بالفتح. أشركتموني بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل، وافق عمرو ويزيد وقتيبة وإسماعيل في الوصل الْبَوارِ ممالة: أبو عمرو وعلي. لِيُضِلُّوا بفتح الياء: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون بضمها. لِعِبادِيَ الَّذِينَ مرسلة: الياء: ابن عامر وحمزة وعلي ويعقوب والأعشى. الباقون بالفتح. مِنْ كُلِّ بالتنوين: يزيد وعباس. الباقون بالإضافة. الوقوف: عاصِفٍ ط بناء على أن ما بعده مستأنف كأن سائلا سأل هل يقدرون من أعمالهم عَلى شَيْءٍ ط الْبَعِيدُ هـ بِالْحَقِّ ط جَدِيدٍ هـ لا لأن ما بعده يتم معنى الكلام بِعَزِيزٍ هـ مِنْ شَيْءٍ ط لَهَدَيْناكُمْ ط مَحِيصٍ هـ فَأَخْلَفْتُكُمْ ط فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ج لاختلاف الجملتين أَنْفُسَكُمْ ط لابتداء النفي بِمُصْرِخِيَّ ط الحق أن من قال إن الابتداء بقوله: إِنِّي كَفَرْتُ قبيح فجوابه أن الكفر بالإشراك واجب كالإيمان مِنْ قَبْلُ ط أَلِيمٌ هـ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ط سَلامٌ هـ فِي السَّماءِ هـ لا رَبِّها ط يَتَذَكَّرُونَ هـ مِنْ قَرارٍ ط وَفِي الْآخِرَةِ ج لتكرار اسم الله تعالى في الفعلين مع أن كليهما مستقل بخلاف قوله: وَيَفْعَلُ اللَّهُ لأنه في المعنى بيان قوله: وَيُضِلُّ اللَّهُ ما يَشاءُ هـ الْبَوارِ لا جَهَنَّمُ ج لأن ما بعده يصلح استئنافا أو حالا من فاعل أَحَلُّوا أو من مفعوله أو من كليهما يَصْلَوْنَها ط الْقَرارُ هـ عَنْ سَبِيلِهِ ط إِلَى النَّارِ هـ وَلا خِلالٌ هـ رِزْقاً لَكُمْ ط بِأَمْرِهِ ج الْأَنْهارَ ج دائِبَيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 ج وَالنَّهارَ ج لحسن هذه الوقوف مع العطف لتفصيل النعم تنبيها على الشكر سَأَلْتُمُوهُ ط لابتداء الشرط مع تمام الكلام لا تُحْصُوها ط كَفَّارٌ هـ. التفسير: لما ذكر في الآيات المتقدمة أنواع عذاب الكفار أراد أن يبين غاية حسرتهم ونهاية خيبتهم. فقال: مَثَلُ الَّذِينَ وارتفاعه عند سيبويه على الابتداء والخبر محذوف أي فيما يتلى أو يقص عليكم مثلهم. وقوله: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم. وقال الفراء: المضاف محذوف أي مثل أعمال الذين كفروا. وإنما جاز حذفه استغناء بذكره ثانيا. وقيل: المثل صفة فيها غرابة فأخبر عنها بالجملة المراد صفة الذين كفروا أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ كقولك «صفة زيد عرضه مصون وماله غير مخزون» ويجوز أن يكون أَعْمالُهُمْ بدلا والخبر كَرَمادٍ وحده. والمراد بأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأسارى وعقر الإبل للأضياف وإغاثة الملهوفين وإعانة المظلومين، شبهها في حبوطها- لبنائها على غير أساس التوحيد والإيمان- برماد طيرته الريح في يوم عاصف. قال الزجاج: جعل العصف لليوم وهو لما فيه يعني الريح مجازا كقولك «يوم ماطر» . قال الفراء: وإن شئت قلت في يوم ذي عصوف أو في يوم عاصف الريح فحذف لذكره مرة. وقيل: المراد من أعمالهم عباداتهم للأصنام. ووجه حسرتهم أنهم أتعبوا أبدانهم فيها دهرا طويلا. ثم لم ينتفعوا بذلك بل استضروا به. وقوله: مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ القياس عكسه كما في «البقرة» لأن «على» من صلة القدرة ولأن مما كسبوا صفة لشيء ولكنه قدم في هذه السورة لأن الكسب- أعني العمل الذي ضرب له المثل- هو المقصود بالذكر ولهذا أشار إليه بقوله: ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي عن الحق والثواب. ثم كان لسائل أن يسأل: كيف يليق بحكمته إضاعة أفعال المكلفين؟ فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ مستتبعة للفوائد والحكم دالة على وجود الصانع القدير، فحبوط الأعمال إنما يلزم من كفر المكلفين وكونها غير مبنية على قاعدة الإيمان والإخلاص لا من أنه سبحانه يمكن أن يوجد في أفعاله عبث أو خلل أو سهو. ثم بين كمال قدرته واستغنائه عن الظلم والقبائح وعن عمل كل عامل فقال: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وقد مر مثله في سورة النساء. وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بمتعذر لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور. فإن قيل: الغرض من الآية إظهار القدرة وزجر المكلفين عن المعصية وذلك إنما يتم بقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ فما فائدة قوله: وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وهل فيه دليل على أن الفياض لا يوجد بدون الفيض؟ قلنا: على تقدير تسليمه لا تنحصر الفائدة فيه بل لعل الفائدة هي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 تأكيد التخويف فإن التألم من تصور العدم المجرد ليس كالتألم من تصور عدمه مع إقامة غيره مقامه، على أن الإذهاب لا يلزم منه الإعدام فيكون شبيها بعزل شخص ونصب غيره مقامه. وللحكيم أن يستدل بقوله: يُذْهِبْكُمْ على أن مادة الجوهر لا تعدم وإنما تنعدم الصور والأعراض. والجواب أن الإذهاب هاهنا بمعنى الإعدام، ولو سلم فلا يلزم من عدم وقوع الإعدام هاهنا امتناعه في جميع الصور. وفيه أنه الحقيق بأن يخشى عقابه ويرجى ثوابه فلذلك أتبعه أحوال الآخرة فقال: وَبَرَزُوا بلفظ الماضي تحقيقا للوقوع مثل وَسِيقَ [الزمر: 73] وَنادى [الأعراف: 48] والتركيب يدل على الظهور بعد الخفاء ومنه «امرأة برزة» إذا كانت تظهر للناس «وبرز فلان على أقرانه» إذا فاقهم. ومعنى برزوهم لله وهو سبحانه لا يخفى عليه شيء أنهم كانوا يستترون عن العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك خاف على الله. فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية، أو المضاف محذوف أي برزوا لحساب الله وحكمه. قال أبو بكر الأصم: قوله: وَبَرَزُوا لِلَّهِ هو المراد من قوله: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ وعلى قواعد الحكماء: النفس إذا فارقت الجسد زال الغطاء وكشف الوطاء وظهرت عليه آثار الملكات والهيئات التي كان يمنعها عن الشعور بها اشتغالها بعالم الحس فذلك هو البروز لله، فإن كانوا من السعداء برزوا لموقف الجمال بصفاتهم القدسية وهيئاتهم النورية، فما أجل تلك الأحوال ويا طوبى لأهل النوال. وإن كانوا من الأشقياء برزوا لموقف الجلال بأوصافهم الذميمة وهيئاتهم المظلمة، فما أعظم تلك الفضيحة وما أشنع تلك المهانة. كتب الضعفواء بواو قبل الهمزة على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو ومثله: علمواء بني إسرائيل [الشعراء: 197] والضعفاء العوام والأراذل، والذين استكبروا سادتهم وأشرافهم الذين استنكفوا عن عبادته تعالى فضلوا وأضلوا. قال الفراء: أكثر أهل اللغة على أن التبع جمع تابع كخدم وخادم وحرس وحارس. وجوز الزجاج أن يكون التبع مصدرا أي ذوي أتباع إما في الكفر أو في الأمور الدنيوية فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ هل يمكنكم دفع عذاب الله عَنَّا ومن في مِنْ عَذابِ اللَّهِ للتبيين وفي مِنْ شَيْءٍ للتبعيض. والمعنى هل تدفعون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله أو كلاهما للتبعيض بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ. عن ابن عباس: لو أرشدنا الله لأرشدناكم. قال الواحدي: معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال لأن الله أضلهم ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى. وقال في الكشاف: لعلهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه كقوله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة: 18] واعترض عليه بأن هذا خلاف مذهبه لأنهم لا يجوّزون صدور الكذب عن أهل القيامة كما مر في أوائل «الأنعام» في قوله: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الآية: 23] وجوز أيضا أن يكون المراد لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان، وزيف بأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف فقد فعله. وقيل: لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة، ويؤكد هذا التفسير قوله سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا وإعرابه كقوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [البقرة: 6] أرادوا إقناطهم من دفع العذاب بالكلية، أو أرادوا أن عتاب الضعفاء لهم وتوبيخهم إياهم نوع من الجزع ولا فائدة فيه ولا في الصبر. وجوز في الكشاف أن يكون قوله: سَواءٌ عَلَيْنا إلخ من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعا نظيره في وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر، قوله: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ [يوسف: 52] والمحيص المنجي والمهرب مصدر كالمغيب والمحيص، أو مكان كالمبيت والمضيف. ولما ذكر مناظرة شياطين الإنس أتبعها مناظرة شيطان الجن. ومعنى قُضِيَ الْأَمْرُ قطع وفرغ منه وذلك حين انقضاء المحاسبة. والأكثرون على أنه بعد الحساب ودخول الأشقياء النار والسعداء الجنة. وعند أهل السنة هو بعد خروج الفساق من النار فليس بعد ذلك إلا الدوام في الجنة أو في النار. يروى أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيبا في النار فيقول: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الخلق وقضى بينهم يقول الكافرون قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول» . ووعد الحق من إضافة الموصوف إلى صفته مثل «مسجد الجامع» ، أو تأويله وعد اليوم الحق، أو الأمر الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال. وفي الآية إضماران: الأول وعدكم وعد الحق فوفى لكم بما وعدكم. الثاني ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم الوعد. ووجه الإضمار الأول دلالة الحال عليه لأنهم كانوا يشاهدون وليس وراء العيان بيان، ولأن ذكر نقيضه وهو إخلاف الوعد من الشيطان يغني عنه، ووجه الثاني أيضا مثل ذلك. ثم ذكر طريق وسوسته اعتذارا منهم فقال: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ قال النحويون: هذا الاستثناء منقطع لأن الدعاء ليس من جنس السلطان فالمراد لكن دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوسة، ويمكن أن يوجه الاستثناء بالاتصال لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة تكون بالقسر وتارة بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه فهذا نوع من أنواع التسلط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ لأنكم ما سمعتم مني إلا الدعاء والتزيين وكنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبيائه فكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي ولا تلتفتوا إليّ. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة، وليس من الله إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين، ولو كان الأمر كما يزعم المجبرة لقال: «فلا تلوموني ولا أنفسكم» فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه، وقول الشيطان وإن لم يصلح للحجة إلا أن عدم إنكار الله تعالى عليه حجة. هذا مع أن أول كلام اللعين مبني على الإنصاف والصدق فكذا ينبغي أن يكون آخره. قال المحققون: الشيطان الأصلي هو النفس وذلك أن الإنسان إذا أحس بشيء أو أدركه ترتب عليه شعوره بكونه ملائما له، أو بكونه منافرا له ويتبع هذا الشعور الميل الجازم إلى الفعل أو إلى الترك، وكل هذه الأشياء من شأن النفس ولا مدخل للشيطان في شيء من هذه المقامات إلا بأن يذكره شيئا مثل أن الإنسان كان غافلا عن صورة امرأة فيلقى الشيطان حديثها في خاطره. وكيف يعقل تمكن الشيطان من النفوذ في داخل أعضاء الإنسان وإلقاء الوسوسة إليه؟ جوابه أن الشيطان إذا كان جسما لطيفا والله سبحانه ركبه تركيبا عجيبا لا يقبل التفرق والتمزق مع لطافته فلا يستبعد نفوذه في الأجرام الكثيفة كالنار تسري في الفحم وكالدهن في السمسم وإن كان جوهرا نورانيا مجبولا على الشر، والنفس الإنسانية أيضا جوهر علوي مجرد فلا يبعد وصول أثر أحدهما إلى الآخر. وذهب بعض الحكماء إلى أن كل روح من الأرواح البشرية فإنه ينتسب إلى روح معين من الأرواح السماوية، وأنها تتولى إرشاد الأرواح الإنسانية إلى مصالحها بالإلهامات الحسنة في حالتي النوم واليقظة. هذا إذا كانت خيرة، وأما إذا كانت شريرة فإنها توسوسها بالخواطر والأعمال القبيحة، والقدماء كانوا يسمون كلا من تلك الأرواح بالطباع التام. وذكر بعض العلماء احتمالا آخر وهو أن النفوس البشرية إذا فارقت أبدانها قويت في تلك الصفات التي اكتسبتها في تلك الأبدان وكملت فيها، فإذا حدثت نفس أخرى مشاكلة لتلك النفس المفارقة في بدن مشاكل لبدن تلك النفس المفارقة حدث بين تلك النفس المفارقة وبين هذا البدن نوع تعلق، فتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن وتعضدها على أحوالها وأفعالها، فإذا كان هذا المعنى في أبواب الخير كان إلهاما، وإن كان في باب الشر كان وسوسة. ثم حكى الله سبحانه عن الشيطان أنه قال: ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ قال ابن عباس: يريد بمعينكم ولا منقذكم. قال ابن الأعرابي: الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث. صرخ فلان إذا استغاث. وقال وواغوثاه، وأصرخته أي أغثته. وعاب النحويون على حمزة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 أنه قرأ: وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف في نحو «عصاي» فما بالها وقبلها ياء. وحاصل ما عابوا عليه أنه لم يوجد له نظير في استعمال العرب، لكنك تعلم أن القرآن حجة على غيره. قوله: إني كفرت بما أشركتموني إن كانت «ما» مصدرية فالمعنى إني كفرت أي أنا جاحد وما كان لي رضا بإشراككم لي في الدنيا مع الله في الطاعة وفي أن لي تدبيرا وتصرفا في هذا العالم، وإن كانت موصولة على ما قاله الفراء من أن «ما» في معنى «من» كقوله: «سبحان ما سخركن لنا» فالمراد إني كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالله الذي أشركتمونيه. ووجه نظم الكلام على هذا التفسير أن إبليس كأنه يقول: لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت بالله قبل أن كفرتم، وما كان كفري بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة، وهذا التقرير يناسب أصول الأشاعرة. أما قوله: إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فالأظهر أنه كلام الله، ويشمل إبليس ومن تابعه من الثقلين وليس ببعيد أن يكون من بقية كلام إبليس قطعا لأطماع أولئك الكفار عن إغاثته. ثم شرع في أحوال السعداء وقال: وَأُدْخِلَ على لفظ الماضي تحقيقا للوقوع، وقوله: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلق ب أُدْخِلَ أي أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره. وقرأ الحسن وَأُدْخِلَ على لفظ المتكلم. قال في الكشاف: فعلى هذا يتعلق قوله: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بما بعده يعني أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم. وقد تقدم معنى قوله: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ في أول سورة يونس. ثم لما بين أحوال السعداء وكان قد ذكر أحوال أضدادهم، أراد أن يذكر لكل من الفريقين مثلا. قال في الكشاف كَلِمَةً طَيِّبَةً نصب بمضمر أي جعل كلمة طيبة كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وهو تفسير لقوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أو ضرب بمعنى جعل أي جعل الله كلمة طيبة مثلا. ثم قال كشجرة طيبة أي هي كشجرة. وقال صاحب حل العقد: أظن أن الوجه أن يجعل قوله: كَلِمَةً عطف بيان، وقوله: كَشَجَرَةٍ مفعول ثان. عن ابن عباس: الكلمة الطيبة هي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله. والشجرة الطيبة شجرة في الجنة. وعن ابن عمر: هي النخلة. وقيل: الكلمة الطيبة كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة. والشجرة كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك. وقيل: لا حاجة بنا إلى تعيين تلك الشجرة، والمراد أن الشجرة الموصوفة ينبغي لكل عاقل أن يسعى في تحصيلها وادّخارها لنفسه سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن. أما صفات الشجرة فالأولى كونها طيبة ويشمل طيب المنظر والشكل والرائحة وطيب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 الفاكهة المتولدة منها وطيب منافعها. والثانية: أَصْلُها ثابِتٌ راسخ آمن من الانقطاع. ولا شك أن الشيء الطيب إنما يكمل الفرح بحصوله إذا أمن انقراضه وزواله. والثالثة وَفَرْعُها فِي السَّماءِ أي في جهة العلو وهذا تأكيد لرسوخ أصله فإن الأصل كلما كان أقوى وأرسخ كان الفرع أعلى وأشمخ. ومن فوائد ارتفاع الأغصان بعدها عن عفونات الأرض ونقاؤها عن القاذورات. قال في الكشاف: فرعها أعلاها ورأسها، ويجوز أن يريد وفروعها على الاكتفاء بلفظ الجنس. الصفة الرابعة تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ أي تعطي ثمرها كل وقت وقّته الله لأثمارها. وعن ابن عباس: الحين ستة أشهر لأن من حملها إلى صرامها ستة أشهر. وقال مجاهد وابن زيد: سنة لأن الشجرة من العام إلى العام تحمل الثمرة ولا سيما النخلة إذا تركوا عليها التمر بقي من السنة إلى السنة. وقال الزجاج: الحين الوقت طال أم قصر. والمراد أنه ينتفع بها في وقت يفرض ليلا ونهارا صيفا وشتاء بِإِذْنِ رَبِّها بتيسير خالقها وتكوينه. قال المحققون: معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته وطاعته هي الشجرة الطيبة بل لا طيب ولا لذيذ إلا هي، لأن المدركات المحسوسة إنما تصير مدركة لملاقاة شيء من المحسوس شيئا من الحاس. أما نور معرفة الله وإشراقها فإنما ينفذ ويسري في جميع جواهر النفس حتى إنه يكاد يتحد به. ثم إن سائر اللذات منقطعة متناهية، ولذة المعرفة لا تكاد تنتهي إلى حد. وإن عروق هذه الشجرة ثابتة راسخة في جوهر النفس الناطقة ولها شعب وأغصان صاعدة في هواء العالم الروحاني يجمعها التعظيم لأمر الله، ومنشؤها القوة النظرية، وغايتها الحكمة العملية بأقسامها وأصولها وفروعها، وأغصان نابتة في فضاء العالم الجسماني ومنبتها القوة العملية وفائدتها الحكمة الخلقية التي يجمعها الشفقة على خلق الله عموما وخصوصا. وأثر رسوخ شجرة المعرفة في القلب أن يكون نظره للاعتبار فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2] وسمعه للحكمة الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 18] ونطقه بالصدق والصواب وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً [الأحزاب: 70] . وكذا الكلام في سائر القوى والأعضاء. وهنالك مراتب لا تكاد تنحصر بحسب مراتب الاستعدادات. وإذا صار جوهر النفس كاملا بحسب هذه الفضائل فقد يكون مكملا لغيره وذلك قوله: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ. وفي قوله: بِإِذْنِ رَبِّها إشارة إلى أن النظر في جميع هذه المراتب يجب أن يكون على المفيض لا على الفيض، وعلى المنعم لا على النعمة. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ المبدأ وعرفانه والمعاد وإتيانه فيختار الكمال على النقصان. وأثر العرفان للمعروف لا للعرفان فيكون حينئذ جوهر النفس كلمة طيبة كما قال في حق عيسى بِكَلِمَةٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 مِنَ اللَّهِ [آل عمران: 39] . وإذا عرفت الكلمة الطيبة والشجرة الطيبة سهل عليك معرفة ضديهما. فالكلمة الخبيثة كلمة الشرك أو كل كلمة قبيحة أو كل نفس شريرة، والشجرة الخبيثة الباطل أو كل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والثوم ونحو ذلك. ومعنى اجتثت استؤصلت وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها ما لَها مِنْ قَرارٍ أي من استقرار مصدر كالثبات والنبات. وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء ما تقول في كلمة خبيثة؟ فقال: ما أعلم لها في الأرض مستقرا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها القيامة. قلت: وذلك أن الباطل لا قائل به ولا يوافقه فيه من هو بصدد الاعتبار فهو مضمحل زائل. والحق نقيض ذلك بل الباطل لا يستقر صاحبه عليه ولا يحصل له منه برد اليقين، وكذا النفس الخبيثة لا تكون لها طمأنينة ولا وقار، تراها أبدا تسعى في الطرق المضلة والسبل المنحرفة كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران. ولما شبه حال الفريقين بما شبه بين مآل حالهما فقال: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ أي الذي ثبت بالحجة والبرهان وتمكن في قلب صاحبه بحيث لم يكن للتشكيك فيه مجال. هذا في الحياة الدنيا فلا جرم إذا فتنوا في دينهم لم يزالوا كأصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد، وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا في القبور لم يتلعثموا، وإذا وقفوا بين يدي الجبار لم يبهتوا. عن ابن عباس: من داوم على الشهادة في الحياة الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقنه إياها. وقد ورد في حديث سؤال القبر عن البراء بن عازب مثل ذلك. والسبب العقلي فيه أن المواظبة على الفعل توجب رسوخ الملكة بحيث لا تزول بتبدل الأحوال وتقلب الأطوار. وإنما فسرت الآخرة هاهنا بالقبر لأن الميت ينقطع بالموت عن أحكام الدنيا ويدخل في أحكام الآخرة. فمعنى الآية يثبت الله الذين آمنوا بالله وبما يجب الإيمان به على ما آمنوا به في الدارين، أو يثبتهم الله فيهما بسبب القول الثابت على القول الثابت. وقيل: معنى الآية يثبتهم الله على الثواب والكرامة بسبب القول الثابت الذي كان يصدر عنهم حال ما كانوا في الحياة الدنيا، وسيصدر عنهم حال ما يكونون في الآخرة. ويرد عليه أن الآخرة ليست دار عمل وإن كان قوله: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلقا بقوله: يُثَبِّتُ أي ثبتهم على الثواب في الدارين بسبب القول. ورد عليه أن الدنيا ليست دار ثواب، ويمكن أن يناقش في هذا الإيراد لقوله سبحانه: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النحل: 97] وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ الذين وضعوا الباطل موضع الحق والشرك بدل التوحيد في الدارين، فلا جرم إذا سئلوا في قبورهم قالوا لا ندري. وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 من التثبيت والإضلال. ولا اعتراض لأحد عليه أو من منح الألطاف ومنعها كما تقتضيه الحكمة. ثم عجب من ظالمي مكة بقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ أي شكر نعمته كُفْراً أي وضعوا مكان الشكر الكفر أو بدلوا نفس النعمة كفرا أي سلبوا النعمة فلم يبق معهم إلا الكفر. وذلك أنه تعالى أسكنهم حرمه ووسع عليهم معايشهم وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فلم يقوموا بشكر تلك النعم فضربهم بالقحط سبع سنين وقتلوا يوم بدر وبقي الكفر طوقا في أعناقهم وأعناق من تابعهم وذلك قوله: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ أي الهلاك. وقوله جَهَنَّمَ عطف بيان وَبِئْسَ الْقَرارُ أي المقر مصدر سمى به. قوله: لِيُضِلُّوا من قرأ بضم الياء فاللام للغرض أو للعاقبة، ومن قرأ بفتحها فاللام للعاقبة لأن العاقل لا يريد ضلال نفسه ولكنه قد يريد إضلال الغير لمصلحة دنيوية. وإنما حسن استعمال اللام لأجل العاقبة من حيث إنها تشبه الغاية والغرض من قبل حصولها في آخر المراتب والمشابهة أحد الأمور المصححة للمجاز. قُلْ تَمَتَّعُوا أمر وعيد وتهديد. قال جار الله: فيه إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر مأمورون به قد أمرهم آمر مطاع هو آمر الشهوة. والمعنى إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وإنما سمى عيش الكفار تمتعا لأن إمهالهم في الدنيا على أيّ وجه يفرض يكون أسهل مما أعد لهم في الآخرة من العقاب. ومن الذين نزل فيهم؟ روي عن عمر أنه قال: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة وبنو أمية. فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين. وقيل: هم منتصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه. ولما أمر الكافرين بالتمتع بنعيم الدنيا تهديدا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بحث المؤمنين على خلاف ذلك وهو الإقبال على ما ينفعهم في الآخرة فقال: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ المقول محذوف لأن جواب «قل» يدل عليه التقدير: قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا. وجوز بعضهم أن يكون المذكور هو المقول بناء على أنه أمر غائب محذوف اللام. وإنما حسن الحذف لأن الأمر الذي هو «قل» عوض منه، ولو قيل: «يقيموا الصلاة وينفقوا» ابتداء بحذف اللام لم يجز. والخلال المخالة أراد أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في هذا اليوم الذي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مصادقة، وإنما ينتفع بالإنفاق لوجه الله. ونفي المخالة في هذه الآية وفي قوله في البقرة: لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ [الآية: 254] لا ينافي إثباتها في قوله: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] لأن المنفية هي التي سببها ميل الطبيعة ورغبة النفس، والمثبتة هي التي يوجبها الاشتراك في الإيمان والعمل الصالح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 ولما ختم أحوال المعاد عاد إلى المبدإ فقال: اللَّهُ وهو مبتدأ خبره الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وقد مر في أول «البقرة» . والمراد من السماء جهة العلو. وقيل: نفس السماء، وزيف بأن الإنسان ربما كان واقفا على قلة جبل عال ويرى الغيم أسفل منه، وإذا نزل من ذلك الجبل يرى الغيم ماظرا عليه. وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ كقوله في أواسط البقرة وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ [الآية: 164] وقد مر. ومعنى بِأَمْرِهِ بتيسيره وتسييره لأنه خلق موادها وألهم صنعتها وجعل الماء بحيث يسهل على وجهه جريها، ولأن الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال إنه أمر بكذا. ومنهم من حمل الأمر على الظاهر أي بقوله: «كن» . وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ وجه المنة فيها أن البحر قلما ينتفع به في العمارة والزراعة لعمقه ولملوحته ففجر الله الأنهار والعيون والآبار الصالحة للانتفاع بها كما لا يخفى وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي صيرهما تحت تصرفه وتسخيره بحيث يعود انتفاع ذلك عليكم من التسخين والترطيب والإضاءة والإنارة لأنهما مذللان للإنس. وقوله: دائِبَيْنِ نصب على الحال. والدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة مطردة أي يدأبان في مسيرهما وإنارتهما وسائر منافعهما وخواصهما، وهكذا معنى التسخير في قوله: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي قدر هذين العرضين المتعاقبين لراحة الإنسان ولمعاشه. ولما فصل طرفا من النعم أجمل الباقية منها بقوله: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي بعض جميع ما سألتموه. ومن قرأ بالتنوين ف «ما» إما نافية والجملة نصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه، أو موصولة بمعنى وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه وطلبتموه بلسان الحال. ثم بين أن نعم الله على عبيده غير متناهية فقال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي لا تقدرون على تعدادها لكثرتها بل لعدم تناهيها. قال الواحدي: النعمة هاهنا اسم أقيم مقام المصدر كالنفقة بمعنى الإنفاق ولهذا لم تجمع. ومن تأمل في تشريح الأبدان وفي أعضاء الحيوان وأجزائها من العروق الدقاق والأوردة والشرايين وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة ووقف على منافعها، عرف بعض دقائق نعم الله تعالى على عباده. وإذا جاوز النفس إلى الآفاق وسير فكره في أحوال الأجسام السفلية والعلوية، وقف من بديع صنعتها وعظيم منفعتها على ما يقضى منه العجب. وإذا عبر الملك إلى الملكوت تاه في أودية الحيرة والدهشة وتلاشى عقله عند أدنى سرادقات العزة والهيبة. قال الحكيم: إذا أخذت اللقمة الواحدة لتضعها في الفم فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها. أما الذي قبلها فكالخبز والطحن والزرع وغير ذلك من الآلات المعينة والأسباب الفاعلية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 والقابلية حتى تنتهي إلى الأفلاك والعناصر، وأما الذي بعده فكالقوى المعينة على الجذب والإمساك والهضم والدفع وكالأعضاء الحاملة لتلك القوى وكسائر الأمور النافعة في ذلك الباب خارجة من البدن أو داخلة فيه، فإنها لا تكاد تنحصر. وإذا كانت نعم الله تعالى في تناول لقمة واحدة تبلغ هذا المبلغ فكيف فيما جاوز ذلك؟ هذا إذا كنت في عالم الأجساد، فإذا تخطيت إلى عالم الأرواح وأجلت طرف عقلك في ميادين القدس وحظائر الأنس وصادفت بعض ما هنالك من الكرامات واللذات فلعلك تعرف حق النعمة إذ تغرق في لجة المنة أو تغرف من نهر المنحة والنعم هنالك على وفق الاستعداد وإدراك النعم بمقدار الفهم والرشاد، فإن كنت أهلا لها فذاك وإلا فلا تلم إلا نفسك إِنَّ الْإِنْسانَ أي هذا الجنس لَظَلُومٌ يظلم النعمة بإغفال شكرها كَفَّارٌ شديد الكفران لها وذلك أنه مجبول على النسيان والملالة فلا بد أن يقع في إغفال شكر النعمة إن نسيها، أو في كفران النعمة إذا ملها. وقيل: ظلوم في الشدائد بالشكاية والجزع كفار في السعة يجمع ويمنع. واعلم أنه ختم الآية في هذه السورة بما ختم وختمها في النحل بقوله: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وكأنه قال: إن كنت ظلوما فأنا غفور، وإن كنت كفارا فأنا رحيم فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير، ولا أجازي جفاك إلا بالوفاء، تلك صفتك في الأخذ وهذه صفتي في الإعطاء. التأويل: وَبَرَزُوا من القشور الفانية لِلَّهِ جَمِيعاً من القويّ والضعيف فَقالَ الضُّعَفاءُ وهم المقلدة لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا من المبتدعين إني كفرت بما أشركتموني آمن اللعين حين لا ينفع نفسا إيمانها وَأُدْخِلَ فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا خلى وطباعه لا يدخل الجنة لأنه خلق ظلوما جهولا سفلي الطبع، وإنما يدخله الله بفضله وعنايته جَنَّاتٍ القلوب تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أنهار الحكمة خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بعنايته وإلا لم يبق فيها ساعة كما لم يبق آدم. تحية أهل القلوب على أهل القلوب لسلامة قلوبهم، وتحيتهم على أهل النفوس لمرض قلوبهم ليسلموا من شر نفوسهم وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] أَلَمْ تَرَ أي ألم تشاهد بنور النبوّة كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للاستعداد الإنساني القابل للفيض الإلهي دون سائر مخلوقاته كَلِمَةً طَيِّبَةً هي كلمة التوحيد كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ عن لوث الحدوث مثمرة إثمار شواهد أنوار القدم أَصْلُها ثابِتٌ في الحضرة الإلهية فإنها صفة قائمة بذاتها وَفَرْعُها في سماء القلوب تُؤْتِي أُكُلَها من أنوار المشاهدات والمكاشفات كُلَّ حِينٍ يتقرب العبد إلى ربه يتقرب الرب تعالى إليه وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لمن نسي العهد الأوّل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الحالة الأولى فيسعون في إدراكها وَمَثَلُ كَلِمَةٍ تتولد من خباثة النفس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ أرض البشرية ما لَها مِنْ قَرارٍ لأنها من الأعمال الفانيات لا من الباقيات الصالحات. يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يمكنهم في مقام الإيمان بملازمة كلمة لا إله إلا الله والسير في حقائقها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لأن سير أصحاب الأعمال ينقطع بالموت وسير أرباب الأحوال لا ينقطع أبدا. وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ أرواحهم وقلوبهم ونفوسهم وأبدانهم، أنزلوا أبدانهم جهنم البعد ونفوسهم الدركات وقلوبهم العمى والصمم والجهل، وأرواحهم العلوية أسفل سافلين الطبيعة فبدلوا نعم الأخلاق الحميدة كفرا لأوصاف الذميمة اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سموات القلوب وأرض النفوس وَأَنْزَلَ مِنَ سماء القلوب ماءً الحكمة فَأَخْرَجَ بِهِ ثمرات الطاعات رِزْقاً لأرواحكم وَسَخَّرَ لَكُمُ فلك الشريعة لِتَجْرِيَ فِي بحر الطريقة بأمر الحق لا بالهوى والطبع. وكم لأرباب الطلب من سفن انكسرت بنكباء الهوى وَسَخَّرَ لَكُمُ أنهار العلوم الدينية وشمس الكشوف وقمر المشاهدات وليل البشرية ونهار الروحانية. ومعنى التسخير في الكل جعلها أسبابا لاستكمال النفس الإنسانية وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ من سائر الأسباب المعينة على ذلك، فجميع العالم بالحقيقة تبع لوجود الإنسان وسبب لكماليته وهو ثمرة شجرة المكونات فلذلك قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها لأن مخلوقاته غير منحصرة وكلها مخلوق لاستكماله إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ بإفساد استعداده كَفَّارٌ لا يعرف قدر نعمة الله في حقه والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 52] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 القراآت: إبراهام بالألف: هشام والأخفش عن ابن ذكوان إِنِّي أَسْكَنْتُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. وَمَنْ عَصانِي بالإمالة: علي دُعائِي بالياء في الحالين: ابن كثير ويعقوب. وقرأ أبو عمرو ويزيد وورش وحمزة وسهل والبرجمي والخزاز عن هبيرة وأحمد بن فرج عن أبي عمرو عن إسماعيل بالياء في الوصل. والباقون والهاشمي عن ابن فليح بغير ياء في الحالين. نؤخرهم بالنون: عباس والمفضل في رواية أبي زيد. الآخرون بالياء. لِتَزُولَ بفتح الأول ورفع الآخر: عليّ. الباقون بكسر الأول ونصب الآخر. الْقَهَّارِ مثل الْبَوارِ قطر بكسر القاف وسكون الطاء والراء مكسورة منونة. آن على أنه اسم فاعل: يزيد عن يعقوب والوقف على قراءته اني بالياء. الوقوف: الْأَصْنامَ ط مِنَ النَّاسِ ج مِنِّي ج فصلا بين النقيضين مع اتحاد الكلام رَحِيمٌ هـ الْمُحَرَّمِ لا لأن قوله: لِيُقِيمُوا يتعلق بقوله: أَسْكَنْتُ وكلمة رَبَّنا تكرار يَشْكُرُونَ هـ ما نُعْلِنُ ط وَلا فِي السَّماءِ هـ لا وَإِسْحاقَ ط الدُّعاءِ هـ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ز قد قيل: والوصل أولى للعطف ورَبَّنا تكرار دُعاءِ هـ الْحِسابُ ط الظَّالِمُونَ هـ ط الْأَبْصارُ هـ لا لأن ما بعده حال طَرْفُهُمْ ج لاحتمال أن قوله: وَأَفْئِدَتُهُمْ يكون من صفات أهل المحشر وأن يكون من صفة الكفار في الدنيا هَواءٌ هـ ط قَرِيبٍ لا لأن قوله: نُجِبْ جواب أَخِّرْنا الرُّسُلَ ط زَوالٍ هـ لا للعطف على أَقْسَمْتُمْ الْأَمْثالَ هـ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ ط الْجِبالُ هـ رُسُلَهُ ط انتِقامٍ هـ ط فإن انتقامه لا يختص بوقت والتقدير اذكر يوم الْقَهَّارِ هـ فِي الْأَصْفادِ هـ ج للآية ولأن الجملة بعد من صفات المجرمين النَّارُ هـ لا لتعلق لام كي ما كَسَبَتْ ط الْحِسابِ هـ الْأَلْبابِ هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 التفسير: إن قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم يحتمل أن تكون مثالا للكلمة الطيبة وأن تكون دعاء إلى التوحيد وإنكارا لعبادة الأصنام، وأن تكون تعديدا لبعض نعمه على عبيده فإن وجود الصالحين ولا سيما الأنبياء والمرسلين رحمة فيما بين العالمين كما قال: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا [آل عمران: 164] . وذلك بدعاء إبراهيم ومن نسله صلى الله عليه وسلم نبينا صلى الله عليه وسلم. حكى الله سبحانه عنه طلب أمور منها: قوله: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وقد مر في «البقرة» الفرق بين هذه العبارة وبين ما هنالك. ولا ريب أن في مكة مزيد أمن ببركة دعائه حتى إن الناس مع شدة العداوة بينهم كانوا يتلاقون بمكة فلا يخاف بعضهم بعضا، وكان الخائف إذا التجأ بمكة أمن، وللوحوش هناك استئناف ليس في غيرها، وإنما قدم طلب الأمن على سائر المطالب لأنه لولاه لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من مهمات الدين والدنيا ومن هنا جاز التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه. وسئل بعض الحكماء أن الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال: الأمن دليله أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان، ثم إنها تقبل على الرعي والأكل وإنها لو ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناول شيئا إلى أن تموت، فدل ذلك على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الألم الحاصل للجسد. ومنها قوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ قال جار الله: أهل الحجاز يقولون: جنبني شره بالتشديد. وأهل نجد: جنبني وأجنبني. وفائدة الطلب- والاجتناب حاصل- التثبت والإدامة ولا أقل من هضم النفس وإظهار الفقر والحاجة والتماس العصمة من الشرك الخفي. أما قوله: وَبَنِيَّ فقيل: أراد بنيه من صلبه وأنهم ما عبدوا صنما ببركة دعائه. وقيل: أولاده وأولاد أولاده ممن كانوا موجودين حال دعوته. وقال مجاهد وابن عيينة: لم يعبد أحد من ولد إبراهيم صنما وهو التمثال المصور، وإنما عبدت العرب الأوثان يعني أحجارا مخصوصة كانت لكل قوم زعموا أن البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلة البيت، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار ولذلك استحب أن يقال: طاف بالبيت ولا يقال دار بالبيت. وضعف هذا الجواب بأنه إذا عبد غير الله فالوثن والصنم سيان، على أنه سبحانه وصف آلهتهم بما ينبىء عن كونهم مصورين كقوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ [الأعراف: 198] الآيات إلى قوله: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [الأعراف: 198] . وقيل: إن هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده بدليل قوله: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي أي من أهلي فإنه يفهم منه أن من لم يتبعه في دينه فإنه ليس من أهله كقوله لابن نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: 46] وقيل: إنه وإن عمم الدعاء إلا أنه أجيب في البعض كقوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] . قالت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 الأشاعرة: لو لم يكن الإيمان والكفر بخلق الله تعالى لم يكن لالتماس التبعيد عن الكفر معنى. وحمله المعتزلة على منح الألطاف. أما قوله: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً فاتفقوا على أن نسبة الإضلال إليهن مجاز لأنهن جمادات فهو كقولهم «فتنتهم الدنيا وغرتهم» أي صارت سببا للفتنة والاغترار بها فَمَنْ تَبِعَنِي بقي على الملة الحنيفية فَإِنَّهُ مِنِّي أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال السدي: معناه ومن عصاني ثم تاب. وقيل: إن هذا الدعاء كان قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك. وقيل: المراد أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإسلام. وقيل: أراد أن يمهلهم حتى يتوبوا. وقيل: ومن عصاني فيما دون الشرك فاستدل الأشاعرة بإطلاقه من غير اشتراط التوبة على أنه شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر، وإذا ثبت هذا في حق إبراهيم صلى الله عليه وسلم ثبت في حق نبينا بالطريق الأولى. ثم أراد أن يعطف الله بدعائه قلوب الناس كلهم أو جلهم على إسماعيل ومن ولد منه بمكة وأن يرزقهم من الثمرات فمهد لذلك مقدمة فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي أي بعضهم بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أي لم يكن فيه شيء من زرع قط كقوله: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر: 28] أي لا اعوجاج فيه أصلا ولم يوجد ذلك فيه في زمن من الأزمان. وقد سبق في سورة البقرة قصة مجيء إبراهيم صلى الله عليه وسلم بإسماعيل وأمه هاجر إلى هنالك. وفي قوله: عند بيتك الحرام دليل على أنه دعا هذه الدعوة بعد بناء البيت لا في حين مجيئه بهما. ومعنى كون البيت محرما أن الله حرم التعرض له والتهاون به وجعل ما حوله حرما لأجل حرمته، وأنه لم يزل ممتنعا عزيزا يهابه كل جبار كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب. وقيل: سمي محرما لأنه حرم على الطوفان أي منع منه كما سمي عتيقا لأنه أعتق منه فلم يستول عليه، أو حرم على المكلفين أن يقربوه بالدماء والأقذار، أو لأنه أمر الصائرون إليه يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي ما أسكنتهم بهذا الوادي القفر إلا لإقامة الصلاة عند البيت وعمارته بالذكر والطواف. فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ «من» للتبعيض أي أفئدة من أفئدة الناس. قال مجاهد: لو قال أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند. وعن سعيد بن جبير: لو قال أفئدة الناس لحجه اليهود والنصارى والمجوس ولكنه أراد أفئدة المسلمين. وجوز في الكشاف أن يكون «من» للابتداء كقولك «القلب مني سقيم» . وعلى هذا فإنما يحصل التبعيض من تنكير أفئدة فكأنه قيل: أفئدة ناس. ومعنى تَهْوِي تسرع إِلَيْهِمْ وتطير نحوهم شوقا ونزاعا. وقيل: تنحط وتنحدر. الأصمعي: هوى يهوي هويا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 بفتح الهاء إذا سقط من علو إلى سفل وفي هذا الدعاء فائدتان: إحداهما ميل الناس إلى تلك البلدة للنسك والطاعة، والأخرى نقل الأقمشة إليهم للتجارة، وفي ضمن ذلك تتسع معايشهم وتكثر أرزاقهم ومع ذلك قد صرح بها فقال: وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ فلا جرم أجاب الله دعاءه فجعله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء. وقيل: أراد أن يحصل حواليها القرى والمزارع والبساتين. ثم ختم الآية بقوله: لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ليعلم أن المقصود الأصلي من منافع الدنيا وسعة الرزق هو التفرغ لأداء العبادات وإقامة الوظائف الشرعية. ثم أثنى على الله سبحانه تمهيدا لدعوة أخرى وتعريضا ببقية الحاجات فقال: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ على الإطلاق لأن الغيب والشهادة بالإضافة إلى العالم بالذات سيان. وقيل: ما نخفي من الوجد بسبب الفرقة بيني وبين إسماعيل، وما نعلن من البكاء والدعاء، أو أراد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله أكلكم. قال المفسرون: وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ من كلام الله عز وجل تصديقا لإبراهيم، ويحتمل أن يكون من كلام إبراهيم. و «من» للاستغراق أي لا يخفى على الذي يستحق العبادة لذاته شيء ما في أيّ مكان يفرض. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ أي مع كبر السن وفي حال الشيخوخة إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ذكر أوّلا كونه تعالى عالما بالضمائر والسرائر، ثم حمده على هذه الموهبة لأن المنة بهبة الولد في حال وقوع اليأس من الولادة أعظم لأنها تنتهي إلى حد الخوارق فكأنه رمز إلى أنه يطلب من الله سبحانه أن يبقيهما بعده ولهذا ختم الآية بقوله: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ وهو من إضافة الصفة إلى مفعولها أي مجيب الدعاء، أو إلى فاعلها بأن يجعل دعاء الله سميعا على الإسناد المجازي، والمراد سماع الله تعالى، ويحتمل أن يكون قوله: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ رمزا إلى ما كان قد دعا ربه وسأله الولد بقوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100] روي أن إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة. وقيل: إسماعيل لأربع وستين، وإسحق لتسعين. وعن سعيد بن جبير: لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة. ثم ختم الأدعية بقوله: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ أي مديمها وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل بعض ذريتي كذلك لم يدع للكل لأنه علم بإعلام الله تعالى أنه يكون في ذريته كفار وذلك قوله سبحانه لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] ربنا وتقبل دعائي عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 ابن عباس: أي عبادتي، وحمله على تقبله الأدعية السابقة في الآية غير بعيد رَبَّنَا اغْفِرْ لِي طلب المغفرة لا يوجب سابقة الذنب لأن مثل هذا إنما يصدر عن الأنبياء والأولياء في مقام الخوف والدهشة على أن ترك الأولى لا يمتنع منهم وحسنات الأبرار سيئات المقربين. أما قوله: وَلِوالِدَيَّ فاعترض عليه بأنه كيف استغفر لأبويه وهما كافران؟ وأجيب بأنه قال ذلك بشرط الإسلام، وزيف بأن قوله تعالى: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة: 4] مستثنى من الأشياء التي يؤتسى فيها بإبراهيم، ولو كان استغفاره مشروطا بإسلام أبيه لكان استغفارا صحيحا فلم يحتج إلى الاستثناء. وقيل: أراد بوالديه آدم وحواء والصحيح في الجواب أنه استغفر له بناء على الجواز العقلي والمنع التوفيقي بعد ذلك لا ينافيه يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أي يثبت مستعار من قيام القائم على الرجل ومثله قولهم «قامت الحرب على ساقها» أو أسند إلى الحساب قيام أهله إسنادا مجازيا، أو المضاف محذوف مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . ثم عاد إلى بيان الجزاء والمعاد لأن دعاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد انجر إلى ذكر الحساب فقال: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا إن كان الخطاب لكل مكلف أو للنبي والمراد أمته فلا إشكال، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فمعناه التثبت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله إلا عالما بجميع المعلومات، أو المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يقولون ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير. وعن ابن عيينة: تسلية للمظلوم وتهديد للظالم. قلت: لأنه لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لزم أن يكون غافلا عن الظلم أو عاجزا عن الانتقام أو راضيا بالظلم وكل ذلك مناف لوجوب الوجود المستلزم لجميع الكمالات إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أي أبصارهم كقوله: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ [مريم: 4] شخص بصر الرجل إذا بقيت عينه مفتوحة لا تطرف وذلك إنما يكون عند غاية الحيرة وسقوط القوة مُهْطِعِينَ مسرعين قاله أبو عبيدة. والغالب من حال من يبقى بصره شاخصا من شدة الخوف أن يبقى واقفا، فبين الله تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد لأنهم مع شخوص أبصارهم يكونون مسرعين نحو ذلك البلاء. وقال أحمد بن يحيى: المهطع الذي ينظر في ذل وخضوع. وقيل: هو الساكت مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ رافعيها وهذا أيضا بخلاف المعتاد لأن الغالب ممن يشاهد البلاء أنه يطرق رأسه لكيلا يراه لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ الطرف تحريك الأجفان على الوجه الذي خلق وجبل عليه. وسمى العين بالطرف تسمية بفعلها أي لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم، والمراد دوام الشخوص المذكور. وقيل: أي لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ والهواء الخلاء الذي يشغله الأجرام. وصف قلب الجبان به لأنه لا قوة فيه، ويقال للأحمق أيضا قلبه هواء. والمعنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 أن قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جميع الخواطر والأفكار لعظم ما نالهم، وعن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العذاب. والأظهر أن هذه الحالة لهم عند المحاسبة لتقدم قوله: يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ وقيل: هي عند ما يتميز السعداء من الأشقياء. وقيل: عند إجابة الداعي والقيام من القبور. وعن ابن جريج: أراد أن أفئدة الكفار في الدنيا صفر من الخير خاوية منه. قال أبو عبيدة: جوف لا عقول لهم وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ مفعول ثان لأنذروا اليوم يوم القيامة، واللام في العذاب للمعهود السابق من شخوص الأبصار وغيره، أو للمعلوم وهو عذاب النار. ومعنى أَخِّرْنا أمهلنا إِلى أمد وحد من الزمان قَرِيبٍ أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل أو يوم موتهم معذبين بشدة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى أَوَلَمْ تَكُونُوا على إضمار القول أي فيقال لهم ذلك. وإقسامهم إما بلسان الحال حيث بنوا شديدا وأملوا بعيدا، وإما بلسان المقال أشرا وبطرا وجهلا وسفها. وما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ جواب القسم. ولو قيل «ما لنا من زوال» على حكاية لفظ المقسمين لجاز من حيث العربية. والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء أو لا تنتقلون إلى دار أخرى هي دار الجزاء كقوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: 38] . ثم زادهم توبيخا بقوله: وَسَكَنْتُمْ استقررتم فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعاصي وهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم وَتَبَيَّنَ لَكُمْ بالأخبار والمشاهدة والبيان والعيان كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ من أصناف العقوبات وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ قال جار الله: أراد صفات ما فعلوا وما فعل بهم وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم. وقال غيره: المراد ما أورد في القرآن من دلائل القدرة على الإعادة والإبداء وعلى العذاب المعجل والمؤجل. ثم حكى مكر أولئك الظلمة فقال: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ أي مكرهم العظيم الذين استفرغوا فيه جهدهم. وقيل: الضمير عائد إلى قوم محمد صلى الله عليه وسلم كما قال: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ [الأنفال: 30] وقيل: أراد ما نقل أن نمروذ حاول الصعود إلى السماء فاتخذ لنفسه تابوتا وربط قوائمه الأربع بأربع نسور، وكان قد جوعها ورفع من الجوانب الأربعة على التابوت عصيا أربعا وعلق على كل واحدة منها قطعة من اللحم، ثم إنه جلس مع صاحبه في ذلك التابوت. فلما أبصرت النسور ذلك اللحم تصاعدت في جو الهواء ثلاثة أيام وغابت الأرض عن عين نمروذ ورأى السماء بحالها، فعكس تلك العصيّ التي عليها اللحوم فهبطت النسور إلى الأرض. وضعفت هذه الرواية لأنه لا يكاد يقدم عاقل على مثل هذا الخطر. وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ إن كان مضافا إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 الفاعل فالمعنى ومكتوب عند الله مكرهم فيجازيهم عليه بأعظم من ذلك، وإن كان مضافا إلى المفعول فمعناه وعنده مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يستحقونه فيأتيهم به من حيث لا يشعرون. أما قوله: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ من قرأ بكسر اللام الأولى ونصب الثانية فوجهان: أحدهما أن تكون «إن» مخففة من الثقيلة فزوال الجبال مثل لعظم مكرهم وشدته أي وإن الشأن كان مكرهم معدا لذلك. وثانيهما أن تكون «إن» نافية واللام المكسورة لتأكيد النفي كقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] والمعنى ومحال أن تزول الجبال بمكرهم على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه الثابتة على حالها أبد الدهر. ومن قرأ بفتح اللام الأولى ورفع الثانية فإن مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة، والمعنى كما مر. ثم إنه سبحانه أكد كونه مجازيا لأهل المكر على مكرهم بقوله: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ قال جار الله: قدم المفعول الثاني- وهو الوعد- على المفعول الأول ليعلم أنه غير مخلف الوعد على الإطلاق. ثم قال: رُسُلَهُ تنبيها على أنه إذا لم يكن من شأنه إخلاف الوعد فكيف يخلفه رسله الذين هم صفوته. والمراد بالوعد قوله: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر: 51] كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] ونحوهما من الآيات. قوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ قد مر في أول «آل عمران» يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ قال الزجاج: انتصاب يوم على البدل من يَوْمَ يَأْتِيهِمُ أو على الظرف للانتقام، والأظهر انتصابه باذكر كما مر في الوقوف. ومعنى قوله: وَالسَّماواتُ أي وتبدل السموات. قال أهل اللغة: التبديل التغيير وقد يكون في الذوات كقولك «بدلت الدراهم دنانير» وفي الأوصاف كقولك «بدلت الحلقة خاتما» إذا أذبتها وسوّيتها خاتما فنقلتها من شكل إلى شكل. وتفسير ابن عباس يناسب الوجه الثاني قال: هي تلك الأرض وإنما تغير فتسير عنها جبالها وتفجر بحارها وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت، وتبدل السماء بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها وكونها أبوابا. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدّها مدّ الأديم العكاظي فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا» وهذا القول يناسب مذهب الحكماء في أن الذوات لا يتطرق إليها العدم وإنما تعدم صفاتها وأحوالها. نعم جوزوا انعدام الصور مع أنها جواهر عندهم. وتفسير ابن مسعود يناسب الوجه الأول قال: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطىء عليها أحد خطيئة. وعن علي كرم الله وجهه: تبدل أرضا من فضة وسموات من ذهب. وعن الضحاك: أرضا من فضة بيضاء كالصحائف. وقيل: لا يبعد أن يجعل الله الأرض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 جهنم والسموات الجنة. وَبَرَزُوا لِلَّهِ قد ذكرناه في أول السورة. وتخصيص الْواحِدِ الْقَهَّارِ بالموضع تعظيم وتهويل وأنه لا مستغاث وقتئذ إلى غيره ولا حكم يومئذ لأحد إلا له يتفرد في حكمه ويقهر ما سواه. ومن نتائج قهره قوله: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ قرن بعضهم مع بعض لأن الجنسية علة الضم أو مع الشياطين الذين أضلوهم. قالت الحكماء: هي الملكات الذميمة والعقائد الفاسدة التي اكتسبوها في تعلق الأبدان. وقوله: فِي الْأَصْفادِ أي القيود إما أن يتعلق بمقرنين وإما أن يكون وصفا مستقلا أي مقرنين مصدفين. وقيل: الأصفاد الأغلال. والمعنى قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. وحظ العقل فيه أن الملكات الحاصلة في جوهر النفس إنما تحصل بتكرير الأفعال الصادرة من الجوارح والأعضاء. سَرابِيلُهُمْ جمع سربال وهو القميص مِنْ قَطِرانٍ هو ما يتحلب أي يسيل من شجر يسمى الأبهل فيطبخ فتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحره وحدّته، وقد تبلغ حرارته الجوف ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار، وقد يستسرج به وهو أسود اللون منتن الريح فيطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلأوه لهم كالسرابيل فيجمع عليهم اللذع والحرقة والاشتعال والسواد والنتن، على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين والوجه العقلي فيه أن البدن بمنزلة القميص للنفس، وكل ما يحصل للنفس من الآلام والغموم فإنما يحصل بسبب هذا البدن، فلهذا البدن لذع وحرقة في جوهر النفس بنفوذ الشهوة والحرص والغضب وسائر آثار الملكات الردية فيه. ومن قرأ من قطران فالقطر النحاس والصفر المذاب والآني المتناهي حره. قال ابن الأنباري: وتلك النار لا تبطل ذلك السربال ولا تفنيه كما لا تهلك النار أجسادهم والأغلال التي كانت عليهم وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ خص الوجه بالذكر لأنه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه فعبر به عن الكل. قوله: لِيَجْزِيَ اللام متعلقة ب تَغْشى أو بجميع ما ذكر كأنه قيل: يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ قال الواحدي: أراد نفوس الكفار لأن ما سبق لا يليق إلا بهم. ويحتمل أن يراد كل نفس مجرمة ومطيعة لأنه تعالى إذا عاقب المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المطيعين لطاعتهم. ثم أشار إلى القرآن أو إلى ما في السورة أو إلى ما مر من قوله: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا إلى هاهنا فقال هذا بَلاغٌ كفاية لِلنَّاسِ في التذكير والموعظة لينصحوا وَلِيُنْذَرُوا بِهِ بهذا البلاغ. ثم رمز إلى استكمال القوّة النظرية بقوله: وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وإلى استكمال القوّة العملية بقوله: وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به دعتهم المخافة إلى استكمال النفس بحسب القوتين والله ولي التوفيق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 التأويل: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ الروح رَبِّ اجْعَلْ بلد القلب آمِناً من وسوسة الشيطان وهواجس النفس وآفات الهوى وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ هم الفؤاد والسر والخفي أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ وهو كل ما سوى الله. فصنم النفس الدنيا، وصنم القلب العقبى، وصنم الروح الدرجات العلى، وصنم السر العرفان والقربات، وصنم الخفي الركون إلى المكاشفات والمشاهدات وأنواع الكرامات وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ فيه نكتتان: إحداهما لم يقل «ومن عصاك» إشارة إلى أن عصيان الله لا يستحق المغفرة والرحمة، والثانية لم يقل «فأنا أغفره وأرحم عليه» لأن عالم الطبيعة البشرية يقتضي المكافأة وإنما المغفرة والرحمة من شأن الغني المطلق أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي هم صفات الروح والعقل والسر والخفي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وهو وادي النفس عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ على ما سواك وهو كعبة القلب حرام أن يكون بيتا لغير الله «لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن» . وفيه أنه توسل في إجابة الدعاء بمحمد صلى الله عليه وسلم وكأنه قال: إن ضيعت هاجر وإسماعيل فقد ضيعت محمدا. وفي قوله: لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ إشارة إلى أنه لولا تعلق الروح بالجسد وحلوله بأرض القالب لم يمكن استكمال الروح بالأعمال البدنية، وأنه لولا غرض هذا الاستكمال لم يحصل ذلك التعلق فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً الصفات الناسوتية تَهْوِي إلى الصفات الروحانية وَارْزُقْهُمْ مِنَ ثمرات الصفات اللاهوتية لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ هذه النعمة الجسيمة التي ليس ينالها الملائكة المقربون، وفي هذا سر عظيم لا يمكن إفشاؤه. رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي من حقائق الدعاء وَما نُعْلِنُ من ظاهر القصة وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ في أرض المعاملات الصورية ولا في سماء القلوب من الغيوب عَلَى الْكِبَرِ أي بعد تعلق الروح بالقالب إِسْماعِيلَ السر وَإِسْحاقَ الخفي مُقِيمَ الصَّلاةِ دائم العروج فإن الصلاة معراج المؤمن رَبَّنَا اغْفِرْ لِي استرني وامنحني بصفة معرفتك وَلِوالِدَيَّ من الآباء العلوية والأمهات السفلية لئلا يحجبوني عن رؤيتك يوم يقوم حسابك بكمالية كل نفس ونقصانها لأكون في حساب الكاملين لا في حساب الناقصين. وَلا تَحْسَبَنَّ أي لم يكن اللَّهَ غافِلًا في الأزل بل الكل بقضائه وقدره وإِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ ليبلغوا إلى ما قدر لهم من الأعمال فإنها مودعة في الأعمار، وبذلك يصل كل من أهل السعادة والشقاوة إلى منازلهم ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ فيه من إبطال مذهب التناسخية. زعموا أن نفوسهم لا تزال تتعلق بالأبدان وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا تعلقتم بأبدان مثل أبدانهم منهمكين في ظلمات الأخلاق الذميمة وَعِنْدَ اللَّهِ مقدار مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ بحيث يؤثر في إزالة الجبال عن أماكنها ولكنه لا تحرك شعرة إلا بإذن الله بقضائه يَوْمَ تُبَدَّلُ أرض البشرية بأرض القلوب فتضمحل ظلماتها بأنوار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 القلوب، وتبدل سموات الأسرار بسموات الأرواح فإن شموس الأرواح إذا تجلت لكواكب الأسرار انمحت أنوار كواكبها بسطوة أشعة شموسها، بل تبدل أرض الوجود المجازي عند إشراق تجلي أنوار هويته بحقائق أنوار الوجود الحقيقي كما قال: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [الزمر: 69] وحينئذ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ فإن شموس الأرواح تصير مقهورة في تجلي نور الألوهية. وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يوم التجلي مُقَرَّنِينَ في قيود الصفات الذميمة لا يستطيعون البروز لله. سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ المعاصي وظلمات النفوس فهم محجوبون بهما عن الله وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ نار الحسرة والقطيعة هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ الذين نسوا عالم الوحدة وَلِيُنْذَرُوا بِهِ قبل المفارقة فإن الانتباه بالموت لا ينفع وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فيعبدوه ولا يتخذوا إلها غيره من الدنيا والهوى والشيطان وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ عالم الشهود فيخرجوا من قشر الوجود، والله أعلم. تم الجزء الثالث عشر، ويليه الجزء الرابع عشر أوله تفسير سورة الحجر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الرابع عشر من أجزاء القرآن الكريم (سورة الحجر مكية بالإجماع وحروفها ألف وسبعمائة وواحد وسبعون وكلماتها ستمائة وأربعة وخمسون وآياتها تسع وتسعون [سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 50] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 القراآت: ربما بفتح الباء مخففة: أبو جعفر ونافع وعاصم غير الشموني. وربما بضم الباء خفيفة: الشموني. الباقون بالفتح والتشديد ما نُنَزِّلُ بالنون الْمَلائِكَةَ بالنصب: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. ما تنزل بضم التاء وفتح الزاي المشددة الْمَلائِكَةَ بالرفع: أبو بكر وحماد الباقون مثله، ولكن بفتح التاء ما تنزل بالإدغام: البزي وابن فليح سكرت خفيفة: ابن كثير فتحنا بالتشديد: يزيد الريح على التوحيد: حمزة وخلف صِراطٌ عَلَيَّ بكسر اللام ورفع الياء على النعت: يعقوب الآخرون علي جارا ومجرورا وَعُيُونٍ بكسر العين: حمزة وعلي وابن كثير وابن ذكوان والأعشى ويحيى وحماد. الباقون بضمها نَبِّئْ عِبادِي مثل نبئنا عبادي أني بالفتح فيهما: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. والآخرون بالإسكان. الوقوف الر قف كوفي مُبِينٍ هـ مُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ هـ مَعْلُومٌ هـ وَما يَسْتَأْخِرُونَ هـ لَمَجْنُونٌ هـ ط لأن التحضيض له صدر الكلام الصَّادِقِينَ هـ مُنْظَرِينَ هـ لَحافِظُونَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ الْمُجْرِمِينَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ يَعْرُجُونَ هـ مَسْحُورُونَ هـ لِلنَّاظِرِينَ لا رَجِيمٍ لا هـ مُبِينٌ هـ مَوْزُونٍ هـ بِرازِقِينَ هـ خَزائِنُهُ ز لاتفاق الجملتين مع الفصل بين معنيي الجمع في التقدير والتفريق في التنزيل. فَأَسْقَيْناكُمُوهُ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف أو الحال بِخازِنِينَ هـ الْوارِثُونَ هـ الْمُسْتَأْخِرِينَ هـ يَحْشُرُهُمْ ط عَلِيمٌ هـ مَسْنُونٍ هـ ج لاتفاق الجملتين مع تقدم المفعول في الثانية السَّمُومِ هـ مَسْنُونٍ هـ ساجِدِينَ هـ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 أَجْمَعُونَ هـ لا إِلَّا إِبْلِيسَ ط السَّاجِدِينَ هـ مَسْنُونٍ هـ رَجِيمٌ هـ الدِّينِ هـ يُبْعَثُونَ هـ مِنَ الْمُنْظَرِينَ لا هـ الْمَعْلُومِ هـ أَجْمَعِينَ لا هـ الْمُخْلَصِينَ هـ مُسْتَقِيمٌ هـ الْغاوِينَ هـ أَجْمَعِينَ هـ أَبْوابٍ ط مَقْسُومٌ هـ وَعُيُونٍ هـ لإرادة القول بعده آمِنِينَ هـ مُتَقابِلِينَ هـ بِمُخْرَجِينَ هـ الرَّحِيمُ لا الْأَلِيمُ هـ. التفسير قال جار الله: تِلْكَ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآي والكتاب والقرآن المبين السورة. وتنكير القرآن للتفخيم وقال آخرون: الكتاب والقرآن المبين هو الكتاب الذي وعد الله محمدا صلى الله عليه وسلم والمعنى تلك الآيات آيات ذلك الكتاب الكامل في كونه كتابا وفي كونه قرآنا مفيدا للبيان. أما قوله رُبَما يَوَدُّ فذكر السكاكي أن فيه سبع لغات أخر بعد المشهورة: رب بالراء مضمومة، والباء مخففة مفتوحة أو مضمومة أو مسكنة، ورب بالراء مفتوحة والباء كذلك مشددة، وربة بالتاء مفتوحة والباء كذلك أي مفتوحة مخففة أو مشددة، وإنما دخل على المضارع مع أنه مختص بالماضي لأن المترقب في أخبار الله بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه فكأنه قيل: ربما ود. و «ما» هذه كافة أي تكف رب عن العمل فتتهيأ بذلك للدخول على الفعل. وقيل: إن «ما» بمعنى شيء أي رب شيء يوده الذين كفروا. ورب للتقليل فأورد عليه أن تمنيهم يكثر ويتواصل فما معنى التقليل؟ وأجيب بأنه على عادة العرب إذا أرادوا التكثير ذكروا لفظا وضع لأجل التقليل كما إذا أرادوا اليقين ذكروا لفظا وضع للشك. والمقصود إظهار الترفع والاستغناء عن التصريح بالتعريض فيقولون: ربما ندمت على ما فعلت، ولعلك تندم على فعلك. وإن كان العلم حاصلا بكثرة الندم ووجوده بغير شك أرادوا لو كان الندم قليلا أو مشكوكا فيه لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من الغم القليل كما يحذرون من الكثير، ومن الغم المظنون كما من المتيقن. فمعنى الآية لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة كان جديرا بالمسارعة إليه فكيف وهو يودونه في كل ساعة. وقوله لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ إخبار عن ودادتهم كقولك «حلف بالله ليفعلن» . ولو قيل «لو كنا مسلمين» جاز من حيث العربية كقولك «حلف بالله لأفعلن» . ومتى تكون هذه الودادة؟ قال الزجاج: إن الكافر كلما رأى حالا من أحوال العذاب أو رأى حالا من أحوال المسلم ود لو كان مسلما. وعلى هذا فقد قيل في وجه التقليل: إن العذاب يشغلهم عن كثير التمني فلذلك قلل. وقال الضحاك: هي عند الموت إذا شاهد أمارات العذاب. وقيل: إذا اسودت وجوههم. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا كان يوم القيامة اجتمع أهل النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة. فقال الكفار لهم: ألستم مسلمين؟ قالوا: بلى. قالوا: فما أغنى عنكم من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ فيغضب الله لهم فيأمر لكل من كان من أهل القبلة بالخروج فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية» . وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: ما يزال الله يرحم المؤمنين ويخرجهم من النار ويدخلهم الجنة بشفاعة الملائكة والأنبياء حتى إنه تعالى في آخر الأمر يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة فهناك يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ذَرْهُمْ ظاهره أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يخليهم وشأنهم، فاحتجت الأشاعرة به على أنه سبحانه وتعالى قد يصد عن الإيمان ويفعل بالمكلف ما يكون مفسدة في الدين. وقالت المعتزلة: ليس هذا إذنا وتجويزا وإنما هو تهديد ووعيد وقطع طمع النبي عن ارعوائهم، وفيه أنهم من أهل الخذلان ولا يجيء منهم إلا ما هم فيه، ولا زاجر لهم ولا واعظ إلا معاينة ما ينذرون به حين لا ينفعهم الوعظ. وفي الآية تنبيه على أن إيثار التلذذ والتمتع وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين وَمعنى يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ يشغلهم الرجاء عن الإيمان والطاعة. لهيت عن الشيء بالكسر ألهى لهيا إذا سلوت عنه وتركت ذكره وأضربت عنه. وألهاني غيره. عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطا وقال: هذا الإنسان. وخط آخر إلى جنبه وقال: هذا أجله. وخط آخر بعيدا منه فقال: هذا الأمل. فبينما هو كذلك إذ جاءه الأقرب فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء صنيعهم مزيد تأكيد للتهديد. ثم ذكر ما هو نهاية في الزجر والتحذير فقال وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ أي مكتوب مَعْلُومٌ وهو أجلها الذي كتب في اللوح. قال جار الله: قوله وَلَها كِتابٌ جملة واقعة صفة لقرية والواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف. وذكر السكاكي في المفتاح أن هذا سهو لأن الفصل بين الموصوف والصفة لا يجوز ولكن الجملة حال من قرية ومثل هذا جائز، ولو كان ذو الحال نكرة محضة كقولك «جاءني رجل وعلى كتفه سيف» لعدم التباس الحال بالوصف لمكان الفاصلة بالواو، وكيف وقد زادت الفاصلة في الآية بكلمة إِلَّا وذو الحال قريب من المعرفة إذ التقدير: وما أهلكنا قرية من القرى من قبل إفادة من الاستغراق. قال قوم: المراد بهذا الهلاك عذاب الاستئصال الذي كان ينزله الله بالمكذبين المعاندين من الأمم السالفة. وقال آخرون: أراد الموت والأول أقرب لأنه في الزجر أبلغ وكأنه قيل: إن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العاقل فإن لكل أمة وقتا معينا في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر. وقيل: أراد مجموع الأمرين. قال صاحب النظم: إذا كان السبق واقعا على شخص فمعناه جاز وخلف كقولك «سبق زيد عمرا» أي جازه وخلفه وأنه قصر عنه وما بلغه، وإذا كان واقعا على زمان فعلى العكس كقولك «سبق فلان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 عام كذا» معناه مضى قبل إتيانه ولم يبلغه. فمعنى الآية أنه لا يحصل أجل أمة قبل وقته ولا بعده كما في كل حادث، وقد مر بحث الأجل في أول سورة الأنعام. وأنث الأمة أولا ثم ذكرها آخرا في قوله وَما يَسْتَأْخِرُونَ حملا على اللفظ والمعنى، وحذف متعلق يَسْتَأْخِرُونَ وهو عنه للعلم به. ولما بالغ في تهديد الكفار شرع في تعديد بعض شبههم ومطاعنهم في النبي. فالأولى أنهم كانوا يحكمون عليه بالجنون لأنهم كانوا يسمعون منه صلى الله عليه وسلم ما لا يوافق آراءهم ولا يطابق أهواءهم وإنما نادوه يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مع أنهم كانوا لا يقرون بنزول الوحي عليه تعكيسا للكلام استهزاء وتهكما، وأرادوا يا أيها الذي نزل عليه الوحي في زعمه واعتقاده وعند أصحابه وأتباعه، الثانية. لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ «لو ما» حرف تحضيض مركب من «لو» المفيدة للتمني ومن «ما» المزيدة، فأفاد المجموع الحث على الفعل الداخل هو عليه والمعنى: هلا تأتينا بالملائكة ليشهدوا على صدقك ويعضدوك على إنذارك؟ والمراد هلا تأتينا بملائكة العذاب إن كنت صادقا في أن تكذيبك يقتضي التعذيب العاجل؟ فأجاب الله سبحانه عن شبههم بقوله ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ قالت المعتزلة: أي تنزيلا متلبسا بالحكمة والمصلحة والغاية الصحيحة، ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا فإن أمر التكليف حينئذ يؤول إلى الاضطرار والإلجاء، ولا فائدة تعود عليكم لأنه تعالى يعلم إصراركم على الكفر فيصير إنزالهم عبثا، أو لا حكمة في إنزالهم لأنهم لو نزلوا ثم لم تؤمنوا وجب عذاب الاستئصال وذلك قوله وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ فإن التكليف يزول عند نزول الملائكة وقد علم الله من المصلحة أن لا يهلك هذه الأمة ويمهلهم لما علم من إيمان بعضهم أو إيمان أولادهم. وقالت الأشاعرة: إلا بالحق أي إلا بالوحي أو العذاب. قال صاحب النظم: لفظ «إذن» مركبة من «إذ» بمعنى «حين» ومن «أن» الدالة على مجيء فعل بعده، فخففت الهمزة بحذفها بعد نقل حركتها وكأنه قيل: وما كانوا منظرين إذ أن كان ما طلبوا. وقال غيره: «إذن» جواب وجزاء تقديره: ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذابهم. ثم أنكر على الكفار استهزاءهم في قولهم يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فقال على سبيل التوكيد إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ثم دل على كونه آية منزلة من عنده فقال وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ لأنه لو كان من قول البشر أو لم يكن آية لم يبق محفوظا من التغيير والاختلاف. وقيل: الضمير في لَهُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] والقول الأول أوضح. ووجه حفظ القرآن قيل: هو جعله معجزا مباينا لكلام البشر حتى لو زادوا فيه شيئا ظهر ذلك للعقلاء ولم يخف، فلذلك بقي مصونا عن التحريف. وقيل: حفظ بالدرس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 والبحث ولم يزل طائفة يحفظونه ويدرسونه ويكتبونه في القراطيس باحتياط بليغ وجد كامل حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن في حرف من كتاب الله لقال له بعض الصبيان: أخطأت. ومن جملة إعجاز القرآن وصدقه أنه سبحانه أخبر عن بقائه محفوظا عن التغيير والتحريف وكان كما أخبر بعد تسعمائة سنة فلم يبق للموحد شك في إعجازه. وهاهنا نكتة هي أنه سبحانه تولى حفظ القرآن ولم يكله إلى غيره فبقي محفوظا على مر الدهور بخلاف الكتب المتقدمة فإنه لم يتول حفظها وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم ووقع التحريف. ثم ذكر أن عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء كذلك، والغرض تسلية النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الكلام إضمار والتقدير وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رسلا إلا أنه حذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه. ومعنى فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ في أممهم وأتباعهم وقد مر معنى الشيعة في آخر «الأنعام» قال جار الله: معنى أرسلنا فيهم جعلناهم رسلا فيما بينهم. قال الفراء: إضافة الشيع إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى الصفة كقوله حَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة: 95] وبِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [القصص: 44] وقوله وَما يَأْتِيهِمْ حكاية حال ماضية. وإنما كان الاستهزاء بالرسل عادة الجهلة في كل قرن لأن الفطام عن المألوف شديد وكون الإنسان مسخرا لأمر من هو مثله أو أقل حالا منه في المال والجاه والقبول أشد، على أن السبب الكلي فيه هو الخذلان وعدم التوفيق من الله سبحانه ووقوعهم مظاهر القهر في الأزل. قوله كَذلِكَ نَسْلُكُهُ السلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط. وقالت الأشاعرة: الضمير في نَسْلُكُهُ يجب عوده الى أقرب المذكورات وهو الاستهزاء الدال عليه يَسْتَهْزِؤُنَ وأما الضمير في قوله لا يُؤْمِنُونَ بِهِ فيعود إلى الذكر لأنه لو عاد إلى الاستهزاء وعدم الإيمان بالاستهزاء حق وصواب لم يتوجه اللوم على الكفار، ولا يلزم من تعاقب الضمائر عودها على شيء واحد وإن كان الأحسن ذلك. والحاصل أن مقتضى الدليل عود الضمير إلى الأقرب إلا إذا منع مانع من اعتباره. وقال بعض الأدباء منهم: قوله لا يُؤْمِنُونَ بِهِ تفسير للكناية في قوله نَسْلُكُهُ أي نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به فثبتت دلالة الآية على أن الكفر والضلال والاستهزاء ونحوها من الأفعال كلها بخلق الله وإيجاده. وقالت المعتزلة: الضميران يعودان إلى الذكر لأنه شبه هذا السلك بعمل آخر قبله وليس إلا تنزيل الذكر. والمعنى مثل ذلك الفعل نسلك الذكر في قلوب المجرمين. ومحل لا يُؤْمِنُونَ بِهِ نصب على الحال أي غير مؤمن به أو هو بيان لقوله كَذلِكَ نَسْلُكُهُ والحاصل أنا نلقيه في قلوبهم مكذبا مستهزأ به غير مقبول نظيره ما إذا أنزلت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت: كذلك أنزلها باللئام تعني مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية. واعترض بأن النون إنما يستعمله الواحد المتكلم إظهارا للعظمة والجلال ومثل هذا التعظيم إنما يحسن ذكره إذا فعل فعلا يظهر له أثر قويّ كامل، أما إذا فعل بحيث يكون منازعه ومدافعه غالبا عليه فإنه يستقبح ذكره على سبيل التعظيم، والأمر هاهنا كذلك لأنه تعالى سلك استماع القرآن وتحفيظه وتعليمه في قلب الكافر لأجل أن يؤمن به، ثم إنه لم يلتفت إليه ولم يؤمن به فصار فعل الله كالهدر الضائع وصار الشيطان كالغالب المدافع فكيف يحسن ذكر النون المشعر بالتعظيم في هذا المقام؟ أما قوله وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ فقيل: أي طريقتهم التي بينها الله في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم وبالذكر المنزل عليهم، وهذا يناسب تفسير المعتزلة، وفيه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم. وقيل: قد مضت سنة الله في الأولين بأن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم وهذا قول الزجاج، ويناسب تفسير الأشاعرة. ثم حكى إصرارهم على الجهل والتكذيب بقوله وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا أي هؤلاء الكفار فِيهِ يَعْرُجُونَ يتصاعدون لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا هو من سكر الشراب أو من سكر سدّ الشق يقال: سكر النهر إذا سدّه وحبسه من الجري. والتركيب يدل على قطع الشيء من سننه الجاري عليه ومنه السكر في الشراب لأنه ينقطع عما كان عليه من المضاء في حال الصحو. فمعنى الآية حيرت أبصارنا ووقع بها من فساد النظر ما يقع بالرجل السكران، أو حبست عن أفعالها بحيث لا ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقائقها. عن ابن عباس: المراد لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه وإلى عبادة الملائكة الذين هم من خشية ربهم مشفقون لتشككوا في تلك الرؤية وبقوا مصرين على كفرهم وجهلهم كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر وما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله. قال في الكشاف: ذكر الظلول يعني أنه قال فَظَلُّوا ولم يقل «فباتوا» ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون. وقال: إنما سكرت ليدل على أنهم يبتون القول بأن ذلك ليس إلا تسكيرا للأبصار. وقيل: الضمير في فَظَلُّوا للملائكة أي لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عيانا لقالوا: إن السحرة سحرونا وجعلونا بحيث نشاهد هذه الأباطيل التي لا حقيقة لها. وهاهنا سؤال وهو أنه كيف جاز من جم غفير أن يصيروا شاكين فيما يشاهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح؟ وأجيب بأنهم قوم مخصوصون لم يبلغوا مبلغ التواتر وكانوا رؤساء قليلي العدد فجاز تواطؤهم على المكابرة والعناد لا سيما إذا جمعهم غرض معتبر كدفع حجة أو غلبة خصم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 ولما أجاب عن شبه منكري النبوة بما أجاب وكان القول بالنبوة مفرعا على القول بالصانع أتبعه دلائل ذلك فقال وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وهي اثنا عشر عند أهل النجوم، وذلك أنهم قسموا نطاق الفلك الثامن عندهم باثني عشر قسما متساوية، ثم أجيز بمنتهى كل قسم وبأوله مبتدأة من أول الحمل نصف دائرة عظيمة مارة بقطبي الفلك فصار الفلك أيضا منقسما باثنتي عشرة قطعة كل منها تشبه ضلعا من أضلاع البطيخ تسمى برجا. ولا شك أن هذه البروج مختلفة الطباع، كل ثلاثة منها على طبيعة عنصر من العناصر الأربعة فلذلك يسمى الحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. ثم إن كانت أجزاء الفلك مختلفة في الماهية على ما يجوّزه المتكلمون، أو كانت متساوية في تمام الماهية مختلفة في التأثير كما يقول به الحكيم، فعلى التقديرين يكون اختصاص كل جزء بطبيعة معينة أو بتأثير معين مع تساوي الكل في حقيقة الجسمية دالا على صانع حكيم ومدبر قدير. الدليل الآخر قوله وَزَيَّنَّاها أي بالشمس والقمر والنجوم لِلنَّاظِرِينَ بنظر الاعتبار والاستبصار. وقال المنجمون: إن الكواكب الثابتة كلها على الفلك الثامن وهذا لا ينافي الآية على ما يمكن أن يسبق إلى الوهم، لأنها سواء كن في سماء الدنيا أو في سموات أخر فوقها فلا بد أن يكون ظهورها في السماء الدنيا فتكون السماء الدنيا مزينة بها، والآية لا تدل إلا على هذا القدر. ونظير هذه الآية قوله تعالى في «حم السجدة» وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [فصلت: 12] ومثله في سورة الملك. الدليل الثالث قوله وَحَفِظْناها أي البروج أو السماء مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ نصب على الاستثناء المنقطع أي لكن من استرق وجائز أن يكون مخفوضا أي إلا ممن استرق. وعن ابن عباس: يريد الخطفة اليسيرة فَأَتْبَعَهُ أي أدركه ولحقه شِهابٌ مُبِينٌ ظاهر للمبصرين والشهاب شعلة نار ساطع، وقد يسمى الكوكب شهابا لأجل لمعانه وبريقه. قال ابن عباس: كانت الشياطين لا يحجبون من السموات وكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها على الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها وهذا هو المراد بحفظ السموات كما لو حفظ أحدنا منزله ممن يتجسس ويخشى منه الفساد. والاستراق السعي في استماع الكلام مستخفيا. قال الحكماء: إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس، فإذا بلغ النار التي دون الفلك احترق بها واشتعل لدهنية فيه فيحدث منها أنواع النيران من جملتها الشهب، فلا ريب أنها كانت موجودة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها لم تكن مسلطة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 على الشياطين. وإنما قيض كونها رجوما للشياطين في زمن عيسى عليه السلام ثم في زمن محمد صلى الله عليه وسلم. أسئلة: كيف يجوز أن يشاهد هؤلاء الجن واحدا كان أو أكثر من جنسهم يسترقون السمع فيحرقون، ثم إنهم مع ذلك يعودون لمثل صنيعهم؟ والجواب: إذا جاء القضاء عمي البصر، فإذا قيض الله لطائفة منهم الحرق لطغيانها قدر له من الدواعي المطمعة في درك المقصود ما عندها يقدم على العمل المفضي الى الهلاك والبوار. آخر: قد ورد في الأخبار أن ما بين كل سماء مسيرة خمسمائة عام، فهؤلاء الجن إن قدروا على خرق السماء ناقض قوله سبحانه هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: 3] وإن لم يقدروا فكيف يمكنهم استماع أسرار الملائكة من ذلك البعد البعيد، ولم لا يسمعون كلام الملائكة حال كونهم في الأرض؟ وأجيب بأنا سلمنا أن بعد ما بين كل سماء ذلك القدر إلا أن نحن الفلك لعله قدر قليل، وقد روى الزهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار فقال: ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا؟ قالوا: كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يرمى لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش ثم سبح أهل السماء وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء، ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ولا يزال ينتهي ذلك الخبر من سماء إلى السماء إلى أن ينتهي الخبر إلى هذه السماء، ويتخطف الجن فيرمون فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون» «1» . آخر: الشياطين مخلوقون من نار فكيف تحرق النار النار؟ والجواب: أن الأقوى قد يبطل الأضعف وإن كان من جنسه. آخر: إن هذا الرجم لو كان من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بقي بعد وفاته؟ الجواب: هذا من المعجزات الباقية والغرض منه إبطال الكهانة. آخر: إن الشهب قد تحدث بالقرب من الأرض وإلا لم يمكن الإحساس بها فكيف   (1) رواه مسلم في كتاب السلام حديث 124. الترمذي في كتاب تفسير سورة 34 باب: 3. أحمد في مسنده (1/ 218) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 تمنع الشياطين من الوصول إلى الفلك حين الاستراق؟ وأجيب بأن البعد عندنا غير مانع من السماع فلعله تعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقعوا في تلك المواضع سمعوا كلام الملائكة. آخر: لو كان يمكنهم نقل أخبار الملائكة إلى الكهنة فكيف لم يقدروا على نقل أسرار المؤمنين إلى الكفار؟ وأجيب بأنه تعالى أقدرهم على شيء وأعجزهم عن شيء ولا يسأل عما يفعل. وأقول: لعل السبب فيه أن نسبتهم إلى الروحانيات أكثر. آخر: إذا جوّزتم في الجملة اطلاع الجن على بعض المغيبات فقد ارتفع الوثوق عن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الغيوب فلا يكون دليلا على صدقه. لا يقال: إنه تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم لأنا نقول: صدق هذا الكلام مبني على صحة نبوّته، فلو أثبتنا صحة نبوّته به لزم الدور؟ والجواب: أنا نعرف صحة نبوّته بدلائل أخر حتى لا يدور، ولكن لا ريب أن إخباره عن بعض المغيبات مؤكد لنبوّته وإن لم يكن مثبتا لها. الدليل الرابع: قوله وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وقد مرّ تفسير مثله في أوّل سورة الرعد. الدليل الخامس قوله: وَأَنْبَتْنا فِيها أي في الأرض أو في الجبال الرواسي مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ بميزان الحكمة ومقدر بمقدار الحاجة، وذلك أن الوزن سبب معرفة المقدار فأطلق اسم السبب على المسبب. وقيل: أي له وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة. وقيل: أراد أن مقاديرها من العناصر معلومة وكذا مقدار تأثير الشمس والكواكب فيها. وقيل: أي مناسب أي محكوم عليه عند العقول السليمة بالحسن واللطافة. يقال: كلام موزون أي مناسب، وفلان موزون الحركات. وقيل: أراد ما يوزن من نحو الذهب والفضة والنحاس وغيرها من الموزونات كأكثر الفواكه والنبات. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها أي في الأرض أو في تلك الموزونات مَعايِشَ ما يتوصل به إلى المعيشة وقد مر في أول «الأعراف» . وَمَنْ عطف على معايش أي جعلنا لكم من لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ أو عطف على محل لكم لا على المجرور فقط فإنه لا يجوز في الأكثر إلا بإعادة الجار والتقدير: وجعلنا لكم معايش لمن لستم له برازقين، وأراد بهم العيال والمماليك والخدم الذين رازقهم في الحقيقة هو الله تعالى وحده لا الآباء والسادات والمخاديم، ويدخل فيه بحكم التغليب غير ذوي العقول في الأنعام والدواب والوحش والطير كقوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] وقد يذكر غير من يعقل بصفة من يعقل بوجه ما من الشبه كقوله: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النمل: 18] والدواب تشبه ذوي العقول من جهة أنها طالبة لأرزاقها عند الحاجة. يحكى أنه قلت مياه الأودية في بعض السنين واشتد عطش الوحوش فرفعت رأسها إلى السماء فأنزل الله المطر. ثم بين غاية قدرته ونهاية حكمته فقال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ قال جمع من المفسرين: أراد بالشيء هاهنا المطر الذي هو سبب لأرزاق بني آدم وغيرهم من الطير والوحش، وذلك أنه لما ذكر معايشهم بين أن خزائن المطر الذي هو سبب المعايش عنده أي في أمره وحكمه وتدبيره. قوله: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ عن ابن عباس: يريد قدر الكفاية. وقال الحكم: ما من عام بأكثر مطرا من عام آخر ولكنه يمطر قوم ويحرم آخرون، وربما كان في البحر، واعلم أن لفظ الآية لا يدل على هذين القولين فلو ساعدهما نقل صحيح أمكن أن يقبلهما العقل والا كان شبه تحكم والظاهر عموم الحكم، وإن ذكر الخزائن تمثيل لاقتداره على كل مقدور. والمعنى إن جميع الممكنات مقدورة ومملوكة له يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء، وهي إن كانت غير متناهية بالقوّة لأن كلا منها يمكن أن يقع في أوقات غير محصورة على سبيل البدل، وكذا الكلام في الأحياز وسائر الأعراض والأوصاف. فاختصاص ذلك الخارج إلى الوجود بمقدار معين وشكل معين وحيز ووقت معين إلى غير ذلك من الصفات المعينة دون أضدادها لا بد أن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر وهو المراد من قوله: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ وقد يتمسك بالآية بعض المعتزلة في أن المعدوم شيء. قيل: المراد أن تلك الذوات والماهيات كانت مستقرة عند الله بمعنى أنها كانت ثابتة من حيث إنها حقائق وماهيات، ثم إنه تعالى نزل أي أخرج بعضها من العدم إلى الوجود. الدليل السادس: قوله وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ ومن قرأ الريح فاللام للجنس لَواقِحَ قال ابن عباس: معناه ملاقح جمع ملقحة لأنها تلقح السحاب بمعنى أنها تحمل الماء وتمجه في السحاب، أو لأنها تلقح الشجر أي تقوّيها وتنميها إلى أن يخرج ثمرها. قاله الحسن وقتادة والضحاك. وقد جاء في كلام العرب «فاعل» بمعنى «مفعل» قال: ومختبط مما تطيح الطوائح يريد المطاوح جمع مطيحة. وقال ابن الأنباري: تقول العرب: أبقل النبت فهو باقل أي مبقل. وقال الزجاج: معناه ذوات لقحة لأنها تعصر السحاب وتدره كما تدر اللقحة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 كما يقال رامح أي ذو رمح- ولابن وتامر أي ذو لبن وذو تمر. وقيل: إن الريح في نفسها لاقح أي حالة للسحاب أو للماء من قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا [الأعراف: 57] أو حاملة للخير والرزق كما قيل لضدها الريح العقيم فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أي جعلناه لكم سقيا قال أبو عليّ: يقال سقيته الماء إذا أعطاه قدر ما يروى، وأسقيته نهرا أي جعلته شربا له. والذي يؤكد هذا اختلاف القراء في قوله: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ [النحل: 66] ولم يختلفوا في قوله: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الدهر: 21] ويقال: سقيته لشفته وأسقيته لماشيته وأرضه. وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي نحن الخازنون للماء لا أنتم أراد عظيم قدرته وعجز من سواه الدليل السابع: قوله وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ والغرض الاستدلال بانحصار الإحياء والإماتة فيه على أنه واحد في ملكه. قال أكثر المفسرين: إنه وصف النبات فيما قبل فهذا الإحياء مختص بالحيوان، ومنهم من يحمله على القدر المشترك بين إحياء النبات وبين إحياء الحيوان وَنَحْنُ الْوارِثُونَ مجاز عن بقائه بعد هلاك ما عداه كما مر في آخر «آل عمران» في قوله: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية: 180] قوله: وَلَقَدْ عَلِمْنَا عن ابن عباس في رواية عطاء الْمُسْتَقْدِمِينَ يريد أهل طاعة الله، والمستأخرين يريد المتخلفين عن طاعته. ويروى أنه صلى الله عليه وسلم رغب الناس في الصف الأول في الجماعة فازدحم الناس عليه فأنزل الله الآية. والمعنى إنا نجزيهم على قدر نياتهم. وقال الضحاك ومقاتل: يعني في صف القتال. وقال ابن عباس في رواية أبي الجوزاء: كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قوم يتقدمون إلى الصف الأول لئلا يروها، وآخرون يتخلفون ويتأخرون ليروها، وكان قوم إذا ركعوا جافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطهم فنزلت. وقيل: المستقدمون هم الأموات والمستأخرون هم الأحياء. وهذا القول شديد المناسبة لما قبل الآية ولما بعدها. وقيل: المستقدمون هم الأمم السالفة والمستأخرون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عكرمة: المستقدمون من خلق، والمستأخرون من لم يخلق بعد. والظاهر العموم وأن علمه تعالى شامل لجميع الذوات والأحوال الماضية والمستقبلة فلا ينبغي أن تخص الآية بحالة دون أخرى. ثم نبه على أن الحشر والنشر أمر واجب ولا يقدر على ذلك أحد إلا هو فقال: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ فلحكمته بني أمر العباد على التكليف والجزاء، ولعلمه قدر على توفية مقادير الجزاء. الدليل الثامن: الاستدلال على خلق الإنسان خاصة وذلك أنه لا بد من انتهاء الناس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 إلى إنسان أول ضرورة امتناع القول بوجود حوادث لا أول لها. وقد أجمع المفسرون على أنه آدم عليه السلام، ورأيت في كتب الشيعة عن محمد بن علي الباقر رضي الله عنه أنه قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر، وكيف كان فلا بد من إنسان هو أول الناس. والأقرب أنه تعالى خلق آدم من تراب ثم من طين ثم من حمإ مسنون ثم من صلصال كالفخار. وقد كان قادرا على خلقه من أيّ جنس من الأجسام كان، بل كان قادرا على خلقه ابتداء. وإنما خلقه على هذا الترتيب لمحض المشيئة، أو لما كان فيه من زلة الملائكة والجن، أو لغير ذلك من المصالح، ولا شك أن خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلق الشيء من شكله وجنسه، والصلصال الطين اليابس الذي يصلصل أي يصوّت وهو غير مطبوخ فإذا طبخ فهو فخار. وقيل: هو تضعيف صل إذا أنتن. والحمأ الأسود المتغير من الطين، وكذلك الحمأة بالتسكين. والمسنون المصوّر من سنة الوجه أي صورته قاله سيبويه. وقال أبو عبيدة: المسنون المصبوب المفرغ أي أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصورة من الجواهر المذابة. وقال ابن السكيت: سمعت أبا عمرو يقول: معناه متغير منتن وكأنه من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فالذي يسيل منهما سنين ولا يكون إلا منتنا. قال في الكشاف: قوله: مِنْ حَمَإٍ صفة صلصال أي خلقه من صلصال كائن من حمإ. قلت: ولا يعبد أن يكون بدلا أي خلقه من حما. قال: وحق مسنون بمعنى مصوّر أن يكون صفة لصلصال كأنه أفرغ الحمأ فصوّر منها تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثم غيره بعد ذلك إلى جوهر آخر. قوله: وَالْجَانَّ قال الحسن ومقاتل وقتادة وهو رواية عطاء عن ابن عباس يريد إبليس. - وعن ابن عباس- في رواية أخرى: هو أبو الجن كآدم أبي الناس وهو قول الأكثرين. والتركيب يدل على السبق والتواري عن الأعين وقد مر فيما سلف ولا سيما في تفسير الاستعاذة في أول الكتاب خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ قال ابن عباس: أي من قبل خلق آدم والسَّمُومِ الريح الحارة النافذة في المسام تكون في النهار وقد تكون بالليل. ومسام البدن الخروق الخفية التي يبرز منها العرق وبخار الباطن، ولا شك أن تلك الريح فيها نار ولها لفح على ما ورد في الخبر أنه لفح جهنم. قال ابن مسعود: هذه السموم جزءا من سبعين جزءا من سموم النار التي خلق الله منها الجان. ولا استبعاد في خلق الله الحيوان من النار فإنا نشاهد السمندل قد يتولد فيها. وعلى قاعدة الحكيم: كل ممتزج من العناصر فإنه يمكن أن يغلب عليه أحدها، وحينئذ يكون مكانه مكان الجزء الغالب والحرارة مقوية للروح لا مضادة لها. ثم إنه لما استدل بحدوث الإنسان الأول على كونه قادرا مختارا ذكر بعده واقعته. والمراد بكونه بشرا أنه يكون جسما كثيفا يباشر ويلاقي، والملائكة والجن لا يباشرون للطافة أجسامهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 والبشرة ظاهر الجلد من كل حيوان. فَإِذا سَوَّيْتُهُ عدلت خلقته وأكملتها أو سويت أجزاء بدنه بتعديل الأركان والأخلاط والمزاج التابع لذلك اعتدالا نوعيا أو شخصيا. وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر. فمن زعم أن الروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن فمعناه ظاهر، ومن قال إنه جوهر مجرد غير متحيز ولا حال في متحيز فمعنى النفخ عنده تهيئة البدن لأجل تعلق النفس الناطقة به. قال جار الله: ليس ثم نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه. وتمام الكلام في الروح سوف يجيء إن شاء الله في قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: 85] . ولا خلاف في أن الإضافة في قوله: رُوحِي للتشريف والتكريم مثل «ناقة الله» و «بيت الله» . والفاء في قوله: فَقَعُوا تدل على أن وقوعهم في السجود كان واجبا عليهم عقيب التسوية والنفخ من غير تراخ. قال المبرد: قوله كُلُّهُمْ أزال احتمال أن بعض الملائكة لم يسجدوا. وقوله: أَجْمَعُونَ أزال احتمال أنهم سجدوا متفرقين، وقال سيبويه والخليل أَجْمَعُونَ توكيد بعد توكيد، ورجح الزجاج هذا القول لأن أجمع معرفة فلا يقع حالا، ولو صح أن يكون حالا وكان منتصبا لأفاد المعنى الذي ذكره المبرد. ثم استثنى إبليس من الملائكة وقد سلف وجه الاستثناء في أول سورة البقرة. ثم استأنف على تقدير سؤال سائل هل سجد؟ فقال: أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ يعني إباء استكبار. ثم قال سبحانه وتعالى خطاب تقريع وتعنيف لا تعظيم وتشريف يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ وقال بعض المتكلمين: خاطبه على لسان بعض رسله لأن تكليم الله بلا واسطة منصب شريف فكيف يناله اللعين؟ قال جار الله: حرف الجر مع أن محذوف ومعناه أيّ غرض لك في الامتناع من السجود قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ اللام لتأكيد النفي أي لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد لِبَشَرٍ وحاصل شبهة اللعين أنه روحاني لطيف وآدم جسماني كثيف، وأصله نوراني شريف وأصل آدم ظلماني خسيس، فعارض النص بالقياس فلا جرم أجيب بقوله: فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة أو من السماء أو من جملة الملائكة. وضرب يوم الدين أي يوم الجزاء حدا للعنة جريا على عادة العرب في التأبيد كما في قوله: ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [هود: 107] أو أراد اللعن المجرد من غير تعذيب حتى إذا جاء ذلك اليوم عذب بما ينسى اللعن معه. قال صاحب الكشاف: وأقول: هذا إن أريد باللعن مجرد الطرد عن الحضرة. أما إن أريد به الإبعاد عن كل خير فيتعين الوجه الأول إلا عند من أثبت لإبليس رجاء العفو. وإنما ذكر اللعنة هاهنا بلام الجنس لأنه ذكر آدم بلفظ الجنس حيث قال: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً ولما خصص آدم بالإضافة إلى نفسه في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 سورة «ص» حيث قال: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [الآية: 75] خصص اللعنة أيضا بالإضافة فقال: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ فافهم. قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي قد مر مثله في أول «الأعراف» . ومعنى الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ أن إبليس لما عينه وأشار إليه بعينه صار كالمعلوم والمراد منه الوقت القريب من البعث الذي يموت فيه الخلائق كلهم ليشمل الموت اللعين أيضا. وقيل: لم يجب إلى ذلك وأنظر إلى يوم لا يعلمه إلا الله قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي قد مر مباحثه في «الأعراف» . ومفعول لَأُزَيِّنَنَّ محذوف أي أزين لهم المعاصي في الأرض أي في الدنيا التي هي دار الغرور، أو أراد أنه قدر على الاحتيال لآدم وهو في السماء فهو على التزيين لأولاده وهم في الأرض أقدر، أو أراد لأجعلن مكان التزيين عندهم الأرض بأن أزين الأرض في أعينهم وأحدثهم أن الزينة هي في الأرض وحدها كقوله: وإن يعتذر بالمحل من ذي ضروعها ... من الضيف يجرح في عراقيبها نصلي أراد يجرح عراقيبها نصلي ثم استثنى اللعين عباد الله المخلصين لأنه علم أن كيده لا يؤثر فيهم. قال بعض الحذاق: احترز إبليس بهذا الاستثناء من الكذب فيعلم منه أن الكذب في غاية السماحة والإخلاص فعل الشيء خالصا لله من غير شائبة الغير لا أقل من أن يكون حق الله فيه راجحا أو مساويا. ولما ذكر إبليس من الاستثناء ما ذكر قالَ الله سبحانه هذا يعني الإخلاص طريق مستقيم عليّ أن أراعيه أو عليّ مروره أي على رضواني وكرامتي. وقيل: لما ذكر اللعين أنه يغوي بني آدم إلا من عصمه الله بتوفيقه تضمن هذا الكلام تفويض الأمور إلى مشيئته تعالى فأشير إليه بقول: هذا أي تفويض الأمور إلى إرادتي ومشيئتي. صِراطٌ عَلَيَّ تقريره وتأكيده. ومن قرأ عَلَيَّ بالتنوين فهو من علو الشرف أي الإخلاص أو طريق التفويض إلى الله والإيمان بقضائه طريق رفيع. مُسْتَقِيمٌ لا عوج له. وقال جار الله: هذا إشارة إلى ما بعده وهو قوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ قال الكلبي: المذكورون في هذه الآية هم الذين استثناهم إبليس وذلك أنه لما ذكر إِلَّا عِبادَكَ بين به أنه لا يقدر على إغواء المخلصين فصدقه الله تعالى في الاستثناء قائلا إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ أي ولكن من اتبعك من الغواة فلك تسلط عليهم وهذا يناسب أصول الأشاعرة. وقال آخرون: هذا تكذيب لإبليس وذلك أنه أوهم بما ذكر أن له سلطانا على عباد الله الذين لا يكونون من المخلصين فبين تعالى أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلا إلا الغواة، لا بسبب الجبر والقسر بل من جهة الوسوسة والتزيين نظيره قوله: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ [إبراهيم: 22] وهذا يناسب أصول الاعتزال وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 قال ابن عباس: يريد إبليس ومن تبعه من الغاوين. لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ أي سبع طبقات بعضها فوق بعض أعلاها للموحدين، والثاني لليهود، والثالث للنصارى، والرابع للصابئين، والخامس للمجوس، والسادس للمشركين، والسابع للمنافقين. وعن ابن عباس في رواية ابن جريج: إن جهنم لمن ادعى الربوبية، ولظى لعبدة النار، والحطمة لعبدة الأصنام، وسقر لليهود، والسعير للنصارى، والجحيم للصابئين، والهاوية للموحدين. وقيل: إن قرار جهنم مقسوم بسبعة أقسام لكل قسم باب معين لكل باب جزء من أتباع إبليس مقسوم في قسمة الله سبحانه. والسبب فيه أن مراتب الكفر مختلفة بالغلظ والخفة فلا جرم صارت مراتب العقاب أيضا متفاوتة بحسبها. ثم عقب الوعيد بالوعد فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ فزعم جمهور المعتزلة أنهم الذين اتقوا جميع المعاصي وإلا لم يفد المدح. وقال جمهور: الصحابة والتابعين هم الذين اتقوا الشرك بالله واحتجوا عليه بأنه إذا اتقى مرة واحدة صدق عليه أنه اتقى، وكذا الكلام في الضارب والكاتب فليس من شرط صدق الوصف كونه آتيا بجميع أصنافه وأفراده إلا أن الأمة أجمعوا على أن التقوى عن الشرك شرط في حصول هذا الحكم. والآية أيضا وردت عقيب قوله: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ فلزمه اعتبار الإيمان في هذا الحكم. والظاهر أن لا يراد شرط آخر لأن التخصيص خلاف الظاهر فكلما كان أقل كان أوفق لمقتضى الأصل، فثبت أن المتقين يتناول جميع القائلين بكلمة الإسلام وهي «لا إله إلا الله محمد رسول الله» قولا واعتقادا سواء كان من أهل الطاعة أو من أهل المعصية. ثم إن الجنات أقلها أربع لقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن: 46] ثم قال وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرحمن: 62] وأما العيون فإما أن يراد بها الأنهار المذكورة في قوله: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد: 15] الآية وإما أن يراد بها منابع غير ذلك. ثم إن كل واحد من المتقين يحتمل أن يختص بعين وينتفع بها كل من في خدمته من الحور والولدان ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهوتهم. ويحتمل أن يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون من كل حقد وحسد. فإن قيل: إذا كانوا في جنات فكيف يعقل أن يقول لهم الله تعالى وبعض الملائكة ادْخُلُوها فالجواب لعل المراد أنهم لما ملكوا الجنات فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ذلك. ومعنى بِسَلامٍ أي مع السلامة من آفات النقص والانقطاع. قوله: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ قد مر تفسيره في «الأعراف» إِخْواناً نصب على الحال. وكذلك عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ والمراد بالإخوة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 إخوة الدين والتعاطف. والسرر جمع سرير. قيل: هو المجلس الرفيع المهيأ للسرور. وقال الليث: سرير العيش مستقره الذي يطمئن عليه حال سروره وفرحه. والتركيب يدور على العزة والنفاسة ومنه قولهم: «سر الوادي لأفضل موضع منه» ومنه السر الذي يكتم. عن ابن عباس: يريد على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، وعن مجاهد: تدور بهم الأسرة حيثما داروا فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين. والتقابل التواجه نقيض التدابر، وتقابل الإخوان يوجب اللذة والسرور ليكون كل منهم مقبلا على الآخر بالكلية، وتقابل الأعداء يكون تقابل التضاد والتمانع فيكون موجبا للتباغض والتخالف، واعلم أن الثواب منفعة مقرونة بالتعظيم خالصة من الآفات آمنة من الزوال. فقوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ إشارة إلى المنفعة وقوله: ادْخُلُوها رمز إلى أنها مقرونة بالتعظيم، وقوله وَنَزَعْنا إلى قوله: لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ أي تعب تلويح إلى كونها سالمة من المنغصات إلا أن قوله: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ إشارة إلى نفي المضار الروحانية، وقوله: لا يَمَسُّهُمْ إشارة إلى نفي المضار الجسدانية، وقوله: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ مفيد لمعنى الخلود. ثم لما ذكر الوعيد والوعد زاده تقريرا وتمكينا في النفوس فقال: نَبِّئْ عِبادِي وفيه من التوكيدات ما لا يخفى: منها إشهاد رسوله وإعلامه، ومنها تشريفهم بإطلاق لفظ العباد عليهم ثم بإضافتهم إلى نفسه، ومنها التوكيد ب «أن» وبالفضل وبصيغتي الغفور والرحيم مع نوع تكرر وكل ذلك يدل على أن جانب الرحمة أغلب كما قال: «سبقت رحمتي غضبي» «1» . التأويل: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي النفوس الكافرة لَوْ كانُوا مستسلمين لأوامر الله ونواهيه، وذلك إنما يكون عند استيلاء سلطان الذكر على القلب والروح، وتنور صفاتها بنور الذكر فيغلب النور على ظلمة النفس وصفاتها وتبدلت أحوالها من الأمّارية إلى الاطمئنان فتمنت حين ذاقت حلاوة الإسلام وطعم الإيمان لو كانت من بدء الخلق مسلمة مؤمنة كالقلب والروح. ثم هدد النفس التي ذاقت حلاوة الإسلام ثم عادت الميشوم إلى طبعها واستحلت المشارب الدنيوية بقوله: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ من القرى البدنية بإفساد استعدادها إِلَّا وَلَها كِتابٌ مكتوب في علم الله من سوء أعماله وأحواله ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها متى يظهر منها ما هو سبب هلاكها وَما يَسْتَأْخِرُونَ   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب: 15، 22، 28. مسلم في كتاب التوبة حديث: 14- 16. الترمذي في كتاب الدعوات باب: 99. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 لحظة بعد استيفاء أسباب هلاكها وَقالُوا يعني النفوس المتمردة مخاطبا للقلب الذاكر لَوْ ما تَأْتِينا بصفات الملائكة المنقادين، وفيه إشارة إلى أن النفس الأمارة لا تؤمن بما أنزل الله إلى القلوب من أنوار الإلهية حتى تصير مطمئنة مستعدة لهذه الصفات، ولو أنزلت قبل أوانها وكمال استعداد القلوب ما كانوا إذا منظرين مؤخرين من الهلاك لضيق نطاق طاقتهم إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا كلمة لا إله إلا الله في قلوب المؤمنين كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: 22] والمنافق يقول ذلك ولكن لم ينزل في قلبه ولم يحفظ. وَلَوْ فَتَحْنا على من أسلكنا الكفر في قلوبهم باباً مِنَ سماء القلب لأنكروا فتح الباب. ولقد جعلنا في سماء القلب بروج الأطوار، فكما أن البروج منازل السيارات فكذلك الأطوار منازل شموس المشاهدات وأقمار المكاشفات وسيارات اللوامع والطوالع وَزَيَّنَّاها لأهل النظر السائرين إلى الله وَحَفِظْناها مِنْ وساوس الشيطان وهواجس النفس الأمارة، ولكن من استرق السمع من النفس والشيطان فأدركه شعلة من أنوار تلك الشواهد فيضمحل الباطل ويتبين الحق وَالْأَرْضَ مَدَدْناها فيه أن أرض البشرية تميل كنفس الحيوانات إلى أن أرساها الله بجبال العقل وصفات القلب وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ هي أسباب الوصول والوصال وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ وهو جوهر المحبة وإن غذاءه من مواهب الحق وتجلي جماله فقط. ولكل شيء خزانة فلصورة الأجسام خزانة، ولاسمها خزانة، ولمعناها خزانة، وكذا للونها ولطعمها ولخواصها من المنافع والمضار، وكذا لظلمتها ونورها ولملكها وملكوتها، وما من شيء إلا وفيه لطف الله وقهره مخزون، وقلوب العباد خزائن صفات الله تعالى بأجمعها وَأَرْسَلْنَا رياح العناية لَواقِحَ لأشجار القلوب بأنهار الكشوف وبأثمار الشواهد كما قال بعضهم: إذا هبت رياح الكرم على أسرار العارفين أعتقهم من هواجس أنفسهم ورعونات طبائعهم، وظهر في القلوب نتائج ذلك وهي الاعتصام بالله والاعتماد عليه. فَأَنْزَلْنا مِنَ سماء الهداية ماءً الحكمة وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ في أصل الخلقة فإن المخلوق لا يوصف بالحكمة إلا مجازا. وإنا لنحن نحيي قلوب أوليائنا بأنوار جمالنا، ونميت نفوسهم بسطوة جلالنا وَنَحْنُ الْوارِثُونَ بعد إفناء وجودهم ليبقوا ببقائنا وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يحشر المستقدمين إلى حظائر قدسه والمستأخرين إلى أسفل سافلين الطبيعة، خاطب إبليس النفس بقوله: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ أي إلى أن تطلع شمس شواهدنا من مشرق الروح وتصير أرض النفس مشرقة وتتبدل صفاتها الذميمة المظلمة بالأخلاق الروحانية الحميدة إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يبعث الأرواح في قيامة العشق وهو الوقت المعلوم الذي يتجلى الرب فيه لأرواح العشاق، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 فينعكس نور التجلي من الأرواح إلى النفوس فتجعلها مطمئنة. بِما أَغْوَيْتَنِي أضللتني من طريق الأمارية لَأُزَيِّنَنَّ للأرواح في أرض البشرية من الأعمال الصالحات التي تورث الأخلاق الحميدة وبها تربية الأرواح وترقيها وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عما كانوا عليه من الأعمال الروحانية الملكية التي لا تتأتى إلا لعبادك الذين خلصوا من حبس الوجود بجذبات الألطاف. هذا صِراطٌ أي هو طريق أهل الاستقامة في السير في الله المنقطعين عن غيره إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ حجة تتعلق بتلك الحجة لهدايتهم وإغوائهم فإنهم بلاهم، وإن من خصوصية العبودية المضافة إلى الحضرة الحرية عما سواه لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ من الحرص والشره والحقد والحسد والغضب والشهوة والكبر، أو الأبواب السبعة إشارة إلى الحواس الخمس الظاهرة وإلى الوهم والخيال فإنهما أصلا الحواس الباطنية، لأن الأول يدرك المعاني والثاني يدرك الصور، والباقية- أعني المفكرة والحافظة والذاكرة- من أعوانهما، وأكثر ما يستعمل الإنسان هذه المشاعر إنما يستعملها في الأحوال الدنيوية المفضية إلى الهلاك، فلا جرم صارت أبوابا لجهنم. فإذا استعملها في تحصيل السعادات الباقية بحسب تصرف العقل الغريزي صرن مع العقل أبوابا بل أسبابا لحصول الجنة. ادْخُلُوها بِسَلامٍ والسلام من الله الجذبات آمِنِينَ من موانع الخروج والدخول بعد الوصول فإن السير في الله لا يمكن إلا بالله وجذباته ولهذا قال جبرائيل ليلة المعراج: لو دنوت أنملة لاحترقت. وَنَزَعْنا فيه أن نزع الغل من الصدور لا يكون إلا بنزع الله، وأن الأرواح القدسية مطهرات عن علائق القوى الشهوانية والغضبية مبرءات من حوادث الوهم والخيال، ومعنى تقابلهم أن النفوس المصفاة عن كدورات عالم الأجسام ونوازع الخيال والأوهام إذا وقع عليها أنوار جمال الله أو جلاله انعكست منها إلى من في مثل درجاتها كما تتعاكس المرايا الصافية، المتحاذية، فيزداد كل منها في نفسها بخفاء صفاتها. وفي قوله: نَبِّئْ عِبادِي إشارة إلى أن سلوك السالكين وطير الطائرين يجب أن يكون على قدمي الرجاء والخوف وجناحي الإنس والجن والله الموفق للصواب. [سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 99] وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 القراآت: إِذْ دَخَلُوا وبابه مدغما: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف غير هشام إنا نبشرك بسكون الباء وضم الشين: حمزة. الآخرون بالتشديد تُبَشِّرُونَ بالتشديد وكسر النون المخففة: نافع مثله. ولكن مشددة النون: ابن كثير. الباقون بفتح النون على أنها علامة رفع يَقْنَطُ بكسر النون: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي وخلف وكذلك بابه. الآخرون بالفتح آلَ لُوطٍ مدغما حيث كان شجاع لَمُنَجُّوهُمْ بالتخفيف: يعقوب وحمزة وعلي وخلف. الباقون بالتشديد قَدَّرْنا بالتخفيف حيث كان: أبو بكر وحماد بَناتِي إِنْ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع إِنِّي أَنَا بفتح ياء المتكلم: جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. الوقوف: إِبْراهِيمَ هـ ج لئلا يصير إِذْ دَخَلُوا ظرفا ل نَبِّئْهُمْ فإنه محال سَلاماً ط وَجِلُونَ هـ عَلِيمٍ هـ تُبَشِّرُونَ هـ الْقانِطِينَ هـ الضَّالُّونَ هـ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 الْمُرْسَلُونَ هـ مُجْرِمِينَ هـ لا للاستثناء. آلَ لُوطٍ ط أَجْمَعِينَ هـ لا قَدَّرْنا لا لأن الجملة بعده مفعول والكسر لدخول اللام في الخبر الْغابِرِينَ هـ الْمُرْسَلُونَ هـ لا لأن ما بعده جواب «لما» مُنْكَرُونَ هـ يَمْتَرُونَ هـ لَصادِقُونَ هـ تُؤْمَرُونَ هـ مُصْبِحِينَ هـ يَسْتَبْشِرُونَ هـ فَلا تَفْضَحُونِ هـ لا للعطف وَلا تُخْزُونِ هـ الْعالَمِينَ هـ فاعِلِينَ هـ ط لابتداء القسم يَعْمَهُونَ هـ مُشْرِقِينَ هـ لا لاتصال انقلابها بالصيحة مِنْ سِجِّيلٍ ط لِلْمُتَوَسِّمِينَ هـ مُقِيمٍ هـ لِلْمُؤْمِنِينَ هـ ط لتمام القصة لَظالِمِينَ هـ لا لاتصال الانتقام بظلمهم مِنْهُمْ هـ ط لأن الواو للابتداء فلو وصل لشابه الحال وهو محال مُبِينٍ هـ ط لتمام قصتهم الْمُرْسَلِينَ هـ لا لأن الواو بعده للحال وقد آتيناهم مُعْرِضِينَ هـ لا للعطف آمِنِينَ هـ ط مُصْبِحِينَ هـ ط للاتصال معنى يَكْسِبُونَ هـ م لتمام القصص إِلَّا بِالْحَقِّ ط الْجَمِيلَ هـ الْعَلِيمُ هـ الْعَظِيمَ هـ لِلْمُؤْمِنِينَ هـ الْمُبِينُ هـ ج لجواز تعلق الكاف بقوله: فَأَخَذَتْهُمُ أو بقوله: فَانْتَقَمْنا ولجواز تعلقها بمحذوف أي أنزلنا عليهم العذاب كما أنزلنا، وتمام البحث سيجيء في التفسير. الْمُقْتَسِمِينَ هـ لا عِضِينَ هـ أَجْمَعِينَ هـ لا يَعْمَلُونَ هـ الْمُشْرِكِينَ هـ الْمُسْتَهْزِئِينَ هـ لا آخَرَ ج لابتداء التهديد مع الفاء يَعْلَمُونَ هـ يَقُولُونَ هـ لا لاتصال الأمر بالتسبيح تسلية السَّاجِدِينَ هـ لا للعطف الْيَقِينُ هـ. التفسير: إنه سبحانه عطف وَنَبِّئْهُمْ على نَبِّئْ عِبادِي ليكون سماع هذه القصص مرغبا في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأولياء، ومحذرا من المعصية المستتبعة لدركات الأشقياء، ولما في قصة لوط من ذكر إنجاء المؤمنين وإهلاك الظالمين، وكل ذلك يقوّي ما ذكر من أنه غفور رحيم للمؤمنين، وأن عذابه عذاب أليم للكافرين. وعند المعتزلة غفور للتائبين معذب لغيرهم. وقد مر تفسير أكثر هذه القصة في سورة هود فنذكر الآن ما هو مختص بالمقام. فقوله: وَجِلُونَ معناه خائفون خافهم لامتناعهم من الأكل أو لدخولهم بغير إذن وفي غير وقت. إِنَّا نُبَشِّرُكَ استئناف في معنى تعليل النهي عن الوجل. بشروه بالولد الذكر بكونه عليما فقيل: أرادوا بعلمه نبوته. وقيل: العلم مطلقا. وقوله: عَلى أَنْ مَسَّنِيَ في موضع الحال أي مع هذه الحالة استفهم منكرا للولادة في حالة الهرم لأنها أمر عجيب عادة لا لأنه شك في قدرة الله تعالى ولذلك قال: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ «ما» استفهامية دخلها معنى التعجب كأنه قال: فبأي أعجوبة تبشروني أو أنكم لا تبشروني بشيء في الحقيقة لأن ذلك أمر غير متصور في العادة؟ وأحسن ما قيل فيه أن لا يكون قوله: «بما» صلة للتبشير بل يكون سؤالا عن الوجه والطريقة يعني إذا كان الطريق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 المعتاد ممتنعا فبأي طريق تبشرونني بالولد، فلذلك قالوا في جوابه بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ أي باليقين الذي لا لبس فيه، أو بشرناك بالولد بطريق هو حق وذلك قول الله تعالى ووعده وأنه قادر على خلق الولد من غير أبوين فضلا من شيخ فان وعجوز عاقر. قال أبو حاتم: حذف نافع ياء المتكلم مع النون وإسقاط الحرفين لا يجوز. وأجيب بأنه لم يحذف إلا الياء اكتفاء بالكسرة ونون الوقاية لم يوردها كما أوردت في قراءة التشديد، وإنما كسر نون الجمع لأجل الياء وكلتا اللغتين فصيحة. قيل: عظم فرحه بتلك البشارة فدهش عن الجواب المنتظم فتكلم بالكلام المضطرب. وقيل: طلب مزيد الطمأنينة كقوله: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] عن ابن عباس: يريد بالحق ما قضى الله أن يخرج من صلب إبراهيم إسحق ومن صلب إسحق أكثر الأنبياء. وقوله: فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ لا يدل على أنه كان قانطا فقد ينهى عن الشيء ابتداء كقوله: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ [الأحزاب: 48] . ولذلك أنكر إبراهيم نهيهم بقول: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ أي المخطئون طريق الصواب أو الكافرون نظيره إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف: 87] وفيه أنه لم يستنكر ذلك قنوطا من رحمته ولكن استبعادا له في العادة التي أجراها الله هما لغتان: قنط يقنط مثل ضرب يضرب، وقنط يقنط مثل علم يعلم. وزعم الفارسي أن الأولى أعلى اللغتين. ثم سأل عما لأجله أرسلهم الله حيث قال: فَما خَطْبُكُمْ والخطب الشأن العظيم. فسئل أنهم لما بشروه بالولد الذكر العليم فما وجه السؤال عن مجيئهم؟ وأجاب الأصم بأن المراد ما الأمر الذي وجهتم فيه سوى البشرى؟. وقال القاضي: إنه علم أن المقصود لو كان التبشير فقط لكان الملك الواحد كافيا. وقيل: علم أنه لو كان تمام الغرض البشارة لذكروها أول ما دخلوا قبل أن يوجس إبراهيم منهم خيفة. قلت: لعله استصغر أمر التبشير إما لأجل التواضع وإما لأنه واقعة خاصة فسألهم عن الأمر الذي هو أعظم من ذلك وأعم تعظيما لشأنهم قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا زعم صاحب الكشاف أن الإرسال هاهنا في معنى التعذيب والإهلاك كإرسال الحجر أو السهم إلى المرمى. وأقول: كأنه لا حاجة إلى هذا التجوز لقوله في سورة الذاريات إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الآيتان: 32، 33] فالتقدير إنا أرسلنا إليهم لنهلكهم إِلَّا آلَ لُوطٍ وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا لاختلاف الجنسين، فإن القوم موصوفون بالإجرام دون آل لوط. يكون قوله: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ جاريا مجرى خبر «لكن» كأنه قيل: لكن قوم لوط منجون، ويكون قوله: إِلَّا امْرَأَتَهُ استثناء من الاستثناء أي أرسلنا إليهم لنهلكهم إلا آل لوط إِلَّا امْرَأَتَهُ كقول المقر: لفلان علي عشرة إلا ثلاثة إلا واحدا، وجوز في الكشاف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 أن يكون قوله: إِلَّا آلَ لُوطٍ مستثنى من الضمير في مُجْرِمِينَ حتى يكون الاستثناء متصلا أي إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم. ولم لا يجوز الاستثناء من الاستثناء بناء على أن آلَ لُوطٍ مستثنى من معمول أُرْسِلْنا أو مُجْرِمِينَ وإِلَّا امْرَأَتَهُ من معمول لَمُنَجُّوهُمْ وقد عرفت ما فيه على أنه إذا جعل الإرسال بمعنى الإهلاك كما قرره هو آل الأمر إلى ما ذكرنا فلا أدري لم استبعده مع وفور فضله. قال أهل اللغة: قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل جعلت الشيء على مقدار غيره، ومنه قدر الله الأقوات أي جعلها على مقدار الكفاية، وقدر الأمور أي جعلها على مقدار ما يكفي في أبواب الخير والشر. وقيل: في معنى قدرنا: كتبنا. وقال الزجاج: دبرنا. وقيل: قضينا. والكل متقارب، والمشدد في هذا المعنى أكثر استعمالا وأنه جواب سؤال كأنه قيل: ما بالها استثنيت من الناجين؟ فقيل: قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في الهوالك. ويقال للماضي أيضا غابر وهو من الأضداد. قال في الكشاف: علق فعل التقدير مع أن التعليق من خصائص أفعال القلوب لأنه في معنى العلم. وإنما أسندوا الفعل إلى أنفسهم مع أن التقدير لله عز وجل بيانا لاختصاصهم به تعالى كما يقول خاصة الملك دبرنا كذا أو أمرنا بكذا ولعل المدبر والآمر هو الملك وحده. ثم إن الملائكة لما بشروا إبراهيم عليه السلام بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون إلى قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط وذلك قوله: فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ أي لوط إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ تنكركم نفسي وتنفر منكم. وذلك أنهم هجموا عليه فلم يعرفهم وخاف أن يطرقوه بشر فلذلك قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي ما جئناك بما توهمت بل جئناك بما فيه فرجك وتشفيك من عدوك وهو العذاب الذي كنت تخوفهم به وهم يشكون في وقوعه. وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ باليقين الثابت. وقال الكلبي: بالعذاب الذي لا شك فيه وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي في آخره وقدم في سورة هود وزاد هاهنا قوله: وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ لأنه إذا ساقهم وكان من ورائهم علم بنجاتهم، ولا يخفى حالهم. ففي الآية زيادة بيان لكيفية الإسراء ثم زاد في البيان فقال: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ولم يستثن امرأته اكتفاء بما مر في السورة من قوله: إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قال جار الله: إنما أمر باتباع أدبارهم ونهى عن الالتفات ليكون فارغ البال من حالهم فيخلص قلبه لشكر الله، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب، ولئلا يشاهدوا عذاب قومهم فيرقوا لهم مع أنهم ليسوا من أهل الرقة عليهم، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ولا يتحسروا على ما خلفوا. وجوز أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 يكون النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني، لأن من يلتفت لا بد أن يقع له أدنى وقفة وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ قال الجوهري: مضى الشيء مضيا ذهب، ومضى في الأمر مضيا أنفذه. وقال في الكشاف: عدى وَامْضُوا إلى حَيْثُ تعديته إلى الظرف المبهم لأن حَيْثُ مبهم في الأمكنة، وكذلك الضمير في تُؤْمَرُونَ قلت: حاصل الكلام يرجع إلى قوله: اذهبوا إلى المكان الذي تؤمرون بالذهاب إليه، أو أنفذوا أمر الذهاب إلى هنالك. عن ابن عباس: إنه الشام. وقيل: مصر. وقال المفضل: حيث يقول لكم جبرائيل وكانت قرية معينة ما عمل أهلها عمل قوم لوط. ثم أخبر عن حالهم مجملا فقال: وَقَضَيْنا ضمن معنى أوحينا ولذلك عدي بإلى كأنه قيل: وأوحينا. إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ مقتضيا مبتوتا. ثم فسر ذلك الأمر بقوله: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ أي يستأصلون عن آخرهم حال ظهور الصبح ودخولهم فيه. وفي هذا الإجمال والتفسير تفخيم لشأن الأمر وتعظيم له. ثم حكى ما أبدى قوم لوط من الفعال بعد نزول الملائكة فقال: وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أي أهل سذوم التي ضرب بقاضيها المثل فقيل أجور من قاضي سذوم. يَسْتَبْشِرُونَ بظهور السرور بمجيء الملائكة لأنهم رأوهم مردا حسان الوجوه قالَ لوط لما قصدوا أضيافه إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ بفضيحة ضيفي لأن الضيف يجب إكرامه فإذا أسيء إليه في دار المضيف كان ذلك إهانة وفضيحة للمضيف. يقال: فضحه يفضحه فضحا وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ مر في «هود» قالُوا في جواب لوط أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي ألسنا نهيناك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة؟ وكانوا يتعرضون لكل أحد، وكان لوط عليه السلام ينهاهم عن ذلك فأوعدوه نظيره لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ [الشعراء: 116] وقيل: نهوه عن ضيافة الناس وإنزالهم قالَ هؤُلاءِ بَناتِي من الصلب أو أراد نساء أمته كما مر في «هود» . قال جار الله إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ شك في قبولهم لقوله كأنه قال وما أظنكم تفعلون. وقيل: إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فبما أحل الله دون ما حرم. ثم قالت الملائكة للوط عليه السلام لَعَمْرُكَ مبتدأ محذوف الخبر لكثرة الاستعمال أي قسمي أو هو مما أقسم به. والعمر والعمر بالفتح والضم واحد إلّا أنهم خصوا القسم بالمفتوح اتباعا للأخف، فإن الحلف كثير الدور على ألسنتهم إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ غوايتهم التي أذهبت عقولهم حتى لم يميزوا بين خطئهم وصوابك يَعْمَهُونَ يتحيرون فكيف يقبلون قولك الذي تأمرهم به من ترك البنين إلى البنات؟ وقيل: إنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 سبحانه خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقسم بحياته صلى الله عليه وسلم كرامة له صلى الله عليه وسلم وما أقسم بحياة أحد قط وذلك يدل على أنه أكرم الخلق على الله فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس كان ابتداء العذاب من أول الصبح لقوله: مُصْبِحِينَ أليس الصبح بقريب؟ وغلبته كانت عند طلوع الشمس قال المفسرون: هي صيحة جبرائيل. قلت: ويحتمل أن تكون صيحة قلب المدائن وإرسال الحجارة عليهم. قال بعض المفسرين: إنما قال: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ وفي سورة هود وَأَمْطَرْنا عَلَيْها [الآية: 82] لأنه أراد هاهنا من شذ من القرية منهم. وقيل: سبب تخصيص هذه السورة بجمع المذكر هو بناء القصة على قوله: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ للمتفرسين. وحقيقة التوسم التثبت في النظر حتى يعرف حقيقة سمة الشيء فعبر به عن التأمل والتفكر وَإِنَّها يعني تلك القرى وآثارها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ثابت يسلكه الناس المارة من الحجاز إلى الشام يشاهدون آثار قهر الله وغضبه هنالك. قال بعضهم: إنما جمع الآيات في قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ لأنه أشار إلى ما تقدم عن ضيف إبراهيم وقصة لوط وقلب المدينة وإمطار الحجارة عليها وعلى من غاب منهم. وقال في الثانية وَإِنَّها أي القرية لَبِسَبِيلٍ وهذه واحدة من تلك الآيات فلذلك قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وقيل: ما جاء من القرآن من الآيات فلجمع الدلائل، وما جاء من الآية فلوحدانية المدلول عليه، فلما ذكر عقيبه المؤمنين وهم مقرون بوحدانيته وحد الآية نظيره في «العنكبوت» خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [الآية: 44] . ثم أجمل قصة قوم شعيب فقال: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ «إن» مخففة من الثقيلة ولذلك دخلت اللام الفارقة في خبرها. كانوا أصحاب غياض ومواضع ذات شجر فنسبوا إليها. والأيكة الشجر الملتف، والضمير في قوله: وَإِنَّهُما يعود إلى قرى قوم لوط وإلى الأيكة. وقيل: بل إلى الأيكة ومدين لأن شعيبا كان مبعوثا إليهما فدل بذكر أحد الموضعين هاهنا- وهو الأيكة- على الآخر لَبِإِمامٍ مُبِينٍ لبطريق واضح. قال الفراء والزجاج: سمي الطريق إماما لأنه يؤم ويتبع. وقال ابن قتيبة: لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده. ثم ختم القصص بقصة ثمود فقال: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وهو واد بين الشام والمدينة. وجمع المرسلين لأن تكذيب نبي واحد- وهو صالح- كتكذيب جميع الأنبياء، أو لأن القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل، أو أراد صالحا ومن معه من المؤمنين. وَآتَيْناهُمْ أي أعطينا رسولهم آياتِنا أراد الناقة وكانت فيها آيات خروجها من الصخرة وعظم خلقها وكثرة لبنها إلى غير ذلك كما حكينا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 في «الأعراف» فَكانُوا عَنْها أي عن النظر فيها والاعتبار بها مُعْرِضِينَ وفيه أن التقليد مذموم والاستدلال واجب وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ من أن تنهدم ويتداعى بنيانها أو يقع سقفهم عليهم، أو آمنين من عذاب الله أو من حوادث الدهر. فَما أَغْنى عَنْهُمْ لم يدفع عنهم شيئا من عذاب الله ما كانُوا يَكْسِبُونَ من بناء البيوت الوثيقة ومن جمع الأموال والعدد. ولما فرغ من القصص قال: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي متلبسة بالفوائد والغايات والحكم الصحيحة منها: اشتغال المكلفين بالعبادة والطاعة حتى لو تركوها وأعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير الأرض منهم، وهذا النظم يناسب أصول الاعتزال، قال الجبائي: فيه بطلان مذهب الجبرية الذين يزعمون أن أكثر ما خلق الله بين السموات والأرض من الكفر والمعاصي باطل. وأجيب بأن أفعال العباد من جملة ما بين السموات والأرض فوجب أن يكون الله خالقها. ويمكن أن يقال في وجه النظم: إن هذا ابتداء شروع في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتصبيره على أذيات قومه بعد اقتصاص أحوال الأمم السالفة ومعاملاتهم مع أنبيائهم، ويؤيد هذا النظم قوله: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ معناه أن الله سينتقم لك فيها من أعدائك ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق والعدل فكيف يليق بحكمته وفضله إهمال أمرك؟ ولما صبره على أذى قومه رغبه في الصفح فقال: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أي فأعرض عنهم إعراضا جميلا بحلم وإغضاء إن كان اللام الجنس فالمراد هذا النوع من الصفح لا الذين يشتمل على حقد واجتهال ومكر، وإن كان للعهد فلعل المراد ما أمر به في نحو قوله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] وقيل: هذا منسوخ بآية السيف والأظهر أن حسن المعاشرة والمخالقة مأمور به ما أمكن فلا حاجة إلى ارتكاب النسخ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ كثير الخلق الْعَلِيمُ الكامل العلم يعلم ما يجري بين الخلائق من الأحوال والأخلاق وإن كثروا وكثرت فيجازيهم يوم القيامة على حسب ذلك. وقيل: أراد أنه الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم، فاليوم الصفح أصلح فاصفحوا إلى أن يكون السيف أصلح. ثم حثه على الصفح والتجاوز بذكر النعم العظام التي خصه بها فقال: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي أكثر المفسرين على أن المراد بها فاتحة الكتاب وهو قول عمر وعلي رضي الله عنهما وابن مسعود وأبي هريرة والحسن وأبي العالية ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة. وذلك أنها سبع آيات. والمثاني جمع مثناة من التثنية أو جمع مثنية لأنها تثنى في كل صلاة. وقال الزجاج: تثنى بما يقرأ بعدها معها. وأيضا قسمت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 بنصفين قسم ثناء وقسم دعاء، وقد ورد الحديث في هذا المعنى «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» «1» وقد مر في أول الكتاب. وأيضا كلماتها مثناة مثل: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِيَّاكَ وإِيَّاكَ الصِّراطَ صِراطَ عَلَيْهِمْ عَلَيْهِمْ واشتمالها على ثناء الله تعالى وتحميده مقرر ومما يتفرع على هذا القول ما نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنه قال: كان ابن مسعود لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب. فقيل: كأنه رأى أنه تعالى عطف عليه قوله: وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ والعطف يوجب المغايرة فوجب أن تكون السبع المثاني غير القرآن. والجواب أنه قد يكون بعطف الجزء على الكل كقوله: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: 98] أو بالعكس كما في الآية. والمقصود في الوصفين تميز البعض عن الكل تنبيها على مزية ذلك البعض وشرفه. فإن قلت: ليس لعطف الكل على البعض نظير، والاستدلال بالآية استدلال بصورة النزاع من غير دليل. قلنا: يكفي بقوله: وَلَقَدْ آتَيْناكَ دليلا على أنه من القرآن. وعن ابن عمر وسعيد بن جبير في رواية: أن السبع المثاني هي السبع الطوال سميت بذلك لما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك، أو لأنها تثني على الله بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى. وأنكر الربيع هذا القول لأن هذه السورة مكية وأكثر تلك السورة مدنية. وأجيب بأن المراد من الإيتاء إنزالها إلى السماء الدنيا، والمكية والمدنية في ذلك سيان، وضعف بأن إطلاق لفظ الإيتاء على ما لم يصل بعد إليه خلاف الظاهر. وقال قوم: السبع المثاني هي التي دون الطوال والمئين وفوق المفصل، واحتجوا عليه بما روى ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني المثاني مكان الزبور وفضلني ربي بالمفصل» «2» . قال الواحدي: والقول في تسمية هذه السور مثاني كالقول في تسمية الطول مثاني. وروي عن ابن عباس وإليه ذهب طاوس أنها هي القرآن لقوله سبحانه: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: 23] وأنها سبعة أسباع كرر فيها دلائل التوحيد والنبوة والتكاليف. ومعنى العطف على هذا القول الجمعية كقوله: إلى الملك القرم وابن الهمام. وكأنه قيل: آتيناك ما هو الجامع لكونه سبعا مثاني ولكونه قرآنا عظيما. قال الزجاج ووافقه صاحب الكشاف: و «من» في مِنَ الْمَثانِي للبيان أو للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطول، وللبيان إذا أردت الأسباع.   (1، 2) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث: 38، 40. أبو داود في كتاب الصلاة باب: 132. الترمذي في كتاب تفسير سورة الفاتحة باب: 1. النسائي في كتاب الافتتاح باب: 23. ابن ماجه في كتاب الأدب باب: 52. أحمد في مسنده (2/ 241، 285) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 ولما عرف رسوله نعمه الدينية ورغبه فيها نفره من اللذات العاجلة الزائلة لأن كل نعمة وإن عظمت فإنها بالنسبة إلى نعمة القرآن ضيئلة حقيرة، ومنه الحديث «من لم يتغن بالقرآن أي لم يستغن به- فليس منا» «1» وقول أبي بكر: من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا. فمن حق قارئ القرآن الواقف على معانيه أن لا يشغل سره بالالتفات إلى الدنيا وزهرتها. قال الواحدي: إنما يكون مادّا عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه، وإدامة النظر إليه تدل على استحسانه وتمنيه. وقال في الكشاف: معنى لا تَمُدَّنَّ لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمن له إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي أصنافا من الكفار قاله ابن قتيبة. وقال الجوهري: الأزواج القرناء. وقال بعضهم: لا تمدن عينيك أي لا تحسدنّ أحدا على ما أوتي من الدنيا. وضعف بأن الحسد منهي عنه مطلقا فكيف يحسن تخصيص الرسول به؟ ويمكن أن يجاب بأن المراد منه نهي التكوين كقوله: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 14] . أو المراد الغبطة فهي محظورة عليه صلى الله عليه وسلم لجلالة منصبه وإن كانت جائزة لأمته. ويروى أنه وافت من بلاد الشام سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجوهر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها ولأنفقناها في سبيل الله. فقال لهم الله عز وجل: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع. وإنما قال في هذه السورة لا تَمُدَّنَّ بغير واو العطف لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه. ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم أنفسهم وإن لم يحصل لهم في قلبه قدر ووزن فقال: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على أنهم لم يؤمنوا فيتقوى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون، وكما أمره بالتكبر على الأغنياء والترفع عنهم إذا كانوا كفارا أمره بالتواضع للفقراء إذا كانوا مؤمنين فقال: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ الخفض نقيض الرفع، وجناحا الإنسان يداه، وخفضهما كناية عن اللين والرفق. وإنما قال في سورة الشعراء بزيادة لِمَنِ اتَّبَعَكَ [الآية: 215] لأنه قال قبله وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الآية: 214] فلو لم يذكر هذه الزيادة لكان الظاهر أن اللام للعهد فصار الأمر بخفض الجناح مختصا بالأقربين من عشيرته فزيد لِمَنِ اتَّبَعَكَ [الشعراء: 215] ليعلم أن هذا التشريف شامل لجميع متبعيه من الأمة. ولما بعثه على الرفق بأهل الإيمان أمره بالإنذار لكل المكلفين فقال: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب: 44. أبو داود في كتاب الوتر باب: 20. الدارمي في كتاب الصلاة باب: 171. أحمد في مسنده (1/ 172، 175) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 ويدخل تحت كونه نذيرا كونه مبلغا لجميع التكاليف، لأن كل ما كان واجبا ترتب على تركه عذاب، وكل ما كان حراما ترتب على فعله عقاب. ويدخل في كونه مبينا كونه شارحا لجميع مراتب أهل التكاليف من الجنة والنار، فالإنذار بالنار والإحذار بالجنة هو الإخبار عن موجب الحرمان عنها. وفي متعلق قوله: كَما أَنْزَلْنا وجهان بعد ما مر به في الوقوف: أحدهما أن يتعلق بقوله: وَلَقَدْ آتَيْناكَ أي أنزلنا عليك ما أنزلنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ومن هم؟ قيل: أهل الكتاب الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي أجزاء جمع عضة وأصلها عضوة «فعلة» من عضى الشاة إذا جعلها أجزاء وأعضاء، أو «فعلة» من عضهته إذا بهته فالمحذوف منها الهاء لا الواو. وعن عكرمة: العضه السحر بلسان قريش يقولون للساحرة عاضهة. ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة فينقصانها الهاء أيضا. وجمعت العضة بالمعاني جمع العقلاء لما لحقها من الحذف، فجعلوا الجمع بالواو والنون عوضا عما لحقها من الحذف كسنين. فمعنى الآية أن اليهود اقتسموا القرآن إلى حق وباطل وجزؤه فقالوا بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما. ويجوز أن يراد بالقرآن ما يقرأونه من كتبهم وقد اقتسموه بتحريفهم وتكذيبهم، والإقرار بالبعض والتكذيب بالبعض كقوله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: 85] وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه وعداوتهم، ولهذا وسط بين المتعلق بقوله: لا تَمُدَّنَّ الآية لأنه مدد للتسلية لما فيه من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم ومن الإقبال بالكلية على المؤمنين. الوجه الثاني أن يتعلق بقوله: النَّذِيرُ الْمُبِينُ وعلى هذا لا يكون بد من التزام إضمار أو زيادة، أما الإضمار فأن يكون التقدير: أنا النذير عذابا كما أنزلنا كقولك رأيت كالقمر في الحسن أي وجها كالقمر، وأما الزيادة فأن تكون الكاف زائدة كقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ويمكن أن يقال: الكاف بمعنى مثل ولا حاجة إلى الالتزام والتقدير: أنذر قريشا مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم إما اليهود ويراد بالعذاب ما جرى على قريظة والنضير فيكون قد جعل المتوقع بمنزلة الواقع وهو من الإعجاز لأنه إخبار بما سيكون وقد كان، وإما غيرهم من أهل مكة أو من قوم صالح. قال ابن عباس: هم الذين اقتسموا طرق مكة ومداخلها أيام الموسم فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإيمان بالله ورسوله. يقول بعضهم: لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر، ويقول الآخر كذاب، والآخر شاعر، فأهلكهم الله يوم بدر وقبله بآفات وكانوا قريبا من أربعين، منهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب. وقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 عكرمة: اقتسموا القرآن استهزاء وكان يقول بعضهم سورة البقرة لي ويقول الآخر سورة آل عمران لي وقال مقاتل: اقتسموه. قال بعضهم سحر، وبعضهم شعر، وبعضهم كذب، وبعضهم أساطير الأولين. وقال ابن زيد: المقتسمون هم الذين تقاسموا بالله ليبيتن صالحا كما سيجيء في سورة النمل، فرمتهم الملائكة بالحجارة وقتلوهم، وعلى هذا يكون قوله: الَّذِينَ جَعَلُوا منصوبا بالنذير أي أنذر المعضين الذين يجزؤن القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين. ثم أقسم على سبيل الوعيد فقال: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ الآية وقد مر تفسير مثله في أول «الأعراف» وذلك قوله فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الأعراف: 6] . والأظهر أن الضمير عائد إلى جميع المكلفين المنذرين، وأن السؤال يكون عن جميع الأعمال، وقد يخص الضمير بالمقتسمين والسؤال بالاقتسام. ثم شجع نبيه قائلا فَاصْدَعْ أي اجهر بِما تُؤْمَرُ وأظهره وفرق بين الحق والباطل. وأصل الصدع الشق والفصل ومنه سمي الصبح صديعا كما سمي فلقا. وصدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا. قال النحويون: الجار محذوف والمعنى بالذي تؤمر به من الشرائع مثل «أمرتك الخير» . وجوز أن تكون «ما» مصدرية أي بأمرك وشأنك مصدر من المبني للمفعول. وقالوا: وما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية. ثم قال: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة وهذا لا ينافي آية القتال حتى يلزم النسخ على ما ظن بل يؤكدها. ثم أكد النهي عن الاكتراث بهم وقوّى قلبه فقال: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ولا ريب أنهم طبقة ذو شوكة قدروا على الاستهزاء بالرسول مع جلالة قدره. والآية لا تفيد إلا هذا القدر لكن المفسرين ذكروا عددهم وأسماءهم مع اختلاف بينهم. والأشهر على ما رواه عروة بن الزبير أنهم خمسة نفر من الأشراف: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والحرث بن الطلاطلة. وعن ابن عباس: ماتوا كلهم قبل يوم بدر. وقال جبرائيل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظما لأخذه فأصاب عرقا في عقبة فقطعه فمات. وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة فقال: لدغت لدغت فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي، وأشار إلى أنف الحرث فامتخط قيحا فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجر ويضرب وجهه بالشوك حتى مات، ثم زاد في تسلية نبيه صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ من المطاعن فيك وفي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 القرآن لأن الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك. ثم أمره لكشف ما نابه بأربعة أشياء: بالتسبيح والتحميد والسجود والعبادة إلى إتيان اليقين. عن ابن عباس: هو الموت سمي بذلك لأنه أمر متيقن ولا يجب الإخلال بالعبادة ما دام المكلف حيا وهذا كما قيل في تحديد مدة طلب العلم: إنه من المهد إلى اللحد. وكيف يصير الإقبال على الطاعات سببا لزوال ضيق القلب؟ قال المحققون: لأنه ينكشف له أضواء عالم الربوبية فيهون في نظره المصالح الدنيوية فلا يستوحش من فقدانها ولا يستأنس بوجدانها. وقال أهل السنة: إذا نزل بالعبد بعض المكاره فعليه أن يفزع إلى الله بالذكر الدائم والسجود وسائر أنواع العبادة فكأنه يقول: وجب عليّ عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكاره. وقالت المعتزلة: من اعتقد تنزيه الله عن القبائح سهل عليه تحمل المشاق لأنه يعلم أنه تعالى عدل منزه عما لا فائدة فيه ولا غرض فيطيب قلبه. التأويل: في بشارة إبراهيم إشارة إلى أن الطالب الصادق وإن كان مسنا ضعيف القوى كما قيل: الصوفي بعد الأربعين بارد. فأنه ينبغي أن لا يقنط من رحمة الله، ويتقرب إليه بالأعمال القلبية ليتقرب إليه ربه بأصناف الألطاف وجذبات الأعطاف، فيخرج من صلب روحه ورحم قلبه غلاما عليما بالعلوم اللدنية وهو واعظ الله الذي في قلب المؤمن إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لأصحاب القلوب المتوسمين بشواهد أحكام الغيب. وما خلقنا سموات الأرواح وأرض الأشباح، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار والخفيات إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا لمظهر الحق، ومظهره هو الإنسان المخصوص بذلك من بين سائر المخلوقات وَإِنَّ السَّاعَةَ يعني قيامة العشق لَآتِيَةٌ لنفوس الطالبين الصادقين من أصحاب الرياضات لأن أنفسهم تموت بالرياضة ومن مات فقد قامت قيامته فَاصْفَحِ أيها الطالب الصادق عن النفس المرتاضة بأن تداويها وتواسيها، فإن في قيامة العشق يحصل من تزكية النفس في لحظة واحدة ما لا يحصل بالمجاهدة في سنين كثيرة ومن هنا قيل: جذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ لصور المخلوقات ولمعانيها ولحقائقها الْعَلِيمُ بمن خلقه مستعدا لمظهرية ذاته وصفاته ومظهريتهما وليس ذلك في السموات والأرض وما بينهما إلا الإنسان الكامل وغيره مختص بمظهرية الصفات دون الذات وان كان ملكا فلهذا قال: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً أي سبع صفات ذاتية لله تبارك وتعالى: السمع والبصر والكلام والحياة والعلم والإرادة والقدرة مِنَ الْمَثانِي أي من خصوصية المظهرية، والمظهرية الذات والصفات. وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ولهذا صار خلقه عظيما لأنه كان خلقه القرآن لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 أَزْواجاً من أهل الدنيا والآخرة وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ بهذا المقام ليصلوا بجناح همتك إليه عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الذين قسموا قهر الله على أنفسهم فصاروا مظاهر القهر الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي جزؤوه في الاستعمال فقوم قرأوه ليقال لهم القراء وبه يأكلون، وقوم حفظوه ليقال لهم الحفاظ وبه يجرّون الرزق، وقوم حصلوا تفسيره وتأويله إظهارا للفضل وطلبا للشهرة، وقوم استنبطوا معانيه وفقه على وفق آرائهم ومذاهبهم فكفروا إذ فسروا القرآن برأيهم. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الذين يستعملون الشريعة بالطبيعة استهزاء بدين الله الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ من الهوى والدنيا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ لأنك لست منهم وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ سجدة الشكر وَاعْبُدْ رَبَّكَ بالإخلاص حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي إلى الأبد لأن كل مقام يحصل فيه اليقين بالعيان بعد العرفان فإنه يحصل فوقه مقام آخر مشكوك فيه إلى أن يحصل برد اليقين فيه أيضا، فهناك مراتب لا تتناهى فاليقين يكون إشارة إلى الأبد والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 (سورة النحل) (مكية غير ثلاث آيات وَإِنْ عاقَبْتُمْ إلخ حروفها سبعة آلاف وسبعمائة وسبعة كلمها ألف وثمانمائة وأحد وأربعون آياتها مائة وثمان وعشرون) [سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 23] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 القراآت: تشركون وما بعده بتاء الخطاب: حمزة وعلي وخلف. والآخرون على الغيبة تنزل بالفتحات الثلاث الْمَلائِكَةَ بالرفع: سهل وروح وزيد وأبو زيد مثله لكن بضم التاء الفوقانية: جبلة ينزل من الإنزال الْمَلائِكَةَ بالنصب: ابن كثير وأبو عمرو ورويس. والباقون بالتشديد من التنزيل. بِشِقِّ الْأَنْفُسِ بفتح الشين: يزيد. الباقون بكسرها ننبت بالنون: يحيى وحماد. الآخرون بياء الغيبة وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ كلها مرفوعات: ابن عامر وافق حفص والمفضل في النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ الباقون: بنصب الجميع على أن مُسَخَّراتٌ حال. يسرون ويعلنون بالياء التحتانية فيهما: الخزاز عن هبيرة. الآخرون بتاء الخطاب يَدْعُونَ على الغيبة: سهل ويعقوب وعاصم غير الأعشى. الباقون على الخطاب. الوقوف: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ط يُشْرِكُونَ هـ فَاتَّقُونِ هـ بِالْحَقِّ ط يُشْرِكُونَ هـ مُبِينٌ هـ ج خَلَقَها ج لاحتمال تمام الكلام واحتمال أن يكون لَكُمْ متعلقا به والوقف حينئذ على لَكُمْ. تَأْكُلُونَ هـ ص للعطف تَسْرَحُونَ هـ ص لذلك الْأَنْفُسِ ط رَحِيمٌ هـ لا لأن الْخَيْلَ مفعول خلق وَزِينَةً ط ما لا تَعْلَمُونَ هـ جائِرٌ ط أَجْمَعِينَ هـ تُسِيمُونَ هـ الثَّمَراتِ ط يَتَفَكَّرُونَ هـ وَالنَّهارَ ط لمن قرأ وَالشَّمْسَ وما بعده بالرفع ومن نصب الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ورفع النُّجُومُ وقف على الْقَمَرَ ومن نصب الكل وقف على بِأَمْرِهِ بِأَمْرِهِ ط يَعْقِلُونَ هـ لا لأن ما بعده مفعول سَخَّرَ أَلْوانُهُ ط يَذَّكَّرُونَ هـ تَلْبَسُونَها ج لأن قوله وَتَرَى فعل مستأنف مع اتصال المعنى. تَشْكُرُونَ هـ لا تَهْتَدُونَ هـ لا لأن قوله وَعَلاماتٍ عطف على سُبُلًا وَعَلاماتٍ ط يَهْتَدُونَ هـ لا يَخْلُقُ ط تَذَكَّرُونَ هـ لا تُحْصُوها ط رَحِيمٌ هـ وَما تُعْلِنُونَ هـ وَهُمْ يُخْلَقُونَ هـ ط لأن التقدير: هم أموات غَيْرُ أَحْياءٍ ج لاختلاف الجملتين وَما يَشْعُرُونَ هـ لا لأن ما بعده مفعول يُبْعَثُونَ هـ واحِدٌ ط لأن ما بعده مبتدأ مع الفاء مُسْتَكْبِرُونَ هـ وَما يُعْلِنُونَ هـ الْمُسْتَكْبِرِينَ هـ. التفسير: هذه السورة تسمى سورة النعم أيضا، وحكى الأصم عن بعضهم أن كلها مدنية. وقال الآخرون: من أولها إلى قوله: كُنْ فَيَكُونُ مدنية وما سواه مكي. وعن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 قتادة بالعكس منه. قال أهل النظم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم بعذاب الدنيا تارة وهو القتل والاستيلاء عليهم كما حصل في يوم بدر، وتارة بعذاب القيامة. ثم إن القوم لما لم يشاهدوا شيئا من ذلك أقبلوا على تكذيبه وكانوا يستعجلون ما وعدوا به استهزاء. وروي أنه لما نزلت اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: 1] قال الكفار فيما بينهم: إن هذا يزعم أن القيامة قد اقتربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن. فلما تأخرت قالوا: ما نرى شيئا فنزلت اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء: 1] فأشفقوا وانتظروا قربها، فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم فنزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فاطمأنوا. والحاصل أن قوله: أَتى أَمْرُ اللَّهِ جواب عن شبهتهم إجراء لما يجب وقوعه مجرى الواقع كما يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها: جاءك الغوث فلا تجزع. أو المراد أن أَمْرُ اللَّهِ بذلك وحكمه قد وقع وأتى. فأما المحكوم به فإنما لم يقع لأنه تعالى حكم بوقوعه في وقت معين فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود فلا تستعجلوه ولا تطلبوا حصوله قبل حضور ذلك الوقت. ثم إن المشركين كأنهم قالوا: هب يا محمد أنا سلمنا صحة ما تقول من أنه تعالى حكم بإنزال العذاب علينا إما في الدنيا وإما في الآخرة إلا أنا نعبد هذه الأصنام لأنها شفعاؤنا عند الله فكيف نستحق العذاب بسبب هذه العبادة؟ فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ كما مر في أول سورة يونس. والمراد تنزيه نفسه عن الأضداد والأنداد وأن يكون لأحد من الأرواح والأجساد أن يشفع عنده إلا بإذنه، أو يستعجل في حكم من أحكامه. أو قضية قبل أوانه. ثم إنهم كأنهم قالوا سلمنا أنه تعالى أن يقضي على طائفة باللطف وعلى الآخرين. بالقهر ولكن كيف صرت واقفا على أسرار الله تعالى في ملكه وملكوته دوننا، من أين حصل لك هذا الفضل علينا؟ فأزال الله سبحانه شبهتهم بقوله: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ الآية. والمراد أن له بحكم المالكية أن يختص بعض عبيده بإنزال الوحي عليه ويأمره بأن يكلف سائر العباد بمعرفة توحيد الله وبعبادته، فظهر بهذا البيان أن هذه الآيات منتظمة على أحسن الوجوه. قال الواحدي: روى عطاء عن ابن عباس أنه أراد بالملائكة هاهنا جبرائيل وحده، وتسمية الواحد بالجمع إذا كان رئيسا مطاعا جائزة. وعلى هذا التفسير فالمراد بالروح كلام الله تعالى كقوله: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] قال المحققون: الروح الأصلي هو القرآن الذي فيه بيان المبدأ والوسط والمعاد، فبه يحصل إشراق العقل، وبالعقل يكمل ضياء جوهر الروح، وبالروح يكمل حال الجسد فهو الأصل والباقي فرع عليه وبهذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 المناسبة يسمى جبرائيل روحا وعيسى روحا. وعن أبي عبيدة أن الروح هاهنا جبرائيل، والباء بمعنى «مع» أي تنزل الملائكة مع جبرائيل. وذلك أنه في أكثر الأحوال كان ينزل ومعه أقوام من الملائكة كما في يوم بدر وحنين، وكان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ملك الجبال وملك البحار وخزان الجنة وغيرهم. قال في الكشاف: بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ أي بما يحيي القلوب الميتة بالجهل من وحيه، أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد وقال غيره: من أمره معناه أن ذلك التنزيل والنزول لا يكون إلا بأمر الله كقوله وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم: 64] قال الزجاج: أَنْ أَنْذِرُوا بدل من «الروح» أي ينزلهم بأن أنذروا. و «أن» إما مفسرة لأن تنزيل الوحي فيه معنى القول، وإما مخففة من الثقيلة وضمير الشأن مقدر أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا أي أعلموا الناس قولي: لا إِلهَ إِلَّا أَنَا وهو إشارة إلى استكمال القوة النظرية. وقوله: فَاتَّقُونِ رمز إلى استكمال القوة العملية ومنه يعلم أن النفس متى كملت من هاتين الجهتين حصل لها روح حقيقي وحياة أبدية وسعادة سرمدية. قال الإمام فخر الدين الرازي: إنا لا نعلم كون جبريل صادقا ولا معصوما من الكذب والتلبيس إلا بالدلائل السمعية، وصحة الدلائل السمعية موقوفة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وصدقه يتوقف على أن هذا القرآن معجز من قبل الله لا من قبل شيطان خبيث، والعلم بذلك يتوقف على العلم بأن جبرائيل صادق مبرأ عن التلبيس وأفعال الشياطين، وحينئذ يلزم الدور وهذا مقام صعب. أقول: قد ذكرنا مرارا أن الفرق بين المعجز والسحر هو أن صاحب المعجز يدعو إلى الخير، وصاحب السحر يدعو إلى الشر، والفرق بين الملك والشيطان هو أن الملك يلهم بالخير، والشيطان يوسوس بضده وإذا كان الأمر كذلك فكيف تشتبه المعجزة بالسحرة وجبرائيل بإبليس ومن أين يلزم الدور؟ ولما بين الله سبحانه أن روح الأرواح وروح الأجساد هو أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل أن يعمل به، أتبعه دلائل التوحيد مبتدئا من الأشرف وهو السماويات إلى الأدون- وهو الأرضيات- فقال: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وقد مر تفسير مثله مرارا. وقوله: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه لذاته عمن يشاركه في الأزلية والقدم والتدبير والتأثير والصنع والإبداع. فالفائدة المطلوبة من هذا الكلام غير الفائدة المطلوبة من مثله في أول السورة كما ذكرنا فلا تكرار. ثم إن أشرف الأجسام بعد الفلكيات بدن الإنسان فلهذا عقب المذكور بقوله: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ قالت الأطباء: إن الغذاء إذا وصل إلى المعدة حصل له هناك هضم، وإذا وصل إلى الكبد حصل له فيها هضم ثان، وفي العروق له هضم ثالث، وفي جواهر الأعضاء هضم رابع، وحينئذ يصير جزءا من العضو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 المغتذى شبيها به، ثم عند استيلاء الحرارة على البدن وقت هيجان الشهوة يحصل ذوبان لجملة الأعضاء وتجتمع منه النطفة في أوعيتها، وعلى هذا تكون النطفة جسما مختلفة الأجزاء والطبائع، وإن كانت تخيل في الحس أنها متشابهة الأجزاء. وكيفما كان فالمقتضي لتولد البدن منها ليس هي الطبيعة الحاصلة لجوهر النطفة ودم الطمث، لأن الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار، والقوّة الطبيعية إذا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكرة. وعلى هذا الحرف عول الحكماء في قولهم: البسائط يجب أن تكون أشكالها الطبيعية في الكرة، وإذا عملت في مادة مختلفة الأجزاء وكل مركب فإنه ينحل إلى بسائط فإنه يلزم أن يكون الحيوان على شكل كرات مضموم بعضها إلى بعض، وكلا الأمرين غير مطابق للواقع، فعلمنا أن حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاص ليس بالطبيعة وإنما هو بتدبير الفاعل المختار وهو الله سبحانه، وكيف لا والنطفة رطوبة سريعة الاستحالة؟ فالأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة، فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في الأسفل، والجزء الذين هو مادة القلب قد يحصل في الفوق، فلا يكون حدوث أعضاء الحيوان على هذا الترتيب الخاص دائما ولا أكثريا، وحيث كان كذلك علمنا أن حدوثها بإحداث مدبر مختار. ثم إن نزلنا عن جميع هذه المراتب فلا خلاف بين الحكم وبين المتكلم أن الطبيعة خرقاء وأنها ليست واجبة الوجود لذاتها فلا بد من الانتهاء الى الصانع الحكيم الخبير. أما قوله: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فقد ذكروا فيه وجهين: الأول فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مبين للحجة بعد أن كان نطفة لا حس به ولا حراك. وتقرير ذلك أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهما وذكاء من نفوس سائر الحيوانات، ألا ترى أن ولد الدجاجة كما يخرج من البيضة يعرف الصديق من العدو فيهرب من الهرة ويلتجىء إلى الأم ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والذي لا يوافقه. وحال الطفل بخلاف ذلك فانتقاله من تلك الحالة الخسيسة إلى أن يقوى على معرفة الإلهيات والفلكيات والعنصريات وعلى إيراد الشكوك والشبهات على النتائج والمقدمات إنما يكون بتدبير إله مختار قدير ينقل الأرواح من النقصان إلى الكمال ومن الجهالة إلى المعرفة. الوجه الثاني أن المراد فإذا هو خصيم لربه منكر على خالقه قائل من يحيي العظام وهي رميم. فعلى الوجه الأول جوز أن يكون الخصيم «فعيلا» بمعنى «مفاعل» كالأكيل والشريب، وأن يكون بمعنى مختصم، وعلى الوجه الثاني تعين كونه بمعنى «مفاعل» والترجيح من الوجهين للأول بناء على أن هذه الآيات مسوقة لتقرير الدلائل على وجود الصانع الحكيم وقدرته لا لأجل وصف الإنسان بالتمادي في القحة والكفران. وقد يرجح الثاني بما روي أن أبيّ بن خلف الجمحي جاء بعظم رميم إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رم؟ فنزلت. ثم أردف تكوين الإنسان بتكوين الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في ضروراته من الأكل والركوب وجر الأثقال وفي غير الضروريات من الأغراض الصحيحة كالتزيين والجمال فقال: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها هي الأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام وهي: الضأن والمعز والإبل والبقر. وإن شئت قلت: الإبل والبقر والغنم. قال في الكشاف: وأكثر ما يقع هذا اللفظ على الإبل. قلت: ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله بعد ذلك: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ لأن هذا الوصف لا يليق إلا بالإبل. وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر. ويجوز أن يكون معطوفا على الْإِنْسانَ أي خلق الإنسان والأنعام. ثم قال: خَلَقَها لَكُمْ أي ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان. قال صاحب النظم: وأحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله: خَلَقَها بدليل أنه عطف عليه قوله: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ والدفء اسم ما يدفأ به كالملء اسم ما يملأ به وهو الدفاء من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر. قال الجوهري: الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها، والدفء أيضا السخونة. وقوله: وَمَنافِعُ قالوا: المراد نسلها ودرّها، والمنافع بالحقيقة أعم من ذلك فقد ينتفع بها في البيع والشراء بالنقود والأثواب وبسائر الحاجات. أما قوله: وَمِنْها تَأْكُلُونَ بتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص فلأن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في مآكلهم عادة، وأما الأكل من غيرها كالدجاج وصيد البر والبحر فكغير المعتد به الجاري مجرى التفكه، ويحتمل أن يراد أن غالب أطعمتكم إنما يحصل منها لأنكم تحرثون بالبقر وتكتسبون بإكراء الإبل وتشترون بنتاجها وألبانها وجلودها جميع ما تشتهون من الأطعمة. قوله: حِينَ تُرِيحُونَ الإراحة رد الإبل إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلا ويقال: سرح القوم إبلهم سرحا إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى. وقدم الإراحة لأن الجمال فيها أظهر حين تقبل ملأى البطون حافلة الضروع ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها. قوله: بِشِقِّ الْأَنْفُسِ من قرأ بفتح الشين فمعناه المشقة فيكون مصدر شق الأمر عليه شقا وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع، ومن قرأ بالكسر فمعناه النصف كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد. قال جار الله: معنى المضي في قوله: لَمْ تَكُونُوا راجع إلى الفرض والتقدير: أي لو لم يخلق الإبل لم تكونوا إلا كذلك. وإنما لم يقل «لم تكونوا حامليها إلى ذلك البلد» ليطابق قوله: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ لأجل المبالغة كأنه قيل: قد علمتم أنكم لا تبلغونه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة وذهاب قوة فضلا أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم ويجوز أن يكون العائد إلى الأثقال محذوفا أي لم تكونوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 بالغيها إلا بالشق، أو المراد بالأثقال الأجساد، عن ابن عباس أنه فسر البلد بمكة إلى اليمن وإلى الشام وإلى مصر. قال الواحدي: هذا قوله والمراد كل بلد لو تكلفتم بلوغه على غير إبل شق عليكم. وخص ابن عباس هذه البلاد لأنها أكثر متاجر أهل مكة إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وإلا لم يخلق هذه الحوامل لأجل تيسير هذه المصالح. احتج منكرو الكرامات بالآية على امتناع طي الأرض كما ينقل عن بعض الأولياء. والجواب أن الامتناع العادي لا ينافي الإمكان الذاتي. وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ معطوفات على الأنعام أي وخلق هؤلاء للركوب والزينة فانتصب على أنه مفعول له معطوف على محل لِتَرْكَبُوها وإنما لم يقل و «لتتزينوا بها» ليكون المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد لأن الركوب فعل المخاطبين، وأما الزينة ففعل الزائن وهو الخالق. والتحقيق فيه أن الركوب أحد الأمور المعتبرة في المقصود بخلاف التزين بالشيء فإنه قلما يلتفت إليه أرباب الهمم العالية لأنه يورث العجب والتيه غالبا وكأنه قال: خلقتها لتركبوها فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة، وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ولكنه غير مقصود بالذات. احتجت المعتزلة القائلون بأن أفعال الله معللة بالمصالح بأن قوله: لِتَرْكَبُوها يقتضي أن هذه الحيوانات مخلوقة لهذه المصلحة. والجواب أن استتباع الغاية والفائدة مسلم ولكن التعليل ممنوع. واحتج الحنفية بالآية على تحريم لحوم الخيل من وجوه: أحدها إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر فيجب اشتراك الكل في الحكم، لكن البغال والحمير محرمان فكذا الخيل. وثانيها أن منفعة الأكل أعظم منة من الركوب والتزين فلو كان أكل لحم الخيل جائزا لكان هذا المعنى أولى بالذكر. وثالثها أن قوله فيما قبل: وَمِنْها تَأْكُلُونَ يقتضي الحصر فيجب أن لا يجوز أكل ما عدا الأنعام إلا بدليل منفصل والأصل عدمه. ورابعها أن قوله: لِتَرْكَبُوها يقتضي أن تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة هو الركوب والزينة، فلو كان حل أكلها مقصودا لزم أن يكون ما فرض تمام المقصود بعض المقصود هذا محال. والجواب أن تحريم الخيل محل النزاع وتحريم الحمير بنص الكتاب ممنوع لما روي عن جماعة من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم نهى عام خيبر عن لحوم الحمر الأهلية. فلو كان للآية دلالة على تحريم لحم الخيل لفهموه منها قبل ذلك العام لأن الآية مكية عند الأكثرين» ولو فهموا منها التحريم قبل ذلك لم يبق لتخصيص التحريم بهذه السنة فائدة. وإذا لم يكن الحمير والخيل محرمين لم يكن لتحريم البغال المتولدة منهما وجه. وأيضا كون معظم المنة في الأكل بالنسبة إلى هذه الأنواع ممنوع بل الركوب والزينة هما أعظم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 المنافع فيها ولهذا جعلا تمام المقصود منها، فكأنما أعطى الأكثر والمعظم حكم الكل. واقتضاء الحصر في قوله: وَمِنْها تَأْكُلُونَ ممنوع بل لعل الظرف قدم لرعاية الفاصلة. ثم إن أنواع الغرائب والعجائب المخلوقة في هذا العالم لا حد لها ولا حصر فلهذا أشار إلى ما بقي منها على سبيل الإجمال فقال: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ أي كنهه وتفاصيله بل نوعه وجنسه فإن مركبات العالم السفلي وغرائب العالم العلوي لا يعلمها إلا موجدها. روى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه قال: إن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة، يدخل فيه جبرائيل عليه السلام كل سحر ويغتسل فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله، ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل نقطة تقع من رأسه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور، وفي الكعبة أيضا سبعون ألفا ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. وقيل: المراد ما خلق في الجنة والنار مما لم يبلغه فهم أحد ولا وهمه. ولما ذكر بعض دلائل التوحيد بين أنه إنما ذكرها إزاحة للعذر وإزالة للشبهة ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة فقال: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ذكر صاحب الكشاف أن السبيل للجنس والقصد مصدر بمعنى الفاعل يقال: قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه، والجور الميل عن الاستقامة. احتجت المعتزلة بالآية على مسألتين من أصولهم: إحداهما أنه يجب على الله تعالى الإرشاد والهداية لأن كلمة، «على» للوجوب والمضاف محذوف أي وعلى الله بيان قصد السبيل فالمعنى أن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه. والثانية أنه لا يضل أحدا ولا يغويه وإلا لقيل وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها أو وعليه الجائر فلما غير أسلوب الكلام قائلا. وَمِنْها جائِرٌ دل على أنه أراد أن يبين ما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز. والجواب عن الأول بعد تسليم إفادة كلمة «على» الوجوب أنه وجوب بحسب الفضل والكرم لا بمعنى استحقاق الذم على الترك. وعن الثاني أن دلالة قوله: وَمِنْها جائِرٌ على ما ذكرتم ليست دلالة المطابقة ولا التضمن ولا الالتزام، لأن قول القائل «من السبيل سبل منحرفة» لا يفيد إلا الإخبار بوجود الانحراف في بعض السبل، فأما أن فاعل تلك السبيل من هو فلا دلالة للكلام عليه أصلا على أن قوله: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ يناقض ما ادعيتم. وتفسير المشيئة بمشيئة الإلجاء والقسر أو بالهداية إلى الجنة خلاف الظاهر كما مر مرارا. ولما استدل على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال الحيوانات أراد أن يذكر الاستدلال على المطلوب بغرائب أحوال النبات فقال: هُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً وقوله: لَكُمْ متعلق بأنزل أو بشراب خبرا له. والشراب ما يشرب كالطعام لما يطعم والمراد أن الماء النازل من السماء قسمان: بعضه يبقى لأجل الشرب كما هو ويحتمل أن يكون الماء المحتبس في الآبار والعيون منه كقوله: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون: 18] وبعضه يحصل منه شجر يرعاه المواشي. قال الزجاج: كل ما ينبت من الأرض فهو شجر لأن التركيب يدل على الاختلاط ومنه تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ وفيما له ساق. وقال ابن قتيبة: المراد بالشجر في الآية الكلأ. وفي حديث عكرمة: «لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت» أراد الكلأ. وقيل: الشجر كل ما له ساق كقوله: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرحمن: 6] والعطف يقتضي التغاير، فلما كان النجم ما لا ساق له وجب أن يكون الشجر ما له ساق، وأجيب بأن عطف الجنس على النوع جائز، وبأن قوله: فِيهِ تُسِيمُونَ من سامت الماشية إذا رعت وأسامها صاحبها وهو من السومة العلامة لأنه تؤثر بالرعي علامات في الأرض يقتضي أن يكون الشجر هو العشب ليمكن الرعي. ورد بأن الإبل قد تقدر على رعي الأشجار الكبار. وحين ذكر مرعى الحيوان أتبعه ذكر غذاء الإنسان فقال: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ الذي هو الغذاء الأصلي وَالزَّيْتُونَ الذي هو فاكهة من وجه وغذاء من وجه لكثرة ما فيه من الدهن وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ اللتين هما أشرف الفواكه. ثم أشار إلى الثمرات بقوله: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كما أجمل الحيوانات التي لم يذكرها بقوله: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ قال في الكشاف: إنما لم يقل و «كل الثمرات» بل زاد «من» التبعيضية لأن كلها لا يكون إلا في الجنة. واعلم أنه قدم الغذاء الحيواني على الغذاء النباتي لأن النعمة فيه أعظم لأنه أسرع تشبيها ببدن الإنسان، وفي ذكر الغذاء النباتي قدم غذاء الحيوان- وهو الشجر- على غذاء الإنسان- وهو الزرع وغيره- بناء على مكارم الأخلاق وهو. أن يكون اهتمام الإنسان بحال من تحت يده أكمل من اهتمامه بحال نفسه، وإنما عكس الترتيب في قوله: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ بناء على ما هو الواجب في نفس الأمر كقوله صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» . قوله: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ معنى تسخير هما للناس تصييرهما نافعين لهم بحسب مصالحهم على سنن واحد يتعاقبان دائما كالعبد المطواع، وكذا الكلام في تسخير الشمس والقمر والنجوم كما في «الأعراف» وفي سورة إبراهيم. وهذا حسم لمادة شبهة من يزعم أن حركات الأفلاك هي المقتضية لتعاقب الليل والنهار ومسيرات الكواكب هي المستدعية للحوادث السفليات، فإنه إن سلم لهم ذلك فلا بد لتلك الحركات والمسيرات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 من الانتهاء إلى صانع قديم منزه عن التغير والإمكان مبرإ عن الحدوث والنقصان وهو الله سبحانه. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ قال جار الله: جمع الآية وذكر العقل لأن آثار العلو أظهر دلالة على القدرة الباهرة وأبين شهادة للكبرياء والعظمة. وقال غيره: إنما جمع الآيات لتطابق قوله: مُسَخَّراتٌ ومثله في هذه السورة في موضع آخر مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ [النحل: 79] وأقول: إنما جمع لأن كلا من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم آية في نفسها لتباين الليل والنهار وتخالف مسيرات الكواكب كما هو مقرر في علم الهيئة بخلاف قوله يُنْبِتُ لَكُمْ فإن مطلق الإنبات آية واحدة. وكذا قوله: وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي خلق لكم فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك: مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ فإن ذرء هذه الأشياء على حالة اختلاف الألوان والأشكال مع تساوي الكل في الطبيعة الجسمية وفي تأثير الفلكيات فيها، آية واحدة على وجود الصانع تعالى شأنه، ولست أدعي إلا إمكان هذه الاعتبارات وإلا: ففي كل شيء آية تدل على أنه واحد. وإنما خص المقام الأول بالتفكر لإمكان إيراد الشبهة المذكورة، وخص المقام الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبهة وإزاحة العلة، فمن لم يعترف بعدها بالوحدانية فلا عقل له. وخص المقام الثالث بالتذكر لمزيد الدلالة فمن شك بعد ذلك فلا حس له. ومن جملة الآيات التي هي في الحقيقة إنعامات على الإنسان تسخير البحر بالركوب عليه والانتفاع به أكلا ولبسا. والمراد باللحم الطريّ السمك. قال ابن الأعرابي: لحم طريّ غير مهموز ومصدره طراوة. يقال: شيء طريّ أي غض بين الطراوة. وقال قطرب: طرو اللحم وطري طراوة والمراد في الآية السمك وما في معناه. قال في الكشاف: وصفه بالطراوة لأن الفساد يسرع إليه فيسارع إلى أكله خيفة الفساد عليه. وقال المتكلمون: إنه لما خرج من البحر المالح الزعاق الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة، علم أنه لم يحدث بحسب الطبع بل حدث بقدرة الله تعالى وحكمته بحيث أظهر الضد من الضد. قال أكثر الفقهاء ومنهم أبو حنيفة والشافعي: من حلف أن لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث لأن اللحم لا يتناوله عرفا. ومبنى الأيمان على العرف والعادة. ولهذا لو قال لغلامه: اشتر لحما فجاء بالسمك كان حقيقا بالإنكار عليه. ورد عليهم الإمام فخر الدين الرازي بأنه إذا قال لغلامه: اشتر لحما فجاء بلحم العصفور كان حقيقا بالإنكار مع أنكم تقولون إنه يحنث بأكل لحم العصفور، فثبت أن العرف مضطرب والرجوع إلى نص القرآن متعين فليس فوق بيان الله بيان. ولقائل أن يقول: لعل الإنكار في هذه الصورة بعد تسليمه إنما جاء من قبل ندرة شراء العصفور أو شراء لحمه فإنه إنما يشترى كله ولم يجىء من إطلاق اللحم على لحمه. ومن منافع البحر استخراج الحلية منه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 قالوا: أراد بالحلية اللؤلؤ والمرجان، والمراد بلبسهم لبس نسائهم لأنهن من جملتهم ولأن تزيينهن لأجلهم. ولقائل أن يقول: لا مانع من تزيين الرجال باللئالئ ونحوها شرعا فلا حاجة إلى هذه التكلف. استدل الإمام فخر الدين بالآية في إبطال قول الشافعية إنه لا زكاة في الحلي قال: لأن اللام فيما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا زكاة في الحلي» تنصرف إلى المعهود السابق ولا معهود إلا ما في الآية من الحلية فصار معنى الحديث: لا زكاة في اللآلئ. وهذا باطل بالاتفاق. والقائل أن يقول: لم لا يجوز أن تكون اللام للجنس فتشمل المصوغ من الذهب والفضة أيضا فيكون الحديث مخصصا بالآية إن ثبت صحته؟ ومن عجائب البحر ومنافعه قوله سبحانه: وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ قال أهل اللغة: مخر السفينة شقها الماء بصدرها. وعن الفراء أنه صوت دويّ الفلك بالرياح. وقال ابن عباس: مواخر أي جواري. وإنما حسن هذا التفسير لأنها لا تشق الماء إلا إذا كانت جارية. وقوله: لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي تتجروا فيه فتطلبوا الربح من فضل الله وإذا وجدتم فضله وإحسانه فلعلكم تقدمون على شكره. واعلم أن قوله: مَواخِرَ فِيهِ جاء على القياس لأن موضع الظرف المتعلق بمواخر بعد مضي مفعولي «ترى» ، وأما في سورة الملائكة فقدم الظرف ليكون موافقا لقوله: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ ولتقدم الجار في قوله: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ حذف لفظة «منه» هناك. الواو في وَلِتَبْتَغُوا في هذه السورة للعطف على لام العلة في لِتَأْكُلُوا وقوله: وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ اعتراض في السورتين يجري مجرى المثل ولهذا وحد الخطاب في قوله: وَتَرَى وقبله وبعده جمع أي لو حضرت أيها المخاطب لرأيته بهذه الصفة. ويمكن أن يقال: إنما قال في الملائكة فِيهِ مَواخِرَ بتقديم الظرف لئلا يفصل بين لام العلة وبين متعلقها وهو مواخر، وليكتنف المتعلق المتعلقان. وإنما بنينا الكلام على أن قوله: فِيهِ متعلق ب مَواخِرَ لا ب تَرَى لقرب هذا وبعد ذاك والله أعلم. قوله: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي كراهة أن تميد الأرض بكم والباء للتعدية أو للمصاحبة. والميد الحركة والاضطراب يمينا وشمالا. يروى أنه تعالى خلق الأرض فجعلت تمور فقالت الملائكة: ما هي بمقرّ على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت. قال جمهور المفسرين: إن السفينة إذا ألقيت على وجه الماء فإنها تميل من جانب إلى جانب وتضطرب، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة في تلك السفينة استقرت على وجه الماء فهكذا الأرض تستقر على الماء بسبب ثقل الجبال. واعترض عليه بأن السفينة إنما تضطرب على الماء لتخلخلها وخفتها بسبب الهواء الداخل في تجاويف الخشب ومسامها، أما الأرض فجسم كثيف ثقيل من شأنها الرسوب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 في الماء على ما هو مشاهد من حال أجزائها المنفصلة عنها. فإن كان طبيعة الكل كذلك فكيف يعقل طفوّها حتى توجب الجبال إرساءها وثباتها، وإن لم تكن طبيعة الكل كذلك حتى تكون طافية مائدة وقد أرساها الله تعالى بالجبال، فالرسو والرسوخ إنما يتصور على جسم واقف وليس إلا الماء فينقل الكلام إلى وقوف الماء في حيزه المعين. فإن كان بحسب الطبيعة فهذا خلاف التقدير لأنا نفينا القول بالطبائع الموجبة لهذه الأحوال، وإن لم يكن بالطبع بل كان واقفا بتخليق الفاعل المختار وتسكينه في حيزه المخصوص فلم لا نقول مثله في تسكين الأرض؟ هذا تلخيص ما قاله الإمام فخر الدين الرازي، ونسب المقام إلى الصعوبة والإشكال واستخرج لحله وجها مبنيا على قوانين الحكمة، وهو أن الأرض جسم كروي، والكرة إذا كانت صحيحة الاستدارة فإنها تتحرك بأدنى سبب، فلما أحدث الله سبحانه على وجه الكرة هذه الخشونات الجارية مجرى الأوتاد منعتها عن السلاسة والحركة. قلت: في هذا الحل خلل. أما أولا فلكونه مبنيا على غير قواعد أهل التفسير، وأما ثانيا فلما ثبت في الحكمة أن نسبة أعظم جبل في الأرض وهو ما ارتفاعه فرسخان وثلث فرسخ إلى جميع الأرض كنسبة خمس سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع، ولا ريب أن ذلك القدر من الشعيرة لا يخرج الكرة المذكورة عن صحة الاستدارة بحيث يمنعها عن سلاسة الحركة، فكذا ينبغي أن يكون حال الجبال بالنسبة إلى كرة الأرض. والجواب الصحيح على قاعدة أهل الشرع أن يقال: لا نسلم أن الأرض بكليتها لها طبيعة موجبة لحالة من الأحوال، وعلى تقدير التسليم فلا نسلم أن لها طبيعة الرسوب بل لعل طبيعتها الطفو فلهذا احتاجت إلى الرواسي. وأما قوله: «لم أوقف الله الماء في حيزه ولم يوقف الأرض من غير إرساء» فلا يخفى سقوطه مع القول بالفاعل المختار، فللوسائط والأسباب مدخل في الأمور العادية، وإن لم نقل بتأثيرها، هذا وإن حركة الأرض عند الزلازل لا تنافي حكم الله بعدم اضطرابها لأن إثبات الحركة لجزء الشيء لا ينافي نفيها عن كله. وشبهوا الزلزلة وهي حركة قطعة من الأرض لاحتقان البخارات في داخلها وطلبها المنفذ باختلاج يحصل في جزء معين من بدن الحيوان. قوله سبحانه: وَأَنْهاراً معطوف على رَواسِيَ أي وجعل فيها رواسي وأنهارا لأن الإلقاء هاهنا بمعنى الجعل والخلق كقوله: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39] وكذا قوله وَسُبُلًا أي أظهرها وبينها لأجل أن تهتدوا بها في أسفاركم. ولما ذكر أنه أظهر في الأرض سبلا معينة ذكر أنه أظهر في تلك السبل علامات مخصوصة وهي كل ما يستدل به السابلة من جبل وسهل وغير ذلك. يحكى أن جماعة يشمون التراب فيعرفون به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 الطرقات. قال الأخفش: تم الكلام عند قوله: وَعَلاماتٍ وقوله وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ كلام منفصل عن الأول. والمراد بالنجم الجنس كما يقال: كثر الدرهم في أيدي الناس. وعن السدي هو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي. قال بعض المفسرين: أراد بقوله هُمْ يَهْتَدُونَ أهل البحر لتقدم ذكر البحر ومنافعه، وقيل: أراد أعم من ذلك فأهل البر أيضا قد يحصل لهم الاهتداء بالنجوم في الطرق والمسالك، وفي معرفة القبلة، وإنما جيء بالضمير الغائب لعوده إلى السائرين الدال عليهم ذكر السبل. وقال في الكشاف: كأنه أراد قريشا فقد كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم وكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم فخصصوا بتقديم النجم. وإقحام لفظ هُمْ كأنه قيل: وبالنجم خصوصا هؤلاء يهتدون. ثم لما عدد الآيات الدالة على الصانع ووحدانيته واتصافه بجميع صفات الكمال أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أي كالأصنام التي لا تخلق شيئا إلا أنه أجراها مجرى أولي العلم فأطلق عليها لفظ «من» التي هي لأولي العقل بناء على زعمهم أنها آلهة، أو لأجل المشاكلة بينه وبين من يخلق، أو أراد أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده، أو أراد كل ما عبد من دون الله مغلبا فيه أولو العلم منهم. واعلم أن أهل البيان يقولون: إن المشبه به يجب أن يكون أقوى وأتم في وجه الشبه من المشبه ليلتحق الأضعف بالأقوى في وجه الشبه كقولك «وجهه كالقمر» . ولا ريب أن الخالق أقوى من غير الخالق فكان حق النظم في الظاهر أن يقال: أفمن لا يخلق كمن يخلق. والقرآن ورد على العكس. ووجهه عند العلماء زيادة التوبيخ ليكون كأنهم جعلوا غير الخالق أقوى حالا وأعرف من الخالق. قال في الكشاف: إنهم جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبهوه بها حين جعلوا غيره مثله في التسمية والعبادة فأنكر عليهم ذلك، ولوضوح كون هذا الأمر منكرا عند من له أدنى عقل بل حس قال أَفَلا تَذَكَّرُونَ وفيه مزيد توبيخ وتجهيل لأنه لجلائه كالحاصل الذي يحصل عند العقل بأدنى تذكر ومع ذلك هم عنه غافلون. قال بعض الأشاعرة. في الآية دلالة على أن العبد غير خالق لأفعال نفسه لأن الآية سيقت لبيان امتيازه بصفة الخالقية. أجابت المعتزلة بأن المراد أفمن يخلق ما تقدم ذكره من السموات والأرض والإنسان والحيوان والنبات والبحار والجبال والنجوم. أو نقول: معنى الآية أن كل ما كان خالقا يكون أفضل ممن لا يكون خالقا، وهذا القدر لا يدل على أن كل من كان خالقا فإنه يجب أن يكون إلها نظيره قوله: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الأعراف: 195] أراد به أن الإنسان أفضل من الصنم والأفضل لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 يليق به عبادة الأخس فكذا هاهنا. وقال الكعبي في تفسيره: نحن لا نطلق لفظ الخالق على العبد ومن أطلق ذلك فقد أخطأ إلا في مواضع ذكرها الله تعالى كقوله: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ [المائدة: 110] فعلى هذا لا يتوجه عليهم السؤال إلا أن أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حتى إن أبا عبد الله البصري قال: إطلاق لفظ الخالق على العبد حقيقة وعلى الله مجاز لأن الخلق عبارة عن التقدير وهو الظن والحسبان. ثم لما فرغ من تعديد الآيات التي هي بالنسبة إلى المكلفين نعم قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها وقد مر تفسيره في سورة إبراهيم. قال العقلاء: إن كل جزء من أجزاء البدن الإنساني لو ظهر فيه أدنى خلل لنغص العمر على الإنسان وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الخلل. ثم إنه سبحانه يدبر أحوال بدن الإنسان على الوجه الملائم له غالبا مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك الجزء ولا بمصالحه ومفاسده، فليكن هذا المثال حاضرا في ذهنك وقس عليه سائر نعم الله تعالى حتى تعرف تقصيرك وقصورك عن شكر أدنى نعمة فضلا عن جميعها، ولهذا ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر التقصير الصادر عنكم في أداء شكر النعمة ويرحمكم حيث لا يقطعها عنكم بالتفريط ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها. كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله يسرون ضروبا من الكفر والمكايد في حق الرسول صلى الله عليه وسلم فأوعدهم بقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وفيه أيضا تعريض وتوبيخ بسبب أن الإله يجب أن يكون عالما بالسر والعلانية، والأصنام التي عبدوها جمادات لا شعور لها أصلا فكيف يحسن عبادتها. ثم زاد في التوبيخ فقال: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ أي الآلهة الذين يدعونهم الكفار مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وقد ذكر هذا المعنى في قوله: كَمَنْ لا يَخْلُقُ وزاد هاهنا قوله: وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي بخلق الله أو بالنحت والتصوير وهم لا يقدرون على نحو ذلك فهم أعجز من عبدتهم، ففي هذه الآية زيادة بيان لأنه نفى عنهم صفة الكمال وأثبت صفة النقصان. وكذلك قوله: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ يستلزم ذمهم مرتين لأن من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطفة والجسد الإنساني الذي فارقه الروح، وأما الحجارة فأموات لا تقيل الحياة أصلا. وفيه أن الإله الحق يجب أن يكون حيا لا يعقبه موت وحال هذه الأصنام بالعكس. وفيه أن هؤلاء الكفار في غاية الغباوة وقد يقرر المعنى الواحد مع الغبي الجاهل بعبارتين مختلفتين تنبيها على بلادته وَما يَشْعُرُونَ الضمير فيه للآلهة. أما الضمير في أَيَّانَ يُبْعَثُونَ فإما للآلهة أيضا ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار، وإما للداعين أي لا يشعر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 الآلهة متى يبعث عبدتهم فيكون فيه تهكم بالمشركين من حيث إن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم؟! وفيه أنه لا بد من البعث وأنه من لوازم التكليف، وإما للأحياء أي لا يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء تهكما بحالها لأن شعور الجماد محال فكيف بشعور ما لا يعلمه حي إلا الحي القيوم سبحانه؟ وجوز في الكشاف أن يراد بالذين يدعوهم الكفار الملائكة، فإن ناسا منهم كانوا يعبدونهم. ومعنى أنهم أَمْواتٌ أي لا بد لهم من الموت غَيْرُ أَحْياءٍ أي غير باقية حياتهم ولا علم لهم بوقت بعثهم. ولما زيف طريقة عبدة الأصنام صرح بما هو الحق في نفس الأمر فقال: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ثم ذكر ما لأجله أصر الكفار على شركهم فقال: فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ للوحدانية أو لكل كلام يخالف هواهم وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن قبول الحق وذلك أن المؤمن بالبعث والجزاء يؤثر فيه الترغيب والترهيب فينقاد للحق أسرع، وأما الجاحد للمعاد فلا يقبل إلا ما يوافق رأيه ويلائم طبعه فيبقى في ظلمة الإنكار لا جَرَمَ أي حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ فيجازيهم على ما أسروا من الاستكبار وأعلنوا من العناد إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عن التوحيد فيختص بالمشركين أو كل مستكبر فيدخل هؤلاء دخولا أوّليا لأن الكلام فيهم. التأويل: الناس طبقات ثلاث: الغافلون والخطاب معهم بالعتاب إذا كانوا مشتاقين إلى الدنيا وزخارفها وهم أصحاب النفوس، والعاقلون والخطاب معهم بوعد الثواب لرغبتهم في الطاعات والأعمال الصالحات وهم أرباب العقول، والعاشقون والخطاب معهم بوصل رب الأرباب لاشتياقهم إلى جمال ذي الجلال. فحين قال في الأزل أَتى أَمْرُ اللَّهِ استعجل أرواح كل طبقة منهم للخروج من العدم إلى الوجود لنيل المقصود وطلب المفقود فخاطبهم بقوله: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فإنه سيصيب كل طبقة منكم ما كتب له في القسمة الأزلية. والله سبحانه منزه عن أن يشاركه في الحكم أحد فلا مبدل لكلماته. بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ أي بما يحيي القلوب من المواهب الربانية من أمره الوارد على الجوارح بالتكاليف الشرعية وعلى النفوس بآداب الطريقة، وعلى القلوب بالإشارات، وعلى الأرواح بملازمة الحضرة للمكاشفات، وعلى الأسرار بالمراقبات للمشاهدات وعلى الخفيات بتجلي الصفات لإفناء الذوات. عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ من الأنبياء والأولياء أَنْ أَنْذِرُوا أعلموا أوصاف وجودكم ببذلها في أنانيتي أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ عن أنانيتكم بأنانيتي. خَلَقَ سموات الأرواح وأرض الأشباح وجعلها مظهرا لأفاعيله، فهو الفاعل لما يظهر على الأرواح والأشباح تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ الأرواح والأشباح في إحالة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 أفاعيله إلى غيره خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ لا علم لها ولا فعل فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ يدعي الشركة معه في الوجود. والأفاعيل والأنعام أي الصفات الحيوانية خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ لأنها المودعة في جبلتكم وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ باستفادة بدل ما يتحلل وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ في أوقات الفترات وأزمنة الاستراحات وَتَحْمِلُ أثقال أرواحكم وهي أعباء الأمانة إلى بلد عالم الجبروت إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. إذا أفنيتم أنفسكم في جبروته يبقيكم ببقاء عظموته وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ أي صفاتها خلقت فيكم لأنها مراكب الروح عند السير إلى عالم الجبروت وَزِينَةً عند رجوعه بالجذبة إلى مستقره الذي أهبط منه وَيَخْلُقُ فيكم حينئذ ما لا تَعْلَمُونَ وهو قبول فيض الله بلا واسطة. وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ بجذبة ارْجِعِي وَمِنْها جائِرٌ يعني نفوسكم تحيد عن الفناء وبذل الوجود هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ من سماء الكرم ماء الفيض مِنْهُ شَرابٌ المحنة لقلوبكم وَمِنْهُ شَجَرٌ القوى البشرية ودواعيها فِيهِ ترعون مواشي نفوسكم يُنْبِتُ لَكُمْ زرع الطاعات وزيتون الصدق ونخيل الأخلاق الحميدة وأعناب الواردات الربانية، ومن كل ثمرات المعقولات والمشاهدات والمكاشفات. وَسَخَّرَ لَكُمُ ليل البشرية ونهار الروحانية وشمس الروح وقمر القلب ونجوم الحواس والقوى، وتسخيرها استعمالها على وفق الشريعة وقانون الطريقة وَما ذَرَأَ لَكُمْ في أرض جبلتكم من الاستعدادات يتلون في كل عالم بلونه من عوالم الملكية والشيطانية والحيوانية وسَخَّرَ لكم بحر العلوم لِتَأْكُلُوا مِنْهُ الفوائد الغيبية السنية الطريقة وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ جواهر المعاني فيلبس بها أرواحكم النور والبهاء. وترى فلك الشرائع والمذاهب جواري في بحر العلوم لتبتغوا الأسرار الخفية عن الملائكة. وألقى في أرض البشرية جبال الوقار والسكينة لئلا تميد بكم صفات البشرية عن جادّة الشريعة والطريقة، وأنهارا من ماء الحكمة وسبلا إلى الهداية والعناية، وعلامات من الشواهد والكشوف، وبنجم الجذبة الإلهية هم يهتدون فيخرجون من ظلمات الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي. أفمن يخلق الله فيه هذه الكمالات كمن لا يخلقها فيه من الملائكة وغيرهم وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34] وهي قسمان: نعمة الأعطاف وهي ما يتعلق بوجود النعمة ظاهرة وباطنة، ونعمة الألطاف وهي ما يتعلق بوجود المنعم من الذوات والصفات وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ من أداء شكر نعمه بالقلوب وَما تُعْلِنُونَ من أداء الشكر بالأجساد وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الهوى والدنيا لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً من المنافع وَهُمْ يُخْلَقُونَ بتعب الطلب في تحصيلها ولهذا قال: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يبعثها دواعي البشرية فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ بما في عالم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 الغيب قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ لأهل الحق لأنهم لا يتجاوزون عالم الحس يعلم ما يسرون من الإنكار وما يعلنون من الاستكبار. الله حسبي. [سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 42] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) القراآت: شركاي مثل هُدايَ زمعة عن ابن كثير والخزاعي عن البزي. وقرأ الخزاز عن هبيرة شُرَكائِيَ الَّذِينَ مرسلة الياء، الباقون بفتح الياء وكذلك في «الكهف» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 و «القصص» . تُشَاقُّونَ بكسر النون: نافع، الآخرون بفتحها تَتَوَفَّاهُمُ وما بعده بالإمالة: حمزة وخلف لا يَهْدِي بفتح الياء وكسر الدال: عاصم وحمزة وعلي وخلف، الباقون بضم الياء وفتح الدال. كُنْ فَيَكُونُ بالنصب: ابن عامر وعلي، الباقون بالرفع. الوقوف: رَبُّكُمْ لا لأن ما بعده جواب «إذا» الْأَوَّلِينَ هـ لا لتعلق اللام يَوْمَ الْقِيامَةِ لا لأن قوله وَمِنْ أَوْزارِ مفعول لِيَحْمِلُوا ط بِغَيْرِ عِلْمٍ ط ما يَزِرُونَ هـ ما يَشْعُرُونَ هـ فِيهِمْ ط الْكافِرِينَ هـ لا بناء على أن ما بعده صفة أَنْفُسِهِمْ ص لطول الكلام مِنْ سُوءٍ ط تَعْمَلُونَ هـ خالِدِينَ فِيها ط الْمُتَكَبِّرِينَ هـ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ط خَيْراً ط حَسَنَةٌ ط خَيْرٌ ط الْمُتَّقِينَ هـ لا لأن ما بعده بدل يَشاؤُنَ ط الْمُتَّقِينَ هـ طَيِّبِينَ هـ لا لأن ما بعده حال آخر. سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا لأن قوله: ادْخُلُوا مفعول يَقُولُونَ تَعْمَلُونَ هـ مْرُ رَبِّكَ طنْ قَبْلِهِمْ طظْلِمُونَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ مِنْ شَيْءٍ الثاني ط مِنْ قَبْلِهِمْ ج للاستفهام مع الفاء الْمُبِينُ هـ الطَّاغُوتَ ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى الضَّلالَةُ ط الْمُكَذِّبِينَ هـ ناصِرِينَ هـ أَيْمانِهِمْ لا لأن ما بعده جواب القسم يَمُوتُ ط لا يَعْلَمُونَ هـ لا لتعلق لام كي كاذِبِينَ هـ فَيَكُونُ هـ حَسَنَةً ط أَكْبَرُ م لأن جواب «لو» محذوف أي لو كانوا يعلمون لما اختاروا الدنيا على الآخرة، ولو وصل لصار قوله: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ متعلقا بشرط «أن» لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وهو محال يَعْلَمُونَ هـ لا بناء على أن الَّذِينَ صَبَرُوا بدل الَّذِينَ هاجَرُوا يَتَوَكَّلُونَ هـ. التفسير: لما بالغ في تقرير دلائل التوحيد أراد أن يذكر شبهات منكري النبوة مع أجوبتها. فالشبهة الأولى أنهم طعنوا في القرآن وعدّوه من قبيل الأساطير. قال النحويون: «ماذا» منصوب بأنزل بمعنى أي شيء أنزله ربكم، أو «ما» مبتدأ و «ذا» موصولة، والجملة صلتها، والمجموع خبر المبتدأ، وعلى التقديرين: فقوله: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ بالرفع ليس بجواب للكفار وإلا لكان المعنى الذي أنزله ربنا أساطير الأوّلين والكفار لا يقرون بالإنزال فهو إذن كلام مستأنف أي ليس ما تدّعون إنزاله منزلا بل هو أساطير الأولين. وقال في الكشاف: معناه المنزل أساطير الأوّلين وذكر في دفع التناقض أنه على السخرية كقوله: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27] وجوز كونه منصوبا ولم يقرأ به. واختلفوا في السائل فقيل: هو كلام بعضهم لبعض. وقيل: هو قول المسلمين لهم وقيل: هو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سألهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أحاديث الأوّلين وأباطيلهم، ليس فيه شيء من العلوم والفصاحة والحقائق والدقائق. ثم إنه تعالى اقتصر في جواب شبههم على محض الوعيد لأنه قد ثبت بالتحدي كما مر ذكره مرارا أن القرآن معجز تحدوا بالقرآن جملة ثم بعشر سور ثم بسورة فعجزوا عن المعارضة فكان طعنهم فيه بعد ذلك مجرد المكابرة والعناد فلم يستحقوا في الجواب إلا التهديد والوعيد. واللام في قوله: لِيَحْمِلُوا ليس لام الغرض لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير لغرض حمل الأوزار، ولكن لما كانت عاقبتهم ذلك حسن التعليل به فكان لام العاقبة. وقوله: كامِلَةً معناه أنه تعالى لا يخفف من عقابهم شيئا، وفيه دليل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين لأن هذا المعنى لو كان حاصلا في حق الكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة. قال الواحدي: لفظة «من» في قوله: وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ ليست للتبعيض فإنه لا يخفف عن الأتباع بعض أوزارهم لقوله صلى الله عليه وسلم «أيما داع دعا إلى الضلال فاتبع كان عليه وزر من اتبعه لا ينقص من آثامهم شيء» «1» ولكنها للابتداء أي ليحملوا ما قد نشأ من أوزار الاتباع، أو للبيان أي ليحملوا ما هو من جنس أوزار تبعهم. ومعنى بِغَيْرِ عِلْمٍ أن هؤلاء الرؤساء إنما يقدمون على هذا الإضلال جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال. وقال في الكشاف: بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال. وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه وإن لم يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل. ثم أوعدهم بما هو النهاية في التهديد فقال: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ وزرهم. ثم حكى حال أضرابهم من المتقدمين فقال: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به نمروذ بن كنعان بنى صرحا عظيما ببابل طوله خمسة آلاف ذراع- وقيل فرسخان- ورام الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا، وألقت رأس الصرح في البحر فأحدث نمروذ وتبلبلت يومئذ ألسن الناس من الفزع فتكلموا بثلاثة وتسعين لسانا ولذلك سميت ببابل، وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية، وابتلاه الله ببعوضة دخلت دماغه والحكاية مشهورة. والأصح أن الآية عامة في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضرر بالمحقين. وعلى القول الأوّل معنى قوله: فَأَتَى اللَّهُ أي أمره وحكمه بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ وهي أساطين البناء التي تعمده أو الأساس أنه أسقط   (1) رواه مسلم في الزكاة حديث: 70. الترمذي في كتاب العلم باب: 16. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب: 14. أحمد في مسنده (5/ 387) بغير هذا اللفظ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 السقف عليهم بعد هدم القواعد. وفائدة زيادة قوله: مِنْ فَوْقِهِمْ التنصيص على أن الأبنية تهدمت وهم ماتوا تحتها، وعلى الثاني يكون الكلام محض التمثيل والمراد أنهم سوّوا منصوبات وحيلا ليمكروا بها رسل الله، فجعل الله هلاكهم في تلك الحيل كحيل قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين، فأتي البنيان من الأساطين بأن ضعفت فسقط عليهم السقف فهلكوا ونحوه «من حفر بئرا لأخيه فقد وقع فيه» وبعبارة أخرى «من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا» . ثم بين أن عذابهم غير مقصور على عذاب الدنيا بل الله تعالى يخزيهم يوم القيامة بإدخالهم النار إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: 192] وَيَقُولُ مع ذلك لأجل الإهانة والتوبيخ أَيْنَ شُرَكائِيَ الإضافة لأدنى الملابسة أو هي حكاية لإضافتهم استهزاء وتوبيخا الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ تخاصمون المؤمنين في شأنهم. ومن قرأ بكسر النون فعلى حذف ياء المتكلم لأن مشاقة المؤمنين مشاقة الله. ثم ذكر على سبيل الاستئناف قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ عن ابن عباس هم الملائكة. وقال الآخرون: هم الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يعظونهم ولا يلتفتون إليهم فيقولون ذلك يوم القيامة شماتة بهم. قالت المرجئة قولهم: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ يدل على أن ماهية الخزي والسوء مختص بالكافرين فينتفي عن غيرهم. أما قوله: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ فعن ابن عباس: المراد أنهم أسلموا وأقروا بالعبودية عند الموت. وقيل: إنه في يوم القيامة. وقولهم: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ أرادوا الشرك قالوه على وجه الكذب والجحود، ومن لم يجوز الكذب على أهل القيامة قال: أرادوا في اعتقادهم وظنونهم فرد عليهم أولو العلم أو الملائكة بقولهم: بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا فلا ينفعكم هذا الكذب وإنه يجازيكم على الكفر الذي علمه منكم. قال في الكشاف: وهذا أيضا من الشماتة وكذلك فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ وفي ذكر الأبواب إشارة إلى تفاوت منازلهم في دركات جهنم. ثم قال: فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ عن قبول التوحيد وسائر ما أتت به الأنبياء. والفاء للعطف على فاء التعقيب في فَادْخُلُوا واللام للتأكيد يجري مجرى القسم موافقة لقوله بعد ذلك وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ ولا نظير لهما في كل القرآن. ثم أتبع أوصاف الأشقياء أحوال السعداء فقال: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الآية. وإنما ذكر الجواب هاهنا بالنصب ليكون الجواب مطابقا مكشوفا بينا من غير تلعثم أي أنزل خيرا أو قالُوا خَيْراً لا شرا كما قاله الكفار، أو قالوا قولا خيرا ولو رفعوا لأوهم أنه كلام مستأنف كما في جواب الكفار وليس بمنزل. روي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء الوافد كفه المقتسمون وأمروه بالانصراف كما مر، فكان الوافد يقول: كيف أرجع إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد وأراه. فيلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرونه بصدقه وأنه نبي مبعوث فهم الذين قالوا خيرا. وجوّز في الكشاف أن يكون لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وما بعده بدلا من خَيْراً كأنه فسر الخبر بهذا القول، وجوّز أن يكون كلاما مبتدأ على سبيل الوعد فيكون قولهم الخير من جملة إحسانهم. أما قوله فِي هذِهِ الدُّنْيا فإما أن يتعلق بما قبله فالمعنى: الذين جاءوا بالإحسان في هذه الدنيا لهم في الآخرة حَسَنَةٌ هي الثواب العظيم أو المضاعف إلى سبعمائة أو أكثر، وإما أن يتعلق بما بعده والتقدير: الذين أحسنوا لهم الحسنة في الدنيا باستحقاق المدح والثناء، أو بالظفر على أعداء الدين باللسان والسنان وفتح البلاد، أو بفتح أبواب المكاشفات والمشاهدات. والحاصل أن لهم في الدنيا مكافأة بإحسانهم. وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ منها. ثم بين الخيرية بقوله: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ دار الآخرة فحذف المخصوص بالمدح لتقدم ذكره. ثم قال: جَنَّاتُ عَدْنٍ أي هي هذه فيكون المبتدأ محذوفا أو الجنات مبتدأ وما بعدها خبر أو جَنَّاتُ عَدْنٍ هي المخصوص بالمدح. فالجنات يدل على القصور والبساتين، والعدن على الدوام والإقامة. وقوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ على أنه حصل هناك أبنية مرتفعة هم عليها والأنهار تجري من تحتهم. وقوله: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ أبلغ من قوله في موضع آخر فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: 71] وفي تقديم الظرف دلالة على أن الإنسان لا يجد كل ما يريده إلا في الجنة. وقوله: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أكثر المفسرين على أن هذا التوفي هو قبض الأرواح. وقوله: طَيِّبِينَ أي طاهرين عن دنس الكفر والمعاصي أو دنس الكفر وحده، وهذه كلمة جامعة تشمل أنواع البراءة عن العلائق الجسمانية فلا يكون لصاحب هذه الحالة تألم بالموت دليله قوله: يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ يروى أنه إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فيقول: السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة فذلك قوله: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وعن الحسن أن المراد بهذا التوفي هو وفاة الحشر لأنه لا يقال عند قبض الروح في الدنيا ادخلوا الجنة. والأولون قالوا: البشارة بالجنة بمنزلة الدخول فيها. قوله سبحانه: لْ يَنْظُرُونَ قيل: إنه جواب شبهة أخرى لمنكري النبوة فإنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم ملكا من السماء يشهد على صدقه في ادّعاء النبوة فقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 تعالى: هل ينظرون في تصديق نبوتك لَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ شاهدين بذلك. ويحتمل أن يقال: إنهم لما طعنوا في القرآن بأنه أساطير الأولين أوعدهم الله تعالى بما أوعد، ثم وصف القرآن بكونه حقا وصدقا وذكر جزاء المتقين، ثم ذكر أن أولئك الكفار لا ينزجرون عن كفرهم بسبب البيانات التي ذكرناها إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد أو لقبض الأرواح أو أتاهم أمر ربك وهو العذاب المستأصل أو القيامةذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فأصابهم الهلاك المعجل ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بتدميرهم فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي جزاء سيئات أعمالهم أو هو من باب الطباق والمشاكلة كقوله وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] وَحاقَ بِهِمْ. أي نزل بهم على وجه الإحاطة عقاب استهزائهم. الشبهة الثالثة لمنكري النبوة أنهم تشبثوا بمسألة الجبر فقالوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا الآية. وقد مر في تفسير مثلها في آخر سورة الأنعام، وذكرنا أسرار المتشابه هناك وكذا استدلال المعتزلة بها وجواب الأشاعرة عنها. وزاد بعض الأشاعرة فقالوا: إن المشركين ذكروا هذا الكلام على جهة الاستهزاء كما قال قوم شعيب إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: 87] ولو قالوا ذلك معتقدين كانوا مؤمنين. وقال آخرون: إنه سبحانه أجاب عن شبهتهم وهي أنه لما كان الكل من الله كان بعثه الأنبياء عبثا بقوله: لِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني أنهم اعترضوا على أحكام الله وطلبوا لها العلة فعل من تقدمهم من الكفرة فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي ما عليهم إلا التبليغ فإما تحصيل الإيمان فليس إليهم. ثم إنه أكد هذا المعنى بقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا إلى قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ وفيه دلالة على أن أمر الله قد لا يوافق إرادته فإنه يأمر الكل بالإيمان ولا يريد الهداية إلا للبعض إذ لو أرادها للكل لم يكفر أحد ولم ينزل العذاب على قوم لكنه كفر ونزل لقوله: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [النحل: 36] . ثم خصص الخطاب قائلا لرسوله إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ لا يرشد أحدا أضله، قال ابن عباس: وقال الفراء: لا يهدي معناه لا يهتدي. ومن قرأ على البناء للمفعول فمعناه لا تقدر أنت ولا أحد على هداية من أضله الله فلن يكون مهديا منصورا، ولا يخفى أن أول الآية ظاهره يوافق مذهب المعتزلة. أما قوله: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إلى آخر الآيات فإنهم قد صاروا فيه إلى التأويل فقالوا: معناه أن متقدميهم أشركوا وحرموا حلال الله فلما نبهوا على قبح فعلهم أسندوه إلى الله فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا أن يبلغوا الحق وأن الله بريء من الظلم وخلق القبائح والمنكرات، وما من أمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 إلا وقد بعث الله فيهم رسولا يأمرهم بالخير الذي هو عبادة الله وينهاهم عن الشر الذي هو طاعة الطاغوت. فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ لأنه من أهل اللطف، ومنهم من ثبت عليه الخذلان لأنه عرفه مصمما على الكفر، أو المراد منهم من حكم الله عليه بالاهتداء ومنهم من صار محكوما عليه بالضلال لظهور ضلاله، أو منهم من هداه الله إلى الجنة ومنهم من أضله عنها. فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا ما فعلت بالمكذبين حتى لا يبقى لكم شبهة في أني لا أقدر الشر ولا أشاؤه. ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمانهم وعرفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة، وأنه لا يلطف بمن يخذل لأنه عبث والله تعالى متعال عن العبث. فهذا تفسير الفريقين لاشتمال آيات مسألة الجبر والقدر على الجهتين وعليك الاختيار بعقلك دون هواك. الشبهة الرابعة قدحهم في الحشر والنشر ليلزم إبطال النبوة وذلك أنهم وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي أغلاظ الأيمان كما في «المائدة» كأنهم ادّعوا علما ضروريا بأن الشيء إذا فني وصار عدما محضا فإنه لا يعود بعينه بل العائد يكون شيئا آخر فأكدوا ادعاءهم بالقسم الغليظ فأجاب الله عن شبهتهم بقوله: بَلى وهو إثبات لما بعد النفي أي بلى يبعثهم وقوله: وَعْداً مصدر مؤكد لما دل عليه «بلى» لأن يبعث موعد من الله تعالى أي وعد البعث وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا لا خلاف فيه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنهم يبعثون أو أن وعد الله حق. ثم ذكر لمية حقية البعث فقال لِيُبَيِّنَ أي يبعث كل من يموت من المؤمنين والكافرين ليبين لَهُمُ الحق الذي اختلفوا فيه بيانا عيانيا لا يشتبه فيه المطيع بالعاصي والمحق بالمبطل والمظلوم بالظالم والصادق بالكاذب. وجوز بعضهم أن يكون قوله: لِيُبَيِّنَ متعلقا بقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنا أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا به وأنهم كانوا على الضلالة قبله مفترين على الله الكذب في ادعاء الشريك له وفي قولهم بمجرد هواهم هذا حلال الله وهذا حرام. ثم برهن على إمكان البعث بقوله: إِنَّما قَوْلُنا وهو مبتدأ خبره أَنْ نَقُولَ وقد فسرنا مثل هذه الآية في سورة البقرة، وذكرنا فيه مباحث عميقة لفظية ومعنوية فلا حاجة إلى الإعادة. والغرض أنه سبحانه لا مانع له من الإيجاد والإعدام ولا تتوقف آثار قدرته إلا على مجرد الإرادة والمشيئة، فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو أهون من الإبداء؟! قال في الكشاف: قرىء فَيَكُونُ بالنصب عطفا على نَقُولَ قلت: ولا مانع من كونه منصوبا بإضمار «أن» لوقوعه في جواب الأمر بعد الفاء وقد مر في «البقرة» . احتج بعض الأشاعرة بالآية على قدم القرآن قال: إنه لو كان حادثا لافتقر إلى أن يقال له «كن» . ثم الكلام في هذا اللفظ كالكلام في الأوّل وتسلسل، والجواب بعد تسليم أن هذا ليس مثلا وأن ثم قولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 أن «إذا» لا تفيد التكرار فلا يلزم في كل ما يحدثه الله تعالى إلى أن يقول له «كن» . وكيف يتصور أن تكون لفظة «كن» قديمة والكاف مقدم على النون بزمان محصور، ولو سلم فلا يجوز من قدم لفظة «كن» قدم القرآن. على أن قوله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ يقتضي كون القول واقعا بالإرادة وما كان كذلك فهو محدث وأنه علق القول بكلمة «إذا» ولا شك أنها للاستقبال وكذا قوله: أَنْ نَقُولَ ثم إن كلمة كُنْ متقدمة على المكون بزمان واحد، والمتقدم على المحدث بزمان يكون محدثا، فتلخص من هذه الدلائل أن الكلام المسموع لا بد أن يكون محدثا. هذا تلخيص ما قاله الإمام فخر الدين الرازي، ولعل لنا فيه نظرا. ولما حكى الله سبحانه عن الكفار ما حكى من إنكار البعث والجزاء لم يبعد منهم- والحالة هذه- إيذاء المسلمين وإنزال الضرر والهوان بهم وحينئذ يلزمهم أن يهاجروا تلك الديار فذكر ثواب المهاجرين قائلا وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ أي في حقه وسبيله مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا مثوبة حَسَنَةً أو مباءة حسنة هي المدينة أوهم أهلها ونصروهم قاله الحسن والشعبي وقتادة. وقيل: لننزلنهم منزلة حسنة هي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم، بل على العرب قاطبة بل على أهل المشرق والمغرب. قال ابن عباس: نزلت الآية في جماعة- منهم صهيب وبلال وعمار وخباب- جعل المشركون يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام فقال صهيب: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله وهاجر، فلما رآه أبو بكر قال له: ربح البيع يا صهيب، وقال له عمر: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه. أما الضمير في قوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فإما أن يرجع إلى الكفار أي لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين خير الدارين لرغبوا في دينهم، وإما أن يعود إلى المهاجرين أي لو علموا أن أجر الآخرة أكبر لزادوا في اجتهادهم وصبرهم. ثم مدحهم بقوله: الَّذِينَ صَبَرُوا على هم الذين أو أعني الذين. والمراد صبرهم على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله، وعلى المجاهدة في سبيل الله بالنفوس والأموال. قال المحققون: الصبر حبس النفس على خلاف ما تشتهيه من اللذات العاجلة وهو مبدأ السلوك، والتوكل هو الانقطاع بالكلية عما سوى الحق وهو آخر الطريق والله ولي التوفيق. فإن العارفين بالصبر ساروا وبالتوكل طاروا ثم في الله حاروا حسبي الله ونعم الوكيل. [سورة النحل (16) : الآيات 43 الى 60] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 القراآت: نُوحِي بالنون: حفص غير الخزاز. الباقون بالياء مجهولا أولم تروا بتاء الخطاب: حمزة وعلي وخلف تتفيؤ بتاء التأنيث: أبو عمرو وسهل ويعقوب، الآخرون على الغيبة. الوقوف: لا تَعْلَمُونَ هـ لا لتعلق الباء وَالزُّبُرِ ط يَتَفَكَّرُونَ هـ لا يَشْعُرُونَ هـ لا للعطف بِمُعْجِزِينَ هـ لا كذلك عَلى تَخَوُّفٍ ط للفصل بين الاستخبار والإخبار رَحِيمٌ هـ داخِرُونَ هـ لا يَسْتَكْبِرُونَ هـ ما يُؤْمَرُونَ هـ اثْنَيْنِ ج للابتداء بانما مع اتحاد القائل واحِدٌ ج للعدول مع الفاء فَارْهَبُونِ هـ واصِباً ط تَتَّقُونَ هـ تَجْئَرُونَ هـ ج لأن «ثم» لترتيب الأخبار مع شدة اتصال المعنى يُشْرِكُونَ هـ لا لتعلق لام كي آتَيْناهُمْ ط للعدول والفاء للاستئناف تَعْلَمُونَ هـ رَزَقْناهُمْ ط تَفْتَرُونَ هـ سُبْحانَهُ لا لأن ما بعده من جملة مفعول يَجْعَلُونَ وسُبْحانَهُ معترض للتنزيه يَشْتَهُونَ هـ كَظِيمٌ هـ ج لاحتمال أن ما بعده وصف ل كَظِيمٌ أو استئناف. ما بُشِّرَ بِهِ ط لأن التقدير يتفكر في نفسه المسألة فِي التُّرابِ ط ما يَحْكُمُونَ هـ السَّوْءِ ج لتضاد الجملتين معنى مع العطف لفظا الْأَعْلى ط الْحَكِيمُ هـ. التفسير: الشبهة الخامسة أن قريشا كانوا يقولون الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله بشرا فأجاب سبحانه بقوله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا والمراد أن هذه عادة مستمرة من أوّل زمان الخلق والتكليف. وزعم أبو علي الجبائي أنه لم يبعث إلى الأنبياء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 إلا من هو بصورة الرجال من الملائكة. قال القاضي: ولعله أراد الملك الذي يرسل إلى الأنبياء بحضرة أممهم كما روي أن جبرائيل عليه السلام كان يأتي في صورة دحية وفي صورة سراقة، وإنما قيدنا بحضرة الأمم لأن الملائكة قد يبعثون على صورتهم الأصلية عند إبلاغ الرسالة من الله إلى نبيه كما روي أنه صلى الله عليه وسلم رآى جبرائيل على صورته التي هو عليها مرتين. وعليه تأوّلوا قوله: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: 13] ثم إنهم كانوا مقرين بأن اليهود والنصارى أصحاب العلوم والكتب فأمرهم الله- أعني قريشا- بأن يرجعوا إليهم في هذه المسألة ليبينوا لهم ضعف هذه الشبهة وسقوطها وذلك قوله: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ قال بعض الأصوليين: فيه دليل على أنه يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر فيما يشتبه عليه. واحتج نفاة القياس بالآية قالوا: لو كان حجة لما وجب على المكلف السؤال بل كان عليه أن يستنبط ذلك الحكم بواسطة القياس. وأجيب بأنه قد ثبت العمل بالقياس لإجماع الصحابة، والإجماع أقوى من ظاهر النص. أما قوله: بِالْبَيِّناتِ ففي متعلقه وجوه منها: أن يتعلق ب أَرْسَلْنا داخلا تحت حكم الاستثناء مع رِجالًا وأنكر الفراء ذلك قال: إن صلة ما قبل «إلا» لا تتأخر إلى ما بعد «إلا» لأن المستثنى منه هو مجموع ما قبل إلا مع صلته كما لو قيل: ما أرسلنا بالبينات إلا رجالا. ولما لم يصر هذا المجموع مذكورا بتمامه امتنع إدخال الاستثناء عليه. ومنها أن يتعلق ب رِجالًا صفة له أي رجالا متلبسين بالبينات. ومنها أن يتعلق ب أَرْسَلْنا مضمرا نظيره «ما مر إلا أخوك» ، ثم تقول «مرّ بزيد» قاله الفراء. ومنها أن يتعلق ب يوحى أي يوحى إليهم بالبينات. ومنها أن يتعلق بالذكر بناء على أنه بمعنى العلم. ومنها أن يتعلق ب لا تَعْلَمُونَ أي إن كنتم لا تعلمون بالبينات وبالزبر فاسألوا. وقال في الكشاف: الشرط هاهنا في معنى التكبيت والإلزام كقول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطني حقي. قلت: أراد أن عدم علمهم مقرر كما أن عمل الأجير ثابت. وسلم جار الله أن مثل قوله: فَسْئَلُوا جواب الشرط على هذا الوجه. وأما على الوجوه المتقدمة فجزمت أنه اعتراض بناء على أن جواب الشرط هو ما دل عليه قوله وَما أَرْسَلْنا إلخ. وعندي أن هذا الجزم ليس بحتم ويجوز على كل الوجوه أن يكون مثل فَسْئَلُوا جوابا والله أعلم. وأهل الذكر أهل التوراة. كقوله: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء: 105] يعني التوراة. وقال الزجاج: سلوا كل من يذكر بعلم وتحقيق. وقوله: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ لفظ جامع لكل ما تتكامل به الرسالة لأن مدارها على المعجزات الدالة على صدق من يدعي الرسالة وهي البينات، وعلى التكاليف التي تعتبر في باب العبادة وهي للزبر. ثم قال: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أي القرآن الذي هو موعظة وتنبيه وتذكير لأهل الغفلة والنسيان، وبيّن الغاية المترتبة على الإنزال وهي تبيين الأحكام والشرائع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 بالنسبة إلى الرسول وإرادة التأمل والتفكر في المبدإ والمعاد بالإضافة إلى المكلفين. وفي ظاهر هذا النص دلالة على أن القرآن كله مجمل، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أنه متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر لأن القرآن مجمل والخبر مبين له. وأجيب بمنع الكلية فمن القرآن ما هو محكم، وقوله: لِتُبَيِّنَ محمول على المتشابهات المجملات. قال بعض من نفى القياس: لو كان القياس حجة لما وجب على الرسول أن يبين للمكلفين ما أنزل الله عليه من الأحكام بل كان له أن يفوض بعضها إلى رأي القائس، وأجيب بأنه لما بيّن أن القياس من جملة الحجج فالقياس أيضا راجع إلى بيان الرسول. ثم لما ذكر شبهات المنكرين مع أجوبتها شرع في التهديد والوعيد والإنذار والتنبيه فقال أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أي المكرات السيئات أراد أهل مكة ومن حول المدينة. قال الكلبي: عنى بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله، والأقرب أن المراد سعيهم في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإيذاء أصحابه على سبيل الخفية أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسف بقارون أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ أو ملائكة العذاب من السماء مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ كما فعل بقوم لوط أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ فائتين الله، وذكر المفسرون في هذا التقلب وجوها منها: أنه تعالى يأخذهم في أسفارهم ومتاجرهم فإنه قادر على أن يهلكهم في السفر كما أنه قادر على أن يهلكهم في الحضر وهم لا يفوتون الله بسبب ضربهم في البلاد البعيدة. ومنها أنه يأخذهم بالليل والنهار في أحوال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم، وحقيقته في حال تصرفهم في الأمور التي يتصرف فيها أمثالهم. ومنها أنه أراد في حال ما يتقلبون في قضاء أوطارهم بوجوه الحيل فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم. والتقلب بالمعنى الأوّل مأخوذ من قوله: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمران: 196] وبالمعنى الثالث من قرأ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ [التوبة: 48] . أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ على حالة تخوفهم وتوقعهم للبلاء بأن يكون قد أهلك قوما قبلهم فكان أثر الخوف باقيا فيهم ظاهرا عليهم فهو خلاف قوله: مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ وقيل: التخوف التنقص والمعنى أنه يأخذهم بطريق النقص شيئا بعد شيء في ديارهم وأموالهم وأنفسهم حتى يأتي الفناء على الكل. عن عمر أنه قال على المنبر: ما تقولون فيها؟ فسكتوا: فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا التخوف التنقص فقال: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم قال شاعرنا زهير: تخوّف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 قوله تامكا قردا أي سناما مرتفعا متراكما، والسفن ما ينحت به الشيء ومنه السفينة لأنها تسفن وجه الماء بالمر في البحر. فقال عمر: أيها الناس عليكم بديوانكم. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم. ثم ختم الآية بقوله: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فذهب المفسرون إلى أن معناه أن يمهل في أكثر الأمر لأنه رءوف رحيم فلا يعجل بالعذاب. وأقول: يحتمل أن يكون قوله «فإنه» تعليلا لقوله أَفَأَمِنَ كقوله: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] . ولما خوف الماكرين بما خوف أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وسكانهما فقال أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ قال جار الله: «ما» مبهمة بيانه مِنْ شَيْءٍ وقال أهل المعاني: قوله: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ إخبار عن شيء وليس بوصف له. ويتفيأ «يتفعل» من الفيء وأصله الرجوع ومنه فيئة المولى. وقال الأزهري: تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاب النهار. فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشيّ، وما انصرف عنه الشمس والقمر والذي يكون بالغداة ظل. وقال ثعلب: أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل، وما لم يكن عليه الشمس فهو ظل. وقوله: ظِلالُهُ أضاف الظلال إلى مفرد ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال ووجه حسنه كون المرجوع إليه واحدا في اللفظ وإن كان كثيرا في المعنى وهو قوله: إِلى ما خَلَقَ نظيره لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ [الزخرف: 13] أضاف الظهور- وهو جمع- إلى ضمير مفرد لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة وهو ما تركبون. قال الجوهري: تفيأت الظلال أي تقلبت. وقوله عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ قال أهل التفسير ومنهم الفراء: إنه وحد اليمين لأنه أراد واحدا من ذوات الأظلال، وجمع الشمائل لأنه أراد كلها لأن قوله ما خَلَقَ اللَّهُ لفظ مفرد ومعناه جمع، وقيل: إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد كقوله وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [الأنعام: 46] وقيل: المراد باليمين النقطة التي هي مشرق الشمس وإنها واحدة، والشمائل عبارة عن الانحراف الواقع في تلك الأظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة. وإنما عبر عن المشرق باليمين لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه ومنه تظهر الحركة القوية، وكذا جانب الشرق أقوى جوانب الفلك ومنه تظهر الحركة اليومية التي هي أسرع الحركات وأقواها. ويمكن أن يقال: إن الإنسان إذا توجه إلى الشرق الذي هو أولى الجوانب بالاعتبار لشرفه كان الجنوب يمينه والشمال شماله، ولا ريب أن وصول الشمس إلى فلك نصف النهار يختلف بحسب البلاد. وقد يتفق انتقالها من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 الجنوب إلى الشمال وبالعكس في بلد واحد إذا كان عرضه ناقصا عن الميل الكلي. ومن المعلوم أن الشمس حين وصولها إلى نصف النهار إن كانت في جنوب سمت الرأس وقع ظلها إلى جانب الشمال، وإن كانت في شماله وقع ظلها إلى الجنوب، فيحتمل أن يراد بتفيؤ الأضلال تقلبها في هاتين الجهتين والله أعلم. أما قوله سُجَّداً لِلَّهِ فإنه حال من الظلال، ومعنى سجودها انقيادها لأمر الله منتقلة من جانب إلى جانب حسب تحرك النير على نسب مخصوصة ومقادير معلومة ذكرنا بعضها في كتبنا النجومية. وقد بنى المتأخرون على الأضلال مسائل كثيرة منها: الشكل الموسوم بالظلي مع فروعه، وذكر بعضهم في تفسير هذا السجود أن هذه الأظلال واقعة على الأرض ملصقة بها على هيئة الساجد. وقوله وَهُمْ داخِرُونَ حال أخرى من الظلال. وإنما جمع بالواو والنون لأنهم أشبهوا العقلاء من حيث طاعتها لله سبحانه. وقال جار الله: اليمين والشمائل استعارة عن يمين الإنسان وشماله بجانبي الشيء أي ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ. والأجرام في أنفسها داخرة أيضا صاغرة منقادة لأفعال الله فيها لا تمتنع وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ قال الأخفش: أي من الدواب. وأخبر بالواحد كما تقول: ما أتاني من رجل مثله وما أتاني من الرجال مثله. وقال ابن عباس: يريد كل ما دب على الأرض. والوجه في تخصيص الدابة والملائكة بالذكر أنه علم من آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة له، فبين في هذه الآية أن الحيوانات بأسرها أيضا كذلك. ثم عطف عليها الملائكة إما لشرفها وإما لأنها ليست مما يدب ولكنها تطير بالجناحين، وبين النوعين مغايرة لقوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] وعلى قاعدة الحكماء: وجه المغايرة أنها أرواح مجردة ليست من شأنها الحركة والدب. قال جار الله: من دابة يجوز أن يكون بيانا لما في السموات وما في الأرض جميعا، على أن في السموات خلقا لله يدبون فيها كما يدب الأناسيّ في الأرض، وأن يكون بيانا لما في الأرض وحده ويراد بما في السموات الخلق الذي يقال له الروح، وأن يكون بيانا لما في الأرض وحده ويراد بما في السموات الملائكة. وكرر ذكرهم على معنى والملائكة خصوصا من بين الساجدين لأنهم أطوع الخلق وأعدلهم، ويجوز أن يراد بما في السموات ملائكتهن، وبقوله: وَالْمَلائِكَةُ ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم انتهى كلامه. ثم شرع سبحانه في صفة الملائكة وذكر عصمتهم فقال: وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ على أنه حال منهم أو بيان لنفي استكبارهم لأن الخوف أثره عدم الاستكبار. وقوله مِنْ فَوْقِهِمْ إما أن يتعلق ب يَخافُونَ والمعنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 يخافون ربهم أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم، وإما أن يكون حالا من الرب أي يخافونه غالبا قاهرا. وبحث الفوقية قد تقدم في الأنعام في قوله: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الأنعام: 18] زعم بعض الطاعنين في عصمة الملائكة أنه تعالى وصفهم بالخوف وحصول الخوف نتيجة تجويز الإقدام على الذنوب، وهب أنهم فعلوا كل ما أمروا به فمن أين علم أنهم تركوا كل ما نهوا عنه؟ والجواب عن الأوّل أنهم إنما يخافون من العذاب لقوله تعالى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 29] فمن هذا الخوف يتركون الذنب. وعن ابن عباس أن هذا الخوف خوف الإجلال كقوله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] ولا ريب أنه كلما كانت معرفة جلال الله أتم كانت الهيبة والحيرة أعظم. وعن الثاني أن النهي عن الشيء أمر بتركه، وفي الآية دلالة على أن إبليس لم يكن من الملائكة لأنه أبى واستكبر وإنهم لا يستكبرون. وقد يستدل بها على أن الملك أفضل من البشر بل من كل المخلوقات وإلا لما خصهم بالذكر من بينها، ولخلو بواطنهم وظواهرهم عن الأخلاق الذميمة وانغماس البشر في الدواعي الشهوية والغضبية، ولهذا ورد في حقه قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ [عبس: 17] وقال صلى الله عليه وسلم: «ما منا إلا من قد عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا» وقال أيضا صلى الله عليه وسلم «الشيخ في قومه كالنبي في أمته» فضل الشيخ على الشاب لتقادم عهده وطول مدته، ولا شك أن الملائكة خلقوا قبل البشر بسنين متطاولة وقرون متمادية، وأنهم سنوا الطاعة والعبودية ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها. وتمام البحث في هذه المسألة المذكور في أول سورة البقرة. وفي قوله: ما يُؤْمَرُونَ دلالة على أن الملائكة مكلفون بالأمر والنهي والوعد والوعيد راجين خائفين. ولما بين أن كل ما سواه في عالمي الأرواح والأجسام فإنه منقاد خاضع لجلاله وكبريائه أتبعه النهي عن الشرك قائلا وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فسئل أن التثنية والواحد حيث كانا يدلان على العدد الخاص، فما الفائدة في وصف إلهين باثنين ووصف إله بواحد؟ وأجيب بوجوه منها: قول صاحب النظم أن فيه تقديما وتأخيرا أي لا تتخذوا اثنين إلهين. ومنها أنه كررت العبارة لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك. ومنها قول لأهل المعاني إن فائدة الوصف والبيان هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدد لا إلى الجنسية، ولهذا لو قلت: إنما هو إله ولم تؤكده بواحد سبق إلى الوهم أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية. وكيف لا يحتاج المقام إلى التوكيد والاثنينية منافية للإلهية لا ستلزام تعدد الواجب كون كل منهما مركبا من جزأين ما به الاشتراك في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 الوجوب الذاتي، وما به الامتياز ولكن التركيب يوجب الافتقار إلى البسائط والافتقار ينافي الوجوب. ودليل التمانع أيضا يعين على المطلوب كما لو أراد أحدهما تحريك جسم معين وأراد الآخر تسكينه، أو قوي أحدهما على مخالفة الآخر أو لا يقوى، أو قدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر أو لا يقدر. ثم نقل الكلام عن الغيبة إلى التكلم على طريقة الالتفات قائلا: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وقد مر مثله في أوّل «البقرة» . ثم لما قرر وحدته وأنه يجب أن يخص بالرهبة منه والرغبة إليه ذكر أن الكل ملكه فقال: وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فقالت الأشاعرة: ليس المراد من كونها لله أنها مفعولة لأجله ولغرض طاعته لأن فيها المباحات والمحظورات التي يؤتى بها لغرض الشهوة واللذة لا لغرض الطاعة، فالمراد أن كلها بتخليقه وتكوينه ومن جملة ذلك أفعال العباد، ثم قال وَلَهُ الدِّينُ واصِباً فالدين الطاعة، والواصب الدائم، ومفازة واصبة بعيدة لا غاية لها. ويقال للمريض وصب لكون ذلك المرض لازما له. وانتصابه على الحال والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل. قال ابن قتيبة: ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك بسبب في حال الحياة أو الموت إلا الحق سبحانه، فإن طاعته واجبة أبدا. ويحتمل أن يكون الدين بمعنى الملة أي وله الدين ذا كلفة ومشقة ولذلك سمي تكليفا، أو وله الجزاء سرمدا لا يزول يعني الثواب والعقاب. وقال بعض المتكلمين المحققين: قوله وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إشارة إلى أن جميع الممكنات مفتقرة إلى فيض وجوده في حال وجوده لأن الصحيح أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المرجح. ثم أنكر أن يكون الممكن مع شدة افتقاره إليه يخشى غيره فقال أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ثم منّ عليهم بقوله: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ «ما» بمعنى «الذي» وبكم صلته ومِنْ نِعْمَةٍ حال من الضمير في الجار، أو بيان لما وقوله: فَمِنَ اللَّهِ الخبر. وقيل: «ما» شرطية وفعل الشرط محذوف أي ما يكن. وقال جار الله: معناه أي شيء حال بكم أو اتصل بكم من نعمة فهو من الله، قال الأشاعرة: أفضل النعم نعمة الإيمان والآية تفيد العموم فهو من نعم الله. والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به، وإما دنيوية نفسانية أو بدنية أو خارجة كالسعادات المالية وغيرها، وكل واحدة من هذه جنس تحتها أنواع لا حصر لها والكل من الله، فعلى العاقل أن لا يشكر إلا إياه. ثم بين تلون حال الإنسان بعد استغراقه في بحار نعم الله قائلا ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ما تتضرعون إلا إليه. والجؤار رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة. ثُمَّ إِذا كَشَفَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ قال جار الله: يجوز أن يكون الخطاب في قوله: وَما بِكُمْ عاما، ويريد بالفريق فريق الكفرة وأن الخطاب للمشركين ومِنْكُمْ للبيان لا للتبعيض كأنه قال: فإذا فريق كافر وهم أنتم، ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر كقوله: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [لقمان: 32] أقول: وأظهر الوجهين الأول والمعنى أن فريقا منكم يبقى على ما كان عليه عند الضر في أن لا يفزع إلا إلى الله، وفريقا يتغير عن حاله فيشرك بالله، ولعل هذه صفة لازمة لجوهر الإنسان ولهذا قال: لِيَكْفُرُوا كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة، ويجوز أن تكون لام العاقبة يعني عاقبة تلك التضرعات ما كانت إلا هذا الكفران. والمراد بقوله: بِما آتَيْناهُمْ كشف الضر وإزالة المكروه، أو القرآن والشرائع، أو جميع النعم الظاهرة والباطنة التي أنعم الله بها على الإنسان. ثم قال على سبيل التهديد وبطريقة الالتفات نظرا إلى أوّل الكلام فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة كفركم ومثله في «الروم» كما سيجيء، وأما في «العنكبوت» فإنه قال: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا [الآية: 66] بالعطف على القياس. ثم حكى نوعا آخر من قبائح أعمال بني آدم فقال وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ الضمير الأوّل للمشركين والثاني قيل لهم وقيل للأصنام التي لا توصف بالعلم والشعور، ورجح الأوّل بأن نفي العلم عن الحي حقيقة وعن الجماد مجاز، وبأن جمع السلامة بالعقلاء أليق، وقد يرجح الثاني بأن الأوّل يفتقر إلى الإضمار كما لو قيل: ويجعلون لما لا يعلمون في طاعته نفعا ولا في الإعراض عنه ضرا. وقال مجاهد: يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرهم نَصِيباً أو ويجعلون لما لا يعلمون إلاهيتها، أو السبب في صيرورتها معبودة. والمراد بجعل النصيب ما مر في «الأنعام» في قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الأنعام: 136] وقيل: البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. عن الحسن: وقيل هم المنجمون الذين يوزعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة فيقولون لزحل كذا وكذا من المعادن والنبات والحيوان، وللمشتري كذا إلى آخر الكواكب. ثم أوعدهم الله بقوله: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ على الله من أن له شريكا وأن الأصنام أهل للتقرب إليها مع أنه لا شعور لها بشيء أصلا، أو المراد بالافتراء قولهم هذا حلال وهذا حرام من غير إذن شرعي، أو قولهم أن لغير الله تأثيرا في هذا العالم. ومتى يكون هذا السؤال؟ قيل: عند القرب من الموت ومعاينة ملائكة العذاب، وقيل: في القبر. والأقرب أنه في الآخرة وهذا في هؤلاء الأقوام خاصة كقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92] في الأمم عامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 قوله: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ نوع آخر من القبائح وكانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله. قال الإمام فخر الدين الرازي: أظن أن ذلك لأن الملائكة يستترون عن العيون كالنساء، ومنه إطلاق التأنيث على الشمس لاستتارها عن أن تدرك بالأبصار لضوئها الباهر ونورها القاهر. سُبْحانَهُ تنزيه لذاته عن نسبة الولد إليه أو تعجب من قولهم. ومحل «ما» في قوله وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ إما الرفع على الابتداء، أو النصب أي وجعلوا لهم ما يشتهون يعني البنين. وأبي الزجاج جواز النصب وقال: لأن العرب لا تقول جعل له كذا وهو يعني نفسه وإنما تقول جعل لنفسه كذا. فلو كان منصوبا لقيل: و «لأنفسهم ما يشتهون» . ثم ذكر غاية كراهتهم للإناث التي جعلوها لله تعالى فقال: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ أي صار مُسْوَدًّا ويحتمل أن يكون استعمل «ظل» لأن وضع الحمل يتفق بالليل غالبا فيظل نهاره مسود الوجه وَهُوَ كَظِيمٌ مملوء غما وحزنا وغيظا على المرأة. قال أهل المعاني: جعل اسوداد الوجه كناية عن الغم والكآبة لأن الإنسان إذا قوي فرحه انبسط الروح من قلبه ووصل إلى الأطراف ولا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد فاستنار الوجه وأشرق، وإذا قوي غمه انحصر الروح في داخل القلب ولم يبق منه أثر قويّ على الوجه فيتربد الوجه لذلك ويصفر أو يسود يَتَوارى يستخفي مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ من أجل سوء المبشر به ولم يظهر أياما يحدث نفسه ويدبر فيها ماذا يصنع بها وذلك قوله: أَيُمْسِكُهُ أي يحبسه عَلى هُونٍ ذل وهوان. والظاهر أن هذا صفة المولود أي يمسكها على هوان منه لها. وقال عطاء عن ابن عباس: إنه صفة الأب أي يمسكها مع الرضا بهوان نفسه أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أي بيده. والدس إخفاء الشيء في الشيء. وإنما ذكر الضمير في يُمْسِكُهُ ويَدُسُّهُ باعتبار ما بشر به. كانوا مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبل، ومنهم من يغرقها، ومنها من يذبحها. وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية، وأخرى خوفا من الفقر والفاقة ولزوم النفقة. روي أن رجلا قال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام وقد كانت لي في الجاهلية ابنة وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتها، فلما انتهيت إلى واد بعيد القعر ألقيتها فقالت: يا أبتي قتلتني. فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء. فقال صلى الله عليه وسلم: ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار. ولا ريب أن الأنثى التي هذا محلها عندهم كانت في غاية الكراهية والتنفير ومع ذلك أثبتوها لله المتعالي عن الصاحبة والولد فلذلك قال: أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ولهذا يقدمون على القتل والإيذاء مَثَلُ السَّوْءِ وصفة السوء وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ووأدهن خشية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 الإملاق والتزام الشح البالغ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وهو أضداد صفات المخلوقين من الغنى الكامل والجود الشامل وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغالب فلا يستضر بأن ينسب إليه ما لا يليق به الْحَكِيمُ في خلق الذكور والإناث أو في الوعيد على قتل البنات. قال القاضي: إن هؤلاء المشركين استحقوا الذم بإضافة البنات إلى الله وإنه أسهل من إضافة الفواحش والقبائح كلها إليه وهذا شأن المجبرة. وأجابت الأشاعرة بأنه ليس كل ما قبح منافي العرف فإنه يقبح من الله. ألا ترى أن رجلا لو زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهن وتقوية الشهوة فيهم وفيهن، ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع فإن هذا بالاتفاق حسن من الله تعالى وقبيح من كل الخلق، فعلمنا أن التعويل على هذه الوجوه المبنية على العرف إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطعية اليقينية، وقد ثبت بالبراهين القطعية امتناع الولد على الله تعالى فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية. أما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل اليقينية أن خالقها هو الله تعالى فكيف يمكن إلحاق إحدى الصورتين بالأخرى والله أعلم. التأويل: أن يخسف الله بهم أرض البشرية ودركات السفل أو يأتيهم العذاب بالمكر والاستدراج من حيث لا يشعرون، أنه من أين أتاهم من قبل الأعمال الدنيوية أو من قبل الأعمال الأخروية أو يأخذهم في تقلبهم من أعمال الدنيا إلى أعمال الآخرة بالرياء، ومن أعمال الآخرة إلى أعمال الدنيا بالهوى أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ تنقص من مقاماتهم ودرجاتهم بلا شعورهم فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ بالعباد إذ أعطاهم حسن الاستعداد رَحِيمٌ حين لا يأخذهم بعد إفساد الاستعداد في الحال لعلهم يتوبون في المآل فيقبل توبتهم بالفضل والنوال. ما خلق الله من شيء وهو عالم الأجسام فإن عالم الأرواح خلق من لا شيء يتفيأ ظلاله، فإن الأجسام ظلال الأرواح فتارة تميل بعمل أهل السعادة إلى أصحاب اليمين، وأخرى تميل بعمل أهل الشقاء إلى أصحاب الشمال سُجَّداً لِلَّهِ منقادين لأمره مسخرين لما خلقوا لأجله. وإنما وحد اليمين وجمع الشمال لكثرة أصحاب الشمال، وسجود كل موجود يناسب حاله كما أن تسبيح كل منهم يلائم لسانه وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ أراد بالإله الآخر الهوى لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما عبد إله أبغض على الله من الهوى» وَيَجْعَلُونَ يعني أصحاب النفوس والأهواء لِما لا يَعْلَمُونَ لمن لا علم لهم بأحوالهم نَصِيباً بالرياء مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الطاعات تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ والسؤال عن المعاملات إنما هو بتبديل الصفات وتغير الأحوال من سمة السعادة إلى سمة الشقاوة وبالعكس وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ أظن أن البنات إشارة إلى صفات فيها نوع نقص الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 كالتجسيم والتشبيه والحلول والاتحاد، ونسبته إلى الظلم والجور والتعطيل وعدم الاستقلال بالتأثير وغير ذلك مما لا يليق بغاية جلاله ونهاية كماله فلهذا قال سبحانه: وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعني أن كل أحد يجب أن يوصف بغاية الكمال ويتغير وجهه إذا نبه على عيب فيه ولا يعلم أن مطلق الكمال لا يليق إلا بالواجب بالذات، ونفس الإمكان نقصان يستلزم جميع النقصانات والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. [سورة النحل (16) : الآيات 61 الى 70] وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) القراآت: لا جَرَمَ في المد مثل لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] مُفْرَطُونَ بكسر الراء المشددة: يزيد مُفْرَطُونَ بكسر الراء المخففة: نافع وقتيبة. الباقون بفتحها مخففة. نُسْقِيكُمْ بفتح النون: نافع وابن عامر وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد. الآخرون بضمها. الوقوف: مُسَمًّى ج للظرف مع الفاء وَلا يَسْتَقْدِمُونَ هـ الْحُسْنى ط وقيل علي لا ثم يبدأ بجرم وهو تكلف. مُفْرَطُونَ هـ أَلِيمٌ هـ فِيهِ لا للعطف على موضع لِتُبَيِّنَ تقديره إلا تبيانا وهدى يُؤْمِنُونَ هـ مَوْتِها ط يَسْمَعُونَ هـ لَعِبْرَةً ط لأنه لو وصل اشتبه ما بعده بالوصف لِلشَّارِبِينَ هـ حَسَناً ط يَعْقِلُونَ هـ يَعْرِشُونَ هـ ج للعطف ذُلُلًا ط للعدول لِلنَّاسِ ط يَتَفَكَّرُونَ هـ شَيْئاً ط قَدِيرٌ هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 التفسير: لما حكى عن القوم عظيم كفرهم وفظيع قولهم بين غاية كرمه وسعة رحمته حيث إنه لا يعاجلهم بالعقوبة فقال: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ الآية. فزعم بعض الطاعنين في عصمة الأنبياء أنه أضاف الظلم إلى ضمير الناس والأنبياء من جملة الناس فوجب أن يكونوا ظالمين عاصين ويؤكدا هذا قوله: ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ فإنه لو لم يصدر من الأنبياء ذنب لم يكن لإفنائهم وجه وحينئذ لم يصدق أنه لم يبق على الأرض واحد. والجواب لا نسلم عموم الناس في الآية لقوله سبحانه في موضع آخر فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [لقمان: 32] ولا ريب أن المقتصدين والسابقين ليسوا ظالمين، فإذن المراد بالناس إما كل العصاة الذين استحقوا العقاب، أو الذين تقدم ذكرهم من المشركين. وأما قوله: مِنْ دَابَّةٍ فعن ابن عباس أنه أراد من مشرك يدب عليها نظيره قوله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 55] ولو سلم أن المراد بها كل من يدب عليها فلعل الهلاك في حق الظلمة يكون عذابا وفي غيرهم امتحانا فقد وقعت هذه الواقعة في زمان نوح عليه السلام. وأيضا من المعلوم أنه لا أحد إلا وفي آبائه من يستحق العذاب، فلو أهلكوا لبطل نسلهم ولأدى إلى إفناء الناس، بل الدواب كلها لأن الدواب مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم. عن أبي هريرة أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال: بلى والله حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم. وعن ابن مسعود: كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم. وقيل: لو يؤاخذهم لانقطع القطر وفي انقطاعه انقطاع النبت وفي انقطاع النبت فناء الدواب. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن الظلم والمعاصي ليست من أفعال الله تعالى وإلا لم يؤاخذهم بها فرضا، ولم يضف الظلم إليهم ولم يذمهم على ذلك. وفي قوله: بِظُلْمِهِمْ دليل على أن الظلم هو المؤثر في العقاب، فإن الباء للعلية. وجواب الأشاعرة معلوم وهو أنه لا يسأل عما يفعل، وأيضا المعارضة بالعلم والدواعي ووجوب انتهاء الكل إليه. قال بعض الأصوليين: الأصل في المضار الحرمة لأن الضرر لا يجوز أن يكون مشروعا ابتداء بالإجماع ولقوله تعالى: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة: 185] ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» في الإسلام «ملعون من ضر مسلما» ولا أن يكون مشروعا على وجه يكون جزاء عن جرم سابق بهذه الآية لأن كلمة «لو» وضعت لانتفاء الشيء لانتفاء غيره. فالآية تقتضي أنه تعالى ما آخذ الناس بظلمهم وأنه ترك على ظهرها دابة كما هو المشاهد إذا ثبت هذا الأصل فنقول: إذا وقعت حادثة مشتملة على المضار فإن وجدنا نصا على كونها مشروعة قضينا به تقديما للخاص على العام وإلا قضينا عليها بالحرمة بناء على هذا الأصل. ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 يكون الضرر مشروعا على وجه يقع جزاء عن جرم سابق والآية لا تنافي ذلك لأنها لا تدل إلا على أنه سبحانه لا يؤاخذ بكل ظلم. أما على أنه لا يؤاخذ ببعض أنواع الظلم فلا، دليله قوله: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] ومنهم من قال: بناء على القاعدة المذكورة إن كل ما يريده الإنسان وجب أن يكون مشروعا في حقه لأن المنع منه ضرر والضرر غير مشروع، وكل ما يكرهه الإنسان لزم أن يكون محرما لأن وجوده ضرر وأنه غير مشروع. فالذي يتمسك به في إثبات الأحكام من القياس إما أن يكون على وفق هذه القاعدة أو على خلافها والأول باطل، لأن هذا الأصل يغني عنه، وكذا الثاني لأن النص راجح على القياس. ولقائل أن يقول: توارد الأدلة على المدلول الواحد غير ممتنع. أما قوله: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فعن ابن عباس في رواية عطاء أنه يريد أجل القيامة لأن معظم العذاب يوافيهم يومئذ. وقيل: أراد منتهى العمر لأن المشركين يؤاخذون بالذنوب إذا خرجوا من الدنيا، وباقي الآية قد مر تفسيرها في أوائل سورة الأعراف. واعلم أنه سبحانه قال في هذه السورة ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وفي سورة الملائكة ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها [فاطر: 45] فالهاء كناية عن الأرض ولم يتقدم ذكرها هاهنا والعرب تجوّز ذلك في كلمات لحصولها بين يدي كل متكلم وسامع منها الأرض والسماء: «فلان أفضل من عليها وأكرم من تحتها» ، ومنها الغداة «إنها اليوم لباردة» . ومنها الأصابع يقول: «والذي شقهن خمسا من واحدة» يعني الأصابع من اليد. وإنما لم يذكر الظهر في هذه السورة لئلا يلتبس بظهر الدابة فكثيرا ما يستعمل الظهر بمعنى الدابة بخلاف سورة «الملائكة» فإنه قد تقدم ذكر الأرض في قوله: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [الآية: 44] وفي قوله: وَلا فِي الْأَرْضِ [الآية: 44] فلم يكن ملتبسا. ويمكن أن يقال: لما قال هاهنا بِظُلْمِهِمْ لم يقل: عَلى ظَهْرِها وحين قال هنالك بِما كَسَبُوا قال: عَلى ظَهْرِها احترازا عن الجمع بين الظاءين لأنها تقل في الكلام وليست لأمة من الأمم سوى العرب، فلم يجمع بينهما في شرطية واحدة. ثم عاد إلى حكاية كلمتهم الحمقاء فقال: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ لأنفسهم من البنات ولا يبعد أن يندرج فيه سائر ما يكرهون من الشركاء في الرياسة ومن الاستخفاف والتهاون برسلهم ورسالتهم، وأنهم يجعلون أرذل أموالهم لله وأكرمها للأصنام. عن بعضهم أنه قال لرجل من ذوي اليسار كيف تكون يوم القيامة إذا قال الله تعالى هاتوا ما دفع إلى السلاطين وأعوانهم فيؤتى بالدواب والثياب وأنواع الأموال الفاخرة، وإذا قال هاتوا ما دفع إليّ فيؤتى بالكسر والخرق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 وما لا يؤبه له، أما تستحيي من ذلك الموقف؟ ثم قال: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ قال الفراء والزجاج: أبدل منه قوله: أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى عن مجاهد أن الحسنى البنون كانت قريش يقولون لله البنات ولنا البنون. وقال غيره: هي الجنة أي إنهم مع جعلهم لله ما يكرهون حكموا لأنفسهم بالجنة والثواب من الله، وأنهم يفوزون برضوان الله بسبب هذا القول زعما منهم أنهم على الدين الحق والمذهب الحسن. وكيف يحكمون بذلك وكانوا منكرين للقيامة؟ الجواب أنه كان فيهم من يقر بالبعث ولذلك كانوا يربطون البعير على قبر الميت ويتركونه إلى أن يموت ظنا منهم أن الميت إذا حشر فإنه يحشر معه مركوبه، وبتقدير أنهم كانوا منكرين فلعلهم قالوا إن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقا في دعوى الحشر والقيامة فإنه يحصل لنا الجنة والثواب بسبب هذا الدين الحق الذي نحن عليه نظيره وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت: 50] . ومن الناس من رجح هذا القول لأنه تعالى ردّ عليهم بعد ذلك بقوله: لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ قال الزجاج: لا ردّ لقولهم أي ليس الأمر كما وصفوا. جرم أي كسب ذلك القول أن لهم النار ف «أنّ» مع ما بعده في محل النصب لوقوع الكسب عليه. وقال قطرب: «أن» في موضع رفع والمعنى حق أن لهم النار وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ من قرأ بكسر الراء المخففة فهو من الإفراط في المعاصي وفي الافتراء على الله. وجوّز أبو علي الفارسي أن يكون من أفرط أي صار ذا فرط مثل أجرب أي صار ذا جرب، ومن قرأ بفتحها مخففة فهو من أفرطت فلانا خلفي إذا خلفته ونسيته، فالمعنى أنهم متروكون في النار منسيون. ومن قرأ بكسر الراء المشددة فهو من التفريط في الطاعات. وقرىء بفتح الراء المشددة من فرّطته في طلب الماء إذا قدمته وجاء أفرطته بمعناه أيضا، فالمراد أنهم مقدمون إلى النار معجلون إليها. ثم بين سبحانه أن مثل صنيع قريش قد صدر عن سائر الأمم فقال: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ أي رسلا فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ قالت المعتزلة: لو كان خالق الأعمال هو الله تعالى فما معنى تزيين الشيطان، ومن أي وجه توجه عليه الذم، وأن خالق ذلك العمل أجدر بأن يكون وليا لهم من الداعي إليه؟ وأجيب بأن الوسائط معتبرة وانتهاء الكل إليه ضروري. قال جار الله: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ حكاية الحال الماضية التي كان يزين لهم الشيطان أعمالهم فيها، والمراد فهو وليهم أي قرينهم في الدنيا فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا أو اليوم عبارة عن يوم الآخرة الذي يعذبون فيه في النار، فهو حكاية للحال الآتية. والولي الناصر أي هو ناصرهم يوم القيامة فقط، والمراد نفي الناصر عنهم على أبلغ الوجوه لأن الشيطان لا يتصوّر منه النصرة أصلا، وإذا كان الناصر منحصرا فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 لزم أن لا نصرة بالضرورة. قال: ويجوز أن يرجع الضمير في وَلِيُّهُمُ إلى مشركي قريش وأنه زين للكفار قبلهم أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم، ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي فهو ولي أمثالهم اليوم. ثم ذكر سبحانه أنه ما هلك من هلك إلا بعد إقامة الحجة وإزاحة العلة فقال: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ كالشرك والتوحيد والجبر والقدر والإقرار بالبعث والإنكار له، وكتحريم الأشياء المحللة كالبحيرة والسائبة وتحليل الأشياء المحرمة كالميتة والدم. وَهُدىً وَرَحْمَةً انتصبا على أنهما مفعول لهما ولا حاجة إلى اللام لأنهما فعلا فاعل، والفعل المعلل بخلاف التبيين فإنه فعل المخاطب لا فعل المنزل ولهذا دخل عليه اللام. قال الكعبي: وصف القرآن بكونه هدى ورحمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لا ينافي كونه كذلك في حق الكل. وخص المؤمنون بالذكر من حيث إنهم قبلوه وانتفعوا به. ولما امتد الكلام في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الإلهيات فقال: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وفي العنكبوت: مِنْ بَعْدِ مَوْتِها [الآية: 63] لأن هنالك سؤال تقرير والتقرير يحتاج إلى التحقيق فقيد الظرف ب «من» للاستيعاب. وأيضا حذف «من» في هذه السورة موافقة لقوله عما قريب: لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً وإنما حذف «من» هنا بخلاف ما في الحج لأنه أجمل الكلام في هذه السورة فقال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وأطنب في الحج فقال: خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [الحج: 5] الآية. فاقتضى الإيجاز الحذف والإطناب الإثبات إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تأمل وتدبر فمن لم يسمع متدبرا فكأنه أصم، ثم استدل بعجائب أحوال الحيوانات قائلا: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ وفي سورة المؤمنين: مِمَّا فِي بُطُونِها [الآية: 21] فذكر النحويون أن الأنعام من جملة الكلمات التي لفظها مفرد ومعناها جمع كالرهط والقوم والنعم. فجاز تذكيره حملا على اللفظ وتأنيثه حملا على المعنى. قال المبرد: هذا شائع في القرآن قال تعالى: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي [الأنعام: 78] بمعنى هذا الشيء الطالع. وقال: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [عبس: 11] أي ذكر هذا الشيء. وعند سيبويه الأنعام من الأسماء المفردة الواردة على أفعال. وجوّز في الكشاف أن يكون تأنيثه على أنه تكسير نعم. وقيل: إن الأنعام بمعنى النعم لأن الألف واللام تلحق الآحاد بالجمع والجمع بالآحاد. قلت: ما ذكره الأئمة حسن إلا أنه لا يقع جوابا عن التخصيص. ولعل السر فيه أن الضمير في هذه السورة يعود إلى البعض وهو الإناث، لأن اللبن لا يكون للكل فالتقدير: وإن لكم في بعض الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه، وأما في «المؤمنين» فإنه لما عطف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 عليه ما يعود على الكل ولا يقتصر على البعض وهو قوله: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها [المؤمنون: 22] لم يتحمل أن يكون المراد به البعض فأنث ليكون نصا على أن المراد بها الكل. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: إذا استقر العلف فى الكرش صار أسفله فرثا وأعلاه دما وأوسطه لبنا خالصا فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الفرث كما هو فذلك هو قوله تعالى: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً لا يشوبه الدم ولا الفرث. وأنكر الأطباء هذا القول لأنه على خلاف الحس والتجربة. أما الحس فلأن الأنعام تذبح ذبحا متواليا ولا يرى في كرشها دم ولا لبن، وأما التجربة فلأن الدم لو كان في أعلى المعدة والكرش كان يجب إذا قاء أن يقيء الدم وليس كذلك، بل الحق أن الحيوان إذا تناول العلف حصل له في معدته أو كرشه هضم أوّل، فما كان منه صافيا انجذب إلى الكبد، وما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء. ثم الذي يحصل في الكبد ينطبخ فيها ويصير دما وذلك هو الهضم الثاني. ويكون مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية. أما الصفراء فتذهب إلى المرارة، والسوداء إلى الطحال، والماء إلى الكلية، ومنها إلى المثانة. وأما الدم فإنه يدخل في الأوردة وهي العروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث. وبين الكبد والضرع عروق كثيرة فينصب الدم في تلك العروق إلى الضرع وهو لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله الدم هناك إلى صورة اللبن، وإنما اختص هذا المعنى بالحيوان الأنثى لأن الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به، والذكر من كل حيوان أسخن وأجف، والأنثى أبرد وأرطب لأن بدن الأنثى يحتاج إلى مزيد رطوبة لتصير مادة لتولد الولد ويتسع بدنها له. ثم إن تلك الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في الرحم تنصب بعد انفصال الجنين إلى الثدي لتصير مادة لغذاء الطفل. واعلم أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذا يخرج منه ثفل الغذاء، فإذا تناول الإنسان غذاء أو شربة رقيقة انطبق ذلك المنفذ انطباقا كليا إلى أن يكمل انهضامه في المعدة وينجذب ما صفا منه إلى الكبد، ويبقى الثفل هناك فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ وينزل منه ذلك الثفل فهذا الانطباق والانفتاح بحسب الحاجة وبقدر المنفعة مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم. وأيضا إنه أودع في الكبد قوّة جاذبة للأجزاء اللطيفة التي في ذلك المأكول والمشروب طابخة لها حتى تنقلب دما دون الأجزاء الكثيفة وفي المعدة بالعكس، وأودع في المرارة قوة جاذبة للصفراء، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائية، وتخصيص كل واحد من هذه الأعضاء بفعله الخاص به لا يمكن إلا بتدبير العليم الخبير. وكذا الكلام في انصباب مادة اللبن إلى الثدي في وقت يحتاج الطفل إلى الغذاء وتوزعها على جميع البدن في غير ذلك الوقت. ثم إنه تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 أحدث في حلمة الثدي ثقوبا صغيرة يخرج اللبن الخالص منها وقت المص أو الحلب فهي بمنزلة المصفاة للبن يخرج اللطيف منها ويبقى الكثيف، فبهذا الطريق يصير خالصا سائغا للشاربين أي سهل المرور في الحلق حتى قيل إنه لم يقص أحد باللبن قط. ومن عجائب حال اللبن اجتماعه من أجسام مختلفة الطبائع مع أنها واحدة في الحس. فمنها الدهن وهو حار رطب، ومنها الأجزاء المائية وهي باردة رطبة، ومنها الجبن وهو بارد يابس وكلها حاصلة من عشب واحد. ثم إنه تعالى ألهم الطفل الصغير مص الثدي عند انفصاله من الأم وكل ذلك دليل على عناية كاملة ورحمة شاملة وعلم تام وقدرة باهرة. قال المحققون: في تقليب العشب في هذه الأطوار إلى أن يصير لبنا خالصا سائغا دليل على أنه تعالى قادر على تقليب الإنسان في أطواره إلى أن يصير مستعدا للبقاء الأبدي واللقاء السرمدي. قال جار الله: و «من» في مِمَّا فِي بُطُونِهِ للتبعيض و «من» في قوله: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ لابتداء الغاية فهو صلة ل نُسْقِيكُمْ كقولك: «سقيته من الحوض» . وجوز أن يكون حالا من قوله: لَبَناً مقدما عليه فيتعلق بمحذوف أي كائنا من بين كذا وكذا. وإنما قدم لأنه موضع العبرة فهو جدير بالتقديم . قالت الشافعية: ليس بمستنكر أن يسلك المني مسلك البول وهو طاهر كما أنه يخرج اللبن من بين الفرث والدم طاهرا. وأما قوله: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ فإما أن يتعلق بمحذوف أي ونسقيكم من ثمرات النخيل ومن الأعناب إذا عصرت وحذف لدلالة ما تقدم عليه فيكون قوله: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ بيانا وكشفا عن كنه حقيقة الاستقاء، وإما أن يتعلق ب تَتَّخِذُونَ فيكون قوله: مِنْهُ تكريرا للظرف لأجل التأكيد نظيره قولك: «زيد في الدار فيها» وإنما ذكر الضمير في مِنْهُ لأنه يعود إلى المذكور أو إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير كأنه قيل: ومن عصير ثمرات النخيل ومن عصير الأعناب تتخذون منه، واحتمل أن يكون تَتَّخِذُونَ صفة موصوف محذوف كقوله: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] أي وما منا إلا ملك فالتقدير: ومن ثمرات النخيل ومن الأعناب ثمر. تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً لأنهم يأكلون بعضها ويتخذون من بعضها السكر وهو الخمر سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا نحو رشد رشدا ورشدا. وعلى هذا التفسير ففي الآية قولان: أحدهما- ويروى عن الشعبي والنخعي- أنها منسوخة فإن السورة مكية وتحريم الخمر نزل في المائدة وهي مدنية، وثانيهما أنها جامعة بين العتاب والمنة. وذكر المنفعة لا ينافي الحرمة على أن في الآية تنبيها على الحرمة أيضا لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر، فوجب في السكر أن لا يكون رزقا حسنا لا بحسب الشهوة بل بحسب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 الشريعة. هذا ما عليه الأكثرون. وقيل: السكر النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه، ثم يترك حتى يشتد وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حد السكر. واحتج بأن الآية دلت على أن السكر حلال لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام والمنة، ودل الحديث على أن الخمر حرام لعينها وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئا غير الخمر، وكل من أثبت هذه المغايرة قال إنه النبيذ المطبوخ. ويحكى عن أبي علي الجبائي أنه صنف كتابا في تحليل النبيذ، فلما آخذت منه السن العالية قيل له: لو شربت منه ما تتقوّى به فأبى فقيل له: فقد صنفت في تحليله. فقال: تناولته أيدي الشيطان فقبح عند ذوي المروءات والأقدار. وقيل: السكر الطعم قاله أبو عبيدة. وقيل: السكر والرزق الحسن واحد كأنه قيل: تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن. ومن أعجب أحوال الحيوان حال النحل المناسب عسلها اللبن في موافقة اللذة وفي الخروج من البطن فلذلك أفردها بالذكر عقيب ذلك قائلا: وَأَوْحى رَبُّكَ يا محمد أو يا إنسان إلى النحل أي ألهمها وعلمها على وجه هو أعلم به، ولقد حق لغريب أمرها وعجيب صنعتها أن يطلق عليه لفظ الإيحاء وذلك أنها تبني البيوت المسدسة من الأضلاع المتساويات التي لا يمكن للعقلاء تركيب أمثالها إلا بالمساطر والفرجارات، وقد علم من الهندسة أن تلك البيوت لو كانت مشكلة بما سوى المسدسات فإنه يبقى بالضرورة فيما بينها فرج خالية ضائعة. فاهتداء ذلك الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الدقيقة من الأعاجيب. ومن غرائب أمرها أن لها رئيسا هو أعظم جثة من الباقين وهم يخدمونه ويتبعون نهيه وأمره، ومنها أنها إذا نفرت عن وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطبول والملاهي وآلات الموسيقى وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردها إلى أوكارها. وبالجملة فإن غرائب هذا الحيوان أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تخفى، والغرض أن امتياز هذا الحيوان بهذه الخواص العجيبة الدالة على الذكاء والكياسة حالة شبيهة بالوحي بمعنى الإلهام. قال الزجاج: يجوز أن يقال سميت نحلا لأنه تعالى نحل الناس العسل بواسطتها وهي مؤنثة في لغة أهل الحجاز ولذلك قال تعالى: أَنِ اتَّخِذِي وهي «أن» المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول. ومعنى «من» في قوله: مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أي يبنون ويرفعون البعضية لأنها لا تبني بيوتا في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش، ولكنها تبني في مساكن توافقها وتليق بها وكثيرا ما يتعهدها الناس وتصلح أحوالها ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي بعضا من كل ثمرة تشتهينها فإذا أكلتها فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ أي الطريق التي ألهمك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 وفهمك في عمل العسل ذُلُلًا جمع ذلول وهي حال من السبل لأن الله ذللها لها وسهلها عليها، أو من الضمير في فَاسْلُكِي أي وأت ذلك منقادة لما أمرت به غير ممتنعة، أو المراد فاسلكي ما أكلت في سبل ربك المذللة أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلا وهي أجوافك ومنافذ مأكلك، أو أراد أنك إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك لا تتوعر عليك ولا تصلين فيها. فقد يحكى أنها ربما أجدب عليها ما حولها فتسافر إلى البلد البعيد في طلب النجعة. ويجوز أن يريد بقوله: ثُمَّ كُلِي اقصدي أكل الثمرات فَاسْلُكِي في طلبها في مظانها سُبُلَ رَبِّكِ. واعلم أن ظاهر قوله: أَنِ اتَّخِذِي ثُمَّ كُلِي فَاسْلُكِي أمر. فمن الناس من قال: لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول يتوجه بها عليها من الله أمر ونهي، ومنهم من أنكر ذلك وقال: المراد أنه سبحانه خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال. وتمام الكلام فيه سيجيء في سورة النمل. أما حدوث العسل من النحل فالأصح عند الأطباء أن الله تعالى دبر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ويقع على أوراق الأشجار، فقد يكون كثيرا يجتمع منه أجزاء محسوسة وهي الترنجبين ونحوه، وقد يكون قليلا متفرقا على الأوراق والأزهار وهو الذي ألهم الله تعالى هذا النحل فتلتقط تلك الذرّات بأفواهها وتأكلها وتغتذي بها فإذا شبعت التقطت مرة أخرى وذهبت بها ووضعتها في بيوتها ادخارا لنفسها، فإذا اجتمع في بيوتها شيء محسوس من تلك الأجزاء الطلية فذاك هو العسل. ولا يبعد أن يحصل لتلك الأجزاء في أفواهها نوع هضم وتغير ونضج لخاصية فيها فلذلك قال: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها أي من أفواهها. ومن الناس من زعم أن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرية ما شاءت، ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنه عسلا، ثم إنه يقيء مرة أخرى فذلك هو العسل. قال العقلاء: والقول الأول أقرب إلى التجربة والقياس. فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل، ولا شك أنه طل محدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا العسل. وأيضا النحل إنما تغتذي بالعسل ولهذا يترك منه بقية في بيوتها بعد الاشتيار. ولكن قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ أي ما يشرب يعضد القول الثاني. وقوله: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ أي منه أبيض وأصفر وأحمر وأسود بحسب اختلاف الأماكن وأمزجة النحل واختلاف الأزهار والأعشاب التي ترعى فيها. ثم وصفه بقوله: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة ولذا يقع في أكثر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 المعاجين. وتنكير شِفاءٌ لتعظيم الشفاء الذي فيه، أو لأن فيه بعض الشفاء فإن كل دواء كذلك. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا جاء إليه فقال: إن أخي يشتكي بطنه. فقال: اسقه العسل. فذهب ثم رجع فقال: قد سقيته فما نفع. فقال: اذهب فاسقه عسلا فقد صدق الله وكذب بطن أخيك. فسقاه فشفاه الله فبرأ كأنما نشط من عقال. قال أهل المعاني: إنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بأنه سيظهر نفعه فلهذا قال: كذب بطن أخيك حين لم يظهر النفع في الحال. وعن عبد الله بن مسعود: العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشفاءين القرآن والعسل. واعلم أنه سبحانه ختم الآية الأولى بقوله: لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ لأن إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض بسببه أمر مشاهد محسوس فمنكر ذلك فاقد الحس، وإنما خص بالذكر حس السمع لأن لفظ القرآن المنبه على هذه الآية مسموع. وختم الآية الثانية بالعقل لأنه يحتاج إلى نوع تدبر فالمعرض عنه فاقد العقل دون الحس. وختم الثالثة بالتفكر لأن أمر النحل وقصتها العجيبة من انقيادها لأميرها واتخاذها البيوت على أشكال يعجز عنها الحاذق منا، ثم تتبعها الزهر والطل ثم خروج ذلك من بطونها لعابا أو قيئا يقتضي فكرة بليغة. ولما ذكر بعض عجائب أحوال الحيوان أتبعه عجيب خلق الإنسان فقال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ولم تكونوا شيئا ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ عند انقضاء آجالكم وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ إلى أخسه وأحقره. عن علي رضي الله عنه هو خمس وسبعون سنة. وعن قتادة تسعون سنة. وقال السدي: هو حالة الخرف دليله قوله: لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً أي ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفل في النسيان وعدم التذكر. وقيل: لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئا أي لا يعلم زيادة علم على علمه. وقيل: إن الرد إلى أرذل العمر ليس في المسلمين والمسلم لا يزداد بسبب العمر إلا كرامة على الله تعالى ونظير الآية قوله: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التين: 5، 6] . واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع: أوّلها سن النشوء، وثانيها سن الوقوف وهو سن الشباب، وثالثها الانحطاط الخفي اليسير وهو سن الكهولة، ورابعها سن الانحطاط الظاهر وهو سن الشيخوخة. وذكر الأطباء وأصحاب الطبيعي أن بدن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث وهما جوهران حارّان رطبان، والحرارة إذا عملت في الجسم الرطب قلت رطوبته فلا يزال ما في هذين الجوهرين من قوة الحرارة يقلل ما في العضو من الرطوبة حتى يتصلب ويظهر العظم والغضروف والعصب والوتر والرباط وسائر الأعضاء، فإذا تم تكوين البدن وكمل فعند ذلك ينفصل الجنين من رحم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 الأم وتكون رطوبة البدن بعد زائدة على حرارته، فتكون الأعضاء قابلة للتمدد والازدياد والنماء وهو سن النشو وغايته إلى ثلاثين أو إلى خمس وثلاثين سنة، ثم تصير رطوبات البدن أقل وتكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية الأصلية إلا أنها لا تكون زائدة على هذا القدر وهو سن الوقوف والشباب وغايته خمس سنين وبها يتم الأربعون، ثم تقل الرطوبات بحيث لا تكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية وحينئذ يظهر النقصان قليلا إلى ستين سنة وهي سن الكهولة، ثم يظهر جدا إلى تمام مائة وعشرين سنة. قال المتكلمون: هذا التعليل ضعيف لأن رطوبات البدن في حال كونه منيا ودما كانت كثيرة ولذلك كانت الحرارة الغريزية مغمورة، ثم إنها مع ذلك كانت قوية على تحليل أكثر الرطوبات حتى نقلتها من حد الدموية والمنوية إلى أن صارت عظما وغضروفا وعصبا ورباطا، فعند ما تولدت الأعضاء وكمل البدن وقلت الرطوبات وجب أن تقوى الحرارة الغريزية قوّة أزيد مما كانت قبل ذلك فوجب أن يكون تحليل الرطوبات بعد تولد البدن وكماله أكثر من تحليلها قبل تولد البدن وليس الأمر كذلك، لأنه قبل تولد البدن انتقل جسم الدم والمني إلى أن صار عظما وعصبا، أما بعد تولد البدن فلم يحصل مثل هذا الانتقال ولا عشر عشيره، فعلمنا أن البدن إنما يتولد بتدبير قادر حكيم لا لأجل ما قالوه. وبوجه آخر الحرارة الحاصلة في بدن الإنسان الكامل الغريزة إما أن تكون هي عين ما كان حاصلا في جوهر النطفة، أو صارت أزيد مما كانت. والأول باطل لأن الحار الغريزي الحاصل في جوهر النطفة، كان بمقدار جرم النطفة، فإذا كبر البدن وجب أن لا يظهر منه في هذا البدن تأثير أصلا. وأما الثاني ففيه تسليم أن الحرارة تتزايد بحسب تزايد الجثة، ولا ريب أن تزايدها يوجب تزايد القوة والصحة ساعة فساعة فيلزم أن لا ينهدم البدن الحيواني أبدا وليس كذلك. وبوجه ثالث هب أن الرطوبة الغريزية صارت معادلة للحرارة الغريزية فلم قلتم إن الحرارة الغريزية يجب أن تصير أقل مما كانت حتى ينتقل الإنسان من سن الشباب إلى سن النقصان؟ قالوا: السبب فيه أنه إذا حصل هذا الاستواء فالحرارة الغريزية بعد ذلك تؤثر في تجفيف الرطوبة الغريزية فتقل الرطوبات الغريزية حتى صارت بحيث لا تفي بحفظ الحرارة الغريزية، وإذا حصلت هذه الحال ضعفت الحرارة الغريزية أيضا لأن الرطوبات الغريزية كالغذاء للحرارة الغريزية، فإذا قل الغذاء ضعف المغتذي فينتهي الأمر إلى أن لا يبقى من الرطوبة شيء، لأن الحرارة الغريزية توجب قلة الرطوبة الغريزية وقلتها توجب ضعف الحرارة الغريزية فيلزم من ضعف إحداهما ضعف الأخرى فتنطفىء الحرارة أيضا ويحصل الموت. وأورد عليهم أن الحرارة إذا أثرت في تجفيف الرطوبة وقلتها فلم لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 يجوز أن تورد القوة الغاذية بدلها؟ فأجابوا بأن القوة الغاذية لا تفي بإيراد البدل. قال الإمام فخر الدين الرازي رادا عليهم: إن القوة الغاية إنما تعجز عن هذا الإيراد إذا كانت الحرارة الغريزية ضعيفة وذلك ممنوع، وإنما تكون الحرارة الغريزية ضعيفة أن لو قلت الرطوبة الغريزية، وإنما تحصل هذه القلة إذا عجزت الغاذية عن إيراد البدل وهذا دور محال، فيثبت أن إسناد هذه الأحوال إلى الطبائع والقوى غير ممكن فيتعين إسنادها إلى القادر المختار الحكيم، ولهذا ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ يعلم مقادير المصالح والمفاسد ويقدر على تحصيلها كما يريد. وأما الطبيعة فجاهلة عاجزة. قلت: لا شك أن نسبة هذه الأمور إلى مجرد الطبيعة كفر وجهل، لأنها ليست واجبة الوجود بالاتفاق ولكن إنكار القوى والطبائع أيضا بعيد عن الإنصاف. والحق أنها وسائط وآلات لما فوقها من المبادئ والعلل إلى أن ينتهي الأمر إلى مسبب الأسباب ومبدأ الكل، وقد ثبت عند الحكيم أن كل قوة جسمانية فإنها متناهية الأثر فلا محالة تعجز القوة الغاذية آخر الأمر عن إيراد بدل ما يتحلل فيحل الأجل بتقدير العليم القدير. التأويل: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النفوس الناسية بما ظلمت على القلوب والأرواح ما تَرَكَ عَلى أرض البشرية صفة من صفات الحيوانية. ولكن يؤخر أهل السعادة إلى أجلهم وهو إفناء صفات النفس بصفات القلب والروح في حينه وأوانه، ويؤخر أهل الشقاء إلى أوان العكس من ذلك. وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ أي يعاملون الله بأعمال يكرهون أن يعاملهم بها غيرهم وتسوّل لهم أنفسهم أن تلك المعاملة حسنة. والله أنزل من سماء العزة ماء بيان القرآن فأحيا به أرض قلوب الأمم بعد موتها باختلافهم على أنبيائهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ كلام الله من الله وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ النفوس لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ الخاطر الشيطاني وَدَمٍ الخاطر النفساني لَبَناً خالِصاً من الإلهام الرباني سائِغاً لِلشَّارِبِينَ جائزا لأهل هذا الشرب وَمِنْ ثَمَراتِ نخيل الطاعات وأعناب المجاهدات تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً هو ما يجعل منها شرب النفس فتسكر النفس فتارة تميل عن الحق والصراط المستقيم ميلان السكران، وتارة تظهر رعوناتها بالأفعال والأحوال رياء وسمعة وشهوة. والرزق الحسن ما يكون منه شرب القلب والروح فيزداد منه الشوق والمحبة والصدق والطلب: شربت الحب كأسا بعد كأس ... فما نفد الشراب وما رويت وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ إشارة إلى حال السالك السائر أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً أراد الاعتزال عن الخلق والتبتل إلى الله. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 أسبوعا وأسبوعين وشهرا، ولا بد أن يتنظف كما أن النحل يحترز عن التلوث. وفيه أن نحل الأرواح اتخذت من جبال النفوس بيوتا ومن شجر القلوب ومما يعرشون من الأسرار ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ نظير قوله: كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً [المؤمنون: 51] فثمرات البدن الأعمال الصالحات، وثمرات النفوس الرياضات ومخالفات الهوى، وثمرات القلوب ترك الدنيا والتوجه إلى المولى، وثمرات الأسرار شواهد الحق والتطلع على الغيوب والتقرب إلى الله، وهذه كلها أغذية نحل الأرواح فإنها بقوّة هذه الأغذية تسلك السبل إلى أن تصل إلى المقعد الصدق عند مليكها، فيكون غذاؤها مكاشفات الحق ومشاهداته فتبيت عند ربها يطعمها ويسقيها، فحينئذ يخرج من بطونها شراب الحكم والمواعظ مختلف الألوان من المعاني والأسرار والدقائق والحقائق فِيهِ شِفاءٌ للقلوب الناسية القاسية عن ذكر الله وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ أخرجكم من العدم إلى الوجود ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ عن الوجود المجازي وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وهو مقام الفناء في الله لِكَيْلا يَعْلَمَ بعد فناء علمه شيئا يعلمه بل يعلم بربه الأشياء كما هي والله أعلم بالصواب. [سورة النحل (16) : الآيات 71 الى 83] وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 القراآت: تجحدون بتاء الخطاب: أبو بكر وحماد. الآخرون على الغيبة. مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ونحوها بكسر الهمزة وفتح الميم: عليّ. أُمَّهاتِكُمْ بكسرهما: حمزة. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم. الم تروا على الخطاب: ابن عامر وحمزة وخلف وسهل ويعقوب ظَعْنِكُمْ بسكون العين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. الباقون بفتحها. الوقوف: فِي الرِّزْقِ ج لاختلاف الجملتين مع الفاء سَواءٌ ط يَجْحَدُونَ هـ مِنَ الطَّيِّباتِ ط يَكْفُرُونَ هـ لا للعطف وَلا يَسْتَطِيعُونَ هـ ج لابتداء النهي مع فاء التعقيب الْأَمْثالَ ط لا تَعْلَمُونَ هـ وَجَهْراً ط هَلْ يَسْتَوُونَ ط الْحَمْدُ لِلَّهِ ط لأن «بل» للإعراض عن الأول. لا يَعْلَمُونَ هـ مَوْلاهُ لا لأن الجملة بعده صفة أحدهما بِخَيْرٍ ط ثم لا وقف إلى مستقيم لاتحاد الكلام وَالْأَرْضِ ط أَقْرَبُ ط قَدِيرٌ هـ شَيْئاً لا للعطف وَالْأَفْئِدَةَ لا لتعلق لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هـ السَّماءِ ط للفصل بين الاستخبار والإخبار إِلَّا اللَّهُ ط يُؤْمِنُونَ هـ إِقامَتِكُمْ لا لوقوع جَعَلَ على أَثاثاً إِلى حِينٍ هـ بَأْسَكُمْ ط تُسْلِمُونَ هـ الْمُبِينُ هـ الْكافِرُونَ هـ. التفسير: لما بين خلق الإنسان وتقلبه في أطوار مراتب العمر أراد أن يذكره طرفا من سائر أحواله لعله يتذكر فقال: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ولا ريب أن ذلك أمر مقسوم من قبل القسام وإلا لم يكن الغافل رخي البال والعاقل ردي الحال، وليس هذا التفاوت مختصا بالمال وإنما هو حاصل في الحسن والقبح والصحة والسقم وغير ذلك، فلرب ملك تقاد الجنائب بين يديه ولا يمكنه ركوب واحدة منها، وربما أحضرت الأطعمة الشهية والفواكه العطرة عنده ولا يقدر على تناول شيء منها، وربما نرى إنسانا كامل القوة صحيح المزاج شديد البطش ولا يجد ملء بطنه طعاما. وللمفسرين في الآية قولان: أحدهما أن المراد تقرير كون السعادة والنحوسة والغنى والفقر بقسمة الله تعالى، وأنه جعل بعض الناس موالي وبعضهم مماليك وليس المالك رازقا للعبد وإنما الرازق للعبد والمولى هو الله، فلا تحسبن الموالي المفضلين أنهم يرزقون مماليكهم من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 عندهم شيئا من الرزق وإنما ذلك رزقي لهم أجريته لهم على أيديهم. وثانيهما أن المراد الرد على من أثبت لله شريكا كالصنم أو كعيسى، فضرب له مثلا فقال: أنتم لا تسوّون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم ولا تردّون رزقكم عليهم حتى تتساووا في المطعم والملبس. فالفاء في قوله: فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ للتعليل. ولك أن تقول بمعنى «حتى» أي حتى يكون عبيدهم معهم سواء في الرزق، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء؟! عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في العبيد: «إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون» «1» . فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ وهي أنه جعلهم موالي مفضلين لا عبيدا مفضولين يَجْحَدُونَ أو جعل عدم التسوية بينهم وبين عبيدهم من جملة جحود النعمة، أو جعل اعتقاد أهلية العبادة لغير الله كفرا بنعمة الله والجحود في معنى الكفران فلذلك عداه بالباء. قال أبو عبيدة وأبو حاتم: قراءة الغيبة- وهي الكثرى- أولى لقرب المخبر عنه، ولأنه لو كان خطابا كان ظاهره للمسلمين وإنهم لا يخاطبون بجحد نعمة البتة. الحالة الأخرى من أحوال الإنسان قوله عم طوله: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم أَزْواجاً ليكون الأنس به أتم. ولا ريب أن تخليق الذكور والإناث مستند إلى قدرة الله وتكوينه. والطبيعيون قد يذكرون له وجها قالوا: إن المني إذا انصب من الخصية اليمنى إلى الذكر ثم انصب منه إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد ذكرا تاما في الذكورة بناء على أن الذكر أسخن مزاجا وكذا الجانب الأيمن، وإن انصب من الخصية اليسرى إلى الجانب الأيسر من الرحم كان الولد تاما في الأنوثية، وإذا انصب من اليمنى إلى الأيسر كان ذكرا في طبيعة الإناث، وإن كان بالعكس كان بالعكس. قال الإمام فخر الدين الرازي: هذه العلة ضعيفة فقد رأينا في النساء من كان مزاجه في غاية السخونة وفي الرجال من كان في غاية البرودة. ولقائل أن يقول: الكلام في المزاج الصنفي لا في المزاج الشخصي، وهذا الإمام لم يفرق بينهما فاعترض بأحدهما على الآخر. وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً أصل الحفد الإسراع في الخدمة. والفاعل حافد والجمع حفدة. فقيل: أراد بها في الآية الأختان على البنات. وقيل: أولاد الأولاد. وقيل: أولاد المرأة من الزوج الأوّل. وقيل: الخدم والأعوان. وقيل: البنون أنفسهم الجامعون بين   (1) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب: 22. مسلم في كتاب الأيمان حديث: 38. أبو داود في كتاب الأدب باب: 124. الترمذي في كتاب البر باب: 29. ابن ماجه في كتاب الأدب باب: 9. أحمد في مسنده (5/ 58) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 الأمرين البنوّة والخدمة. وقيل: الأولى دخول الكل فيه. ثم ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة لأن لذة المنكوح لا تهنأ إلا بعد الفراغ من لذة المطعوم أو بعد الفراغ من تحصيل أسبابها، وأورد «من» التبعيضية لأن لذة كل الطيبات لا تكون إلا في الجنة. ثم ختم الآية بقوله: أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ فقيل: الباطل هو ما اعتقدوه من منفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها ونعمة الله ما عدده في الآيات السابقة. وقيل: الباطل ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما، ونعمة الله ما أحل لهم. وإنما قال هاهنا: وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ وفي آخر «العنكبوت» وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [الآية: 67] . لأن تلك الآيات استمرت على الغيبة فلم يحتج إلى زيادة ضمير الغائب، وأما في الآية فقد سبق مخاطبات كثيرة فلم يكن بد من ضمير الغائب المؤكد لئلا يلتبس بالخطاب. ولما عدّد بعض الآيات الدالة على الإقرار بالتوحيد أنكر صنيع أهل الشرك عليهم قائلا وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً. قال جار الله: إن كان بمعنى المصدر نصبت به شيئا أي لا يملك أن يرزق شيئا، وإن أردت المرزوق كان شيئا بدلا منه بمعنى قليلا أو يكون تأكيدا للا يملك أي لا يملك شيئا من الملك. ومِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ صلة للرزق إن كان مصدرا بمعنى لا يرزق من السموات مطرا ولا من الأرض نباتا وصفة إن كان اسما لما يرزق. أما الضمير في وَلا يَسْتَطِيعُونَ فعائد إلى ما بعد أن قيل لا يملك على اللفظ المفرد وجمع بالواو والنون بناء على زعمهم أن الأصنام آلهة. والفائدة في نفي الاستطاعة عنهم أن من لا يملك شيئا قد يكون موصوفا باستطاعة أن يتملك بطريق من الطرق، فبيّن تعالى أنها لا تملك ولا تستطيع تحصيل الملك. وجوّز في الكشاف أن يكون الضمير للكفار أي لا يستطيع هؤلاء مع أنهم أحياء متصرفون فكيف بالجماد الذي لا حس له؟ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ أي لا تشبهوه بخلقه فإن ضارب المثل مشبه حالا بحال وقصة بقصة. وقال الزجاج: لا تجعلوا لله مثلا لأنه واحد لا مثل له. وكانوا يقولون إن إله العالم أجل من أن يعبده الواحد منا فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فنهوا عن غير الحنيفية والإخلاص. وعلل النهي بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما عليكم من العقاب وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ما في عبادتها من العذاب. وفيه أن القياس الذي توهموه ليس بصحيح والنص يجب تقديمه على ذلك. وقيل: إن الله يعلم كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون. ثم علمهم كيف تضرب فقال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ثم أبدل من المثل قوله: عَبْداً مَمْلُوكاً لا حرا فإن جميع الناس عبيد لله فلا يلزم من كونه عبدا كونه مملوكا. وقوله: لا يَقْدِرُ عَلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 شَيْءٍ ليخرج العبد المأذون والمكاتب فإنهما يقدران على التصرف. احتج الفقهاء بالآية على أن العبد لا يملك شيئا وإن ملكه السيد لأن قوله: لا يَقْدِرُ حكم مذكور عقيب الوصف المناسب، فدل على أن العبدية أينما وجدت فهي علة للذل والمقهورية وعدم القدرة، فثبت العموم وهو أن كل عبد فهو لا يقدر على التصرف. وأيضا قوله: وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً يقتضي أن لا يحصل للقسم الأوّل هذا الوصف. فلو ملك العبد شيئا ما صدق عليه أن الله قد آتاه الرزق الحسن فلم يثبت الامتياز. والأكثرون على أن عدم اقتدار العبد مخصوص بماله تعلق بالمال. وعن ابن عباس أنه لا يملك الطلاق أيضا. قال جار الله: الظاهر أن «من» في قوله: وَمَنْ رَزَقْناهُ موصوفة كأنه قيل: وحرا رزقناه ليطابق عبدا. ولا يمتنع أن تكون موصولة. وجمع قوله: هَلْ يَسْتَوُونَ لأنه أراد الأحرار والعبيد. وللمفسرين في مضرب المثل أقوال: فالأكثرون على أنه أراد أنا لو فرضنا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء، وفرضنا حرا كريما غنيا كثير الإنفاق سرا وجهرا، فصريح العقل يشهد بأنه لا يجوز التسوية بينهما مع استوائهما في الخلقة والصورة، فكيف يجوز للعاقل أن يسوّى بين الله القادر على الرزق والإفضال وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر البتة؟! وقيل: العبد المملوك هو الكافر المحروم عن طاعة الله وعبوديته، والآخر هو المؤمن المشتغل بالتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله. والغرض أنهما لا يستويان في الرتبة والشرف والقرب من رضوان الله. وقيل: العبد هو الصنم لقوله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم: 93] . والثاني عابد الصنم. والمراد أنهما لا يستويان في القدرة والتصرف، لأن الأوّل جماد وهذا إنسان فكيف يجوز الحكم بأن الأول مساو لرب العالمين؟!. الْحَمْدُ لِلَّهِ قال ابن عباس: أراد الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد. وقيل: معناه كل الحمد لله وليس شيء من الحمد للأصنام لأنه لا نعمة لها على أحد بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن كل الحمد لي. وقيل: أراد قل الحمد لله. والخطاب إما للرسول صلى الله عليه وسلم وإما لمن رزقه الله رزقا حسنا وميزه بالقدرة والاختيار والتصرف من العبد الذليل الضعيف. وقيل: لما ذكر مثلا مطابقا للغرض كاشفا عن المقصود قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على قوة هذه الحجة وظهور هذه البينة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قوّتها وظهورها. ثم ضرب مثلا ثانيا لنفسه ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع بل يصل منها إلى من يعبدها أعظم المضار. أما تفسير الألفاظ فالأبكم العي المفحم وقد بكم بكما وبكامة. وقيل: هو الأقطع اللسان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 الذي لا يحسن الكلام. وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه الذي لا يسمع ولا يبصر. وقوله: وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أصله من الغلظ الذي هو نقيض الحدة. يقال: كلّ السكين إذا غلظت شفرته، وكلّ اللسان إذا غلظ فلم يقدر على الكلام، وكلّ فلان عن الكلام إذا ثقل عليه ولم ينبعث فيه، وفلان كلّ على مولاه أي ثقيل وعيال على من يلي أمره. وقوله: أَيْنَما يُوَجِّهْهُ حيثما يرسله لا يَأْتِ بِخَيْرٍ لم ينجح في مطلبه. والتوجيه أن ترسل صاحبك في وجه معين من الطريق هَلْ يَسْتَوِي هُوَ أي الموصوف بهذه الصفات المذكورة. وَمَنْ يَأْمُرُ الناس بِالْعَدْلِ وَهُوَ في نفسه عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ على سيرة صالحة ودين قويم غير منحرف إلى طرفي الإفراط والتفريط. ولا شك أن الآمر بالعدل يجب أن يكون عالما حتى يمكنه التمييز بين العدل والجور، قادرا حتى يتأتى منه الإتيان بالخير والأمر به، وكلا الوصفين يناقض كونه أبكم لا يقدر. قال مجاهد: هذا مثل لإله الخلق وما يدعى من دونه. أما الأبكم فمثل الصنم لأنه لا ينطق البتة ولا يقدر على شيء وهو كلّ على عابديه لأنه لا ينفق عليهم وهم ينفقون عليه وإلى أيّ مهم يوجه الصنم لا يأتي بخير، وأما الذي يأمر بالعدل فهو الله سبحانه. وروى الواحدي بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال: نزلت الآية المتقدمة في هشام بن عمرو وهو الذي ينفق ماله سرا وجهرا، ومولاه أبو الحوار الذي كان ينهاه عنه. وهذه الآية نزلت في سعيد بن أبي العيص وفي عثمان بن عفان مولاه. والأصح أن المقصود من الآية الأولى كل عبد موصوف بالصفات الذميمة وكل حر موصوف بالخصال الحميدة. ومن الآية الثانية كل رجل جاهل عاجز وكل من هو بضد ذلك من كونه شامل العلم كامل القدرة وليس إلا الله سبحانه فلذلك مدح نفسه بقوله: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يختص به علم ما غاب عن العباد فيهما، أو أراد بغيبهما يوم القيامة لأن علمه غائب عن غير الله ويؤيد هذا التفسير قوله: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ اللمح النظر بسرعة ولا بد فيه من زمان تتقلب فيه الحدقة نحو المرئي وكل زمان قابل للتجزئة فلذلك قال: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ وليس هذا من قبيل المبالغة وإنما هو كلام في غاية الصدق لأن مدّة ما بين الخطاب وقيام الساعة متناهية، ومنها إلى الأبد غير متناه ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي. وقيل: معنى أمر الساعة أن إماتة الأحياء وإحياء الأموات كلهم يكون في أقرب وقت وأقله. ثم أكده بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ثم زاد في التأكيد بذكر حالة أخرى للإنسان دالة على غاية قدرته ونهاية رأفته فقال: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً قال جار الله: هو في موضع الحال أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 غير عالمين شيئا من حق المنعم الذي خلقكم في البطون وسوّاكم وصوّركم ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة. وقوله: وَجَعَلَ لَكُمُ معناه وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه والترقي إلى ما يسعدكم. وَالْأَفْئِدَةَ في فؤاد كالأغربة في غراب، وهو من جموع القلة التي تستعمل في مقام الكثرة أيضا لعدم ورود غيرها. واعلم أن جمهور الحكماء زعموا أن الإنسان في مبدأ فطرته خال عن المعارف والعلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر والفؤاد وسائر القوى المدركة حتى ارتسم في خياله بسبب كثرة ورود المحسوسات عليه حقائق تلك الماهيات وحضرت صورها في ذهنه، ثم إن مجرد حضور تلك الحقائق إن كان كافيا في جزم الذهن بثبوت بعضها لبعض أو انتفاء بعضها عن بعض فتلك الأحكام علوم بديهية، وإن لم تكن كذلك بل كانت متوقفة على علوم سابقة عليها ولا محالة تنتهي إلى البديهيات قطعا للدور أو التسلسل فهي علوم كسبية. وظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس الإنسانية هو أن الله تعالى أعطى الحواس والقوى الدرّاكة للصور الجزئية. وعندي أن النفس قبل البدن موجودة عالمة بعلوم جمة وهي التي ينبغي أن تسمى بالبديهيات، وإنما لا يظهر آثارها عليها عند انفصال الجنين من الأم لضعف البدن واشتغالها بتدبيره، حتى إذا قوي وترقى ظهرت آثارها شيئا فشيئا وقد برهنا على هذه المعاني في كتبنا الحكمية. فالمراد بقوله: لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً أنه لا يظهر أثر العلم عليكم. ثم إنه بتوسط الحواس الظاهرة والباطنة يكتسب العلوم المتوقفة على التعلق. ومعنى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إرادة أن تصرفوا كل آلة فيما خلقت لأجله. وليس الواو للترتيب حتى يلزم من عطف جَعَلَ على أَخْرَجَكُمْ أن يكون جعل السمع والبصر متأخرا عن الإخراج من البطن، وقد مر في أول البقرة في تفسيره قوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [البقرة: 7] أنه لم وحد السمع وجمع غيره؟ ثم ذكر دليلا آخر على كمال قدرته فقال: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة وسائر الأسباب المواتية لذلك كرقة قوام الهواء وإلهامهن بسط الجناح وقبضه فيه عمل السابح في الماء. وفي جَوِّ السَّماءِ أي في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو وهو مضاعف عينه ولامه واو ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ بقدرته أو بإعطاء الآلات التي لأجلها يتسهل عليها الطيران. ومن جملة أحوال الإنسان قوله: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً هو ما يسكن إليه من بيت أو إلف وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً هي القباب والأبنية من الأدم والأنطاع تَسْتَخِفُّونَها أي تعدونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل يَوْمَ ظَعْنِكُمْ أي في وقت ارتحالكم. والظعن بفتح العين وسكونها سير أهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 البادية لنجعة، ثم استعمل في كل شخوص لسفر. وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ لا يثقل عليكم حفظها ونقلها من مكان إلى مكان، ويمكن أن يكون اليوم على حقيقته أي يوم ترجعون خف عليكم حملها ونقلها ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها وَمِنْ أَصْوافِها وهي للضأن وَأَوْبارِها وهي للإبل وَأَشْعارِها وهي للمعز أَثاثاً وهو متاع البيت. قال الفراء: لا واحد له. وقال أبو زيد: الأثاث المال أجمع الإبل والغنم والعبيد والمتاع الواحدة أثاثة. قال ابن عباس: أراد طنافس وبسطا وثيابا وكسوة. وقال الخليل: أصله من أن النبات والشعر يئث إذا كثر. قيل: إنه تعالى عطف قوله: وَمَتاعاً على أَثاثاً فوجب أن يتغايرا فما الفرق؟ وأجيب بأن الأثاث ما يكتسي به المرء ويستعمله من الغطاء والوطاء. والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به. قلت: لا يبعد أن يراد بالأثاث والمتاع ما هو الجامع بين الوصفين كونه أثاثا وكونه مما يتمتع به إِلى حِينٍ أي إلى أن تقضوا أوطاركم منه أو إلى أن تبلى وتفنى أو إلى الموت أو إلى القيامة. ثم إن المسافر قد لا يكون له خيام وأبنية يستظل بها لفقر أو لعارض آخر فيحتاج إلى أن يستظل بشجر أو جدار أو غمام ونحوها فلذلك قال: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وقد يحتاج المسافر إلى حصن يأوي إليه في نزوله وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحر والبرد وسائر المكاره وكذا المقيم فلذلك منّ بقوله: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً هي جمع «كن» وهو ما يستكن به ويتوقى بسببه الأمطار كالبيوت المنحوتة في الجبال وكالغيران والكهوف وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وهي القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها. وإنما لم يذكر البرد لأن الوقاية من الحر أهم عندهم لغلبة الحرارة في بلادهم على أن ذكر أحد الضدين يغني في الأغلب عن ذكر الآخرة لتلازمهما في الخطور بالبال غالبا بشهادة الوجدان. قال الزجاج: كل ما لبسته فهو سربال فعلى هذا يشمل الرقيق والكثيف والساذج والمحشوّ من الثياب وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كالدروع والجواشن كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ أي مثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإنه يتم نعم الدين والدنيا لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ قال ابن عباس: لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الإنعامات سواه. وعنه أنه قرأ بفتح التاء واللام من السلامة أي تسلم قلوبكم من الشرك، أو تشكرون فتسلمون من العذاب. وقيل: تسلمون من الجرح بلبس الدروع فَإِنْ تَوَلَّوْا فقد تمهد عذرك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ وليس إليك الهداية. ثم ذمهم بأنهم يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ التي عددناها حيث يعترفون بها وبأنها من عند الله ثُمَّ يُنْكِرُونَها بعبادة غير من أنعم بها وبقولهم هي من الله ولكنها بشفاعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 آلهتنا. ومعنى «ثم» تبعيد رتبة الإنكار عن العرفان. وقيل: إنكارها قولهم ورثناها من آبائنا أو وصل إلينا بتربية فلان، أو أنهم لا يستعملونها في طلب رضوان الله. وقيل: نعمة الله نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونه ثم ينكرون نبوّته عنادا. وإنما قال: وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ لأنه استعمل الأكثر مقام الكل أو أراد البالغين العقلاء منهم دون الأطفال والمجانين، أو أراد كفر الجحود ولم يكن كفر كلهم كذلك بل كان فيهم من كفر للجهل بصدق الرسول، أو لأنه لم تقم الحجة عليه بعد هذا ما قاله المفسرون. قلت: ويحتمل أن يراد بالكافرين المصرين الثابتين على كفرهم وقد علم الله أن في مطلق الكفرة من يؤمن فلهذا استثناهم والله تعالى أعلم. التأويل: فضل الأرواح على القلوب في رزق المكاشفات والمشاهدات بعد الفناء والرد إلى البقاء، وفضل القلوب على النفوس في رزق الزهد والورع والتقوى والصدق واليقين والإيمان والتوكل والتسليم والرضا، وفضل النفوس على الأبدان في رزق التزكية والتخلية والتحلية، وفضل أبدان المؤمنين على أبدان الكافرين بحمل أعباء الشريعة. فما الأرواح برادّي رزقهم على القلوب، ولا القلوب على النفوس، ولا النفوس على الأبدان. أفبنعمة الله التي أنعم بها على أوليائه تجحدون يا منكري هذا الحديث وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً يعني ازدواج الأرواح والأشباح وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وهم القلوب وَحَفَدَةً وهن النفوس أَفَبِالْباطِلِ وهو الزخارف والوساوس يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ التي أنعم بها على أرباب القلوب يَكْفُرُونَ ويعبدون من دون الله كالدنيا والهوى ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً من سموات القلوب وأرض النفوس شيئا من الكمالات التي أودع الله فيهن، ولا يستخرج منها إلا بعبادة الله ولا يستطيعون استخراجها بعبادة غير الله فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ بأن تريدوا أن تصلوا إلى المقاصد بغير طريق الله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً للهوى وللدنيا وَمَنْ رَزَقْناهُ ولاية كاملة يتصرف بها في بواطن المستعدين وظواهرهم. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أولياء الله لأنهم تحت قباب الله لا يعرفهم غيره. أَحَدُهُما أَبْكَمُ هو النفس الحيوانية التي لا تقدر على شيء من العلم والعقل والإيمان وهو ثقل على مولى الروح المسمى بالنفس الناطقة. لا يَأْتِ بِخَيْرٍ لأنها أمارة بالسوء وَلِلَّهِ غَيْبُ سموات الأرواح وأرض النفوس لا يقف على خاصيتهما غيره، ولو وكل كلا منهما إلى طبعها لم ترجع إلى ربها، ورجوعها يكون بالإماتة والإحياء ويميتها عن أوصافها ويحييها بصفاته وهو المراد بأمر الساعة لأن الإماتة بتجلي صفات الجلال والإحياء بتجلي صفات الجمال، وإذا تجلى الله لعبد لم يبق له زمان ولا مكان فلذلك قال: أَوْ هُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 أَقْرَبُ وحينئذ يكون فانيا عن وجوده باقيا ببقائه وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً من أمور الدنيا والآخرة ولا مما كانت أرواحكم تعلم في عالم الأرواح ولا مما كانت تعلم ذراتكم من فهم خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] وجواب بَلى [الأعراف: 172] وجعل لأجسادكم السمع والأبصار والأفئدة كما للحيوانات ولأرواحكم كما للملائكة، ولأسراركم سمعا يسمع به من الله وبصرا يبصر به الله وفؤادا يعرف به الله سبحانه أسماء كل شيء، فتجلى لكم بربوبيته فبنور سمعه أعطاكم سمعا تسمعون به خطاب ألست بربكم، وبنور بصره أعطاكم بصرا تبصرون به جماله، وبنور علمه أعطاكم فؤادا تعرفون به كماله، وبنور كلامه أعطاكم لسانا تجيبونه بقولكم «بلى» لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فلا تسمعون بهذا السمع إلا كلامه، ولا تبصرون بهذا البصر إلا جماله، ولا تحبون بهذا الفؤاد إلا ذاته، ولا تكلمون بهذا الكلام إلا معه أَلَمْ يَرَوْا إِلَى طير الأرواح مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ سماء القلوب ما يُمْسِكُهُنَّ في سفل الأجساد إِلَّا اللَّهُ بحكمته فلذلك قال: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ أيها الأرواح مِنْ بُيُوتِكُمْ وهي الأجساد سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ التي هي أجساد اشتركت فيها سائر الحيوانات بُيُوتاً تستخف أرواحكم إياها وهي النفوس الحيوانية، وقواها وقت السير إلى الله والقفة للاستراحة والتربية وَمِنْ أَصْوافِها هي الصفات الحيوانية والحواس والقوى أَثاثاً آلات للسير وَمَتاعاً ينتفع بها إِلى حِينٍ الوصول والوصال. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا أي جعل عالم الخلق ظل عالم الأمر تستظل أيها الأرواح به عند طلوع شمس التجلي وإلا لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره. وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ جبال القلوب ما يكن به الأرواح، وجعل لأرواحكم سرابيل من الصفات البشرية تقيكم حر نار المحبة، وسرابيل من الصفات الروحانية تقيكم من سهام الوساوس والهواجس كذلك يحفظكم من الآفات ويربيكم بالكرامات حتى يتم نعمة الوصول عليكم وتسلموا من قطع الطريق يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ بتعريفك وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ بك وبنعمة الله إظهارا للقهر والله أعلم. [سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 100] وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 القراآت: وَلَنَجْزِيَنَّ بالنون: ابن كثير وعاصم ويزيد وعباس والنقاش عن ابن ذكوان. الآخرون بالياء. قَرَأْتَ الْقُرْآنَ مثل أَنْشَأْنا. الوقوف: يُسْتَعْتَبُونَ هـ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ هـ مِنْ دُونِكَ ج لاختلاف الجملتين مع الفاء لَكاذِبُونَ هـ ج للعطف مع أنه رأس آية يَفْتَرُونَ هـ يُفْسِدُونَ هـ عَلى هؤُلاءِ ط لواو الاستئناف لِلْمُسْلِمِينَ هـ وَالْبَغْيِ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف تَذَكَّرُونَ هـ ط كَفِيلًا هـ ط تَفْعَلُونَ هـ أَنْكاثاً ط بناء على أن التقدير أتتخذون مِنْ أُمَّةٍ ط بِهِ ط تَخْتَلِفُونَ هـ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ط تَعْمَلُونَ هـ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى عَظِيمٌ هـ قَلِيلًا ط تَعْلَمُونَ هـ باقٍ ط يَعْمَلُونَ هـ طَيِّبَةً ج للعدول عن الوحدان إلى الجمع مع أنهما ضميرا من يَعْمَلُونَ هـ الرَّجِيمِ هـ يَتَوَكَّلُونَ هـ مُشْرِكُونَ هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 التفسير: لما بين من حال القوم أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها وأن أكثرهم كافرون أتبعه أصناف وعيد يوم القيامة والتقدير وَاذكر يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً أو يوم وقعوا فيما وقعوا فيه. وشهيد كل أمة نبيها يشهد لهم وعليهم بالإيمان والتصديق والكفر والتكذيب ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي في الاعتذار إذ لا حجة لهم ولا عذر، أو في كثرة الكلام، أو في الرجوع إلى دار الدنيا، أو إلى التكليف ليظهر لهم كونهم آيسين من رحمة الله تعالى، أو المراد أن يسكت أهل الجمع كلهم حتى يشهد الشهود. وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لأن العتاب إنما بطلب لأجل العود إلى الرضا، فإذا كان على عزم السخط فلا فائدة في العتاب فلهذا قيل: إذا ذهب العتاب فليس ود ... ويبقى الود ما بقي العتاب وقال في الكشاف: أي لا يقال لهم أرضوا ربكم لأن الآخرة ليست بدار عمل. ومعنى «ثم» أن المنع من الكلام أصعب من شهادة الأنبياء عليهم. وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وهم المشركون الْعَذابَ بعينهم وثقل عليهم فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ليتوبوا فإن التوبة هناك غير موجودة أو غير مقبولة وفيه أنت عذابهم خالص عن النفع دائم كما يقوله المتكلمون. وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ وهي الأصنام أو الشياطين الذين دعوا الكفار إلى الكفر وكانوا قرناءهم في الغي. قاله الحسن. قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا أي نعبدهم من دونك. قال أبو مسلم الأصبهاني: مقصود المشركين إحالة هذا الذنب على تلك الأصنام ظنا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله أو ينقص منه، وزيفه القاضي بأن الكفار يعلمون في الآخرة علما ضروريا أن العذاب ينزل بهم ولا نصرة ولا شفاعة فما الفائدة في هذا القول؟ والإنصاف أن الغريق يتعلق بكل شيء والمبهوت قد يقول ما لا فائدة فيه، على أن العلم الضروري الذي ادعاه القاضي ممنوع. وقيل: إن المشركين يقولون هذا الكلام تعجبا من حضور تلك الأصنام مع أنه لا ذنب لها واعترافا بأنهم كانوا خاطئين في عبادتها. فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ أي قال الأصنام أو الشياطين للكفار إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ فإن قيل: إن المشركين أشاروا إلى الأصنام أن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوهم من دونك وقد كانوا صادقين في ذلك فكيف كذبتهم الأصنام؟ فالجواب أن المراد من قولهم: هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا هؤلاء شركاء الله في المعبودية فكذبتهم الأصنام في إثبات هذه الشركة وفي قولهم إنها تستحق العبادة. قال جار الله: إن أراد بالشركاء الشياطين جاز أن يكونوا كاذبين في قوله: إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ كما يقول الشيطان إني كفرت بما أشركتموني من قبل [إبراهيم: 22] . وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 الكلبي: استسلم العابد والمعبود وأقروا لله بالربوبية وبالبراءة من الشركاء والأنداد. وقال آخرون: الضمير للذين ظلموا. وإلقاء السلم والاستسلام لأمر الله بعد الإباء في الدنيا وَضَلَّ أي غاب عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أن لله شريكا أو أن آلهتهم تشفع لهم حين كذبوهم وتبرأوا منهم. الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قيل: معناه الصد عن المسجد الحرام والأصح العموم زِدْناهُمْ عَذاباً لأجل الإضلال. فَوْقَ الْعَذابِ الذي استحقوه للضلال. وأيضا عذاب الاستنان «من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها» . ومن المفسرين من فصل تلك الزيادة فعن ابن عباس: هي خمسة أنهار من نار تسيل من تحت العرش يعذبون بها، ثلاثة على مقدار الليل واثنان على مقدار النهار. وقيل: حيات أمثال البخت وعقارب أشباه البغال أنيابها كالنخل الطوال تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها حمتها أربعين خريفا. وقيل: يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار. ثم علل زيادة عذابهم بكونهم مفسدين أمور الناس بالصد والإضلال فيعلم منه أن من دعا إلى الدين القويم باليد واللسان فإنه يزيده الله تعالى أجرا على أجر. ثم أعاد حكاية بعث الشهداء لما نيط بها من زيادة فائدتين: إحداهما كون الشهداء من أنفسهم لأن كل نبي فهو من جنس أمته، والأخرى أن الشهيد يكون وقتئذ في الأمة لا مفارقا إياهم. وفسر الأصم الشهيد في هذه الآية بأنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى تشهد عليه وهن: الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان. ولهذا ذكر لفظة «في» ووصف الشهيد بكونه من أنفسهم. ثم شرف نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ أي على أمتك. ولا ريب أن في تخصيصه بعد التعميم دلالة على فضله نظيره قوله في سورة النساء: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] . قال الإمام فخر الدين الرازي: الأمة عبارة عن القرن والجماعة فيلعم من الآية أنه لا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم ويكونون شهداء على غيرهم وهم أهل الحل والعقد فيكون إجماعهم حجة. ولقائل أن يقول: الأمة في الآية هي الجماعة الذين بعث النبي إليهم وإلى من سيوجد منهم إلى آخر زمان دينه، فيكون نبي تلك الأمة وحده شهيدا عليهم. ولا دلالة للآية إلا على هذا القدر فمن أين حصل لك أن إجماع أهل الحل والعقد في كل عصر حجة؟ ثم بين أنه أزاح علتهم فيما كلفوا فيه فلا حجة لهم ولا معذرة فقال: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ أي بيانا له والتاء للمبالغة ونظيره من المصادر «التلقاء» ولم يأت غيرهما وقد مر في «الأعراف» . قال الفقهاء: إنما كان القرآن بيان جميع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 الأحكام لأن الأحكام المستنبطة من السنة والإجماع والقياس والاجتهاد كلها تستند إلى الكتاب حيث أمر فيه باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته، وورد فيه: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 115] وجاء فَاعْتَبِرُوا [الحشر: 2] . وقال آخرون: إن علم أصول الدين كلها في القرآن. وأما علم الفروع فالأصل براءة الذمة إلا ما ورد به نص القرآن فإذن القرآن واف ببيان جميع الأحكام، والقياس ضائع ولعل التبيان إنما هو للعلماء خاصة، والهدى لجميع الخلق في أوّل أحوالهم، والرحمة في وسطها وهو مدة العمر بعد الإسلام، والبشرى في أوان الأجل كما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ [فصلت: 30] إلى قوله: وَأَبْشِرُوا [فصلت: 30] والله أعلم بمراده. ولما ذكر أن في القرآن تبيان كل شيء ذكر عقيبه آية جامعة لأصول التكاليف كلها تصديقا لذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الآية، عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون الجمحي قال: ما أسلمت أوّلا إلا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتقرر الإسلام في قلبي. فحضرته ذات يوم فبينا هو يحدثني إذ رأيت بصره شخص إلى السماء ثم خفضه عن يمينه ثم عاد لمثل ذلك فسألته فقال: بينا أنا أحدثك إذا جبرائيل عليه السلام نزل عن يميني فقال: يا محمد إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الآية. قال عثمان: فمن وقته استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم. وعن ابن مسعود: هي أجمع آية في القرآن. وعن قتادة: ليس من خلق حسن كان في الجاهلية يعمل ويستحسن إلا أمر الله تعالى به في هذه الآية، وليس من خلق سيء إلا وقد نهى الله تعالى عنه فيها. قال المفسرون: العدل هو أداء الفرائض. وعن ابن عباس: هو قول لا إله إلا الله وَالْإِحْسانِ هو الإتيان بالمندوبات والمستحسنات شرعا وعرفا وأقربها صلة الرحم بالمال فلذلك أفردها بالذكر بقوله: وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى والفحشاء هي الأمور المتزايدة في القبح فلذلك أفردها بالذكر وهي الكبائر. وقد يخص بالزنا أو بالبخل والمنكر ما تنكره العقول ولا يعرف في شريعة ولا سنة والبغي هو الاستطالة. قال جار الله: حين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وعلى نبينا الصلاة والسلام أقيمت هذه الآية مقامها. واعلم أن العدل عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وأنه واجب الرعاية في جميع الأشياء ولنذكر له أمثلة: أما في الاعتقادات فالقول بنفي الإله تعطيل محض، وإثبات أكثر من إله واحد تشريك وتعجيز، والعدل هو قول: «لا إله إلا الله» . كما نقل عن ابن عباس، هذا ما اتفق عليه أرباب المذاهب. ثم إن الأشعري يقول: القول بنفي الصفات عنه سبحانه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 تعطيل، والقول بإثبات المكان والأعضاء تشبيه، والعدل إثبات صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والارادة والسمع والبصر والكلام ونفي غيرها. وبوجه آخر: نفي الصفات تعطيل، وإثبات الصفات الحادثة تشبيه، والعدل إثبات صفات أزلية قديمة غير متغيرة. وأيضا القول بأن العبد لا قدرة له أصلا جبر محض، والقول بأنه مستقل في التصرف قدر محض وتفويض، والعدل أمر بين الأمرين وهو أن العبد يفعل الأفعال ولكن بواسطة قدرة وداعية يخلقها الله تعالى فيه. وأيضا القول بأن الله لا يؤاخذ عبده بشيء من الذنوب مساهلة عظيمة، والقول بأنه يخلد في النار عبده العارف به بالمعصية الواحدة تشديد عظيم، والعدل أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان. والمعتزلي يقول: العدل في هذه الأصول بنوع آخر وقد مر مرارا. وأما رعاية العدل فيما يتعلق بأفعال الجوارح فإن قوما من نفاة التكليف يقولون: لا يجب على العبد الاشتغال بشيء من الطاعات ولا الاحتراز عن شيء من المعاصي. وقال: قوم من الهند وطائفة من المانوية: يجب على الإنسان أن يجتنب عن أكل الطيبات ويبالغ في تعذيب نفسه، وأن يحترز عن كل ما يميل الطبع إليه حتى التزوّج، والأولى بالمرء أن يختصي فهذان الطريقان مذمومان والوسط هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لأن التشديد غالب في دين موسى فليس في شرعه على القاتل إلا القصاص ويحرم مخالطة الحائض، والتساهل في دين عيسى غالب فلا قصاص على القاتل ولا يحرم وطء الحائض، والعدل ما حكم به شرعنا من جواز العفو وأخذ الدية وحرمة وطاء الحائض دون مخالطتها، ولذلك قال: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] ، وقال: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الفرقان: 67] ولما بالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات قيل له: طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 1] ولما أخذ قوم في المساهلة نزل: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنون: 115] . والمراد رعاية الوسط في كل الأمور وقد ورد في شرعنا الختان فقال بعض العقلاء: الحكمة فيه أن رأس ذلك العضو جسم شديد الحس فإذا قطعت تلك الجلدة بقي رأسه عاريا فيصلب بكثرة ملاقاة الثياب وغيرها فيضعف حسه ويقل شعوره فتقل لذة الوقاع فتقل الرغبة فيه. فالاختصاء وقطع الآلات كما ذهب إليه المانوية مذموم، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة مذموم، والوسط العدل هو الختان. هذا ما قيل. وعندي أن الحكمة في الختان بعد العبد هو التنظيف وسهولة غسل الحشفة وإلا فلعل اللذة بعد الختان أكثر لملاقاة الحاس والمحسوس بلا حائل. ومن الكلمات المشهورة قولهم: «بالعدل قامت السموات والأرضون» ومعناه أن مقادير العناصر لو لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 تكن معادلة مكافية بحسب الكمية والكيفية لاستولى الغالب على المغلوب وتنقلب الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب، ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن لاحتراق كل ما في هذا العالم، وإن كان أكثر استولى البرد والجمود، وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وإبطائها فإن كلا منها مقدر على ما يليق بنظام العالم وقوامه وقيامه. فهذه إشارة مختصرة إلى تحقيق العدل. وأما الإحسان فهو المبالغة في أداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية ومن هنا قال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» فكأن المبالغ المخلص في أداء الطاعات يوصل الفعل الحسن إلى نفسه وبالحقيقة يدخل في الإحسان أنواع التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، وأشرف أنواع الإشفاق صلة الرحم بالمال فلا جرم أفرد بالذكر كما مر. ثم إنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعا: الشهوية البهيمية والغضبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية. وهذه الأخيرة لا تحتاج إلى التهذيب لأنها من نتائج الأرواح القدسية، وأما الثلاث الأول فتحتاج إلى التأديب والتهذيب بمقتضى الشريعة وقانون العقل والطريقة أو النهي عن الفحشاء عبارة عن المنع من تحصيل اللذات الشهوية الخارجة عن إذن الشريعة، والنهي عن المنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية من إيذاء الناس وإيصال الشر إليهم من غير ما استحقاق، والنهي عن البغي إشارة إلى المنع من إفراط القوة الوهمية كالاستعلاء على الناس والترفع وحب الرياسة والتقدم ممن ليس أهلا لذلك، وأخس هذه المراتب عند العقلاء القوة الشهوانية، وأوسطها الغضبية، وأعلاها الوهمية فلهذا بدأ سبحانه بالفحشاء ثم بالمنكر ثم بالبغي، ولأن أصول الأخلاق والتكاليف كلها مذكورة في الآية لا جرم ختمها بقوله: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لأنها كافية في باب العظة والتذكر والارتقاء من حضيض عالم البشرية إلى ذروة عالم الأرواح المقدسة. قال الكعبي: في الآية دلالة على أنه تعالى لا يخلق الجور والفحشاء وإلا فكيف ينهاهم عما يخلقها فيهم؟ وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا. واعلم أنه لا يلزم من إرادة الله تذكر العبد- والتذكر من فعل الله بالاتفاق لا من فعل العبد- أن يطلب الله منه التذكر فإن طلب ما ليس في وسعه محال. فمعنى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ إرادة أن تكونوا على حالة التذكر لا إرادة أن تحصلوا التذكر. ثم خص من جملة المأمورات الوفاء بالعهد فقال: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ خصصه جار الله بالبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] . وقال الأصم: المراد منه الجهاد وما فرض الله في الأموال من حق الشرائع. وقيل: هو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 اليمين والأصح العموم وهو كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره بدليل قوله: إِذا عاهَدْتُمْ وقول من قال: العهد هو اليمين يلزم منه أن يكون قوله سبحانه: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها أي بعد توثيقها باسم الله تكرارا. وأكد ووكد لغتان فصيحتان. قال الزجاج: الأصل الواو والهمزة بدل. وفي الآية دلالة على الفرق بين الأيمان المؤكدة وبين لغو اليمين كقولهم «لا والله» و «بلى والله» . وأيضا الآية من العمومات التي دخلها التخصيص لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر» «1» . وقد مر بحث الأيمان في «البقرة» وفي «المائدة» في قوله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ [الآية: 225] الآية. وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أي شاهدا ورقيبا لأن الكفيل مراع لحال المكفول به. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ فيجازيكم بحسب ذلك خيرا وشرا. وفيه ترغيب وترهيب. ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض بقوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أي من بعد قوّة الغزل بإمرارها وفتلها. قال الزجاج: انتصب أَنْكاثاً على المصدر لأن معنى نقضت نكثت. وزيف بأن أَنْكاثاً ليس مصدرا وإنما هو جمع نكث بكسر النون وهو ما ينكث فتله. وقال الواحدي: هو مفعول ثان كما تقول كسره أقطاعا وفرقه أجزاء أي جعله أقطاعا وأجزاء فكذا هاهنا أي جعلت غزلها أنكاثا. قلت: ويحتمل أن يكون حالا مؤكدة. قال ابن قتيبة: هذه الآية متصلة بما قبلها والتقدير: وأوفوا بعهد الله ولا تنقضوا الأيمان فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل امرأة غزلت غزلا وأحكمته ثم جعلته أنكاثا. فعلى هذا المشبه به امرأة غير معينة، ولا حاجة في التشبيه إلى أن يكون للمشبه به وجود في الخارج. وقيل: المراد امرأة معينة من قريش ريطة بنت سعد بن تيم وكانت خرقاء، اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وهي الحديدة في رأس المغزل وفلكة عظيمة على قدرها، وكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن. قال جار الله: تَتَّخِذُونَ حال ودَخَلًا مفعول ثان لتتخذ أي لا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلا بينكم أي مفسدة ودغلا. وقال الواحدي: أي غشا وخيانة. وقال الجوهري: أي مكرا وخديعة. وقال غيره: الدخل ما أدخل في الشيء على فساد. وقوله: أَنْ تَكُونَ أي لأن تكون أُمَّةٌ يعني جماعة قريش هي أربى أزيد وأوفر عددا ومالا مِنْ أُمَّةٍ هي جماعة المؤمنين. قال مجاهد: كانوا   (1) رواه مسلم في كتاب الأيمان حديث 11- 13. الترمذي في كتاب النذور باب: 6. النسائي في كتاب الأيمان باب: 15، 16. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب: 7. الدارمي في كتاب النذور باب: 9. الموطأ في كتاب النذور باب: 11. أحمد في مسنده (4/ 256، 378) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 يحالفون الحلفاء ثم يجدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأولين ويحالفون الذين هم أعز وأمنع. إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أي بما يأمركم وينهاكم. وقد تقدم ذكر الأمر والنهي. وقال جار الله: الضمير لقوله: أَنْ تَكُونَ لأنه في معنى المصدر أي يختبركم بكونهم أربى لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء مع قلة المؤمنين وفقرهم أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم. ثم حذرهم من مخالفة ملة الإسلام وأنذرهم بقوله: وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بإظهار الدرجات والكرامات للأولياء وتعيين الدركات والبليات للأشقياء. ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ حيث تدعون أنكم على الحق والمؤمنون على الباطل فتنقضون عهودهم. ثم بين أنه سبحانه قادر على أن يجمع المؤمنين والكافرين على الوفاء وسائر أبواب الإيمان ولكنه بحكم الإلهية يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ والمعتزلة حملوا المشيئة على مشيئة الإلجاء بدليل قوله: وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ولو كانت أعمال العباد بخلق الله تعالى لكان سؤالهم عبثا. أجابت الأشاعرة بأنه لا يسأل عما يفعل. روى الواحدي أن عزيرا قال: يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء. فقال: يا عزير أعرض عن هذا فأعاده ثانيا فقال: أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوّة. قال المفسرون: لما نهاهم عن نقض مطلق الأيمان أراد أن ينهاهم عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها وهو نقض بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدليل على هذا التخصيص قوله: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها لأن هذا الوعيد لا يليق بنقض عهد قبيله وإنما يليق بنقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم. قال جار الله: وحدت القدم ونكرت لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه فكيف بأقدام كثيرة. وهذا مثل يضرب لمن وقع في بلاء بعد عافية، ولا ريب أن من نقض عهد الإسلام وزلت قدمه عن محجة الدين القويم فقد سقط من الدرجات العالية إلى الدركات الهاوية بيانه قوله: وَتَذُوقُوا السُّوءَ في الدنيا بِما صَدَدْتُمْ بصدودكم أو بصدكم غيركم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لأن المرتد قد يقتدي به غيره. وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة. ويحتمل أن يراد أن ذلك السوء الذي تذوقونه هو عذاب عظيم. قال جار الله: كان قوم أسلموا بمكة ثم زين لهم الشيطان نقض البيعة لكونهم مستضعفين هناك فأوعدهم الله على ذلك، ثم نهاهم عن الميل إلى ما كان يعدهم قريش من عرض الدنيا إن رجعوا عن الإسلام فقال: وَلا تَشْتَرُوا الآية. ثم ذكر دليلا قاطعا على أن ما عند الله خير فقال: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته باقٍ وفيه دليل على أن نعيم الجنة باق لأهلها لا ينقطع. وقال جهم بن صفوان: إنه منقطع والآية حجة عليه وَلَنَجْزِيَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 الَّذِينَ صَبَرُوا على ما التزموه من شرائع الإسلام أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بالواجبات والمندوبات لا بالمباحات فإنه لا ثواب على فعلها ولا عقاب، أو نجزيهم بجزاء أشرف وأوفر من عملهم كقوله: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: 160] . ثم عمم الوعد على أي عمل صالح كان فقال: مَنْ عَمِلَ صالِحاً ولا كلام في عمومه إلا أنه زاد قوله: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى تأكيدا وإزالة لوهم التخصيص، والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم. ثم جعل الإيمان شرطا في كون العمل الصالح منتجا للثواب حيث قال: وَهُوَ مُؤْمِنٌ فاستدل به على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح فإن شرط الشيء مغاير لذلك الشيء. واختلف في الحياة الطيبة فقيل: هي في الجنة. عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة، لأن الإنسان في الدنيا لا يخلو من مشقة وأذية ومكروه لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق: 6] . بيّن أن هذا الكدح- وهو التعب في العمل- باق إلى أن يصل إلى ربه، وأما بعد ذلك فحياة بلا موت وغنى بلا فقر وصحة بلا مرض وملك بلا زوال وسعادة بلا انتقال. وقال السدي: إن هذه الحياة في القبر. والأكثرون على أنها في الدنيا لقوله بعد ذلك وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وعلى هذا فما سبب طيب الحياة قيل: هو الرزق الحلال. وقيل: عبادة الله مع أكل الحلال. وقيل: القناعة أو رزق يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا» «1» . قال المحققون: وهذا هو المختار لأن المؤمن الذي صلح عمله إن كان موسرا فذاك، وإن كان معسرا فمعه من القنوع والعفة والرضا بالقضاء ما يطيب عيشه. وأما الكافر والفاجر فإن الحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه أبدا ويعظم أسفه على ما يفوته لأنه عانق الدنيا معانقة العاشق لمعشوقه، بخلاف المؤمن المنشرح قلبه بنور المعرفة والجمال فإنه قلما ينزع لحب الدنيا مالها وجاهها ويستوي عنده وجودها وفقدها وخيرها وشرها ونفعها وضرها. وبركة الصلاح والقنوع مما لا ينكرها عاقل اللهم اجعلنا من أهلها. ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن العمل الصالح إنما يفيد الأثر المخصوص بشرط الإيمان وظاهر قوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] يدل على أن العمل الخير مطلقا يفيد أثرا مطلقا فلا منافاة بينهما. ثم ذكر الاستعاذة التي هي من جملة الأعمال الصالحة وبها تخلص الأعمال عن الوساوس فقال: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أي أردت قراءته إطلاقا لاسم المسبب على السبب. وقد مر بحث الاستعاذة مستوفى في أول هذا الكتاب. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الزهد باب: 8. أحمد في مسنده (5/ 77) بلفظ «قوتا» بلد «كفافا» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 سُلْطانٌ تسلط وولاية عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وهذا معنى الاستعاذة. فإن معناها بالحقيقة راجع إلى التبري عما سوى الله والتوجه بالكلية إليه والاعتماد في جميع الأمور عليه. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ عن ابن عباس: أي يطيعونه. يقال: توليته أي أطعته. وتوليت عنه أي أعرضت عنه. أما الضمير الواحد في قوله: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ فقيل: راجع إلى الرب. وقيل: إلى الشيطان أي بسببه. التأويل: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فيه إشارة إلى أن لأرواح الأنبياء إشرافا على أممهم في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وفيه أن الدنيا مزرعة الآخرة فلا يقبل في القيامة اعتذار وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي وضعوا الكفر وأعمال الطبيعة موضع الإيمان وأعمال الشريعة فَلا يُخَفَّفُ عن أرواحهم أثقال الأخلاق الذميمة وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ لتبديل مذمومها بمحمودها وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا وهم عبدة الدنيا والهوى إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ في أنا دعوناكم إلى عبادتنا فإنا كنا مشغولين بتسبيح الله سبحانه وطاعته وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ منعوا الأرواح والقلوب عن طلب الله زِدْناهُمْ عذاب الحرمان عن الكمال فوق خسران النسيان بإفساد الاستعداد الفطري. وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً لأن روحه شاهد على جميع الأرواح والقلوب والنفوس لقوله: «أول ما خلق الله روحي» تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه السالك في أثناء سلوكه إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وهو وضع الآلات وأسباب تحصيل الكمال في مواضعها بحيث يؤدي إلى مقام الوصال والكمال وَالْإِحْسانِ وهو أن تحسن إلى الخلق بما أعطاك الله كقوله: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: 77] . وفي قوله: وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى إشارة إلى أن من جملة العدالة رعاية حال الأقرب فالأقرب. فيبدأ بتكميل نفسه ثم بما هو أقرب إليه قربا معنويا لا صوريا وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وهو صرف ما آتاه الله في غير مصرفها وَالْمُنْكَرِ وهو ضد المعروف وهو أن لا يحسن إلى غيره وَالْبَغْيِ وهو أن لا يراعي الترتيب المذكور في باب الإرشاد والتكميل. وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ يوم الميثاق. وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا بجزاء وفائكم وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها فيه إشارة إلى حال المريد المرتد أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هي أهل الدنيا في الدنيا أعلى حالا من أمتهم أهل الآخرة. وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ عهودكم مع المشايخ شبكة تصطادون بها الدنيا وقبول الخلق فتزل أقدامكم عن صراط الطلب مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى هما القلب والنفس. والعمل الصالح من النفس استعمال الشريعة والطريقة، ومن القلب التوجه إلى الله بالكلية، والحياة الطيبة للنفس أن تصير مطمئنة مستعدة لقبول فيض ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] وللقلب أن يصير فانيا عن أنانيته باقيا بشهود الحق وجماله، وحينئذ يطيب عن دنس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 الاثنينية ولوث الحدوث. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله ظاهرا وبالحقيقة هو لأمته، لأن شيطانه أسلم على يده فلم يحتج إلى الاستعاذة من شيطانه بل هو وخواص أمته كقوله: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [النحل: 99] وفيه أن الشيطان ليس له تسلط على أولياء الله إلا بالوسوسة، وفيها صلاح المؤمن فإن إبريز إخلاص قلبه لا يتخلص عن غش صفات نفسه إلا بنار الوسوسة، لأن المؤمن يطلع على بقايا صفات نفسه، بما تكون الوسوسة من جنسه فيزيد في الرياضة وملازمة الذكر حتى تنمحي تلك البقايا والله تعالى أعلم بالصواب. [سورة النحل (16) : الآيات 101 الى 128] وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 القراآت: بِما يُنَزِّلُ من الإنزال: ابن كثير وأبو عمرو يُلْحِدُونَ بفتح الياء والحاء: حمزة وعلي وخلف. فُتِنُوا مبنيا للفاعل: ابن عامر. وَالْخَوْفِ بالنصب: عباس إبراهام هشام وما بعده والأخفش عن ابن ذكوان. فِي ضَيْقٍ بالكسر: ابن كثير وكذلك في «النمل» . الآخرون بالفتح. الوقوف: مَكانَ آيَةٍ لا لأن جواب «إذا» هو «قالوا» وقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ جملة معترضة مُفْتَرٍ ط لا يَعْلَمُونَ هـ لِلْمُسْلِمِينَ هـ بَشَرٌ ط مُبِينٌ هـ بِآياتِ اللَّهِ لا لأن ما بعده خبر «إن» أَلِيمٌ هـ بِآياتِ اللَّهِ ج لاختلاف الجملتين مع العطف الْكاذِبُونَ هـ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى. عَظِيمٌ هـ عَلَى الْآخِرَةِ لا للعطف الْكافِرِينَ هـ وَأَبْصارِهِمْ ط لاختلاف الجملتين الْغافِلُونَ هـ الْخاسِرُونَ هـ وَصَبَرُوا لا لأن «إن» الثانية تكرار الأولى لطول الكلام بصلته وخبر هما واحد رَحِيمٌ هـ لا يُظْلَمُونَ هـ يَصْنَعُونَ هـ ظالِمُونَ هـ طَيِّباً ص لعطف المتفقتين تَعْبُدُونَ هـ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ج رَحِيمٌ هـ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ط لا يُفْلِحُونَ ط، هـ قَلِيلٌ ص لعطف المتفقتين ولا سيما إذا قدر لهم متاع أَلِيمٌ هـ مِنْ قَبْلُ ج لابتداء النفي مع العطف يَظْلِمُونَ هـ وَأَصْلَحُوا لا لما مر رَحِيمٌ هـ حَنِيفاً ط مِنَ الْمُشْرِكِينَ هـ لا لأن شاكِراً وصف آخر أو بدل من حَنِيفاً لِأَنْعُمِهِ ط مُسْتَقِيمٍ هـ حَسَنَةً ط الصَّالِحِينَ ط هـ لأن «ثم» لترتيب الأخبار. حَنِيفاً ط هـ الْمُشْرِكِينَ ط هـ اخْتَلَفُوا فِيهِ ط يَخْتَلِفُونَ هـ أَحْسَنُ ط بِالْمُهْتَدِينَ هـ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 عُوقِبْتُمْ بِهِ ط لِلصَّابِرِينَ هـ يَمْكُرُونَ هـ مُحْسِنُونَ هـ. التفسير: هذا شروع في حكاية شبهات منكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: كان إذا أنزلت آية فيها شدة ثم نزلت آية ألين منها قالت كفار قريش: إن محمدا يسخر من أصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه فنزل: وَإِذا بَدَّلْنا ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، وتبديل الآية رفعها بآية أخرى غيرها وهو نسخها بآية سواها. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ شيئا فشيئا على حسب المصالح مغلظا ثم مخففا أو بالعكس بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ فوائد النسخ والتبديل. قال أبو مسلم: أراد تبديل آية مكان آية في الكتب المتقدمة مثل آية تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وسائر العلماء أطبقوا على أن المراد بهذا التبديل النسخ. ونقل عن الشافعي أن القرآن لا ينسخ بالسنة لأنه تعالى أخبر بتبديل مكان الآية. وضعف بأنه لا يلزم من وجود التبديل بالآية نفي التبديل بغيرها كالسنة المتواترة إذ لا دلالة في الآية على الحصر، وقد مر مباحث النسخ مفصلة مستوفاة في سورة البقرة. قُلْ نَزَّلَهُ أي القرآن رُوحُ الْقُدُسِ هو جبرائيل والإضافة للمبالغة مثل «حاتم الجود» . والمراد الروح المقدس المطهر عن دنس المأثم مِنْ رَبِّكَ صلة نزله أي ابتداء تنزيله من عنده. وقوله: بِالْحَقِّ حال أي متلبسا بالحكمة والصواب. لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا كقوله: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً [الأنفال: 2] فيقول كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا وكل منهما في وقته خير وصلاح لأن الذي نزله حكيم لا يفعل إلا ما هو خير في أوانه وصواب بالنسبة إلى المكلف حين ما يكلف به. وَهُدىً وَبُشْرى معطوفان على محل لِيُثَبِّتَ أي تثبيتا لهم وإرشادا وبشارة، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم. ثم حكى شبهة أخرى عنهم. كانوا يقولون: إن محمدا يستفيد القصص والأخبار من إنسان آخر ويتعلمها منه. واختلف في ذلك البشر فقيل كان غلاما لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه اسمه عائش ويعيش وكان صاحب كتب. وقيل: هو جبر غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي. وقيل: عبدان جبر ويسار كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر وقف عليهما يسمع ما يقرآن فقالوا يعلمانه. وقيل: هو سلمان الفارسي. ثم أجاب عن شبهتهم فقال مستأنفا لِسانُ الَّذِي واللسان اللغة والمعنى لسان الرجل الذي يُلْحِدُونَ يميلون قولهم عن الاستقامة إِلَيْهِ لسان أَعْجَمِيٌّ غير بيّن وَهذا القرآن لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذو بيان وفصاحة وقد مر في آخر «الأعراف» أن تركيب الإلحاد يدل على الإمالة ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 كلها. قال أبو الفتح الموصلي: تركيب ع ج م يدل على الإبهام والخفاء ضد البيان والإفصاح، ومنه «عجم الزبيب» لاستتاره وخفاته، والعجماء البهيمة، وصلاة الظهر والعصر عجماوان لأن القراءة فيهما سرية، وأعجمت الكتاب أي أزلت عجمته. ثم إن العرب تسمي كل من لا يعرف لسانهم ولا يتكلم بلغتهم أعجميا وقالوا: زياد الأعجم لأنه كان في لسانه عجمة مع أنه كان عربيا. وحاصل الجواب هبوا أن محمدا يتعلم المعاني من ذلك الرجل إلا أنه لا يقدح في المقصود لأن القرآن بفصاحته اللفظية أيضا معجز. ولما ذكر جوابهم وبخهم وهددهم بقوله: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ يعني أن سبب عدم إيمانهم هو أن الله لا يهديهم كقوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7] . وفسره الإمام فخر الدين بأن الله لا يهديهم إلى طريق الجنة بل يسوقهم إلى النار. وهذا التفسير يناسب أصول المعتزلة فلا أدري كيف مال إليه. ثم لما بين أنهم ليسوا مظاهر اللطف وكان قد بنى الأمر في جوابهم على تسليم ما ادعى الخصم من أنه يتعلم من ذلك البشر، أراد أن يبين أن الذي قالوا غير صحيح ولا صادق في نفس الأمر فقال: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ وفيه أيضا رد لقولهم إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [النحل: 101] . يعني إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يترقب عقابا على الافتراء وَأُولئِكَ إشارة إلى قريش أو إلى الذين لا يؤمنون أي هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون أي هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب، أو هم الذين من شأنهم الكذب وذلك هجيراهم لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين، أو أولئك هم الكاذبون في قولهم: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [النحل: 101] ومما يدل على كذبهم عقلا أنهم أعداء له وكلام العدا ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتهم. وأيضا إن أمر التعليم والتعلم لا يتم في مجلس واحد ولكنه يحتاج إلى أزمنة متمادية، ولو كان كذلك لاشتهر وانتشر. وأيضا إن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة، والمعلم يجب أن يكون أعلى حالا من المتعلم. فلو كان مثل هذا العالم الذي يتعلم منه مثل النبي صلى الله عليه وسلم موجودا في ذلك العصر لم يخف حاله ومال الناس إليه دون النبي. قال بعض علماء المعاني: عطف الجملة الاسمية التي هي قوله: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ على ما قبلها وهي فعلية، دالة على أن من أقدم على الكذب فإنه دخل في الكفر تنبيها على أن صفة الكفر فيهم ثابتة راسخة كما تقول: كذبت وأنت كاذب. زيادة في الوصف بالكذب على سبيل الاستمرار والاعتياد، ولا افتراء أعظم من إنكار الإلهية والنبوة. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا. وقرأ هذه الآية. ثم إنه سبحانه من كمال عنايته أراد أن يفرق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 بين الكفر اللساني وحده وبين اللساني المنضم إليه القلبي فقال: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اختلف العلماء في إعرابه فالأكثرون على أنه بدل إما من الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وما بينهما اعتراض والمعنى إنما يفتري الكذب من كفر. واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء، ثم قال: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أي طاب منه نفسا واعتقده فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وإما من المبتدأ الذي هو أُولئِكَ أو من الخبر الذي هو الْكاذِبُونَ. وقيل: منصوب على الذم أي أخص وأعني من كفر. وجوّز بعضهم أن تكون «من» شرطية والجواب محذوف لأن جواب من شرح دال عليه كأنه قيل: من كفر فعليه غضب إلا من أكره ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب. وإنما صح استثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر لأنه ظهر منه بعد الإيمان ما مثله يظهر من الكافر طوعا فلهذه المشاكلة صح الاستثناء. قال ابن عباس: نزلت في عمار بن ياسر، وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسرا وأمه سمية وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم. فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قبلها بحربة وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال وقتلت وقتل زوجها ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام. وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عمارا كفر فقال: كلا إن عمارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه. فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال صلى الله عليه وسلم: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت. فمن هنا حكم العلماء بأن الإكراه يجوّز التلفظ بكلمة الكفر. وحدّ الإكراه أن يعذبه بعذاب لا طاقة له به كالتخويف بالقتل والضرب الشديد وسائر الإيلامات القوية. وأجمعوا على أن قلبه عند ذلك يجب أن يكون متبرئا عن الرضا بالكفر وأن يقتصر على التعريض ما أمكن مثل أن يقول: إن محمدا كذاب يعني عند الكفار. أو يعني به محمدا آخر، أو يذكره على نية الاستفهام بمعنى الإنكار. وإذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النية أو لأنه لما عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النية كان ملوما وعفو الله متوقع. ولو ضيق المكره عليه حتى صرح بالكفر من غير تورية وطلب منه أن يقول لا أريد بقلبي سوى ما أذكره بلساني فههنا يتعين إما الكذب وإما توريط النفس للعذاب. فمن الناس من قال: يباح له الكذب حينئذ. ومنهم من قال: ليس له ذلك. واختاره القاضي لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذبا فوجب أن يقبح على كل حال. ولو خرج الكذب عن القبح لرعاية بعض المصالح لم يمتنع أن يفعل الله الكذب لمصلحة ما فلا يبقى وثوق بوعده وبوعيده. وللإكراه مراتب منها: أن يجب الفعل المكره عليه كما لو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 أكرهه على شرب الخمر وأكل الميتة لما فيه من صون النفس مع عدم إضرار بالغير ولا إهانة لحق الله. ومنها أن يصير الفعل مباحا لا واجبا كما لو أكره على التلفظ بكلمة الكفر لما روي أن بلالا صبر على العذاب وكان يقول: أحد أحد حتى ملوه وتركوه ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بئسما فعلت بل عظمه، ولأن في ترك التقية والصبر على القتل أو التعذيب إعزازا للإسلام. ومنها أنه لا يجب ولا يباح بل يحرم كما إذا أكره على قتل إنسان أو على قطع عضو من أعضائه فههنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية. وحينئذ لو قتل فللعلماء قولان: أحدهما لا يلزم القصاص وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه لأنه قتل دفعا عن نفسه فأشبه قتل الصائل، ولأنه كالآلة للمكره ولذلك وجب القصاص على المكره وثانيهما- وبه قال أحمد والشافعي في أصح قوليه- أن عليه القصاص لأنه قتله عدوانا لاستبقاء نفسه فصار كما لو قتل المضطر إنسانا فأكله. ومن الأفعال ما لا يمكن الإكراه عليه وهو الزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة، فلو دخل الزنا في الوجود علم أنه وقع بالاختيار لا بالإكراه. والأصح أن الإكراه فيه متصوّر، وأن الحد يسقط حينئذ، وعن أبي حنيفة أنه إن أكرهه السلطان لم يجب الحد، وإن أكرهه بعض الرعية وجب. قال بعض الأصوليين: في قوله: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ دلالة على أن محل الإيمان هو القلب فهو إما الاعتقاد إن كان الإيمان معرفة، وإما كلام النفس إن كان تصديقا. وانتصاب صَدْراً على التمييز وأصله. ولكن من شرح بالكفر صدره. فعدل إلى النصب للمبالغة ولبناء الكلام على الإبهام ثم التفسير. قوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ أي ذلك الارتداد بسبب أنهم رجحوا الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ ولأجل أنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان ولم يعصمهم عن الكفر. وقال جار الله: ذلك الوعيد والغضب والعذاب بسبب استحقاقهم خذلان الله بكفرهم. وهذا البحث وكذا بحث الطبع والختم والخلاف في تفسيره بين الأشاعرة والمعتزلة قد مر في أول سورة البقرة وفي غيرها فلا حاجة إلى الإعادة. وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ أي الكاملون في الغفلة إذ غفلوا عن تدبر العواقب لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ وقال في أوائل سورة هود هُمُ الْأَخْسَرُونَ [الآية: 22] لأن أولئك صدوا عن سبيل الله وصدوا غيرهم فضلوا وأضلوا لذلك ضوعف لهم العذاب فهم الأخسرون، وهؤلاء صدوا بأنفسهم فهم الخاسرون. ويمكن أن يقال: إن ما قبل الفواصل في تلك السورة لم يعتمد على ألف قبلها مثل «يبصرون» «يفترون» . وفي هذه السورة اعتمدت على الألف مثل «الكافرين» «الكاذبون» فجاء في كل سورة على ما يناسبها. ولما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 ذكر حال من أكره أتبعه حال من هاجر من بعد ما فتن. قال جار الله: معنى ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ تباعد حال هؤلاء من حال عمار وأصحابه. ومعنى إِنَّ رَبَّكَ لهم أنه لهم لا عليهم فينصرهم ولا يخذلهم. ويحتمل أن يكون الجار متعلقا بالخبر على نية التأخير. وتكرير «إن» لطول الكلام. من قرأ مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا بفتح الفاء مبنيا للفاعل فوجهه أن فتن وافتتن بمعنى واحد والمراد أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقية فكأنهم فتنوا أنفسهم لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت بعد، أو أراد أن أكابر المشركين الذين آذوا فقراء المسلمين لو تابوا وهاجروا وصبروا فإن الله يقبل توبتهم، ومعنى «ثم» على هذا التفسير ظاهر. ومن قرأ بضم الفاء مبنيا للمفعول فالمراد أن المستضعفين المعذبين الذين حملهم أقوياء المشركين على الردة والرجوع عن الإيمان إن هاجروا وجاهدوا وصبروا فإن الله يغفر لهم تكلمهم بكلمة الكفر. وقال الحسن: هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكة فعرضت لهم فتنة فارتدوا وشكوا في الرسول ثم أسلموا وهاجروا فنزلت الآية فيهم. فمعنى «ثم» تبعيد حالة الغفران والرحمة عن حالة الارتداد والشك في أمر الرسول إلا أنه سبحانه بكرمه يغفر لهم إذا تابوا. وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي سرح ارتد، فلما كان يوم الفتح أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه. وهذه الرواية إنما تصح لو جعلنا الآية مدنية، ومثله ما روي عن قتادة أنه لما أنزل الله أن أهل مكة لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة، فلما جاءهم ذلك خرجوا فلحقهم المشركون فردوهم فنزلت: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: 2] فكتبوا بها إليهم فتبايعوا بينهم على أن يخرجوا فإن لحق بهم المشركون من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله، فأدركهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزلت هذه الآية. والضمير في قوله: مِنْ بَعْدِها يرجع إلى الأفعال المذكورة من الهجرة والجهاد والصبر. فالحاصل أن الآية إما نازلة فيمن عذب فلم يرتد ومع ذلك هاجر وجاهد، وإما نازلة فيمن أظهر الكفر تقية فبين تعالى أن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكن كذلك، وإما نازلة فيمن ارتد ثم تاب وقام بما يجب القيام به فوعده الله المغفرة والرحمة. قال الزجاج يَوْمَ تَأْتِي منصوب بقوله: رَحِيمٌ أو بإضمار «اذكر» أو «ذكرهم وأنذرهم» ومعنى الآية ظاهر إلا أن في قوله: عَنْ نَفْسِها إشكالا من حيث إضافته النفس إلى ضمير النفس. وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى جملة بدن الحي، وبالنفس الثانية الذات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 فكأنه قيل: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره. ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها كقولهم هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الأعراف: 38] ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ونحو ذلك. عن بعضهم: تزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه يقول: يا رب نفسي حتى إن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. ثم أوعد الكفار بآفات الدنيا أيضا فقال: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً يحتمل أن تكون مقدرة وأن تكون معينة موجودة إما مكة أو غيرها. وذهب كثير من المفسرين إلى أنها مكة والأقرب أنها غيرها لأن مثل مكة يكون غير مكة فضربها الله مثلا لمكة إنذارا من مثل عاقبتها. قال العقلاء: ثلاثة ليس لها نهاية: الأمن والصحة والكفاية. فوصف الله تعالى تلك القرية بالأمن ثم بالاطمئنان إشارة إلى أن هواء ذلك البلد لاعتداله ملائم لأمزجة أهله حتى اطمأنوا واستقروا ولم يحوجوا إلى الانتقال طلبا للصحة. ثم قال: يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ دلالة على حصول الكفاف لهم بأيسر وجه. قال في الكشاف: الأنعم جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس. قلت: لعله حمله على ذلك طلب الضبط وإلا فلا حاجة إلى هذا التكلف. وكذا أطلق الأكثرون أن جمع «فعلة» يجيء على «أفعل» . قيل: إنما ذكر جمع القلة تنبيها بالأدنى على الأعلى، يعني أن كفران النعمة القليلة يوجب العذاب فكيف بكفران النعم الكثيرة العظيمة. وهذا مثل لأهل مكة كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة- وهو محمد صلى الله عليه وسلم- فكفروا بها وبالغوا في إيذائه فسلط الله عليهم البلاء. عذبهم بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والفرو، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم. نقل أن ابن الراوندي قال لابن الأعرابي الأديب: هل يذاق اللباس؟ قال ابن الأعرابي: لا بأس أيها النسناس هب أن محمدا صلى الله عليه وسلم ما كان نبيا أما كان عربيا؟! كأنه طعن في الآية أن المناسب هو أن لو قيل: «فكساها الله لباس الجوع» أو «فأذاقها الله طعم الجوع» فردّ عليه ابن الأعرابي. والذي أجاب به علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة، وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس، ثم ذكر الوصف ملائما للمستعار له وهو الجوع والخوف، لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه غيره. فكانت الاستعارة مجردة. ولو قال: «فكساها» كانت مرشحة، وقد سلف منا تقرير هذا الاصطلاح في المقدمة التاسعة من مقدمات الكتاب. وترشيح الاستعارة وإن كان مستحسنا من جهة المبالغة إلا أن للتجريد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 ترجيحا من حيث إنه روعي جانب المستعار له فازداد الكلام وضوحا. وقيل: إن أصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرّف والاختبار فتقول: أناظر فلانا فأذوق ما عنده: ومن يذق الدنيا فإني طعمتها ... وسيق إلينا عذبها وعذابها فمعنى ذقت لباس الجوع والخوف على فلان تعرفت ما ظهر عليه من الضمور وشحوبة اللون وتغير الحال وكسوف البال. ففحوى الآية عرفها الله أثر لباس الجوع. وقيل: حمل اللباس على المماسة والتقدير فأذاقها الله مساس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. قال ابن عباس: يريد بفعلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم من التكذيب والهم بقتله والإخراج من مكة. قال الفراء: كل الصفات أجريت على القرية إلا قوله: يَصْنَعُونَ تنبيها على أن المراد في الحقيقة أهلها. ولما ذكر المثل ذكر الممثل فقال: وَلَقَدْ جاءَهُمْ يعني أهل مكة رَسُولٌ مِنْهُمْ من أنفسهم يعرفونه بأصله ونسبه فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ متلبسون بالظلم. قال ابن عباس: يعني بالعذاب الجوع الذي كان بمكة. وقيل: القتل يوم بدر. وقيل: إن قول ابن عباس أولى. والمراد أن ذلك الجوع بسبب كفركم فاتركوا الكفر. فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من الغنائم. فأكل الغنائم مسبب عن ترك الكفر فلذلك وصله بالفاء. وقال الكلبي: إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا وقالوا: عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان؟ وكانت الميرة قد قطعت عنهم بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن في الحمل فحمل الطعام إليهم فذلك قوله: فَكُلُوا. ورجح قول ابن عباس بأنه تعالى قال بعد ذلك: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ فالمراد أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب- وهو الغنيمة- واتركوا الخبائث- وهو الميتة والدم- أو أنه سبحانه أعاد تحريم هذه الأشياء في «البقرة» وفي «المائدة» و «الأنعام» وفي هذه السورة قطعا للأعذار وإزالة للشبهة. ثم زيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه المحرمات كالبحيرة والسائبة، وفي النقصان عنها كتحليل الميتة والدم فقال: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ قال الكسائي والزجاج «ما» مصدرية وانتصاب الْكَذِبَ ب لا تَقُولُوا أي ولا تقولوا الكذب لأجل وصف ألسنتكم. وقوله: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ بدل من الكذب ولك أن تنصب الْكَذِبَ ب تَصِفُ وتجعل «ما» مصدرية أيضا أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب. ومعناه لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة ودليل. ويجوز أن تكون «ما» موصولة أي ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 حلال وهذا حرام، فحذف لفظ فيه لكونه معلوما. وقوله: تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ من فصيح الكلام وبليغه كأن ماهية الكذب مجهولة وكلامهم يكشف عن حقيقته نظيره قولهم: «وجهه يصف الجمال وعينه تصف السحر» . واللام في قوله: لِتَفْتَرُوا لام العاقبة لا الغرض. والمقصود من ذكره بيان أنه كذب على الله فإن قوله: لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ لم يكن فيه هذا البيان. ثم أوعد المفترين بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ الآية. وقوله: مَتاعٌ قال الزجاج: أي متاعهم. وعن ابن عباس: أراد أن متاع كل الدنيا قليل. والمعنى أن منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية، أو أن نعيم الدنيا كلها يزول عنهم عما قريب ويبقى العقاب الدائم الأليم. ثم خص محرمات اليهود بالذكر فقال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ يعني في سورة الأنعام عند قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [الأنعام: 146] ثم قال: وَما ظَلَمْناهُمْ كقوله هناك: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ [الأنعام: 146] . ثم بين أن الافتراء على الله ومخالفة أمره لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة. وقوله: بِجَهالَةٍ في موضع الحال أي عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه أو غير متأملين في وخامة عاقبته لغلبة الشهوة عليهم. إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد تلك السيئة أو التوبة أو الجهالة. ولما بالغ في إبطال مذاهب المشركين وفي الجواب عن شبههم ومطاعنهم وكان إبراهيم صلى الله عليه وسلم رئيس الموحدين وقدوة أكابر النبيين ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة قائلا: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً أي هو وحده أمة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير: ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد وعن مجاهد: كان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار فلهذا قيل: إنه أمة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زيد بن عمرو بن نفيل: يبعثه الله أمة وحده. وعن شهر بن حوشب: لم يكن زمن إلا وفيه أربعة عشر يدفع بهم الله عن أهل الأرض إلا زمن إبراهيم فإنه وحده. وقيل: أمة بمعنى مأموم أي يؤمه الناس ليأخذوا منه أفعال الخير أو بمعنى مؤتم به كقوله: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: 124] . وقيل: إنه من باب إطلاق المسبب على السبب لأنه حصل لأمته الامتياز عمن سواهم قانِتاً لِلَّهِ قائما بما يأمره الله. وعن ابن عباس: مطيعا لله حَنِيفاً مائلا إلى ملة الإسلام ميلا لا يزول عنه. وقال ابن عباس: المراد أنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج وضحى. وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قط لا في الصغر ولا في الكبر شاكِراً لِأَنْعُمِهِ وإن كانت قليلة فضلا عن النعم الكثيرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 يروى أنه كان لا يتغدّى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفا فأخلا غداءه فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أن بهم جذاما فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم شكرا لله على أنه عافاني وابتلاكم اجْتَباهُ اختصه واصطفاه للنبوّة وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى ملة الإسلام وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً عن قتادة: هي أن الله تعالى حببه إلى أهل الأديان كلها. وقيل: الأموال والأولاد. وقيل: قول المصلي منا «كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم» وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ في أعلى مقاماتهم من الجنة تحقيقا لدعائه وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101] . قال في الكشاف: معنى «ثم» في قوله: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ تبعيد هذا النعت من بين سائر النعوت التي أثنى الله بها على إبراهيم، ليعلم أن أجل ما أوتي خليل الله اتباع نبينا ملته في الأصول من التوحيد والمعاد وغيرهما كاختيار يوم الجمعة للفراغ وترك العمل. قال أهل النظم: كان لسائل أن يسأل: لم اختار اليهود السبت مع أن إبراهيم كان اختار الجمعة؟ فأجاب الله سبحانه بقوله: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ فاختاره بعضهم للفراغ واختار بعضهم الجمعة. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: أمرهم موسى بالجمعة وقال تفرغوا في كل سبعة أيام يوما واحدا فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا: لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق وهو يوم السبت، فجعل عليهم السبت وشدد عليهم. ثم جاءهم عيسى بالجمعة أيضا فقالت النصارى: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب يوم الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد» «1» . وقال صاحب الكشاف: السبت مصدر سبت اليهود إذا عظمت سبتها. والمعنى إِنَّما جُعِلَ وبال السَّبْتُ وهو المسخ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ واختلافهم فيه أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة. وضعف القول الأول بأن اليهود متفقون على تعيين يوم السبت للفراغة. ويمكن أن يقال: لعل فيهم من اختار الجمعة في قديم الدهر ثم وقع الاختلاف. سؤال: النصارى يقولون: إن يوم الأحد مبتدأ الخلق، والتكوين على ما اتفق عليه أهل الملل أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام أوّلها الأحد فجعله عيدا معقول. واليهود قالت:   (1) رواه البخاري في كتاب الجمعة باب: 1. مسلم في كتاب الجمعة حديث 19، 21. النسائي في كتاب الجمعة باب: 1. أحمد في مسنده (2/ 236) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 إن يوم السبت هو اليوم الذي قد فرغ الله فيه من الأعمال فنحن نوافق ربنا. فما وجه جعل الجمعة عيدا؟ والجواب بعد التعبد هو أن يوم الجمعة يوم التمام والكمال وذلك يوجب الفرح والسرور فجعله عيدا أولى. ثم أوعد اليهود بقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ إلخ. ولما أمر محمدا باتباع إبراهيم صلى الله عليه وسلم بين وجه المتابعة فقال: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ الآية. وفيه أن طريقة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الدعوة كانت هكذا. وتقرير ذلك أن الداعي إلى مذهب ونحلة لا بد أن يكون قوله مبنيا على حجة وهي إما أن تكون يقينية قطعية مبرأة من شائبة احتمال النقيض، وإما أن تكون مفيدة للظن القوي والإقناع التام وإلا لم يكن ملتفتا إليها في العلوم. وقد يكون الجدال والخصام غالبا على المدعو فيحتاج حينئذ إلى إلزامه وإفحامه بدليل مركب من مقدمات مشهورة مسلمة عند الجمهور، أو مقدمات مسلمة عند الخصم. فقوله: بِالْحِكْمَةِ إشارة إلى استعمال الحجج القطعية المفيدة لليقين، والمكالمة بهذا الطريق إنما تكون مع الطالبين البالغين في الاستعداد إلى درجة الكمال. وقوله: وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ إشارة إلى استعمال الدلائل الإقناعية الموقعة للتصديق بمقدمات مقبولة، وأهل هذه المكالمة أقوام انحطت درجتهم عن درجة الطائفة الأولى إلا أنهم باقون على الفطرة الأصلية طاهرون عن دنس الشغب وكدورات الجدال وهم عامة الخلق. وليس للدعوة إلا هذان الطريقان، ولكن الداعي قد يضطر مع الخصم الألد إلى استعمال الحجج الملزمة المفحمة كما قلنا فلهذا السبب عطف على الدعوة قوله: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي أي بالطريقة بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فكان طريق الجدال لم يكن سلوكه مقصودا بالذات وإنما اضطر الداعي إليه لأجل كون الخصم مشاغبا. وإنما استحسن هذا الطريق لكون الداعي محقا وغرضه صحيحا، فإن كان مبطلا وأراد تغليط السامع لم يكن جداله حسنا ويسمى دليله مغالطة. هكذا ينبغي أن يتصوّر تفسير هذه الآية فإن كلام المفسرين الظاهريين فيه غير مضبوط. وجوّز في الكشاف أن يريد القرآن أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة وجادلهم بأحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف. ولما حث على الدعوة بالطرق المذكورة بين أن الهداية والرشد ليس إلى النبي وإنما ذلك إلى الله تعالى فقال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ الآية. أي هو العالم بضلال النفوس واهتدائها وكدورتها وبمن جعل الدعوة سببا لسعادتها أو واسطة لشقائها. ثم إن الدعوة تتضمن تكليف المدعوّين بالرجوع عن الدين المألوف، والفطام منه شديد وربما تنجر المقاولة إلى المقاتلة، فحينئذ أمر الداعي وأتباعه برعاية العدل والإنصاف في حال القتال قائلا وَإِنْ عاقَبْتُمْ أي إن رغبتم في استيفاء القصاص إن وقع قتل فاقنعوا بالمثل ولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 تزيدوا عليه. والآية عامة وقد يخصصها رواة أسباب النزول بقصة حمزة قالوا: إن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم، ما تركوا أحدا غير ممثول به إلا حنظلة بن الراهب. فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة وقد مثل به. وروي فرآه مبقور البطن فقال: أما والذي أحلف به إن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك فنزلت فكفر عن يمينه وكف عما أراده. قاله ابن عباس في رواية عطاء وأبيّ بن كعب. ومن هذا ذهبوا إلى أن خواتيم سورة النحل مدنية. ولا خلاف في تحريم المثلة، وقد وردت الأخبار بالنهي عنها حتى بالكلب العقور. وقيل: نزلت حين كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبدأوا بالقتال فهو كقوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [البقرة: 190] أمر الله تعالى أن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا. وقال مجاهد والنخعي وابن سيرين: إنه نهى المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم. وفي قوله: إِنْ عاقَبْتُمْ رمز إلى أن الأولى له أن لا يفعل كقول الطبيب للمريض: إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح. ثم انتقل من التعريض إلى بعض التصريح قائلا. وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ أي صبركم خير لكم. فوضع المظهر موضع المضمر ثناء من الله عليهم أو وصفا لهم بالصفة التي تحصل لهم أو جنس الصبر خير لِلصَّابِرِينَ من جنسهم. ثم صرح كل التصريح فقال: وَاصْبِرْ ثم ذكر ما يفيد سهولة الصبر على النفس فقال: وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي بتوفيقه وتثبيته وربطه على قلبه وهذا سبب كلي مفيد للصبر. وأما السبب الجزئي القريب فذلك قوله: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ وذلك أن إقدام الإنسان على الانتقام لا يكون إلا عند هيجان الغضب وإنه لا يهيج إلا عند فوات نفع. وأشار إليه بقوله: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ قيل: أي على قتلى أحد. وقيل: على الكافرين كقوله: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [المائدة: 68] وإلا حين توقع مكروه في المستقبل وأشار إلى ذلك بقوله: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ من قرأ بكسر الضاد فظاهر وهو من الكلام المقلوب الذي يشجع عليه أمن الإلباس، لأن الضيق وصف فهو يكون في الإنسان ولا يكون الإنسان فيه. وفيه لطيفة أخرى وهي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط به من جميع الجوانب، ومن قرأ بفتحها فإما على أنه مصدر أيضا أو على أنه مخفف ضيق فمعناه في أمر ضيق. وإنما لم يقل «ولا تكن» بالنون كما في آخر النمل موافقة لما قبله وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ولأن الحزن هاهنا أكثر بناء على أنها وردت في قتل حمزة فبولغ بالحذف في النهي عن الحزن. ثم ختم السورة بآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات فقال: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا المعاصي كلها وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ في الطاعات بأن يعبدوا الله مخلصين عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 شوائب الرياء. وقيل: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا استيفاء الزيادة وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ في ترك أصل الانتقام. فإن أردت أن أكون معك بالنصر والتأييد فكن من المتقين ومن المحسنين، وفيه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون بالرفق واللين مرتبة مرتبة. وقيل: الذين اتقوا إشارة إلى التعظيم لأمر الله، والذين هم محسنون إشارة إلى الشفقة على خلق الله ومنه قال بعض المشايخ: كمال الطريق صدق مع الحق وخلق مع الخلق. واحتضر هرم بن حبان فقيل له: أوص. فقال: إنما الوصية من المال ولا مال لي أوصيكم بخواتيم سورة النحل. التأويل: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً إنه تعالى يعالج بدواء القرآن أمراض القلوب في كل وقت بنوع آخر على حسب ما يعلمه من المصالح فلذلك قال: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ الذين استسلموا للطبيب ومعالجته حتى صارت قلوبهم سليمة. إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ففيه إنكار أن طب القلوب وعلاجها من شأن البشر بنظر العقل لأنه مبني على معرفة الأمراض وكميتها وكيفيتها، ومعرفة الأدوية وخواصها وكيفية استعمالها، ومعرفة الأمزجة واختلاف أحوالها، وأن القلوب بيد الله يقلبها هو كيف يشاء فيضيق عن معالجتها نطاق عقول البشر ولهذا قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] اللهم إلا إذا علم بتعليم الله كقوله: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء: 113] ومع هذا كان يقول نحن نحكم بالظاهر يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ هو الذي لا يفهم من كلام الله أسراره وحقائقه والعربي ضده كما قال: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ [مريم: 97] . إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ لأن الافتراء من شأن النفس الأمارة الكافرة التي لا تؤمن بآيات الله. وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ أي هم الذين استمروا على الكذب لأن المؤمن قد يكذب في بعض الأحوال إلا أنه لا يصر على ذلك، وهكذا في جميع المعاصي ولهذا لا يخرج من الإيمان بالكلية ولكن ينقص الكذب إيمانه ويرجع بالتوبة إلى أصله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» «1» . مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إشارة إلى المريد المرتد بنسيم روائح نفحات الحق بمشام قلبه عند هبوبه، واصطكاك أهوية عوالم الباطن، وانخراق سحب حجب البشرية فلمع له برق أضاءت به آفاق سماء القلب وأشرقت أرض   (1) رواه البخاري في كتاب الأدب باب: 69. مسلم في كتاب البر حديث: 102- 105. أبو داود في كتاب الأدب باب: 80. الترمذي في كتاب البر باب: 46. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب: 7. الدارمي في كتاب الرقاق باب: 7. أحمد في مسنده (1/ 384، 410) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 النفس، فآمن بحقية الطلب واحتمال التعب فاستوقد نار الشوق والمحبة، فلما أضاءت ما حوله وبذل في الاجتهاد جده وحوله هبت نكباء النكبات فصدئت مرآة قلبه، وذهب الله بنوره وانخمدت نار الطلب وآل المشئوم إلى طبعه إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ على مباشرة فعل أو قول يخالف الطريقة من معاملات أهل الطبيعة فيوافقهم فيها في الظاهر ويخالفهم بالباطن حتى يخلص من شؤم صحبتهم اسْتَحَبُّوا اختاروا محبة الدنيا وشهواتها على محبة الله وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي إلى حضرته الْقَوْمَ الْكافِرِينَ بنعمته وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ عما أعدّ الله لعباده الصالحين. هُمُ الْخاسِرُونَ لأن الإغضاء عن العبودية يورث خسران القلوب عن مواهب الربوبية ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا نفوسهم وهواهم مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا بمخالفة أوامر الحق ونواهيه ثُمَّ جاهَدُوا النفوس بسيوف الرياضات وَصَبَرُوا على تزكيتها وتحليتها متمسكين بذيل إرادة الشيخ يَوْمَ تَأْتِي أرباب النفوس تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها على قدر بقاء وجودها دفعا لمضارّها وجذبا لمنافعها حتى إن كل نبي يقول نفسي نفسي إلا محمدا صلى الله عليه وسلم فإنه فان بالكلية عن نفسه باق ببقاء ربه فيقول: أمتي أمتي لأنه مغفور ذنب وجوده المتقدم في الدنيا والمتأخر في الآخرة بما فتح الله له ليلة المعراج إذ واجهه بخطاب «سلام عليك أيها النبي» ففني عن وجوده بالسلام وبقي بوجوده بالرحمة، فكان رحمة مهداة ببركاته إلى الناس كافة، ولكن رفع الذلة من تلك الضيافة وجب لمتابعيه فلهذا قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. يعني الذين صلحوا لبذل الوجود في طلب المقصود قَرْيَةً هي قرية شخص الإنسان كانَتْ آمِنَةً أي آهلة وهو الروح الإنساني مُطْمَئِنَّةً بذكر الله يَأْتِيها رِزْقُها من المواهب مِنْ كُلِّ مَكانٍ روحاني وجسماني فَكَفَرَتْ النفس الأمارة فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وهو انقطاع مواد التوفيق فأكلوا من جيفة الدنيا وميتة المستلذات وَالْخَوْفِ وهو خوف الانقطاع عن الله وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ الوارد الرباني فما تخلقوا بأخلاقه وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من أنوار الشريعة وأسرار الطريقة هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ على عادة أهل الإباحة وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا أي تابوا حَرَّمْنا من موانع الوصول ما قَصَصْنا عَلَيْكَ في بدوّ نبوتك حتى كنت محترزا عن صحبة خديجة وتنحيت إلى حراء أسبوعا أو أسبوعين. وَما ظَلَمْناهُمْ بتحريم ذلك عليهم بل أنعمنا به عليهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالإعراض عنا بعد الإقبال علينا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ممن له شركة مع الله في الوجود اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ في الظاهر حتى يتبعك هو في الباطن ولهذا ذهب إلى ربه ماشيا إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: 99] وأسري بمحمد راكبا سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 فهو خليل وأنت حبيب، اتبعت الخليل في الدنيا فيتبعك الخليل في الآخرة «الناس محتاجون إلى شفاعتي يوم القيامة حتى إبراهيم عليه السلام» . وَإِنْ عاقَبْتُمْ النفس الأمارة فَعاقِبُوا أي بالغوا في عقابها بالفطام عن مألوفاتها بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ من الانقطاع عن مواد التوفيق والمواهب. وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ على معاقبتهم لَهُوَ خَيْرٌ لأن عقاب الحبيب على قدر عقاب العدو وأعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك. وَاصْبِرْ على معاقبة النفس ومخالفة الهوى. وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ لأن الصبر من صفات الله ولا يقدر أحد أن يتصف بصفاته إلا به بأن يتجلى بتلك الصفة له. وَلا تَحْزَنْ على النفس وجنودها عند المعاقبة فإن فيها صلاح حالهم ومآلهم. وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ فإن مكرهم يندفع بمعونة الله عند الفرار إليه والله أعلم. تم الجزء الرابع عشر، ويليه الجزء الخامس عشر أوله تفسير سورة الإسراء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الخامس عشر من أجزاء القرآن (سورة بني إسرائيل مكية إلا قوله وإن كادوا ليفتنونك إلى قوله وقل جاء الحق حروفها 6460 كلمها 1563 آياتها 111) [سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 21] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 القراآت: يتخذوا بياء الغيبة: أبو عمرو وعباس مخيرا. الباقون بتاء الخطاب أَسَأْتُمْ بالمد: أبو عمرو ويزيد الأصبهاني عن ورش والأعشى وحمزة في الوقف. ليسوء بياء الغيبة على التوحيد: ابن عامر وحمزة وأبو بكر وحماد ولنسوء بالنون: علي. الباقون لِيَسُوؤُا على الجمع وَيُبَشِّرُ مخففا: حمزة وعلي. ويخرج بالياء مجهولا: يزيد ويخرج لازما: يعقوب الآخرون بالنون متعديا تلقاه مشددا: ابن عامر ويزيد، وروى النقاش عن ابن ذكوان بالإمالة. الباقون مخففة، وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة اقْرَأْ كِتابَكَ بغيرهم: الأعشى وأوقية وحمزة في الوقف: أمرنا من باب المفاعلة: يعقوب. الوقوف: آياتِنا ط الْبَصِيرُ هـ وَكِيلًا ط لمن قرأ تَتَّخِذُوا بتاء الخطاب لإمكان أن يجعل ذُرِّيَّةَ منادى نُوحٍ ط شَكُوراً هـ كَبِيراً هـ الدِّيارِ ط مَفْعُولًا هـ نَفِيراً هـ فَلَها ط لأن ما بعد عائد إلى قوله فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما مع اعتراض العوارض تَتْبِيراً هـ يَرْحَمَكُمْ هـ للابتداء بالشرط مع العطف عُدْنا هـ حذرا من توهم العطف حَصِيراً هـ كَبِيراً هـ لا للعطف أَلِيماً هـ بِالْخَيْرِ ط عَجُولًا هـ وَالْحِسابَ، ط تَفْصِيلًا هـ عُنُقِهِ ط مَنْشُوراً هـ كِتابَكَ ط حَسِيباً هـ ط للابتداء بعد بالشرط لِنَفْسِهِ ج للشرط مع العطف عَلَيْها ط أُخْرى ط رَسُولًا هـ تَدْمِيراً هـ نُوحٍ ط بَصِيراً هـ جَهَنَّمَ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف مَدْحُوراً هـ مَشْكُوراً هـ عَطاءِ رَبِّكَ ط مَحْظُوراً هـ بَعْضٍ ط تَفْضِيلًا. التفسير: لما عزم على نبيه في خواتيم النحل جوامع مكارم الأخلاق حكى طرفا مما خصه به من المعجزات فقال: سُبْحانَ الَّذِي وهو اسم علم للتسبيح وقد مر إعرابه في قوله: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: 32] والمراد تنزيه الله من كل ما لا يليق بجلاله وأَسْرى وسرى لغتان. يروى أنه لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المراتب العلية في معراجه أوحى الله إليه يا محمد: بم أشرّفك؟ فقال: يا رب تنسبني إلى نفسك بالعبودية. فأنزل فيه: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ وقوله: لَيْلًا نصب على الظرف وفيه تأكيد الإسراء، وفي تنكيره تقليل مدة الإسراء لأن التنكير فيه معنى البعضية، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 أخبر أنه أسرى به في بعض الليل مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عن النبي صلى الله عليه وسلم: بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق. وقيل: المراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به. وعن ابن عباس: الحرم كله مسجد وإلى هذا القول ذهب الأكثرون. قالوا: إنه أسرى به من دار أم هانيء بنت أبي طالب قبل الهجرة بسنة. وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعثة. إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى هو بيت المقدس بالإتفاق سمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ولم يكن حينئذ وراءه مسجد. الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ يريد بركات الدين والدنيا لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى عليه السلام، ومهبط الوحي وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة. وقوله: أَسْرى مع قوله: بارَكْنا سلوك لطريقة الالتفات لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا بيان لحكمة الإسراء. سؤال: أرى إبراهيم عليه السلام ملكوت السموات والأرض، وأرى محمدا صلى الله عليه وسلم بعض آياته فيلزم أن يكون معراج إبراهيم أفضل؟ الجواب: لعل بعض الآيات المضافة إلى الله تعالى أشرف وأجل من ملكوت السموات والأرض كلها ولهذا ختم الآية بقوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوال محمد الْبَصِيرُ بأفعاله المهذبة الخالصة فيكرمه على حسب ذلك. واعلم أن الأكثرين من علماء الإسلام اتفقوا على أنه أسري بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأقلون على أنه ما أسرى إلا بروحه. حكى محمد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن حذيفة أنه قال: كان ذلك رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه عرج بروحه. وحكى هذا القول عن عائشة أيضا. وقد احتج بعض العقلاء على هذا القول بوجوه منها: أن الحركة الجسمانية البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة: ومنها أن صعوده إلى السموات يوجب انخراق الفلك. ومنها أنه لو صح ذلك لكان من أعظم معجزاته فوجب أن يكون بمحضر من الجم الغفير حتى يستدلوا بذلك على صدقه، وما الفائدة في إسرائه ليلا على حين غفلة من الناس. ومنها أن الإنسان عبارة عن الروح وحده لأنه باق من أول عمره إلى آخره، والأجزاء البدنية في التغير والانتقال والباقي مغاير للمتغير، ولأن الإنسان يدرك ذاته حين ما يكون غافلا عن جميع جوارحه وأعضائه. ومنها قوله سبحانه: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: 60] وما تلك الرؤيا إلّا حديث المعراج. وإنما كانت فتنة للناس لأن كثيرا ممن آمن به حين سمعها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 ارتد وكفر به. ومنها أن حديث المعراج الجسماني اشتمل على أشياء بعيدة عن العقل كشق بطنه وتطهيره بماء زمزم وركوب البراق وإيجاب خمسين صلاة، فإن ذلك يقتضي نسخ الحكم قبل حضور وقته، وأنه يوجب البداء. أجاب الأكثرون عن الأول بأنه حركة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى فوق الفلك الأعظم لم يكن إلّا نصف قطر الفلك، ونسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة أمثال وسبع هي نصف حركة الفلك في يوم بليلته، وإذا كان الأكثر واقعا فالأقل بالإمكان أولى، ولو كان القول بمعراج محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة ممتنعا لكان القول بنزول جبريل من العرش إلى مكة في لحظة واحدة ممتنعا، لأن الملائكة أيضا أجسام عند جمهور المسلمين، وكذا القول في حركات الجن والشياطين وقد سخر الله تعالى لسليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر، وقد قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل: 40] . وكان عرش بلقيس في أقصى اليمن وسليمان في الشام. وعلى قول من يقول إن الإبصار بخروج الشعاع فإنما ينتقل شعاع العين من البصر إلى الكواكب الثابتة في آن واحد، فيثبت أن المعراج أمر ممكن في نفسه. أقصى ما في الباب الاستبعاد وخرق العادة ولكنه ليس مخصوصا بهذه الصورة وإنما ذلك أمر حاصل في جميع المعجزات. وعن الثاني أن انخراق الأفلاك عند حكماء الإسلام جائز. وعن الثالث أن فائدة الإسراء قد عادت إليه حيث شاهد العالم العلوي والعرش والكرسي وما فيها وعليها فحصل في قلبه زيادة قوة وطمأنينة، بها انقطعت تعلقاته عن الكونين ولم يبق مشغول القلب بشيء من أمور الدنيا والآخرة. وعن الرابع أن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد. وعن الخامس أن تلك الرؤيا هي غير حكاية المعراج كما سيجيء في تفسيره، ولو سلم أنها هي المعراج فالرؤيا بمعنى الرؤية. وعن السادس أنه لا اعتراض على الله تعالى في شيء من أفعاله وأنه على كل شيء قدير. واعلم أنه ليس في الآية دلالة على العروج من بيت المقدس إلى السموات وإلى ما فوق العرش إلّا أنه ورد الحديث به. ومنهم من استدل على ذلك بأول سورة النجم أو بقوله لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الإنشقاق: 19] وتفسير هما مذكور في موضعه. يروى أنه صلى الله عليه وسلم نائما في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة على أم هانىء وقال: مثل لي النبيون وصليت بهم. وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانىء بثوبه فقال: مالك؟ قالت: أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم قال: وإن كذبوني. فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 بحديث الإسراء به وأنه أسري به من مكة إلى بيت المقدس ومنه عرج إلى السماء ورأى ما فيها من العجائب ولقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى. فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلم فحدثهم، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا، وارتد ناس ممن كان آمن به، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق. وكان فيهم من سافر إلى الشام فاستنعتوه المسجد فجلى له صلى الله عليه وسلم بيت المقدس فطفق ينظر إليه وينعته لهم فقالوا: أما النعت فقد أصاب. فقالوا: أخبرنا عن عيرنا فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال: تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فقال قائل منهم: هذه والله الشمس قد شرقت، وقال آخر: وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد صلى الله عليه وسلم، ثم لم يؤمنوا وقالوا: ما هذا إلّا سحر مبين. ولما حكى طرفا من إكرام محمد صلى الله عليه وسلم ذكر شيئا من إكرام موسى فقال: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أخرجناهم بواسطته من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين أَلَّا تَتَّخِذُوا من قرأ على الغيبة ف «أن» ناصبة ولام العاقبة محذوفة أي لئلا يتخذوا، ومن قرأ على الخطاب ف «أن» مفسرة معناها أي لا تتخذوا كقولك: كتبت إليه أن افعل كذا، وزائدة والقول مضمر يعني قلنا لهم لا تتخذوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ربا تكلون إليه أمركم يا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ قال قتادة: الناس كلهم ذرية نوح عليه السلام لأنه كان معه في السفينة ثلاثة بنين: سام وحام ويافث، والناس كلهم من ذرية أولئك. فقوله «يا ذرية» قائم مقام قوله: يا أيها الناس وعلى القراءة الأولى انتصب ذُرِّيَّةَ على الاختصاص، وعلى القراءتين احتمل أن ينتصب على أنه مفعول آخر ليتخذوا أي لا تجعلوهم أربابا كقوله: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً [آل عمران: 80] من ذرية المحمولين مع نوح وعيسى وعزيز. ثم علل النهي عن الإشراك بقوله: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً أي أنتم ذرية من آمن به وحمل معه فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم في الشكر لله وعدم اتخاذ الشريك له. ويجوز أن يكون تعليلا لاختصاص بني إسرائيل والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح فهم متصلون به، فلهذا استأهلوا الاختصاص. وجوز في الكشاف أن يكون ثناء على نوح بطريق الاستطراد. يروى من شكره أنه كان إذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني، وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني، وإذا اكتسى قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني، وإذا احتذى قال: الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني، وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه، وكان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجا آثر به. ثم ذكر أن كثيرا من بني إسرائيل ما اهتدوا بهدى التوراة فقال: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أوحينا إليهم وحيا مقضيا مقطوعا به في الكتاب الذي هو التوراة وقول: لَتُفْسِدُنَّ جواب قسم محذوف، أو أجرى القضاء المبتوت مجرى القسم كأنه قيل: وأقسمنا لتفسدن فِي الْأَرْضِ أرض مصر مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ لتعظمن وتستولن على الناس عُلُوًّا كَبِيراً تسلطا عظيما وبغيا شديدا فَإِذا جاءَ وَعْدُ عقاب أُولاهُما أولى المرتين بَعَثْنا أرسلنا وسلطنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أصحاب نجدة وشدة قتال فَجاسُوا ترددوا للمارة خِلالَ الدِّيارِ أوساطها وفرجها يعني ديار بيت المقدس وَكانَ وعد العقاب وَعْداً مَفْعُولًا لا بد من وقوعه ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ الدولة والغلبة عَلَيْهِمْ على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو: وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً مما كنتم. والنفير من ينفر مع الرجل من قومه. احتجت الأشاعرة بقوله سبحانه: قَضَيْنا بعثنا وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا على صحة القضاء والقدر وأن الفساد والنهب والقتل والأسر كلها بفعله. وأجابت المعتزلة بأن المراد أنه خلى بينهم وبين ما فعلوا ولم يمنعهم عن تخريب بيت المقدس وإحراق التوراة وقتل حفاظها. وضعف بأن تفسير البعث بالتخلية وعدم المنع خلاف الظاهر، على أن الدليل الكلي العقلي قد دل على وجوب انتهاء الكل إليه. ولما حكى عنهم أنهم حين عصوا سلط عليهم أعداءهم مهد قاعدة كلية في الإحسان والإساءة قائلا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها لم يقل فعليها أو فإليها للتقابل، مع أن حروف الإضافة بعضها يقوم مقام البعض. قال أهل الإشارة: إنه أعاد الإحسان ولم يذكر الإساءة إلا مرة ففيه دليل على أن جانب الرحمة أغلب فَإِذا جاءَ وَعْدُ عقاب المرة الْآخِرَةِ بعثناهم حذف جواب «إذا» لدلالة ذكره أولا عليه. ومعنى لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ليجعلها الله، أو الوعد، أو البعث، أو ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها لأن آثار الأعراض النفسانية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه، ويجوز أن يكون «ما» بمعنى المدة أي ما دام سلطانهم جاريا على بني إسرائيل. وقوله: تَتْبِيراً ذكر المصدر إزالة للشك وتحقيقا للخبر. ويروى أن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واستحلوا المحارم وقتلوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 الأنبياء وسفكوا الدماء وذلك أول الفسادين، فسلط الله عليهم بختنصر أو سنجاريب وجنوده أو جالوت. عن ابن عباس: قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وسبوا منهم سبعين ألفا وبقوا في الذل إلى أن قيض الله ملكا آخر من أهل بابل وتزوج بامرأة من بني إسرائيل وطلبت من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل، وبعد مدة قامت فيهم. الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه، ثم أقدموا على قتل زكريا ويحيى عليهما السلام وقصدوا قتل عيسى ابن مريم عليه السلام، وهذا ثاني الإفسادين فانتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملك من الروم يقال له قسطنطين الملك. وقال صاحب الكشاف: المرة الأولى قتل زكريا وحبس أرميا، والآخرة قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى. واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام، والمقصود الأصلي الذي دل عليه القرآن هو أنهم كلما عصوا وأفسدوا سلط الله عليهم أعداءهم. وفيه تحذير للعقلاء من محالفة أوامر الله ونواهيه، ثم قال: عَسى رَبُّكُمْ يا بني إسرائيل أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد لتقامه منكم في المرة الثانية وَإِنْ عُدْتُمْ للثالثة عُدْنا لها. قال أهل السير: ثم إنهم قد عادوا إلى فعل مالا ينبغي. وهو تكذيب محمد وكتمان ما ورد من نعته في التوراة والإنجيل. فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب، فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والإجلاء، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية لا حشمة لهم ولا عزة فيهم إلى يوم القيامة، وأما بعد ذلك فهو قوله وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي محبسا حاصرا ومحصورا لا يتخلصون منه أبدا. وعن الحسن: بساطا كما يبسط الحصير المنسوج. ثم لما شرح فعله في حق عباده المخلصين كمحمد صلى الله عليه وسلم وموسى عليه السلام وفي حق عبيده العاصين كأكثر بني إسرائيل، وكان في ذلك تنبيه على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ومعصيته تقتضي كل شر وغرامة، عظم شأن القرآن المبين للأحكام الهادي للأنام فقال: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي أي للحالة أو الشريعة أو الطريقة التي هِيَ أَقْوَمُ وفي حذف الموصوف فخلفه بعرفها أهل البلاغة لعموم الاعتبار وذهاب الوهم كل مذهب. قيل: هذا الشيء أقوم من ذلك. إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة، ثم يكون للأول على الآخر. وكيف يتصور في غير هذا الدين شيء من الاستقامة حتى يستقيم هذا التفضيل؟ وأجيب بأن «أفعل» هاهنا بمعنى الفاعل كقولنا «الله أكبر» هو الكبير. وكقولهم «الناقص والأشج أعدلا بني مروان» أي عادلا بني مروان. ويمكن أن يقال: لا شيء من الأديان إلا وفيه نوع من الاستقامة كالاعتراف بالله الواجب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 بالذات، والالتزام لأصول الأخلاق ومكارم العادات وقوانين السياسات إلا أن بعض الخلل أبطل الكل فالكل ينهدم بانهدام الجزء. ثم إن كون القرآن هاديا إلى الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح له نتيجة وأثر وذلك هو البشارة بالأجر الكبير لأهل الإيمان والعمل الصالح وبالعذاب الأليم لغيرهم، وأنت خبير بأن لفظ البشارة بمعنى الإنذار يستعمل للتهكم إذ البشارة مطلق الخبر المغير للبشرة فكأنه قيل: ويخبر الذين لا يؤمنون بالآخرة أن لهم عذابا. ويجوز أن يبشر المؤمنين ببشارتين: إحداهما بثوابهم والأخرى بعذاب أعدائهم. قال في الكشاف: كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة؟ وأجاب على أصول الاعتزال بأن الناس كانوا حينئذ إما من أهل التقوى وإما من أهل الشرك، وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك. قلت: هذا الجواب منه عجيب، فإن هذا الصنف لو سلم أنه لم يكن موجودا في ذلك العصر إلا أن حكمه يجب أن يذكر في القرآن الذي فيه أصول الأحكام، على أن ذكر الفساق من الأمة في القرآن المكي والمدني موجودة قال تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [لقمان: 32] يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 52] وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران: 135] . وإذا كان ذكرهم في القرآن واردا وأنه تعالى يعدد هاهنا أوصاف القرآن على جهة المدح فأي مقام أدعى إلى ذكر هذا الوصف من هاهنا. والجواب الحق أن الفسقة جعلوا بالعين أهل الإيمان والله أعلم. قيل: هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة. والجواب المنع من الخصوص ولو سلم فإيمانهم بالآخرة كلا إيمان، فبعضهم أنكروا المعاد الجسماني وبعضهم قالوا: لن تمسنا النار إلّا أياما. واعلم أنه سبحانه قال هاهنا: أَجْراً كَبِيراً وفي أول الكهف أَجْراً حَسَناً [الآية: 2] ، رعاية للفاصلة وإلا فالأجر الكبير والأجر الحسن كلاهما الجنة. ولما بين أن القرآن كاف في الهداية ذكر أن الإنسان قد يعدل عن التمسك بأحكامه فقال: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ أي جنس الكافر. وقد ذكر جمع من المفسرين أنه النضر بن الحرث دعا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ [الأنفال: 32] ، الآية فأجاب الله دعاءه وضربت رقبته صبرا. وكان بعضهم يقول: ائتنا بعذاب الله، وآخرون متى هذا الوعد جهلا منهم واعتقادا أن محمدا صلى الله عليه وسلم كاذب. وقيل: المراد أنه يدعو الله عند غضبه وضجره فيعلن نفسه وولده وماله، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك. ويروى أنه صلى الله عليه وسلم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا فأقبل يئن بالليل فقالت له: مالك تئن؟ فشكا ألم القد فأرخت من كتافه، فلما نامت أخرج يده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 وهرب. فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم دعا به فأعلم بشأنه فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اقطع يديها فرفعت سودة يديه تتوقع الإجابة وأن يقطع الله يديها قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني سألت الله أن يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما يغضب البشر فلترد سودة يديها. وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا يستعجل بالعذاب مع أنه آتيه أو يتسرع إلى طلبه كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله معتقدا أن خيره فيه وإن كان ذلك عند التأمل مضرا له. وقيل: أراد بهذا الإنسان آدم، وذلك أنه لما انتهى الروح إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى فذهب لينهض فلم يقدر. وليس هذا القول بالحقيقة مغايرا للأول لأن أصل الآدمي إذا كان كذلك كان كل فرد منه متصفا به لا محالة. قال أهل النظم: لما ذكر نعمة الدين وهو القرآن أردفها بنعمة الدنيا فقال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ وفيه أن القرآن لا يتم المقصود منه إلا بنوعية المحكم والمتشابه، فكذا الزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بجزئيه الليل والنهار. فالمحكم كالنهار في وضوحه، والمتشابه بمنزلة الليل في خفائه. وبوجه آخر لما ذكر دلائل النبوة والتوحيد أكدها بدليل آخر من عجائب الزمان. وبوجه آخر لما وصف الإنسان بكونه عجولا أي منتقلا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة بين أن كل أحوال هذا العالم كذلك فينتقل الهواء من الإنارة إلى الظلام وبالعكس، وينتقل القمر من النقصان إلى الامتلاء وبالضد. فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ هي من إضافة الشيء إلى نفسه للبيان كقولك «نفس الشيء أو ذاته» أي فمحونا الآية التي هي الليل أي جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموسا مظلما لا يستبان فيه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو وَجَعَلْنَا الآية. التي هي النَّهارِ مُبْصِرَةً ذات إبصار وذلك باعتبار من فيها أي تبصر فيها الأشياء وتستبان، أو أريد بالإبصار الإضاءة لأنها سببه. وقيل: المضاف محذوف والتقدير وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم يخلق له شعاع كشعاع الشمس فترى به الأشياء رؤية غير بينة، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ لتتوصلوا ببياض النهار أو بشعاع الشمس المستلزم للنهار إلى التصرف في وجوه معايشكم. وَلِتَعْلَمُوا باختلاف الجديدين أو بزيادة ضوء القمر ونقصانه عَدَدَ السِّنِينَ الشمسية أو القمرية المركبة من الشهور وَلتعلموا جنس الْحِسابَ المبني على الساعات والأيام والشهور والسنين والأدوار. وقيل: أراد بمحو القمر الكلف الذي في وجهه. وسببه في الشرع ما روي أن الشمس والقمر كانا سواء في النور والضوء فأرسل الله تعالى جبريل فأمر جناحه على وجه القمر فأذهب عنه أثر الضياء. وسببه عند الفلاسفة أنه ارتكز في وجه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 القمر أجسام قليلة الضوء كارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك، ولما كانت تلك الأجرام أقل ضوءا من جرم القمر لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر كالكلف في وجه الإنسان. ونحن قد ذكرنا له وجها آخر في الهيئة، قال أهل التجارب: إن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه لا سيما في أحوال البحار والبحارين على ما يذكره الأطباء، إلا أن الكلف ليس له مدخل في ابتغاء فضل الله وفي معرفة الحسابات تفصيلا. نعم لو قيل: إن الكلف نقص من نور القمر حتى لم يقو على إزالة ظلام الليل بالكلية فبقي في وقت السكون والراحة بحالة ووقت التردد في طلب المعاش بحالة، وصار تعاقب الليل والنهار سببا لمعرفة الأيام وما يتركب منها كان متجها. ثم قال: وَكُلَّ شَيْءٍ مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا بيناه بيانا غير ملتبس حتى انزاحت العلل وزالت الأعذار فلا يهلك من يهلك إلا عن بينة فلذلك قال: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ أي عمله فِي عُنُقِهِ وبوجه آخر لما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل لابتغاء المعاش وللدعة والراحة ولمعرفة المواقيت، وكان الغرض الأصلي من الكل هو الاشتغال بخدمة المعبود وتهذيب الأفعال وإصلاح الأقوال، ذكر أن الإنسان مؤاخذ في عرصة القيامة بأقواله وأفعاله وسائر أحواله ليظهر أنه هل أتى بما هو المقصود من خلقه أم لا. قال أكثر أهل اللغة: إن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال اعتبروا أحوال الطائر أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه، وإذا طار فهل يطير متيامنا أو متياسرا أو صاعدا في الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على ما يسوقهم عملهم إليه من خير أو شر، فإطلاق الطائر على العمل تسمية للنبي باسم لازمه. وقال أبو عبيدة: الطائر عند العرب الحظ ويقال له البخت. فالطائر ما وقع للشخص في الأزل مما هو نصيبه من العقل والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة كأنه طائر يطير إليه من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب طيرانا لا نهاية له ولا غاية إلا إن انتهى إلى ذلك الشخص في وقته المقدر من غير خلاص ولا مناص وفي هذا دليل على أنه لا يظهر في الأبد إلا ما حكم الله به في الأزل، والكفاية الأبدية لا تتم إلا بالعناية الأزلية. وإنه سبحانه أكد هذا المعنى بإضافة الإلزام على نفسه ثم بقوله: فِي عُنُقِهِ. يقال: جعلت هذا الأمر في عنقك أي قلدتكه وألزمتك الاحتفاظ به. فإن كان خيرا يزينه كان كالطوق، وإن كان شرا يشينه كان كالغل. ومن أمثال العرب «تقلدها طوق الحمامة» وَنُخْرِجُ لَهُ من قرأ بالنون فظاهر. وقوله: يَلْقاهُ مَنْشُوراً صفتان للكتاب أو يَلْقاهُ صفة مَنْشُوراً حال من مفعول يلقاه. ومن قرأ بالياء مجهولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 أو لازما فالضمير للطائر وكِتاباً حال منه، يقال: لقيت الشيء ولقانيه غيري. عن الحسن: يا ابن آدم بسطت الصحيفة وطويت في قبرك معك، ثم إذا بعثت قلدتها في عنقك اقْرَأْ كِتابَكَ على إضمار القول. قال قتادة: يقرأ في ذلك اليوم من لم يكن قارئا وبِنَفْسِكَ فاعل كفى وحَسِيباً تمييز بمعنى حاسب وإنه كثير من فعل بالضم كقريب وبعيد، ولكنه من فعل بالفتح غريب، منه ما قال سيبويه: ضريب القداح بمعنى ضاربها، وصريم بمعنى صارم. «وعلى» متعلق بحسيب من قولك حسب عليه كذا، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى الكافي ثم وضع. موضع الشهيد فعدي بعلى لأن الشاهد يكفي المدعي ما أهمه. وذكر حسيبا بمعنى رجلا حسيبا لأنه بمنزلة الشهيد، والغالب أن الشهادة يتولاها الرجال كالقضاء والإمارة والنفس مؤوّل بالشخص، أو حمل «فعيل» بمعنى «فاعل» على «فعيل» بمعنى «مفعول» كقتيل، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب. قال الحسن: عدل الله في حقك من جعلك حسيب نفسك. وقال السدي: يقول الكافر يومئذ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً وروي أن يؤتى المؤمن يوم القيامة صحيفته وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها، حتى إذا ظن أنها قد أوبقته قال الله تعالى له: فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك فيعظم سروره ويصير من الذين قال الله في حقهم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس: 38، 39] قال الحكيم: التكرار يوجب تقرير الآثار، فكل عمل يصدر من الإنسان خيرا أو شرا فإنه يحصل منه في جوهر روحه أثر مخصوص إلا أن ذلك الأثر يخفى ما دام الروح متعلقا بالبدن مشتغلا بواردات الحواس والقوى، فإذا انقطعت علاقته عن البدن قامت قيامته لأن النفس كأنها كانت ساكنة مستقرة في الجسد وعند ذلك قامت وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلوي، فيزول الغطاء وتنكشف الأحوال ويظهر على لوح النفس نقش كل شيء عمله في مدة عمره، وهذا معنى الكتابة والقراءة بحسب العقل، وإنه لا ينافي ما ورد في النقل. ثم بين أن ثواب العمل الصالح وعقاب ضده مختص بفاعله لا يتعدى منه إلى غيره فقال: مَنِ اهْتَدى إلى قوله: وِزْرَ أُخْرى. قال الجبائي: فيها دلالة على أن الأطفال لا يعذبون بكفر آبائهم، وأن الوزر والإثم ليس من فعل الله وإلا لم يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره بل كان يجب أن لا وزر أصلا لأن الصبي لا يوصف بالوزر لأنه غير مختار. وجواب الأشاعرة أن الوزر مختص بأفعال المكلفين من الثقلين، وقدحت عائشة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 بذلك في صحة ما رواه ابن عمر «إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله» «1» واستدل به جماعة من الفقهاء في الامتناع من ضرب الدية على العاقلة. ويمكن أن يجاب بأنه ما من عام إلا وقد خصص. أما قوله: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فقد استدل به الأشاعرة في أن وجوب شكر المنعم لا يثبت بالعقل بل بالسمع لأن الوجوب لا تتقرر ماهيته إلا بترتيب العقاب على الترك ولا عقاب قبل الشرع بحكم هذه الآية. أجاب الخصم بأنه لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي لأن النبي إذا جاء وادعى المعجزة فهل يجب على المستمع قبول قوله والتأمل في معجزته أو لا يجب، والثاني باطل بالاتفاق، وعلى الأوّل إن وجب بالعقل فهو المدعي، وإن وجب بالشرع فذلك الشارع إن كان ذلك النبي لزم إثبات الشيء؟؟؟؟، وإن كان غيره دار أو تسلسل. وبوجه آخر إذا أوجب النبي بعض الأفعال وحرم بعضها فلا معنى لذلك إلا ترتب العقاب على الترك أو الفعل. ثم إنه يجب على المكلف أن يحترز عن العقاب أو لا يجب لا سبيل إلى الثاني بالاتفاق، وعلى الأول يلزم الوجوب العقلي وإلا لزم الدور أو التسلسل. ثم إن مذهب أهل السنة جواز العفو عن عقاب الكبيرة فتكون ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب، ولا ذم مع جواز العفو فلم يبق إلا أن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب، ولا يكون هذا الخوف إلا بمحض العقل فثبت أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه. فأما أن تجري الآية على ظاهرها يقال: العقل هو رسول الله إلى الخلق، بل هو الرسول الذي لولا لما تقررت رسالة أحد من الرسل ومجيء الأنبياء كالتنبيه على النظر وكالإيقاظ من رقدة الغفلة والحجة وإن كانت لازمة لهم قبل بعثة الرسل إلا أنها بعد البعثة ألزم. وإما أن يخصص عموم الآية فيقال: المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع. ومما ارتضاه الإمام فخر الدين الرازي أن مجرد العقل سبب في أنه يجب عليها فعل ما ينتفع به وترك ما يستضر به، أما مجرد العقل فلا يدل على أنه يجب على الله شيء وذلك أنا مجبولين على طلب النفع والاحتراز عن الضرر، والله تعالى منزه عن ذلك. ولقائل أن يقول: إنه سبحانه منزه عن الانتفاع والاستضرار إلا أنه حكيم جواد فلم لا يقبح من الحكيم الجواد ترك ما ينتفع به غيره وفعل ما يستضر به، وإذا قبح منه ذلك حسن منه ضده، والحكيم لا يترك الأحسن. فصدور ذلك الأحسن منه البتة هو   (1) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 32، 33. مسلم في كتاب الجنائز حديث 18، 19. الترمذي في كتاب الجنائز باب 25. النسائي في كتاب الجنائز باب 14، 15. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 54. الموطأ في كتاب الجنائز حديث 37. أحمد في مسنده (1/ 47) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 الذي لك أن تسميه وجوبا كما وصف به نفسه في قوله: كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا [مريم: 71] ولكم من آية في القرآن دالة على أن الفعل قد يصدر منه صدورا لا يحتمل النقيض من ذلك قوله: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها. وللمفسرين في معنى أَمَرْنا قولان: الأول أن المراد به الأمر الذي هو نقيض النهي وعلى هذا اختلفوا في المأمور به، فالأكثرون على أن الطاعة والخير. وقال في الكشاف: معناه وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل أمرناهم بالفسق ففسقوا. ولما كان من أصول الاعتزال أنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ذكر أن الأمر بالفسق هاهنا مجاز، ووجهه أنه صب عليهم النعمة صبا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات، فكان إيتاء النعمة سببا لإيثارهم الفسوق على الائتمار فكأنهم مأمورون بذلك. ثم إنه جعل تقدير أمرناهم بالطاعة ففسقوا عن قبيل التكاليف بعلم الغيب، ولم يجوّز أن تكون من قبيل «أمرته فعصاني» فإنه يفهم منه أن المأمور به طاعته ولكنه حكم بأنه مثل أمرته فقام أو أمرته فقرأ فإنه لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة. ولقائل أن يقول: كما أن قوله «أمرته فعصاني» يدل على أن المأمور به شيء غير المعصية من حيث إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له فكذلك قوله: «أمرته ففسق» يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به، فكونه فسقا ينافي كونه مأمورا به كما أن كونها معصية ينافي كونها مامورا بها، وهذا ظاهر فلا أدري لم أصرّ جار الله على قوله مع ضعفه ومخالفته أصله. القول الثاني إن معنى: أَمَرْنا مُتْرَفِيها أكثرنا فساقها. قال الواحدي: تقول العرب: أمر القوم. إذا كثروا، وأمرهم الله إذا كثرهم، وآمرهم أيضا بالمد واحتج أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بقوله صلى الله عليه وسلم: «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة» «1» فالسكة النخيل المصطفة، والمهرة المأمورة كثيرة النتاج. وقد حمل بعضهم الحديث على الأمر ضد النهي أي قال الله لها: كوني كثيرة النسل فكانت، وروي أن رجلا من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أرى أمرك هذا حقيرا. فقال صلى الله عليه وسلم: إنه سيأمر أي سيكثر وسيكبر. والمترف في اللغة المنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش: فَفَسَقُوا فِيها خرجوا عما أمرهم الله فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ استوجبت العذاب فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً أهلكناها على سبيل الاستئصال. قال الأشاعرة: ظاهرة الآية يدل على أنه تعالى أراد إهلاكهم ابتداء، ثم توسل   (1) رواه أحمد في مسنده (3/ 468) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 إلى إهلاكهم بهذا الطريق ويؤيده قوله: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ أي بالكفر ثم التعذيب. وقال الكعبي: إن سائر الآيات دلت على أنه تعالى لا يبتدىء بالتعذيب كقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11] وقوله: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ فتلك الآيات محكمة وهذه المتشابهات فيجب حمل هذه على تلك. قال في التفسير الكبير: أحسن الناس كلاما في تأويل هذه الآية القفال فإنه ذكر وجهين: الأول أخبر الله أنه لا يعذب أحدا بما علمه منه ما لم يعمل به أي لا يجعل علمه حجة على من علم أنه إن أمره عصاه بل يأمره حتى يظهر عصيانه للناس فحينئذ يعاقبه. ومعنى الآية وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم. الثاني أن نقول: وإذا أردنا إهلاك قوم بسبب ظهور العصيان منهم لم نعالجهم بالعذاب في أوّل ظهور المعصية منهم، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي. وخص المترفين بذلك لأن نعمة الله عليهم أكثر فكان الشكر عليهم أوجب، فإذا لم يرجعوا وأصروا صب عليهم البلاء صبا. وزعم الجبائي أن المراد بالإرادة الدنو والمشارفة كقولك إذا أراد المريض أن يموت ازداد مرضه شدة، وإذا أراد التاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كل جهة. ليس المعنى أن المريض يريد أن يموت والتاجر يريد أن يفتقر، وإنما عنيت أنه سيصير إلى ذلك، فمعنى الآية وإذا قرب وقت إهلاك قرية. وقد نقلنا مثله عن صاحب الكشاف، ولا يخفى أنه عدول عن الظاهر. ثم ذكر عادته الجارية مع القرون الخالية فقال: وَكَمْ أَهْلَكْنا ف كَمْ مفعول أَهْلَكْنا ومِنَ الْقُرُونِ بيان لكم وتمييز له أراد بهم عادا وثمود ونحوهما. ثم خاطب رسوله بما هو ردع للناس كافة قائلا وَكَفى بِرَبِّكَ الآية. قال الفراء: إنما يجوز إدخال الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم كقولك «كفاك به» «وأكرم به رجلا» «وطاب بطعامك طعاما» ولا يقال: قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك. وفي الآية بشارة عظيمة لأهل الطاعة وإنذار شديد لغيرهم لأن العلم التام مع القدرة الكاملة والحكمة الشاملة يقتضي إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه. ثم أكد المعاني المذكورة من قوله: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ ومن قوله: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ بقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ أي المنفعة أو الدار العاجلة عَجَّلْنا لَهُ فِيها ثم قيد المعجل بقيدين: أحدهما قوله: ما نَشاءُ ولهذا ترى كثيرا من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضا منه. وثانيهما قوله: لِمَنْ نُرِيدُ وهو بدل من لَهُ بدل البعض من الكل لأن الضمير يرجع إلى «من» وهو للعموم، ولهذا ترى كثيرا منهم يتمنون البعض اليسير من الدنيا ولا يؤتون فيجتمع عليهم فقر الدنيا وحرمان الآخرة بل عذابها لقوله: ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 مَذْمُوماً مَدْحُوراً مطرودا من رحمة الله. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ بأن يعقد بها همته ويتجافى عن دار الغرور وَسَعى لَها سَعْيَها أي حق السعي لأجلها وذلك أن يكون العمل الذي يتوسل به إلى الفوز بثواب الآخرة من جملة القرب والطاعات وعلى قوانين الشرع والعقل لا البدعة والهوى وَهُوَ مُؤْمِنٌ لأن شيئا من صور الأعمال الصالحة لا يوجب الثواب إلا بعد تقديم الإيمان فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً قال العلماء: الشكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة: اعتقاد كونه محسنا في تلك الأعمال، والثناء عليه بالقول، والإتيان بأفعال تدل على كونه معظما عند ذلك الشاكر. والله سبحانه تعالى يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة لأنه يعلم كونهم محسنين في تلك الأعمال وأنه يثنى عليهم بكلامه ويعاملهم المعاملات الدالة على كونهم معظمين عند الله. وفي قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ دون أن يقول: «من أراد العاجلة» كما قال: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ إشارة إلى أن مريد نفع الدنيا لا يكون مذموما إلا إذا كان غالبا في ذلك ثابت القدم فسيح الأمل، ومريد الآخرة يكون محمودا بأدنى التفاتة بعد وجود الشرط. قالت الأشاعرة: إن مجموع القدرة مع الداعي هو الموجب للفعل ونحن نشكر الله على الإيمان لأنه أعطى القدرة والداعية، ولكنه حين حصل الإيمان للعبد واستتبع السعادات الباقية صار العبد أيضا مشكورا، ولا منافاة بين الأمرين. وقالت المعتزلة: نحن لا نشكر الله على الإيمان لأن المدح على عمل لم يعمله الممدوح قبيح. قال تعالى: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا ولكنا نشكره على ما أعطانا من القدرة والعقل وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل. واعلم أنه تعالى ذكر صنفين من الناس: قاصد خيرات الدنيا وقاصد خيرات الآخرة. وهاهنا ثلاثة أقسام أخر: الأوّل أن يكون طلب الآخرة في عمله راجحا فقيل إنه غير مقبول أيضا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حكاية عن رب العزة: «أنا أغنى الأغنياء عن الشكر من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه» وقيل: يعارض المثل بالمثل ويبقى القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فيقع في حيز القبول. الثاني أن يكون طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين. الثالث أن يكون طلب الدنيا راجحا. واتفقوا على أن هذين القسمين أيضا لا يقبلان إلا أنهما على كل حال خير من الرياء المحض. ثم بين كمال رأفته وشمول رحمته فقال: كُلًّا أي كل واحد من الفريقين نُمِدُّ أي نزيدهم من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع بالمعصية. وقوله: هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ بدل من كل ومِنْ عَطاءِ رَبِّكَ متعلق ب نُمِدُّ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ممنوعا من المكلف بسبب عصيانه انْظُرْ يا محمد أو يا من له أهلية النظر والاعتبار إلى عطائنا المباح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 للفريقين في الدنيا كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فأوصلناه إلى مؤمن وقبضناه عن مؤمن آخر، وأوصلناه إلى كافر وقبضناه عن كافر آخر ليكون بعضهم تحت تسخير بعض. وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا. وقيل: المراد أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرين يدخلون النار فيظهر فضل المؤمنين على الكافرين. وعن بعضهم: أيها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا، أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة وهي أكبر وأفضل؟!. التأويل: نزه نفسه بقوله: سُبْحانَ عن الاتحاد الكلي، ولكن أخبر عن مقام وصول حبيبه. فقوله: أَسْرى إشارة إلى الجذبة الخفية عن الأغيار، وقوله بِعَبْدِهِ إشارة إلى مقام تصحيح نسبة العبدية التي هي آخر مقامات السالكين، وقوله: لَيْلًا رمز إلى أن ذلك الجذب كاد يكون خفيا عن المجذوب إذا كان ذاهلا عن أنانيته. وقوله: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ هو مقام يحرم فيه الالتفات إلى ما سوى الله. إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى هو مقام الفناء في الله الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ بالبقاء بالله لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا التي لم تسمع أذن ولا أبصرت عين إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فلا يصل أحد إليه إلا إذا سمع به وأبصر به. هذا ما خطر ببال هذا الضعيف في تأويل هذه الآية فإن كان صوابا فمن فضل الله وعطائه، وإلا فمني ومن الشيطان فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ الجسدانية بالقتل وفك التركيب وخلال الديار المعنوية حين استولت الصفات الذميمة على الخصال الحميدة لتخريب بيت مقدس القلب ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ باستيلاء داود القلب وقتل جالوت النفس وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ الطاعات وَبَنِينَ الإيمان والإيقان فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ حين ارتد عن الطريقة لِيَسُوؤُا وجوه قلوبكم بحجب سوء أعمالكم وَإِنْ عُدْتُمْ إلى الجهل عُدْنا إلى الفضل، أو وإن عدتم إلى الندم عدنا إلى الكرم، أو إن عدتم إلى العبودية عدنا إلى الربوبية، أو إن عدتم إلى التقربات عدنا إلى الجذبات وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ البشرية ونهار الروحانية فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وهي قمر القلب فني في نور العقل حين تطلع شمس شهود الحق وهي آية النهار، فإذا طلع الصباح استغنى عن المصباح لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وهو تجلي ذاته وصفاته، وقد اختص الإنسان به من بين المخلوقات. وَلِتَعْلَمُوا أيام الطلب وحساب الترقي من مقام إلى مقام وكل شيء يحتاج إليه السالك بيناه بالإشارات مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ فيه أن قلب الإنسان بين أصبعي قهر الرحمن ولطفه وبحسب ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 يحوّل وجه إلى الدنيا حتى يؤل أمره إلى درجات البعد أو يحوّله إلى الآخرة حتى يصل إلى درجات الوصال والله المستعان على ما تصفون. [سورة الإسراء (17) : الآيات 22 الى 40] لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) القراآت: يبلغان مثنى: حمزة وعلي وخلف أُفٍّ بالجر والتنوين: أبو جعفر ونافع وحفص أف بالفتح: ابن كثير وابن ذكوان وابن عامر وسهل ويعقوب غير مجاهد والمفضل. والباقون بالكسر. تبصطها كل البصط مثل: بَصْطَةً خطأ بفتحتين من غير مد: يزيد وابن ذكوان غير ابن مجاهد خطأ بالفتح ثم السكون: ابن مجاهد عن ابن ذكوان خطاء بالكسر والمد: ابن كثير. الباقون بالكسر ثم السكون فلا تسرف على الخطاب: حمزة وعلي وخلف وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. بِالْقِسْطاسِ مكسور القاف حيث كان: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد والمفضل. وقرأ أبو نشيط والشموني غير النقاد بالصاد سَيِّئُهُ على إضافة سيء إلى ضمير كُلُّ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 حمزة وعلي وخلف وعاصم وابن عامر وسهل. الآخرون سيئة علم التأنيث. الوقوف: مَخْذُولًا هـ إِحْساناً، ط كَرِيماً هـ صَغِيراً، ط فِي نُفُوسِكُمْ ط غَفُوراً هـ تَبْذِيراً هـ الشَّياطِينِ ط كَفُوراً، مَيْسُوراً هـ مَحْسُوراً هـ وَيَقْدِرُ، ط بَصِيراً هـ إِمْلاقٍ ط وَإِيَّاكُمْ ط كَبِيراً هـ فاحِشَةً ط سَبِيلًا هـ إِلَّا بِالْحَقِّ ط لأن الشرط في أمر قد يقع نادرا خارجا عن النهي. فِي الْقَتْلِ ط مَنْصُوراً هـ أَشُدَّهُ ز بِالْعَهْدِ ج على تقدير فإن. مَسْؤُلًا هـ الْمُسْتَقِيمِ ط تَأْوِيلًا هـ بِهِ عِلْمٌ ط مَسْؤُلًا هـ مَرَحاً ج لاحتمال إضمار الفاء أو اللام طُولًا هـ مَكْرُوهاً هـ الْحِكْمَةِ ط مَدْحُوراً هـ إِناثاً ط عَظِيماً. التفسير: لما أجمل أعمال البر في قوله: وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ أخذ في تفصيل ذلك مبتدئا بأشرفها الذي هو التوحيد فقال: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر ولكنه في الحقيقة عام للمكلفين، ويحسن أن يقال: إن الخطاب للإنسان كأنه قيل: يا أيها الإنسان لا تجعل أو القول مضمر أي قل لكل مكلف لا تجعل ومما يؤيد ذلك قوله: وَقَضى رَبُّكَ فإن ذلك الخطاب لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم لأن أبويه ما بلغا الكبر عنده. وانتصب قوله: فَتَقْعُدَ على أنه جواب للنهي والفاء في التحقيق عاطفة والتقدير: لا يكن منك جعل فقعود. وفيه وجوه منها. أن المراد به المكث يقال: ما يصنع فلان فيقال هو قاعد بأسوأ حال أي ماكث سواء كان قائما أو جالسا. ومنها أن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادما متفكرا على ما فرط منه، فالقعود على هذا حقيقة. ومنها أنه كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات فإن السعي فيه إنما يتأتى بالقيام والعجز عنه يلزمه أن يبقى قاعدا عن الطلب. ومنه أنه بمعنى الصيرورة من قولهم: «شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة» بمعنى صارت. ولا ريب أن المشرك جامع على نفسه الذم والخذلان لأنه بشركه يضيف بعض النعم الحاصلة في حقه من الله إلى غيره فيستوجب الذم بالكفران ويستحق الخذلان من حيث إنه لما فوض أمره إلى الشريك المعدوم أو العاجز الناقص بقي بلا ناصر ومعين. وأيضا الكمال في الوحدة والنقصان في الكثرة، فمثبت الشريك واقع في جانب النقصان فيورثه الذم والخذلان. ولما ذكر ما هو الركن الأعظم في الإيمان أتبعه سائر الشعائر والشرائع فقال: وَقَضى رَبُّكَ أي أمر أمرا جزما وحكم حكما قطعا أَلَّا تَعْبُدُوا أي بأن لا تعبدوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 ف «أن» ناصبة ويجوز أن تكون مفسرة، والفعل النهي معناه أي لا يعبدوا. وقد روى الضحاك وسعيد بن جبير وميمون بن مهران عن ابن عباس أنه كان الأصل في هذه الآية «ووصى ربك» وبه قرأ علي وعبد الله فالتصقت الواو بالصاد فقرىء: وَقَضى رَبُّكَ ثم قال: ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط لأن خلاف قضاء الله ممتنع. وضعف هذا القول بأنه يوجب تجويز وقوع التحريف والتصحيف في القرآن. أمر بعبادة نفسه ثم أردفه بالأمر ببر الوالدين وتقدير الكلام بأن تحسنوا بالوالدين أو وأحسنوا بالوالدين إحسانا، ولا يجوز أن يتعلق الباء في بِالْوالِدَيْنِ بالإحسان على ما ذهب إليه الواحد، لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته وقد مر في أوائل البقرة تفسير قوله: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وأنه لم يجعل الإحسان إليهما تاليا لعبادة الله. يحكى أن واحدا من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول: هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للفقر والعمى والزمانة. وقيل لأبي العلاء المعري: ماذا نكتب على قبرك؟ قال: اكتبوا عليه: هذا ما جناه أبي علي ... وما جنيت على أحد وقال في ترك التزوج والولد: وتركت فيهم نعمة العدم التي ... سبقت وصدّت عن نعيم العاجل ولو أنهم ولدوا لعانوا شدة ... ترمى بهم في موبقات الآجل وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم منّة عليك أم والدك؟ فقال: الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعلمي حتى أرتعني في نور العلم، فأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد. ومن هنا قيل: «خير الآباء من علمك» . وقال العقلاء: وهب أن الوالد في أول الأمر طلب لذة الوقاع إلا أن اهتمامه بإيصال الخيرات إلى الولد ودفع الآفات عنه من أول دخول الولد في الوجود إلى أوان كبره بل إلى آخر عمره لا ينكر ولا يكفر، ولهذا نكر إِحْساناً أي أحسنوا إليهما إحسانا عظيما كاملا جزاء على وفور إحسانهما إليك، على أن البادئ بالبر لا يكافأ لأنه أسبق منه. ثم فصل طرفا من الإحسان المأمور به فقال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ هي «إن» الشرطية زيدت عليها «ما» الإبهامية لتأكيد معنى الشرط، ثم أدخلت النون المشددة لزيادة التقرير والتأكيد كأنه قيل: إن هذا الشرط مما سيقع البتة عادة فليكن هذا الجزاء مرتبا عليه وإلا فالتقرير والتأكيد ليس يليق بالشرط الذي مبناه على تردد الحكم. وقال النحويون: إن الشرط أشبه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 النهي من حيث الجزم وعدم الثبوت فلهذا صح دخول النون المؤكدة فيه. من قرأ الفعل على التوحيد فقوله: أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فاعل له لكن الأول بالاستقلال والثاني بتبعية العطف، ومن قرأ على التنبيه فأحدهما يدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين، وكلاهما عطف على البدل فهو بدل مثله. ولا يصح أن يكون توكيد للضمير معطوفا على البدل لاستلزام العطف المشاركة دون المباينة. أَوْ كِلاهُما مفرد لفظا مثنى معنى، وألفه عن واو عند الكوفيين وأصله كل المفيد للإحاطة فخفف بحذف إحدى اللامين وزيد ألف التثنية ليعرف أن المراد الإحاطة في المثنى لا في الجمع. وضعف بأنه لو كان كذلك لوجب أن يقال في الخفض والنصب «مررت بكلي الرجلين» بكسر الياء كقوله طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: 114] يا صاحِبَيِ السِّجْنِ [يوسف: 41] قال في الكشاف: معنى عِنْدَكَ هو أن يكبرا ويعجزا وكانا كلا على ولدهما لا كافل لهما غيره فهما عنده في بيته وكنفه. وفي أُفٍّ لغات: ضم الهمزة مع الحركات في الفاء الثلاث بالتنوين وبدونه. وأف بكسرتين بلا تنوين. وأ في ممالا كبشرى، وأف كخذ، وأفة منونة وغير ممنونة وقد تتبع المنونة تفة فيقال: أفة وتفة وهي من أسماء الأفعال. وفي تفسيرها وجوه: قال الفراء: تقول العرب فلان يتأفف من ريح وجدها أي يقول: أف أف. وقال الأصمعي: الأف وسخ الأذن، والتف وسخ الأظفار. يقال ذلك عند استقذار الشيء ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به. وقيل: معنى «أف» القلة من الأفيف وهو الشيء القليل، وتف اتباع له نحو شيطان ليطان وحيث بيث وخبيث نبيث. وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أن الأف الضجر. وقال القتيبي: أصله أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله، فالصوت الحاص عند تلك النفخة هو القائل أف، ثم توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم، قال الزجاج: معناه النتن وبه فسر مجاهد الآية أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك حين كنت تخر أو تبول. وفي رواية أخرى عن مجاهد: إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أف أي لا تقل تضجرت أو أتضجر. قال بعض الأصوليين: منع التأفيف يدل على المنع من سائر أنواع الأذية دلالة لفظية. ومعنى الآية لا تتعرض لهما بنوع من أنواع الإيذاء والإيحاش كما أن قولك لا يملك فلان نقيرا ولا قطميرا يدل في العرف على أنه لا يملك شيئا أصلا. وقال الأكثرون منهم: إن الشرع إذا نص على حكم صورة وسكت عن صورة أخرى، فإذا أردنا إلحاق المسكوت عنها بالمنصوص عليها فإما أن يكون الحكم في محل السكوت أخفى من الحكم في محل الذكر وهو أكثر القياسات، وإما أن يتساويا كقوله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 «من أعتق نصيبا من عبد حرم عليه الباقي» فإن الحكم في الأمة والعبد يتساويان. وإما أن يكون الحكم في محل المسكوت أظهر وهو القياس الجلي ومثاله المنع من التأفيف فإنه مغاير للمنع من الضرب عقلا، لأن الملك الكبير إذا أخذ ملكا آخر عدوا له فقد يقول للجلاد إياك وأن تستخف به أو تشافهه بكلمة موحشة لكن اضرب رقبته. فهذا معقول في الجملة إلا أن قرينة تعظيم الوالدين صيره من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى، فدل على المنع من جميع أنواع الإيذاء. ثم أكد هذا المعنى بقوله: وَلا تَنْهَرْهُما والنهر والنهي أخوان يقال: نهره وانتهره وإذا استقبله بكلام يزجره. وَقُلْ لَهُما بدل التأفيف والنهر قَوْلًا كَرِيماً جميلا مشتملا على حسن الأدب ورعاية دقائق المروة والحياء والاحتشام. وقال عمر بن الخطاب القول الكريم أن يقول له: «يا أبتاه» «يا أماه» دون أن يسميهما باسمهما. وقول إبراهيم لأبيه آزر بالضم على النداء، تقديم لحق الله على حق الأبوين. قالوا: ولا بأس به في الغيبة كما قالت عائشة: نحلني أبو بكر كذا، أو سئل سعيد بن المسيب عن القول الكريم فقال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظ وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ ذكر القفال في معنى خفض الجناح وجهين: الأول أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحيه فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير فكأنه قال للولد: اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك في حال صغرك. والثاني أن الطائر أذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد النزول خفض جناحه، فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع وترك الارتفاع. وفي إضافة الجناح إلى الذل وجهان: الأول أنها كإضافة حاتم إلى الجود في قولك: «حاتم الجود» فالأصل فيه الجناح الذليل أو الذلول. والثاني سلوك سبيل الاستعارة كأنه تخيل للذل جناحا ثم أثبت لذلك الجناح خفضا كقول لبيد: إذ أصبحت بيد الشمال زمامها. فأثبت للشمال يدا ثم وضع زمام الريح في يد الشمال. وقوله: مِنَ الرَّحْمَةِ في «من» معنى التعليل أي من أجل فرط الشفقة والعطف عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها وَلكن قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي ليس المراد رحمة مثل رحمتهما عليّ. وأما الكاف فلاقتران الشيئين في الوجود أي كما وقع تلك فتقع هذه. والتربية التنمية ربا الشيء إذا انتفخ وزاد. قال بعض المفسرين: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] وقيل: مخصوصة لأن التخصيص أولى من النسخ، وقيل: لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو الله لهما بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 لهما بعد حصول الإيمان. ثم إن ظاهر الأمر للوجوب من غير تكرار فيكفي في العمر مرة واحدة رَبِّ ارْحَمْهُما وسئل سفيان كم يدعو الإنسان لوالديه أفي كل يوم مرة أو في كل شهر أو في كل سنة؟ فقال: نرجو أن يجزيه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات كما أن الله تعالى قد قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الأحزاب: 56] . وكانوا يرون الصلاة عليه في التشهد. وكما قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة: 203] فهم يذكرون في أدبار الصلاة. قلت: ويشبه أن يدعو لهما أيضا كلما ذكرهما أو ذكر شيئا من إنعامهما. وسئل أيضا عن الصدقة عن الميت فقال: كل ذلك واصل إليه ولا شيء أنفع له من الاستغفار، ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الأبوين، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما» «1» وروى سعيد بن المسيب أن البارّ لا يموت ميتة سوء. وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبويّ بلغا من الكبر أنّى، ألي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما؟ قال: لا، فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما. وشكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه وأنه يأخذ ماله فدعا به فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال: إنه كان ضعيفا وأنا قوي، وفقيرا وأنا غني، فكنت لا أمنعه شيئا من مالي. واليوم أنا ضعيف وهو قوي، وأنا فقير وهو غني ويبخل عليّ بماله، فبكى صلى الله عليه وسلم وقال: ما من حجر ولا مدر يسمع ذلك إلا بكى، ثم قال للولد: أنت ومالك لأبيك. مرتين. وشكا إليه آخر سوء خلق أمه فقال: لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر. قال: إنها سيئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين. قال: إنها سيئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها وأظمأت نهارها. قال: لقد جازيتها. قال: ما فعلت؟ قال: حججت بها على عاتقي. قال: ما جازيتها. وقال الفقهاء: لا يذهب بأبيه إلى البيعة وإذا بعث إليه واحد منهما ليحمله فعل، ولا يناوله الخمر ويأخذ الإناء منه إذا شرب بها. ثم قال سبحانه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قاصدين الصلاح والبر إلى الوالدين ثم فرطت منكم بادرة في حقهما فأنبتم إلى الله واستغفرتم منها وفَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً اللام للعهد كما روي عن سعيد بن جبير هي في البادرة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلا الخير، أو للجنس فيشمل كل من فرطت منه جناية ثم تاب منها، ويندرج تحته   (1) رواه الترمذي في كتاب البر باب 3 بلفظ « .... وسخط الرب في سخط الوالد» . [ ..... ] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 عن أبي علي الجانويه النائب من جنايته لوروده على أثره. ثم وصى بغير الأبوين من الأقارب بعد التوصية بهما فقال: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ قيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يؤتى أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء والغنيمة، وأوجب عليه إخراج حق المساكين وأبناء السبيل أيضا من هذين المالين. والأظهر أنه خطاب لكل إنسان كل في قوله: وَقَضى رَبُّكَ وأما الحق المأمور به للأقارب فهو إذا كانوا محارم كالأبوين والولد وكانوا فقراء عاجزين عن الكسب وكان الرجل موسرا أن ينفق عليهم بقدر الحاجة. وعند الشافعي: لا ينفق إلا على الولد والوالدين وإن كانوا مياسير ولم يكونوا محارم كأبناء العم فحقهم صلتهم بالمودة والزيارة وحسن المعاشرة على السراء والضراء. وفي عطف المسكين وابن السبيل على ذي القربى دليل على أن المراد بالحق الحق المالي، وقد تقدم وصف المسكين وابن السبيل في «البقرة» وفي «التوبة» . ثم نهى عن التبذير وهو تفريق المال كما يفرق البذر وهو الإسراف المذموم. كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها وتنفق أموالها في الفخر والسمعة كما ذكروا ذلك في أشعارها فنهوا عن ذلك وأمروا بالإنفاق فيما يقرب إلى الله. قال ابن مسعود: التبذير إنفاق المال في غير حقه. وعن مجاهد: لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا. ثم بالغ في تفظيع شأن التبذير قائلا: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي أمثالهم في الشرارة وأصدقاءهم من حيث إنهم يطيعونهم في الأمر بالإسراف، أوهم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً لأنه يستعمل قواه البدنية في المعاصي والإفساد والإضلال، وكذلك من رزقه الله مالا أو جاها فصرفه إلى غير مرضاة الله كان كفورا لنعمة الله. ثم علم أدبا حسنا في رد السائل إن أفضى الأمر إلى ذلك ضرورة فقال: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ سئل شيئا وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء. والقول الميسور الرد بالطريق الأحسن. وقيل: اللين السهل. قال الكسائي: يسرت أيسر له القول أي لينته. وقيل: القول المعروف كقوله: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ [البقرة: 263] وذلك أن القول المتعارف لا يحتاج إلى تكلف. وقيل: ادع لهم بأن يسهل الله عليهم أسباب الرزق أي دعاء فيه يسرة. قال جار الله قوله: ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ أما أن يتعلق بجواب الشرط متقدما عليه أي فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا ابتغاء رحمة من الله تَرْجُوها بسبب رحمتك عليهم، وإما أن يتعلق بالشرط أي وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك فردهم ردا جميلا، فسمى الرزق رحمة وضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له. فالفقد سبب الابتغاء فأطلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 المسبب على السبب وجوز أن يكون الإعراض كناية عن عدم الإعطاء، فإن من أبى أن يعطى أعرض بوجهه، ولما ذكر أدب المنع ونهى عن التبذير صرح بأدب الإنفاق فقال: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وهو مثل لغاية الإمساك بحيث يضيق على نفسه وأهله في سلوك سبيل الإنفاق وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ أي لا توسع في الإنفاق بحيث لا يبقى في يدك شيء. وحين نهى عن طرفي التفريط والإفراط المذمومين بقي الخلق الفاضل المسمى بالجود وهو العدل والوسط، ثم بين غاية استعمال الطرفين قائلا: فَتَقْعُدَ مَلُوماً عند الناس بالبخل مَحْسُوراً بالإسراف أي منقطعا عن المقاصد بسبب الفقر. فقير محسور منقطع عن السير. ولا شك أن المال مطية الحوائج والآمال وكثيرا ما يلام الرجل على تضييع المال بالكلية وإبقاء الأهل والولد في الضر والمحنة. وعن جابر: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس أتاه صبي فقال: إن أمي تستكسيك درعا فقال صلى الله عليه وسلم: من ساعة إلى ساعة يظهر فعد إلينا. فذهب إلى أمه فقالت له: قل إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك. فدخل داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا وأذن بلال وانتظروا فلم يخرج للصلاة فنزلت الآية. وقيل: أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن فجاء عباس بن مرداس وأنشأ يقول: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع. وما كان حصن ولا حابس، يفوقان مرادس في مجمع وما كنت دون امرئ منهما، ومن تضع اليوم لا يرفع. فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر اقطع لسانه عني أعطه مائة من الإبل فنزلت. ثم إنه تعالى سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن الذي يرهقه من الإضافة ليس لهوان منه على الله ولا لبخل به عليه ولكنه تابع لمشيئة الخالق الرازق فقال: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي يضيق إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ وبمصالحهم خَبِيراً بَصِيراً فالتفاوت في الأرزاق ليس لأجل البخل ولكن لرعاية الصلاح. ويمكن أن يكون مراد الآية أن البسط الكلي والقبض الكلي من شأن الرب الخبير والبصير وليس للعباد الاقتصاد. ويحتمل أن يراد أنه تعالى مع غاية قدرته وسعة جوده يراعي أوسط الحالين. فلا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده ولا بالمقبوض عليه أقصى مكروهه، فاستنوا بسنته وتخلقوا بأخلاقه. وفي الآية دلالة على أنه هو المتكفل بأرزاق العباد فلذلك قال بعده: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ وأيضا لما علم كيفية البر بالوالدين أراد أن يعلم كيفية البر بالأولاد، فبر الآباء مكافأة وبر الأبناء ابتداء اصطناع. وفيه نظام العالم وبقاء النوع الإنساني لأن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو لسوء الظن بالله، وإن كان لأجل الغيرة على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 البنات فهو سعي في تخريب العالم. والأول ضد التعظيم لأمر الله والثاني ضد الشفقة على خلق الله، ومن رغب عن محبة الولد فكأنه رغب عن جزئه قال: ولد المرء منه جزء وما حا ... ل امرئ يودع الثرى منه جزءا وكانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن الكسب وقدرة البنين عليه بسبب إقدامهم على القتل والغارة. وأيضا كانوا يخافون أن فقرها ينفر أكفاءها فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء وفي ذلك عار شديد، فبين الله سبحانه أن الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولدا فلهذا قال: أَوْلادَكُمْ وبين أن الخوف من الفقر لا وجه له لأن الله هو الرزاق للكل، وكثيرا ما يكون لابن أخرق من البنت بعد البلوغ، وكلا الصنفين يشتركان في الإنفاق عليهما قبل البلوغ. ولما نهى عن قتل الأولاد المستدعي لإفناء النسل ذكر النهي عن الزنا المفضي إلى مثل ذلك ولا أقل من اختلاط النسب فقال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى وهذا آكد من أن يقال «لا تزنوا» ثم علل النهي بقوله: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي خصلة متزايدة في القبح وَساءَ سَبِيلًا سبيله فاستدل القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين بهذا التعليل في الأشياء لا تحسن ولا تقبح لذواتها بل لوجوه عائدة إليها في أنفسها، وأن تكاليف العباد واقعة على وفق مصالحهم في المعاش والمعاد. ومن مفاسد الزنا اختلاط الأنساب وتضييع الأولاد وإهمال تربيتهم؟ فإن الولد إذا لم يكن منسوبا إلى شخص معين لم يكن أحد بالتزام تربيته أولى من الآخرة كذا المرأة التي ولدته إذا لم يوجد سبب شرعي للزاني صارت هي به أولى بالرجل فلا يحصل الألف والمحبة، ولا يتم السكون والازدواج. ويتواثب كل رجل على كل امرأة أراد بحسب شهوته ومقتضى طبعه، فتهيج بالفسوق الحروب بعد التشبه بالبهائم. وأيضا ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة ولكن المقصود الكلي هو أن تكون شريكة له في ترتيب المنزل وإعداد مهماته والقيام بأمور الأولاد والعبيد، ولن تتم هذه المقاصد إلا إذا كانت مقصورة الهمة على رجل واحد منقطعة الطمع عن غيره. وأيضا الوطء يوجب الذل والعار ولهذا لا يرتكب إلا في الأماكن المستورة وفي الأوقات المعلومة. فاقتصار المرأة على الواحد من الرجال سعي في تقليل ذلك العمل، وكفى في قبح الزنا مرتكبه من الرجال والنساء يستقذره كل عقل سليم وينحط بذلك عن درجة الاعتبار. وقد زعم في التفسير الكبير أنه تعالى وصف الزنا في آية أخرى بكونه مقتا لأن الزانية تصير ممقوتة مكروهة وهو وهم، لأن ذلك قد ورد في أول سورة النساء في نكاح منكوحات الأب قال: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً [النساء: 22] . وإنما نبهناك عليه لئلا يقتدي به غيره في السهو. ولما فرغ من التكليف بالاحتياط في مبدأ حال الإنسان شرع بالتكليف بالاحتياط في آخر عمره فقال: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وفي التصريح بالتحريم بعد النهي تأكيد للخطر. ولا ريب أن الأصل في قتل الإنسان هو التحريم لأنه ضرر، والأصل في المضار الحرمة، ولأن الإنسان خلق للاشتغال بالعبادة وإنه لا يتم إلا بالحياة وكمال البنية، ولكن الحل إنما يثبت لأسباب عرضية فلهذا قال: إِلَّا بِالْحَقِّ وهذا بحمل فبين ذلك الحق بقوله: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً أي تسلطا على استيفاء القصاص. فظاهر الآية دل على أنه لا سبب لحل القتل إلا إذا قتل مظلوما، وظاهر قوله عليه السلام «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق» «1» . يقتضي ضم شيئين آخرين إليه فرعا على القول بتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. ويحتمل أن يقال قوله: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً. كلام مستأنف، والحديث بتمامه تفسير لقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ فلا يلزم التفريع المذكور. ثم إنه دلت آية أخرى على حصول سبب رابع هو قوله: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة: 33] وآية أخرى على سبب خامس وهو الكفر الأصلي: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة: 191] هذا وقد أبدى الفقهاء أسبابا أخر منها: أن تارك الصلاة يقتل عند الشافعي دون أبي حنيفة، وكذا اللائط. ومنها الساحر إذا قال: قتلت فلانا بسحري. وجوز بعضهم قتل من يمنع الزكاة أو يأتي البهيمة، والذين منعوا القتل في هذه الصور قالوا: الأصل حرمة القتل كما بيناه فلا يترك هذا الدليل إلا لمعارض أقوى لا أقل من المساوي وهو النص المتواتر. ثم إنه سبحانه أثبت لوليّ الدم سلطانا. ولم يبين أن هذه السلطنة تحصل فيما ذا فقيل: إنه قال: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ عرف أن تلك السلطنة إنما تحصل في استيفاء القتل. وقيل: معنى قوله: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص وسلطنة استيفاء الدية بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى إلى قوله: فَمَنْ عُفِيَ [البقرة: 178] الآية. فالأولى به أن لا يقدم على استيفاء القتل   (1) رواه البخاري في كتاب الديات باب 6. مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15. النسائي في كتاب التحريم باب 5، 11. الدارمي في كتاب السير باب 11. أحمد في مسنده (1/ 61) (6/ 181) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 وأن يكتفي بالعفو وأخذ الدية، فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسك بها في مسألة أن موجب العمد هو القصاص. وعن الشافعي أن التنوين في قوله: مَظْلُوماً للتنكير فيدل على أن المقتول ما لم يكن كاملا في وصف المظلومية لم يدخل تحت هذا النص، فيعلم منه أن المسلم لا يقتل بالذمي لأن الذمي مشرك فإن ذنبه غير مغفور كالمشرك، ولأن النصارى قائلون بالتثليث وقد قال تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] فثبت أن الذمي غير كامل في المظلومية فلا يندرج في الآية. وأيضا ليس فيها دلالة على أن الحر يقتل بالعبد لأنها وإن كانت عامة إلا أن قوله الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ [البقرة: 178] خاص والخاص مقدم على العام. من قرأ فلا تسرف بالتاء الفوقانية فعلى خطاب الولي أو قاتل المظلوم، ومن قرأ على الغيبة فالضمير للولي أي فلا يقتل غير القاتل ولا اثنين والقاتل واحد كعادة الجاهلية. وعن مجاهد أن الضمير الأول للقاتل، أما الضمير في قوله: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً فإما للولي أي حسبه أن الله قد نصره بإيجاب القصاص فلا يستزاد عليه، أو نصره بمعونة السلطان والمؤمنين فلا يتبع ما وراء حقه، وإما للمظلوم فإن الله نصره في الدنيا بإيجاب القصاص على قاتله، وفي الآخرة بإعطاء الثواب. وأما الذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف. ولما ذكر النهي عن إتلاف النفوس في المبادئ وفيما وراءها أتبعه النهي عن إتلاف الأموال وكان أهمها بالحفظ والرعاية مال اليتيم فقال: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي بالطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ وهي تثميره وإنماؤه. وروى مجاهد عن ابن عباس: إذا احتاج الولي أكل بالمعروف فإذا أيسر قضاه وإن لم يوسر فلا شيء عليه ويتصرف الولي في مال اليتيم على الوجه المذكور حَتَّى يَبْلُغَ اليتيم أَشُدَّهُ بأن تكمل قواه العقلية والحسية كما مر في آخر «الأنعام» وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ يتناول كل عهد جري بين إنسانين على وفق الشرع وقانونه في المعاملات والمناكحات وغيرها إلا إذا دلّ دليل خاص على ضده. إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أي مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به، أو هو على حذف المضاف والمراد أن صاحب العهد مسؤول أو هو تخييل كأنه يقال للعهد: لم نكثت تبكيتا للناكث كقوله: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ [التكوير: 8] ثم أمر بإيفاء الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن. والقسطاس بضم القاف وكسرها هو القبان المسمى بالقرسطون. وقيل: كل ميزان صغير أو كبير والأصح أنه لغة العرب من القسط النصيب المعدل، وقيل رومي أو سرياني ذلِكَ الإيفاء والوزن المعدل خَيْرٌ من التطفيف وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا عاقبة من آل إذا رجع. أما في الدنيا فلانة إذا اشتهر بالاحتراز عن الخيانة مالت القلوب إليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 وعول الناس عليه فينفتح عليه أبواب المعاملات، وأما في الآخرة فظاهر. وقال الحكيم: إن نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد عليه شديد والعار فيه عظيم فيجب على العاقل أن يحترز عنه. ثم أمر بإصلاح اللسان والقلب فقال: وَلا تَقْفُ أي لا تتبع من قولك «قفوت فلانا» أي اتبعت أثره ومنه قافية الشعر لأنها تقفو كل بيت، والقبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس ويستدلون بها على أحوالهم في النسب. والمراد النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم له به، وهذه قضية كلية ولكن المفسرين حملوها على صور مخصوصة فقيل: نهى المشركين عن تقليد أسلافهم في الإلهيات والنبوات والتحليل والتحريم والمعاد كقوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم: 23] هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الأنعام: 148] وعن محمد بن الحنيفة: المراد شهادة الزور. ومثله عن ابن عباس: لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك. وقيل: أراد النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكاذيب. وكانت عادة العرب جارية بذلك يذكرونها في الهجاء ويبالغون فيه. وقال قتادة: معناه لا تقل سمعت ورأيت وعلمت ولم تسمع ولم تر ولم تعلم. وقيل: القفو هو البهت وهو في معنى الغيبة لأنه قول يقال في قفاه ومنه الحديث: «من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج» «1» أي يتوب. وردغة الخبال بفتح الدال وسكونها هي غسالة أهل النار من القيح والصديد. احتج نفاة القياس بالآية زعما منهم أن الحكم في دين الله بالقياس حكم بغير المعلوم. وأجيب بأن العلم قد يراد به الظن قال تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة: 10] ولا ريب أنه إنما يمكن العلم بإيمانهن بناء على إقرارهن، وإنه لا يفيد إلا الظن. سلمنا لكن الظن وقع في الطريق لأن الشرع قد أقام الظن الغالب مقام العلم وأمر بالعمل به، وزيف بأنه لا دليل قاطعا على وجوب العمل بالظن الغالب لأن ذلك الدليل ليس عقليا بالاتفاق، ولا نقليا لأنه إنما يكون قطعيا لو كان منقولا نقلا متواترا وكانت دلالته على ثبوت هذا الطلب دلالة قطعية غير محتملة للنقيض، ولو حصل مثل هذا الدليل لوصل إلى الكل ولم يبق خلاف، ونوقض بأن الدليل الذي عولتم عليه- وهو هذه الآية- تمسك بعام مخصوص للاتفاق على أن العمل بالشهادة عمل بالظن وهو جائز. وكذا الاجتهاد في القبلة وفي قيم المتلفات وأروش الجنايات، وكذا الفصد   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 82) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 والحجامة وسائر المعالجات، وكذا الحكم بكون الشخص المعين كالذبائح مؤمنا لتحل ذبيحته، أو الوارث لحصول التوارث، أو الميت ليدفن في مقابر المسلمين. وبالحقيقة أكثر الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المعينة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة. وقال صلى الله عليه وسلم: نحن نحكم بالظاهر. والتمسك بالعام المخصوص لا يفيد إلا الظن. فلو دلت هذه الآية على أن التمسك بالظن غير جائز لزم أن لا يجوز التمسك بهذه الآية، وكل ما يفضي ثبوته إلى نفيه يسقط الاستدلال به. وأجيب بأنا نعلم بالتواتر الظاهر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن التمسك بآيات القرآن جائز. ورد بأن كون العالم المخصص حجة غير معلوم بالتواتر، ثم علل النهي بقوله: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ إشارة إلى الأعضاء الثلاثة وإن لم تكن من ذوات العقول كقوله: والعيش بعد أولئك الأيام. كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا قال في الكشاف: عَنْهُ في موضع الرفع بالفاعلية مثل غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] وفيه نظر لأن المسند إليه الفعل أو شبهه لا يتقدم عليه. والصواب أن يقال: إنه فاعل مَسْؤُلًا المحذوف والثاني مفسر له. وكيف يسأل عن هذه الجوارح؟ قيل: يسأل صاحبها عما استعملها فيه لأنها آلات والمستعمل لها هو الروح الإنساني، فإن استعملها في الخيرات استحق الثواب وإلا فالعقاب. وقيل: إنه تعالى ينطق الأعضاء ثم يسألها عن أفعالها. وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً نصب على الحال مع أنه مصدر أي ذا مرح وهو شدة الفرح. وفي وضع المصدر موضع الصفة نوع من التأكيد مثل «أتاني ركضا» ونهي عن مشية أهل الخيلاء والكبر. إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ لن تثقبها بشدة وطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول، أو تمييز، أو مفعول له، أو مصدر من معنى تبلغ. بيّن ضعف الآدمي بأنه في حال انخفاضه لا يقدر على خرق الأرض، وحال ارتفاعه لا يقدر على الوصول إلى رؤوس الجبال، فلا يليق به أن يتكبر. وبوجه آخر كأنه قيل له: إنك خلق ضعيف محصور بين حجارة من فوقك وتراب من تحتك، فلا تفعل فعل المقتدر القوي. وقيل: إنه مثل ومعناه: كما أنك لن تخرق الأرض في مشيتك ولن تبلغ الجبال طولا فكذلك لا تبلغ ما أردت بكبرك وعجبك وفيه يأس للإنسان من بلوغ إرادته. كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ من قرأ بالإضافة فظاهر لأن المذكور من قوله: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ بعضها أحسن وهو المأمورات وبعضها سيىء وهو المنهيات، فالمعنى أن ما كان من تلك الأشياء سيئا فإنه مكروه عند الله. ويمكن أن يراد بسيىء تلك الخصال طرف الإفراط أو التفريط. ومن قرأ سَيِّئُهُ على التأنيث فقوله: كُلُّ ذلِكَ إشارة إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 المنهيات خاصة. وقيل: إن الكلام قد تم عند قوله: وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وقوله: كُلُّ ذلِكَ إشارة إلى ما نهى عنه في قوله: وَلا تَقْفُ وَلا تَمْشِ وإنما قال: سيئة على التأنيث مع قوله: مَكْرُوهاً على التذكير لأنه جعل السيئة في معنى الذنب والإثم. قالت المعتزلة: الكراهة نقض الإرادة ففي الآية دلالة على أن المنهيات لا تكون مرادة لله تعالى لأنها مكروهة عنده. وإذا لم تكن مرادة لم تكن مخلوقة له لأن الخلق بدون الإرادة محال. أجابت الأشاعرة بأن المراد من كراهتها كونها منهيا عنها، وزيف بأنه عدول عن الظاهر مع لزوم التكرار لأن كونها سيئة يدل على كونها منهية. وأجيب بأنه لا بأس بالتكرار لأجل التأكيد ذلِكَ الذي ذكر من قوله: لا تَجْعَلْ إلى هذه الغاية وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفا مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ سمي حكمة لأنه كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه. روي عن ابن عباس أنها كانت في ألواح موسى عليه السلام. وباصطلاح الحكماء أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به. لا ريب أن الأمر بالتوحيد رأس الحكمة النظرية وسائر التكاليف مشتملة على أصول مكارم الأخلاق وهي الحكمة العملية، ولقد جعل الله سبحانه فاتحة هذه التكاليف النهي عن الشرك وكذا خاتمتها لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها، ومن فقده لم ينفعه شيء من العلوم وإن بذ فيها الأقران والأكفاء وحك بيافوخه السماء. وقد راعى في هذا التكرار دقيقة فرتب على الأول كونه مذموما مخذولا وذلك إشارة إلى حال المشرك في الدنيا، ورتب على الثاني أنه يلقى في جهنم ملوما مدحورا وأنها حاله في الآخرة. وفي القعود هناك والإلقاء هاهنا إشارة إلى أن للإنسان في الدنيا صورة اختيار بخلاف الآخرة والله أعلم بمراده. وقد يفرق بين الذم واللوم فيقال: الذم هو أن يذكر أن الفعل الذي قدم عليه قبيح منكر، واللوم هو أن يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل وما الذي حملك عليه وما استفدت من هذا العمل إلّا إلحاق الضرر بنفسك. ويفرق بين المخذول والمدحور بأن المخذول عبارة عن الضعيف يقال: تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت. والمدحور والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة. ثم أنكر على المشركين القائلين بأن الملائكة بنات الله فقال: أَفَأَصْفاكُمْ أي أفخصكم رَبُّكُمْ على وجه الخلوص والصفاء بِالْبَنِينَ الذين هم أفضل الأولاد وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ أولادا إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً بإضافة الأولاد إلى من لا يصح له الولد لقدمه وتنزهه عن صفات الأجسام، ثم بأنكم تفضلون عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون وهذا خلاف معقولكم وعادتكم فإن العبيد لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 يؤثرون بالأجود والأصفى والسادة بالأدون والأردإ، ثم بجعلكم الملائكة الذين هم أعلى خلق الله على الإطلاق أو التقييد على المذهبين أخس الصنفين وهو الإناث. التأويل: خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ليقطع تعلقه عن الكونين من بين الثقلين فقال: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ من الدنيا والآخرة، ثم شرف أمته بتبعيته قائلا: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وإنما قال: رَبُّكَ لأنه أصل في التربية والأمة تبع له، فمن حكم في الأزل أنه لا يعبد غير الله لم يعبد غير الله وَبِالْوالِدَيْنِ والد الروح ووالدة البدن. والإحسان بهما أن يراقبهما في العبودية ليعبد الله كأنهما يريانه إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ يخاطب القلب ويوصيه بأن يواسي والد الروح عند كبره وهو بلوغه أعلى مراتب القرب وعجزه عند سطوات تجلي صفات الألوهية، ويداري والدة البدن حينئذ فلا يستعملها عند العجز وَلا تَنْهَرْهُما عند الاستراحة وأرفق بهما عند استعمالهما في العبودية ولا تتكبر عليهما فإنك أخذت التربية منهما لأن القلب طفل تولد بازدواج الروح والبدن، وقد وجد التربية منهما صورة ومعنى إلى أن صار قابلا للتجلي والخلافة رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من الاستعداد إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ مستعدين للخلافة فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ الراجعين من أنانيته إلى هويته دون من كان مقيدا بنفسه غَفُوراً سائرا بأنوار جماله. ثم أخبر عن آداب الخلافة قائلا وَآتِ ذَا الْقُرْبى وهو النفس حقه فإن لنفسك عليك حقا من غير إسراف وتقتير. [سورة الإسراء (17) : الآيات 41 الى 60] وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 القراآت: لِيَذَّكَّرُوا من الذكر وكذلك في «الفرقان» : حمزة وعلي وخلف. الآخرون بتشديد الذال والكاف من التذكر. كَما يَقُولُونَ على الغيبة: ابن كثير وحفص عما تقولون على الخطاب: حمزة وعلي وخلف. تُسَبِّحُ بتاء التأنيث: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد والمفضل والخزاز عن هبيرة. الآخرون على التذكير أَإِذا أَإِنَّا القول فيه كما مر في «الرعد» وكذلك في آخر هذه السورة وفي سورة «قد أفلح» وفي سورة السجدة. الوقوف: لِيَذَّكَّرُوا ط نُفُوراً هـ سَبِيلًا هـ كَبِيراً هـ فِيهِنَّ ط تَسْبِيحَهُمْ ط غَفُوراً هـ مَسْتُوراً لا للعطف وَقْراً ط نُفُوراً ط مَسْحُوراً هـ سَبِيلًا هـ جَدِيداً هـ حَدِيداً لا صُدُورِكُمْ ج للفاء مع أن السين للاستئناف يُعِيدُنا ط أَوَّلَ مَرَّةٍ ج لما قلنا مَتى هُوَ ط قَرِيباً هـ قَلِيلًا هـ أَحْسَنُ ط بَيْنَهُمْ ط مُبِيناً هـ أَعْلَمُ بِكُمْ هـ يُعَذِّبْكُمْ ط وَكِيلًا ط وَالْأَرْضِ ط زَبُوراً هـ شَدِيداً ط هـ مَسْطُوراً هـ الْأَوَّلُونَ ط لأن الواو للاستئناف فَظَلَمُوا بِها ط تَخْوِيفاً هـ بِالنَّاسِ ط فِي الْقُرْآنِ ط الكل لما مر. وَنُخَوِّفُهُمْ لا لصحة عطف المستقبل على المستقبل كَبِيراً هـ. التفسير: لما بين أنواع الحكم ومكارم الأخلاق ذكر غاية مظلومية الإنسان وجهوليته فقال: وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي بينا أحسن بيان لأن من حاول بيان شيء فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع ومن مثال إلى مثال حتى ينتهي به إلى ما هو مراده من الإيضاح. ومفعول التصريف متروك أي أوقعنا التصريف فِي هذَا الْقُرْآنِ أو محذوف للعمل به والمراد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 صرفنا فيه ضروبا مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وأراد بهذا القرآن إبطال إضافتهم البنات إلى الله لأنه مما كرر ذكره، والمقصود ولقد صرفنا القول في هذا المعنى. وقيل: لفظة «في» زائدة كقوله وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي [الأحقاف: 15] قال الجبائي: في قوله: لِيَذَّكَّرُوا دلالة على أنه أراد منهم فهمها والإيمان بها. والمراد بالذكر هاهنا فيمن قرأ مخففا هو التذكر والتأمل لا الذكر الذي هو نقيض النسيان. وقالت الأشاعرة: قوله: وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً دلت على عكس ذلك لأن الحكيم إذا أراد تحصيل أمر من الأمور وعلم أن الفعل الفلاني يصير سببا لعسره وتعذره والنفرة عنه يقبح منه الأمر بذلك الفعل. ولما أخبر أن هذا التصريف يزيدهم نفورا علمنا أنه ما أراد الإيمان منهم. عن سفيان الثوري أنه كان إذا قرأها قال: زادني ذلك خضوعا ما زاد أعداءك نفورا. ثم دل على التوحيد الذي أمر به في قوله: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فقال: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ أي كما يقول المشركون من إثبات آلهة من دونه أو كما تقولون أيها المشركون. وفي قوله إِذاً دلالة على أن ما بعدها وهو لَابْتَغَوْا جواب عن مقالة المشركين وجزاء ل «لو» قاله في الكشاف. قلت: ولعل إِذاً هاهنا ظرف لما دل عليه لَابْتَغَوْا أي لطلبوا إذ ذاك إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم ببعض ومثله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] ويسمى في عرف المتكلمين دليل التمانع وسيجيء بحثه في سورة الأنبياء إن شاء الله العزيز. وقيل: معنى الآية لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى لطلبت لأنفسها المراتب العالية والدرجات الرفيعة، فلما لم تقدر أن تتخذ لأنفسها سبيلا إلى الله فكيف يعقل أن تهديكم إلى الله. ثم نزه نفسه عن أقوالهم فقال سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً فوضع الثلاثي وهو العلوّ موضع المتشعبة وهو التعالي كقوله أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] ثم وصف العلو بالكبر مبالغة في النزاهة وتنبيها على أن بين الواجب لذاته والممكن لذاته وبين الغني المطلق والفقير المطلق مباينة لا تعقل الزيادة عليها. ثم بين غاية ملكه ونهاية عظمته بقوله: تُسَبِّحُ لَهُ الآية: قالت العقلاء: تسبيح الحي المكلف يكون تارة باللسان بأن يقول «سبحان الله» وأخرى بدلالة أحواله على وجود الصانع الحكيم، وتسبيح غيره لا يكون إلا من القبيل الثاني. وقد تقرر في أصول الفقه أن اللفظ المشترك لا يحمل على معنييه معا في حالة واحدة فتعين حمل التسبيح هاهنا على المعنى الثاني ليشمل الكل هذا ما عليه المحققون. وأورد عليه أنه لو كان المراد بالتسبيح ما ذكرتم لم يقل وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ لأن التسبيح بهذا الوجه مفقوه معلوم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 وأجيب بأن دلالة كل شيء على وجود الصانع معلومة على الإجمال دون التفصيل لأنك إذا أخذت تفاحة واحدة فلا شك أنها مركبة من أجزاء لا تتجزأ، ولكن عدد تلك الأجزاء وصفة كل منها من الطبع والطعم واللون والحيز والجهة وغيرها لا يعلمها إلا الله. وأيضا الخطاب للمشركين، وإنهم وإن كانوا مقرين بالخالق، إلا أنهم لما أثبتوا له شريكا وأنكروا قدرته على البعث والإعادة ولم ينظروا في المعجزات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكأنهم لم يفقهوا التسبيح إذ لم يتوسلوا به إلى نتيجة النظر الصحيح ولهذا ختم الآية بقوله: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً حين لا يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وسوء نظركم، وزعم بعض الظاهريين أن ما سوى الحي المكلف يسبح الله باللسان أيضا كل بلغته ولسانه الذي لا نعرفه نحن ولا نفقهه. وزعم أيضا أن الحيوان إذا ذبح لا يسبح وكذا غصن الشجرة إذا كسر، فأورد عليه أن كونه جمادا لا يمنع من كونه مسبحا فكيف صار ذبح الحيوان مانعا له عن التسبيح. وكذا كسر الغصن، ويمكن أن يجاب بأن تسبيح كل شيء لعله يختص بتركيبه الذي خلق عليه فإذا أبطل ذلك التركيب وفك ذلك النظم لم يبق مسبحا مطلقا ولا على ذلك النحو. واعترض عليه أيضا بأنه إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات الله سبحانه وبصفاته مسبحة له مع أنها ليس بأحياء انسدّ علينا باب العلم بكونه تعالى حيا لأنا نستدل بكونه عالما قادرا على كونه حيا. ويمكن أن يجاب بأنا نستدل على حياته تعالى بالإذن الشرعي، ولو سلم أن العلم يستلزم الحياة عقلا فقد قيل: إن لكل موجود حياة تليق به. ولما فرغ من الإلهيات شرع في النبوّات فقال: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ قيل: نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن عليهم. يروى أنه كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه وعن يساره أحزاب من ولد قصيّ يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار. وعن أسماء. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ومعه أبو بكر إذا أقبلت امرأة أبي لهب ومعها حجر فهر تريد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تقول: مذمما أتينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا. فقال أبو بكر: يا رسول الله إن معها حجرا أخشى عليك. فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات. فجاءت وما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت: إن قريشا قد علمت أني ابنة سيدها وإن صاحبك هجاني فقال أبو بكر: ورب هذه الكعبة ما هجاك. وعن ابن عباس: أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون الرسول صلى الله عليه وسلم ويسمعون حديثه. فقال النضر يوما: ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحركان بشيء. وقال أبو سفيان: إني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 أرى بعض ما يقوله حقا. وقال أبو جهل: هو مجنون. وقال أبو لهب: كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى: هو شاعر نزلت. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد تلاوة القرآن تلا قبلها ثلاث آيات وهن في سورة الكهف جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الآية: 57] وفي النحل: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الآية: 108] وفي «حم الجاثية» أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الآية: 23] . وكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين وذلك قوله: جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً أي ذا ستر وقد جاء مفعول بمعنى ذا كذا كما جاء فاعل على ذلك كثيرا نحو «لابن وتامر» من ذلك قولهم «رجل مرطوب» أي ذو رطوبة، و «مكان مهول» و «ذهول» و «سبل مفعم» ذو إفعام. وجوّز الأخفش مجيء مفعول بمعنى فاعل مثل «مشؤوم» و «ميمون» . وقيل: إنه حجاب يخلقه الله في عيونهم بحيث يمنعهم الحجاب عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وذلك الحجاب شيء لا يراه أحد فهو مستور. وعلى هذا يصح قول الأشاعرة إنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة والمرئي حاضرا والرؤية غير حاصلة لأجل أنه تعالى يخلق في العيون شيئا يمنعهم من الرؤية، ويحتمل أن يراد حجاب من دونه حجاب أو حجب فهو مستور بغيره أو حجاب يستر أن يبصر فكيف يبصر المحتجب به. والقول الثاني في الآية أن المراد بالحجاب الطبع والختم فاستدلت الأشاعرة به وبقوله: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ [الأنعام: 25] الآية. على صحة مذهبهم في خلق الكفر والإيمان كما مر في سورة الأنعام في قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا [الأنعام: 35] . وأجاب الجبائي بأن المراد أنهم يطلبون موضعه بالليالي ليقتلوه ويستدلون عليه باستماع قراءته فأمنه الله من شرهم بأن جعل في قلوبهم ما شغلهم عن فهم القرآن وفي آذانهم ما منعهم عن سماع صوته. وقال الكعبي: أراد به التخلية والخذلان كالسيد إذا لم يراقب حال عبده فساءت أخلاق العبد يقول: أنا ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني لم يراقب حال عبده فساءت أخلاق العبد يقول: أنا ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني خليتك ورأيك. وقال جار الله: هذه حكاية لما كانوا يقولونه من قولهم قلوبنا غلف وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب. ومن قبائح أهل الشرك أنهم كانوا يحبون أن تذكر آلهتهم كلما ذكر الله فإذا سمعوا ذكر الله دون ذكر آلهتهم نفروا وانهزموا عن المجلس فلذلك قال تعالى: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وهو مصدر سدّ مسد الحال والتقدير يحد وحده مثل «وأرسلها العراك» وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً مصدر من غير لفظ التولية أو جمع نافر كقاعد وقعود فأوعدهم الله على ذلك بقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ من الهزء بك وبالقرآن. قاتل جار الله بِهِ في موضع الحال كما تقول يستمعون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 بالهزء أي مصاحبين الهزء أو هازئين وإِذْ يَسْتَمِعُونَ نصب بما دل عليه أعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون وَإِذْ هُمْ نَجْوى أي يتناجون به إذ هم ذوو نجوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ «إذ» بدل من «إذ هم» إِنْ تَتَّبِعُونَ أي على تقدير الإتباع لأنهم لم يتبعوا رسول الله إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً سحر فاختلط عقله وزال على حد الاعتدال. وقيل: المسحور الذي أفسد من قولهم «طعام مسحور» إذا أفسد عمله «أرض مسحورة» أصابها من المطر أكثر مما ينبعي فأفسدها. وقال مجاهد مَسْحُوراً مخدوعا لأن السحر حيلة وخديعة، زعموا أن محمدا يتعلم من بعض الناس وأولئك الناس كانوا يخدعونه بهذه الحكايات، أو زعموا أن الشيطان يخدعه فيتمثل له بصورة الملك. وقال أبو عبيدة: يريد بشرا ذا سحر وهو الرئة. قال ابن قتيبة: لا أدري ما حمله على هذا التفسير المستنكر مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ شبهك كل منهم بشيء آخر فقالوا: إنه كاهن وشاعر وساحر ومعلم ومجنون فَضَلُّوا في جميع ذلك عن طريق الحق فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى الهدى والبيان ضلال من تحير في التيه الذي لا منار به. وحين فرغ من شبهات القوم في النبوّات حكى شبهتهم في أمر المعاد. وأيضا لما ذكر أن القوم وصفوه بأنه مسحور فاسد العقل ذكر ما كان في زعمهم دالا على اختلاط العقل وهو دعوى الإنسان أنه يصير حيا بعد أن كان عظاما أو رفاتا، والرفات الأجزاء المفتتة من كل شيء ينكسر وهو اسم كالرضاض والفتات ويقال منه: رفت عظام الجزور رفتا إذا كسرها. وتقرير الشبهة أن الإنسان إذا مات جفت أعضاؤه وتناثرت وتفرقت في جوانب العالم واختلطت بسائطها بأمثالها من العناصر، فكيف يعقل بعد ذلك اجتماعها بأعيانها ثم عود الحياة إلى ذلك المجموع؟ فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بأن إعادة بدن الميت إلى حالة الحياة أمر ممكن، ولو فرضتم أن بدنه قد صار أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحي وغضاضته ومن جنس ما ركب منه البشر كالحجارة أو الحديد فهو كقول القائل: أتطمع فيّ وأنا فلان؟ فيقول: كن ابن الخليفة أو من شئت فسأطلب منك حقي. أما قوله: خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ. فالمراد فرضوا شيئا آخر أبعد عن قبول الحياة من الحجر والحديد بحيث تستبعد عقولكم كونه قابلا لوصف الحياة، وعلى هذا لا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء. وقال مجاهد: أراد به السموات والأرض. وعن ابن عباس أنه الموت أي لو صارت أبدانكم نفس الموت فإن الله يعيد الحياة إليها. وهذا إنما يحسن على سبيل المبالغة كما يقال: هو روح مجسم أو وجود محض. وإلا فالموت عرض وانقلاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 الجسم عرضا محال. وبتقدير التسليم فالموت كيف يقبل الحياة لأن الضد يمتنع أن يقبل الضد. وفي قوله: قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بيان كاف وبرهان شاف لأنه لما سلم أن خالق الحيوان هو الله فتلك الأجسام في الجملة قابلة للحياة والعقل وإله العالم عالم بجميع الجزئيات والكليات فلا يشتبه عليه أجزاء بدن كل من الأموات، وإذا قدر على جعلها متصفة بالحياة في أول الأمر فلأن يقدر على إعادتها إلى الحياة في ثاني الحال أولى. ألزمهم أوّلا بأن البعث أمر ممكن وإن فرضتم بدن الميت أي شيء أردتم فكأنهم سلموا إمكانه ولكن تجاهلوا وتغافلوا عن تعيين المعيد فقالوا: مَنْ يُعِيدُنا فأجاب بأنه الفاطر الأول. ثم زادوا في الاعتراض فسألوا عن تعيين الوقت يقينا وذلك قوله: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي فسيحركونها نحوك تعجبا واستهزاء. قال أبو الهيثم: يقال للرجل إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إلى فوق وإلى أسفل إنكارا له أنغض رأسه. قال المفسرون «عسى» من الله واجب فعلم منه قرب وقت البعث، ولكن وقته على التعيين مما استأثر الله بعلمه. لا يقال كيف يكون قريبا وقد انقرض أكثر من سبعمائة سنة ولم يظهر لأنا نقول: كل ما هو آت قريب، وإذا كان ما مضى أكثر مما بقي فإن الباقي قليل. قوله: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ منتصب باذكروا والمراد يوم يدعوكم كان ما كان، أو هو بدل من قَرِيباً والمعنى عسى أن يكون البعث يوم يدعوكم بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة. يروى أن إسرافيل ينادي: أيها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت. والاستجابة موافقة الداعي فبما دعا إليه وهي مثل الإجابة بزيادة تأكيد لما في السين من طلب الموافقة، قال في الكشاف: الدعاء والاستجابة كلاهما مجاز، والمعنى يوم يبعثكم فتبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون. وقوله: بِحَمْدِهِ حال منهم أي حامدين وهي مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بأمر يشق عليه: ستأتي به وأنت حامد شاكر أي متهيء إلى حالة تحمد الله وتشكره على أن اكتفى منك بذلك العمل، وهذا يذكر في معرض التهديد. وقال سعيد بن جبير: يخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك. وقال قتادة: بحمده أي بمعرفته وطاعته لأن التسبيح والتحميد معرفة وطاعة ومن هنا قال بعضهم: حمدوا حين لا ينفعهم الحمد. وقال آخرون: الخطاب مختص بالمؤمنين لأنهم الذين يليق بهم الحمد لله على إحسانه إليهم وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا عن قتادة: تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة ومثله قول الحسن: معناه تقريب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 وقت البعث وكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل. وقال ابن عباس: يريد ما بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزول عنهم هول العذاب في ذلك الوقت. وقيل: أراد استقصار لبثهم في عرصة القيامة حين عاينوا هول النار. ثم أمر المؤمنين بالرفق والتدرج عند إيراد الحجة على المخالفين فقال: وَقُلْ لِعِبادِي أي المؤمنين لأن لفظ العباد يختص بهم في أكثر القرآن فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ [الزمر: 17] عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الدهر: 6] ، فَادْخُلِي فِي عِبادِي [البقرة: 29] ، يَقُولُوا الكلمة أو الحجة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وألين وهي أن لا تكون مخلوطة بالسب واللعن والغلظة. ثم نبه على وجه المنفعة بهذا الطريق فقال: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي بين الفريقين جميعا فيزداد الغضب وتتكامل النفرة ويمتنع حصول المقصود. ثم قال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أيها المؤمنون بالإنجاء من كفار مكة إيذائهم أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بتسليطهم عليكم وَما أَرْسَلْناكَ يا محمد عليهم وكيلا أي حافظا موكولا إليك أمرهم إنما أنت بشير ونذير. والهداية إلى الله. وقال جار الله: الكلمة التي هي أحسن مفسرة بقوله: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إلى آخره أي قولوا لهم هذه الكلمة ونحوها ولا تقولوا لهم إنكم من أهل النار، وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يزيد غيظهم. وقوله: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ اعتراض. وقيل: المراد بالعباد الكفار أي قل لعبادي الذين أقروا بكونهم عباد إلي يقولوا الكلمة التي هي أحسن وهي كلمة التوحيد والبراءة من الشركاء والأضداد، لأن ذلك أحسن بالبديهة من الإشراك. ووصفه بالقدرة على الحشر أحسن من وصفه بالعجز عنه، والحامل على مثل هذه العقائد هو الشيطان المعادي. ثم قال لهم: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بتوفيق الهداية، وإن يشأ يعذبكم بالإماتة على الكفر إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فلا تقصروا في الجد والطلب. ثم قال لرسوله: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا حتى تقسرهم على الإسلام وما عليك إلا البلاغ على سبيل الرفق والمداراة وهذا قبل نزول آية السيف. وقيل: نزلت في عمر بن الخطاب شتمه رجل فأمره الله بالعفو. وقيل: أفرط إيذاء المشركين للمسلمين فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وحين قال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ عمم الحكم فقال: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أن علمه غير مقصور عليكم ولا على أحوالكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات وبما يليق بكل منها وبذلك حصل التمايز والتفاضل كما قال: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وفيه رد على أهل مكة في إنكارهم أن يكون يتيم أبي طالب مفضلا على الخلائق ونبيا دون صناديد قريش الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 وأكابرهم. وأنما ختم الآية بقوله: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ليعلم أن التفضيل ليس بالمال والملك وإنما هو بالعلم والدين فإن داود كان ملكا عظيما ولم يذكره الله سبحانه إلا بمزية إيتاء الكتاب. وفيه أيضا إشارة إلى أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وأمته خير الأمم بدليل قوله: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] أي محمد وأمته. ومعنى التنكير في «زبور» أنه كامل في كونه كتابا. والزبور وزبور كالعباس وعباس والحسن وحسن، أو المراد بعض الزبر أو الزبور كما يسمى بعض القرآن قرآنا. وقيل: إن كفار قريش ما كانوا أهل نظر وجدال بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشبهات، وكانت اليهود تقول: إنه لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة، فنقض الله كلامهم بإنزال الزبور على داود بعد موسى. ثم رد على طائفة من المشركين كانوا يعبدون تماثيل على أنها صور الملائكة، أو على طائفة من أهل الكتاب كانوا يقولون بإلهية عيسى ومريم وعزير فقال: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ وقيل: أراد بالذين زعمتم نفرا من الجن عبدهم ناس من العرب ثم أسلم الجن ولم يشعروا. وإنما خصصت الآية بإحدى هؤلاء الطوائف لأن قوله بعد ذلك يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ لا يليق بالجمادات. قال ابن عباس: كل موضع في كتاب الله ورد فيه لفظ الزعم فهو بمعنى الكذب. وتقرير الرد أن المعبود الحق هو الذي قدر على إزالة الضر وتحويله من حال إلى حال أو مكان إلى مكان، وهذه التي زعمتم أنها آلهية لا تقدر على شيء من ذلك فوجب القطع بأنها ليست بآلهة. سؤال: ما الدليل على أن الملائكة لا قدرة لها على كشف الضر؟ فإن قلتم لأنا نرى أولئك الكفار كانوا يتضرعون إليها ولا تحصل الإجابة قلنا: إن المسلمين أيضا يتضرعون إلى الله ولا يجابون، وبتقدير الإجابة في بعض الأوقات فالكفار أيضا يحصل مطلوبهم أحيانا فيقولون إنه من الملائكة. جوابه أن الملائكة مقرّون بأن الإله الأعظم خالق العالم، فكمال قدرته معلوم متفق عليه وكمال قدرة الملائكة غير معلوم ولا متفق عليه، بل المتفق عليه أن قدرتهم بالنسبة إلى قدرة الله قليلة حقيرة، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الإله الأعظم أولى وأجدر أخذا بالمعلوم المتيقن دون المظنون الموهوم. على أن أهل السنة قاطعون بأنه لا تأثير لشيء في الوجود إلا لله تعالى. يقول مؤلف هذا التفسير: أضعف عباد الله تعالى وأحوجهم إليه الحسن بن محمد المشتهر بنظام النيسابوري نظم الله أحواله في أولاه وأخراه. رأيت في بعض الكتب مرويا عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: من وقع في ملمة أو طلب كفاية مهم فليسجد في خلوة وليقل في سجدته إلهي أنت الذي قلت: قُلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا فيا من يملك كشف الضر عنا وتحويله اكشف ما بي، فإنه إذا قال ذلك كشف الله عنه ضره وكفى مهمه. وقد جرب فوجد كذلك. ثم إنه تعالى أكد عدم اقتدار معبوديهم ببيان غاية افتقارهم إلى الله تعالى في جذب المنافع ودفع المضار فقال: أُولئِكَ وهو مبتدأ والَّذِينَ يَدْعُونَ صفته ويَبْتَغُونَ خبره يعني أولئك المعبودين يطلبون إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أي القربة في الحوائج وأَيُّهُمْ بدل من واو ويَبْتَغُونَ وهو موصول وصدر صلته محذوف أي يبتغي من هو أقرب الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب؟ والدليل على هذا الافتقار إقرار جميع الكفار بإمكانهم الذاتي وجوز في الكشاف أن يضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله وذلك بازدياد الخير والطاعة والصلاح، ويرجون ويخافون كغيرهم من العباد. وقيل: أولئك الذين يدعون هم الأنبياء الذين ذكرهم الله في قوله: لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ أي الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء الداعون للأمم إلى الله، لا يعبدون إلا الله ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه فأنتم أحق بالعبادة. واحتج هذا القائل على صحة قوله بأن الله تعالى قال: يَخافُونَ عَذابَهُ والملائكة لا يعصون الله فكيف يخافون عذابه؟ وأجيب بأنهم يخافون عذابه لو أقدموا على الذنب لقوله: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 29] ، إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً أي حقيقا بأن يحذره كل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل فضلا عن غيرهم، فإن لم يحذره بعض الجهلة فإنه لا يخرج من كونه واجب الحذر. ثم بين مآل حال الدنيا وأهلها فقال: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ بالموت والاستئصال أَوْ مُعَذِّبُوها بالقتل وأنواع العذاب كالسبي والاغتنام. وقيل: الهلاك للصالحة والتعذيب للطالحة كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ وهو اللوح المخفوظ مَسْطُوراً فلا يوجد له تبديل قط. ثم ذكر نوعا آخر من سننه فقال: وَما مَنَعَنا استعار المنع للترك من أجل لزوم خلاف الحكمة والمشيئة. عن سعيد بن جبير أن كفار قريش اقترحوا منه آيات باهرة كإحياء الموتى ونحوه. وعن ابن عباس أنهم سألوا الرسول أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن يزيل عنهم الجبال حتى يزرعوا تلك الأراضي، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى ذلك فقال: إن شئت فعلت لكنهم إن كفروا بعد ذلك أهلكتهم. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا أريد ذلك وأنزل الله الآية. والمعنى وما صرفنا عن إرسال ما يقترحونه من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 الآيات إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك واستوجبوا عذاب الاستئصال على ما أجرى الله تعالى به عادته. والحاصل أن المانع من إرسال الآيات التي اقترحوها هو أن الاقتراح مع التكذيب موجب للهلاك الكلي، وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعث إليهم إلى يوم القيامة، ويحتمل أن يراد أنهم مقلدون لآبائهم فلا يؤمنون البتة كما لم يؤمنوا فيكون إرسال الآيات ضائعا. ثم استشهد عى ما ذكر بقصة صالح وناقته لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة يبصرها صادرهم وواردهم وهذا معنى قوله مُبْصِرَةً أو المراد حال كون الناقة آية بينة يبصر المتأمل بها رشده فَظَلَمُوا أنفسهم بقتلها أو فكفروا بِهَا بمعنى أنهم جحدوا كونها من الله قاله ابن قتيبة وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المقترحة إِلَّا تَخْوِيفاً من نزول العذاب العاجل بمعنى أن من أنكرها وقع عليه، أو المراد وما نرسل بآيات القرآن وغيرها من المعجزات إلا إنذارا بعذاب الآخرة على المعنى المذكور. وحين امتنع من إرسال الآيات المقترحة على رسوله للمصارف المذكورة قوى قلبه بوعد النصر بالغلبة فقال: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أي واذكر إذا أوحينا إليك أن ربك أَحاطَ بِالنَّاسِ أي أنهم في قبضته وقدرته فلا يقدرون على خلاف إرادته فينصرك ويقويك حتى تبلغ الرسالة. عن الحسن: حال بينهم وبينه أن يقتلوه كما قال: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] وقيل: أراد بالناس أهل مكة، وأحاط في معنى الاستقبال إلا أن خبر الله تعالى لما كان واجب الوقوع عبر عنه بلفظ الماضي، وعد نبيه بأنه سيهلك قريشا في وقعة بدر. أما قوله: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ففيه أقوال: الأول أنه تعالى أراه في المنام مصارع كفار قريش حتى قال: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يأتي الأرض ويقول: هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان، فلما سمع قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية وكانوا يستعجلون بما وعد. الثاني: أنه رؤياه التي رأى أن يدخل مكة وبذلك أخبر أصحابه، فلما منع من البيت الحرام عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم. وقال عمر لأبي بكر: قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ندخل البيت فنطوف به. فقال أبو بكر: إنه لم يخبر أنا نفعل ذلك في هذه السنة فسنفعل ذلك في سنة أخرى. فلما جاء العام القابل دخلها وأنزل الله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الفتح: 27] . الثالث: قول سعيد بن المسيب وابن عباس في رواية عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك. الرابع وهو قول أكثر المفسرين: أن المراد بهذه الرؤيا هي حديث الإسراء. ثم اختلفوا، فالأكثرون على أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 الرؤيا بمعنى الرؤية يقال: رأيت بعيني رؤية ورؤيا، أو سماها رؤيا على قول المكذبين حين قالوا لعلها رؤيا رأيتها وخيال خيل إليك. والأقلون على أن الإسراء كان في المنام وقد مر هذا البحث في أول السورة. قوله: وَالشَّجَرَةَ فيه تقديم وتأخير، والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. قال الأكثرون: إنها شجرة الزقوم لقيت في القرآن حيث لعن طاعموها. قال عز من قائل: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ أو وصفت باللعن لأنه إلا بعاد وهي في أصل الجحيم أبعد مكان من الرحمة، أو العرب تقول لكل طعام مكروه ضارّ ملعون. والفتنة فيها أن أبا جهل وغيره قالوا: زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر ثم يقول ينبت فيها الشجر فأنزل الله تعالى هذه الآية. ونظيره قوله: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصافات: 63] . ومن شاهد حال السمندل والنعامة كيف يتعجب من قدرة الله على إنبات الشجرة من جنس لا تعمل فيه النار. وعن ابن عباس: الشجرة الملعونة بنو أمية. وعنه هي الكشوث التي تتلوى بالشجر تجعل في الشراب. وقيل: هي الشيطان. وقيل: اليهود سؤال: أي تعلق لحديث الرؤيا والشجرة إلى ما قبله من الكلام؟ جوابه كأنه قيل: إنهم لما طلبوا هذه المعجزات ثم إنك لم تظهرها صار عدم ظهورها شبهة في أنك لست بصادق في دعوى النبوة إلا أن وقوع هذه الشبهة لا ينبغي أن يكون سببا في توهين أمرك. ألا ترى أن ذكر تلك الرؤيا والشجرة صار سببا لوقوع الشبهة العظيمة، ثم إنها ما أوجبت ضعفا في أمرك ولا فتورا في اجتماع المحقين عليك. ثم ذكر سببا آخر في أنه تعالى لا يظهر المقترحات عليهم فقال: وَنُخَوِّفُهُمْ بمخاوف الدنيا والآخرة فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً متماديا. التأويل: لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا يشتمل معنيين لأنهم إن كانوا أكبر منه أو أمثالا له طلبوا طريقا إلى إزعاج صاحب العرش ونزع الملك منه قهرا، وإن كانوا أدون منه طلبوا إليه الوسيلة بالخدمة والعبودية على أن الناقص لا يصلح للإلهية وهذا قريب من التفسير: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ لكل ذرة من ذرات الموجودات ملكوت لقوله: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [يس: 83] والملكوت باطن الكون وهو الآخرة، والآخرة حيوان لا جماد لقوله: إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ [العنكبوت: 64] فلكل ذرة لسان ملكوتي ناطق بالتسبيح والحمد تنزيها لصانعه وحمدا له على ما أولاه من نعمه، وبهذا اللسان ينطق الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم وبه تنطق الأرض يوم القيامة يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها [الزلزلة: 4] وبه تنطق الجوارح أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: 21] وبه نطق السموات والأرض قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 وإِنَّهُ كانَ حَلِيماً في الأزل إذا أخرج من العدم من يكفر به ويجحده غَفُوراً لمن تاب عن كفره: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فيه إشارة إلى أن من قرأ القرآن بتمامه وصل إلى أعلى معارج القدس وأقصى مدارج الأنس كما جاء في الحديث «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق» «1» . قال أبو سليمان الخطابي: جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة فمن استوفى جميع آي القرآن استولى على أقصى درجات الجنة. قال المحققون: استيفاء جميع آي القرآن هو أن يتخلق بأخلاقه وصفاته بل بأخلاق الله وصفات الله. وهذا يكون بعد العبور عن الحجب الظلمانية والنورانية فيكون بينه وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا. لم يقل «ساترا» لأن الحجاب يستر الواصل عن المنقطع ولا يستر المنقطع عن الواصل فيكون الواصل مستورا بالحجاب المنقطع. وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ لأنهم من سوء مزاجهم لا يكادون يقبلون الغذاء الصالح، فالحلاوة في مذاقهم مرارة إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ من ظلمهم لأنهم وضعوا المسحور مكان المبعوث أي خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أي لو كانت قلوبكم التي في صدوركم أشد من الحجارة والحديد فالله قادر على إحيائه وتليينه في قيام قيامة العشق يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ من شرف من عبيده، فبتشريف الإضافة يظهر منه القول الأحسن وهو الدعاء إلى الله بلا إله إلا الله مخلصا، والفعل الأحسن وهو أن يكون متأدبا بآداب الشريعة والطريقة، والخلق الأحسن وهو أن يكون محسنا إليهم بلا طمع الإحسان والشكر منهم ويتجاوز عن سيئاتهم ويعيش فيهم بالنصيحة، يأمرهم بالمعروف بلا عنف وينهاهم عن المنكر بلا فضيحة إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إذ لم يعيشوا بالنصيحة. وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً فيه أن فضل النبي صلى الله عليه وسلم على داود كفضل القرآن على الزبور. وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ من قرى قالب الإنسان إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها بموت قلبه وروحه قبل موت قالبه فمن مات فقد قامت قيامته أَوْ مُعَذِّبُوها بأنواع الرياضات والمجاهدات ففي السير إلى الله ذوبان الأفعال، وفي السير بالله ذوبان الصفات، وفي السير في الله ذوبان الذات: أَحاطَ بِالنَّاسِ علم مقتضى كل نفس من الخير والشر وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ كان الوحي يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مبدأ أمره بطريق المنام وكان في ذلك اختبار للناس، فمن وقته يظهر الموافق من المنافق والصديق من الزنديق، وهكذا كان في شجرة وجود إبليس ابتلاء للناس ولم يكن للمحيط بأحوال الناس حاجة إلى الابتلاء ولكنه يعامل معاملة المختبر والله أعلم بالصواب.   (1) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 18. أحمد في مسنده (2/ 192، 471) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 [سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 72] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) القراآت: أَخَّرْتَنِي بالياء في الحالين: ابن كثير غير الهاشمي عن ابن فليح وسهل ويعقوب وأفق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو في الوصل. الباقون بالحذف وَرَجِلِكَ بكسر الجيم: حفص وأبو زيد عن المفضل الآخرون بسكونها. أن نخسف، أو نرسل، أن نعيدكم، فنرسل، فنغرقكم كلها بالنون: ابن كثير وأبو عمرو. والباقون على الغيبة إلا يعقوب ويزيد فإنهما قرأ فتغرقكم بالتاء الفوقانية على أن الضمير للريح من الرياح على الجمع يزيد: هذِهِ أَعْمى بالإمالة أَعْمى بالتفخيم: أبو عمرو ونصير والبرجمي ورويس. وقرأ حمزة وعلي غير نصير وخلف ويحيى وحماد جميعا بالإمالة. الباقون جميعا بالتفخيم. الوقوف: إِبْلِيسَ ط طِيناً هـ لاتحاد فاعل فعل قبله وفعل بعده بلا حرف عطف عَلَيَّ ز لحق القسم المحذوف مع اتحاد الكلام قَلِيلًا هـ مَوْفُوراً هـ وَعِدْهُمْ ط للعدول غُرُوراً هـ سُلْطانٌ ط وَكِيلًا هـ مِنْ فَضْلِهِ ط رَحِيماً هـ إِلَّا إِيَّاهُ ج أَعْرَضْتُمْ ط كَفُوراً هـ وَكِيلًا هـ لا للعطف تَبِيعاً هـ تَفْضِيلًا هـ بِإِمامِهِمْ ج فَتِيلًا هـ سَبِيلًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 التفسير: قال أهل النظم: إنه لما ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من قومه في بلية عظيمة ومحنة شديدة، أراد أن يبين أن جميع الأنبياء كانوا كذلك حتى آدم عليه السلام. وأيضا إن القوم كان منشأ نزاعهم واقتراحاتهم الفاسدة أمرين: الكبر والحسد. فبين الله سبحانه أن هذه عادة قديمة سنها إبليس لعنة الله عليه. وأيضا لما وصف القوم بزيادة الطغيان عقيب التخويف أراد أن يذكر السبب لحصول هذا الطغيان وهو قول إبليس لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ وهذه القصة ذكرها الله تعالى في سبع سور: البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص. ونحن قد استقصينا القول فيه فلا حاجة إلى الإعادة فلنقتصر على تفسير الألفاظ. قال جار الله طِيناً حال إما من الموصول والعامل فيه أَسْجُدُ معناه أأسجد له وهو طين في الأصل؟ وإما من الراجع إلى الموصول من الصلة تقديره أأسجد لمن كان في وقت خلقه طينا؟ ومعنى الاستفهام إنكار أمر الأشرف على زعمه بخدمة الأدون ولذلك قالَ أَرَأَيْتَكَ أي أخبرني عن هذا الذي كرمته أي فضلته عَلَيَّ لم كرمته وأنا خير منه؟ فاختصر الكلام لكونه معلوما. ويمكن أن يقال: هذا مبتدأ والاستفهام فيه مقدر معناه أخبرني أهذا الذي كرمته عليّ؟ والإشارة هنا تفيد الاستحقار. وقيل: إن هذا مفعول: أَرَأَيْتَكَ لأن الكاف لمجرد الخطاب كأنه قال على وجه التعجب والإنكار: أبصرت أو علمت هذا بمعنى لو أبصرته أو علمته لكان يجب أن لا يكرّم عليّ. ثم ابتدأ فقال لئن أخرتني واللوم موطئة للقسم المحذوف وجوابه لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ لأستأصلنهم بالإغواء من احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا من الحنك. ومنه ما ذكر سيبويه «أحنك الشاتين» أي آكلهما. وقال أبو مسلم: هو افتعال من الحنك يقال منه حنك الدابة يحنكها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به كأنه يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه. وإنما ظن إبليس بهم ذلك لأنه سمع قول الملائكة في حقهم تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] أو نظر إليه فتوسم أنه خلق شهواني إلى غير ذلك من قواه السبعية والوهمية والبهيمية، أو قاس ذرية آدم عليه حين عمل وسوسته فيه. وضعفه جار الله بأن الظاهر أنه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة قالَ أي الله تعالى اذْهَبْ ليس المراد منه نقيض المجيء وإنما المراد امض لشأنك الذي اخترته خذلانا وتخيلة وإمهالا. ثم رتب على الإمهال قوله: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أراد جزاؤهم وجزاؤك فغلب المخاطب على الغائب لأنه الأصل في المعاصي وغيره تبع له. وجوز في الكشاف أن يكون الخطاب لتابعيه على طريقة الالتفات. وانتصب جَزاءً مَوْفُوراً على المصدر والعامل فيه معنى تجازون المضمر، أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 المدلول عليه بقوله: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أو على الحال الموطئة. والموفور الموفر من قولهم «فر لصاحبك عرضه فرة» . وقيل: هو بمعنى الوافر. ثم أكد الإمهال والخذلان بقوله: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أفزه الخوف واستفزه أزعجه واستخفه، وصوته دعاؤه إلى معصية الله. وقيل: الغناء واللهو واللعب وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ قال الفراء وأبو عبيدة: أجلب من الجلبة والصياح أي صح عليهم. وقال الزجاج: أي أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك. فالإجلاب الجمع والباء في بِخَيْلِكَ زائدة. وقال ابن السكيت: الإجلاب الإعانة، والخيل يقع على الفرسان قال صلى الله عليه وسلم: يا خيل الله اركبي. وعلى الأفراس جميعا. والرجل بسكون الجيم جمع راجل كتاجر وتجر وصاحب وصحب. وبكسر الجيم صفة معناه وجمعك الرجل. وتضم جيمه أيضا مثل ندس وندس وحذر وحذر. عن ابن عباس: كل راكب وراجل في معصية الله فهو من خيل إبليس وجنوده. وقيل: يحتمل أن يكون لإبليس جند من الشياطين بعضها راكب وبعضها راجل، والأقرب أن هذا كلام ورد تمثيلا فقد يقال للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك. قال في الكشاف: مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم، وأجلب عليهم بجند من خيالة ورجالة حتى إذا استأصلهم. أما المشاركة في الأموال فهي كل تصرف في المال لا على وجه الشرع سواء كان أخذا من غير عوض أو وضعا في غير حق كالربا والغضب والسرقة. وقيل: هي تبتيك آذان الأنعام وجعلها بحيرة وسائبة. والمشاركة في الأولاد دعوى الولد بغير سبب وتحصيله بالدعاء إلى الزنا، أو تسميتهم بعبد اللات وعبد العزى، أو تربيتهم لا كما ينبغي حتى ينشأوا غير راشدين ولا مؤدبين ولا متدينين بدين الحق. وَ- عِدْهُمْ بتزيين المعاصي في أعينهم وترغيبهم فيها وتثقيل الطاعات والعبادات عليهم وتنفيرهم عنها، وهذه قضية كلية وربما يخصه المفسرون، فعن بعضهم أن المراد وعدهم بأنه لا جنة ولا نار. وقيل: تسويف التوبة. وقيل: بالكرامة على الله بالأنساب والأحساب. وقيل: بشفاعة الأصنام والأماني الباطلة وإيثار العاجل عى الآجل. ثم نفى أن يكون لوعد الشيطان عاقبة حميدة فقال: وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً لأنه إنما يدعو إلى الذات البهيمية أو السبعية أو الخيالية، وأكثرها دفع الآلام وكلها لا أصل لها ولا دوام. ومن أراد الاستقصاء في هذا الباب فعليه بمطالعة باب «ذم الغرور من كتاب إحياء علوم الدين» للشيخ الإمام محمد الغزالي رحمه الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 ولما قال للشيطان على سبيل الوعيد والتهديد افعل ما تقدر عليه ربط جأش سائر المكلفين بقوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: 42] قال الجبائي: المراد كل عباده لأنه استثنى متبعيه في غير هذا الموضع قائلا: إلّا من تبعك [الحجر: 42] وقال أهل السنة: المراد عباد الله المخلصين. ثم زاد في تقوية جانب المكلف فختم الآية بقوله: وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا فهو يدفع كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه. ثم عدد على بني آدم بعض ما أنعم به عليهم ليكون تذكيرا لهم وتحذيرا فقال: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ أي يسير لأجلكم الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ والإزجاء سوق الشيء حالا بعد حال لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ الربح بالتجارة إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فلذلك هداكم إلى مصالح المعاش المؤدية إلى منافع المعاد وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ أي خوف الغرق فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ ذهب عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعونه في حوادثكم إِلَّا إِيَّاهُ وحده فإنكم تعقدون برحمته رجاءكم، أو المراد ضل من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم ولكن الله هو الذي ترجونه وحده فكان الاستثناء منقطعا فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من ذلك الضر وأخرجكم إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن الإخلاص وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً لنعمة الله لأنه عند الشدة يتمسك برحمة الله وفي الرخاء يعرض عنه. ثم أنكر عليهم سوء معاملتهم قائلا: أَفَأَمِنْتُمْ تقديره أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض أَنْ يَخْسِفَ أصله دخول الشيء في الشيء ومنه عين خاسفة للتي غارت حدقتها في الرأس، وخسف القمر دخل تحت الحجاب وهو دائرة الظل عند الحكماء بِكُمْ حال، وإنما قال: جانِبَ الْبَرِّ لأنه ذكر البحر في الآية الأولى وهو جانب والبر جانب، وخسف جانب البر بهم قلبه وهم عليه فالخسف تغييب تحت التراب كما أن الغرق تغييب تحت الماء، فهبوا أنكم نجوتم من هول البحر فهل أمنتم من هول البر فإنه قادر على تسليط آفات البر عليكم. إما من جانب التحت بالخسوف، وإما من جانب الفوق بإمطار الحجارة وذلك أن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصبا وهي الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء. وقال الزجاج: الحاصب التراب الذي فيه حصباء، فالحاصب ذو الحصباء كاللابن والتامر. ولا يخفي أن هذين العذابين أشد من غرق البحر. ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا يصرف ذلك عنكم أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى بأن يقوي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى ركوب البحر فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً وريحا لها قصيف أي صوت شديد أو القاصف الكاسر. وقوله: مِنَ الرِّيحِ بيان له فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ بسبب كفركم ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً مطالبا يتبعنا لإنكار ما نزل بكم أو لنصرفه عنكم فهو كقوله: وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس: 16] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 ثم أجمل ذكر النعمة بقوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وقد ذكر المفسرون في تكريمه وجوها منها: الخط فيه يقدر الإنسان على إيداع العلوم التي استنبطها- هو أو غيره- الدفاتر فتبقى على وجه الدهر مصونة عن الاندراس محفوظة عن الانطماس اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق: 3، 4] ومنها الصورة الحسنة وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر: 64] ، ومنها القامة المعتدلة لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4] ومنها أن كل شيء يأكل بقية إلا ابن آدم. يحكى عن الرشيد أنه حضر لديه طعام فأحضرت الملاعق- وعنده أبو يوسف- فقال له: جاء في تفسير جدك ابن عباس أن هذا التكريم هو أنه جعل لهم أصابع يأكلون بها فرد الملاعق وأكل بأصابعه. ومنها ما قال الضحاك: إنه النطق والتمييز فإن الإنسان يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه بخلاف سائر الحيوان، ويدخل الأخرس في هذا الوصف لأنه يعرف بالإشارة أو الكتابة، ويخرج الببغاء ونحوه لأنه لا يقدر على تعريف جميع الأحوال على الكمال. ومنها تسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم، فالأرض لهم كالأم الحاضنة مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه: 55] وهي لهم فراش ومهاد، والماء ينتفعون به في الشرب والزراعة والعمارة وماء البحر ينتفع به في التجارة واستخراج الحلي منه، والهواء مادة الحياة ولولا هبوب الرياح لاستولى النتن على المعمورة، والنار ينتفع بها في الطبخ والإنضاج ودفع البرد وغير ذلك، وانتفاعهم بالمركبات المعدنية والنباتية والحيوانية ظاهر. وبالجملة فهذا العالم بأسره كقرية معمورة أو خوان معد، والإنسان فيه كالرئيس المخدوم والملك المطاع، فأي تكريم يكون أزيد من هذا؟ ولا شك أن الإنسان- لكونه مستجمعا للقوة العقلية القدسية وللقوتين الشهوية البهيمية والغضبية السبعية ولقوّتي الحس والحركة الإرادية وللقوى النباتية وهي الاغتذاء والنموّ والتوليد- يكون أشرف مما لم يستجمع الجميع سوى المجردات المحضة. وقال بعضهم: إن هذا التكريم هو أنه تعالى خلق آدم بيده وأبدع غيره بواسطة «كن» . يروى عن زيد بن أسلم أن الملائكة قالت: ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك فأعطنا في الآخرة. فقال: وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له «كن» فكان. ثم خص بعض أنواع التكريم بالذكر فقال: وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قال ابن عباس: في البر أي على الخيل والبغال والحمير وفي البحر أي على السفن وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من كل غذاء نباتي أو حيواني ألطفه وألذه. واعلم أن التكريم لا يدل على التفضيل لأن تكريم زيد لا ينافي تكريم غيره بأزيد من ذلك ولذلك ختم التكريم بقوله: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا فسر بعض الأشاعرة الكثير هاهنا بمعنى الجميع فشنع عليه جار الله بأنه شجى في الحلق وقذى في العين لبشاعة قول القائل: وفضلناهم على جميع ممن خلقنا. والإنصاف أن كون الكثير مفيدا لمعنى الجميع لا يوجب هذا التشنيع، لأنه لا يلزم من إفادة اللفظ معنى لفظ آخر بمعنى أنه يرجع الحاصل إلى ذلك بدلالة الالتزام، أو بحكم العرف أن يوضع ذلك اللفظ موضعه وينطق به على أن التفسير لا يقوم مقام المفسر البتة، لأن هذا معجز دون ذلك فكيف يبقى الذوق بحاله؟ وأيضا فالحاصل هو قولنا على جميع من خلقنا لا على جميع ممن خلقنا، فإن الدعوى هو أن كثيرا من الشيء أقيم مقام كل ذلك الشيء لا كل من ذلك الشيء حتى تلزم البشاعة من قبل الجمع بين لفظي الكل و «من» التبعيضية. هذا وإن الحق في المسألة هو إجراء الكلام على ظاهره، وإن الآية تدل على أنه حصل في مخلوقات الله شيء لا يكون للإنسان تفضيل عليه، لأنه سبحانه ذكر في هذا الكلام في معرض المدح، ولو كان الإنسان مفضلا على الكل لم يقع من الله تعالى الاقتصار على ذكر البعض. وكل من أثبت هذا القسم قال: إنه هو الملائكة. فلزم القول بأن كل الإنسان ليس أفضل من كل الملائكة بل بعض الملك أفضل من أكثر الإنسان وإن كان يوجد في خواص الإنسان من هو أفضل من عوام الملائكة بل من خواصهم، وإلى هذا ذهب ابن عباس واختاره الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط. وأما أن كل الملائكة أفضل من كل البشر- على ما زعم جار الله وأمثاله- فإنه تحكم محض. ولما ذكر أنواع كرامات الإنسان في الدنيا شرح أحوال درجاته في الآخرة فقال: يَوْمَ نَدْعُوا وهو منصوب بإضمار «اذكر» أو بقوله: فَضَّلْناهُمْ على عادة الله في الإخبار أي ونفضلهم في هذا اليوم بما نعطيهم من الكرامة والثواب، وعلى هذا يكون التكريم في الدنيا والتفضيل في الآخرة ولا وقف على تَفْضِيلًا والإمام في اللغة كل ما يؤتم به من نبي أو مقدّم في الدين أو كتاب أو دين. والباء في قوله: بِإِمامِهِمْ للإلصاق كما تقول أدعوك باسمك. عن أبي هريرة مرفوعا أنه ينادى يوم القيامة يا أمة إبراهيم يا أمة موسى يا أمة عيسى يا أمة محمد، فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيمانهم، ثم ينادى يا أتباع فرعون وفلان وفلان من رؤساء الضلال وأكابر الكفر. ويجوز أن يتعلق الباء بمحذوف وهو الحال والتقدير: تدعو كل أناس متلبسين بإمامهم أي يدعون وإمامهم في نحو «ركب بجنوده» . وروى الضحاك وابن زيد أنه ينادى في القيامة يا أهل القرآن يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل. وقال الحسن: يدعون بكتابهم الذي فيه أعمالهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 فيقال: يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشر. وهو قول الربيع وأبي العالية أيضا. قال صاحب الكشاف: ومن بدع التفاسير أن الإمام جمع «أن» وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهامتهم. والحكمة في ذلك في رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين عليهما السلام وأن لا يفتضح أولاد الزنا. ثم قال: وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بيان حكمته؟ وقال في التفسير الكبير: كل خلق يظهر من الإنسان حسن كالعفة والشجاعة والعلم، أو قبيح كأضدادها فالداعي إلى تلك الأفعال خلق باطن كالإمام له وكالمنبع والمنشأ، ويوم القيامة إنما يظهر الثواب والعقاب بناء على الأفعال الناشئة من تلك الأخلاق فَمَنْ أُوتِيَ هو في معنى الجمع ولذلك قيل في جزائه فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ وخص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم لأن قراءة أصحاب الشمال كلا قراءة لما يعرض لهم فيه من الحياء والخجل والتتعتع وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ الدنيا أَعْمى لا خلاف أن المراد بهذا العمى عمى القلب. وأما قوله: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى فيحتمل أن يراد به عمى البصر كقوله: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً [طه: 25] وفي هذا زيادة العقوبة. ويحتمل أن يراد عمى القلب. قال ابن عباس: المراد ومن كان أعمى في هذه النعم التي عددها من قوله: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي إلى قوله: تَفْضِيلًا فهو في الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى بالطريق الأولى، لأن الضلال عن معرفة أحوال الآخرة أقرب وقوعا، فعلى هذا يكون الأعمى في الموضعين في الدنيا، ومثله ما روى أبو روق عن الضحاك. من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرته في خلق السماء والأرض والبحار والجبال والناس والدواب، فهو عن أمر الآخرة وتحصيل العلم به أعمى. قال المفسرون: لا يبعد أن يكون أعمى على هذا التفسير «أفعل» التفضيل ودليله قراءة أبي عمر وبإمالة الأول وتفخيم الثاني، لأن الأول ألفه واقعة في الطرف فكانت عرضة للإمالة ومظنة لها بخلاف الثاني فإن تمامه بمن فكانت ألفه في حكم وسط الكلمة. هذا قول صاحب الكشاف تابعا لأبي علي الفارسي. وأقول: في هذا الوجه نظر، لأن الإمالة ليست مختصة بآخر الكلمة مثل «شيئان» «والكافرين» ونحوهما ولهذا قرىء بإمالة كليهما مع قيام هذا الاحتمال في الثاني، ولعل من لم يمل الثاني راعى المشاكلة بينه وبين أضل والله أعلم. قال الحسن: في الآخرة أي في الدار الآخرة وذلك أنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل. وقيل: المراد بالعمى في الآخرة أنه لا يهتدي إلى طريق الجنة وإلى طيباتها والابتهاج، بها ولا يمكن أن يراد بها الجهل بالله لأن أهل الآخرة يعرفون الله بالضرورة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 التأويل: مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أي بكلمات المبتدعة ومقالات أهل الطبيعة إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ لأنهم بخصوصية العبودية تخلصوا عن رق الكونين وتعلق العالمين وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا في تربيتهم وتهيئة صلاح أحوالهم. رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ فلك الشريعة في بحر الحقيقة لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ جذبة العناية فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلى بر الوصول والوصال أَعْرَضْتُمْ بحجب العجب ورؤية الأعمال حاصِباً من مطر القهر قاصِفاً من ريح الابتلاء ببليات البدع والأهواء فَيُغْرِقَكُمْ في بحر الشهوات وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ بالكرامات البدنية العامة للمؤمن والكافر وهي تخمير طينته بيده وتصويره في الرحم بنفسه، وبالكرامات الروحانية العامة وهي أن نفخ فيه من روحه وشرفه بخطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وأنطقه بجواب بَلى وأولده على الفطرة وأرسل الرسل وأنزل الكتب، وبالكرامات الروحانية الخاصة من النبوة والولاية والهداية والجذبة كما قال: وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي عبرنا بهم من بر البشرية وبحري الروحانية إلى ساحل الربانية وَرَزَقْناهُمْ مِنَ طيبات المواهب ونوال الكشوف وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ أي على الملائكة لأنهم الخلق الكثير من مخلوقات الله. وبيان تفضيله حسن استعداده في قبول فيض نور الله بلا واسطة وهو المراد بالأمانة في قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ [الأحزاب: 72] نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ من الدنيا والآخرة وغير هما فيقال: يا أهل الدنيا ويا أهل الآخرة ويا أهل الله فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فيه إشارة إلى أن أهل الله لا يؤتون كتابهم كما لا يحاسبون حسابهم، وأهل الشمال يؤتون الكتاب ولكنهم لا يقدرون على القراءة لأنهم عمي والقراءة تحتاج إلى الإبصار بالأبصار وبالبصائر والله أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 73 الى 89] وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 القراآت: خَلْفَكَ ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو وأبو بكر وحماد. الآخرون خِلافَكَ بكسر الخاء بالألف وَنُنَزِّلُ مِنَ مخففا: أبو عمرو ويعقوب. الباقون بالتشديد وياء تحتانية وناء بجانبه مثل «ناع» : يزيد وابن ذكوان وَنَأى بفتح النون وإمالة الهمزة مثل «رمى» . حمزة غير خلف والعجلي وحماد ويحيى وعباس وأبو شعيب ونصير مثله ولكن بكسر النون على غير نصير، وخلف والعجلي وخلف لنفسه. الباقون بفتحتين كرمى. الوقوف: خَلِيلًا هـ قَلِيلًا هـ لا لتعلق «إذا» نَصِيراً هـ قَلِيلًا هـ تَحْوِيلًا هـ وَقُرْآنَ هـ الْفَجْرِ ط مَشْهُوداً هـ نافِلَةً لَكَ قف والوصل أولى لأن «عسى» وعد على التهجد مَحْمُوداً هـ نَصِيراً هـ وَزَهَقَ الْباطِلُ ط زَهُوقاً هـ لِلْمُؤْمِنِينَ هـ لا لأن ما بعده من صلة «ما» خَساراً هـ بِجانِبِهِ ج لعطف حملتي الظرف يَؤُساً هـ شاكِلَتِهِ ط سَبِيلًا هـ عَنِ الرُّوحِ ط قَلِيلًا هـ وَكِيلًا هـ لا مِنْ رَبِّكَ ط كَبِيراً هـ ظَهِيراً هـ مَثَلٍ ز لعطف المتفقين معنى المختلفين لفظا كُفُوراً هـ. التفسير: لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على بني آدم وشرح أحوال السعداء أردفه بما يجري مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس الأشقياء. عن ابن عباس في رواية عطاء أن وفد ثقيف قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب، لا نعشر- أي لا تؤخذ عشور أموالنا- ولا نحشر ولا نجبي في صلاتنا أي لا نسجد، وكل ربا لنا فهو لنا، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا، وأن تمتعنا باللات سنة ولا نكسرها بأيدينا عند رأس الحول، وأن تمنع من قصد وادينا وجّ فعضد شجره فإذا سألتك العرب لم فعلت ذلك؟ فقل: إن الله أمرني به وجاؤا بكتابهم فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لثقيف لا يعشرون ولا يحشرون فقالوا: ولا يجبون، فسكت رسول الله ثم قالوا للكاتب: اكتب «ولا يجبون» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 والكاتب ينظر إلى رسول الله. فقام عمر بن الخطاب فسل سيفه وقال: أسعرتم قلب نبينا يا معشر ثقيف أسعر الله قلوبكم نارا. فقالوا: لسنا نكلمك إنما نكلم محمدا. وقال عمر: أما ترون رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه فأنزل الله الآية. وهذه القصة وقعت بعد الهجرة فلهذا قال المفسرون إنها ليست بمكية. وروي أن قريشا قالوا له اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة فنزلت. وقال الحسن: إن الكفار أخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فقالوا: كف يا محمد عن ذم آلهتنا وشتمها، ولو كان ذلك حقا كان فلان وفلان بهذا الأمر أحق منك. فوقع في قلب رسول الله أن يكف عن شتم آلهتهم. وعن سعيد بن جبير أنه صلى الله عليه وسلم كان يستلم الحجر فتمنعه قريش ويقولون: لا ندعك حتى تستلم بآلهتنا فوقع في نفسه أن يفعل ذلك مع كراهية فنزلت. قال القفال: من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى ما يقدرون عليه، فتارة كانوا يقولون: لو عبدت آلهتنا عبدنا آلهك فنزلت: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ [الكافرون: 1، 2] وقوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 9] وتارة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والنسوان الجميلة ليترك ادعاء النبوة فنزلت وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا [طه: 131] وأخرى دعوه إلى طرد المؤمنين فنزل: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الأنعام: 52] وكل ذلك دليل على أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه ويزيلوه عن منهجه. فلو لم يكن شيء من الروايات المذكورة موجودا لكان للآية محمل صحيح. والمعنى وإن الشأن قاربوا أن يخدعوك فاتنين. وأصل الفتنة الاختبار ومنه فتن الصائغ الذهب ثم استعمل في كل من أزال الشيء عن حده وجهته، وذلك في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن وافتراء على الله من تبديل الوعد بالوعيد وغير ذلك وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ أي لو اتبعت مرادهم لا تخذوك خَلِيلًا ولكنت لهم وليا وخرجت من ولايتي وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لولا تثبيتنا وعصمتنا لك لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ لقاربت أن تميل إلى مرادهم شَيْئاً قَلِيلًا أي ركونا قليلا. قال ابن عباس: يريد حيث سكت عن جوابهم. قال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين. ثم توعده في ذلك أشد الوعيد فقال: إِذاً لَأَذَقْناكَ أي لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركون لأذقناك ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. والضعف عبارة عن ضم الشيء إلى مثله. وقال صاحب الكشاف: المراد عذاب الممات وهو عذاب القبر، وعذاب الحياة وهو عذاب حياة الآخرة أي عذاب النار. والعذاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 يوصف بالضعف كقوله: فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ [ص: 61] بمعني مضاعفا فكان أصل الكلام عذابا ضعفا في الحياة الدنيا وعذابا ضعفا في الممات، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، ثم أضيفت الصفة كإضافة الموصوف فقيل: ضعف الحياة وضعف الممات كما لو قيل: لأذقناك أليم الحياة وأليم الممات. وقال في التفسير الكبير: حاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون إليه همك لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة، ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة. والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم الله تعالى في حق الأنبياء أكثر فكانت ذنوبهم وكذا عقوبتهم أعظم نظير يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] . ثم إن إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه لأن دليل الخطاب لا حجة فيه فقد يرتقى الضعف إلى مالا حد له كما جاء في الحديث: «من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» «1» ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً يعني لو أذقناك ذلك لم تجد أحدا يخلصك من عذابنا. واعلم أن القرب من الفتنة لا يدل على الوقوع فيها. والتهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها فلا يلزم من الآية طعن في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه أنه لا عصمة من المعاصي إلا بتوفيق الله وتثبيته على الحق. وقالت المعتزلة: المراد بهذا التثبيت الألطاف الصارفة عن ذلك وهي ما أخطر الله بباله من ذكر وعده ووعيده كونه نبيا من عنده. وأجيب بأنه لو لم يوجد المقتضى للإقدام على ذلك الفعل المحذور لم يكن إلى إيجاد المانع حاجة، وليس ذلك المقتضي إلا القدرة مع الداعي ولا ذلك المانع إلا داعية أخرى معارضة للداعي الأول وقد أوجدها الله تعالى عقيب ذلك. ثم ذكر طرفا آخر من مكايدهم فقال: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ «إن» مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة كما في الآية الأولى ومعنى لَيَسْتَفِزُّونَكَ ليزعجونك كما مر في قوله: وَاسْتَفْزِزْ [الآية: 64] والأرض إما أرض مكة، كما قال قتادة ومجاهد ويرد عليه أن «كاد» للمقاربة لا للحصول لكن الإخراج قد حصل لقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد: 13] ويمكن أن يقال: إنهم هموا بإخراجه ولكن الله منعهم من ذلك حتى هاجر بأمر ربه، فأطلق الإخراج على إرادة الإخراج مجوزا   (1) رواه الدارمي في كتاب المقدمة باب 44. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 14. أحمد في مسنده (4/ 362) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 يؤيده قوله: وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ وهو معطوف على لَيَسْتَفِزُّونَكَ أي لا يبقون بعد إخراجك إلا زمانا قليلا أي لو أخرجوك لاستؤصلوا لكنه لم يقع الاستئصال فدل ذلك على عدم وقوع الإخراج. ومن جوز وقوع الإخراج قال: المراد بعدم اللبث أنهم أهلكوا ببدر بعد إخراجه بقليل. واما أرض المدينة على ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم وقالوا: يا أبا القاسم إن الأنبياء بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مهاجر إبراهيم، فلو خرجت إلى الشام لآمنا بك واتبعناك. وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم، فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم. فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أميال من المدينة أو بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازما على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين الله فنزلت الآية فرجع. وعلى هذا القول تكون هذه الآية أيضا مدنية، والخلاف في معنى الخلف كما مر في قوله: بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة: 81] وقرىء: وإذا لا يلبثوا بحذف النون على إعمال «إذن» فتكون الجملة برأسها معطوفة على جملة قوله: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ. ثم بين أن عادته تعالى جارية بأن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم فإنه يهلكهم فقال سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا وهو منصوب على المصدر المؤكد أي سن الله ذلك سنة وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا لأن الأسباب الكلية في الأزل اقتضت توزع كل من أجزاء الزمان على حادث معين بسبب معين، فتبديل إحدى الحوادث وتحويلها إلى وقت آخر يقتضي تغيير الأسباب عن أوضاعها وهو محال عقلا وعادة. وقال أهل النظم: لما قرر الإلهيات والمعاد والجزاء أردفها بذكر أشرف الطاعات وهي الصلاة. وأيضا لما قال: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ أمره بالاشتغال بعبادته تفويضا للأمور إلى الله وتعويلا على فضله في دفع شر أعدائه نظيره قوله في سورة طه: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها [طه: 130] . ذهب كثير من المفسرين كابن قتيبة وسعيد بن جبير منقولا عن ابن عباس، أن دلوك الشمس هو غروبها. وعلى هذا لا تشمل الآية صلاتي الظهر والعصر. وأكثر الصحابة والتابعين على أن دلوك الشمس زوالها عن كبد السماء ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبرائيل لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر. قالوا: واشتقاقه من الدلك لأن الإنسان يدلك عينيه إذ ينظر إليها وهي في كبد السماء. وعلى هذا التفسير تشمل الآية جميع الصلوات الخمس. وحمل كلام الله على ما هو أكثر فائدة أولى واللام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 بمعنى الوقت أو للتعليل أي أدم الصلاة في هذا الوقت أو لأجل دخول هذا الوقت إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ أي ظلمته. قال الكسائي: غسق الليل غسوقا أي أظلم، والاسم الغسق بفتح السين والتركيب يدور على السيلان ومنه يقال: غسقت العين إذا هملت وكأن الظلام انهمل على الدنيا وتراكم. وهذا عند سيبويه الشفق الأبيض، فاستدل به بعض الشافعية على أن أول وقت العشاء الآخرة يدخل بغروب الشفق الأحمر لأن المحدود إلى غاية يكون مشروعا قبل حصول تلك الغاية. وهذا الاستدلال مبني على أن الغاية لا تدخل في ذي الغاية، وعلى أن الآية يجب أن تشمل جميع الصلوات، وللخصم المنع في المقامين. ثم إن المفسرين أجمعوا على أن المراد بقرآن الفجر هو صلاة الصبح تسمية للشيء ببعض أجزائه، ومثله تسمية الصلاة ركوعا وسجودا وقنوتا. قال جار الله: إنه حجة علي ابن علية والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن. قلت: أجزاء الصلاة أعم من أركانها ولهذا قسمت الفقهاء الصلاة إلى أركان وأبعاض وهيئات فلا يتم هذا الاعتراض. وفي الآية مسائل: الأولى: استدل بعض الشيعة بها على جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقا. وأجيب بأن الآية مخصوصة بفعل الرسول أو بقوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي» «1» ويستثنى منه عذر السفر والمطر لعدم الدليل المخصص في تلك الصورة فلزم إبقاؤها على الجواز الأصلي. الثانية: استدل بعض الشافعية بها على أن التغليس في صلاة الصبح أفضل من التنوير لوجوه منها: أنه أضاف القرآن إلى الفجر والتقدير: أقم قرآن الفجر. وظاهر الآية للوجوب فلا أقل من الندب حتى لا تكثر مخالفة الدليل. والفجر انفجار ظلمة الليل فيلزم أن تكون إقامة الفجر في أول الوقت أفضل. ومنها أنه خص الفجر بإضافة القراءة إليه فدل ذلك على أن طول القراءة في هذه الصلاة مطلوب، ولن يتم هذا المطلوب إلا إذا شرع في أدائه في أول الوقت. ومنها أنه وصف قرآن الفجر بكونه مشهودا فقيل: أي يشهده الكثير من المصلين في العادة، أو من حقه أن يكون مشهودا بالجماعة الكثيرة. وقال أكثر المفسرين: معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح تنزل هؤلاء وتصعد هؤلاء في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار. وقيل: إنهم يجتمعون خلف الإمام تنزل ملائكة النهار عليهم وهم في صلاة الصبح قبل أن تعرج ملائكة الليل. فإذا فرغ   (1) رواه البخاري في كتاب الأذان باب 18. الدارمي في كتاب الصلاة باب 42. أحمد في مسنده (5/ 53) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل ومكثت ملائكة النهار. ثم إن ملائكة الليل إذا صعدت قالت: يا رب إنا تركنا عبادك يصلون لك، وتقول ملائكة النهار: ربنا لقينا عبادك وهم يصلون. فيقول الله لملائكته: اشهدوا فإني قد غفرت لهم. والغرض أن المكلف إذا شرع في صلاة الصبح في آخر الظلمة الذي هو أول الفجر كانت ملائكة الليل حاضرين بعد. ثم إذا امتدت هذه الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة بالكل أو بالأكثر وحضرت ملائكة النهار، وهذا المعنى لا يحصل إذا ابتدئ بها وقت التنوير. قال أهل التحقيق: إذا شرع في صلاة الصبح في أول وقتها شاهد في أثنائها انقلاب العالم من الظلمة- التي هي نظيرة الموت- إلى الضياء الذي هو نظير الحياة، فإنه يفيء عقله من هذه الحالة إلى عجيب صنع الخلاق المدبر للأنفس والآفاق، فيزداد بصيرة وإيقانا ومعرفة وإيمانا، وتنفتح عليه أبواب المكاشفة والمشاهدة. وإذا كان هذا المعنى في الجماعة الكثيرة صارت نفوسهم كالمرايا المشرقة المتقابلة المتعاكسة أضواؤها الواقعة على كل منها، فيزداد كل منهم نورية وبهاء. فيحتمل أن يكون قوله: مَشْهُوداً إشارة إلى هذه الأحوال المشاهدة. ولا ريب أنه إذا شرع في الصلاة أول انتباهه من النوم قبل أن يرد على لوح عقله وفكره النقوش الفاسدة من الأمور الدنيوية الدنية، كان أولى فإن الأنبياء ما بعثوا إلا لإزالة مثل هذه الأمراض عن النفوس. ثم حث على قيام الليل فقال: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ قال أبو عبيدة وابن الأعرابي: هذا من الأضداد لأنه يقال: هجد الرجل إذا نام وهجد أيضا إذا صلى من الليل، ويوسط الأزهري فقال: الهجود في الأصل هو النوم بالليل، ولكن تاء التفعل فيه لأجل التجنب به ومنه «تأثم» «وتحرج» إذا ألقى الإثم والحرج عن نفسه. فكأن به المتهجد يدفع الهجود عن نفسه. وبوجه آخر لما كان غرض المصلي بالليل أن يطيب رقاده وهجوده بعد الموت سمي بذلك الاعتبار متهجدا. وربما يقال: سمي تهجدا لأن الأصل فيه أن يرقد ثم يصلي ثم يرقد ثم يصلي، فهو صلاة بعد رقاد كما كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولداود كما جاء في الحديث: «أفضل القيام قيام داود كان ينام ثلثه ويقوم سدسه ثم ينام ثلثه ويقوم سدسه» «1» قال جار الله: معنى وَمِنَ اللَّيْلِ وعليك بعض الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ وقال في التفسير الكبير: تقديره وأقم الصلاة في بعض الليل فتهجد به أي بالقرآن. ومعنى نافلة زائدة كما مر في أول «الأنفال» . ثم من ذهب إلى أن صلاة الليل   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الصيام باب 31. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم. زعم أن معناها كونها فريضة له زائدة على الصلوات الخمس، أو المراد أن فرضيتها نسخت عنك فصارت تطوعا زائدة على الفرائض. ويرد عليه أن الأمر ظاهره الوجوب فيكون بين قوله: فَتَهَجَّدْ وبين قوله نافِلَةً تعارض، وكذا الاعتراض على قول من يقول إن صلاة الليل لم تكن واجبة عليه. ويمكن أن يجاب عنه بأن قوله: نافِلَةً قرينة صارفة للوجوب إلى الندب. وعن مجاهد والسدي أن كل طاعة يأتي بها النبي سوى المكتوبة فإن تأثيرها لا يكون في كفارة الذنوب لأنه غفر له ذنبه ما تقدم منه وما تأخر، وإنما تكون مؤثرة في زيادة الدرجات وكثرة الثواب ولا كذلك حال الأمة فكأنه قيل للنبي: إن هذه الطاعات زوائد ونوافل في حقك لا في حق غيرك، لأن غيرك يحتاج إليها في تكفير السيئات ومن تقييد التهجد بقوله: نافِلَةً لَكَ يعلم أن قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ عام له ولكل أمته وإن كان ظاهره خطابا معه. ثم وعده على إقامة الفرائض والنوافل بقوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ ولا ريب أن «عسى» من الكريم أطماع واجب قال في الكشاف: انتصب مَقاماً مَحْمُوداً على الظرف أي عسى أن يبعثك يوم القيامة فيقيمك مقاما محمودا، أو ضمن يبعثك معنى يقيمك، أو هو حال أي يبعثك ذا مقام محمود، وقيل: إنه مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات. والأولى أن يخص ذلك بالشفاعة لأنه الحمد إنما يكون بإزاء إنعام ولا إنعام للنبي على أمته في الآخرة إلا إنعام الشفاعة، أو لا إنعام أجل منها لأن السعي في تخليص الغير من العقاب أهم من السعي في إيصال الثواب إليه، ويؤيده رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي. وأما ما روي عن حذيفة أن المقام المحمود هو أن يجمع الناس في صعيد واحد ولا تتكلم نفس، فأول مدعو محمد فيقول: لبيك وسعديك والشر ليس إليك، والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت. فليس بقوي لأن هذا القول من محمد لا يوجب حمدا له من أمته إلا أن يكون من مقامات الشفاعة فيرجع إلى الأول. وقيل: أراد مقاما تحمد عاقبته. وروى الواحدي عن ابن مسعود أن ذلك حين يقعد محمد معه على العرش وزيف بلزوم التحيز له تعالى. قوله: مُدْخَلَ صِدْقٍ ومُخْرَجَ صِدْقٍ مصدران بمعنى الإدخال والإخراج، والإضافة إلى الصدق لأجل المبالغة نحو «حاتم الجود» أي إدخالا يستأهل أن يسمى إدخالا ولا يرى فيه ما يكره. قال الحسن وقتادة: نزلت حين أمر بالهجرة يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة، وقيل: إن اليهود لما قالوا له اذهب إلى الشام فإنه مسكن الأنبياء وعزم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذهاب إليه فكأنه قيل له المعبود واحد في كل البلاد وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فداوم على الصلاة وارجع إلى مقرك ومسكنك. وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي في المدينة مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي منها إلى مكة مُخْرَجَ صِدْقٍ أي افتحها لي فعلى هذين القولين يكون الكلام عودا إلى الواقعة المذكورة في قوله وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ والأولى أن يقال إنه عام في كل ما يدخل فيه ويلابسه ثم يتركه من أمر ومكان. وقيل: أراد إدخاله مكة ظاهرا عليها بالفتح وإخراجه منها آمنا من المشركين. وقيل: إدخاله الغار وإخراجه منه سالما. وقيل: إدخاله فيما حمله من عظيم الأمر وهو النبوّة، وإخراجه منه مؤديا لما كلفه من غير تفريط. وقيل: أراد رب أدخلني الصلاة وأخرجني منها مع الصدق والإخلاص والقيام بلوازم الحضور، أو أدخلني في مجاري دلائل التوحيد وأخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول. وقال صاحب الكشاف: أدخلني القبر إدخالا مرضيا وأخرجني منه عند البعث ملقى بالكرامة. يدل على هذا التفسير ذكره على أثر ذكر البعث وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً حجة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني أو ملكا وعزا ناصرا للإسلام وذويه. ثم شرفه باستجابة دعائه بقوله: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ أي الإسلام وَزَهَقَ الْباطِلُ اضمحل الشرك من زهقت نفسه إذا خرجت إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً غير ثابت في كل وقت وإن اتفقت له دولة وصولة كانت كنار العرفج. عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما لقبائل العرب. صنم كل- قوم بحيالهم- فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل. فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة- وكان من قوارير صفر- فقال: يا علي ارم به. فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد فرمى به فكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون: ما رأينا رجلا أسحر من محمد فلا جرم كذبهم الله وصدق نبيه بقوله: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ «من» للبيان كقوله: مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] أو للتبعيض أي ننزل ما هو شفاء. وهو هذا القرآن أو بعض هذا الجنس. وقيل: زائدة. ولما كانت إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة ذكر كون القرآن شفاء من الأمراض الروحانية كالعقائد الفاسدة والأخلاق الدميمة ومن الأمراض الجسمانية أيضا لما في قراءته من التيمن والبركة وحصول الشفاء للمرض كما قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله» . ثم بين أنه رحمة للمؤمنين لما فيه من كيفية اقتناص العلوم الجليلة والأخلاق الفاضلة التي بها يصل الإنسان إلى جوار الملائكة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 المقرّبين بل إلى جناب رب العالمين، ولما كان قبول القابل شرطا في ظهور الأثر من الفاعل فلا جرم لا يَزِيدُ القرآن الظَّالِمِينَ الذي وضعوا التكذيب مقام التصديق والشك موضع الإيقان والاطمئنان إِلَّا خَساراً لأن البدن غير النقي كلما غذوته زدته شرا فلا يزال سماع القرآن يزيد المشركين غيظا وحنقا ويدعوهم ذلك إلى زيادة ارتكاب الأعمال القبيحة وهلم جرا إلى أن يدفع الله مكرهم ونكرهم. ثم ذكر قبح شيمة الإنسان الذي جبل عليه فقال: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أي على هذا الجنس بالصحة والغنى. وعن ابن عباس أنه الوليد بن المغيرة. وفي التخصيص نظر إلا أن يكون سبب النزول أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ النأي البعد، والباء للتعدية أو للمصاحبة وهو تأكيد للإعراض، لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه أي ناحيته. والنأي بالجانب أن يلوي عن عطفه ويوليه ظهره، أو أراد الاستكبار لأن هذا الفعل من شأن المستكبرين. ومن قرأ ناء فإما من النوء بمعنى النهوض مستثقلا، وإما مقلوب كقولهم «راء» في رأى. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من مرض أو فقر كانَ يَؤُساً شديد اليأس من روح الله. والحاصل أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي وظفر بالمقصود الدني نسي المنعم الحقيقي، وإن فاته شيء من ذلك استولى عليه الأسف حتى كاد يتلف أو يدنف، وكلتا الخصلتين مذمومة ولا مقتضى لهما إلا العجز والطيش وكل بقدر كما قال: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ أي كل واحد من الخلائق إنما يتيسر له أن يعمل على سيرته وطريقته التي تشاكل حاله التي جبل عليها من قولهم «طريق ذو شواكل» وهي الطرق التي تتشعب منه. فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا لأنه الذي خلق كل شيء ورباه وهو عالم بخاصية كل نفس وبمقتضى جوهرها المشرق، أو المظلم سواء قلنا إن النفوس مختلفة بالماهيات، أو هي متساوية الحقائق واختلاف أحوالها لاختلاف أمزجة أبدانها، كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار وتسود وجهه. ولما انجر الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل هو عليه لزم البحث عن ماهية الروح فلذلك قال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ذكر المفسرون في سبب نزوله أن اليهود قالوا لقريش: سلوا محمدا عن ثلاث: عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح. فإن أجاب عن الأولين وأبهم الثالثة فهو نبي لأن ذكر الروح مبهم في التوراة، وإن أجاب عن الكل أو سكت فليس بنبي. فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح إذ قال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي مما استأثر الله بعلمه فندموا على سؤالهم. ومن الناس من طعن في هذه الرواية لوجوه منها: أن الروح ليس أعلى شأنا من الله تعالى، وإذا كانت معرفة الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 ممكنة بل حاصلة فما المانع من معرفة الروح. ومنها أن هذه المسألة تعرفها الفلاسفة والمتكلمون فكيف يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول إني لا أعرفها مع وفور علمه وكمال معرفته؟ وكيف يصح ما روي عن ابن أبي بريدة لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح. ومنها أن جعل الحكاية دليلا على النبوة غير معقول. ونحن نتقصى عن المسألة فنقول: السؤال عن الروح إما أن يكون عن حقيقته أو عن حال من أحواله ككونه متحيزا أو غير متحيز، أو قديما أو حادثا أو باقيا بعد البدن أو فانيا، وعلى تقدير البقاء ما سعادته وشقاوته. وبالجملة فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة. وقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ليس فيه ما يدل على تعيين شيء من هذه المسائل، فالأولى أن يحمل السؤال على السؤال عن الحقيقة لأن معرفة حقيقة النبي أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله، فيكون قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي رمز إلى أن الروح جوهر بسيط مجرد حصل بمجرد الأمر وهو قوله: كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] لأن الآية دلت على أن الروح من أمر الرب. وقال في آخر سورة يس إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] ينتج أن الروح إذا أراده فإنما يقول له كن فيكون، ومنه يعلم أنه شيء مغاير للأجسام المتوقعة على المادة والمدة وللأعراض الموقوفة على الأجسام، وأنه بسيط محض وإلا لتوقف على انضمام أجزائه. ولا يلزم من كون الروح كذلك كونه مشاركا للباري تعالى في الحقيقة، فإن الاشتراك في اللوازم لا يقتضي الاشتراك في الملزومات. وليس في الآية دلالة على حدوث الروح إلا بحسب الذات، بل لمستدل أن يستدل بها على قدمه بالزمان إذا لو كان متوقفا على الزمان لم يكن حاصلا بمجرد الأمر والمفروض خلافه. ولما كان أمر الروح مشتبها على الناس كلهم أو جلهم ختم الآية بقوله: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وذلك أن الإنسان وإن كمل علمه وكثرت معرفته بحقائق الأشياء ودقائقها فإن ما علم يكون أقل مما لم يعلم، فإذا نسب معلومه إلى معلومات الله المشار إليها بقوله: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان: 27] قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي [الكهف: 109] كان كلا شيء فإنه لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلا. وقال بعض المفسرين: هو خطاب لليهود خاصة لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أوتينا التوراة وفيها الحكمة وقد تلوت: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269] فقيل لهم: إن علم التوراة قليل في جنب علم الله. وذكر الإمام فخر الدين الرازي أن قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي يدل على أن الروح حادث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 لأن الأمر قد جاء بمعنى الفعل. قال تعالى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: 97] أي فعله وقال: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا [هود: 94] أي فعلنا. وإذا حصل الروح بفعل الله وتكوينه كان من المحدثات. قلت: هذا عين النزاع فإن الخصم لا يسلم أن كل ما هو من فعل الله وبإيجاده فإنه حادث. ثم ذكر حجة أخرى على حدوث الروح مستنبطة من قوله سبحانه: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ووجه تقريرها أن الإنسان بل روحه في مبدأ الفطرة خال عن العلوم والمعارف، ثم لا يزال يحصل له المعارف فهو دائما في التبدل والتغير من النقصان إلى الكمال وكل متغير محدث. ومنع كلية هذه القضية عند الخصم مشهور على أن حمل وقت قلة العلم على أول الفطرة تخصيص من غير دليل، مع أن ظاهر الآية يدل على أن الإنسان وإن أوتي حظا من العلم وافرا، فإنه قليل بالإضافة إلى علم عالم الذات. وقيل: الروح المذكور في الآية هو القرآن الذي تسبب لحياة الروح كأن القوم استعظموا أمره فسألوا إنه من جنس الشعر أو من جنس الكهانة فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر وإنما هو كلام ظهر بأمر الله ووحيه وتنزيله. وقيل: هو ملك في غاية العظم والشرف وهو المراد من قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النبأ: 38] ونقل عن علي عليه السلام أن له سبعين ألف وجه، ولكل وجه سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ويخلق الله من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة يوم القيامة ولم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش، ولو شاء الله أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع بلقمة واحدة لفعل. وأمثال هذه الروايات مسرحة إلى بقعة الإمكان ولا وجه للاعتراض عقلا عليه. وقال الحسن وقتادة: هذا الروح جبرائيل كأنهم سألوا الرسول كيف جبرائيل في نفسه وكيف قيامه بتبليغ الوحي؟ فأمر بأن يقول الروح من أمر ربي أي نزوله بأمر الرب كقوله: ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم: 64] وقال مجاهد: الروح خلق ليسوا بالملائكة على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس يأكلون كما يأكل الناس، وليسوا بالناس. وزيفت هذه الأقوال بأن صرف السؤال عن الروح الإنساني الذي تتوفر دواعي العقلاء على معرفته إلى أشياء مجهولة الوجود مستنكر. واعلم أن للعقلاء في حقيقة الإنسان اختلافات كثيرة، وإذا كان حال العلم بأقرب الأشياء إلى الإنسان وهو نفسه هكذا، فما ظنك بما هو الأبعد! ولنذكر بعض تلك المذاهب فلعل الحق يلوح في تضاعيف ذلك فنقول: العلم الضروري حاصل بوجود شيء يشير إليه كل واحد بقوله «أنا» فذلك المشار إليه إما أن يكونه جوهرا مفارقا، أو جسما هو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 هذه البنية، أو جسما داخلا فيها أو خارجا عنها أو عرضا. أما المتكلمون فالجمهور منهم ذهبوا إلى أن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس، وزيف بأن البدن دائما في التغير والتبدل. والمشار إليه بأنا واحد من أول العمر إلى آخره، وبأن الإنسان غير غافل عن نفسه حين ما يكون ذاهلا عن أجزاء بدنه، بأن النصوص الواردة في القرآن والخبر كقوله عز من قائل: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ [البقرة: 154] ، يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي [الفجر: 28] النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا [الرمز: 46] وكقوله صلى الله عليه وسلم: «أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار» «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» «1» وقوله في خطبة طويلة: «حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرف روحه فوق النعش ويقول يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله وغير حله فالهناء لغيري والتبعة عليّ فاحذر وأمثل ما حل بي» توجب مغايرة النفس للبدن، وبأن جميع فرق الدنيا من أرباب الملل والنحل يتصدقون عن موتاهم يزورونهم ويدعون لهم بالخير، وبأن الميت قد يرى في المنام فيخبر عن أمور غائبة وتكون كما أخبر، وبأن الإنسان قد يقطع عضو من أعضائه ويعلم يقينا أنه هو الذي كان قبل ذلك، وبثبوت المسخ في حق طائفة من أهل الكتاب وليس المسخ إلا تغيير البنية مع بقاء الحقيقة، وبأن جبرائيل قد رؤي في صورة دحية، وإبليس رؤي في صورة الشيخ النجدي، فعلم أن لا عبرة بالبنية، وبأن الزاني يزني بفرجه فيضرب على ظهره، فعلم أن المتلذذ والمتألم شيء آخر سوى العضوين، وبأنا نعلم ضرورة أن العالم الفاهم للخطاب إنما هو في ناحية القلب ليس جملة البدن ولا شيئا من الأعضاء. أما إن قيل: الإنسان جسم هو في داخل البدن. فاعلم أن أحدا من العقلاء لم يقل بأن الإنسان عبارة عن الأعضاء الكثيفة الصلبة التي غلبت عليها الأرضية كالعظم والغضروف والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد، ولكن منهم من قال: إنه الجسم الذي غلب عليه المائية من الأخلاط الأربعة، أعني الدم بدليل أنه إذا خرج لزم الموت. ومنهم من قال: إنه الذي غلب عليه الهوائية والنارية وهو الروح الذي في القلب، أو جزء لا يتجزأ في الدماغ، ومنهم من يقول: اختلطت بهذه الأرواح القلبية والدماغية أجزاء نارية مسماة بالحرارة الغريزية وهي الإنسان. ومنهم من قال: إذا تكوّن بدن الإنسان وتم استعداده نفذت فيه أجرام سماوية نورانية لطيفة الجوهر على طبيعة ضوء الشمس غير قابلة للتبديل والتحويل ولا للتفرق والتمزق، نفوذا يشبه نفوذ النار في الفحم والدهن في   (1) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 26. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 السمسم وماء الورد في الورد. وهذا النفوذ هو المراد بقوله: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: 72] ثم إذا تولد في البدن من أخلاط غليظة منعت من سريان تلك الأجسام فيها، فانفصلت لذلك عن البدن فحينئذ يعرض الموت للجوهر. وقال الإمام فخر الدين الرازي: هذا مما ذهب إليه ثابت بن قرة وغيره وهو مذهب قوي شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت. قلت: أما نفوذ الجوهر النوري في البدن كنفوذ الدهن في السمسم فمسلم، وأما أنه أجرام وأجسام ففيه نظر، واعلم أنه لم يذهب أحد إلى أن الإنسان جسم خارج عن البدن، ولا إلى أنه عرض حال في البدن إلا ما نقل عن الأطباء، وعن أبي الحسين البصري من المعتزلة، أن الإنسانية عبارة عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص وعلى نسبة معلومة تخص هذا الصنف. ومن شيوخ المعتزلة من قال: الإنسان عبارة عن أجزاء مخصوصة بشرط كونها موصوفة بأعراض مخصوصة هي الحياة والعلم والقدرة. ومنهم من قال: إنه يمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده وهيئة أعضائه. والصحيح من المذاهب عند أكثر علماء الإسلام- كالشيخ أبي القاسم الراغب الأصفهاني والشيخ أبي حامد الغزالي، من قدماء المعتزلة معمر بن عباد السلمي، ومن الشيعة الشيخ المفيد رضي الله عنه، ومن الكرامية جماعة، ومن الفلاسفة الإلهيين كلهم- أن الروح الإنساني جوهر مجرد ليس داخل العالم الجسماني ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه، ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف كما أن إله العالم لا تعلق له بالعلم إلا على سبيل التصرف والتدبير، ومهما انقطعت علاقته عن البدن بقي البدن معطلا ميتا. واستدلوا على هذا المطلوب بحجج منها ما اختاره الإمام فخر الدين الرازي وهي لو كان الإنسان جوهرا متحيزا لكان كونه متحيزا عن ذاته المخصوصة إذ لو كان صفة قائمة بها لزم كون الشيء الواحد متحيزا مرتين ولزم اجتماع المثلين. وأيضا لم يكن جعل أحدهما ذاتا والآخر صفة أولى من العكس. وأيضا التحيز الثاني إن كان عين الذات فهو المقصود، وإن كان صفة لزم التسلسل، وإذا كان التحيز عين ذاته لزم أنه متى عرف ذاته عرف تحيزه لكنا قد نعرف ذاتنا مع الجهل بالتحيز والامتداد في الجهات الثلاث وذلك ظاهر عند الاختبار والامتحان، وإذا كان اللازم باطلا فالملزوم منتف وعورض بأنه لو كان الإنسان جوهرا مجردا لكان كل من عرف ذاته عرف تجرده وليس كذلك. وأجيب بالفرق بين التحيز- وهو صفة ثبوتية- وبين التجرد وهو صفة سلبية، ومنها أن الشيء الذي يشير إليه كل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 واحد بقوله: «أنا واحد» بالبديهة، ولأن الغضب مثلا حالة نفسانية تحدث عند محاولة دفع المنافي مشروطا بالشعور بكون الشيء منافيا. فالذي يغضب لا بد أن يكون هو بعينه مدركا، ولأن اشتغال الإنسان بالغضب وانصبابه إليه يمنعه من الاشتغال بالشهوة والانصباب إليها، فعلمنا أنهما صفتان مختلفتان لجوهر واحد إذ لو كان لكل منهما مبدأ مستقل لم يكن اشتغال أحدهما بفعله مانعا للآخر، وأيضا شيئا فقد يكون الإدراك سببا لحصول الشهوة، وقد يكون سببا للغضب، فعلمنا أن صاحب الإدراك بعينه هو صاحب الشهوة والغضب. وأيضا النفس لا يمكنها أن تتحرك بالإرادة إلا عند حصول الداعي ولا معنى للداعي إلا الشعور بخير يرغب في جذبه أو بشر يرغب في دفعه، وهذا يقتضي أن المتحرك بالإرادة هو بعينه المدرك للخير والشر واللذيذ والمؤذي والنافع والضار، وهو المبصر والسامع والشام والذائق واللامس والمتخيّل والمتفكر والمشتهي والغاضب بوساطة آلات مختلفة وقوى متغايرة. وإذا ثبت ذلك فلو كانت النفس عبارة عن جملة البدن كان للكل أثر واحد، ولو كانت جزءا من أجزاء البدن كانت قوة سارية في جميع أجزاء البدن، والوجود بخلاف الكل فحصل اليقين بأن النفس شيء مغاير لكل البدن ولكل جزء من أجزائه. ومنها أن الاستقراء يدل على أحوال النفس بالضد من أحوال الجسد لأن الجسم إذا قبل شكل التثليث مثلا امتنع أن يقبل حينئذ شكل التربيع ولا كذلك حال النفس، فإن إدراك كل صورة يعينها على إدراك ما عداها ولذلك يزداد الإنسان فهما وذكاء بازدياد العلوم. وأيضا كثرة الأفكار توجب قوة للنفس وتستدعي استيلاء النفس على الدماغ وقد تصير أبدان أرباب الرياضة في غاية النحافة والهزال وتقوى نفوسهم بحيث لا يلتفتون إلى السلاطين وأصحاب الشوكة والقوة، ومما يختص بهذه الآية التي نحن في تفسيرها أن الروح لو كان جسما منتقلا من حالة إلى حالة لكان مساويا للبدن في كونه متولدا من أجسام متغيرة من صفة إلى صفة، فحيث سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح كان الأنسب أن يقول: إنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا كما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم صار علقة ثم مضغة إلى آخره. والأحاديث الواردة في أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد تؤكد ذلك الرأي الذي ادعينا من أن النفس شيء مغاير للبدن ولأجزائه والله أعلم بحقائق الأمور. قال أهل النظم: لما بين أنه ما أتاهم من العلم إلا القليل أراد أن يبين أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل لقدر عليه فقال: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قلت: في نسبة علم القرآن إلى القلة خروج من الأدب فالأولى في وجه النظم أن يقال: إنه لما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 كشف لهم الغطاء عن مسألة الروح، وبين أن ذلك من العلوم الإلهية التي لا نهاية لها لا من العلوم الإنسانية القليلة، وكان فيه بيان كمال علمه تعالى ونقصان علم الإنسان، أراد أن يبين غاية قدرته ونهاية ضعف الإنسان أيضا فبين أنه قادر على ذهاب القرآن ونحوه عن الصدور والمصاحف، وسيكون ذلك في آخر الزمان كما جاء في الروايات ثم لا يجد النبي- الذي هو أكمل أنواع الإنسان- من يتوكل عليه باسترداده فضلا عن غيره إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ استثناء متصل أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك كأن رحمته تتوكل عليه بالرد، أو منقطع معناه ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به إِنَّ فَضْلَهُ بإيحاء القرآن إليك ثم إبقائه عليك أو بهذا وبسائر الخصائص والمزايا كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً وفيه أن نعمة القران وبقاءه محفوظا في الصدور مسطورا في الدفاتر من أجلّ النعم وأشرفها، فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن شكرها والقيام بمواجبها جعلنا الله ممن يراعي حق القرآن ويعمل بمقتضاه. واحتج الكعبي بالآية على أن القرآن مخلوق لأن ما يمكن إزالته والذهاب به يستحيل أن يكون قديما، وأجيب بأن إزالة العلم عن القلوب والذهاب بالنقوش الدالة عليه في المصاحف لا يوجب حدوث الكلام النفسي الذي هو محل النزاع. ثم دل على أن الذي أوحي إليه ليس من جنس كلام المخلوقين فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ الآية. وقد مرّ وجه إعجاز القرآن في أوائل سورة البقرة. فإن قيل: هب أنه ظهر عجز الإنسان عن معارضته فكيف يعرف عجز الجن عن معارضته، ولم لا يجوز أن يقال: إن الجن أعانوه على هذا التأليف سعيا في إضلال الخلق؟ وإخبار محمد بأنه ليس من كلام الجن يوجب الدور وليس لأحد أن يقول: إن الجن ليسوا بفصحاء، فكيف يعقل أن يكون القرآن كلامهم لأنا نقول: التحدي مع الجن إنما يحسن لو كانوا فصحاء؟ فالجواب أن عجز البشر عن معارضته يكفي في إثبات كونه معجزا. ثم إن الصادق الذي ثبت صدقه بظهور المعجز على وفق دعواه أخبر أن الجن أيضا عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن فسقط السؤال بالكلية. على أنه سبحانه قد أجاب عنه في آخر سورة الشعراء بقوله: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ [الشعراء: 221] وسوف يجيء تفسيره إن شاء الله تعالى. قالت المعتزلة: التحدي بالقديم محال. وأجيب بمثل ما مر أن محل النزاع هو الكلام النفسي لا الألفاظ التي يقع التحدي بها وبفصاحتها. ثم بين أنهم مع ظهور عجزهم بقوا مصرين على كفرهم فقال: وَلَقَدْ صَرَّفْنا رددنا وكررنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ «من كل» معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه وذلك كدلائل التوحيد والنبوة والمعاد وكالقصص اللائقة وغيرها من المواعظ والنصائح. فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ فيه معنى النفي كأنه قيل: فلم يرضوا إِلَّا كُفُوراً وجحودا. قال أهل البرهان: إنما لم يذكر الناس في أوائل السورة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 حين قال: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا [الآية: 41] لتقدم ذكرهم في السورة وذكرهم في «الكهف» إذا لم يجر ذكرهم وذكر الناس هاهنا وإن جرى ذكرهم دفعا للالتباس، لأن ذكر الجن أيضا قد جرى وقدم للناس على قوله: فِي هذَا الْقُرْآنِ كما قدمه في قوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وأما في «الكهف» فعكس الترتيب لأن اليهود سألته عن قصة أصحاب الكهف وغيرها. وقد أوحاها الله تعالى إليه في القرآن فكانت العناية بالقرآن أكثر فكان تقديمه أجدر. التأويل: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ أي من عمى قلوبهم وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ بالقول الثابت وهو قول «لا إله إلا الله» إلى أن بلغت حقيقة «لا إله إلا الله» شَيْئاً قَلِيلًا وإنما وصفه بالقلة لأن بشريته مغلوبة وروحانيته غالبة. ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي نحيي نفسك وأذقناك عذاب حياتها واستيلائها على الروح ونميت قلبك. وأذقناك عذاب مماته وضعف روحك وبعده عن الحق. سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا أي جرت عادة الله تعالى بأن يجعل لكل نبي عدوا يؤذيه ويمكر به. ثم بين طريق خلاص الأنبياء والأولياء عن ورطة الابتلاء فقال: أَقِمِ الصَّلاةَ أي أدّها بالقلب الحاضر نهارا وليلا. إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً بشواهد الحق بل الحق مشهود له. ثم أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ يعني السير في الله بالله وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ من حولي وأنانيتي وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ لا من لدن غيرك. وفيه أن كل ذي مقام فإنه لا يصل إلى مقام إلا بسعي يلائم الوصول إلى ذلك المقام كقوله وَسَعى لَها سَعْيَها [الإسراء: 19] . روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعرض حاجة فقال صلى الله عليه وسلم: ما تريد؟ فقال: مرافقتك في الجنة. فقال صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك؟ فقال الرجل: بلى مرافقتك في الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأعني على نفسك بكثرة السجود جاءَ الْحَقُّ من الواردات والشواهد وتجلي صفات الجمال والجلال وَزَهَقَ الْباطِلُ وهو كل ما خلا الله من الموجودات ومن الخواطر كقوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ لأن كلام الحبيب طبيب القلوب إن الأحاديث من سلمى تسليني قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي قال العارفون: لله تعالى عالمان: عالم الأمر الذي خلق لا من شيء، وعالم الخلق الذي خلق من شيء ويعبر عنهما بالآخرة والدنيا والملكوت والملك والغيب والشهادة. والمعنى والصورة والباطن والظاهر والأرواح والأجسام، وما روي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أول ما خلق الله جوهرة» - وفي رواية- «درّة فنظر إليها فذابت» «أول ما خلق الله اللوح» «أول ما خلق الله روحي» وفي رواية «نوري» «وأول ما خلق الله العقل» «وأول ما خلق الله القلم» «1» وما قيل عن بعض السلف إن أول ما خلق الله على الإطلاق ملك كروبي. فالأسماء مختلفة والمسمى واحد وهو روح النبي صلى الله عليه وسلم. فباعتبار أنه كان درة صدف الموجودات سمي درة وجوهرة، وباعتبار نورانيته سمي نورا، وباعتبار وفور عقله سمي عقلا، إذ قال له أقبل إلى الدنيا رحمة للعالمين فأقبل. ثم قال له: أدبر أي ارجع إلى ربك فأدبر عن الدنيا ورجع إلى المعراج، ثم قال له: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب إليّ منك، بك أعرف، وبك آخذ، يعني طاعة من أخذ منك الدين والشريعة، وبك أعطي أي بشفاعتك أعطي الدرجات العالية، وبك أعاقب الكافرين وبك أثبت المؤمنين. وباعتبار جريان الأمور على وفق متابعته والاقتداء به سمي قلما وباعتبار غلبات صفات الملائكة عليه سمي ملكا كروبيا، ولأن كل الأرواح خلقت من روحه كان أم الأرواح وروحها فلهذا قيل له «أمي» . وقد ورد في الحديث: «آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة» «2» ولما كان الروح خليفة الله تعالى اتصف بالأزلية دون الأبدية، ولما كان الجسد خليفة الروح فبالروح قوامه وقيامه لم يكن الجسد أزليا ولا أبديا إلا بتبعية الروح. ثم أخبر عن عزة القرآن وغيرة الرحمن بقوله: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ الآية. وفيه أنه لا يقدر على الإتيان والذهاب به إلا الله تعالى لكنه أكد هذا المعنى بقوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ والمراد بالجن كل ما هو مستور عن العيون فيتناول الملائكة أيضا. وفيه أنه لا مثل لصفاته حتى الكلام كما أنه لا مثل لذاته والله تعالى أعلم بالصواب. [سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 111] وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)   (1) رواه أبو داود في كتاب السنة باب 16. الترمذي في القدر باب 17. أحمد في مسنده (5/ 317) . (2) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب 1. أحمد في مسنده (1/ 281، 295) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 القراآت: فَتُفَجِّرَ من الفجر: يعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف سوى المفضل وابن الغالب. الآخرون من التفجير تكثيرا للفعل وإن كان الفاعل والمفعول مفردا حَتَّى تُنَزِّلَ بالتخفيف: أبو عمرو ويعقوب. الآخرون بالتشديد كِسَفاً بفتح السين: أبو جعفر ونافع وعاصم وابن ذكوان. الباقون بالإسكان قال سبحان بلفظ الماضي: ابن كثير وابن عامر الباقون قُلْ على الأمر فَهُوَ الْمُهْتَدِي بإثبات الياء في الحالين: سهل ونافع وأبو عمرو وفي الوصل. الباقون بحذف الياء رَبِّي إِذاً بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو خَبَتْ زِدْناهُمْ بإدغام التاء في الزاي: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام وسهل. لقد علمت بضم التاء، على التكلم: عليّ. الآخرون بالفتح على الخطاب قُلِ ادْعُوا بكسر اللام للساكنين: عاصم وحمزة وسهل ويعقوب وعباس. الآخرون بضمها للإتباع أَوِ ادْعُوا بكسر الواو: عاصم وحمزة وسهل. الباقون بالضم أَيًّا ما حمزة ورويس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 يقفان على أَيًّا ثم يبتدئان ما تَدْعُوا ويسمى هذا الوقف وقف البيان. الباقون على كلمة واحدة. الوقوف: يَنْبُوعاً هـ لا تَفْجِيراً هـ لا قَبِيلًا هـ لا فِي السَّماءِ ط لابتداء النفي بعد طول القصة. وقيل: الأصح الوصل لأن قوله: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ من كلامهم نَقْرَؤُهُ ط رَسُولًا هـ رَسُولًا هـ رَسُولًا هـ وَبَيْنَكُمْ ط بَصِيراً هـ الْمُهْتَدِ ج لعطف جملتي الشرط مع التضاد مِنْ دُونِهِ لا لأن الواو لا يحتمل الاستئناف وَصُمًّا هـ جَهَنَّمُ ط سَعِيراً هـ جَدِيداً هـ لا رَيْبَ فِيهِ ط لتناهي الاستفهام إلى الإخبار كُفُوراً هـ الْإِنْفاقِ ط قَتُوراً هـ مَسْحُوراً هـ بَصائِرَ ط للابتداء بأن مع اتحاد القائل مَثْبُوراً هـ جَمِيعاً هـ لا للعطف لَفِيفاً، ط لانقطاع النظام والمعنى. نَزَلَ ط لابتداء النفي وَنَذِيراً، احترازا من إيهام العطف تَنْزِيلًا هـ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ط سُجَّداً، لا لَمَفْعُولًا هـ خُشُوعاً هـ الرَّحْمنَ ط لتصدير الشرط الْحُسْنى ج لانقطاع نظم الشرط إلى النهي مع اتحاد المراد. سَبِيلًا هـ تَكْبِيراً هـ. التفسير: ليس من شرط كون النبي صادقا تواتر المعجزات وتتالي الآيات، لأن فتح هذا الباب يوجب نقيض المقصود وهو أن لا تثبت نبوته أبدا، ولكن المعجز الواحد يكفي في صدق النبي، واقتراح الزيادة من جملة العناد فلا جرم لما بين الله سبحانه إعجاز القرآن حكى مقترحات المعاندين بيانا لتصميمهم على الكفر. قال ابن عباس: إن رؤساء مكة أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهم جلوس عند الكعبة- فأتاهم فقالوا: يا محمد إن أرض مكة ضيقة فسير جبالها لتتسع وفجر لنا ينبوعا نزرع فيها. فقال: لا أقدر عليه. فقال قائل منهم: أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا. فقال: لا أقدر عليه. فقيل له: أو يكون لك بيت من زخرف أي من ذهب فيغنيك عنا. فقال: لا أقدر عليه. فقيل له: فإذا كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا. فقال عبد الله ابن أمية المخزومي- وأمه عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم- لا والذي يحلف به لا أؤمن بك حتى تتخذ سلما فتصعد عليه ونحن ننظر فتأتي بأربعة من الملائكة فيشهدون لك بالرسالة، ثم بعد ذلك لا أدري أؤمن بك أم لا. فأنزل الله هذه الآيات. ولنشرع في تفسير اللغات. فقوله: يَنْبُوعاً أي عينا غزيرة من شأنها النبوع من غير انقطاع، والياء زائدة كيعبوب من عب الماء. وقوله: أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ معناه هب أنك لا تفجر الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك. وقوله: كَما زَعَمْتَ إشارة إلى قوله سبحانه: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [سبأ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 9] أو إشارة إلى ما مرّ في السورة من قوله: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً [الإسراء: 68] أي أجعل السماء قطعا متفرقة كالحاصب وأسقطها علينا. وقال عكرمة: كما زعمت يا محمد أنك نبي فاسقط السماء علينا. وقيل: كما زعمت أن ربك إن شاء فعل. قال في الكشاف: الكسف بسكون السين وفتحها جمع «كسفة» بالسكون كسدرة وسدر وسدر. وقال أبو علي: الكسف بالسكون الشيء المقطوع كالطحن للمطحون. واشتقاقه- على ما قال أبو زيد- من كسفت الثوب كسفا إذا قطعته. وقال الزجاج: من كسفت الشيء إذا غطيته كأنه قيل: أو تسقطها طبقا علينا، وهو نصب على الحال في القراءتين. ومعنى قَبِيلًا كفيلا بما تدعي من صحة النبوة والمراد أو تأتي بالله قبيلا وبالملائكة قبيلا فاختصر، أو المراد المقابل كالعشير بمعنى المعاشر. وفيه دليل على غاية جهلهم حيث لم يعلموا أنه تعالى لا يجوز عليه المعاينة نظير قولهم: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان: 21] وقال ابن عباس: أراد فوحا بعد فوج. وقال الليث: كل جند من الجن والإنس قبيل وقد مر في تفسير قوله: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ [الأعراف: 27] . قوله: بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ قال مجاهد: كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأينا في قراءة عبد الله «أو يكون لك بيت من ذهب» . وقال الزجاج: هو الزينة ولا شيء في تحسين البيت وتزيينه كالذهب. أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أي في معارجها فحذف المضاف. يقال: رقي في السلم وفي الدرجة. والمصدر «رقى» وأصله «فعول» كقعود وَمعنى لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ لن نؤمن لك لأجل رقيك حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً من السماء فيه تصديقك. قال الرسول: متعجبا من اقتراحاتهم أو تنزيها لله من تحكماتهم أو من قولهم: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ أي لست إِلَّا بَشَراً رَسُولًا فإن طلبتم هذه الأشياء أن آتي بها من تلقاء نفسي فالبشر لا يقدر على أمثال ذلك فكيف أقدر أنا عليها؟ وإن أردتم أن أطلب من الله إظهارها على يدي فالرسول إذا أتى بمعجز واحد وجب الاكتفاء به، ولا ضرورة إلى طلب الزيادة وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على الله بما ليس بضروري في الدعوة. ثم حكى عنهم شبهة أخرى فقال: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا أي الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وهو الوحي المعجز الهادي إلى طريق النجاة إِلَّا أَنْ قالُوا منكرين أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا ثم أجاب عن شبهتهم بقوله: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ على الأقدام كما يمشي الإنس مُطْمَئِنِّينَ ساكنين فيها لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا لأن الرسول لا بد أن يكون من جنس المرسل إليهم. فكأنه اعتبر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 لتنزيل الرسول من جنس الملائكة أمرين: أحدهما كون سكان الأرض ملائكة، والثاني كونهم ماشين على الأقدام غير قادرين على الطيران بأجنحتهم إلى السماء، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لطاروا أو سمعوا من أهلها ما يجب معرفته وسماعه فلا يكون في بعثة الملك إليهم فائدة. وجوز في الكشاف أن يكون قوله: بَشَراً ومَلَكاً منصوبين على الحال من رَسُولًا بل زعم أن المعنى له أجوب، ولعل ذلك لأن الإنكار توجه إلى كون الرسول متصفا بحالة البشرية لا الملكية، وإذا كان أحد الصنفين المتقابلين حالا لزم أن يكون الآخر كذلك. ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد قائلا: قُلْ كَفى بِاللَّهِ الآية. وذلك أن إظهار المعجزة على وفق دعوى النبي شهادة من الله تعالى له على الصدق. فإذا لم تسمع هذه الشهادة وهو عليم ببواطن الأمور وخفيات الضمائر فكيف بظواهرها؟ علم أن هذا مجرد الحسد والعناد من العباد فيجزيهم على حسب ذلك. ثم بين أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته وتقديره فقال: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ الآية. وقد مر خلاف المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة في مثله في آخر «الأعراف» وغيره. وقوه: فَهُوَ الْمُهْتَدِ حمل على اللفظ وقوله: فَلَنْ تَجِدَ حمل على المعنى. والخطاب في فَلَنْ تَجِدَ إما للنبي أو لكل من يستحق الخطاب. والأولياء الأنصار، والحشر على الوجوه إما بمعنى السحب عليها كقوله: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر: 48] واما بمعنى المشي عليها كما روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» «1» . وقيل لابن عباس: قد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يرون وينطقون ويسمعون حيث قال: رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً سَمِعُوا لَها الجمع بين ذاك تغيظا وزفيرا فكيف وبين قوله: عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا؟ فأجاب بأنهم لا يرون ما يسرهم، ولا ينطقون بحجة تقبل منهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم. وفي رواية عطاء أنهم عمي عن النظر إلى ما جعله الله لأوليائه، بكم عن مخاطبة الله ومخاطبة الملائكة المقربين، صم عن ثناء الله على أوليائه، وقال مقاتل: هذه الأحوال بعد قوله تعالى لهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] أو بعد أن يحاسبوا فيذهب بهم إلى النار. وإنما جعلوا مؤوفي الحواس جزاء على ما كانوا عليه في الدنيا من التعامي والتصامم عن الحق ومن عدم النطق به كُلَّما خَبَتْ أي سكن لهبها.   (1) رواه البخاري في تفسيره سورة 25 باب 1. مسلم في كتاب المنافقين حديث 54. الترمذي في كتاب التفسير سورة 17 باب 12. أحمد في مسنده (2/ 354، 363) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 خبت النار تخبو خبوا وأخباها غيرها أي أخمدها زِدْناهُمْ سَعِيراً قال ابن قتيبة: أي تسعرا وهو التلهب. ولا ريب أن خبو النار تخفيف لأهليها فكيف يجمع بينه وبين قوله: لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ [البقرة: 162] وأجيب بأنه يحصل لهم في الحال الأولى خوف حصول الحالة الثانية فيستمر العذاب، أو يقال: لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في الوقتين غير مشعور به، ويحتمل أن يقال: المراد بعدم التخفيف أنه لا يتخلل زمان محسوس أو معتد به بين الخبو والتسعر. وقال في الكشاف: لأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجرامهم تأكلها وتفنيها. ثم يعيدها، وفيه زيادة في تحسرهم وفي الانتقام منهم. ومما يدل على هذا التفسير قوله: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ الآية. ثم أبدى للجاحدين حجة يستبصر المذعن للحق إذا تأمل فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا الآية. وذلك أن من قدر على خلق السموات والأرض كان على إعادة من هو أدون منها أقدر، وعلى هذا فالمراد من خلق مثلهم إعادتهم بعد الإفناء كما يقول المتكلمون من أن الإعادة مثل الابتداء. ومن قال: أراد أنه قادر على إفنائهم وإيجاد غيرهم بصورتهم ليوحدوه ويتركوا الاعتراض عليه كقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر: 16] أي يبعثهم. وحين بيّن أن البعث أمر ممكن في نفسه ذكر أن لوقوعه وقتا معلوما ما عنده فقال: وَجَعَلَ لَهُمْ أي لبعثهم أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ قال جار الله: قوله: وَجَعَلَ معطوف على قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا والمعنى قد علموا بدليل العقل أنه قادر على خلق أمثالهم وجعل لهم. وأقول: يحتمل أن يكون الواو للاستئناف ووجه النظم كما مر لما طلبوا إجراء الأنهار والعيون في أراضيهم لتتسع معايشهم بين الله تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله وهي رزقه وسائر نعمه عى خلقه التي لا نهاية لها لبقوا على بخلهم وشحهم فضلا أن يملكوا خزائن هن بصدد الفناء والنفاد. قال النحويون: كلمة «لو» حقها أن تدخل على الأفعال دون الأسماء، لأنها حين تكون على معناها الأصلي تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره. والاسم يدل على الذوات والفعل هو الذي يدل على الآثار والأحوال لا الذوات. وأيضا إنها هاهنا بمعنى «إن» الشرطية وهي مختصة بالفعل فلا بد من تقدير فعل بعدها، فأصل الكلام: لو تملكون تملكون مرتين. فأضمر «تملك» إضمارا على شريطة التفسير فصار الضمير المتصل منفصلا لسقوط ما كان يتصل هو به ف أَنْتُمْ فاعل الفعل المضمر تَمْلِكُونَ تفسيره. وقال علماء البيان: فائدة هذا التصرف الدال على الاختصاص أنهم هم المختصون بالشح المتبالغ، وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 المفسر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر من حيث إنه لا يقصد الفعل بل الفاعل كما في قول حاتم: لو ذات سوار لطمتني. لا يقصد اللطمة بل اللاطمة أي لو حرة لطمتني وقوله: خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي خوف الفقر من أنفق ماله إذا ذهب وأمسكتم متروك المفعول معناه لبخلتم وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا شحيحا، والقتر والإقتار والتقتير التقصير في الإنفاق. وهذا الخبر لا ينافي ما قد يوجد في الإنسان من هو كريم جواد لأن اللام للجنس أي هذا الجنس من شأنه الشح إذ كان باقيا على طبعه لأنه خلق محتاجا إلى ضرورات المسكن والملبس والمطعوم والمنكوح، ولا بد له في تحصيل هذه الأشياء من المال فيه تندفع حاجاته وتتم الأمور المتوقفة على التعاون، فلا جرم يحب المال ويمسكه لأيام الضرورة والفاقة. ومن الناس من يحب المال محبة ذاتية لا عرضية فإذا الأصل في الإنسان هو البخل والجود منه إنما هو أمر تكلفي أو عرضي طلبا للثناء أو الثواب. وقيل: المراد بهذا الإنسان المعهود السابق ممن قالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا بين الله تعالى أنهم لو ملكوا خزائن الأرض لبخلوا بها. ثم قال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ فكأنه أراد أنا آتيناه معجزات مساوية لهذه الأمور التي اقترحتموها بل أقوى منها وأعظم، فليس عدم الاستجابة إلى ما طلبتموه من البخل ولكن لعدم المصلحة أو لعدم استتباع الغاية لعلمنا بإصراركم والختم على قلوبكم، عن ابن عباس: أن الآيات التسع هن: العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه على بني إسرائيل. وعن الحسن: الطوفان والسنون ونقص الثمرات. مكان الحجر والبحر والطور. وعن عمر بن عبد العزيز أنه سأل محمد بن كعب عنهن فذكر من جملتها: حل عقدة اللسان والطمس على أموالهم. فقال له عمر: لا يكون الفقيه إلا هكذا. أخرج يا غلام الجراب فأخرجه فنفضه فإذا بيض مكسور بنصفين وجوز مكسور وفوم وحمص وعدس كلها حجارة. وعن صفوان بن عسال أن بعض اليهود سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «أوحى الله إلى موسى أن قل لبني إسرائيل: لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تفشوا سر أحد إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف، وأنتم يا يهود خاصة لا تعدوا في السبت، فقام اليهوديان فقبلا يديه ورجليه وقالا: «إنك نبي ولولا أنا نخاف القتل لاتبعناك» «1» . قال الإمام فخر الدين   (1) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة 17 باب 15. أحمد في مسنده (4/ 239) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 الرازي: هو أجود ما قيل في الآيات التسع. وأقول: عد الأحكام من الآيات البينات فيه بعد، اللهم إلا أن يقال: النهي عن مساوئ الأخلاق والعادات من جملة علامات النبوة. قال بعد العلماء: أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بتسع وزاد واحدة تختص بهم. وروى أبو داود هذا الحديث ولم يذكر: «ولا تقذفوا محصنة» وشك شعبة في أنه صلى الله عليه وسلم: «ولا تقذفوا محصنة» أو قال: «تولوا الفرار» . وقيل: إنه كان لموسى آيات أخر كإنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه، وكالآيات التي عدها بعضهم من التسع وتركها بعضهم. إلا أن تخصيص العدد بالذكر لا يقدح في الزيادة عليه. هكذا قال الأصوليون، ولكن الذوق يأبى أن لا يكون للتخصيص فائدة. والذي يدور في خلدي أن سبب التخصيص هو أن مرجع جميع معجزاته إلى تسع أنواع كلمتين ونقص الثمرات مثلا فإنهما نوع واحد وهو القحط وقد يعسر إبداء ما به الاشتراك ولكن لا بد عندي من اعتقاد الانحصار في التسع لأجل خبر الصادق. أما قوله: فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ فالخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم والسؤال سؤال استشهاد لمزيد الطمأنينة والإيقان، لأن الأدلة إذا تظاهرت كان ذلك أقوى وأثبت. والمسئولون مؤمنو بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه. وقوله: إِذْ جاءَهُمْ يتعلق ب آتَيْنا وينتصب بإضمار «اذكر» ، أو هو للتعليل. والمراد فاسألهم يخبروك لأنه جاءهم أي جاء أباهم. ويحتمل أن يكون الخطاب لموسى بتقدير القول أي فقلنا له حين جاءهم سل بني إسرائيل أي سلهم من فرعون وقل له أرسل معي بني إسرائيل، أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم أو سلهم عن أن يعاضدوك ويساعدوك في الأمور والمسحور الذي سحر فخولط عقله. وقيل: هو بمعنى الساحر كالمشؤوم والميمون قاله الفراء. وعن محمد بن جرير الطبري أن معناه أعطى علم السحر. من قرأ «علمت» بضم التاء فظاهر لأن موسى كان عالما بصحة الأمر وأن هذه الآيات منزلها رب السموات والأرض، فأراد أني لا أشك في أمري بسبب تشكك مكذب مثلك. ومن قرأ بفتحها فالمراد تبين أن كفر فرعون كفر جحود وعناد كقوله وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: 14] . وقوله للآيات: هؤُلاءِ كقوله: والعيش بعد أولئك الأيام ومعنى بَصائِرَ بينات مكشوفات وانتصابها على الحال كأنه أشار بقوله: ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى أنها أفعال خارقة للعادة، وبقوله: بَصائِرَ إلى أن فاعله إنما فعله لغرض تصديق المدعي فتم حد المعجز بمجموع القيدين. ثم قارع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 موسى ظن فرعون بظنه فقال: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال الفراء: أي ملعونا محبوسا عن الخير من قولهم «ما ثبرك عن هذا» أي ما منعك وصرفك. وقال مجاهد وقتادة، أي هالكا من الثبور الهلاك. ولا ريب أن ظن موسى أصح من ظنه لأن إنكار ما علم صحته يستعقب لا محالة ويلا وثبورا وحسرة وندامة ولهذا قال: فَأَرادَ أي فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي يستخف موسى وقومه من بسيط الأرض أو من أرض مصر بالقتل والاستئصال أو بالنفي والإخراج. والحاصل أن فرعون عورض بنقيض المقصود فأغرق هو وقومه وأسكن بنو إسرائيل مكانه تحقيقا لقوله: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 34] ثم أخبر عن المعاد قائلا فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ وهو قيام الساعة جِئْنا بِكُمْ يعني معشر المكلفين كلهم لَفِيفاً جماعات من قبائل شتى ذوي أديان ومذاهب مختلفة، وذلك لأجل الحكم والجزاء والفصل والقضاء. ولما بين إعجاز القرآن وأجاب عن شبهات القوم أراد أن يعظم شأن القرآن ويذكر جلالة قدره فقال: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ التقديم للتخصيص أي ما أردنا بإنزاله إلا تقرير الحق في مركزه وتمكين الصواب في نصابه. قال جار الله: أي ما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله، وما نزل إلا ملتبسا بالحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير، أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظ بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين. وقال آخرون: الحق هو الثابت كما أن الباطل هو الزاهق، ولا ريب أن هذا الكتاب الكريم يشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام، وعلى تعظيم الملائكة وإقرار النبوات وإثبات المعاد، وعلى أصول الأديان والملل التي لا يتطرق إليها النسخ والتبديل، وكل هذه الأمور تدل على المعنى المذكور لأنها مما تبقى ببقاء الدهور. قال أبو علي الفارسي: بالباء في الموضعين بمعنى «مع» كما في قولك «خرج بسلاحه» أي أنزل القرآن مع الحق ونزل هو مع الحق. ويحتمل أن تكون الباء الثانية بمعنى «على» كما في قولك «نزلت بزيد» فيكون الحق عبارة عن محمد صلى الله عليه وآله لأن القرآن نزل به أي عليه وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً بالجنة وَنَذِيراً من النار ليس إليك وراء هذين شيء من إكراه على الدين والإتيان بشيء مما اقترحوه. ثم إن القوم كأنهم من تعنتهم طعنوا في القرآن من جهة أنه لم ينزل دفعة واحدة فأجاب عن شبهتهم بقوله: وَقُرْآناً وهو منصوب بفعل يفسره فَرَقْناهُ أي جعلنا نزوله مفرقا منجما. وعن ابن عباس أنه قرأه مشددا وقال: إنه لم ينزل في يومين أو ثلاثة بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة يعني أن فرق بالتخفيف يدل على فصل مقارب. وقال أبو عبيدة: التخفيف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 أعجب إليّ لأن تفسيره بيناه وليس للتشديد معنى إلا أنه نزل متفرقا. فالفرق يتضمن التبين ويؤكده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال: فرقت أفرق بين الكلام وفرقت بين الأجسام. وأقول: إن ابن عباس اعتبر الفصل بين أول نزوله وبين آخره، فرأى التشديد أولى. ولعل المراد الفصول المتقاربة التي فيما بين المدة بدليل قوله: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ بضم الميم أي على مهل وتؤدة ولقوله: وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا أي على حسب المصالح والحوادث. ثم خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمقترحين آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا وهو أمر وعيد وتهديد وخذلان. قال جار الله: قوله إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إما أن يكون تعليلا لقل على سبيل التسلية كأنه قيل: تسل عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء الذي قرأوا الكتب من قبل نزول القرآن. قال مجاهد: هم أناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم خروا وسجدوا منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام. وفي قوله: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً دون أن يقول «يسجدون» مبالغة من وجهين: أحدهما أنه قيد الخرور وهو السقوط بالذقن. فقال الزجاج: لأن الذقن مجتمع اللحيين، وكما يبتدىء الإنسان بالخرور للسجود فأول ما يحاذي به الأرض من وجهه الذقن. قلت: هذا تصحيح للمعنى ولا يظهر منه لتغيير العبارة فائدة. وقال غيره: المراد تعفير اللحية في التراب فإن ذلك غاية الخضوع وإن الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض مغشيا عليه. وثانيهما أنه لم يقل «يخرون على الأذقان» كما هو ظاهر وإنما قال لِلْأَذْقانِ لأن اللام للاختصاص فكأنهم خصوا أذقانهم بالخرور، أو خصوا الخرور بأذقانهم. ثم حكى أنهم في سجودهم أنهم يراعون شرائط التنزيه والتعظيم قائلين سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا بإنزال القرآن وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبنا لَمَفْعُولًا أي منجرا «وإن» مخففة من الثقيلة ولهذا دخلت اللام في خبر كان، ثم ذكر أنهم كما خروا لأذقانهم في حال كونهم ساجدين فقد خروا لها حال كونهم باكين، ويجوز أن يكون التكرير لأجل الدلالة على تكرير الفعل منهم بدليل قوله وَيَزِيدُهُمْ أي القرآن خُشُوعاً لين قلب ورطوبة عين، ثم أراد أن يعلمهم كيفية الخشوع والدعاء فقال: قُلِ ادْعُوا عن ابن عباس: سمعه أبو جهل يقول: يا الله يا رحمن. فقال: إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر. وقيل: أن أهل الكتاب قالوا: إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت. قال جار الله: الدعاء بمعنى التسمية لا النداء وهو يتعدى إلى مفعولين. تقول: دعوته زيدا ثم تترك أحدهما استغناء عنه فتقول: دعوت زيدا و «أو» للتخيير والمعنى على السبب الأول سموه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 بهذا الاسم أو بهذا، وعلى السبب الثاني اذكروا إما هذا وإما هذا أَيًّا ما تَدْعُوا يعني أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم فالتنوين عوض عن المضاف إليه «وما» صلة زيدت لتأكيد الإبهام. والضمير «في فَلَهُ لا يرجع إلى أحد الاسمين ولكن إلى مسماهما، وكان أصل الكلام أن يقال: فهو أي ذلك الاسم حسن فوضع موضعه. قوله: فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان. ومعنى حسن الأسماء استقلالها بنعوت الجلال والإكرام وقد مر في آخر «الأعراف» . ثم ذكر كيفية أخرى للدعاء فقال: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءة صلاتك على حذف المضاف للعلم بأن الجهر والمخافتة من نعوت الصوت لا الصلاة أفعالها فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء، ومنه يقال: خفت صوته خفوتا إذا انقطع كلامه أو ضعف وسكن، وخفت الزرع إذا ذبل، وخافت الرجل بقراءته إذا لم يبين قراءته برفع الصوت. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته لعله أو من إطلاق الصلاة على بعض أفعالها فهو ألح تأمل. مصححه بالقراءة، فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله إليه وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيسمعه المشركون فيسبوا الله عدوا بغير علم وَلا تُخافِتْ بِها فلا تسمع أصحابك وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ الذي ذكر من الجهر المخافتة سَبِيلًا وسطا، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالليل دور الصحابة فكان أبو بكر يخفي صوته في صلاته ويقول: أناجي ربي وقد علم حاجتي. وكان عمر يرفع صوته ويقول: أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا، وأمر عمر أن يخفض قليلا فنزلت الآية على حسب ذلك. وقيل: معناه ولا تجهر بصلاتك كلها، ولا تخافت بها كلها، وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بصلاة الليل، وتخافت بصلاة النهار، وعن عائشة وأبي هريرة ومجاهد أن الصلاة هاهنا الدعاء. وقد يروى هذا مرفوعا. قال الحسن: لا يرائي بعلانيتها ولا يسيء بسريرتها، وأيضا في الجهر إسماع غيره الذنوب وهو الموجب للتغيير والتوبيخ، وعلى هذا ذهب قوم إلى أن الآية منسوخة بقوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأعراف: 55] قال جار الله: ابتغاء السبيل مثل لابتغاء الوجه الوسط في القراءة. ولما أمر أن لا يذكر ولا ينادي إلا بأسمائه الحسنى نبه على كيفية التحميد بقوله: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الآية قال في الكشاف: كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد؟ وأجاب بأن هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة، فهو الذي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 يستحق جنس الحمد، وأقول: الولد يتولد من جزء من أجزاء الوالد، فالوالد مركب وكل مركب محدث والمحدث محتاج والمحتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد، وأيضا الولد مبخلة لا يستحق الحمد والشركة في الملك إنما تتصور لمن لا يستقل بالمالكية فيفتقر إلى من يتم بمشاركته أمور مملكته ومصالح تمدنه، وكل من كان كذلك كان عاجزا بالنظر إلى ذاته، فلا يتم فيضانه فلا يستحق الحمد على الإطلاق، وهكذا حكم من كان له لي من الذل أي اتخذ حبيبا من أجل ذل به واستفادة لا من عزة وقوة إفاضة، أو الولي بمعنى الناصر أي ناصر من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته. وأيضا قد يمنعه الشريك من إصابة الخير إلى أوليائه، والذي يكون له ولي من الذل يكون محتاجا إليه فينعم عليه دون من استغنى عنه. أما إذا كان منزها عن الولد وعن الشريك وعن أن يكون له ولي ينصره ويلي أمره كان مستوجبا لأعظم أنواع الحمد ومستحقا لأجلّ أقسام الشكر. قال الإمام فخر الدين الرازي: التكبير أنواع منها: تكبير الله في ذاته وهو أن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته غني عن كل ما سواه. ومنها تكبيره في صفاته بأن يعتقدها كلها من صفات الجلال والإكرام وفي غاية العظمة ونهاية الكمال وأنها منزهة عن سمات التغير والزوال والحدوث والانتقال. ومنها تكبيره في أفعاله وعند هذا تعود مسألة الجبر والقدر. قال: سمعت أن الأستاذ أبا إسحق الإسفرايني كان جالسا في دار الصاحب بن عباد فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني. فلما رآه قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء. فقال الأستاذ: سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء. ومنها تكبير الله في أحكامه وهو أن يعتقد أن أحكامه كلها جارية على سنن الصواب وقانون العدالة وقضية الاستقامة. ومنها تكبيره عن هذا التكبير وتعظيمه عن هذا التعظيم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية والله أعلم. التأويل: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ كانوا أرباب الحس فلم يبصروا شواهد الحق ودلائل النبوة ولم يطلبوا منه ما كان هو عليه من تزكية النفوس وتصفية القلوب وتجلية الأرواح وتفجير ينابيع الحكمة من أرض القلوب لإنبات نخيل المشاهدات وأعناب المكاشفات في جنات المواصلات. أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا تعجبوا من كون البشر رسولا حين ظن أن الملك أعلى حالا من البشر، وغفلوا عن رتبة الإنسان الكامل حيث جعل سجود الملائكة المقربين وأودع فيه سر الخلافة مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ الحرص والشهوات، كلما سكنت نار شهوة باستيفاء حظها زِدْناهُمْ سَعِيراً باشتعال طلب شهوة أخرى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ قال الشيخ المحقق نجم الحق: والدين المعروف بداية إرادة الآيات التي تدل على نبوته فيما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 يتعلق بنفسه خاصة كإلقائه في اليم وإخراجه منه وتربيته في حجر العدوة وتحريم المراضع عليه ونحو ذلك. وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ لأن الأرواح المتعلقة بالعالم السفلي احتاجت في الرجوع إلى عالم العلو إلى حبل متين هو القرآن كقوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [آل عمران: 103] ، وَبِالْحَقِّ نَزَلَ التميز بين أهل السعادة والشقاوة بالاتباع وعدمه إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قبل نزوله في الأزل إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ في الأزل عنه خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً للإجابة يقولون «بلى» وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ في عالم الصورة يبكون. فالتواضع والسجود من شأن الأرواح والبكاء والخشوع عن شأن الأجساد. ثم بين أن الأرواح إنما أرسلت إلى الأبدان للعبودية وذكر الله فقال: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي كل اسم من أسمائه حسن فادعوه حسنا وهو الدعاء بالإخلاص وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ رياء وسمعة وَلا تُخافِتْ بِها أن تخفيها بالكلية فيحرموا المتابعة والأسوة الحسنة وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا بإظهار الفرائض وإخفاء النوافل والله تعالى أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 (سورة الكهف) (مكية إلا قوله واصبر نفسك الآية حروفها ستة آلاف وثلاثمائة وستون حرفا كلماتها ألف وخمسمائة وسبعة وسبعون آياتها مائة وإحدى عشرة) [سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 26] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 القراآت: مِنْ لَدُنْهُ بإشمام الدال شيئا بالضم وكسر النون ووصل الهاء بالياء: يحيى. الآخرون بضم الدال وسكون النون وضم الهاء ويبشر مخففا: حمزة وعلي. الباقون بالتشديد. هَيِّئْ لَنا وَيُهَيِّئْ لَكُمْ بتليين الهمزة فيهما إلا أوقية والأعشى في الوقف فَأْوُوا بإبدال الهمزة ألفا: أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف مِرفَقاً بفتح الميم وكسر الفاء: أبو جعفر ونافع وابن عامر والأعشى والبرجمي. الآخرون على العكس تزاور خفيفا بحذف تاء التفاعل: عاصم وحمزة وعلي وخلف تزور بتشديد الراء: ابن عامر مثل «تحمر» ويعقوب. الباقون تزاور بتشديد الزاي لإدغام التاء فيه الْمُهْتَدِي كما مر في «سبحان» وَلَمُلِئْتَ مشددة للمبالغة: أبو جعفر ونافع وابن كثير، وقرأ أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف غير مهموز. بِوَرِقِكُمْ بسكون الراء: أبو عمرو وحمزة وحماد وأبو بكر والخزاز عن هبيرة وعباس بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف الآخرون بكسر الراء مظهرا رَبِّي أَعْلَمُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو أَنْ يَهْدِيَنِي وأن ترني وو أن يؤتيني وأن تعلمني بالياءات في الحالين: سهل ويعقوب وابن كثير غير ابن فليح. وزمعة. وروى ابن شنبوذ عن قنبل كلها بالياء في الحالين. وعن البزي وابن فليح كلها بغير ياء- في الحالين- وافقهم أبو جعفر ونافع وأبو عمرو بالياء في الوصل ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ بالإضافة: حمزة وعلي وخلف الباقون بالتنوين ولا تشرك بالتاء على النهي: ابن عامر وروح وزيد. الآخرون وَلا يُشْرِكُ بياء الغيبة ورفع الكاف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 الوقوف: عِوَجاً هـ ط لأن قَيِّماً ليس بصفة له ولكنه انتصب بمحذوف دل عليه المتلو وهو أنزل أي أنزله قيما، وللوصل وجه وهو أن يكون حالا من الكتاب أو العبد وما بينهما اعتراض حَسَناً، هـ لا أَبَداً هـ وَلَداً ج هـ، لأن ما بعده يحتمل الصفة أو ابتداء وإخبار، والوقف أوضح ليكون ادعاء الولد مطلقا كما هو الظاهر لِآبائِهِمْ ط مِنْ أَفْواهِهِمْ ط كَذِباً هـ أَسَفاً هـ عَمَلًا هـ جُرُزاً، ط لتمام القصة ما بعده استفهام تقرير وتعجيب عَجَباً هـ رَشَداً هـ عَدَداً، لا للعطف أَمَداً هـ بِالْحَقِّ ط هُدىً، والوصل أولى للعطف شَطَطاً هـ آلِهَةً ط لابتداء التحضيض بَيِّنٍ ط كَذِباً هـ مِرفَقاً هـ فَجْوَةٍ مِنْهُ ط آياتِ اللَّهِ ط فَهُوَ الْمُهْتَدِ ج مُرْشِداً هـ رُقُودٌ قف والأولى الوصل على أن ما بعده حال أي رقدوا ونحن نقلبهم الشِّمالِ قف والوصل أحسن على أن المعنى نقلبهم وكلبهم باسط بِالْوَصِيدِ ط رُعْباً هـ بَيْنَهُمْ ط كَمْ لَبِثْتُمْ ط بَعْضَ يَوْمٍ ط أَحَداً هـ أَبَداً هـ لا رَيْبَ فِيها ج لأن «إذ» يصلح أن يكون طرفا للإعثار عليهم وأن يكون منصوبا بإضمار «اذكر» بُنْياناً ط بِهِمْ ط مَسْجِداً هـ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ج فصلا بين المقالتين مع اتفاق الجملتين بِالْغَيْبِ ج لوقوع العارض كَلْبُهُمْ ط قَلِيلٌ هـ ظاهِراً ص أَحَداً هـ يَشاءَ اللَّهُ ز لاتفاق الجملتين مع عارض الظرف والاستثناء رَشَداً هـ تِسْعاً هـ لَبِثُوا ج لاحتمال أن ما بعده مفعول «قل» أو إخبار مستأنف وَالْأَرْضِ ط لابتداء التعجب وَأَسْمِعْ ط مِنْ وَلِيٍّ ط لمن قرأ ولا تشرك على النهي، ومن قرأ على الغيبة إخبارا جوز وقفه لاختلاف الجملتين أَحَداً هـ. التفسير: ألصق الحمد والتكبير المذكورين في آخر السورة المتقدمة بالحمد على أجزل نعمائه على العباد وهي نعمة إنزال الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم. قال بعض العلماء: نزه نفسه في أوّل سورة «سبحان» عمّا لا ينبغي وهو إشارة إلى كونه كاملا في ذاته، وحمد نفسه في أول هذه السورة وهو إشارة إلى كونه مكملا لغيره، وفيه تنبيه على أن مقام التسبيح مبدأ ومقام التحميد نهاية موافقا لما ورد في الذكر «سبحان الله والحمد لله» . وفيه أن الإسراء أول درجات كماله من حيث إنه يقتضي حصول الكمال له وإنزال الكتاب غاية درجات كماله لأن فيه تكميل الأرواح البشرية ونقلها من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية ولا شك أن المنافع المتعدية أفصل من القاصرة كما ورد في الخبر: «من تعلم وعلم وعمل فذاك يدعى عظيما في السموات» وإنزال الكتاب على النبي صلى الله عليه وسلم نعمة عليه وعلينا. أما أنه نعمة عليه فلأنه اطلع بواسطته على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 أسرار التوحيد ونعوت الجلال والإكرام وأحوال الملائكة والأنبياء وسائر النفوس المقدسة، وعلى كيفية القضاء والقدر وتعلق أحوال العالم السفلي بالعالم العلوي والشهادة بالغيب وارتباط أحدهما بالآخر. وأما أنه نعمة علينا فلأنا نستفيد منه أيضا مثل ذلك ونعرف منه الأحكام الشرعية المفضية إلى إصلاح المعاش والمعاد. وفي انتصاب قَيِّماً وجوه فاختار صاحب الكشاف أن يكون منصوبا بمضمر أي جعله وأنزله قيما. وأبى أن يكون حالا لأن العطف يدل على تمام الكلام وجعله حالا يدل على نقصانه. قال جامع الأصفهاني: هما حالان متواليان إلا أن الأولى جملة والثانية مفرد. وقيل: حال من الضمير في قوله: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ وفائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة هي التأكيد، فرب مستقيم في الظاهر لا يخرج عن أدنى عوج في الحقيقة هذا تفسير ابن عباس. ويحتمل أن يراد أنه قيم على سائر الكتب مصدّق لها شاهد بصحتها، وأنه قيم بمصالح العباد وما لا بد لهم منه من الشرائع والأحكام، وعلى هذا يكون قوله: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً إشارة إلى أنه كامل في ذاته، مبرأ عن الاختلاف والتناقض، مشتمل على كل ما هو في نفس الأمر حق وصدق. وقوله: قَيِّماً إشارة إلى أنه مكمل لغيره مصلح بحسن بيانه وإرشاده لأحوال معاشه ومعاده، فتكون الآية نظير قوله في أول «البقرة» : لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ثم أراد أن يفصل ما أجمله في قوله فيما قال: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وحذف المنذر للعلم به بعمومه ولتطهير اللسان عن ذكره أي لينذر الذين كفروا عذابا أليما صادرا من عنده. والأجر الحسن الجنة بدليل قوله: ماكِثِينَ فِيهِ وهو حال من الضمير في لَهُمْ ثم كرر الإنذار وذكر المنذر لخصوصه وحذف المنذر به وهو البأس الشديد لتقدم ذكره. وقد تذكر قضية كلية ثم يعطف عليها بعض جزئياتها تنبيها على كونه أعظم جزئيات ذلك الكلي. ففي عطف الإنذار المخصوص على الإنذار المطلق دليل على أن أقبح أنواع الكفر والمعصية إثبات الولد لله تعالى على ما زعم بعض كفار قريش من أن الملائكة بنات الله، وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله. ثم قال: ما لَهُمْ بِهِ أي بالولد أو باتخاذ الله إياه مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ وانتفاء العلم بالشيء إما بالجهل بالطريق الموصل إليه، وإما لأنه في نفسه محال فلا يتعلق به العلم لذلك وهو المراد في الآية، أي قولهم هذا لم يصدر عن علم ولكن عن جهل مفرط وتقليد لآبائهم الذين هم مثلهم في الجهالة. قال جار الله: الضمير في قوله: كَبُرَتْ يعود إلى قولهم «اتخذ الله ولدا» وسميت كَلِمَةً كما يسمون القصيدة بها. قلت: ويجوز أن يعود إلى مضمر ذهني يفسره الظاهر كقولهم «ربه رجلا ونعمت امرأة عندي» . قال الواحدي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 انتصبت كَلِمَةً على التمييز وذلك أنك لو قلت: كبرت المقالة أو الكلمة جاز أن يتوهم أنها كبرت كذبا أو جهلا أو افتراء، فلما قلت: كلمة فقد ميزتها من محتملاتها. وقرىء بالرفع على الفاعلية كما يقال «عظم قولك» . قال أهل البيان: النصب أقوى وأبلغ لإفادته التعب من جهتين: من جهة الصيغة ومن جهة التمييز كأنه قيل: ما أكبرها كلمة. وفي وصف الكلمة بقوله: تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ مبالغة أخرى من وجهين: الأول أن كثيرا من وساوس الشيطان وهواجس القلوب لا يتمالك العقلاء أن يتفوهوا به حياء وخجلا، فبين الله تعالى أن هذا المنكر لم يستحيوا من إظهاره والنطق به فما أشنع فعلتهم وما أعظم فحشهم. الثاني أن هذا الذي يقولونه لا يحكم به عقلهم وفكرهم البتة لكونه في غاية البطلان، وكأنه شيء يجري على لسانهم بطريق التقليد: احتج النظام على مذهبه أن الكلام جسم بأن الخروج عبارة عن الحركة والحركة من خواص الأجسام. والجواب أن الخارج من الفم هو الهواء لأن الحروف والأصوات كيفيات قائمة بالهواء فأسند إلى الحال ما هو من شأن المحل مجازا. ثم زاد في تقبيح صوتهم بقوله: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً وفيه إبطال قول من زعم أن الكذب هو الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه مع علم قائله بأنه غير مطابق وذلك لأن القيد الأخير غير موجود هاهنا مع أنه تعالى سماه كذبا. ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ قال الليث: بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظا: وقال الأخفش والفراء: أصل البخع الجهد. يروى أن عائشة ذكرت عمر فقالت: بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك. وقال الكسائي: بخعت الأرض بالزراعة إذ جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة، وبخع الرجل نفسه إذا نهكها وأَسَفاً منصوب على المصدر أي تأسف أسفا وحذف الفعل لدلالة الكلام عليه. وقال الزجاج: هو مصدر في موضع الحال أو مفعول له أي لفرط الحزن شبهه وإياهم حين لم يؤمنوا بالقرآن وأعرضوا عن نبيهم برجل فارقته أحبته فهو يتساقط حسرات عليهم. والحاصل أنه قيل له لا تعظم حزنك عليهم بسبب كفرهم فإنه ليس عليك إلا البلاغ، فأما تحصيل الإيمان فيهم فليس إليك. قال القاضي، أطلق الحديث على القرآن فدل ذلك على أنه غير قديم. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الحروف والأصوات وإنما النزاع في الكلام النفسي، قوله سبحانه: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها قال أهل النظم: كأنه تعالى يقول: إني خلقت الأرض وزينتها ابتلاء للخلق بالتكاليف، ثم إنهم يتمردون ويكفرون ومع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذه النعم، فأنت أيضا يا محمد لا تترك الاشتغال بدعوتهم بعد أن لا تأسف عليهم وما على الأرض المواليد الثلاثة أعنى المعادن والنبات والحيوان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 وأشرفها الإنسان. وقال القاضي: الأولى أن لا يدخل المكلف فيه لأن ما على الأرض ليس زينة لها بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها الغرض الابتلاء، فالذي له الزينة يكون خارجا عن الزينة. ومضى أنه مجاز بالصورة والمراد أنه تعالى يعاملهم معاملة لو صدرت تلك المعاملة عن غيره لكان من قبيل الابتلاء والامتحان. وقد مر هذا البحث بتمامه في سورة البقرة في تفسير قوله: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [البقرة: 124] . واللام في لِنَبْلُوَهُمْ للغرض عند المعتزلة، أو العاقبة أو استتباع الغاية عند غير هم حذرا من لزوم الاستكمال. قال الزجاج أَيُّهُمْ رفع بالابتداء لأن لفظه لفظ الاستفهام والمعنى لنمتحن هذا أَحْسَنُ عَمَلًا أم ذلك. ثم زهد في الميل إلى زينة الأرض بقوله: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها من هذه الزينة صَعِيداً جُرُزاً أي مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة في إزالة بهجته وإمانة سكانه. قال أبو عبيد: الصعيد المستوي من الأرض التي لا نبات فيها من قولهم «امرأة جروز» إذا كانت أكولا، «وسيف جراز» إذا كان مستأصلا وجرز الجراد والشاء والإبل الأرض إذا أكملت ما عليها. ثم إن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الامتحان فقال سبحانه أَمْ حَسِبْتَ يعني بل أظننت يا إنسان أنهم كانوا عجبا من آياتنا فقط فلا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب، فإن من كان قادرا على تخليق السموات والأرض ثم تزيين الأرض بأنواع المعادن والنبات والحيوان، ثم جعلها بعد ذلك صعيدا خاليا عن الكل كيف تستبعدون قدرته وحفظه ورحمته بالنسبة إلى طائفة مخصوصة. وقال جار الله: يعني أن ذلك التزيين وغيره أعظم من قصة أصحاب الكهف يعني أنه ذكر أولا عظيم قدرته، ثم أضرب عن ذلك موبخا للإنسان. والحاصل أنك تعجب من هذا الأدنى فكيف بما فوقه، والكهف الغار الواسع في الجبل، والرقيم اسم كلبهم. وعن سعيد بن جبير ومجاهد أنه لوح من حجارة أو رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف، فعلى هذا يكون اللفظ عربيا «فعيلا» بمعنى «مفعول» ومثله ما روي أن الناس رقموا حديثهم نقرا في الجبل. وعن السدي أنه القرية التي خرجوا منها. وقيل: هو الوادي أو الجبل الذي فيه الكهف. والعجب مصدر وصف به أو المراد ذات عجب. وقوله: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ صاروا إليه وجعلوه مأواهم منصوب بإضمار «اذكر» ب حَسِبْتَ لفساد المعنى، ولا يبعد أن يتعلق ب عَجَباً والتنوين في رَحْمَةً إما للتعظيم أو للنوع. وتقديم مِنْ لَدُنْكَ للاختصاص أي رحمة مخصوصة بأنها من خزائن رحمتك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء وَهَيِّئْ لَنا أي أصلح لنا من قولك هيئات الأمر فتهيأ مِنْ أَمْرِنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 الذي نحن عليه من مفارقة الكفار رَشَداً أي أمر إذا رشد حتى نكون بسببه راشدين غير ضالين فتكون «من» للابتداء، ويجوز أن تكون للتجريد كما في قولك «رأيت منك أسدا» أي اجعل أمرنا رشدا كله. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ قال المفسرون: أي أنمناهم والأصل فيه أن المفعول محذوف وهو الحجاب كما يقال: «بنى على امرأته» أي بنى عليها القبة. وسِنِينَ ظرف زمان وعَدَداً أي ذوات عدد وهو مصدر وصف به والمراد بهذا الوصف إما القلة لأن الكثير قليل عند الله وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] وإما الكثرة. قال الزجاج: إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج إلى العدد وإذا كثر احتاج إلى أن يعدّ ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أيقظناهم لِنَعْلَمَ ليظهر معلومنا وفعل العلم معلق لما في «أي» من معنى الاستفهام فارتفع أَيُّ الْحِزْبَيْنِ على الابتداء وخبره أَحْصى وهو فعل ماض و «ما» في لِما لَبِثُوا مصدرية أي أحصى أَمَداً للبثهم فيكون الجار والمجرور صفة للأمد فلما قدم صار حالا منه. وقيل: اللام «زائدة» و «ما» بمعنى الذي وأمدا تمييز والتقدير: أحصى لما لبثوه أمدا والأمد الغاية. وزعم بعضهم أن أَحْصى أفعل تفضيل كما في قولهم «أعدى من الجرب» و «أفلس من ابن المذلق» ، ولم يستصوبه في الكشاف لأن الشاذ لا يقاس عليه. واختلفوا في تعيين الحزبين فعن عطاء عن ابن عباس أن أصحاب الكهف حزب والملوك الذين تداولوا المدينة ملكا بعد ملك حزب. وقال مجاهد: الحزبان من أصحاب الكهف. وذلك أنهم لما انتبهوا اختلفوا فقال بعضهم: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وقال آخرون: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ وذلك حين حدسوا أن لبثهم قد تطاول. وقال الفراء: إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ أي على وجه الصدق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ شباب آمَنُوا بِرَبِّهِمْ أي بي فوضع الظاهر موضع المضمر وَزِدْناهُمْ هُدىً أي بالتوفيق والتثبيت وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ قوّيناها بإلهام الصبر على فراق الخلائق والأوطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران إِذْ قامُوا وفي هذا القيام أقوال: فعن مجاهد أنهم اجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد فقال رجل منهم: هو أكبر القوم إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أحدا يجده، أجد أن ربي رب السموات والأرض. فقالوا: نحن كذلك في أنفسنا فقاموا جميعا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وقال أكثر المفسرين: إنه كان لهم ملك جبار- يقال له دقيانوس- وكان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى قاموا بين يديه فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وعن عطاء ومقاتل أنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم. والشطط الإفراط في الظلم والإبعاد فيه من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 شط إذا بعد والمراد قولا ذا شطط أي بعيد عن الحق. هؤُلاءِ مبتدأ وقَوْمُنَا عطف بيان أو بدل اتَّخَذُوا خير وهو إخبار في معنى إنكار. وفي اسم الإشارة تحقير لهم لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ هلا يأتون على حقيقة إلهيتهم أو على عبادتهم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ بحجة أن هذه طريقة صحيحة، ويمكن أن يجاب بأنه إنما ذكر ذلك على سبيل التبكيت، فمن المعلوم أن الإتيان بسلطان على عبادة الأوثان محال، وفيه دليل على فساد التقليد ويؤكده قوله فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه وخاطب بعضهم بعضا حين صمم عزمهم على الفرار بالدين. وقوله: وَما يَعْبُدُونَ عطف على الضمير المنصوب يعني وإذا اعتزلتموهم ومعبوديهم. وقوله: إِلَّا اللَّهَ استثناء منقطع على الدهر، ويجوز أن يكون متصلا بناء على أن المشركين يقرون بالخالق الأكبر. وقيل هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله ف «ما» نافية. قال الفراء فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ جواب «إذ» ومعناه اذهبوا إليه واجعلوا مأواكم يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ يبسطها لكم ومِرفَقاً على القراءتين مشتق من الارتفاق الانتفاع. وقيل: فتح الميم أقيس وكسرها أكثر. وقيل: المرفق بالكسر ما ارتفعت به، والمرفق بالفتح الأمر الرافق. وكان الكسائي ينكر في مرفق اليد إلا كسر الميم. قالوا ذلك ثقة بفضل الله وتوكلا عليه، وإما لأنه أخبرهم نبي في عصرهم منهم أو من غيرهم. وَتَرَى الشَّمْسَ أيها الإنسان إذا طلعت تزاور أصله من الزور بفتح الواو وهو الميل ومنه زاره إذا مال إليه. والمراد أن الشمس تعدل عن سمتهم إلى الجهتين فلا تقع عليهم. والفجوة المتسع إن الشمس تعدل عن سمتهم إلى الجهتين فلا تقع عليهم. والفجوة المتسع من المكان ومنه الحديث «فإذا وجد فجوة نص» «1» . وللمفسرين في الآية قولان: أحدهما أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح وإلى هذا الحجب أشار بقوله: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ وثانيهما أن باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف، وإذا غربت كانت على يساره فلذلك كانت الشمس لا تصل إليهم. ثم إنهم كانوا مع ذلك في منفسح من الغار ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم، واعترض بأن عدم وصول الشمس إليهم لا يكون آية   (1) رواه البخاري في كتاب الحج باب 92. مسلم في كتاب الحج حديث 283. أبو داود في كتاب المناسك باب 63. النسائي في كتاب المناسك باب 205. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 58. أحمد في مسنده (5/ 205، 210) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 من آيات الله على هذا التقدير. وأجيب بأن المشار إليه حفظهم في ذلك الغار مدة طويلة، والمقصود من بيان وضع الغار تعيين مكانهم. ثم بين الله سبحانه لطفه بهم بصون أبدانهم عن الفساد في تلك المدة المديدة كما لطف بهم في أول الأمر بالهداية فكان فيه ثناء عليهم وتذكير لغيرهم إن الهداية وضدها كليهما بمشيئة الله وعنايتها الأزلية وبلطفه وقهره الذي سبق به القلم. وقال جار الله: فيه تنبيه على أن من سلك طريقة الراشدين المهديين فهو الذي أصاب الفلاح، ومن تعرض للخسران فلن يجد من يليه ويرشده. ثم حكى طرفا آخر من غرائب أحوالهم فقال وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً هي جمع يقظ بكسر القاف كأنكاد في جمع نكد وَهُمْ رُقُودٌ جمع راقد كقعود في قاعد. واستبعده في التفسير الكبير. وقيل: عيونهم مفتحة وهم نيام فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظا. وقال الزجاج: لكثرة تقلبهم. وقيل: لهم تقلبتان في السنة. وقيل: تقلبة واحدة في يوم عاشوراء. وعن مجاهد: يمكثون رقودا على أيمانهم سبع سنين ثم يقلبون على شمائلهم فيمكثون رقودا سبع سنين، وفائدة تقلبهم ظاهرة وهي أن لا تأكل لحومهم الأرض. قال ابن عباس: وتعجب منه الإمام فخر الدين قال: وإن الله تعالى قادر على حفظهم من غير تقليب. وأقول: لا ريب في قدرة الله تعالى ولكن الوسائط معتبرة في أغلب الأحوال وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ حكاية الحال الماضية ولهذا عمل في المفعول به. والوصيد الفناء وقيل العتبة أو الباب. قال السدي: الكهف لا يكون له عتبة ولا باب وإنما أراد أن الكلب منه موضع العتبة من البيت. عن ابن عباس: هربوا ليلا من ملكهم فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ومعه كلبه. وقال كعب: مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك ثلاث مرات فقال لهم الكلب: ما تريدون مني أنا أحب أحباء الله فناموا حتى أحرسكم. وقال عبيد بن عمرو: كان ذلك كلب صيدهم والاطلاع على الشيء الإشراف عليه. قال الزجاج قوله فِراراً منصوب على المصدر لأنه بمعنى التولية. وسبب الرعب هيبة ألبسهم الله إياها. وقيل: طول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم ووحشة مكانهم منه يحكى أن معاوية غزا الروم فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس: ليس لك ذلك قد منع الله منه من هو خير منك؟ فقال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث ناسا فقال لهم: اذهبوا فانظروا ففعلوا، فلما دخلوا الكهف بعث الله ريحا فأخرجتهم وَكَذلِكَ إشارة إلى المذكور قبله أي وكما أنمناهم تلك النومة وفعلنا بهم ما فعلنا من الكرامات كذلك بَعَثْناهُمْ وفيه تذكير لقدرته على الإنامة والبعث جميعا، ثم ذكر غاية بعثهم فقال: لِيَتَسائَلُوا أي ليقع التساؤل بينهم والاختلاف والتنازع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 في مدة اللبث غرض صحيح لما فيه من انكشاف الحال وظهور آثار القدرة قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قال ابن عباس: هو رئيسهم يمليخارد علم ذلك إلى الله تعالى حين رأى التغير في شعورهم وأظفارهم وبشرتهم. والفاء في فَابْعَثُوا للتسبيب كأنه قيل: وإذ قد حصل اليأس من تعيين مدة اللبث فخذوا في شيء آخر مما يهمكم. والورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة. وفي تزودهم الورق عند فرارهم دليل عى أن إمساك بعض ما يحتاج إليه الإنسان في سفره وحضره لا ينافي التوكل على الله. والمدينة طرسوس. قال في الكشاف: أَيُّها معناه أيّ أهلها أَزْكى طَعاماً وأقول: يحتمل أن يعود الضمير إلى الأطعمة ذهنا كقوله: «زيد طيب أبا» على أن الأب هو زيد، ويجوز أن يراد أي أطعمة المدينة أزكى طعاما على الوجه المذكور. عن ابن عباس: يريد ما حل من الذبائح لأن عامة أهل بلدهم كانوا مجوسا وفيهم قوم يخفون أديانهم. وقال مجاهد: احترزوا من المغصوب لأن ملكهم كان ظالما. وقيل: أيها أطيب وألذ. وقيل: الرخص وَلْيَتَلَطَّفْ وليتكلف اللطف فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن. والأظهر أنهم طلبوا اللطف في أمر التخفي حتى لا يعرف. يؤيده قوله ولا يشعرون بكم أحدا أي لا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور ويسبب له إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا يطلعوا على مكانكم أو عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ يقتلوكم أخبث القتلة وهي الرجم وكأنه كانت عادتهم أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ بالإكراه العنيف. وقال في الكشاف: العود في معنى الصيرورة أكثر شيء في كلامهم يقولون ما عدت أفعل كذا يريدون ابتداء الفعل. قلت: يحتمل أن يكون العود هاهنا على معناه الأصلي لاحتمال أن يكون أصحاب الكهف على ملة أهل المدينة قبل أن هداهم الله. وفي «أذن» معنى الشرط كأنه قال: إن رجعتم إلى دينهم فلم تفلحوا أبدا، قال المحققون: لا خوف على المؤمن الفار بدينه أعظم من هذين. ففي الأول هلاك الدنيا، وفي الثاني هلاك الآخرة. وإنما نفى الفلاح على التأبيد مع أن كفر المكره لا يضر، لأنهم خافوا أن يجرهم ظاهر الموافقة إلى الكفر القلبي، وكما أنمناهم وبعثناهم أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ سمى الإعلام إعثارا والعلم عثورا لأن من كان غافلا عن شيء فعثر به نظر إليه وعرفه وكان الإعثار سببا لحصول العلم واليقين. وفي سبب الإعثار قولان: أحدهما أنه طالت شعورهم وأظفارهم طولا مخالفا للعادة وتغيرت بشرتهم فعرفوا بذلك. والأكثرون قالوا: إن ذلك الرجل لما ذهب بالورق إلى السوق وكانت دراهم دقيانوسية اتهموه بأنه وجد كنزا فذهبوا به إلى الملك فقال له: من أين وجدت هذه الدراهم؟ قال: بعت بها أمس شيئا من التمر. فعرف الملك أنه ما وجد كنزا وأن الله بعثه بعد موته فقص عليه القصة. ثم ذكر سبحانه غاية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 الإعثار فقال: لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يروى أن ملك ذلك العصر ممن كان ينكر البعث إلا أنه كان مع كفره منصفا فجعل الله أمر الفتية دليلا للملك. وقيل: بل اختلفت الأمة في ذلك الزمان فقال بعضهم: الجسد والروح يبعثان جميعا. وقال آخرون: الروح تبعث وأما الجسد فتأكله الأرض. ثم إن ذلك الملك كان يتضرع أن يظهر له آية يستدل بها على ما هو الحق في المسألة فأطلعه الله تعالى على أمر أصحاب الكهف حتى تقرر عنده صحة بعث الأجساد، لأن انتباههم بعد ذلك النوم الطويل يشبه من يموت ثم يبعث. فالمراد بالتنازع هو اختلافهم في حقيقة البعث. والضمائر في قوله: إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ تعود إلى تلك الأمة. وقيل: أراد إذ يتنازع الناس بينهم أمر أصحاب الكهف ويتكلمون في قصتهم، أو يتنازعون بينهم تدبير أمرهم حين توفوا كيف يخفون مكانهم وكيف يسدون الطريق إليهم. فَقالُوا ابْنُوا على باب كهفهم بُنْياناً يروى أنه انطلق الملك وأهل المدينة معه وأبصروهم وحمدوا الله على آياته الدالة على البعث. ثم قالت الفتية للملك: نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس ثم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله أنفسهم، فألقى الملك عليهم ثيابه وأمر فجعل لكل واحد تابوتا من ذهب فرآهم في المنام كارهين للذهب، فجعلها من الساج وبنى على باب الكهف مسجدا. فيكون فيه دليل على أن أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله تعالى ومعترفين بالعبادة والصلاة، وقيل: إن الكفار قالوا: إنهم كانوا على ديننا ونتخذ عليهم بنيانا، والمسلمين قالوا: بل كانوا على ديننا فنتخذ عليهم مسجدا، وقيل: إنهم تنازعوا في عددهم وأسمائهم. قال جار الله: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ من كلام المتنازعين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم، فلما لم يهتدوا إلى حقيقته قالوا ذلك، أو هو من كلام الله عز وجل رد القول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين، أو من الذين تنازعوا عوافيهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب. والذين غلبوا على أمرهم المسلمون وملكهم المسلم لأنهم بنوا عليهم مسجدا يصلى فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم وكانوا أولى بهم بالبناء عليهم حفظا لتربتهم بها وضنا بها سَيَقُولُونَ يعنى الخائضين في قصتهم من المؤمنين ومن أهل الكتاب المعاصرين وكان كما أخبر فكان معجزا، يروى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد وكان يعقوبيا هم ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وقال العاقب وكان نسطوريا هم خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ فزيف الله قولهما بأن قال: رَجْماً بِالْغَيْبِ أي يرمون رميا بالخبر الخفي يقال: فلان يرمي بالكلام رميا أي يتكلم من غير تدبر. وكثيرا ما يقال رجم بالظن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 مكان قولهم ظن. وقال المسلمون: هم سبعة ثامنهم كلبهم. قال العلماء: وهذا قول محقق عرفه المسلمون بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لسان جبرائيل عليه السلام. والذي يدل عليه أمور منها ما روي عن علي عليه السلام أنهم سبعة تقرأ أسماؤهم: يمليخا ومكشلينيا ومشلينيا- هؤلاء أصحاب يمين الملك- وكان عن يساره مرنوس ودبرنوش وشادنوش. وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره، والسابع الراعي الذي وافقهم واسمه كفشططوش. واسم مدينتهم أفسوس، واسم كلبهم قطمير. وقيل ريان. عن ابن عباس: أن أسماء أصحاب الكهف تصلح للطلب والهرب وإطفاء الحريق تكتب في خرقة ويرمى بها في وسط النار، ولبكاء الطفل تكتب وتوضع تحت رأسه في المهد، وللحرث تكتب على القرطاس وترفع على خشب منصوب في وسط الزرع، وللضربان وللحمى المثلثة والصداع والغنى والجاه، والدخول على السلاطين تشد على الفخذ اليمنى، ولعسر الولادة تشد على فخذها الأيسر، ولحفظ المال والركوب في البحار والنجاة من القتل. ومنها قول صاحب الكشاف إن الواو في قوله وَثامِنُهُمْ هي التي تدخل على الجملة والواقعة صفة للنكرة في قولك «جاءني رجل ومعه آخر» كما تدخل على الجملة الواقعة حالا من المعرفة في قولك «مررت بزيد ومعه سيف» وفائدته توكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر لأن الواو مقتضاها الجمعية وكأنهم وصفوا بكونهم سبعة مرتين بخلاف القولين الأولين فإنهم وصفوا بما وصفوا مرة واحدة. ولقائل أن يقول: إن العاطف لا يوسط بين الوصف والموصوف البتة لشدة الاتصال بينهما، ومقتضى الواو هو الحالة المتوسطة بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع، بل الواو للعطف عطف الجملة على الجملة وإما للحال وجاز لأنهم لم يسوغوا إذا الحال نكرة، لا مكان التباس الحال بالصفة في نحو قولك «رأيت رجلا راكبا» وهاهنا الالتباس مرتفع لمكان الواو. ومنها بعضهم إن الضمير في قوله: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ لله تعالى والجمع للتعظيم. ومنها قول ابن عباس حين وقعت الواو انقطعت العدّة أي لم تبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات. ومنها أنه خص القولين الأولين بزيادة قوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه، فمن البعيد أن يذكر الله تعالى جملة الأقوال الباطلة ولا يذكر الحق على أنه سبحانه منعه عن المناظرة معهم وعن الاستفتاء منهم في هذا الباب، وهذا المنع إنما يصح إذا علمه حكم هذه الواقعة. وأيضا الله تعالى قال: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ويبعد أن لا يحصل العلم بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ويحصل لغير النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 كعلي وابن عباس حسين قال: أنا من أولئك القليل. وقد عرفت قولهما في هذا الباب. وإذا حصل فالظاهر أنه حصل بهذا الوحي لأن الأصل فيما سواه العدم. وقيل: الضمير في سَيَقُولُونَ لأهل الكتاب خاصة أي سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وقيل: الضمير في سَيَقُولُونَ لأهل الكتاب خاصة أي سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا ولا علم بذلك إلا في قليل منهم وقوله سبحانه في الموضعين الأخيرين ويَقُولُونَ بغير السين لا ريب أنهما للاستقبال أيضا إلا أن ذلك يحتمل أن يكون لأجل الصيغة التي تصلح له، وأن يكون لتقدير السين بحكم العطف كما تقول: قد أكرم وأنعم أي وقد أنعم. أما فائدة تخصيص الواو في قوله: وَثامِنُهُمْ فقد عرفت آنفا وقد يقال: إن لعدد السبعة عند العرب تداولا على الألسنة في مظان المبالغة من ذلك قوله تعالى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً [التوبة: 8] لأن هذا العدد سبعة عقود، فإذا وصلوا إلى الثامنة ذكروا لفظا يدل على الاستئناف كقوله في أبواب الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] وكقوله ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التحريم: 5] وزيف القفال هذا الوجه بقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر: 22] وذلك لم يذكر الواو في النعت الثامن. والانصاف أن هذا التزييف ليس في موضعه لأن وجود الواو هو الذي يفتقر إلى التوجيه، وأما عدمه فعلى الأصل وبين التوجيه والإيجاب بون بعيد، والقائل بصدد الأول دون الأخير. ثم نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الجدال مع أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف ثم قال: إِلَّا مِراءً ظاهِراً فقال جار الله: أي جد إلا غير متعمق فيه وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك فحسب ولا تزيد من غير تجهيل ولا تعنيف. وقال في التفسير الكبير: المراد أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه فوجب التوقف. ثم نهاه عن الاستفتاء منهم في شأنهم لأن المفتي يجب أن يكون أعلم من المستفتي وهاهنا الأمر بالعكس ولا سيما في باب واقعة أصحاب الكهف كما بينا. ولنذكر هاهنا مسألة جواز الكرامات وما تتوقف هي عليه فنقول: الولي مشتق من الولي وهو القرب. فقيل: «فعيل» بمعنى «فاعل» كعليم وقدير وذلك أنه توالت طاعاته من غير تخلل معصية. وقيل: بمعنى «مفعول» كقتيل وذلك أن الحق سبحانه تولى حفظه وحراسته وقرب منه بالفضل والإحسان، فإذا ظهر فعل خارق للعادة على إنسان فإن كان مقرونا بدعوى الإلهية كما نقل أن فرعون كانت تظهر على يده الخوارق، وكما ينقل أن الدجال سيكون منه ذلك فهذا القسم جوزه الأشاعرة لأن شكله وخلقه يدل على كذبه فلا يفضي إلى التلبيس وإن كان مقرونا بدعوى النبوة. فإن كان صادقا وجب أن لا يحصل له المعارض، وإن كان كاذبا وجب. ويمكن أن يقال: إن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 الكاذب يستحيل أن يظهر منه الفعل الخارق وإليه ذهب جمهور المعتزلة، وخالفهم أبو الحسين البصري وصاحبه محمود الخوارزمي وجوزا ظهور خوارق العادات على من كان مردودا على طاعة الله وسموه بالاستدراج. وقد يفرق بين النبي الصادق والساحر الخبيث بالدعاء إلى الخير والشر وإن كان مقرونا بدعوى الولاية فصاحبه هو الولي، ومن المحققين من لم يجوّز للولي دعوى الولاية لأنه مأمور بالإخفاء كما أن النبي مأمور بالإظهار. ثم إن المعتزلة أنكروا كرامات الأولياء وأثبتها أهل السنة مستدلين بالقرآن والأخبار والآثار والمعقول. أما القرآن فكقصة مريم ونبأ أصحاب الكهف. قال القاضي: لا بد أن يكون في ذلك الزمان نبي تنسب إليه تلك الكرامات. وأجيب في التفسير الكبير بأن إقدامهم على النوم أمر غير خارق للعادة حتى يجعل ذلك معجزة لأحد، وأما قيامهم من النوم بعد ثلاثمائة سنة فهذا أيضا لا يمكن جعله معجزة لأن الناس لا يصدقونهم في هذه الواقعة لأنهم لا يعرف كونهم صادقين في هذه الدعوى إلا إذا بقوا طول هذه المدة وعرفوا أن هؤلاء الذين جاؤا في هذا الوقت هم الذين ناموا قبل ذلك بثلاثمائة وتسع سنين، وكل هذه الشرائط لم توجد فامتنع جعل هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء، فلم يبق إلا أن تجعل كرامة لهم. ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون نفس بعثهم معجز النبي هذا الزمان؟ وأما أن ذلك البعث بعد نوم طويل فيعرف بأمارات أخر كما مر من حديث الدرهم وغيره. وأما الأخبار فمنها ما أخرج في الصحاح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصبي في زمان جريج وصبي آخر. أما عيسى فقد عرفتموه، وأما جريج فكان رجلا عابدا في بني إسرائيل وكانت له أم وكان يوما يصلي إذ اشتاقت إليه أمه فقالت: يا جريج فقال: يا رب الصلاة خير أم رؤيتها ثم صلى. فدعته ثانيا مثل ذلك حتى كان ذلك ثلاث مرار. وكان يصلي ويدعها فاشتد ذلك على أمه فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه المومسات. وكانت في بني إسرائيل زانية فقالت لهم: أنا أفتن جريجا حتى يزني فأتته فلم تقدر عليه شيئا وكان هناك راع يأوى بالليل إلى أصل صومعته فأرادت الراعي على نفسها فأتاها فولدت غلاما وقالت: ولدي هذا من جريج. فأتاه بنو إسرائيل وكسروا صومعته وشتموه فصلى ودعا ثم نخس الغلام. قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين قال بيده يا غلام من أبوك؟ فقال: فلان الراعي فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه وقالوا نبني صومعتك من ذهب وفضة فأبى عليهم وبناها كما كانت. وأما الصبي الآخر فإن امرأة كانت معها صبي ترضعه إذ مر بها شاب جميل ذو شارة فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا. فقال الصبي: اللهم لا تجعلني مثله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 ثم مر بها امرأة ذكروا أنها سرقت وزنت وعوقبت فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه. فقال: اللهم اجعلني مثلها. فقالت له أمه في ذلك فقال: إن الراكب جبار من الجبابرة وإن هذه قيل لها سرقت ولم تسرق وزنيت ولم تزن هي تقول حسبي الله» . ومنها ما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فأواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار فقالوا إنه والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال رجل منهم كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت لا أغبق قبلهما فناما في ظل شجرة يوما فلم أبرح عنهما وحلبت لهما غبوقهما فجئتهما به فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أغبق قبلهما فقمت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى ظهر الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت انفراجا لا يستطيعون الخروج منه. ثم قال الآخر اللهم إنه كانت لي ابنة عم وكانت أحب الناس إليّ فأردتها عن نفسها فامتنعت حتى ألمت سنة من السنين فجاءتني وأعطيتها مالا عظيما على أن تخلي بيني وبين نفسها فلما قدرت عليها قالت لا آذن لك أن تفك الخاتم إلا بحقه فتحرجت من ذلك العمل وتركتها وتركت المال معها اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم قال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء أعطيتهم أجورهم غير رجل واحد منهم ترك الذي له وذهب فثمرت أجرته حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أدّ إليّ أجرتي فقلت له كل ما ترى من الإبل والغنم والرقيق من أجرتك فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بأحد فأخذ ذلك كله اللهم إن كنت فعلته ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة عن الغار فخرجوا يمشون» «1» وهذا حديث صحيح متفق عليه. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره» «2» . ولم يفرق بين شيء وشيء فيما يقسم به على الله. ومنها رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها إذا التفتت البقرة وقالت إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث فقال الناس: سبحان الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر» «3» . ومنها رواية   (1) رواه البخاري في كتاب الإجارة باب 12. مسلم في كتاب الدعوات حديث 101. (2) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب 54. [ ..... ] (3) رواه البخاري في كتاب الحرث باب 4. كتاب فضائل الصحابة باب 5. مسلم في كتاب الفضائل حديث 13. الترمذي في كتاب المناقب باب 16. أحمد في مسنده (2/ 245، 246) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «بينا رجل سمع رعدا أو صوتا في السحاب أن اسق حديقة فلان قال فغدوت إلى تلك الحديقة فإذا رجل قائم فيها فقلت له: ما اسمك؟ قال: فلان ابن فلان. فقلت: فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها؟ قال: ولم تسأل عن ذلك؟ قلت: لأني سمعت صوتا في السحاب أن اسق حديقة فلان. قال: أما إذ قلت فإني أجعلها أثلاثا فأجعل لنفسي ولأهلي ثلثا وأجعل للمساكين وأبناء السبيل ثلثا وأنفق عليها ثلثا» «1» وأما الآثار فمن كرامات أبي بكر الصديق أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبي صلى الله عليه وسلم ونودي السلام عليك يا رسول الله هذا أبو بكر بالباب فإذا الباب قد فتح فإذا هاتف يهتف من القبر أدخلوا الحبيب إلى الحبيب. ومن كرامات عمر ما روي أنه بعث جيشا وأمر عليهم رجلا يدعى سارية بن حصين. فبينا عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته يا سارية الجبل الجبل. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وكتبت تاريخ هذه الكلمة. فقدم رسول ذلك الجيش. فقال: يا أمير المؤمنين غدونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فدهمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزم الله الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة. قال بعض العلماء: كان ذلك بالحقيقة معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال لأبي بكر وعمر: أنتما مني بمنزلة السمع والبصر. فلما كان عمر بمنزلة البصر لا جرم قدر على رؤية الجيش من بعد. ومنها ما روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة وكان لا يجري حتى يلقى فيه جارية حسناء. فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص بهذه الحالة إلى عمر. فكتب عمر على الخزف: من عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد فإن كنت تجري بأمرك فلا حاجة لنا فيك، وإن كنت تجري بأمر الله فاجر على بركة الله. وأمر أن يلقى الخزف في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك. ووقعت الزلزلة بالمدينة فضرب عمر الدرة على الأرض وقال: اسكني بإذن الله فسكنت. ووقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خزفة: يا نار اسكني بإذن الله تعالى فألقوها في النار فانطفأت في الحال. ويروى أن رسول ملك الروم جاء إلى عمر وطلب داره فظن أن داره مثل قصور الملوك فقالوا: ليس له ذلك إنما هو في الصحراء يضرب اللبن. فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر واضعا درته تحت رأسه وهو نائم على التراب فتعجب الرسول من ذلك وقال في نفسه: أهل الشرق والغرب يخافون منه وهو على هذه الصفة فسل سيفه ليقتله فأخرج الله أسدين من الأرض   (1) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث 45. أحمد في مسنده (2/ 296) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 فقصداه فخاف فألقى السيف فانتبه عمر وأسلم الرجل. قال أهل السير: لم يتفق لأحد من أول عهد آدم إلى الآن ما تيسر له فإنه مع غاية بعده عن التكلفات كيف قدر على تلك السياسات، ولا شك أن هذا من أعظم الكرامات. وأما عثمان فعن أنس قال: مررت في طريق فوقعت عيني على امرأة ثم دخلت على عثمان فقال: ما لي أراكم تدخلون عليّ وآثار الزنا عليكم؟! فقلت: أوحي نزل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا ولكن فراسة صادقة. وقيل: لما طعن بالسيف فأول قطرة سقطت من دمه سقطت على المصحف على قوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 137] . ويروى أن جهجاها الغفاري انتزع العصا من يده وكسرها في ركبته فوقعت الآكلة في ركبته. وأما علي صلوات الله عليه فيروى أن واحدا من أصحابه سرق وكان عبدا أسود فأتي به إلى علي عليه السلام فقال: أسرقت؟ قال: نعم. فقطع يده فانصرف من عند علي رضي الله عنه فلقيه سلمان الفارسي وابن الكواء فقال ابن الكواء: من قطع يدك؟ قال: أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول. فقال: قطع يدك وتمدحه. قال: ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النار. فسمع سلمان ذلك فأخبر به عليا رضي الله عنه فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل ودعا بدعوات، فسمعنا صوتا من السماء ارفع الرداء عن اليد فرفعنا الرداء فإذا اليد كما كانت بإذن الله تعالى. وأما سائر الصحابة فعن محمد به المنذر أنه قال: ركبت البحر فانكسرت السفينة التي كنت فيها فركبت لوحا من ألواحها فطرحني اللوح في أجمة فيها أسد، فخرج إليّ أسد فقلت: يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فتقدم ودلني على الطريق ثم همهم فطننت أنه يودعني ورجع. وروى ثابت عن أنس أن أسيد بن حضير ورجلا آخر من الأنصار خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب من الليل قطع، وكانت ليلة مظلمة وفي يد كل واحد منهما عصاه فأضاءت عصا أحدهما حتى مشيا في ضوئها، فلما افترقا أضاءت لكل واحد منهما عصاه حتى مشى في ضوئها وبلغ منزله. وقيل لخالد بن الوليد إن في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلا فطاف في العسكر فرأى رجلا على فرس ومعه زق من خمر فقال: ما هذا؟ فقال: خل. فقال خالد: اللهم اجعله خلا. فذهب الرجل إلى أصحابه وقال: أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثلها: فلما فتحوا فإذا هي خل. فقالوا: والله ما جئتنا إلا بخل. فقال: هذه والله دعوة خالد. ومن الوقائع المشهورة أن خالد بن الوليد أكل كفا من السم على اسم الله وما ضره. وعن ابن عمر أنه كان في بعض أسفاره فلقي جماعة على طريق خائفين من السبع فطرد السبع عن طريقهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 ثم قال: إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي في غزاة فحال بينهم وبين المطلوب قطعة من البحر فدعا باسم الله الأعظم فمشوا على الماء. وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات كثيرة ولا سيما في كتاب تذكرة الأولياء ومن أرادها فليطالعها. وأما المعقول فهو أن الرب حبيب العبد وحبيب الرب لقوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] فإذا بلغ العبد في طاعته مع عجزه إلى حيث يفعل كل ما أمره الله. فأي بعد في أن يفعل الرب مع غاية قدرته وسعة جوده مرة واحدة ما يريد العبد. وأيضا لو امتنع إظهار الكرامة فذلك إما لأجل أن الله تعالى ليس أهلا له فذلك قدح في قدرته، وإما لأن المؤمن ليس أهلا له وهو بعيد لأن معرفة الله والتوفيق على طاعته أشرف العطايا وأجزلها، وإذا لم يبخل الفياض بالأشرف فلأن لا يبخل بالأدون أولى ومن هنا قالت الحكماء: إن النفس إذا قويت بحسب قوتها العلمية والعملية تصرفت في أجسام العالم السفلي كما تتصرف في جسده. قلت: وذلك أن النفس نور ولا يزال يتزايد نوريته وإشراقه بالمواظبة على العلم والعمل وفيضان الأنوار الإلهية عليه حتى ينبسط ويقوى على إنارة غيره والتصرف فيه، والوصول إلى مثل هذا المقام هو المعني بقول علي بن أبي طالب صلوات الله عليه: والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة ربانية. حجة المنكرين للكرامات أن ظهور الخوارق دليل على النبوة، فلو حصل لغير النبي لبطلت هذه الدلالة. وأجيب بالفرق بين المعجز والكرامة بأن المعجز مقرون بدعوى النبوة والكرامة مقرونة بدعوى الولاية. وأيضا النبي يدعي المعجزة ويقطع بها. والولي إذا ادعى الكرامة لا يقطع بها، وأيضا أنه يجب نفي المعارضة عن المعجزة ولا يجب نفيها عن الكرامة. جميع هذا عند من يجوّز للولي دعوى الولاية، وأما من لا يجوّز ذلك من حيث إن النبي مأمور بالإظهار لضرورة الدعوة والولي ليس كذلك ولكن إظهاره يوجب طلب الإشهار والفخر المنهي عنهما، فإنه يفرق بينهما بأن المعجز مسبوق بدعوى النبوة، والكرامة غير مسبوقة بشيء من الدعاوى قالوا: قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله سبحانه: «لن يتقرب إليّ المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم» «1» . لكن المتقرب إلى الله بأداء الفرائض لا يحصل له شيء من الكرامات، فالمتقرب إليه بأداء النوافل أولى بأن لا يحصل له ذلك. وأجيب بأن الكلام في المتقرب إليه بأداء الفرائض والنوافل جميعا. قالوا: قال تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النحل: 7]   (1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 38. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 فالقول بطيّ الأرض للأولياء طعن في الآية وطعن في محمد صلى الله عليه وسلم حين لم يصل من المدينة إلى مكة إلا في أيام. وأجيب بأن الآية وردت على ما هو المعهود المتعارف وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثناة من ذلك العموم، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن قاصرا عن رتبة بعض الأولياء ولكنه لم يتفق له ذلك، أو لعله اتفق له في غير ذلك السفر قالوا: إذا ادعى الولي على إنسان درهما فإن لم يطالبه بالبينة كان تاركا لقوله: «البينة على المدعي» «1» . وإن طالبه كان عبثا لأن ظهور الكرامة عليه دليل قاطع على أنه لا يكذب ومع الدليل القاطع لا يجوز العمل بالظن. والجواب مثل ما مر من أن النادر لا يحكم به. قالوا: لو جاز ظهور الكرامة على بعض الأولياء لجاز على كلهم، وإذا كثرت الكرامات انقلب خرق العادة وفقا لها. وأجيب بأن المطيعين فيهم قلة لقوله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] والولي فيهم أعز من الكبريت الأحمر، واتفاق الكرامة للولي أيضا على سبيل الندرة فكيف يصير ما يظهر عليه معتادا؟! في الفرق بين الكرامات والاستدراج هو أن يعطيه الله كل ما يريده في الدنيا ليزداد غيه وضلاله وقد يسمى مكرا وكيدا وضلالا وإملاء، والفرق أن صاحب الكرامة لا يستأنس بها ولكنه يخاف سوء الخاتمة، وصاحب الاستدراج يسكن إلى ما أوتي ويشتغل به، وإنما كان الاستئناس بالكرامات قاطعا للطريق لأنه حينئذ اعتقد أنه مستحق لذلك وأن له حقا على الخالق فيعظم شأنه في عينه ويفتخر بها لا بالمكرم، ولا ريب أن الإعجاب مهلك ولهذا وقع إبليس فيما وقع، والعبد الصالح هو الذي يزداد تذلله وتواضعه بين يدي مولاه بازدياد آثار الكرامة والولاية عليه. قرأ المقرئ في مجلس الأستاذ أبى علي الدقاق إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] فقال: علامة رفع العمل أن لا يبقى منه في نظرك شيء، فإن بقي فهو غير مرفوع. واختلف في أن الولي هل يعرف كونه وليا؟. قال الأستاذ أبو بكر بن فورك: لا يجوز لأن ذلك يوجب الأمن أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] والأمن ينافي اعتقاد قهارية الله تعالى ويقتضي زوال العبودية الموجب لسخط الله. وكيف يأمن الولي وقد وصف الله عباده المخلصين بقوله: وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء: 90] وأيضا إن طاعة العباد ومعاصيهم لا تؤثر في محبة الحق وعداوته لأنها محدثة متناهية وصفاته قديمة غير متناهية، والمحدث المتناهي لا يغلب القديم غير المتناهي. فقد يكون   (1) رواه البخاري في كتاب الرهن باب 6. الترمذي في كتاب الأحكام باب 12. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 7. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 العبد في عين المعصية ونصيبه في الأزل هو المحبة وقد يكون في عين الطاعة ونصيبه المبغضية، ولهذا لا يحصل الجزم بكيفية الخاتمة. قيل: من هنا قال سبحانه: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: 160] ولم يقل من عمل حسنة. ومن كانت محبته لا لعلة امتنع أن يصير عدوّا لعلة المعصية وبالعكس، ومحبة الحق وعداوته من الأسرار التي لا يطلع عليها إلا الله أو من أطلعه عليها الله. وقال الأستاذ أبو علي الدقاق وتلميذه أبو القاسم القشيري: إن للولاية ركنين: أحدهما انقياد للشريعة في الظاهر، والثاني كونه في الباطن مستغرقا في نور الحقيقة. فإذا حصل هذان الأمران وعرف الإنسان ذلك عرف لا محالة كونه وليا، وعلامته أن يكون فرحه بطاعة الله واستئناسه بذكر الله. قلت: لا ريب أن مداخل الأغلاط في هذا الباب كثيرة، ودون الوصول إلى عالم الربوبية حجب وأستار من نيران وأنوار، فالجزم بالولاية خطر والقضاء بالمحبة عسر والله تعالى أعلم. قال المفسرون: إن اليهود حين قالت لقريش: سلوا محمدا عن مسائل ثلاثة عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فسألوهن قال صلى الله عليه وسلم: أجيبكم عنها غدا ولم يستثن فاحتبس الوحي عنه خمس عشرة ليلة. وقيل: أربعين يوما ثم نزل قوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً أي لأجل شيء تعزم عليه ليس فيه بيان أنه ماذا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فقال العلماء: إنه لا يمكن أن يكون من تمام قوله إِنِّي فاعِلٌ إذ يصير المعنى إلا أن يشاء الله أن لا أفعله أي إلا أن تعرض مشيئة الله دون فعله وهذا ليس منهيا عنه. فالصواب أن يقال: إنه من تمام قوله: وَلا تَقُولَنَّ ثم إن قدر المراد إلا أن يشاء الله أن تقول إني فاعل ذلك غدا أي فيما يستقبل من الزمان ولم يرد الغد بعينه. وقوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أن تقوله بأن يأذن لك في ذلك الإخبار كان معنى صحيحا، ولكنه لا يكون موافقا لسبب النزول. فالمعنى الموافق هو أن يكون قوله هذا في موضع الحال أي لا تقولنه إلا متلبسا بأن يشاء الله يعني قائلا إن شاء الله. وهذا نهي تأديب لنبيه صلى الله عليه وسلم لأن الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غدا لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد أو يعوقه عن ذلك عائق، فلو لم يقل إن شاء الله صار كاذبا في هذا الوعد والكذب منهي وجوز في الكشاف أن يكون إِنْ شاءَ اللَّهُ في معنى كلمة تأبيد كأنه قيل: ولا تقولنه أبدا. قال أهل السنة: في صحة الاستثناء بل في وجوبه دلالة على أن إرادة الله تعالى غالبة وإرادة العبد مغلوبة ويؤكده أنه إذا قال المديون القادر على أداء الدين: والله لأقضين هذا الدين غدا ثم قال: إن شاء الله فإذا جاء الغد ولم يقض لم يحنث بالاتفاق، وما ذاك إلا لأن الله ما شاء ذلك الفعل مع أنه أمره بأداء الدين، وإنما لم يقع الطلاق في قول الرجل لامرأته: أنت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 طالق إن شاء الله، لأن مشيئة الله غير معلومة فيلزم الدور لتوقف العلم بالمشيئة على العلم بوقوع الطلاق وبالعكس. واستدل القائلون بأن المعدوم شيء بقوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ وذلك أن الشيء الذي سيفعله غدا معدوم مع أنه سماه شيئا في الحال. وأجيب بأنه مجاز كقوله: أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف: 36] وَاذْكُرْ رَبَّكَ أي مشيئة ربك إِذا نَسِيتَ كلمة الاستثناء. ثم تنبهت لها، وللعلماء في مدة النسيان إلى الذكر خلاف، فعن ابن عباس: يستثني ولو بعد سنة ما لم يحنث. وعن سعيد بن جبير: ولو بعد يوم أو أسبوع أو شهر أو سنة وهو قول ابن عباس بعينه. وعن طاوس: هو استثناء ما دام في مجلسه. وعن عطاء: يستثني على مقدار حلب ناقة غزيرة. وعند عامة الفقهاء لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولا. قالوا: إن الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعهد والعقد فإذا أتى بالعهد وجب عليه الوفاء بمقتضاه خالفنا هذا الدليل فيما إذا كان الاستثناء متصلا بناء على أن المستثنى منه مع الاستثناء وأداته كالكلام الواحد، فإذا كان منفصلا لم يمكن هذا التوجيه فوجب الرجوع إلى أصل الدليل. وقيل: أراد واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء، وفيه بعث على الاهتمام بها. وقيل: اذكر إذا اعتراك النسيان في بعض الأمور لتذكر المنسي، أو اذكره إذا تركت بعض ما أمرك به ليس لهذين القولين شديد ارتباط بما قيل، وكذا قوله من حمله على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها. واختلفوا في المشار إليه بقوله: لِأَقْرَبَ مِنْ هذا الظاهر عند صاحب الكشاف أن المراد إذا نسيت شيئا فاذكر ربك، وذكر ربك عند نسيانه أن تقول: عسى ربي أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه رَشَداً وأدنى خيرا ومنفعة. وقيل: إن ترك قوله «إن شاء الله» ليس بحسن وذكره أحسن. فقوله «هذا» إشارة إلى الترك وأقرب منه ذكر هذه الكلمة، وقيل: إنه إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف ومعناه لعل الله يؤتيني من البينات والحجج على أني صادق ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من نبئهم، وقد فعل ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والأخبار بالمغيبات ما هو أعظم وأدل. عن قتادة: أن قوله سبحانه: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ حكاية لأهل الكتاب وقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا رد عليهم ويؤيده قراءة عبد الله وقالوا لبثوا والجمهور على أنه بيان لما أجمل في قوله: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً والمراد من قوله قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ أن لا تتجاوزوا الحق الذي أخبر الله به ولا تلتفتوا إلى ماسواه من اختلافات أهل الأديان نظيره قوله: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ بعد قوله: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قال النحويون: سنين عطف بيان لثلثمائة لأن مميز مائة وأخواتها مجرور مفرد. وقيل: فيه تقديم وتأخير أي لبثوا سنين ثلاثمائة. ومن قرأ بالإضافة فعلى وضع الجميع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 موضع الجميع موضع الواحد في التمييز كما مر في قوله: وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً [الأعراف: 160] قوله: وَازْدَادُوا تِسْعاً أي تسع سنين لدلالة ما قبله عليه دون أن يقول «ولبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين» . فعن الزجاج المراد ثلاثمائة بحساب السنين الشمسية وثلاثمائة وتسع بالسنين القمرية وهذا شيء تقريبي. وقيل: إنهم لما استكملوا ثلاثمائة سنة قرب أمرهم من الانتباه. ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين، ثم أكد قوله: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا بقوله: لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ليس لغيره ما خفى فيهما من أحوالهما وأحوال سكانهما وهو مختص بذلك. ثم زاد في المبالغة فجاء بما دل على التعجب من إدراكه للمبصرات والمسموعات. والضمير في قوله: ما لَهُمْ لأهل السموات والأرض. وفيه بيان لكمال قدرته وأن الكل تحت قهره وتسخيره وأنه لا يتولى أمورهم غيره وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ وقضائه قبل أصحاب الكهف أَحَداً منهم. ومن قرأ لا نُشْرِكَ على النهي فهو معطوف على لا تَقُولَنَّ والمراد أنه لا يسأل أحدا عما أخبره الله به من نبأ أصحاب الكهف. واقتصر على بيانه. وقيل: الضمير في مالهم لأصحاب الكهف أي أنه هو الذي حفظهم في ذلك النوم الطويل وتولى أمرهم. وقيل: ليس للمختلفين في مدة لبثهم من دون الله من يتولى أمورهم فكيف يعلمون هذه الواقعة من دون إعلامه؟! وقيل: فيه نوع تهديد لأنهم لما ذكروا في هذا الباب أقوالا على خلاف قول الله فقد استوجبوا العقاب فبين الله تعالى أنه: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ يمنع العقاب عنهم. واعلم أن الناس اختلفوا في زمان لبث أصحاب الكهف في مكانهم فقيل: كانوا قبل موسى عليه السلام وأنه ذكرهم في التوراة فلهذا سألت اليهود ما سألوا. وقيل: دخلوا الكهف قبل المسيح وأخبروه بخبرهم ثم لبثوا في الوقت الذي بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وحكى القفال عن محمد بن إسحق أنهم دخلوا كهفهم بعد عيسى. وقيل: إنهم لم يموتوا ولا يموتون إلى يوم القيامة. وذكر أبو علي بن سينا في باب الزمان من كتاب الشفاء إن أرسطاطاليس الحكيم زعم أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف ثم قال أبو علي: ويدل التاريخ على أنهم كانوا قبل أصحاب الكهف. وأما المكان فحكى القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم أن الواثق أنفذه إلى ملك الروم ليعرف أحوال أصحاب الكهف، فوجهه مع طائفة إلى ذلك الموضع قال: وإن الرجل الموكل بذلك المقام فزعني من الدخول عليهم، فدخلت فرأيت الشعور على صدورهم فعرفت أنه تمويه واحتيال وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة الحافظة لأبدان الموتى عن البلى كالصبر وغيره. قلت: حين لم يملأ الخوارزمي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 رعبا من الاطلاع عليهم حصل القطع بأنهم ليسوا أصحاب الكهف والرقيم، ولو صح ما حكينا عن معاوية حين غزا الروم حصل ظن غالب بأنهم منهم والله تعالى أعلم. التأويل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ والعبد الحقيقي من يكون حرا عن الكونين وهو محمد صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «أمتي أمتي» يوم يقول كل نبي «نفسي نفسي» ، ولأنه هو الذي صحح نسبة العبودية كما ينبغي أطلق عليه اسم العبد مطلقا وقيد لسائر الأنبياء كما قال: عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم: 2] ، وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ [ص: 17] ، ولأنه كان خلقه القرآن قيل: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أي لقلبه عِوَجاً لا يستقيم فيه القرآن، ومن استقامة قلبه نال ليلة المعراج رتبة فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10] بلا واسطة جبرائيل، ونال قلبه الاستقامة بأمر التكوين بقوله: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] أَجْراً حَسَناً. هو التمتع من حسن الله وجماله. فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ كان من عادته عليه الصلاة والسلام أن يبالغ في المأمور به حتى ينهى عنه، بالغ في الدعوة والشفقة على أمته حتى قيل له لا تبخع نفسك، وبالغ في الإنفاق إلى أن أعطى قميصه فقعد عريانا فنهى عنه بقوله: وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: 29] إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً أي زينا الدنيا وشهواتها للخلق ملائما لطبائعهم وجعلناها محل ابتلاء للمحب وللسائل لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا في تركها ومخالفة هوى نفسه طلبا لله ومرضاته. ثم أخبر عن سعادة السادة الذين أعرضوا عن الدنيا وأقبلوا على المولى بقوله: أَمْ حَسِبْتَ ومعناه لا تعجب من حالهم فإن في أمتك من هو أعجب حالا منهم، ففيهم أصحاب الخلوات الذين كهفهم بيت الخلوة، ورقيمهم قلوبهم المرقومة برقم المحبة فإنهم أووا إلى الكهف خوفا من لقاء دقيانوس وفرارا منه، فهؤلاء أووا إلى الخلوة شوقا إلى لقائي وفرارا إليّ، وإنهم طلبوا النجاة من شر. والخروج من الغار بالسلامة بقولهم رَبَّنا آتِنا الآية. فهؤلاء طلبوا الخلاص من شر نفوسهم والخروج من ظلمات الغار المجازي للوصول إلى نور الوجود الحقيقي. فَضَرَبْنا على آذان باطنهم وحواسهم الأخر في مدة الخلوة لمحو النقوش الفاسدة عن ألواح نفوسهم وانتقاشها بالعلوم الدينية والأنوار الإلهية ليفنيهم الله عنهم ويبقيهم به وهو سر قوله: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي أحييناهم بنا لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أصحاب الخلوة أم أصحاب السلوة. أَحْصى أي أكثر فائدة وأتم عائدة لأمد لبثهم في الدنيا التي هي مزرعة الآخرة وَزِدْناهُمْ هُدىً فإنهم كانوا يريدون الإيمان الغيبي فأنمناهم ثُمَّ بَعَثْناهُمْ حتى صار الإيمان إيقانا والغيب عيانا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً من الدنيا والهوى. وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ قال الشيخ المحقق نجم الدين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 المعروف: بداية هذا أخبار من أصناف ألطافه بأضيافه، وفيه إشارة إلى أن نور ولايتهم يغلب نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن نار جهنم لقول صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن إذا ورد النار تستغيث النار وتقول: حزبا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي» وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ في متسع وفراغ من ذلك النور يدفع عنهم كل ضر ويراعيهم عن بلى أجسادهم وثيابهم. قلت: يحتمل أن يراد أن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردات- وهو حالة السكر وغلبات الوجد- لا تنصرف في حال خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقبى وهو جانب اليمين وَإِذا غَرَبَتْ أي سكنت تلك الغلبات وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال، بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في حال دفاع وفراغ مما يشغلهم عن الله وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً متصرفين في أمور الدنيا وَهُمْ رُقُودٌ عنها لأنهم يتصرفون فيها لأجل الحق لا لحظ النفس، أو تحسبهم أيقاظا مشغولين بأمور الآخرة لأن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، وهم رقود متصرفون في أمور الدنيا لأن الناس بهم يرزقون ويمطرون. وفي قوله: وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ إشارة إلى أنهم في التسليم لمقلب القلوب في الأحوال كلها كالميت بين يدي الغسال. قيل: في الآية دلالة على أن المريد الذي يربيه الله بلا واسطة المشايخ تكامل أمره في ثلاثمائة وتسع سنين، والذي يربيه بواسطتهم تم أمره في أربعينات معدودة ولهذا تكون ثمرة البساتين الزهر وثمرة الجبال وفي قوله: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ إشارة أن أكلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال بها. ربيت القلوب والأرواح معنى أن هذا النوع من التربية من قبيل القدرة الإلهية التي اختصهم بها، ويمكن أن يراد أن نفوسهم صارت بحيث تطيعهم في جميع الأحوال وتحرسهم عما يضرهم وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً بما شاهدت عليهم من آثار الأنوار التي زدناهم، ولجلاليب الهيبة والعظمة التي ألبسناهم لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأن أيام الوصال قصيرة، فما رأوا أنهم في دهشة الوصال وحياة الأحوال قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ لأنه كان حاضرا معكم وأنتم غيب عنكم فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ من العجب أنهم ما احتاجوا مدة ثلاثمائة وتسع سنين بما نالوا من غذاء الروح كقوله صلى الله عليه وسلم: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «1» . فلما رجعوا من عند الله الحق إلى عبدية أنفسهم احتاجوا إلى الغذاء الجسماني أَزْكى طَعاماً لما رجعوا إلى العالم الجسماني، تعللوا من جمال الله بمشاهدة كل جميل وتوسلوا إلى تلك   (1) رواه البخاري في كتاب التمني باب 9. مسلم في كتاب الصيام حديث 57، 58. الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده (3/ 8) ، (6/ 126) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 الملاطفات بلطافة الأغذية الجسمانية وزكائها. وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً فيه أن أرباب المعرفة والمحبة يجب أن يحترزوا عن شعور أهل الغفلة والسلوة لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ بإحياء القلوب الميتة حق قدره،، الأمر فيما أظهر وأبدى أو أسر وأخفى. سَيَقُولُونَ إن القوى والأركان الأصلية للإنسان ثَلاثَةٌ الحيوانية والطبيعية والنفسانية التي منشؤهن القلب والكبد والدماغ. رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ هو النفس الناطقة. وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ هو الحواس الظاهرة سادِسُهُمْ النفس وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ هو الحواس الظاهرة مع الوهم المدرك للمعاني والخيال المدرك للصور وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ هو النفس المدرك للكليات قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ لأن القوى الباطنة والظاهرة وأفاعيلها وغاياتها لا يعلمهن إلا الله سبحانه ومن أطلعه الله عليه وذلك قوله: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ والله أعلم بالصواب. [سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 46] وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 القراآت: وَفَجَّرْنا بالتخفيف: سهل ويعقوب غير رويس لَهُ ثَمَرٌ وكذا بِثَمَرِهِ بفتح الثاء والميم: يزيد. وعاصم وسهل ويعقوب وأبو عامر: بضم الثاء وإسكان الميم. والباقون بضم الثاء والميم جميعا مِنْها على الوحدة: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون على التثنية لكن بالتشديد من غير ألف في الحالين: قتيبة وابن عامر وابن فليح ويعقوب بالألف في الوصل. الباقون بغير الألف واتفقوا على الألف في الوقف بِرَبِّي أَحَداً مفتوحة الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. أن ترني بفتح الياء: السرانديبي عن قنبل غورا بضم الغين وكذلك في الْمُلْكُ البرجمي الباقون بفتحها. ولم يكن له بياء الغيبة الولاية بكسر الواو: حمزة وعلي وخلف. الآخرون بتاء التأنيث وفتح الواو لله الحق بالرفع: أبو عمرو وعلي. الآخرون بالجر عُقْباً بسكون القاف: عاصم وحمزة وخلف. الباقون بضمها الريح على التوحيد: حمزة وعلي وخلف. الوقوف: مِنْ كِتابِ رَبِّكَ ط لاختلاف الجملتين مُلْتَحَداً هـ عَنْهُمْ ج لأن ما بعده يصلح حالا واستفهاما محذوف الألف لدلالة حال العتاب. فُرُطاً هـ فَلْيَكْفُرْ لا لأن الأمر للتهديد بدليل إِنَّا أَعْتَدْنا فلو فصل صار مطلقا ناراً، لأن ما بعده صفة سُرادِقُها ط الْوُجُوهَ ط الشَّرابُ ط مُرْتَفَقاً هـ عَمَلًا ج هـ لاحتمال كون أُولئِكَ مع ما بعده خبر إِنَّ الَّذِينَ وقوله: إِنَّا لا نُضِيعُ جملة معترضة الْأَرائِكِ ط الثَّوابُ ط مُرْتَفَقاً هـ زَرْعاً هـ، ط شَيْئاً لا للعطف نَهَراً هـ ط ثَمَرٌ ج للعدول مع الفاء نَفَراً، ج لِنَفْسِهِ ج لاتحاد العامل بلا عطف أَبَداً هـ ط قائِمَةً لا لأن ما بعده شك من قول الكافر في البعث مُنْقَلَباً هـ رَجُلًا، هـ ط لتمام الاستفهام أَحَداً هـ ما شاءَ اللَّهُ لا لاتمام المقول إِلَّا بِاللَّهِ ج لابتداء الشرط المحذوف جوابه مع اتحاد القائل والمقول له وَوَلَداً هـ، ج لاحتمال كون ما بعده جوابا للشرط زَلَقاً هـ طَلَباً هـ أَحَداً هـ مُنْتَصِراً، ط وقيل: يوقف على هُنالِكَ والأوجه أن يبتدأ ب هُنالِكَ أي عند ذلك يظهر لكل شاك سلطان الله ونفاد أمره الْحَقِّ ط على القراءتين عُقْباً هـ الرِّياحُ ط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 مُقْتَدِراً هـ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ج مفصلا بين المعجل الفاني والمؤجل الباقي مع اتفاق الجملتين أَمَلًا. التفسير: لما أجاب عن سؤالهم بما أجاب أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحى إليه وعلى الصبر مع الفقراء الذين آمنوا بما أنزل عليه، واحتمل أن يكون اتْلُ أمرا من التلو لا من التلاوة أي اتبع ما أوحي إليك والزم العمل بمقتضاه وقوله: مِنْ كِتابِ رَبِّكَ بيان للذي أوحي إليه. ثم بين سبب اللزوم فقال: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أي لا يقدر أحد على تغييرها وإنما يقدر على ذلك هو وحده فليس لك ولا لغيرك إلا المواظبة على العلم والعمل به يؤكده قوله: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملتجأ تعدل إليه إن هممت بذلك فرضا. وأصل اللحد الميل كما مر في قوله: يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الأعراف: 18] نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة الأنعام عن طرد فقراء المؤمنين بقوله: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ [الآية: 52] الآية وأمره في هذه السورة بحبس النفس معهم وبمراقبة أحوالهم بقوله: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ قال جار الله: إنما لم يقل ولا تعدهم عيناك من عداه إذا جاوزه لأنه ضمن عدا معنى نبا وفيه مبالغة من جهة تحصيل المعنيين جميعا كأنه قيل: ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم. ثم نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء الكفرة الذين التمسوا منه طرد الفقراء حتى يؤمنوا به فقال: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ قال أهل السنة: معنى الإغفال إيجاد الغفلة وخلقها فيهم، أو هو من أغفلها إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بالذكر ولم نجعله من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان، ويؤيد ويؤيد هذا المعنى أن الغفلة عن الذكر لو كانت بإيجاد العبد والقصد إلى إيجاد الغفلة عن الشيء لا يتصور إلا مع الشعور بذلك الشيء لزم اجتماع الضدين. وقالت المعتزلة: معنى أغفلناه وجدناه غافلا بالخذلان والتخلية بينه وبين الأسباب المؤدية إلى الغفلة يؤيده قوله: وَاتَّبَعَ هَواهُ بالواو دون الفاء إذ لو كان اتباع الهوى من نتيجة خلق الغفلة في القلب لقيل «فاتبع» بالفاء. ويمكن أن يجاب بأنه لا يلزم من كون الشيء في نفس الأمر نتيجة لشيء أن يعتبر كونه نتيجة له والفاء من لوازم الثاني دون الأول، على أن الملازمة بين الغفلة عن ذكر الله وبين متابعة الهوى غير كلية، فقد يكون الإنسان غافلا عن ذكر الله ومع ذلك لا يتبع هواه بل يبقى متوقفا متحيرا وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً أي متجاوزا عن حد الاعتدال من قولهم «فرس فرط» إذا كان متقدما للخيل، ويلزم منه أن يكون نابذا للحق وراء ظهره. وأنت إذا تأملت وجدت حال الأغنياء المتحيرين بخلاف الفقراء المؤمنين، لأن هؤلاء الفقراء يدعون ربهم بالغداة والعشى ابتغاء وجه الله وطلبا لمرضاته فأقبلوا على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 الحق وشغلوا عن الخلق، والأغنياء قد أعرضوا عن المولى وأقبلوا على الدنيا فوقعوا في ظلمة الهوى وبقوا في تيه الجهل والعمى. وإنما لم يجز طرد الفقراء لأجل إيمان الأغنياء لأن إيمان من ترك الإيمان احترازا من مجالسة الفقراء كلا إيمان فوجب أن لا يلتفت إليه. ثم بين أن الحق ما هو ومن أين هو قائلا وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أي الدين الحق حصل ووجد من عند الله، ويحتمل أن يراد بالحق الصبر مع الفقراء. وقال في الكشاف: الحق خبر مبتدأ محذوف والمعنى جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلا اختيار الإيمان أو الكفر، وفيه دليل على أن الإيمان والكفر والطاعة والمعصية كلها مفوّضة إلى مشيئة العبد واختياره. وحمله الأشاعرة على أمر التهديد وقالوا: إن الفعل الاختياري يمتنع حصوله بدون القصد إليه، ثم ذلك القصد لا بد أن يقع بالاختيار والقصد فنقل الكلام إليه ولا يتسلسل فلا بد أن ينتهي إلى قصد واختيار يخلقه الله فيه. فالإنسان مضطر في صورة مختار وفي صورة هذا التخيير دلالة على أنه سبحانه لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضر بكفر الكافرين. ثم بين وعيد الظالمين الذين وضعوا الكفر موضع الإيمان وتحقير المؤمنين لأجل فقرهم مكان تعظيمهم لأجل إيمانهم فقال: إِنَّا أَعْتَدْنا أي أعددنا وهيأنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وهو الحجرة التي تكون حول الفسطاط فأثبت تعالى للنار شيئا شبيها بذلك يحيط بهم من جميع الجهات، والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرج. وقيل: هو حائط من نار يطبق بهم. وقيل: هو دخان محيط بالكفار قبل دخولهم النار وهو المراد بقوله انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات: 30] وقوله: يُغاثُوا بِماءٍ وارد على سبيل التهكم كقولهم «عتابك السيف» . والمهل كل ما أذيب من المعدنيات كالذهب والفضة والنحاس قاله أبو عبيدة والأخفش. وقيل في حديث مرفوع إنه درديّ الزيت. وقيل: الصديد والقيح أو ضرب من القطران. وهذه الاستغاثة إما لطلب الشراب كقوله: تسقى في عين آنية [الغاشية: 5] وإما لدفع الحر ولأجل التبريد كقوله حكاية عنهم أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ [الأعراف: 50] ويروى أنهم إذا استغاثوا من حر جهنم صب عليهم القطران الذي يعم كل أبدانهم كالقميص، وقد يفسر بهذا قوله: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم: 50] عن النبي صلى الله عليه وسلم «هو- يعني المهل- كعكر الزيت إذا قرب إليه سقطت فروة وجهه» «1» وهذا معنى قوله: يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ ذلك لأن المقصود من الشراب إراحة الأحشاء وهذا يحرقها ويشويها وَساءَتْ   (1) رواه الترمذي في كتاب جهنم باب 4، كتاب تفسير سورة 70. أحمد في مسنده (3/ 71) ، (5/ 265) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 أي النار مُرْتَفَقاً متكئا لأهلها ومنه المرفق لأنه يتكأ عليه. قال جار الله: هذا لمشاكلة قوله في أهل الجنة وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً وإلا فلا ارتفاق لأهل النار إلا أن يقال: معنى ارتفق أنه نصب مرفقه ودعم به خده كعادة المغتمين. وقال قائلون: إن الشياطين رفقاء أهل النار من الإنس والمعنى ساءت النار مجتمعا لأولئك الرفقاء. ثم شرع في وعد المؤمنين فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية فإن جعلت إِنَّا لا نُضِيعُ اعتراضا فظاهر وإن جعلته خبرا وأُولئِكَ خبرا آخر أو كلاما مستأنفا للأجر أو بيانا لمبهم فمعنى العموم في مَنْ أَحْسَنَ يقوم مقام الرابط المحذوف والتقدير مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا منهم. وتفسير جنات عدن قد مر في سورتي «التوبة» و «الرعد» . ولأهل الجنة لباسان: لباس التحلي ولباس الستر. ولم يسم فاعل يُحَلَّوْنَ للتعظيم وهو الله جل وعلا، أو الملائكة بإذن. و «من» في مِنْ أَساوِرَ للابتداء وفي مِنْ ذَهَبٍ للتبيين. وتنكير أساور لإبهام أمرها في الحسن، وأساور أهل الجنة بعضها ذهب لهذه الآية، وبعضها فضة لقوله: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الدهر: 21] وبعضها لؤلؤ لقوله في الحج وَلُؤْلُؤاً [الحج: 23] وجمع في لباس الستر بين السندس- وهو مارق من الديباج- وبين الإستبرق- وهو الغليظ منه- جمعا بين النوعين والإستبرق عند بعضهم معرب استبره. قيل: إنما لم يسم فاعل يُحَلَّوْنَ إشارة إلى أن الحلي تفضل الله بها عليهم كرما وجودا ونسب اللبس إليهم تنبيها على أنهم استوجبوه بعملهم، ثم وصفهم بهيئة المتنعمين والملوك من الاتكاء على أسرتهم. والأرائك جمع أريكة وهو السرير المزين بالحجلة، أما السرير وحده فلا يسمى أريكة. ثم إن الكفار كانوا يفتخرون بخدمهم وحشمهم وأموالهم وأصناف تمتعاتهم على الفقراء المؤمنين فضرب الله مثلا للطائفتين تنبيها على أن متاع الدنيا لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الغني فقيرا والفقير غنيا إنما الفخر بالأعمال الصالحات. والمراد مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين وكانا أخوين من بني إسرائيل أحدهما كافر- اسمه فطروس- والآخر مؤمن- اسمه يهوذا- وقيل: هما المذكوران في سورة «والصافات» في قوله: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ [الصافات: 51] ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراهما، فاشترى الكافر أرضا بألف فقال المؤمن: اللهم إن أخي اشترى أرضا بألف دينار وأنا أشتري منك أرضا في الجنة بألف فتصدق به. ثم بنى أخوه دارا بألف فقال: اللهم إن أخي بنى دارا بألف وإني أشتري منك دارا في الجنة بألف فتصدق به. ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال: اللهم إني جعلت ألفا صداقا للحور. ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف فقال: اللهم إني اشتريت منك الولدان المخلدين بألف فتصدق به. ثم أصابته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في به في حشمه فتعرض له فطرده وبخسه على التصدق بماله. وقيل: هما مثل لأخوين من بني مخزوم مؤمن وهو عبد الله بن الأشد زوج أم سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكافر وهو الأسود بن عبد الأشد. أما قوله: وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ فقال صاحب الكشاف: إنه يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء ومعناه النخيل محيطا بالجنتين وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار ولا سيما المثمرة منها وخاصة النخيل إذا أمكن. وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً فهما جامعتان للأقوات والفواكه. وفيه أنهما مع سعة أطرافهما وتباعد أكنافهما لم يتوسطهما بقعة معطلة، وفيه أنهما أتاني كل وقت بمنفعة أخرى متواصلة متشابكة وكل منهما منعوتة بوفاء الثمار لتمام الأكل. وَآتَتْ محمول على لفظ كِلْتَا لأن لفظه مفرد. ولو قيل: «آتتا» على المعنى لجاز. والظلم أصله النقصان وهو المراد هاهنا. وَفَجَّرْنا من قرأ بالتخفيف فظاهر لأنه نهر واحد، ومن قرأ بالتشديد فللمبالغة لأن النهر ممتد في وسطهما فهو كالأنهار وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ قال الكسائي: الثمرة اسم الواحد والثمر جمع وجمعه ثمار ثم ثمر ككتاب وكتب بالحركة أو بالسكون. وذكر أهل اللغة أن الثمر بالضم أنواع الأموال من الذهب والفضة وغيرهما، والثمر بالفتح حمل الشجر. وقال قطرب: كان أو عمرو بن العلاء يقول: الثمر المال والولد أي كان يملك مع الجنتين أشياء من النقود وغيرها وكان متمكنا من عمارة الأرض ومن سائر التمتعات كيف شاء. والمحاورة مراجعة الكلام من حار إذا رجع. والنفر الأنصار والحشم الذين يقومون بالذب عنه. وقيل: الأولاد الذكور لأنهم ينفرون معه دون الأناث. ثم إن الكافر كأنه أخذ بيد المسلم يطوف به في الجنتين ويريه ما فيهما ويفاخره بما ملك من المال دونه وذلك قوله سبحانه وَدَخَلَ جَنَّتَهُ فقال جار الله: معنى أفراد الجنة بعد التثنية أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما. قلت: لا يبعد أن يكون قد دخل مع أخيه جنة واحدة منهما أو جعل مجموع الجنتين في حكم جنة واحدة منهما يؤيده توحيد الضمير على أكثر القراآت في قوله: لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها وإنما وصفه بقوله: وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ لأنه لما اغتر بتلك النعم ولم يجعلها وسيلة إلى الإيمان بالله والاعتراف بالبعث وسائر مقدورات الله كان واضعا للنعم في غير موضعها، على أن نعمة الجنة بخصوصها مما يجب أن يستدل بها على أحوال النشور كقوله عز من قائل: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5] عكس الكافر القضيتين زعم دوام جنته التي هي بصدد الزوال قائلا ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ أي تهلك هذِهِ الجنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 أَبَداً وذلك لطول أمله واستيلاء الحرص عليه واغتراره بالمهلة حتى أنكر المحسوس وادعى غلبة الظن بامتناع النشور مع قيام الدلائل العقلية والحسية على إمكانه ووجود الدلائل الشرعية على وجوبه قائلا وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ثم أقسم على أنه إن رد إلى ربه فرضا وتقديرا وكما يزعم صاحبه أن له ربا وأنه سيرد إليه وجد خيرا من جنته في الدنيا كأنه قاس الغائب على الشاهد أو ادعى أن النعم الدنيوية لن تكون استدراجية أصلا وإنما تكون استحقاقا وكرامة. مُنْقَلَباً نصب على التمييز أي مرجع تلك وعاقبتها لكونها باقية بزعمكم خير من هذه لكونها فانية حسا أو في اعتقادكم. قال بعض العلماء: الرد يتضمن كراهة المردود إليه فلهذا قال: وَلَئِنْ رُدِدْتُ أي عن جنتي هذه التي أظن أن لا تبيد أبدا إلى ربي، ولما لم يسبق مثل هذا المعنى في «حم» قال هناك: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي [فصلت: 50] ، قوله: أَكَفَرْتَ زعم الجمهور أن أخاه إنما حكم بكفره لأنه أنكر البعث. وأقول: يحتمل أن يكون كافرا بالله أيضا بل مشركا لقوله بعد ذلك: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ولقول أخيه معرضا به لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وليس في قوله: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي دلالة على أنه كان عارفا بربه لاحتمال أن يكون قد قال ذلك بزعم صاحبه كما أشرنا إليه. وقوله: خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أي خلق أصلك وهو إشارة إلى مادته البعيدة. وقوله: مِنْ نُطْفَةٍ إشارة إلى مادتة القريبة. ومعنى سَوَّاكَ رَجُلًا عدلك وكلك حال كونك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال المكلفين ويجوز أن يكون رَجُلًا تمييزا. ولعل السر في تخصيص الله سبحانه في هذا المقام بهذا الوصف هو أن يكون دليلا على وجود الصانع أولا، لأن الاستدلال على هذا المطلوب بخلق الإنسان أقرب الاستدلالات، وفيه أيضا إشارة إلى إمكان البعث لأن الذي قدر على الإبداء أقدر على الإعادة، وفيه أنه خلقه فقيرا لا غنيا فعلم منه أنه خلقه للعبودية والإقرار لا للفخر والإنكار. ثم استدرك لقوله أَكَفَرْتَ كأنه قال لأخيه: أنت كافر بالله لكني مؤمن موحد. وأصل لكنا «لكن أنا» حذفت الهمزة بعد إلقاء حركتها على ما قبلها، ثم استثقل اجتماع النونين فسكنت الأولى وأدغمت في الثانية، وضمير الغائب للشأن، والجملة بعده خبر للشأن، والمجموع خبر «أنا» والراجع ياء الضمير وتقدير الكلام: لكن أنا الشأن الله ربي. قال أهل العربية: إثبات ألف «أنا» في الوصل ضعيف، ولكن قراءة ابن عامر قوية بناء على أن الألف كالعوض عن حذف الهمزة وَلَوْلا للتخفيض وفعله. قلت: وإِذْ دَخَلْتَ ظرف وقع في البين توسعا. وقوله: ما شاءَ اللَّهُ خبر مبتدأ محذوف أو جملة شرطية محذوفة الجزاء تقدير الكلام الأمر ما شاء الله أو أي شيء شاء الله كان. استدل أهل السنة بالآية في أنه لا يدخل في الوجود شيء إلا بأمر الله ومشيئته. وأجاب الكعبي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 بأن المراد ما شاء الله مما تولى فعله لا ما هو من فعل العباد. والجواب أن هذا التقدير مما يخرج الكلام عن الفائدة فإنه كقول القائل «السماء فوقنا» . وأجاب القفال بأنه أراد ما شاء الله من عمارة هذا البستان ويؤيده قوله لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أي ما قويت به على عمارته وتدبير أمره فهو بمعونة الله، وزيف بأنه تخصيص للظاهر من غير دليل على أن عمارة ذلك البستان لعلها حصلت بالظلم والعدوان، فالتحقيق أنه لا قوة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله وإقداره. عن عروة بن الزبير أنه كان يثلم حائطه أيام الرطب فيدخل من يشاء، وكان إذا دخله ردد هذه الآية حتى يخرج. ثم لما علمه الإيمان وتفويض الأمر إلى مشيئة الله أجابه عن افتخاره بالمال والنفر فقال: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ ف «أنا» فصل وأَقَلَّ مفعول ثان مالًا وَوَلَداً نصب على التمييز فعسى ربي أن يؤتيني في الدنيا أو في الآخرة جنة خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً هو مصدر كالغفران بمعنى الحساب أي مقدارا وقع في حساب الله وهو الحكم بتخريبها. وعن الزجاج: عذاب حسبان وهو حساب ما كسبت يداك. وقيل: هو جمع حسبانة وهو السهم القصير يعني الصواعق. فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أرضا بيضاء يزلق عليها زلقا لملاستها. وزلقا وغورا كلاهما وصف بالمصدر كقولهم «فلان زور وصوم» . ثم أخبر سبحانه عن تحقيق ما قدره المؤمن فقال: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ وهو عبارة عن إهلاكه وإفنائه بالكلية من إحاطة العدوّ بالشخص كقوله: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ [يوسف: 66] ، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ أي يندم عَلى ما أَنْفَقَ فِيها لأن النادم يفعل كذلك غالبا كما قد يعض أنامله. وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم وقد مر في البقرة في قصة عزير. وقوله: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ تذكر لموعظة أخيه وفيه دلالة ظاهرة على ما قلنا من أنه كان غير عارف بالله بل كان عابد صنم، ومن ذهب إلى أنه جعل كافرا لإنكاره البعث فسره بأن الكافر لما اغتر بكثرة الأموال والأولاد فكأنه أثبت لله شريكا في إعطاء العز والغنى، أو أنه لما عجز الله عن البعث فقد جعله مساويا لخلقه في هذا الباب وهو نوع من الإشراك. وليس هذا الكلام منه ندما على الشرك ورغبة في التوحيد المحض ولكنه رغب في الإيمان رغبة في جنته وطمعا في دوام ذلك عليه، فلهذا لم يصر ندمه مقبولا ووصفه بعد ذلك بقوله: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ طائفة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لأنه وحده قادر على نصرة العباد. وَما كانَ مُنْتَصِراً ممتنعا بقوته عن انتقام الله. ولما علم من قصة الرجلين أن النصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر علم أن الأمر هكذا يكون في حق كل مؤمن وكافر فقيل هُنالِكَ أي في مثل ذلك الوقت والمقام والولاية الحق لله أو الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 والولاية بالفتح النصرة والتولي، وبالكسر السلطان والملك، أو المراد في مثل تلك الحالة الشديدة يتوب إلى الله ويلتجىء إليه كل مضطر يعني أن قول الكافر يا لَيْتَنِي إنما صدر عنه إلجاء واضطرارا وجزعا ومما دهاه من شؤم كفره ولولا ذلك لم يقلها. وقيل: هُنالِكَ إشارة إلى الآخرة كقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ [غافر: 16] عُقْباً بضم القاف وسكونها بمعنى العاقبة لأن من عمل لوجه الله لم يخسر قط. ثم ضرب مثلا آخر لجبابرة قريش فقال وَاضْرِبْ لَهُمْ الآية. وقد مر مثله في أوائل «يونس» إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ ومعنى فَاخْتَلَطَ بِهِ التف بسببه. وقيل: معناه روى النبات ورف لاختلاط الماء به وذلك لأن الاختلاط يكون من الجانبين. والهشيم ما تهشم وتحطم، والذر والتطيير والإذهاب. تقول: ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذريه ذروا وذريا. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً من تكوينه أوّلا وتنميته وسطا وإذهابه آخرا. ولا ريب أن أحوال الدنيا أيضا كذلك تظهر أولا في غاية الحسن والنضارة، ثم تتزايد إلى أن تتكامل، ثم تنتهي إلى الزوال والفناء، ومثل هذا ليس للعاقل أن يبتهج به. وحين مهد القاعدة الكلية خصصها بصورة جزئية فقال: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ هي أعمال الخير التي تبقى ثمرتها خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً أي تعلق ثواب وخير أملا لأن الجواد المطلق أفضل مسؤول وأكرم مأمول. وقيل: هن الصلوات الخمس. وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ففي التسبيح تنزيه له عن كل ما لا ينبغي، وفي الحمد إقرار له بكونه مبدأ لإفادة كل ما ينبغي، وفي التهليل اعتراف بأنه لا شيء في الإمكان متصفا بالوصفين إلا هو، وفي التكبير إذعان لغاية عظمته وأنه أجلّ من أن يعظم. وقيل: الطيب من القول. والأصح كل عمل أريد به وجه الله وحده قال قتادة. التأويل: وَاتْلُ على نفسك وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ كتبه رَبِّكَ في الأزل لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ إلى الأبد مع الدين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ وهم القلب والسر والروح والخفي في غداة الأزل إلى عشي الأبد فإنهم مجبولون على طاعة الله كما أن النفس جبلت على طاعة الهوى وطلب الدنيا. وَلا تَعْدُ عينا همتك عَنْهُمْ فإنك إن لم تراقب أحوالهم تصرف فيهم النفس الأمارة وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا يعني النفس نارا هي نار القهر والغضب أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها يعني سرادق العزة بِماءٍ كَالْمُهْلِ كل ما هو لأهل اللطف أسباب لسهولة العيش وفراغ البال فإنه سبحانه جعل لأهل القهر سببا لصعوبة الأمر وشدة التعلق حتى شوت الوجوه أي أحرقت مواد التفاتهم إلى عالم الأرواح، وفسدت استعداداتهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 فبقوا في أسفل سافلين الطبيعة يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ والتحلية بالأساور إشارة إلى ظهور آثار الملكات عليهم وقوله: مِنْ ذَهَبٍ رمز إلى أنها ملكات مستحسنة معتدلة راسخة يَلْبَسُونَ ثِياباً فيه أن أنوار العبادات تلوح عليهم وتشتمل بهم. وقوله: خُضْراً إشارة إلى أنها أنوار غير قاهرة ومِنْ سُنْدُسٍ إشارة إلى ما لطف من الرياضات وَإِسْتَبْرَقٍ إلى ما شق منها مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لأنهم فرغوا بها وكلفوا وقضوا ما عليهم من المجاهدات وبقي ما لهم من المشاهدات مَثَلًا رَجُلَيْنِ هما النفس الكافرة والقلب المؤمن. جَعَلْنا لِأَحَدِهِما وهو النفس جَنَّتَيْنِ هما الهوى والدنيا مِنْ أَعْنابٍ الشهوات وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ حب الرياسة وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً من التمتعات البهيمية وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً من القوى البشرية والحواس. وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ من أنواع الشهوات وَهُوَ يُحاوِرُهُ يجاذب النفس والقلب أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا أي ميلا وَأَعَزُّ نَفَراً من أوصاف المذمومات وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ في الاستمتاع بجنة الدنيا على وفق الهوى لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها لأنه غر بالله وكرمه فلا جرم يقال له ما غرك بربك الكريم، هلا قلت ما شاءَ اللَّهُ أي أتصرف في جنة الدنيا كما شاء الله عَلى ما أَنْفَقَ فِيها من العمر وحسن الاستعداد كَماءٍ أَنْزَلْناهُ هو الروح العلوي الذي نزل إلى أرض الجسد فَاخْتَلَطَ الروح بالأخلاق الذميمة فَأَصْبَحَ هَشِيماً تلاشت منه نداوة الأخلاق الروحانية تَذْرُوهُ رياح الأهوية المختلفة فيكون حاله خلاف روح أدركته العناية الأزلية فبعث إليه دهقان من أهل الكمال فرباه بماء العلم والعمل حتى يصير شجرة طيبة. وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أي ما فني منك وبقي بربك والله أعلم بالصواب. [سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 59] وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 القراآت: تسير الجبال على بناء الفعل للمفعول ورفع الجبال: ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو. الآخرون على بناء الفعل للفاعل ونصب الجبال. ما أشهدناهم يزيد. الآخرون ما أشهدتهم وما كنت على الخطاب روى ابن وردان عن يزيد. الباقون على التكلم ويوم نقول بالنون: حمزة الباقون على الغيبة قُبُلًا بضمتين: عاصم وحمزة والكسائي. الباقون بكسر القاف وفتح الباء. لِمَهْلِكِهِمْ بفتح الميم وكسر اللام: حفص لِمَهْلِكِهِمْ بفتحهما، يحيى وحما والمفضل. الباقون بضم الميم وفتح اللام. الوقوف: بارِزَةً لا لأن التقدير وقد حشرناهم قبل ذلك أَحَداً هـ ج للآية مع العطف فًّا ط للعدول والحذف أي يقال لهم لقد جئتموناوَّلَ مَرَّةٍ ز لأن «بل» قد يبتدأ به مع أن الكلام متحدوْعِداً هـ أَحْصاها ج لاستئناف الواو بعد تمام الاستفهام مع احتمال الحال بإضمار «قد» حاضِراً هـ ط أَحَداً هـ إِلَّا إِبْلِيسَ ط أَمْرِ رَبِّهِ ط عَدُوٌّ ط بَدَلًا هـ أَنْفُسِهِمْ ص عَضُداً هـ مَوْبِقاً هـ مَصْرِفاً هـ مَثَلٍ ط جَدَلًا هـ قُبُلًا هـ وَمُنْذِرِينَ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف هُزُواً هـ يَداهُ ط وَقْراً، ط لاختلاف الجملتين مع ابتداء الشرط أَبَداً هـ الرَّحْمَةِ ط الْعَذابَ ط مَوْئِلًا هـ مَوْعِداً. التفسير: لما بين خساسة الدنيا وشرف الآخرة أردفه بأحوال يوم القيامة وأهواله، وفيه رد على أغنياء المشركين الذين افتخروا بكثرة الأموال والأولاد على فقراء المسلمين والتقدير: واذكر يوم كذا عطفا على وأضرب. ويجوز أن ينتصب بالقول المضمر قبل وَلَقَدْ جِئْتُمُونا وفاعل التسيير هو الله تعالى إلا أنه سمي على إحدى القراءتين ولم يسم في الأخرى، فتسييرها إما إلى العدم لقوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه: 105] ، وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة: 5، 6] . وإما إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 موضع لا يعلمه إلا الله وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً لأنه لا يبقى على وجهها شيء يسترها من العمارات ولا من الجبال والأشجار، وإما لأنها أبرزت ما في بطنها من الأموات لقوله: وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ [الانشقاق: 4] فيكون الإسناد مجازيا أي بارزا ما في جوفها وَحَشَرْناهُمْ الضمير للخلائق المعلوم حكما فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً من الأوّلين والآخرين. يقال: غادره وأغدره إذا تركه والترك غير لائق ومنه الغدر ترك الوفاء. والغدير ما غادره السيل لأن اللائق بحال السيل أن يذهب بالماء كله. ولا يخفى أن اللائق بحال رب العزة أن لا يترك أحدا من خلقه غير محشور وإلا كان قدحا في عمله وحكمته وقدرته. قالت المشبهة: في قوله: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ دليل على أنه سبحانه في مكان يمكن أن يعرض عليه أهل القيامة وكذلك في قوله: قَدْ جِئْتُمُونا وأجيب بأنه تعالى شبه وقوفهم في الموضع الذي يسألهم فيه عن أعمالهم بالعرض عليه وبالمجيء إلى حكمه كما يعرض الجند على السلطان. وانتصب فًّا على الحال أي مصطفين ظاهرين ترى جماعاتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحدا. والصف إما واحد وإما جمع كقوله يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر: 67] أي أطفالا. وقيل: صفا أي قياما وبه فسر قوله: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ [الحج: 36] . وقال القفال: يشبه أن يكون الصف راجعا إلى الظهور والبروز ومنه الصفصف للصحراء وهذا قريب من الأول. وقد مر في «الأنعام» أن وجه التشبيه في قوله لَقْناكُمْ أنهم يبعثون عراة لا شيء معهم، أو المراد بعثناكم كما أنشأناكم وزعمهم أن لن يجعل الله لهم موعدا. أي وقتا لإنجاز ما وعدوا على ألسنة الأنبياء إما أن يكون حقيقة وإما لأن أفعالهم تشبه فعل من يزعم ذلك. وَوُضِعَ الْكِتابُ أي جنسه وهو صحف الأعمال. والوضع إما حسي وهو أن يوضع كتاب كل إنسان في يده إما في اليمين أو في الشمال، وإما عقلي ومعناه النشر والاعتبار. فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ خائفين مما في الكتاب لأن الخائن خائف خوف العقاب وخوف الافتضاح. ومعنى النداء في يا وَيْلَتَنا قد مر في «المائدة» في يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ [الآية: 31] وقوله: صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً صفتان للهيئة أو المعصية أو الفعلة وهي عبارة عن الإحاطة وضبط كل ما صدر عنهم، لأن الأشياء إما صغار وإما كبار، فإذا حصر الصنفين فقد حصر الكل. وعن الفضيل: ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر. قلت: وذلك أن تلك الصغائر هي التي جرأتهم على الكبائر. وعن ابن عباس: الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة. وعن سعيد بن جبير: الصغيرة المسيس والكبيرة الزنا. وجوّز في الكشاف أن يريد ما كان عندهم صغائر وكبائر. وتمام البحث في المسألة أسلفناه في أوائل سورة النساء في تفسير قوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: 31] فتذكر وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 الصحف مثبتا فيها أو وجدوا أجزاء ما عملوا ظاهرا على صفحات أحوالهم وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً استدل الجبائي به على بطلان مذهب الأشاعرة في أن الأطفال يجوز أن تعذب بذنوب آبائهم فإن ذلك ظلم. والجواب أن الظلم إنما يتصوّر في حق من تصرف في غير ملكه قالوا: لو ثبت أن له بحكم المالكية أن يفعل ما يشاء من غير اعتراض عليه لم يكن لهذا الإخبار فائدة. وأجيب بأن تلك القضية بعد الدلائل العقلية علمت من مثل هذه الآية. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحاسب الناس في القيامة على ثلاثة: يوسف وأيوب وسليمان يدعو المملوك فيقول له: ما شغلك عني؟ فيقول جعلتني عبد الآدمي فلم تفرغني فيدعو يوسف فيقول: كان هذا عبدا مثلك ثم يمنعه ذلك أن عبدني فيؤمر به إلى النار. ثم يدعى بالمبتلى فإذا قال: أشغلتني بالبلاء دعا بأيوب فيقول: قد ابتليت هذا بأشد من بلائك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي ويؤمر به إلى النار، ثم يؤتى بالملك في الدنيا مع آتاه الله من الغنى والسعة فيقول: ماذا عملت فيما آتيتك فيقول: شغلني الملك عن ذلك فيدعى بسليمان فيقول: هذا عبدي سليمان آتيته أكثر مما آتيتك فلم يشغله ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك فيؤمر به إلى النار» ثم إنه سبحانه عاد على أرباب الخيلاء من قريش فذكر قصة آدم واستكبار إبليس عليه. قال جار الله: قوله: كانَ مِنَ الْجِنِّ كلام مستأنف جار مجرى التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأن قائلا قال: ما له لم يسجد فقيل: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ والفاء للتسبيب أي كونه من الجن سبب في فسقه ولو كان ملكا لم يفسق لثبوت عصمة الملائكة. وقال آخرون: اشتقاق الجن من الاستتار عن العيون فيشمل الملائكة والنوع المسمى بالجن. ثم من لم يوجب عصمة الملك فظاهر، ومن أوجب قال: «كان» بمعنى «صار» أي مسخ عن حقيقة الملائكة إلى حقيقة الجن، وقد سلف هذا البحث بتمامه في أول سورة البقرة. ومعنى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ خرج عن طاعته. وحكى الزجاج عن الخليل وسيبويه أنه لما أمر فعصى كان سبب فسقه هو ذلك الأمر ولولا ذلك الأمر الشاق لما حصل ذلك الفسق فلهذا حسن أن يقال: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. وقال قطرب: هو على حذف المضاف أي فسق عن ترك أمره. ثم عجب من حال من أطاع إبليس في الكفر. والمعاصي وخالف أمر الله فقال: أَفَتَتَّخِذُونَهُ كأنه قيل أعقيب ما وجد منه من إلا باء والفسق تتخذونه وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وتستبدلونهم بي وقصة آدم وإبليس سمعها قريش من أهل الكتاب وعرفوا صحتها فلذلك صح الاحتجاج بها عليهم وإن لم يعتقدوا كون محمد صلى الله عليه وسلم نبيا بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أي بئس البدل من الله. إبليس لمن استبدل به فأطاعه بدل طاعته. قال الجبائي: في الآية دلالة على أنه لا يريد الكفر ولا يخلقه في العبد وإلا لم يصح هذا الذم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 والتوبيخ، وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا. قال أهل التحقيق: إن الداعي لكفار قريش إلى ترك دين محمد صلى الله عليه وسلم هو النخوة والعجب والترفع والتكبر، وهذا شأن إبليس ومن تابعه. فكل من كان غرضه من العلم أو العمل الفخر على الأقران والترفع على أبناء الزمان فإنه مقتد بإبليس وذريته وهذا مقام صعب نسأل الله الخلاص منه. ثم دل على فساد عقيدة أهل الشرك وبطلان طريقتهم بقوله: ما أَشْهَدْتُهُمْ فالأكثرون على أن الضمير للشركاء والمراد أنهم لو كانوا شركاء لي في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم يعني لو كان بعضهم شاهدين خلق بعض مشاركين لي فيه كقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ لأمكن أن يكونوا شركاء لي في العبادة لكن الملزوم المساوي منتف فاللازم مثله يؤيد هذا التفسير قوله: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ أي متخذهم عَضُداً أعوانا فوضع المضلين موضع الضمير نعيا عليهم بالإضلال. وقيل: الضمير للمشركين الذي التمسوا طرد فقراء المؤمنين، والمراد أنهم ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة، بل هم قوم كسائر الخلق نظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له: لست سلطان البلد ولا مدبر المملكة حتى تقبل منك كل اقتراحاتك. وقيل: أراد أن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة وضدّها لأنهم لم يكونوا شاهدين خلق العالم، فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله وبشرفهم ورفعتهم عند الخلق وبأضداد هذه الأحوال للفقراء. ومن قرأ وَما كُنْتُ بفتح التاء فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم وما ينبغي لك أن تغترّ بهم. ثم عاد إلى تهويلهم بأحوال يوم القيامة وأضاف الشركاء إلى نفسه على معتقدهم توبيخا لهم وفحوى الكلام: اذكر يا محمد أحوالهم وأحوال آلهتهم يوم القيامة إذ يَقُولُ الله لهم نادُوا أي ادعوا من زعمتم أنهم شُرَكائِيَ فأهلتموهم للعبادة. قال المفسرون: أراد الجن فَدَعَوْهُمْ لم يذكر في هذه الآية أنهم كيف دعوا تلك الشركاء ولعل المراد بما في الآية الأخرى إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا [إبراهيم: 21] فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ولم يدفعوا عنهم ضررا وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً. عن الحسن مَوْبِقاً عداوة والمعنى عداوة هي في شدتها الهلاك كقولهم «لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا» . وقال الفراء: البين الوصل والمراد جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة. وفي الكشاف: الموبق المهلك وهو مصدر كالمورد أي جعلنا بينهم واديا من أودية جهنم مشتركا هو مكان الهلاك والعذاب الشديد يهلكون فيه جميعا. وجوز أن يريد بالشركاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 الملائكة وعزيرا وعيسى ومريم، وبالموبق البرزخ أي وجعلنا بينهم أمدا بعيدا يهلك فيه السائرون لفرط بعده لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان. قوله: فَظَنُّوا قيل: علموا وأيقنوا: والأقرب أن الكفار يرون النار من مكان بعيد فيغلب على ظنونهم أنهم مخالطوها واقعون فيها في تلك الساعة من غير تأخير ولا مهلة لشدة ما يسمعون من تغيظها نظيره إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان: 12] وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي معدلا إلى غيرها لأن الملائكة يسوقونهم إليها آخر الأمر. ولما ذكر أن الكفرة افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم ومتصرفاتهم وأجاب عن شبههم وأقوالهم الفاسدة وضرب الأمثال النافعة وحكى أهوال الآخرة قال: وَلَقَدْ صَرَّفْنا وقد مر تفسيره في السورة المتقدمة. وحين لم يترك الكفار جدالهم وكانوا أبدا يتعللون بالأعذار الواهية ختم الآية بقوله: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا يعني أن الأشياء التي يتأتى منها الجدل ان فصلتها واحدا بعد واحد فإن الإنسان أكثرها خصومة فقوله: أَكْثَرَ شَيْءٍ كقوله أَوَّلَ مَرَّةٍ وقد مر في «الأنعام» . وكثرة جدل الإنسان لسعة مضطربه فيما بين أوج الملكية إلى حضيض البهيمية، فليس له في جانبي التصاعد والتسافل مقام معلوم. قال أهل البرهان: قوله تعالى في سورة «بني إسرائيل» : وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى [الاسراء: 94] وقال في هذه السورة بزيادة وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ لأن المعنى هناك ما منعهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا قولهم: «أبعث الله بشرا رسولا، هلا بعث ملكا» وجهلوا أن التجانس يورث التوانس. ومعناه في هذا الموضع ما منعهم من الإيمان والاستغفار إلا الإتيان بسنة الأوّلين وانتظار ذلك. وعن الزجاج: إلا طلب سنتهم وهو قولهم «إن كان هذا هو الحق» وزاد في هذه السورة وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ لأن قوم نوح أمروا بالاستغفار اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً [نوح: 10] وكذا قوم هود وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [هود: 52] وقوم صالح فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود: 62] وقو شعيب وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود: 90] فلما خوفهم سنة الأوّلين أجرى المخاطبين مجراهم. والحاصل أنهم لا يقدمون على الإيمان والاستغفار إلا عند نزول عذاب الاستئصال أو عند تواصل أصناف البلاء عيانا. ومن قرأ بضمتين أراد أنواعا جمع قبيل. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أنه لا مانع من الإيمان أصلا. وقالت الأشاعرة: العلم بأنه لا يؤمن والداعي الذي يخلقه الله في الكافر يمنعانه، فالمراد فقدان الموانع المحسوسة. ثم بين أنه إنما أرسل الرسل مبشرين بالثواب على الطاعة ومنذرين بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعا وبين أن مع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 هذه الأحوال يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا ويزيلوا ويبطلوا بِهِ الْحَقَّ من إدحاض القدم وهو إزلاقها وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا أي الذي أنذروا من العقاب أو إنذارهم هُزُواً موضع استهزاء. قال جار الله: جدالهم قولهم للرسل ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [يس: 15] وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون: 24] وما أشبه ذلك. قال أهل العرفان: قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ أي بالقرآن بدليل قوله: أَنْ يَفْقَهُوهُ وبتذكير الضمير. فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ من الكفر والمعاصي فلم يتفكروا في عاقبتها ولم يتدبروا في جزائها متمسك القدرية. وإنما قال في السجدة ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها [الآية: 22] لأن ما في هذه السورة في الكفار الأحياء الذين إيمانهم متوقع بعد، أي ذكروا فأعرضوا عقب ذلك. وما في السجدة في الكفار الأموات بدليل قوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السجدة: 12] أي ذكروا مرة بعد أخرى وزمانا بعد زمان ثم أعرضوا عنها بالموت فلم يؤمنوا وانقطع رجاء إيمانهم. وقوله إِنَّا جَعَلْنا وقد مر تفسيره في «الأنعام» إلى قوله: فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً متمسك الجبرية وقلما تجد في القرآن دليلا لأحد الفريقين إلا ومعه دليل للفريق الآخر فهذا شبه ابتلاء من الله، ولعله أراد بذلك إظهار مغفرته ورحمته على عباده كما قال: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ قال المفسرون الضمير في قوله: لَوْ يُؤاخِذُهُمْ لأهل مكة الذين أفرطوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والموعد يوم بدر. وأقول: لا يبعد أن يكون الضمير للناس في قوله: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ والموعد القيامة، والموئل الملجأ يقال وأل إذا نجا، ووأل إليه إذا لجأ إليه. قال الإمام فخر الدين الرازي: إنا ذكر لفظ المبالغة في المغفرة دون الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار، والرحمة إيصال النفع، وقدرة الله تعالى تتعلق بالأول، لأن ترك أضرار لا نهاية لها ممكن ولا تتعلق بالثاني لأن فعل ما لا نهاية له محال. أقول: هذا فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله ذو الرحمة أيضا لا يخلو عن مبالغة، وكثيرا ما ورد في القرآن إنه غفور رحيم بلفظ المبالغة في الجانبين. وفي تعلق القدرة بترك غير المتناهي أيضا نظر، لأن مقدورات الله متناهية لا فرق في ذلك بين المبقي والمتروك. ثم أشار إلى قرى الأولين اعتبارا لغيرهم فقال: وَتِلْكَ الْقُرى فاسم الإشارة مبتدأ وفيه تعظيم لشأنهم أو تبعيد لزمانهم ومكانهم، والقرى صفة وما بعده خبره ولا يخفى حذف المضاف أي وتلك أصحاب القرى أَهْلَكْناهُمْ ويجوز أن يكون تِلْكَ الْقُرى منصوبا بإضمار أهلكنا على شريطة التفسير. وَجَعَلْنا لزمان إهلاكهم أو لإهلاكهم أو وقت هلاكهم مَوْعِداً وعدا أو وقت وعد لا يتأخرون عنه كما ضربنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 لأهل مكة يوم بدر، والمراد أنا عجلنا هلاكهم ومع ذلك لم ندع أن نضرب له وقتا يمكنهم التوبة قبل ذلك. التأويل: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وهي الأبدان الجامدة عن السلوك، وترى أرض النفوس بارزة خالية عن موانع الطريق، وحشرنا جميع القوى البشرية عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لكل قوة ولكل جوهر رتبة تليق بها، فالروح في صف الأرواح، والقلب في صف القلوب، وكذا النفس وقواها. وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ على هيئة الفطرة، وقيل الأنبياء في صف، والأولياء في صف، والمؤمنون في صف، والكافرون والمنافقون في الصف الأخير لا يُغادِرُ صَغِيرَةً هي كل تصرف في شيء بالشهوة النفسانية وإن كان من المباحات. وَلا كَبِيرَةً هي التصرف في الدنيا على حبها فحب الدنيا رأس كل خطيئة ما أَشْهَدْتُهُمْ لأني لا أشهد إلا أوليائي كما قلت سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [الكهف: 53] وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ رأوا في الدنيا أسباب النار من الشهوات والآثام فوقعوا فيها ولم يجدوا ما يصرفهم عنها من الديانة والإيمان الحقيقي، فإذا رأوا النار في الآخرة أيقنوا أنهم مواقعوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا فتارة مجادل في التوحيد وأخرى في النبوة ومرة في الأصول ومرة في الفروع، ولهذا كثرت المذاهب والأديان والملل والنحل ونسأل الصواب من ملهمه وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ أسباب الهداية وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إن كانوا مذنبين إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ من الأنبياء والأولياء والمؤمنين وهو جذبات العناية لأهل الهداية كقوله في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم «والله لولا الله ما اهتدينا» أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا كقوله: «أنا نبي السيف أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» «1» . والله أعلم. (م) . تم الجزء الخامس عشر، ويليه الجزء السادس عشر أوله: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ ...   (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 32- 36. البخاري في كتاب الإيمان باب 17. أبو داود في كتاب الجهاد باب 95. الترمذي في كتاب تفسير سورة 88. النسائي في كتاب الزكاة باب 3. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 1- 3 بدون لفظ «أنا نبي السيف» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء السادس عشر من أجزاء القرآن الكريم [سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 82] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) القراآت: أنسانيه بضم الهاء حفص والمفضل، وقرأ عليّ بالإمالة مع كسر الهاء: نبغي بالياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب، وأفق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 وعلي في الوصل. الباقون بحذف الياء في الحالين اتباعا لخط المصحف. رشدا بفتحتين: أبو عمرو ويعقوب. بضمتين: ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الباقون رُشْداً بضم الراء وسكون الشين. معني بفتح الياء: حفص سَتَجِدُنِي إِنْ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع فَلا تَسْئَلْنِي بنون التأكيد الثقيلة وإثبات الياء: أبو جعفر ونافع وابن عامر: بحذف الياء: ابن مجاهد عن ابن ذكوان والأحسن إثباتها لأنه شاذ عن أهل الشام. الآخرون بنون الوقاية وحذف الياء. ليغرق أهلها بياء الغيبة وفتحها مع فتح الراء ورفع الأهل: حمزة وعلي وخلف. الباقون بتاء الخطاب مضمومة وكسر الراء من الإغراق وبنصب الأهل زاكية على «فاعله» : أبو جعفر ونافع وأبو بكر وحماد والمفضل. يُضَيِّفُوهُما من الإضافة: المفضل لتخذت من التخذ مدغما: أبو عمرو وسهل ويعقوب، وقرأ ابن كثير بالإظهار. الباقون: لَاتَّخَذْتَ من الاتخاذ. وقرأ حفص والمفضل والأعشى والبرجمي مظهرا يُبْدِلَهُما من التبديل وكذلك في سورة التحريم ونون والقلم: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. الآخرون من الإبدال رُحْماً بضمتين: ابن عامر ويزيد وعباس وسهل ويعقوب. الباقون بسكون الحاء. الوقوف: حُقُباً هـ سَرَباً هـ غَداءَنا ز لا نقطاع النظم مع صدق اتصال المعنى نَصَباً هـ الْحُوتَ ز لتمام استفهام التعجب مع اتحاد الكلام وكون الواو حالا أَنْ أَذْكُرَهُ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال في البحر وقفة. قيل: عليه تم كلام يوشع ثم ابتدأ موسى فقال عجبا أي أعجب لذلك عجبا والوصل أجوز أي سبيلا عجبا واتخاذا عَجَباً هـ نَبْغِ قف قد قيل: لتمام قول أحدهما وابتداء فعلهما والوجه الوصل لعطف اللفظ وسرعة الرجوع على الفور قَصَصاً هـ لا لاتصال النظم واتحاد الحال عِلْماً هـ رُشْداً هـ صَبْراً هـ خُبْراً هـ أَمْراً هـ ذِكْراً هـ فَانْطَلَقا وقفة لأن حتى إذا للابتداء حرقها ط أَهْلَها ج لانقطاع النظم واتحاد القائل إِمْراً هـ صَبْراً هـ عُسْراً هـ فَانْطَلَقا وقفة لما مر فَقَتَلَهُ لا لأن «قال» جواب «إذا» لغير نفس ط للفصل بين الاستخبار والإخبار نُكْراً هـ صَبْراً هـ فَلا تُصاحِبْنِي ج لاختلاف الجملتين عُذْراً هـ فَانْطَلَقا وقفة فَأَقامَهُ ط أَجْراً هـ وَبَيْنِكَ ج صَبْراً هـ غَصْباً هـ وَكُفْراً، ج للعطف مع الآية رُحْماً هـ صالِحاً ج لما قلنا مِنْ رَبِّكَ ج عَنْ أَمْرِي ط صَبْراً، لانقطاع القصة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 التفسير: هذه قصة أوردها الله تعالى لتعين على المقاصد السابقة مع كونها مستقلة في الإفادة، أما نفعها في قصة أصحاب الكهف فهو أن اليهود قالوا: إن أخبركم محمد عنها فهو نبي وإلا فلا، فذكر الله تعالى قصة موسى والخضر تنبيها على أن النبي لا يلزم أن يكون عالما بجميع القصص والأخبار. وأما نفعها في الرد على كفار قريش حين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار، فهو أن موسى عليه السلام مع كثرة علمه وعلو منصبه واستجمام موجبات الشرف التام في حقه ذهب إلى الخضر وتواضع له لأجل طلب العلم فدل ذلك على أن التواضع خير من التكبر. وأكثر العلماء على أن موسى المذكور في الآية هو موسى بن عمران صاحب التوراة والمعجزات. وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس: إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى بن عمران وإنما هو صاحب موسى بن ميشا بن يعقوب وهو قد كان نبيا قبل موسى بن عمران. فقال ابن عباس: كذب عدو الله. واحتج الأكثرون على صحة قولهم بأن موسى حيث أطلق في القرآن أريد به موسى بن عمران، فلو كان المراد هاهنا شخصا آخر لوجب تعريفه بحيث يتميز عن المشهور. حجة الأقلين- وإليه ذهب جمهور اليهود- أن موسى بن عمران بعد أن خصه الله تعالى بالمعجزات الظاهرة التي لم يتفق لمن قبله مثلها، يبعد أن يؤمر بالتعلم والاستفادة. وأجيب بأن العالم الكامل في أكثر العلوم قد يجهل بعض المسائل فيحتاج في تعلمها إلى من يختص بعلمها. أما فتى موسى فالأكثر على أنه يوشع بن نون، ويروى هذا القول عن سعد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو أخو يوشع وكان مصاحبا لموسى في السفر. وعن الحسن: إنه أراد عبده ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي» . قال أهل السير: إن موسى لما ظهر على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط، أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيبا فذكر نعمة الله فقال: إنه اصطفى نبيكم وكلمه فقالوا له: قد علمنا هذا فأيّ الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله حين لم يردّ العلم إلى الله، فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبد لي بمجمع البحرين وهو الخضر، وكان الخضر عليه السلام في أيام أفريدون قبل موسى عليه السلام وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر. وبقي إلى أيام موسى. ويروى أن موسى سأل ربه أيّ عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني. قال: فأيّ عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: فأي عبادك أعلم؟ الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على الهوى أو تردّه عن ردى. فقال: إن كان في عبادك من هو أعلم منى فادللني عليه. قال: أعلم منك الخضر. قال: فأين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة. قال: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني، فذهبا يمشيان فرقد موسى عليه السلام فاضطرب الحوت ووقع في البحر، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فأتيا الصخرة فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى عليه السلام فقال: وأنى بأرضنا السلام فعرفه نفسه فقال: يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا. فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع في حرفها فنقر في الماء فقال الخضر: ما ينقص علمي وعلمك من علم الله مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر. قلت: وهذا صحيح لأن علم الإنسان متناه وعلم الله غير متناه، ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلا. ولنرجع إلى التفسير قال الزجاج وتبعه جار الله: لا أَبْرَحُ بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر لدلالة حال السفر عليه ولأن قوله: حَتَّى أَبْلُغَ غاية مضروبة فلا بد لها من ذي غاية. فالمعنى لا أزال أسير إلى أن أبلغ، وجوز أن يكون المعنى لا أبرح سيري حتى أبلغ على أن حَتَّى أَبْلُغَ هو الخبر، وحذف المضاف وهو السير وأقيم المضاف إليه- وهو ياء المتكلم- مقامه فانقلب الفعل من لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم وجوز أيضا أن يكون لا أبرح، بمعنى لا أزول من برح المكان، والمعنى لا أبرح ما أنا عليه أي لا أترك المسير والطلب حتى أبلغ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ يعني ملتقى بحري فارس والروم وقد شرحنا وضع البحار في سورة البقرة في تفسير قوله: الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ [الآية: 164] . وقيل: أراد طنجة، وقيل إفريقية. ومن غرائب التفسير أن البحرين موسى والخضر لأنهما بحر العلم، وهذا مع غرابته مستبشع جدا لأن البحرين إذا كان هو موسى عليه السلام فكيف يصح أن يقول: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ إذ يؤل حاصل المعنى إلى قولنا حتى أبلغ مكانا يجتمع فيه بحران من العلم أحدهما أنا أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أسير زمانا طويلا. قال جار الله: الحقب بالضم ثمانون سنة. ويقال: أكثر من ذلك. وقيل: إنه تعالى أعلم موسى حال هذا العالم وما أعلمه بعينه فقال موسى: لا أزال أمضي حتى يجتمع البحران فيصيرا بحرا واحدا أو أمضي دهرا طويلا حتى أجد هذا العالم، وهذا إخبار من موسى عليه السلام بأنه وطن تحمل التعب الشديد إلى أن يلقاه، وفيه تنبيه على شرف العلم وأن طلب العلم يحق له أن يسافر، ويتحمل المتاعب في الطلب من غير ملال وكلال. فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما قال جمهور المفسرين: الضمير للبحرين أي تحقق ما موسى وبلغ المكان الذي وعد فيه لقاء الخضر. ولا بد للبين من فائدة، ولعل المراد حيث يكاد يلتقي وسط ما امتد من البحرين طولا. والإضافة بمعنى «في» أي مجمعا في وسط البحرين فيكون كالتفصيل لمجمع البحرين، والبيان والإيضاح بكلام علام الغيوب تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 أولى منه بكلام موسى، أو البين بمعنى الافتراق أي البحران المفترقان يجتمعان هناك. ويحتمل على هذا أن يعود الضمير إلى موسى والخضر أي وصلا إلى الموضع الذي وعد اجتماع شملهما هناك، أو البين بمعنى الوصل لأنه من الأضداد فيفيد مزيد التأكيد كقولهم «جد جده» . وهذه الوجوه مما لم أجدها في التفاسير، فإن كان صوابا فمن الله وإلا فمني ومن الشيطان نَسِيا حُوتَهُما لأنه تعالى جعل انقلاب الحوت حيا علامة على مسكن الخضر قيل: إن الفتى كان يغسل السمكة لأنها كانت مملوحة فطفرت وسارت. وقيل: إن يوشع توضأ في ذلك المكان فانتضح الماء على الحوت المالح فعاش ووثب إلى الماء. وقيل: انفجرت هناك عين من الجنة ووصلت قطرات من تلك العين إلى السمكة فحييت وطفرت إلى البحر. ونسيان الحوت للذهول عن الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب، والسبب في هذا الذهول مع أن هذه الحالة كانت أمارة لهما على الطلبة التي تناهضا من أجلها، هو أن يوشع كان قد تعود مشاهدة المعجزات الباهرة فلم يبق لحياة السمكة ولقيام الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب منه وقع عنده. وقيل: إن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الذي يشبه الضروري تنبيها لموسى عليه السلام، على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله وحفظه على قلوب عباده. وانتصاب قوله: سَرَباً على أنه مفعول ثان لاتخذ أي اتخذ سبيله سبيلا سريا وهو بيت في الأرض، وذلك أن الله تعالى أمسك إجراء الماء عن الحوت وجعله كالكوة حتى سرى الحوت فيه معجزة لموسى عليه السلام وللخضر. وقيل: السرب هو الذهاب والتقدير سرب في البحر سربا إلا أنه أقيم قوله: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ مقام «سرب» فَلَمَّا جاوَزا أي موسى وفتاه الموعد المعين وهو الصخرة قال موسى لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا وهو ما يؤكل بالغداة لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً تعبا وجوعا. قال المفسرون: قوله مِنْ سَفَرِنا هذا إشارة إلى سيرهما وراء الصخرة ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك. قال الفتى متعجبا أَرَأَيْتَ ومفعوله محذوف لدلالة قوله: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ عليه كأنه قال: أرأيت ما دهاني ووقع لي. إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ قيل: هي الصخرة التي دون نهر الزيت فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ عليها ثم ذكر ما يجري مجرى السبب في وقوع ذلك النسيان فقال: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ وأَنْ أَذْكُرَهُ بدل الاشتمال من الهاء في أَنْسانِيهُ أي وما أنساني ذكره قال الكعبي: لو كان النسيان بخلق الله وإرادته لكان إسناد ذلك إلى الله تعالى أولى من إسناده إلى الشيطان إذ ليس له في وجوده سعي ولا أثر. قال القاضي: المراد بإنساء الشيطان أن يشتغل قلب الإنسان بوساوسه التي هي من فعله دون النسيان الذي يضاد الذكر، لأن ذلك لا يصلح أن يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 إلا من قبل الله تعالى. قال أهل البرهان: لما كان اتخاذ الحوت سبيله في البحر عقيب النسيان ذكر أوّلا فاتخذ بالفاء، ولما حيل بينهما ثانيا بجملة معترضة هي قوله: وَما أَنْسانِيهُ زال معنى التعقيب وبقي العطف المجرد فقال: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ بالواو. وانتصاب عَجَباً كما مر في سَرَباً. قال صلى الله عليه وسلم: «كان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا» قالَ موسى ذلِكَ يعني اتخاذ الحوت السبيل في البحر ما كنا نبغي أي إنه الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما فرجعا على طريقهما المسلوك قَصَصاً مصدر لأنه بمعنى الارتداد على الأثر يتبعان آثارهما اتباعا، أو هو مصدر في موضع الحال أي رجعا على الطريق الذي جاءا منه مقتصين فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا الأكثرون على أن ذلك العبد كان نبيا لأنه تعالى وصفه بقوله: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا والرحمة هي الوحي والنبوّة بدليل قوله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 32] وقوله: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: 86] ومنع أن كل رحمة نبوة قالوا: وصفه بقوله: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً والعلم المختص به تعالى هو الوحي والإخبار بالغيوب. وأيضا آخر القصة وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي عرفته وفعلته بأمر الله وذلك مستلزم للوحي. وروي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال: السلام عليك. فقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. فقال: من عرّفك هذا؟ قال: الذي بعثك إلي. والصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية. والتحقيق فيه إذ ضعفت القوى الحسية والخيالية بواسطة الرياضة قويت القوة العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية على جواهر العقل، ويفيض عليه من عالم الأرواح أنوار يستعد بسببها لملاحظة أسرار الملكوت ومطالعة عالم اللاهوت. والأكثرون أيضا على أن ذلك العبد هو الخضر سمي بذلك لأنه كان لا يقف موقفا إلا اخضر ذلك الموقف. وقال الجبائي: روي أن الخضر إنما بعث بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل. فإن صحت الرواية لم يكن ذلك العبد هو الخضر لأنه بعث بعده، وبتقدير كونه معاصرا له فإنه أظهر الترفع على موسى حين قال: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً وأن موسى أظهر التواضع له حين قال وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً مع أنه كان مبعوثا إلى كافة بني إسرائيل، والأمة لا تكون أعلى حالا من النبي. وإن لم تكن الرواية صحيحة بأن الخضر لا يكون من بني إسرائيل لم يجز أن يكون الخضر أفضل من موسى عليه السلام لأنه تعالى قال لبني إسرائيل وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: 47] وأجيب بأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 قال العلماء: إن موسى راعى مع الخضر في قوله: هَلْ أَتَّبِعُكَ أنواعا من الأدب منها: أنه جعل نفسه تبعا له مطلقا، وفيه أن المتعلم يجب عليه الخدمة وتسليم النفس والإتيان بمثل أفعال الأستاذ وأقواله على جهة التبعية لا الاستقلال، فإن المتابعة هي الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلا لذلك الغير، ولهذا لسنا متبعين لليهود في قولنا «لا إله إلا الله» لأنا نقول كلمة التوحيد لأجل أنهم قالوها بل لقيام الدليل على قولها، ولكنا متابعون في الصلوات الخمس للنبي صلى الله عليه وسلم لأنا نأتي بها لأجل أنه أتى بها. ومنها أنه استأذن في إثبات هذه التبعية. ومنها أنه قال: على أن تعلمني مما علمت وفيه إقرار على أستاذه بالعلم، وفيه أنه لم يطلب منه إلا بعض علمه ولم يطلب منه أن يجعله مساويا له في العلم كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءا من أجزاء ماله لأكله، وفيه اعتراف بأن ذلك العلم علمه الله تعالى وإلا سمي فاعله، وفيه إشعار بأن إنعامه عليه في هذا التعليم شبيه بإنعام الله عليه فيه ومن هنا قيل: أنا عبد من علمني حرفا. ومنها أن الخضر عرف أنه نبي صاحب المعجزات المشهورة، ثم إنه مع هذه المناصب العلية والمراتب السنية لم يطلب منه المال والجاه وإنما طلب التعليم فقال: على أن تعلمني فدل ذلك على أنه لا كمال فوق كمال العلم، وأنه لا يحسن صرف الهمة إلا إلى تحصيله. وفيه أن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر، فكان حرصه على زيادتها أوفر. ومنها أنه قال رُشْداً وهو يصلح أن يكون مفعولا ك تعلمني وعُلِّمْتَ أي علما ذا رشد أرشد به في ديني، وفيه تعظيم لما سيعلمه فإن الإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل حصل الضلال. ثم إنه تعالى حكى عن الخضر أنه قال: لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً نفى استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد لعلمه بأنه يتولى أمورا هي في الظاهر منكرة، والرجل الصالح لا سيما النبي الذي يحكم بظواهر الأمور شرعا قلما يتمالك أن يصبر عليها. وخُبْراً تمييز أي لم يحط به خبرك، أو هو مصدر لكونه في معنى الإحاطة. استدلت الأشاعرة بالآية على أن الاستطاعة لا تحصل فيه الفعل وإلا لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة قبل الصبر، فيكون قول الخضر بنفي الاستطاعة كذبا. وكذا قوله: وَكَيْفَ تَصْبِرُ لأنه استفهام في معنى الإنكار أي لا تصبر البتة. أجاب الجبائي بأنه أراد بنفي الاستطاعة أن يثقل عليه الصبر لا أنه لا يستطيعه. يقال في العرف: إن فلانا لا يستطيع أن يرى فلانا وأن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك ولهذا قالَ له موسى سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي أي ستجدني غير عاص لَكَ أَمْراً ويجوز أن يكون قوله: وَلا أَعْصِي جملة مستأنفة معطوفة على مثلها أي ستجدني ولا أعصي. قال أهل السنة: في قوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ بطريق الشك والصبر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 مأمور به دليل على أنه تعالى قد لا يريد من العبد ما أوجبه عليه. قالت المعتزلة: إنما ذكره بطريق الأدب. وأجيب بأن هذا الأدب إن صح معناه فقد ثبت المطلوب، وإن فسد فأيّ أدب في ذكر الكلام الباطل. قالت الأصوليون: في قوله: وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً دليل على أن ظاهر الأمر للوجوب، لأن تارك الأمر عاص. بهذه الآية، والعاصي يستحق العقاب لقوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الجن: 23] قال المحققون: في قوله الخضر تغليظ وتجهيل، وفي قول موسى تحمل وتواضع، فدل ذلك على أن المعلم إن رأى التغليظ على المتعلم فيما يعتقده نفعا وإرشادا إلى الخير، فالواجب عليه ذكره وعلى المتعلم أن يتلقاه بالبشر والطلاقة. ثم قال: فإن اتبعتني فلا تسألني شرط على موسى عليه السلام في اتباعه أن لا يسأل عما خفي عليه وجه صحته حتى يكون الخضر هو المبتدئ بتعليمه إياه بإخباره عن وجه الحكمة فيه فَانْطَلَقا على ساحل البحر يطلبان السفينة، فما ركباها يروى أن أهلها قالوا: هما من اللصوص وأمروهما بالخروج فمنعهم صاحب السفينة وقال: أرى وجوه الأنبياء. وقيل: عرفوا الخضر فحملوهم بلا أجرة، فلما حصلوا في اللجة أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء. وقيل: خرق جدار السفينة ليعيبها ولا يتسارع الغرق إلى أهلها فجعل موسى يسد الخرق بثيابه ويقول: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أتيت شيئا عظيما. يقال: أمر الأمر إذا عظم. ويقال في الشيء العجيب الذي يعرف له شبيه إنه أمر أمر. احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بأن موسى عليه السلام اعترض على الخضر بعد توكيد العهود والمواثيق وذلك ذنب. وأجيب بأنه لم يقل ذلك اعتراضا وتوبيخا ولكنه أحب أن يقف على حكمة ذلك الأمر الخارج عن العبادة، أو أنه خالف الشرط بناء على النسيان ولهذا قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ ولا مؤاخذة على الناسي. و «ما» موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي بالذي نسيت وبشيء نسيته وبنسياني. وجوز في الكشاف أن لا يكون ناسيا في الحقيقة ولكنه أو هم بقوله: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ أنه قد نسي لبسط عذره في الاعتراض على المعلم وهو من معاريض الكلام التي يتقي بها الكذب مع التوصل إلى الغرض. وجوز أيضا أن يكون النسيان بمعنى الترك أي بما تركت من وصيتك أول مرة وَلا تُرْهِقْنِي ولا تغشني مِنْ أَمْرِي عُسْراً وأراد بأمره أمر المتابعة أي يسر عليّ متابعتك بالإغضاء وترك المناقشة. وإنما قال في هذه القصة خَرَقَها بغير «فاء» لأنه جعله جزاء للشرط، وفي قصة الغلام جعل فَقَتَلَهُ من جملة الشرط معطوفا عليه بفاء التعقيب، لأن القتل يعقب لقاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 الغلام ولفظ الغلام يتناول الشاب البالغ كما يتناول الصغير ومنه قولهم «رأي الشيخ خير من مشهد الغلام» وأصله من الاغتلام وهو شدة الشبق. وليس في القرآن أنهما كيف لقياه، وهل كان يلعب مع جمع من الغلمان، أو كان منفردا، وهل كان مسلما أو كان كافرا، وهل كان بالغا أو كان صغيرا واسم الغلام بالصغير أليق، إلا أن بِغَيْرِ نَفْسٍ بالبالغ لأن الصبي لا يقتل قصاصا. وعن ابن عباس أن نجدة الحروري الخارجي كتب إليه كيف جاز قتله وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل. قال الكسائي: الزاكية والزكية لغتان ومعناهما الطاهرة. وقال أبو عمرو: الزاكية التي لم تذنب، والزكية التي أذنبت ثم تابت. ويجوز أن يكون وصفها بالزكاء لأنه لم يرها أذنبت فهي طاهرة عنده. قيل: النكر أقل من الأمر لأن قتل نفس واحدة أهو من إغراق أهل السفينة. وقيل: النكر أشد لأن ذلك كان خرقا تداركه بالسد وهذا لا سبيل إلى تداركه. وأيضا الأمر العجيب والعجب يستعمل في الخير والشر. والنكر ما تنكره العقول فهو شر، وظاهر الآية يدل على أن موسى استبعد أن تقتل النفس إلا بالنفس وليس كذلك لأنه قد يحل القتل بسائر الأسباب، ولعله اعتبر السبب الأغلب والأقوى واختلفوا في كيفية قتله فقيل: فتل عنقه. وقيل: ضرب برأسه الحائط. وعن سعيد بن جبير: أضجعه ثم ذبحه بالسكين. ثم إنه سبحانه حكى عن الخضر أنه ما زاد على أن أذكره ما عاهد عليه فقال: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ وإنما زاد هاهنا لك لأن الإنكار أكثر وموجب العتاب أقوى. وقيل: أكد التقرير الثاني بقوله لَكَ كما تقول لمن توبخه لك أقول وإياك أعني. وقيل: بين في الثاني المقول له لما لم يبين في الأول فعند هذا قالَ موسى إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها بعد هذه الكرة أو المسألة فَلا تُصاحِبْنِي نهاه عن المصاحبة حينئذ مع حرصه على التعلم لظهور عذره كما قال: قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً وهذا كلام نادم شديد الندامة جره المقال، واضطره الحال إلى الاعتراف وسلوك سبيل الإنصاف. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي كموسى استحيا فقال ذلك» فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ هي أنطاكية. وقيل: الأيلة وهي أبعد أرض الله من السماء. اسْتَطْعَما أَهْلَها وكان حق الإيجاز أن يقال: «استطعماهم» فوضع الظاهر موضع المضمر للتأكيد كقوله: ليت الغراب غداة ينعب بيننا ... كان الغراب مقطع الأوداج وأيضا لعله كره اجتماع الضميرين المتصلين في مثل هذا اللفظ لما فيه من الكلفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 والبشاعة والاستطالة فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما يقال: أضافه وضيفه إذا أنزله وجعله ضيفه، والتركيب يدور على الميل من ضاف السهم عن الغرض والضيف يميل إلى المضيف. عن النبي صلى الله عليه وسلم: كانوا أهل قرية لئاما. قيل: الاستطعام ليس من عادة الكرام فكيف أقدما عليه. وأيضا الضيافة من المندوبات وترك المندوب غير منكر، فكيف جاز لموسى أن يغضب عليهم حتى ترك عهد صاحبه. وقال: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وأجيب بأن الرجل إذا جاع بحيث ضعف عن الطاعة أو أشرف على الهلاك لزمه الاستطعام ووجبت إجابته. ولقائل أن يقول: لو كان قد بلغ الجوع إلى حدّ الهلاك لم يقو على إصلاح الجدار. ولمجيب أن يقول: إنه أقام الجدار معجزة فقد يروى أنه مسحه بيده فقام واستوى. وقيل: أقامه بعمود عمده به. وقيل: نقضه وبناه. وروي أنه كان ارتفاع الجدار مائة ذراع. قال أهل الاعتبار: شر القرى التي لا يضاف الضيف فيها ولا يعرف لابن السبيل حق. ويحكى أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل الذهب فقالوا: يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء تاء أي «فأتوا أن يضيفوهما» فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قوله: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ معناه يسرع سقوطه من انقض الطائر إذا هوى في طيرانه. يقال: قضضته فانقض، ويحتمل أن يكون «افعل» من النقض كاحمرّ من الحمرة، فالنون تكون أصلية وإحدى الضادين مكررة زائدة عكس الأول. واستعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة تشبيها للجماد بالأحياء نظيره وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ [الأعراف: 154] قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] . ولما أقام الخضر الجدار ورأى موسى من الحرمان ومسيس الحاجة قالَ لصاحبه لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً لطلبت على عملك جعلا حتى نستدفع به الضرورة. واتخذ افتعل من تخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ على الأصح قالَ الخضر مشيرا إلى الفراق المتصور في قوله: فَلا تُصاحِبْنِي أو مشيرا إلى السؤال والاعتراض هذا فِراقُ بَيْنِي الإضافة بمعنى في أي فراق أو سبب فراق في بيني وَبَيْنِكَ وحكى القفال أن البين هاهنا بمعنى الوصل. ثم شرع في تقرير الحكم التي تضمنتها أفعاله وتلك الحكم تشترك في أصل واحد هو أنه أذا تعارض الضرر إن وجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى فقال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ قيل: كانت لعشرة إخوة خمسة منهم زمنى وخمسة يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ وقد تقدم استدلال الشافعي بهذه الآية على أن الفقير أسوأ حالا من المسكين وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ وهو مسمى بجلندي والوراء هاهنا بمعنى الأمام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 وقد مر في قوله: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 17] وقيل: أراد خلفهم وكان طريقهم في الرجوع وما كان عندهم خبرة يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ أي غير معيبة غَصْباً ولا يخفى أن الضرر الحاصل من التخريق أهون من فوات السفينة بالكلية والتخريق، وإن كان تصرفا في ملك الغير إلا أنه إذا تضمن نفعا زائدا لم يكن به بأس. ولعل مثل هذا التصرف كان جائزا في تلك الشريعة. أو لعله كان من مخصوصات النبي صلى الله عليه وسلم. قال جار الله: قوله: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها مسبب عن خوف الغصب عليها وكان حقه أن يتأخر عن السبب ولكنه قدم للعناية أي تتعجب من هذا وهو مرادي وأنا مأمور به. وأيضا خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كون السفينة للمساكين فتوسط إرادة العيب بين المسكنة والغصب كتوسط الظن بين المبتدأ والخبر في قولك «زيد ظني مقيم» في أنه يتعلق بالطرفين وَأَمَّا الْغُلامُ فقد قيل: إنه كان بالغا قاطع الطريق يقدم على الأفعال المنكرة وكان أبواه مضطرين إلى التعصب له والذب عنه فكانا يقعان في الفسق لذلك واحتمل أن يؤدي ذلك إلى الكفر والارتداد كما قال: فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً. يقال: رهقة أي غشيه وأرهقه إياه. وقيل: إنه كان صبيا إلا أنه تعالى علم من حاله أنه لو صار بالغا صدرت عنه هذه المفاسد، فأعلم الخضر بحاله وأمره بقتله لئلا يرتد الأبوان بسببه ومثل هذا لا يجوز إلا إذا تأكد الظن بالوحي. وقيل: أراد فخفنا أن يغشى الوالدين طغيانا عليهما وكفرا بنعمتهما بعقوقه، أو خفنا أن يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر. وجوزوا أن يكون قوله: فَخَشِينا من كلام الله تعالى أي كرهنا كراهة من خاف سوء عاقبة أمر فغيره. والزكاة الطهارة والنقاء من الذنوب وكأنه بإزاء قول موسى نفسا زاكية. والرحم الرحمة والعطف بمعنى الإشفاق على الأبوين. يروى أنهما ولدت لهما جارية فتزوجها نبي فولدت نبيا هدى الله على يديه أمة من الأمم. ويروى أنها ولدت سبعين نبيا. وقيل: أبدلهما أبدلهما أبنا مؤمنا. وقيل: اسم الغلام المقتول الحيسون وفي نسخة الحسين. وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ. قيل: اسمهما أصرم وصريم. وقوله: فِي الْمَدِينَةِ بعد قوله: أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ فيه دلالة على أن القرية لا تنافي المدينة ومعنى الاجتماع والإقامة مراعى فيهما. أما الكنز فقيل: هو المال لقوله: وَيَسْتَخْرِجا ولأن المفهوم منه عند إطلاقه هو المال. وقيل: صحف فيها علم لقوله: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً ودفن المال لا يليق بأهل الصلاح. وعورض بقول قتادة: أحل الكنز لمن قبلنا وحرم علينا. وحرمت الغنيمة عليهم وأحلت لنا. وجمع بعضهم بين الأمرين فقال: كان لوحا من ذهب مكتوبا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 فيه: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله. وفي قوله: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً دلالة على أن صلاح الآباء يفيد العناية بأحوال الأبناء. عن جعفر بن محمد رضي الله عنه: كان بين الغلامين وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء، وذكر من صلاح أبيهما أن الناس كانوا يضعون الودائع عنده فيردها إليهم سالمة. قالت العلماء: الأشبه أن اليتيمين كانا جاهلين بحال الكنز ووصيهما كان عالما به إلا أنه غائب وقد أشرف الجدار على السقوط ورَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مصدر منصوب بأراد لأنه في معنى رحمهما أو مفعول له وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي اجتهادي ورأيي وإنما فعلته بأمر الله. سؤال: لم قال في الأول: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وفي الثاني: فَأَرَدْنا وفي الثالث فَأَرادَ رَبُّكَ؟ الجواب: لأن الأول إفساد في الظاهر فأسنده إلى نفسه، وفي الثالث إنعام محض فأسنده إلى الله سبحانه، وفي الثاني إفساد من حيث القتل وإنعام من حيث التبديل فجمع بين الأمرين. ويمكن أن يقال: إن القتل كان منه ولكن إزهاق الروح كان من الله، ويحتمل أن يقال: الوحدة في الأول على الأصل، والجمع في الثاني تنبيه على أنه من العلماء المؤيدين بالعلوم الدينية، والإسناد إلى الله بالآخرة إشارة إلى أنه لا إرادة إلا إرادة الله وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ذلِكَ الذي ذكر من أسرار تلك الوقائع تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي يرجع المقصود من تلك الأفاعيل إلى ما قررنا، وأصل تسطع تستطيع كما في قوله: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ إلا أن التاء حذفت لأجل التخفيف. وهذا شاذ من جهة القياس ولكنه ليس بشاذ في الاستعمال. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب» «1» . التأويل: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ فيه أن المسافر لا بد له في الطريق من الرفيق، وفيه أن من شرطهما أن يكون أحدهما أميرا والآخر مأمورا، وأن يعلم الرفيق عزيمته ومقصده حتى يكون على بصيرة من صحبته، وأن لا يسأم من متاعب السفر حتى يظفر بمقصوده، وأن تكون نيته طلب شيخ يقتدي به فإن طلب الشيخ في الحقيقة هو طلب الحق. ومجمع البحرين هو مجمع ولاية الشيخ وولاية المريد وعنده عين الحياة الحقيقية، فإذا وقعت قطرة منها على حوت قلب المريد حيي واتخذ سبيله في بحر الولاية سربا.   (1) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة 18 باب: 1. البخاري في كتاب الأنبياء باب: 27، 28. أحمد في مسنده (1/ 411، 436) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 فَلَمَّا جاوَزا فيه إشارة إلى أن المريد في أثناء السلوك لو تطرقت إليه الملالة أصاب قلبه الكلالة وسولت له نفسه التجاوز عن صحبة الشيخ ظانا أن مقصوده يحصل من غير وساطة الشيخ. هيهات فإنه ظن فاسد ومتاع كاسد إلا إن أدركته العناية الأزلية ورد إليه صدق الإرادة فيقول: الرفيق التوفيق. آتِنا غَداءَنا وهو همة الشيخ وبركة صحبته لقد لقينا في سفرنا هذا الذي جاوزنا صحبة الشيخ نَصَباً فقال رفيقه أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ صخرة النفس وتسويلها فَإِنِّي نَسِيتُ حوت القلب قال ذلك ما كنا نبغي من حوت القلب الميت المملح بملح حب الدنيا وزينتها أن يتخذ سبيله في بحر ولاية شيخ كامل فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا حرا من رق غيرنا. وفي قوله: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً إشارة إلى أنه تعالى أطلعه على بواطن الأشياء وحقائقها، وهذا النوع من العلم لا يمكن تعلمه وإنما يحصل بتصفية النفس وتجريد القلب عن العلائق الجسمانية. وقد ذهب موسى إلى تعلم العلم فكان من الواجب على الخضر أن يظهر له علما يمكن تعلمه، فبين علم الخضر وبين مقصد موسى تباين وتناف فلهذا قال الخضر: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وفي إظهار المسائل الثلاث إشارة إلى ما قلنا من أن العلم الظاهر يباين العلم اللدني وليس من التعليم والتعلم في شيء، وإذا تأمل العاقل السالك في قول موسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ إلخ في قول الخضر. فإن اتبعتني فلا تسألني إلخ. وجد أصول الشرائط التي شرطها الصوفية للمريد وللشيخ مودعة فيها، وفي تفصيلها طول وقد أشرنا في التفسير إلى طرف منها، ومن أراد الكل فعليه بمطالعة كتاب «آداب المريدين» للشيخ المحقق أبي النجيب السهروردي تغمده الله بغفرانه حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ هي سفينة الشريعة خَرَقَها بهدم الناموس في الظاهر مع صلاح الحال في الباطن وفيما بينه وبين علام الغيوب، ومثل هذا قد يفعله كثير من المحققين طردا للعوام وحذرا من التباهي والعجب أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها في أودية الضلال إذا اقتدوا بك حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً هو النفس الأمارة فَقَتَلَهُ بسكين الرياضة وسيف المجاهدة حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ هي الجسد وهم القوى الإنسانية من الحواس وغيرها اسْتَطْعَما أَهْلَها بطلب أفاعيلها التي تختص بها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما بإعطاء خواصها كما ينبغي لكلالها وضعفها فَوَجَدا فِيها جِداراً هو التعلق الحائل بين النفس الناطقة وبين عالم المجردات يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ بقطع العلاقة فَأَقامَهُ بتقوية البدن والرفق بالقوى والحواس كما قيل: نفسك مطيتك فارفق بها. لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ثوابا جزيلا أي لو شئت لصبرت على شدة الرياضة إلى إفاضة الأنوار ونيل الكشوف. أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ هم العوام الذين يَعْمَلُونَ فِي بحر الدنيا وليس لهم في بر عالم الربوبية سير وسلوك حتى يصلوا إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 ملوك تحت أطمار فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها في الظاهر لتسلطهم بالإخلاص في البواطن وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ هو الشيطان يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ عبادة غَصْباً لأن كل عبادة تخلو عن الانكسار والذل والخشوع فإنها للشيطان لا للرحمن وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ وهما القلب والروح مُؤْمِنَيْنِ ... فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً هو النفس المطمئنة وَأَقْرَبَ رُحْماً أي نسبة إلى الأبوين. وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ هما النفس المطمئنة والملهمة وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما هو حصول الكمالات النظرية والعملية وَكانَ أَبُوهُما وهو العقل المفارق صالِحاً كاملا بالفعل فلهذا ادخر لأجلهما ما ادخر فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما بتربية الشيخ وإرشاده على سبيل الرفق والمداراة وَيَسْتَخْرِجا ما كان كامنا فيهما. [سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 110] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 القراآت: فَأَتْبَعَ ثُمَّ أَتْبَعَ مقطوعة: ابن عامر وعاصم وحمزة وعلي وخلف الباقون بالتشديد موصولة. حامية الألف من غيرهم: ابن عامر ويزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. الباقون حَمِئَةٍ بالهمزة من غير ألف جَزاءً الْحُسْنى بالنصب منونا. يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون جزاء الحسنى بالرفع والإضافة. السَّدَّيْنِ بفتح السين: ابن كثير أبو عمرو وحفص وأبو زيد عن المفضل. الآخرون بضمها. يفقهون بضم الياء وكسر القاف: حمزة وعلي وخلف. الباقون بفتحهما يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ حيث كان مهموزا: عاصم غير الشموني فَهَلْ نَجْعَلُ وبابه بإدغام اللام في النون: علي وهشام خراجا بالألف: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد الباقون خَرْجاً بسكون الراء. سَدًّا بفتح السين: ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وعاصم. والباقون بضمها مكننى: ابن كثير. الباقون بإدغام النون في النون ردما ائتوني يحيى وحماد والابتداء بكسر الألف لصدفين بضم الصاد والدال: ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وسهل ويعقوب المفضل مخير، أبو بكر وحماد بضم الصاد وإسكان الدال. الآخرون بفتح الصاد والدال. قالَ ائْتُونِي والابتداء بكسر الألف: يحيى وحماد وحمزة فَمَا اسْطاعُوا بالإدغام: حمزة غير حماد وخلاد، وقرأ أبو نشيط والشموني فما اصطاعوا بالصاد وهو الصحيح من نقل ابن مهران. دَكَّاءَ بالمد: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل والخزاز عن هبيرة أَفَحَسِبَ الَّذِينَ بسكون السين ورفع الباء: يزيد ويعقوب والأعشى في اختياره دُونِي أَوْلِياءَ بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو أن ينفد بياء الغيبة: حمزة وعلي وخلف وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الوقوف: الْقَرْنَيْنِ ط ذِكْراً هـ ط سَبَباً لا سَبَباً هـ قَوْماً هـ ط حُسْناً هـ نُكْراً هـ الْحُسْنى ج لاختلاف الجملتين يُسْراً هـ ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار سَبَباً هـ سِتْراً هـ كَذلِكَ ط أي كذلك القبيل الذين كانوا عند مغرب الشمس. وقيل: يبتدأ بكذلك أي ذلك كذلك أو الأمر كذلك. وقيل: أي أحطنا بما لديه من العدد والعدد كذلك أي كعلمنا بقوم سبق ذكرهم خُبْراً هـ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً هـ قَوْماً لا قَوْلًا هـ سَدًّا هـ رَدْماً هـ الْحَدِيدِ ط انْفُخُوا ط ناراً لا لأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 «قال» جواب «إذا» قِطْراً هـ ط لأن ما بعده ابتداء إخبار نَقْباً هـ مِنْ رَبِّي ج لعطف الجملتين المختلفتين دَكَّاءَ ج لذلك حَقًّا هـ ط لانقطاع القصة جَمْعاً هـ لا للعطف عَرْضاً هـ لا سَمْعاً هـ أَوْلِياءَ ط نُزُلًا هـ أَعْمالًا هـ ط للفصل بين الاستخبار والإخبار لأن التقدير هم الذين، ويجوز أن يكون نصبا على الذم أو جرا على البدل صُنْعاً هـ وَزْناً هـ هُزُواً هـ نُزُلًا هـ حِوَلًا هـ مَدَداً هـ واحِدٌ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب أَحَداً هـ. التفسير: ولما أجاب عن سؤالين من أسئلة اليهود وانتهى الكلام إلى حيث انتهى، شرع في السؤال الثالث والجواب عنه. وأصح الأقوال أن ذا القرنين هو الإسكندر بن فيلقوس الرومي الذي ملك الدنيا بأسرها، إذ لو كان غيره لانتشر خبره ولم يخف مكانه عادة. يحكى أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان طوائف، ثم قصد ملوك المغرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر فبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم عطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العبرانيون والقبط والبربر، ثم توجه نحو دارا ابن دارا وهزمه إلى أن قتله فاستولى على ممالك الفرس، ثم قصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة، ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها. قال الإمام فخر الدين الرازي: لما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلا ملك الأرض بالكلية أو ما يقرب منها، وثبت من علم التاريخ أن من هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر وجب القطع بأن ذا القرنين هو الإسكندر. قال: وفيه إشكال لأنه كان تلميذا لأرسطا طاليس وكان على مذهبه. فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطو حق وصدق ذلك وذلك مما لا سبيل إليه. قلت: ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلا فلعله أخذ منهم ما صفا وترك ما كدر. والسبب في تسميته بذي القرنين أنه بلغ قرني الشمس أي مطلعها ومغربها. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقها وغربها. وقيل: كان له قرنان ضفيرتان. وقيل: انقرض في وقته قرنان من الناس. وقيل: كان لتاجه قرنان. وعن وهب أنه سمي بذلك لأنه ملك الروم وفارس. ويروى الروم والترك. وعنه كانت صفحتا رأسه من نحاس. وقيل: كان على رأسه ما يشبه القرنين. وقيل: لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشا كأنه ينطح أقرانه. وقيل: رأى في المنام كأنه صعد الفلك وتعلق بطرفي الشمس أي بقرنيها. وزعم الفرس أن دارا الأكبر تزوّج بابنة فيلقوس، فلما قرب منها وجد رائحة منكرة فردها إلى أبيها وكانت قد حملت بالإسكندر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 فولدت الإسكندر وبقي عند فيلقوس وأظهر أنه ابنه وهو في الحقيقة دارا الأكبر. وقال أبو الريحان: إنه من ملوك حمير والدليل عليه أن الأذواء كانوا من اليمن كذي يزن وغيره. ويروى أنه ملك الدنيا بأسرها أربعة: ذو القرنين وسليمان- وهما مؤمنان- ونمرود وبختنصر- وهما كافران- واختلفوا فيه فقيل: كان عبدا صالحا ملكه الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة وسخر له النور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه. وعن علي رضي الله عنه: سخر له السحاب ومدت له الأسباب وبسط له النور وأحب الله وأحبه. وسأله ابن الكواء وكان من أصحابه ما ذو القرنين أملك أم نبي؟ فقال: ليس بملك ولا نبي ولكن كان عبدا صالحا ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله أي في جهاده فمات، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمي ذا القرنين وفيكم مثله يعني نفسه. قالوا: وكان ذو القرنين يدعو الناس إلى التوحيد فيقتلونه فيحييه الله. وقيل: كان نبيا لقوله تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ. والتمكين المعتد به هو النبوة، ولقوله وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً وظاهره العموم فيكون قد نال أسباب النبوّة، ولقوله: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وتكليم الله بلا واسطة لا يصلح إلا للنبي. وقيل: كان ملكا من الملائكة. عن عمر أنه سمع رجلا يقول: يا ذا القرنين. فقال: اللهم غفرا أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة. قوله: سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ أي سأفعل هذا إن وفقني الله تعالى وأنزل فيه وحيا. والخطاب في عَلَيْكُمْ للسائلين وهم اليهود أو قريش كأبي جهل وأضرابه وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً طريقا موصلا إليه. والسبب في اللغة هو الحبل والمراد هاهنا كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة، وذلك أنه أراد بلوغ السدين فأتبع سببا أدى إليه. ثم إنه سبحانه شرع في نعت مسيره إلى المغرب قائلا فَأَتْبَعَ سَبَباً أي سلك طريقا أفضى به إلى سفر المغرب، ومن قرأ بقطع الهمزة فمعناه اتبع نفسه سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حامية أي حارة، ومن قرأ بحذف الألف مهموزا فمعناه ذات حمأة أي طين أسود، ولا تنافي بين القراءتين. فمن الجائز أن تكون العين جامعة للوصفين. عن أبي ذر قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال: أتدري يا أبا ذر من أين تغرب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها تغرب في عين حامية. فقال حكماء الإسلام: قد ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كروية في وسط العالم، وأن السماء محيطة بها من جميع الجوانب، وأن الشمس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 في فلكها تدور بدوران الفلك. وأيضا قد وضح أن جرم الشمس أكبر من جرم الأرض بمائة وست وستين مرة تقريبا، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ فتأويل الآية أن الشمس تشاهد هناك أعني في طرف العمارة كأنها تغيب وراء البحر الغربي في الماء كما أن راكب البحر يرى الشمس تغيب في الماء لأنه لا يرى الساحل ولهذا قال: وَجَدَها تَغْرُبُ ولم يخبر أنها تغرب في عين، ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية، وأيضا حمئة لكثرة ما في البحار من الطين الأسود. أما قوله: وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً فالضمير إما للشمس وإما للعين، وذلك أن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان ذلك الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس. قال ابن جريج: هناك مدينة لها اثنا عشر ألف باب لولا أصوات أهلها سمع الناس وجوب الشمس حين تجب، كانوا كفرة بالله فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل وأن يتخذ فيهم حسنا وهو تركهم أحياء فاختار الدعوة والاجتهاد فقال أَمَّا مَنْ ظَلَمَ بالإصرار على الشرك فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بالقتل في الدنيا ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ في الآخرة فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً منكرا فظيعا. روى صاحب الكشاف عن قتادة أنه كان يطبخ من كفر في القدور وهو العذاب النكر، ومن آمن أعطاه وكساه وفيه نظر، لأن العذاب النكر بعد أن يرد إلى ربه لا يمكن أن يكون من فعل ذي القرنين. ومن قرأ جَزاءً بالنصب أراد فله الفعلة الْحُسْنى جزاء، ومن قرأ بالرفع أراد فله جزاء الفعلة الحسنى التي هي كل الشهادة، أو فله أن يجازى المثوبة الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا أي مما نأمر به الناس من الزكاة والخراج وغير ذلك يُسْراً أي قولا ذا يسر ليس بالصعب الشاق. ثم حكى سفره إلى أقصى الشرق قائلا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أي هيأ أسبابا بسفر المشرق حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ أي مكان طلوعها وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً عن كعب أن الستر هو الأبنية وذلك أن أرضهم لا تمسكها فليس هناك شجر ولا جبل ولا أبنية تمنع شعاع الشمس وتدفع حره عنهم، فإذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب لهم، وإذا غربت اشتغلوا بتحصيل المعاش، فحالهم بالضد من أحوال سائر الخلق. وعن مجاهد أن الستر الثياب وأنهم عراة كالزنج، وحال كل من سكن في البلاد القريبة من خط الاستواء كذلك. حكى صاحب الكشاف عن بعضهم أنه قال: خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء فقيل: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة. فبلغتهم فإذا أجدهم يفرش أذنه ويلبس الأخرى. وحين قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصلة فغشى عليّ ثم أفقت، فلما طلعت الشمس إذ هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سربا لهم، فلما أرتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم. وللمفسرين في متعلق قوله: كَذلِكَ وجوه أحدها: كذلك أمر ذي القرنين اتبع هذه الأسباب حتى بلغ ما بلغ، وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به. الثاني: لم نجعل لهم سترا مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الأبنية أو الثياب. الثالث: بلغ مطلع الشمس مثل الذي بلغ من مغربها. الرابع: تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم فقضى في هؤلاء كما قضى في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين، وقد سبق بعض هذه الوجوه في الوقوف. ثم حكى سفره إلى ناحية القطب الشمالي بعد تهيئة أسبابه قائلا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ قيل: السد إذا كان بخلق الله فهو بضم السين حتى يكون بمعنى «مفعول» أي هو مما فعله الله وخلقه، وإذا كان ممن عمل العباد فهو بالفتح حتى يكون حدثا قاله أبو عبيدة وابن الأنباري. وانتصب بَيْنَ على أنه مفعول به كما ارتفع بالفاعلية في قوله: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: 94] قال الإمام فخر الدين الرازي: الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال. فقيل جبلان بين أرمينية وأذربيجان، وقيل في منقطع أرض الترك. وحكى محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنسانا من ناحية الخزر، فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق وثيق منيع. وقيل: إن الواثق رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه ووصفوا أنه بناء من لبن من حديد مشددة بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل، ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع أخرجهم الدليل إلى البقاع المحاذية لسمرقند. قال أبو الريحان البيرني: ومقتضى هذا الخبر أن هذا الموضع في الربع الغربي الشمالي من المعمورة والله أعلم بحقيقة الحال، ولما بلغ الإسكندر ما بين الجبلين اللذين سد ما بينهما وَجَدَ مِنْ دُونِهِما أي من ورائهما متجاوزا عنهما قريبا قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ بأنفسهم أو يفقهون غيرهم قولهم لأنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم. سؤال: كيف فهم منهم ذو القرنين أن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض إلخ؟ وأجيب بأن «كاد» إثبات أو لعله فهم ما في ضمير هم بالقرائن والإشارات، أو بوحي وإلهام. وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف. وقيل: مشتقان من أج الظليم في مشيه إذا هرول، وتأجج النار إذا تلهبت ومن أجج الريق أو موج البحر، سموا بذلك لشدتهم وسرعة حركتهم، وهما من ولد يافث. وقيل: يأجوج من الترك، ومأجوج من الجيل والديلم. ومن الناس من وصفهم بصغر الجثة وقصر القامة حتى الشبر، ومنهم من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 وصفهم بطول القامة وكبر الجثة وأثبت لهم مخالب وأضراسا كأضراس السباع. أما إفسادهم في الأرض فقيل: كانوا يقتلون الناس. وقيل: يأكلون لحومهم. وقيل: يخرجون أيام الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا احتملوه فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً وخراجا أي جعلا نخرجه من أموالنا ونظير هما النول والنوال. وقيل: الخرج ما يخرجه كل أحد من ماله، والخراج ما يجبيه السلطان من البلد كل سنة. وقال قطرب: الخرج الجزية والخراج في الأرض قالَ ذو القرنين ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي أي جعلني فيه مكينا ذا مكانة من المال واليسار خَيْرٌ مما تبذلون لي من الخراج نظيره قول سليمان فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ [النمل: 36] فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ بآلات ورجال وصناع. وقيل: بمال أصرفه في هذا المهم ولا آخذه لنفسي والردم أكبر من السد من قولهم «ثوب مردم رقاع فوق رقاع» وزبر الحديد قطعه. قال الخليل: الزبرة من الحديد القطعة الضخمة. من قرأ آتُونِي بالمد فظاهر، ومن قرأ ائتوني من الإتيان فعلى حذف باء التعدية والنصب بنزع الخافض. ثم هاهنا إضمار أي فأتوه بها فوضع بعضها فوق بعض. حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ وهما على القراآت جانبا الجبلين لأنهما يتصادفان أي يتقابلان أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أصب عليه النحاس المذاب وقِطْراً منصوب بأفرغ والتقدير: آتوني قطرا أفرغ عليه قطرا فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه. وهذا محمل ما يستدل به البصريون في أن المختار عند تنازع الفعلين هو إعمال الثاني إذ لو عمل الأول لقال أفرغه عليه. يحكى أنه حفر الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافيخ حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا. وقيل: بعد ما بين السدين مائة فرسخ. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا أخبره به فقال: كيف رأيته؟ قال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء. قال: قد والله رأيته. قال العلماء: هذا معجز من ذي القرنين لأن تلك الزبر الكثيرة إذا صارت كالنار لم يقدر الآدمي على القرب منه، وكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين. فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ أي يعلوه لارتفاعه وملاسته وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً لصلابته وثخانته لما تكرر لفظ الاستطاعة مرارا، حذف منها التاء تخفيفا في الموضعين وأعاد ذكرها بالآخرة تنبيها على الأصل ورجوعا إلى البداية. ثم قالَ ذو القرنين هذا السد أو هذا الإقرار والتمكين نعمة من الله عز وجل ورحمة على عباده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 فَإِذا جاءَ أي دنا مجيء القيامة جَعَلَهُ دَكًّا مدكوكا مبسوطا مستوي بالأرض وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك. ومن قرأ دَكَّاءَ بالمد فعلى الوصف أي جعله أرضا مستوية وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وهذا آخر حكاية ذي القرنين. ثم شرع سبحانه في بقية أخبارهم فقال وتركنا بعضهم يومئذ يموجون أي حين يخرجون مما وراء السد مزدحمين في البلاد. ويروى أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به ممن لم يتحصن منهم من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة ولا المدينة وبيت المقدس. ثم يبعث الله نغفا وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم فيدخل آذانهم فيموتون. وقيل: أراد أن قوم السد لما منعوا من الخروج ماج بعضهم في بعض خلفه. وقيل: الضمير للخلق واليوم يوم القيامة أي وجعلنا الخلق يضطربون ويختلط إنسهم وجنهم حيارى. ونفخ الصور من آيات القيامة وسيجيء وصفه. ومعنى عرض جهنم إبرازها وكشفها للذين عموا عنها في الدنيا، وفي ذلك نوع من العقاب للكفار لما يتداخلهم من الغم والفزع عَنْ ذِكْرِي أي عن آياتي التي ينظر إليها فأذكر بالتعظيم فأطلق المسبب على السبب أو عن القرآن وتأمل معانيه. وصفهم بالعمى عن الدلائل والآثار فأراد أن يصفهم بالصمم عن استماع الحق فقال وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً وهو أبلغ من أن لو قال «وكانوا صما» لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به، وهؤلاء زالت عنهم الاستطاعة بالكلية. احتجت الأشاعرة بالآية على أن الاستطاعة مع الفعل لأنهم لما لم يسمعوا لم يستطيعوا. وأجيب بأن المراد من نفي الاستطاعة النفرة والاستثقال. ثم أنفذ في التوبيخ والوعيد قائلا أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا والمراد أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر آيات الله وتمردهم عن قبول أمره وأمر رسوله؟ وفيه إضمار تقديره أفحسبوا اتخاذ عبادي أولياء نافعا. والعباد إما عيسى والملائكة، وإما الشياطين الذين يطيعونهم، وإما الأصنام أقوال. ومن قرأ بسكون السين فمعناه أفكافيهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء على الابتداء والخبر، أو على أنه مثل «أقائم الزيدان» يريد أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا. قال الزجاج: النزل المأوى والمنزل. وقيل: إنه الذي يعدّ للضيف فيكون تهكما به نحو فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ [آل عمران: 21] أما الذين ضل سعيهم أي ضاع وبطل فعن علي رضي الله عنه أنهم الرهبان كقوله: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ [الغاشية: 3] وروي عنه صلى الله عليه وسلم أن منهم أهل حروراء. وعن مجاهد: أهل الكتاب. والتحقيق أنه يندرج فيه كل ما يأتي بعمل خير لا يبتني على إيمان وإخلاص. وعن أبي سعيد الخدري: يأتي الناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا وذلك قوله: فلا تقيم لهم يوم القيامة وزنا قال القاضي: إن من غلبت معاصية طاعاته صار ما فعله من الطاعة كأن لم يكن فلا يدخل في الوزن شيء من طاعاته، وهذا مبني على الإحباط والتكفير. وفي قوله: فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ إشارة إلى ذلك، أو المراد فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ومقدار. وقيل: لا يقام لهم ميزان لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ذلِكَ الذي ذكرناه من أنواع الوعيد جَزاؤُهُمْ وقوله جَهَنَّمُ عطف للجزاء. والسبب فيه أنهم ضموا إلى الكفر بالله اتخاذ آيات الله واتخاذ كل رسله هزؤا وتكذيبا، ويجوز أن يكون كل من الأمرين سببا مستقلا للتعذيب، ثم أردف الوعيد بالوعد على عادته. عن قتادة: الفردوس أوسط الجنة وأفضلها. وعن كعب: ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وعن مجاهد: الفردوس هو البستان بالرومية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها درجة، وفيها الأنهار الأربعة فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإن فوقها عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» «1» . قال أهل السنة: جعل جنات الفردوس نزلا فالإكرام التام يكون وراء ذلك وليس إلا الرؤية ونظيره أنه جعل جهنم بأسرها نزلا فما وراءها هو العذاب الحقيقي وهو عذاب الحجاب كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] والحول التحول وفيه أنه لا مزيد على نعيم الفردوس حتى تنازعهم أنفسهم إلى تلك الزيادة، ويجوز أن يراد به تأكيد الخلود أي لا تحوّل فيطلب كقوله: ولا ترى الضب بها ينجحر ولما ذكر أنواع الدلائل والبينات وشرح أقاصيص سئل عنها. نبه على كمال حال القرآن. والمداد اسم لما يمد به الشيء كالحبر والزيت للدواة والسراج، والمعنى لو كتبت كلمات علم الله وحكمه وفرض أن جنس البحر مداد لهما لنفد البحر قبل نفاد الكلمات ولو جئنا بمثل البحر مددا لنفد أيضا وهو تمييز من مثله كقولك «على التمرة مثلها زبدا» والمدد والمداد واحد. يروى أن حيي بن أخطب قال: في كتابكم وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269] ثم تقرءون وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 335) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 85] فنزلت هذه الآية. يعنى أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله. قالت الأشاعرة: إن كلام الله تعالى واحد. واعترض عليهم بهذه الآية فإنها صريحة في إثبات كلمات كثيرة لله تعالى. وأجيب بأن المراد من الكلمات متعلقات علم الله تعالى. وزعم الجبائي أن قوله: قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي يدل على أن كلمات الله قد تنفد بالجملة وما ثبت عدمه امتنع قدمه. وأجيب بأن المراد الألفاظ الدالة على تعلقات تلك الصفة الأزلية. قلت: الإنصاف أن نفاد شيء قبل نفاد شيء آخر لا يدل على نفاد الشيء الآخر ولا على عدم نفاده، فلا يستفاد من الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا يضبطها عقول البشر. أما أنها متناهية أو غير متناهية فلا دليل في الآية على أحد النقيضين، ولكن الحق في نفس الأمر أن كلمات الله لا تتناهى لأنها تابعة لمعلوماته وهي غير متناهية بالبرهان، ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسلك سبيل التواضع وهو أن حاله مقصور على البشرية لا يتخطاها إلى الملكية إلا أنه امتاز بنعت الإيحاء إليه وكفى به بونا ومباينة. ثم بين أن الموحى هو أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. وفي تخصيص هذا الوحي بالذكر فائدة هي أن يستدل به على صدقه، فإن من علامات صدق مدعي النبوة أن يدعو إلى التوحيد، ثم أن يدعو إلى العمل الصالح المقترن بالإخلاص وذلك قوله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا أي يأمل حسن لقائه أو يخاف سوء لقائه. واللقاء بمعنى الرؤية عند الأشاعرة وبمعنى لقاء الثواب أو العقاب عند المعتزلة فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً قال المفسرون: النهي عن الإشراك بالعبادة هو أن لا يرائي بعمله ولا يبغي به إلا وجه ربه. يروى أن جندب بن زهير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أعمل العمل لله فإذا اطلع عليه سرني فقال: إن الله لا يقبل ما شورك فيه. وروي أنه قال: لك أجران أجر السر وأجر العلانية. قال العلماء: الرواية الأولى محمولة على ما إذا قصد بعمله الرياء والسمعة. والرواية الثانية محمولة على ما إذا قصد أن يقتدي به. قال في الكشاف: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه. ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء» . وعنه صلى الله عليه وسلم: من قرأ عند مضجعه قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ كان له من مضجعه نورا يتلألأ إلى مكة، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم وإن كان مضجعه بمكة بمكة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ» . التأويل: لما بين لإنسان كمالا مكنونا وكنزا مدفونا يمكن له تحصيله بالتربية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 والإرشاد، أراد أن يبين أن الإنسان الكامل إنما هو مستحق الخلافة في الأرض وهو ذو القرنين الذي ملك الجانبين أعني جانب عالم الأرواح وجانب عالم الأشباح، لأنه أوتي التمكين في الأرض وأتى أسباب كل شيء في عالم الوسائط والأسباب، فبذلك يصير كاملا في نفسه مكملا لغيره. فَأَتْبَعَ سَبَباً من أسباب الوصول إلى عالم السفلي وهو مغرب شمس الروحي الإنساني وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ هي عالم القوى والطبائع والأجساد وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً هم القوى البدنية والنفوس الأرضية قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ بالقتل بسكين الرياضة وسيف المجاهدة وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً هو الرفق والمداراة قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ بوضع خاصيته واستعمالها في غير موضعها فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بقهره على خلاف ما هو مراده وهواه ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ وهو الشيخ الكامل الذي يربيه فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً هو المنع عن مشتهياته، أو يرد إلى الله تعالى فيعذبه بعذاب البعد والقطيعة. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى هو مقام الوصول والوصال وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً هو التخفيف والاستراحة بعد الفناء والمجاهدة ثُمَّ أَتْبَعَ أسباب الوصول إلى عالم الأرواح وهو مطلع شمس النفس الناطقة الإنسانية وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ مجردين عن العلائق الجسمانية والعوائق الساترة الجسدانية حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وهو عالم التعيش والتمدن والجولان في جو أسباب قوام البدن وقيامه على وجه الجسمانية إلى صلاح المعاد ونظامه وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا وهم العوام الذين قصارى أمرهم الجهل البسيط إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ القوى والطبائع البشرية مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ البشرية باستعمال خواصها في غير ما خلقت هي لأجلها فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً هو ترك الوجود وبذلك الموجود. فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ بهمة صارفة وعزيمة صادقة آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ملكات راسخة وهيئات ثابتة أو قلوبا هن كالحديد في المضاء، وكالجبال الراسيات في البقاء حَتَّى إِذا ساوى عرض ما بين طرفي العمر كما قيل من لمهد إلى اللحد قالَ انْفُخُوا بالمداومة على الأذكار والأوراد حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً بتأثير حرارة الطاعة والذكر في حديد القلب قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً هو جوهر المحبة وكيمياء الإخلاص النافذ في سويدات القلوب بحيث لا ينفذ فيه كيد الشيطان ولا يعلوه ما سوى الرحمن الله حسبي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 (سورة مريم) (مكية حروفها ثلاثة آلاف وثمانمائة وحرفان كلامها تسعمائة واثنان وستون آياتها ثمان وتسعون) [سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) القراآت: كهيعص بإمالة الهاء فقط: أبو عمرو كهيعص بإمالة الياء فقط: حمزة وخلف وقتيبة وابن ذكوان، وقرأ عليّ غير قتيبة ويحيى وحماد بإمالتهما. وقرأ أبو جعفر ونافع والخزاعي عن البزي وابن فليح بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب. الباقون بتفخيمها كهيعص ذِكْرُ مدغما: أبو عمرو وحمزة وخلف وابن عامر وسهل مِنْ وَرائِي بفتح الياء مهموزا: ابن كثير غير زمعة والخزاعي عن البزي وقرأ زمعة عن ابن كثير والخزاعي عن البزي من وراي مثل عَصايَ يرثني ويرث بالجزم فيهما: أبو عمرو وعليّ. الباقون برفعهما يبشرك ثلاثيا وكذلك في آخر السورة: حمزة عِتِيًّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 وجِثِيًّا وصِلِيًّا وبُكِيًّا بكسر الأوائل: حمزة وعلي وأفق حفص إلا في بُكِيًّا الخزاز عن هبيرة عِتِيًّا الأولى بالكسر والثاني بالضم. وقد خلقناك حمزة وعلي. الآخرون خَلَقْتُكَ على التوحيد لِي آيَةً بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن شنبوذ عن أهل مكة. الوقوف: كهيعص هـ كوفي زَكَرِيَّا هـ ح لجواز تعلق «إذ» ب ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ ولاحتمال انتصابه بأذكر محذوفا. خَفِيًّا هـ شَقِيًّا هـ وَلِيًّا لا آلِ يَعْقُوبَ ق والوجه الوصل لعطف الجملتين المتفقتين يَحْيى لا لأن ما بعده صفة غلام والاستئناف ليس بقوي. سَمِيًّا هـ عِتِيًّا هـ كَذلِكَ هـ بناء على أن التقدير الأمر كذلك شَيْئاً هـ آيَةً ط سَوِيًّا هـ وَعَشِيًّا هـ بِقُوَّةٍ ط صَبِيًّا هـ لا للعطف أي آتيناه الحكم وحنانا منا عليه وَزَكاةً ط تَقِيًّا هـ عَصِيًّا هـ حَيًّا هـ. التفسير: حروف المعجم في الوقف ثنائية وثلاثية، وقد جرت عادة العرب بإمالة الثنائيات وبتفخيم الثلاثيات، وفي الزاي اعتيد الأمران لأنه قد يلحق بآخره ياء وقد لا يلحق بآخره ياء وقد لا يلحق فيصير ثنائيا، ولا ريب أن التفخيم أصل والإمالة فرع عليه. فمن قرأ بإمالة الهاء والياء معا فعلى العادة، ومن قرأ بتفخيمهما جميعا فعلى الأصل ومن قرأ بإمالة إحداهما فلرعاية الجانبين. وقد روى صاحب الكشاف عن الحسن أنه قرأ بضمهما فقيل: لأنه تصور أن عين الكلمة فيهما واو فنبه بالضم على أصلها. والبحث عن هذه الفواتح قد سلف في أول البقرة، ومما يختص بهذا الموضع ما روي عن ابن عباس أن قوله كهيعص ثناء من الله تعالى على نفسه، فالكاف كاف لأمور عباده، والهاء هاد والعين عالم أو عزيز، والصاد صادق. وعنه أيضا أنه حمل الكاف على الكريم أو الكبير، والياء على الكريم مرة وعلى الحكيم أخرى. وعن الربيع بن أنس أن الياء من مجير، وهذا التفسير لا يخلو من تحكم إلا أن يسند إلى الوحي أو الإلهام. وارتفع ذِكْرُ رَحْمَتِ على الخبر أي هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة رَبِّكَ وانتصب عَبْدَهُ على أنه مفعول لذكر وزَكَرِيَّا عطف بيان، وقرىء برفعهما على إضافة المصدر إلى المفعول. وعن الكلبي أنه قرأ ذِكْرُ بلفظ الماضي مشددا تارة ورَحْمَتِ وعَبْدَهُ منصوبان على المفعولية، والفاعل ضمير المتلو. ومخففا أخرى وعَبْدَهُ مرفوع على الفاعلية. وقرىء ذِكْرُ على الأمر وهي قراءة ابن معمر. وقيل: يحتمل على هذا أن تكون الرحمة عبارة عن زكريا لأن كل نبي رحمة لأمته، ويجوز أن يكون رحمة لنبينا صلى الله عليه وسلم ولأمته لأن طريقه في الإخلاص والابتهال يصلح لأن يقتدى به وكان ذكره رحمة لنا ولنبينا. وفي خفاء ندائه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 وجوه منها: أن الإخفاء أبعد عن الرياء وأدخل في الخشية ولهذا فسره الحسن بأنه نداء لا رياء فيه. ومنها أنه أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في غير وقته. ومنها أنه أسره من مواليه الذين خافهم. ومنها أنه خفت صوته لضعفه وهرمه كما جاء في صفة الشيخ «صوته خفات وسمعه تارات» ولعله أتى بأقصى ما يقدر عليه من الصوت ومع ذلك كان خفيا لنهاية كبره. ثم شرع في حكاية ندائه قائلا: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي إلى قوله: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا قال علماء المعاني: في الآية لطائف وذلك أصل الكلام: يا ربي قد شخت فإن الشيخوخة مشتملة على ضعف البدن وشيب الرأس، ثم ترك الإجمال إلى التفصيل لتوخي زيادة التقرير فصار ضعف بدني وشاب رأسي، ثم في القرينة الأولى عدل من التصريح إلى الكناية التي هي أبلغ منه فصار وهنت عظامي فإن وهن عظام البدن لازم لضعفه، ثم بنيت الكناية على المبتدأ لتقوي الحكم فحصل أنا وهنت عظام بدني، ثم سلك طريق الإجمال والتفصيل لمزيد البيان فصار: إني وهنت العظام من بدني لأنك إذا قلت إني وهنت العظام أفاد أن عظاما واهنة عندك، فإذا قلت: «من بدني» فقد فصلت، ثم ترك توسيط البدن لطلب مزيد اختصاص العظام، ثم لطلب شمول العظام فردا فردا قصدت مرتبة ثانية وهي ترك جمع العظم إلى الإفراد لأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع فحصل إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي فحصل أني وهنت العظام مني. وإذا حصل الوهن في هذا الجنس الذي هو أصلب الأعضاء وبه قوام البدن وقد يكون جنة لسائر الأعضاء الرئيسة كالقحف للدماغ والقص للقلب ففي الأعضاء الأخر أولى. وأما القرينة الأخرى فتركت الحقيقة فبها الاستعارة التي هي أبلغ فحصل اشتعل شيب رأسي. وبيان الاستعارة فيه أنه شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته، وشبه انتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكتابة بأن حذف المشبه به وأداة التشبيه فصار اشتعل شيب رأسي. ويمكن تقرير الاستعارة بوجه آخر وهو أن يكون استعمل اشْتَعَلَ بدل «انتشر» فتكون الاستعارة تبعية تصريحية وقرينتها ذكر الشيب، ثم تركت هذه المرتبة إلى أبلغ منها وهي «اشتعل رأسي شيبا» . وكونها أبلغ من وجهات منها: إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادته شمول الاشتعال الرأس كما لو قلت: «اشتعل بيتي نارا» مكان «اشتعل النار في بيتي» . ومنها الإجمال والتفصيل الواقعان في طريق التمييز، ومنها تنكير شَيْباً للتعظيم كما هو حق التمييز. ثم عدل إلى مرتبة أخرى هي «اشتعل الرأس مني شيبا» لتوخي مزيد التقرير بالإبهام ثم البيان على نحو وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ثم ترك لفظ «مني» لسبق ذكره في القرينة الأولى ففي ذلك إحالة تأدية المعنى على العقل دون اللفظ. وكم بين الحوالتين مع أن بناء الكلام على الاختصار حيث قال «رب» بحذف حرف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 النداء وياء المتكلم يناسب الاختصار في آخره. وإنما أطنب في هذا المقام لأن هذه الآية كالعلم فيما بين علماء المعاني. ثم إنه توسل إلى الله عز وجل بما سلف له معه من الاستجابة قائلا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا كما حكى أن محتاجا قال لكريم: أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا فقال: مرحبا بمن توسل إلينا وقضى حاجته. تقول العرب: سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها، وشقي بها إذا خاب ولم ينلها. ومعنى بِدُعائِكَ أي بدعائي إياك. واعلم أن زكريا عليه السلام قدم على السؤال أمورا ثلاثة: الأول كونه ضعيفا، والثاني أنه تعالى لم يرد دعاءه والثالث كون المطلوب بالدعاء سببا للمنفعة في الدين وذلك قوله وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ قال ابن عباس والحسن: أي الورثة. وعن مجاهد العصبة. وعن أبي صالح: الكلالة. وعن الأصم: بني العم وهم الذين يلونه في النسب. وعن أبي مسلم: المولى يراد به الناصر وابن العم والمالك والصاحب وهو هاهنا من تقدم في ميراثه كالولد. والمختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده إما في السياسة أو في المال الذي كان له أو في القيام بأمر الدين، وكان من عاداتهم أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب كان متعينا للحبورة. وقوله: مِنْ وَرائِي أي بعد موتي لا يتعلق ب خِفْتُ لأن الخوف بعد الموت محال ولكن بمحذوف أي الموالي الذين يخلفون من بعدي، أو بمعنى الولاية في الموالي أي خفت ولايتهم وسوى خلافتهم بعدي، فإن زكريا انضم له مع النبوّة الملك فخاف بعده على أحدهما أو عليهما. وسبب الخوف القرائن والأمارات التي ظهرت له من صفائح أحوالهم وأخلاقهم. وإنما قال: خِفْتُ بلفظ الماضي لأنه قصد به الإخبار عن تقادم الخوف، ثم استغنى بدلالة الحال كمسألة الوارث وإظهار الحاجة عن الإخبار بوجود الخوف في الحال. وقرىء خِفْتُ الْمَوالِيَ بتشديد الفاء. وعلى هذا فمعنى ورائي خلفي وبعدي أي قلوا وعجزوا عن أمر الدين والإقامة بوظائفه، والظرف متعلق بالموالي، أو معناه قدامي والظرف متعلق ب خِفْتُ أي درجوا ولم يبق من يعتضد به. ثم صرح بالمسألة قائلا: فَهَبْ لِي وأكده بقوله: مِنْ لَدُنْكَ أي وليا صادرا من عندك مضافا إلى اختراعك بلا سبب لأني وامرأتي لا تصلح للولادة. من قرأ يَرِثُنِي وَيَرِثُ بالجزم فيهما فهو جواب الدعاء، ومن قرأ برفعهما فالأكثرون ومنهم جار الله قالوا: إنه صفة. وقال صاحب المفتاح: الأولى حمله على الاستئناف كأنه قيل: لم تطلب الولد؟ فقال مجيبا: يرثني أي لأنه يرثني لئلا يلزم منه أنه لم يوهب من وصف لهلاك يحيى قبل زكريا. واعترض بأن حمله على الاستئناف يوجب الإخبار عما لم يقع، وكذب النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 أمنع من كونه غير مستجاب الدعوة. وأجيب بأن عدم ترتب الغرض من طلب الولد لا يوجب الكذب. وأقول: الاعتراض باق لأن المعنى يؤل إلى قولنا «هب لي وليا موصوفا بالوراثة» أو بأن الغرض منه الوراثة، أوهب لي وليا أخبر عنه بأنه يرثني. وعلى التقادير يلزم عدم الاستجابة أو الكذب. والحق في الجواب هو ما سلف لنا في قصة زكريا من سورة آل عمران، أن النبي لا يطلب في الدعاء إلا الأصلح حتى لو كان الأصلح غير ما طلبه فصرفه الله تعالى عنه كان المصروف إليه هو بالحقيقة مطلوبه. ويمكن أن يقال: لعل الوراثة قد تحققت من يحيى وإن قتل قبل زكريا، وذلك بأن يكون قد تلقى منه كتاب أو شرع هو المقصود من وجود يحيى وبقي ذلك الكتاب أو الشرع معمولا به بعد زكريا أيضا إلى حين. وقد روى صاحب الكشاف هاهنا قراءات شاذة لا فائدة كثيرة في تعدادها إلى قوله عن علي وجماعة وأرث من آل يعقوب أي يرثني به وارث ويسمى التجريد في علم البيان. فقيل: هو أن تجرد الكلام عن ذكر الأول حتى تقول «جاءني فلان فجاءني رجل» لا تريد به إلا الأول، ولذلك تذكر اسمه في الجملة الثانية، وتجرد الكلام عنه. وأقول: يشبه أن يكون معنى التجريد هو أنك تجرده عن جميع الأوصاف المنافية للرجولية. وكذا في الآية كأنه جرده عن منافيات الوارثية بأسرها. واختلف المفسرون في أنه طلب ولدا يرثه أو طلب من يقوم مقامه ولدا كان أو غيره؟ والأول أظهر لقوله في آل عمران رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران: 38] ولقوله في سورة الأنبياء رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً [الأنبياء: 89] حجة المخالف أنه لما بشر بالولد استعظم وقال أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ولو كان دعاؤه لأجل الولد ما استعظم ذلك. والجواب ما مر في آل عمران. واختلفوا أيضا في الوراثة فعن ابن عباس والحسن والضحاك: هي وراثة المال. وعنهم أيضا أن المراد يرثني المال ويرث من آل يعقوب النبوّة أو بالعكس. وفي رواية أبي صالح أن المراد في الموضعين النبوّة. فلفظ الإرث مستعمل في المال وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [الأحزاب: 17] وفي العلم وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ [غافر: 53] «العلماء ورثة الأنبياء» وحجة الأولين ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله زكريا وما عليه من يرثه» فإن ظاهره يدل على أنه أراد بالوراثة المال. وكذا قوله صلى الله عليه وسلم «أنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» «1» ، وأيضا العلم والنبوة كيف   (1) رواه البخاري في كتاب الخمس باب: 1. مسلم في كتاب الجهاد حديث 49- 52. أبو داود في كتاب الإمارة باب: 19. الترمذي في كتاب السير باب: 44. النسائي في كتاب الفيء باب: 9، 16. الموطأ في كتاب الكلام حديث 27. أحمد في مسنده (1/ 4، 6، 9، 10) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 يحصل بالميراث ولو كان المراد إرث النبوّة لم يحتج إلى قوله: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا لأن النبي لا يكون إلا مرضيا. وأجيب بأنه إذا كان المعلوم من حال الابن أنه يصير نبيا بعده فيقوم بأمر الدين جاز أن يقال ورثه. والمراد يكون رضيا أن لا يوجد منه معصية ولا همّ بها كما جاء في حق يحيى، وقد مر الحديث هناك. ولا يلزم من هذا أن يكون يحيى مفضلا على غيره من الأنبياء كلهم فلعل لبعضهم فضائل أخر تختص به. احتجت الأشاعرة بالآية في مسألة خلق الأعمال، وأجابت المعتزلة بأنه يفعل به ضروب الألطاف فيختار ما يصير مرضيا عنده، وزيف بأن ارتكاب المجاز على خلاف الأصل، وبأن فعل الألطاف واجب على الله فطلب ذلك بالدعاء والتضرع عبث. واعلم أن أكثر المفسرين على أن يعقوب المذكور في الآية هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم لأن زوجة زكريا كانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهودا بن يعقوب، وأما زكريا فقد كان من ولد هرون أخي موسى وهرون وموسى ولد لاوى بن يعقوب بن إسحق، وكانت النبوّة في سبط وهو إسرائيل عليه السلام. وزعم بعض المفسرين أن المراد هو يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان وهذا قول الكلبي ومقاتل. وعن مقاتل: أن بني ماثان كانوا رؤوس بني إسرائيل وملوكها. قوله: يا زَكَرِيَّا الأكثرون على أنه نداء من الله تعالى لقرينة التخاطب من قوله: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي إلى قوله: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ومنهم من قال: هو نداء الملك لقوله في آل عمران فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ [الآية: 49] وجوز بعضهم الأمرين. واختلفوا في عدم السمي فقيل: أراد أن لم يسم أحد بيحيى قبله. وقيل: أراد أنه لا نظير له كقوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65] وذلك أنه سيدا وحصورا ولم يعص ولم يهم بمعصية فكأنه جواب لقوله: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا وأيضا سمي بيحيى قبل دخوله في الوجود ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر فلا نظير له في هذه الخواص. قال بعض العلماء: القول الأول أظهر لما في الثاني من العدول عن الظاهر ولا يصار إليه لضرورة كما في قوله: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65] لأنا نعلم أن مجرد كونه تعالى لا سميّ له لا يقتضي عبادته فنقول: السّميّ هناك يراد به المثل والنظير. ويمكن أن يقال: إن التفرد بالاسم فيه ضرب من التعظيم فلا ضرورة في الآية أيضا. قال جار الله: إنما قيل للمثل سميّ لأن كل متشاكلين يسمى كل منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير، فكل واحد منهما سمي. قلت: ويقرب هذا من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم. ولم سمي بيحيى؟ تكلفوا له وجوها. فعن ابن عباس لأنه تعالى أحيا عقر أمه. وعن قتادة لأنه تعالى أحيا قلبه بالإيمان والطاعة أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: 122] إِذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24] . ولهذا كان من أول من آمن بعيسى. وقيل: لأنه استشهد والشهداء أحياء. وقيل: لأن الدين أحيى به لأن زكريا سأله لأجل الدين. قوله: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ قال جار الله: أي من أجل الكبر والطعن في السن العالية ف «من» للتعليل، ويجوز أن تكون للابتداء أي بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عِتِيًّا وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام. يقال: عتا العود عتيا إذا غيره طول الزمان إلى حالة اليبس. سؤال: إنه قال في آل عمران وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ [آل عمران: 40] فلم عكس الترتيب في هذه السورة؟ وأجيب بأن الواو لا تفيد الترتيب. قلت: إن ذلك ورد على الأصل وهو تقديم نقص نفسه وهاهنا راعى الفاصلة. قالَ الأمر كَذلِكَ تصديقا له. ثم ابتدأ قائلا قالَ رَبُّكَ فمحل كَذلِكَ رفع، ويحتمل أن يكون نصبا قالَ وذلك إشارة إلى مبهم يفسره قوله: هُوَ أي خلق الغلام عَلَيَّ هَيِّنٌ ويحتمل أن يكون إشارة إلى قول زكريا أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي كيف تعطيني الغلام أبأن تجعلني وزوجتي شابين أو بأن تتركنا على الشيخوخة؟ فأجيب بقوله: كَذلِكَ أي نهب الولد لك مع بقائك وبقاء زوجتك على حالتكما. ولفظ الهين مجاز عن كمال القدرة وهو فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب ولم يمتنع عن المراد وَلَمْ تَكُ شَيْئاً لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئا يعتد به كالنطفة، أو كالجواهر التي لم تتألف بعد، فيه نفي استبعاد زكريا، لأن خلق الذات ثم تغييرها في أطوار الصفات ليس أهون من تبديل الصفات وهو أحداث القوة المولدة في زكريا وصاحبته بعد أن لم تكن قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قد مر تفسير الآية في أول عمران. قوله: سَوِيًّا قيل: إنه صفة لليالي أي تامة كاملة. والأكثرون على أنه صفة زكريا أي وأنت سليم الحواس مستوى الخلق ما بك خرس ولا عيّ فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ قيل: كان له موضع ينفرد فيه للصلاة والعبادة ثم ينتقل إلى قومه. وقيل: كان موضعا يصلي فيه هو وغيره إلا أنهم كانوا لا يدخلونه للصلاة إلا بإذنه. فَأَوْحى إِلَيْهِمْ عن مجاهد: أشار بدليل قوله في أول آل عمران إِلَّا رَمْزاً وعن ابن عباس: كتب لهم على الأرض. وأَنْ هي المفسرة وسَبِّحُوا أي صلوا أو على الظاهر وهو قول سبحان الله. عن أبي العالية أن البكرة صلاة الفجر والعشيّ صلاة العصر، فلعلهم كانوا يصلون معه هاتين الصلاتين في محرابه، وكان يخرج إليهم ويأذن لهم بلسانه، فلما اعتقل لسانه خرج إليهم كعادته ففهمهم المقصود بالإشارة أو الكتابة. وهاهنا إضمار والمراد فبلغ يحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فقلنا له: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ أي التوراة لأنها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 المعهود حينئذ، ويحتمل أن يكون كتابا مختصا به وإن كنا لا نعرفه الآن كقول عيسى إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ [مريم: 30] والمراد بالأخذ إما الأخذ من حيث الحس، وإما الأخذ من حيث المعنى وهو القيام بمواجبه كما ينبغي وذلك بتحصيل ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به والإحجام عن المنهي عنه. ثم أكده بقوله: بِقُوَّةٍ أي بجد وعزيمة. وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ أي الحكمة. عن ابن عباس: هو فهم التوراة والفقه في الدين ولذلك لما دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبي قال: ما للعب خلقت. وعن معمر: العقل. وقيل: النبوة. وكل هذه الأوصاف على الأقوال من الخوارق كما في حق عيسى فلا استبعاد إلا من حيث العادة. والحنان أصله توقان النفس، ثم استعمل في الرحمة وهو المراد هاهنا. وما قيل إنه يحتمل أن يراد حنانا منا على زكريا أو على أمة يحيى لا يساعده وجود الواو. وقيل: أراد آتيناه الحكم والحنان على عبادنا كقوله في نبينا فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] وأراد بقوله: وَزَكاةً أنه مع الإشفاق عليهم كان لا يخل بإقامة ما يجب عليهم لأن الرأفة واللين ربما تورث ترك الواجب ولهذا قال: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: 2] ولا يخفى أنه يساعد هذا القول وجود لفظة مِنْ لَدُنَّا وعن عطاء: أن معنى حنانا تعظيما من لدنا. وعن ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جريج: أن معنى زكاة عملا صالحا زكيا. وقيل: زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكى الشهود. وقيل: بركة كقول عيسى جَعَلَنِي مُبارَكاً وقيل: صدقة أي ينعطف على الناس ويتصدق عليهم. ثم أخبر محمد صلى الله عليه وسلم عن جملة أحواله بقوله: وَكانَ تَقِيًّا بحيث لم يعص الله ولا هم بمعصية قط وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ لأن تعظيم الوالدين تلو تعظيم الله وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا وذلك أن الزاهد في الدنيا قلما يخلو عن طلب ترفع والرغبة في احترام، فذكر أنه مع غاية زهده كان موصوفا بالتواضع للخلق وتحقيق العبودية للحق. قال سفيان: الجبار الذي يقتل عند الغضب دليله قوله: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ [القصص: 19] ثم إنه سبحانه سلم عليه في ثلاثة مواطن هي أوحش المواطن وأحوجها إلى طلب السلامة فيها، ويحتمل أن يكون هذا السلام من الملائكة عليه إلا أنه لما كان بإذن الله كان كلام الله، وقيل: إنما قال: حَيًّا مع أن المبعوث هو المعاد إلى حال الحياة تنبيها على كونه من الشهداء وهم أحياء إلا أنه يشكل بما يجيء في قصة عيسى وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 33] وذلك أنه ورد في الأخبار أن عيسى سيموت بعد النزول. والظاهر أنه أراد ويوم يجعل حيا فوضع الأخص الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 موضع الأعم تأكيدا. قيل: السلام عليه يوم ولد لا بد أن يكون تفضلا من الله تعالى لأنه لم يتقدم منه عمل يجزى عليه، وأما الآخران فيجوز أن يكونا لأجل الثواب. قلت: أكثر أموره خارق للعادة، فيحتمل أن يوجد منه في بطن أمه عمل يستحق الثواب كما يحكى أن أمه قالت لمريم وهما حاملان: إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك. التأويل: إن زكريا الروح نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا من سر السر قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ مني عظم الروحانية واشتعل شيب صفات البشرية، وإني خفت صفات النفس أن تغلب وَكانَتِ امْرَأَتِي يعني الجثة التي هي روح الروح عاقِراً لا تلد إلا بموهبة من الله فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سأل وَلِيًّا فأعطاه الله نبيا وهو في الحقيقة القلب الذي هو معدن العلم اللدني فإنه ولد الروح والنفس أعدى عدوه يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ أي يتصف بصفة الروح وجميع الصفات الروحانية وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا بأن توطنه من تجلي صفات ربوبيتك ما يرضى به نظيره وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: 5] اسْمُهُ يَحْيى إن الله أحياه بنوره ولَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا لا من الحيوانات ولا من الملائكة لأنه هو الذي يقبل فيض الألوهية بلا واسطة، وهو سر حمل الأمانة كما قال: «ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن» وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ أي بسبب طول زمان تعلق القلب بالقالب عِتِيًّا يبسا وجفافا من غلبات صفات النفس آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ لا تخاطب إلا الله ولا تلتفت إلى ما سواه ثَلاثَ لَيالٍ هي ثلاث مراتب الجماديات والحيوانيات والروحانيات سَوِيًّا متمكنا في هذا الحال من غير تلون فَخَرَجَ زكريا الروح من محراب هواه وطبعه على قوم صفات نفسه وقلبه وأنانيته، فأشار إليهم أن كونوا متوجهين إلى الله معرضين عما سواه آناء الليل وأطراف النهار بل بكرة الأزل وعشيّ الأبد يا يَحْيى القلب خُذِ كتاب الفيض الإلهي المكتوب لك في الأزل بِقُوَّةٍ ربانية لا بقوة جسدانية لأنه خلق ضعيفا وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ في صباه إذ خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره زَكاةً وتطهرا من الالتفات إلى غيرنا وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ الروح والقالب. أما بالروح فلأن القلب محل قبول الفيض الإلهي لأن الفيض نصيب الروح أوّلا ولكن لا يمسكه لغاية لطافته كما أن الهواء الصافي لا يقبل الضوء وينفذ فيه، وأما القلب ففيه صفاء وكثافة فبالصفاء يقبل الفيض وبالكثافة يمسكه، وهذا أحد أسرار حمل الأمانة. وأما بر والدة القالب فهو استعمالها على وفق الشريعة والطريقة وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا كالنفس الأمارة بالسوء وسلام عليه يوم يولد في أصل خلقه وَيَوْمَ يَمُوتُ من استعمال المعاصي بالتوبة وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا بالتربية والترقي إلى مقام السلامة الله حسبي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 [سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 40] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) القراآت: إِنِّي أَعُوذُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ليهب لك على الغيبة: أبو عمرو ويعقوب وورش والحلواني عن قالون وحمزة في الوقف. الآخرون لِأَهَبَ على التكلم نَسْياً بفتح النون: حمزة وحفص. والباقون بكسرها. مِنْ تَحْتِها بكسر الميم على أنه حرف جر وبجر التاء الثانية: أبو جعفر ونافع وسهل وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون بفتحهما على أن «من» موصولة والظرف صلتها تُساقِطْ بحذف تاء التفاعل: علي وحمزة والخزاز عن هبيرة. تُساقِطْ من المفاعلة: حفص غير الخزاز يساقط بياء الغيبة، على أن الضمير للجذع وبإدغام التاء في السين: سهل ويعقوب ونصير وحماد. الباقون مثله ولكن بتاء التأنيث على أن الضمير للنخلة آتانِيَ الْكِتابَ ممالة مفتوحة الياء: عليّ. وقرأ حمزة مرسلة الياء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 مفخمة في الوصل ممالة في الوقف. وَأَوْصانِي بالإمالة: علي قَوْلَ الْحَقِّ بالنصب: ابن عامر وعاصم ويعقوب. وَإِنَّ اللَّهَ بكسر الهمزة: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وروح والمعدل عن زيد الوقوف: مَرْيَمَ لا ليصير «إذ» ظرفا لأذكر شَرْقِيًّا لا للعطف زَكِيًّا هـ بَغِيًّا هـ كَذلِكِ ط لما مر هَيِّنٌ ج لجواز كون الواو مقحمة أو معلقة بمحذوف كما يجيء مِنَّا ج لاختلاف الجملتين مَقْضِيًّا هـ قَصِيًّا هـ النَّخْلَةِ ج لترتب الماضي من غير عاطف والأولى أن يكون استئنافا مَنْسِيًّا هـ سَرِيًّا هـ جَنِيًّا هـ ز عَيْناً هـ ج للشرط مع الفاء أَحَداً لا لأن ما بعده جواب الشرط إِنْسِيًّا هـ ج للعطف مع الآية تَحْمِلُهُ ط فَرِيًّا هـ بَغِيًّا هـ ج إِلَيْهِ ج صَبِيًّا هـ عَبْدُ اللَّهِ ط لأن الجملة لا تقع صفة للمعرفة. ويمكن أن يجعل معنى التحقيق في «إن» عاملا فيكون حالا فلا يوقف أَيْنَ ما كُنْتُ ص لطول الكلام حَيًّا ص هـ لذلك والوصل أولى لأن قوله وَبَرًّا معطوف على قوله مُبارَكاً. بِوالِدَتِي ج لتبدل الكلام من الإثبات إلى النفي شَقِيًّا، حَيًّا هـ، عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ج على القراءتين لاحتمال أن يراد أقول قول الحق وأن يجعل حالا، وأما في قراءة الرفع فإما أن يكون بدلا من عيسى أو يكون التقدير هو قول الحق يَمْتَرُونَ هـ، مِنْ وَلَدٍ هـ استعجالا للتنزيه سُبْحانَهُ ط فَيَكُونُ هـ ط لمن قرأ وَإِنَّ بالكسر فَاعْبُدُوهُ ط مُسْتَقِيمٌ، هـ مِنْ بَيْنِهِمْ ج لأن ما بعده مبتدأ مع الفاء عَظِيمٍ هـ وَأَبْصِرْ لا لأن ما بعده ظرف للتعجب مُبِينٍ هـ وسمعت عن مشايخي رحمهم الله أن الوقف على قوله قُضِيَ الْأَمْرُ لازم لا أقل من المطلوب لأن ما بعده جملة مستأنفة ولو وصل لأوهم أن يكون حالا من القضاء وليس كذلك لا يُؤْمِنُونَ، هـ يُرْجَعُونَ هـ. التفسير: هذا شروع في ابتداء خلق عيسى ولا ريب أن خلق الولد بين شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد من غير أب، فلهذا أخرت قصة عيسى عن قصة يحيى ترقيا من باب التفهم من الأدنى إلى الأعلى. وقوله «إذ» بدل الاشتمال من مريم لأن الأزمان مشتملة على ما فيها، وفي هذا الإبدال تفخيم لشأن الوقت كوقوع قصتها العجيبة فيه. والانتباه «افتعال» من النبذ الطرح كأنها ألقت نفسها إلى جانب معتزلة عن الناس في مكان يلي شرقي بيت المقدس أو شرقي دارها. قال ابن عباس: من هاهنا اتخذت النصارى المشرق قبلة فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً لا بد لهذا الاحتجاب من غرض صحيح فمن المفسرين من قال: إنها لما رأت الحيض تباعدت عن مكانها المعتاد لكي تنتظر الطهر فتغتسل وتعود، فلما طهرت جاء جبريل عليه السلام، وقيل: طلبت الخلوة لأجل العبادة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 وقيل: في مشربة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو شيء يسترها. وقيل: كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها بابها فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها، فانفجر السقف لها فخرجت وجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك وذلك قوله: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا يعني جبرائيل لأن الدين يحيا به وبوحيه، والإضافة للتشريف والتسمية مجاز كما تقول لمن تحبه إنه روحي فَتَمَثَّلَ لَها حال كونه بَشَراً سَوِيًّا تام الخلق أو حسن الصورة. وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، وتدرع الروحاني كجبريل مثلا تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالصغير غير مستبعد، والذين اعتقدوا أن جبرائيل جسماني جوزوا أن يكون له أجزاء أصلية قليلة وأجزاء فاضلة، فبتلك الأجزاء الأصلية يكون متمكنا من التشبه بصورة الإنسان، ولندرة أمثال هذه الأمور لا يلزم منها قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس. فلا يلزم الشك في أن زيدا الذي نشاهده الآن هو الذي شاهدناه بالأمس. قوله: إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله وترجع بالاستعاذة به فإني عائذة به منك. وقيل: إنه كان في ذلك العصر إنسان فاجر اسمه تقي وكان يتتبع النساء فظنت أن ذلك المتمثل هو ذلك الشخص فاستعاذت بالله. وقيل: «إن» نافية أي ما كنت تقيا حين استحللت النظر إلي وخلوت بي. وحين علم جبريل خوفها قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ أرسلني لِأَهَبَ لَكِ أو ليهب لك غُلاماً زَكِيًّا طاهرا من الذنوب ينمو على النزاهة والعفة. وكيف زال خوفها بمجرد القيل؟ احتمل أن يكون قد ظهر لها معجزة من جهة زكريا أو إرهاصا لعيسى أو إلهاما من الله سبحانه. وهل تقدر الملائكة على تركيب الأجزاء وخلق الحياة والنطق حتى صح قول جبرائيل لِأَهَبَ لَكِ ؟ قال: اجتمعت الأمة على أن لا قدرة للأجسام على إيجاد الجواهر وإعدامها وإلا فلا استبعاد في تأثير بعض الأجسام في بعضها الخاصية خصها الله بها. ووجه صحة هذه القراءة أن جبرائيل صار سببا في الهبة بالنفخ في الدرع. قالَتْ استغرابا من حيث العادة لا تشكيكا في قدرة الله أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ولم تقل هاهنا «رب» إما لأنها تخاطب جبرائيل، وإما اكتفاء بما سلف في آل عمران وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا هي الفاجرة التي تبغي الرجال. عن المبرد أن أصله يغوى على «فعول» قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء وكسرت الغين للمناسبة. عن ابن جنى أنه «فعيل» وإلا لقيل بغو كنهو عن المنكر خصصت بعد ما عممت لزيادة الاعتبار بهذا الخزي تبرئة لساحتها عن الفحشاء. ولما جرى في أول القصة من تمثل جبرائيل لها بصورة البشر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 حتى ظنت أنه يريدها بسوء فاستعاذت بالرحمن منه بخلاف هذه القصة في آل عمران فإنها بنيت على الأمن والبشارة بقوله: وإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ [آل عمران: 45] فلم تحتج إلى هذه الزيادة. وقال جار الله: المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه في قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 237] أو لمستم النساء [النساء: 43] وإنما يقال في الزنا «فجر بها» و «خبث بها» ونحو ذلك ولا يليق به الكنايات والآداب. قلت لو سلم هذا من حيث اللغة إلا أنه لا بد لزيادة قوله: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا في هذا المقام من فائدة وقد عرفت ما سنح لنا والله أعلم. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ تفسيره كما مر في قصة زكريا وَلِنَجْعَلَهُ أي ولنجعل الغلام أو خلقه آيَةً لِلنَّاسِ يستدل بها على كمال اقتدارنا على إبداع الغرائب فعلنا ذلك، ويجوز أن يكون معطوفا على تعليل مضمر يتعلق بما يدل عليه هَيِّنٌ أي تخلقه لنبين به قدرتنا وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً وقد مر مثل هذا في قوله: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ [يوسف: 21] وَرَحْمَةً مِنَّا على عبادنا لأن كل نبي رحمة لأمته فبه يهدون إلى صلاح الدارين وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا مقدرا في اللوح أو أمرا حقيقا بأن يقضي به لكونه آية ورحمة، وهذا مبني على أن رعاية الأصلح واجبة على الله. وهاهنا إضمار قال ابن عباس: فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى بطنها فحملت. وقيل: في ذيلها فوصلت إلى الفرج. وقيل: في فمها. وقيل: إن النافخ هو الله كقوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: 72] وعلى هذا يقع تقديم ذكر جبرائيل كالضائع ولا سيما في قراءة من قرأ لِأَهَبَ لَكِ قيل: حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة. وقيل: بنت عشرين وقد حاضت حيضتين قبل أن تحمل. وكم مدة حملها؟ عن ابن عباس في رواية تسعة أشهر كما في سائر النساء لأنها لو كانت مخالفة لهن في هذه العادة لناسب أن يذكرها الله تعالى في أثناء مدائحها. وقيل: ثمانية أشهر ولم يعش مولود لثمانية إلا عيسى. قال أهل التنجيم: إنما لا يعيش لأنه يعود إلى تربية القمر وهو مغير معفن بسرعة حركته وغلبة التبريد والترطيب عليه. وعن عطاء وأبي العالية والضحاك: سبعة أشهر. وقيل: ستة أشهر. وقيل: حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها. وعن ابن عباس في رواية أخرى: كما حملته نبذته لقوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ إلى قوله: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] ولفاآت التعقيب في قوله: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ وعلى هذا فالمكان القصي هو أقصى الدار أو وراء الجبل بعيدا من أهلها. ومعنى انتبذت به اعتزلت متلبسة به وهو في بطنها. وقصى مبالغة قاص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 وروى الثعلبي عن وهب قال: إن مريم لما حملت فأول من عرف هو يوسف النجار ابن عمها وكانت سميت له، وكانا يخدمان المسجد ولا يعلم من أهل زمانهما أكثر عبادة وصلاحا منهما. فقال لها: إنه وقع في نفسي من أمرك شيء ولا أحب أن أكتمه عنك. فقالت: قل قولا جميلا. فقال: أخبريني يا مريم هل نبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم. ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر! أو تقول: إن الله لا يقدر على الإنبات حتى يستعين بالماء، ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى! فقال يوسف: لا أقول هذا ولكني أقول: إن الله قادر على ما يشاء، وزالت التهمة عن قلبه وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لضيق قلبها واستيلاء الضعف عليها من الحمل. فحين دنا نفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له، فلما بلغت تلك الدار أدركها النفاس فألجأها إلى أصل نخلة. قال جار الله: منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء. لا يقال: جئت المكان وأجاءنيه زيد كما يقال بلغته وأبلغنيه، ونظيره «آتى» حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء ولم يقل «أتيت المكان وآتانيه فلان» . قلت: حاصله تخصيص باء التعدية بعد تعميم والْمَخاضُ بفتح الميم وجع الولادة. قال الجوهري: مخضت الناقة بالكسر مخاضا مثل سمع سماعا. قيل: طلبت الجذع لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة. يروى أنه كان جذعا لنخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمرة خضرة، وكان الوقت شتاء والتعريف إما كتعريف النجم والصعق لكون ذلك الجذع مشهورا هناك، وإما للجنس أي جذع هذه الشجرة خاصة أرشدت إليها لتطعم منها الرطب الذي هو خرسة النفساء أي طعامها الموافق لها، ولأن النخلة أقل الأشياء صبرا على البرد ولا تثمر إلا باللقاح فكان ظهور ذلك الرطب من ذلك الجذع في الشتاء من دون لقاح وإبار دليلا على حصول الولد من غير ذكر. قال في الكشاف: النسي اسم ما من حقه أن يطرح وينسى كخرقة الطامث ونحوها، ونظير الذبح لما من شأنه أن يذبح. وعن يونس: أن العرب إذا ارتحلوا قالوا: انظروا أنساءكم يعنون العصا والقدح والشظاظ ونحوها. تمنت لو كانت شيئا يعبأ به فحقه أن ينسى في العادة. ومعنى مَنْسِيًّا أنه قد نسي وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو حقه. وإنما تمنت ذلك لما لحقها من فرط الحياء والخجل، أو لأنهم بهتوها وهي عارفة ببراءة ساحتها فشق ذلك عليها، أو لخوفها على الناس أن يعصوا الله بسببها. ومن قرأ نَسْياً بالفتح فقد قال الفراء: هما لغتان كالوتر والوتر. ويجوز أن يكون تسمية بالمصدر كالحمل. وقرىء نسأ بالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء ينسؤه أهله لقلته ونزارته فَناداها مِنْ تَحْتِها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 الذي هو تحتها أو إنسان تحتها يعني جبريل بناء على أنه كان يقبل الولد كالقابلة، أو أراد أسفل من مكانها لأن مريم كانت أقرب إلى الشجرة منه، أو كان جبريل تحت الأكمة وهي فوقها فصاح بها لا تحزني. وعن الحسن وسعيد بن جبير أن المراد به عيسى لأن ذكر عيسى أقرب، ولأن موضع اللوث لا يليق بالملك، ولأن الصلة يجب أن تكون معلومة للسامع والذي علم كونه حاصلا تحتها هو الولد ويجري القولان فيمن قرأ بكسر الميم. وعن عكرمة وقتادة أن الضمير في تحتها للنخلة. قوله: سَرِيًّا جمهور المفسرين على أن السريّ هو الجدول. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم سمي بذلك لأن الماء يسري فيه. وقيل: هو من السر ومعناه سخاء في مروءة: ويقال: فلان من سروات قومه أي من أشرافهم. وجمع السري سراة وجمع سراة سروات. عن الحسن: كان والله عبدا سريا حجة هذا القائل أن النهر لا يكون تحتها بل إلى جنبها ولا يمكن أن يقال: المراد أن النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كما في قوله: وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف: 51] لأنه خلاف الظاهر. وأجيب بأن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق، وكل من كان أبعد منه كان تحت. وأراد أن النهر تحت الأكمة وهي فوقها. وأيضا حمل السري على النهر موافق قوله: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون: 50] وقوله: فَكُلِي وَاشْرَبِي يروى أن جبريل ضرب برجله فظهر ماء عذب. وقيل: كان هناك ماء جار، والأول أقرب لأن قوله قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ مشعر بالأحداث في ذلك الوقت. قال القفال: الجذع من النخلة هو الأسفل وما دون الرأس الذي عليه الثمرة. وقال قطرب: كل خشبة في أصل شجرة هي جذع، والباء في قوله: بِجِذْعِ النَّخْلَةِ كالزائد لأن العرب تقول هزة وهز به والمعنى حركي جذع النخلة أو افعلي الهز به. ورُطَباً تمييز ومفعول تساقط على حسب القراآت اللازمة والمتعدية. وعن الأخفش المراد جواز انتصابه ب هُزِّي أي هزي إليك رطبا جنيا بجذع النخلة أي على جذعها. والجني المأخوذ طريا. والظاهر أنه ما أثمر إلا الرطب وقد صار نخلا. وقيل: إنه كان على حاله وإنه أثمر مع الرطب غيره. قالوا: إذا عسر ولادة المرأة لم يكن لها خير من الرطب، والتمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذا التحنيك. والمراد أنه جمع لها فائدتان في السري والرطب: إحداهما الأكل والشرب وقدم الأكل مع أن ذكر السري مقدم لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال من الدماء، والثانية سلوة الصدر لكونهما معجزين لزكريا أو إرهاصا لعيسى أو كرامتين لمريم وأشار إلى هذه بقوله: وَقَرِّي عَيْناً لأن قرّة العين تلزم قوة القلب والتسلي من الهموم والأحزان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 وقيل: إن ألم النفس أشد من ألم البدن، فلم قدم دفع ألم البدن على دفع ألم القلب؟ وأجيب بأن الخوف النفسي كان قليلا لتقدم بشارة جبريل فكان التذكر كافيا فَإِمَّا تَرَيِنَّ أصله ترأيين مثل تسمعين خففت الهمزة وسقطت نون الإعراب للجزم ثم ياء الضمير للساكنين وذلك بعد لحوق نون التأكيد وقد مر في قوله: وإِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ [الإسراء: 23] إذا لتأكيد هذه الصورة يقصد به أن الشرط مما سيقع غالبا فإن مريم لا بد أن ترى أحد من البشر عادة. عن أنس بن مالك: الصوم هنا الصمت. وعن ابن عباس مثله. وقال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم. وقيل: أراد الصيام إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم. قال القفال: لعل مثل هذا النذر يجوز في شرعنا لأن الاحتراز عن كلام البشر يجرد الفكر لذكر الله تعالى وهو قربة، ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق والتشديد ولا حرج في الإسلام. وفي الكشاف: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت. وروي أنه دخل أبو بكر الصديق على امرأة وقد نذرت أنها لا تتكلم فقال أبو بكر: إن الإسلام هدم هذا فتكلمي. وفي أمرها بهذا النذر معنيان: أحدهما أن كلام عيسى أقوى في إزالة التهمة وفيه أن تفويض الأمر إلى الأفضل أولى، والثاني أن السكوت عن جدال السفهاء أصون للعرض ومن أذل الناس سفيه لم يجد مشافها. وكيف أخبرتهم بالنذر؟ قيل: بالإشارة وإلا لزم النقض. وقيل: خص هذا الكلام بالقرينة العقلية. وقوله: إِنْسِيًّا أراد المبالغة في نفي الكلام أو أراد أني أكلم الملائكة دون الإنس وهذا أشبه بقوله: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ. فَأَتَتْ بِهِ أي بعيسى قَوْمَها تَحْمِلُهُ الجملة حال. عن وهب: قال أنساها كربة الميلاد وما سمعت من الناس ما كان من بشارة الملائكة، فلما كلمها جاءها مصداق ذلك فاحتملته فأقبلت به إلى قومها. وعن ابن عباس: أن يوسف النجار انتهى بمريم إلى غار فلبثوا فيه أربعين يوما حتى طهرت من نفاسها، ثم جاءت تحمله فكلمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه. فلما دخلت به على قومها تباركوا وقالوا: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا بديعا من فرى الجلد، وليس في هذا ما يوجب تعييرا أو ذما لأن أمرها كان خارجا عن المعتاد، ويحتمل أن يراد إنه أمر منكر خارج عن طريق العفة والصلاح فيكون توبيخا ويؤكده قولهم: يا أُخْتَ هارُونَ الآية. واختلفوا في هارون فقيل: كان أخاها من أبيها من أمثل بني إسرائيل وهذا أظهر لأن حمل اللفظ على الحقيقة أولى من غيره. وقيل: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم عنوا هارون النبي أخا موسى عليهما السلام وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 الأخوة وبينهما ألف سنة وأكثر. وعن السدي: كانت من أولاده والمراد أنها واحدة منهم كما يقال يا أخا همدان أي يا واحدا منهم. وقيل: أرادوا رجلا صالحا في زمانها أي كنت عندنا مثله في الصلاح. ويحكى أنه تبع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمى هارون تبركا به وباسمه. وقيل: كان رجلا طالحا معلنا بالفسق فسموها به وبالتشبيه بسيرته. ويروى أنهم هموا برجمها فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي أن عيسى هو الذي يحكم. وبم عرفت ذلك؟ إما بأن كلمها في الطريق أو بالإلهام أو بالوحي إلى زكريا أو يقول جبريل على أن أمرها بالسكوت بعد ما سبق من البشارة قيل: كان المستنطق لعيسى زكريا. وعن السدي: لما أشارت إليه غضبوا وقالوا لسخريتها بنا أشد علينا من زناهم ثم قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ قال جار الله: «كان» لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح للقريب والبعيد، وهاهنا للزمان القريب عن الحال بدلالة الحال، أو هو حكاية حال ماضية أي كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس صَبِيًّا في المهد حتى تكلم هذا، ويحتمل أن يقال: «كان» زائدة نظرا إلى أصل المعنى وإن كان يفيد زيادة ارتباط مع رعاية الفاصلة، أو هي تامة صَبِيًّا حال مؤكدة. يروى أنه كان يرضع فلما سمع مقالتهم ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه وتكلم مع جاره وأشار بسبابته قائلا: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فكان فيه أوّلا رد قول النصارى: آتانِيَ الْكِتابَ هو الإنجيل والتوراة أي فهمها. وقيل: أكمل الله عقله واستنبأه طفلا بل في بطن أمه. وقيل: أراد أنه سبق في قضائه، أو جعل الآتي لا محالة كأنه قد وجد والأول أظهر وصغر الجسم لا مدح في كمال العقل وخرق العادة فيه أكذا قالوا إن كمال عقله في ذلك الوقت خارق للعادة. فيكون المعجز متقدما على التحدي وهو غير جائز ولو كان نبيا في ذلك الوقت وجب أن يشتغل ببيان الشرائع والأحكام ولو وقع ذلك لاشتهر ونقل. والجواب أن بعض معجزات النبي لا بد أن يكون مقرونا بالتحدي، أما الكل فممنوع، وبعبارة أخرى لا بد أن يكون مقرونا بفعل خارق عن العادة، ولكن كل فعل خارق للعادة فإنه لا يلزم اقترانه بالتحدي، وكذا الكلام في بيان الشرائع فإن بعض أوقات النبي لا بد أن يقترن به التحدي دون كل أوقاته وحالاته، على أنه أشار إلى بعض التكاليف بقوله: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ كما يجيء. وعن بعضهم أنه كان نبيا لقوله: وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ولكنه ما كان رسولا لأنه ما جاء بالشريعة في ذلك الوقت ومعنى كونه نبيا أنه رفيع القدر عليّ الدرجة، وضعف بأن النبي في عرف الشرع أخص من ذلك. ومعنى قوله: مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ نفاعا حيثما كنت روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل معلما للخير، وضلال كثير من أهل الكتاب باختلافهم فيه لا يقدح في منصبه كما قيل: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 عليّ نحت القوافي من معادنها ... وما عليّ إذا لم تفهم البقر وهذه سنة الله في أنبيائه ورسله كلهم وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا [الفرقان: 31] يروى أن مريم سلمت عيسى إلى المكتب فقالت للمعلم: أدفعه إليك على أن لا تضربه. فقال له: اكتب. فقال له: أي شيء أكتب؟ فقال: اكتب «أبجد» فقال: لا أكتب شيئا لا أدري. ثم قال: إن لم تعلم ما هو فأنا أعلمك. الألف من آلاء الله، والباء من بهاء الله والجيم من جمال الله، والدال من أداء الحق إلى الله. وقيل: البركة أصلها من بروك البعير والمعنى جعلني ثابتا في دين الله مستقرا فيه. وقيل: البركة هي الزيادة والعلو فكأنه قال: جعلني في جميع الأشياء غالبا منجحا إلى أن يكرمني الله بالرفع إلى السماء. عن قتادة أنه رأته امرأة وهو يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص فقالت: طوبى لبطن حملتك وثدي أرضعت به. فقال عيسى عليه السلام مجيبا لها: طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يك جبارا شقيا. وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أي بأدائهما إما في وقتهما المعين وهو وقت البلوغ، وإما في الحال بناء على أنه كان مع صغره كامل العقل تام التركيب بحيث يقوى على أداء التكاليف ويؤيده قوله ما دُمْتُ حَيًّا وقيل: الزكاة هاهنا صدقة الفطر. وقيل: تطهير البدن البدن من دنس الآثام. وقيل: أوصاني بأن آمركم بهما. وفي قوله: وَبَرًّا بِوالِدَتِي دلالة وإشارة إلى تبرئة أمه من الزنا وإلا لم يكن الرسول المعصوم مأمورا بالبر بها. قال بعض العلماء: لا تجد العاق إلا جبارا شقيا وتلا قوله: وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ولا تجد سيىء الملكة إلا مختالا فخورا. وقرأ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً [النساء: 36] وإنما نفى عن عيسى الشقاوة ولم ينف عنه المعصية كما نفى عن يحيى لما جاء في الخبر «ما أحد من بني آدم إلا أذنب أو هم بذنب إلا يحيى بن زكريا» ومن عقائد أهل السنة أن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر. قوله: وَالسَّلامُ عَلَيَّ قالت العلماء: إنما عرف السلام هاهنا بعد تنكيره في قصة يحيى لأن النكرة إذا تكررت تعرفت على أن تعريف الجنس قريب من تنكيره. وقيل: إن الأول من الله والقليل عنه كثير. قليل منك يكفيني ... قليلك لا يقال له قليل وإني لأرضى منك يا هند بالذي ... لو أبصره الواشي لفرت بلابله بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى ... وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 والثاني من عيسى والكثير منه لا يبلغ معشار سلام الله. عن بعضهم أن عيسى عليه السلام قال ليحيى: أنت خير مني سلم الله عليك وسلمت على نفسي. وأجاب الحسن بأن تسليمه على نفسه هو تسليم الله عليه. وقال جار الله: في هذا التعريف تعريض باللعنة على متهمي مريم وأعدائها من اليهود لأنه إذا زعم أن جنس السلام خاصته فقد عرض بأن ضده عليهم نظيره في قصة موسى وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: 47] يعني أن العذاب على من كذب وتولى. يروى أنه كلمهم بهذه الكلمات ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان. وعن اليهود والنصارى أنهم أنكروا تكلم عيسى في المهد قائلين إن هذه الواقعة مما يتوفر الدواعي على نقلها، فلو وجدت لا شتهرت وتواترت مع شدة غلو النصارى فيه وفي مناقبه. وأيضا إن اليهود مع شدة عداوتهم له لو سمعوا كلامه في المهد بالغوا في قتله ودفعه في طفوليته. وأجاب المسلمون من حيث العقل بأنه لولا كلامه الذي دلهم على براءتها من الذي قذفوها به لأقاموا عليها الحد ولم يتركوها، ولعل حاضري كلامه قليلون فلذلك لم يبلغ مبلغ التواتر، ولعل اليهود لم يحضروا هناك فلذلك لم يشتغلوا وقتئذ بدفعه والله أعلم. ذلِكَ الموصوف بالصفات المذكورة من قوله: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ إلى آخره هو عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وفي كونه ابن لهذه المرأة نفى كونه ابنا على ما زعمت الضالة وأكد هذا المعنى بقوله: قَوْلَ الْحَقِّ فإن كان الحق هو اسم الله فهو كقوله: «كلمة الله» وانتصابه على المدح، وإن كان بمعنى الثابت والصدق فانتصابه على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة كقولك «هو عبد الله الحق» وقَوْلَ الْحَقِّ من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل حَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة: 95] قد مر آنفا. وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر، أو بدل، أو خبر مبتدأ محذوف. ومعنى تمترون تشكون من المرية الشك، أو المراد يتمارون من المراء اللجاج وذلك أن اليهود قالوا: ساحر كذاب، وقالت النصارى ابن الله وثالث ثلاثة. ثم صرح ببطلان معتقدهم فقال: ما كانَ لِلَّهِ ما صح له وما استقام أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ كما لا يستقيم أن يكون له شريك، وقد مر مثل هذه الآية في سورة البقرة. والذي نزيده هاهنا أن بعضهم قال: معنى الآية ما كان الله أن يقول لأحد إنه ولدي لأن هذا الخبر كذب والكذب لا يليق بحكمته تعالى. وزعم الجبائي بناء على هذا التفسير أنه ليس لله أن يفعل كل شيء لأن قوله: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ كقولنا «ما كان لله أن يظلم» فلا يليق شيء منها بحكمته وكمال إلهيته. وأجيب بأن الكذب على الله محال، والظلم تصرف في ملك الغير فلا يتصوّر في حقه. فإن أردتم هذا المعنى فلا نزاع، وإن أردتم شيئا آخر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 فما الدليل على استحالته؟! احتج بعض الأشاعرة بالآية على قدم كلام الله لأن قوله: كُنْ إن كان قديما فهو المطلوب، وإن كان محدثا احتاج في حدوثه إلى قوله آخر وتسلسل. واستدلت المعتزلة بها على حدوث كلامه قالوا: إن قوله: إِذا قَضى للاستقبال وذلك القول متأخر عن القضاء المحدث، والمتأخر عن المحدث محدث. وأيضا الفاء في فَيَكُونُ للتعقيب والقول متقدم عليه بلا فصل، والمتقدم على المحدث بزمان قليل محدث، وكلا الاستدلالين ضعيف لأنه لا نزاع في حدوث الحروف وإنما النزاع في كلام النفس. وأيضا قوله: كُنْ عبارة عن نفاذ قدرته ومشيئته وإلا فليس ثم قول لأن الخطاب مع المعدوم عبث ومع الموجود تحصيل الحاصل. ومن الناس من زعم أن المراد من قوله: كُنْ هو صفة التكوين فإنها زائدة على صفة القدرة لأنه قادر على عوالم أخر سوى هذا وغير مكون لها، ولعل هذا الزاعم سمى تعلق القدرة بالمقدور تكوينا. ومن قرأ وَإِنَّ اللَّهَ بالفتح فمعناه ولأن الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ وفيه أن الربوبية هي سبب العبادة فمن لم تصح ربوبيته لم يستحق أن يعبد، ولا رب بالحقيقة إلا الله لانتهاء جميع الوسائط والأسباب إليه، فلا يستحق العبادة إلا هو. وهاهنا نكتة هي أن الله تعالى لا يصح أن يقول: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فالتقدير قل: يا محمد بعد إظهار البراهين الباهرة على أن عيسى عبد الله إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ قال أبو مسلم الأصفهاني: إنه من تتمة كلام عيسى وما بينهما اعتراض. وعن وهب بن منبه: عهد إليهم حين أخبرهم عن حاله وصفته أن كلنا عبيد الله تعالى فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي من بين أهل الكتاب. قال الكلبي: هم اليهود والنصارى. وقيل: النصارى اختلفوا ثم اتفقوا على أن يرجعوا إلى علماء زمانهم وهم يعقوب ونسطور وملكا فقيل للأول: ما تقول في عيسى؟ فقال: هو الله هبط إلى الأرض فخلق وأحيا ثم صعد إلى السماء فتبعه على ذلك خلق كثير وهم اليعقوبية. وسئل الثاني فقال: هو ابن الله فتابعه جم غفير وهم النسطورية، وسئل الثالث فقال: كذبوا وإنما كان عبدا مخلوقا نبيا يطعم وينام فصارا خصمه وهو المؤمن المسلم. وقيل: كانوا أربعة والرابع اسمه إسرائيل فقال: هو إله وأمه إله والثلاثة أقانيم والروح واحد. واعلم أن بحث الحلول والاتحاد فيه طول وقد ينجر الكلام فيه إلى مقامات يصعب الترقي إليها، فلذلك ضل فيه من ضل وزل عنه من زل والله سبحانه أعلى من جميع ذلك وأجل فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي من شهودهم هذا الجزاء والحساب في ذلك اليوم، أو من زمان شهودهم، أو من مكان شهودهم فيه وهو الموقف. ويحتمل أن يكون المشهد من الشهادة أي من يشهد عليهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 الملائكة والأنبياء أو جوارحهم فيه بالكفر والقبائح، أو من مكان الشهادة أو وقتها. وقيل: هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه يوم ولادته. ومعنى «من» التعليل أي الويل لهم من أجل المشهد وبسببه قال أهل البرهان: إنما قال هاهنا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وفي جم الزخرف فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا [الآية: 65] لأن الكفر أبلغ من الظلم، وقصة عيسى في هذه السورة مشروحة وفيها ذكر نسبتهم إياه إلى الله حتى قال: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ فذكر بلفظ الكفر، وقصتهم في الزخرف مهملة فوصفهم بلفظ دونه وهو الظلم. قلت: ويحتمل أن يقال: الظلم إذا أريد به الشرك كان أخص من الكفر فعمم أولا ثم خصص لأن البيان بالمقام الثاني أليق أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ صيغتان للتعجب والمراد أن هاتين الحاستين منهم جديران بتعجب منهما في ذلك اليوم بعد ما كانوا صما وعميا في الدنيا، وذلك لكشف الغطاء ولحاق العيان بالخبر. والتعجب استعظام الشيء بسبب عظمه، ثم جوز استعمال لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب أو من غير سبب. قال سفيان: قرأت عند شريح بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصافات: 12] فقال: إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم. فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: إن شريحا شاعر يعجبه علمه وعبد الله أعلم بذلك منه. والمعنى أنه صدر من الله فعل لو صدر مثله عن الخلق لدل على حصول التعجب في قلوبهم. وقيل: معنى الآية التهدد بما سيسمعون وسيبصرون مما يسوءهم. وقيل: أراد أسمع بهؤلاء وأبصر أي عرفهم مآل القوم الذين يأتوننا ليعتبروا وينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم. وقال الجبائي أن يراد أسمع الناس بهؤلاء وأبصرهم ليعتبروا بسوء عاقبتهم والوجه هو الأول يؤيده قوله: لكِنِ الظَّالِمُونَ أي لكنهم فوضع المظهر موضع المضمر. الْيَوْمَ وهو يوم التكليف فِي ضَلالٍ مُبِينٍ حيث أغفلوا النظر والاستماع وتركوا الجد والاجتهاد في تحصيل الزاد للمعاد وهو يَوْمَ الْحَسْرَةِ لتحسر أهل النار فيه. وقيل: أهل الجنة أيضا إذا رأى الأدنى مقام الأعلى، والأول أصح لأن هذه الخواطر لا توجد في الجنة لأنها دار السرور. وإِذْ بدل من يوم الحسرة أو منصوص بالحسرة. ومعنى قُضِيَ الْأَمْرُ فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عنه فقال: «يؤتى بالموت فيذبح كما يذبح الكبش والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرح وأهل النار غما إلى غم» «1» قال أرباب المعقول: إن الموت عرض فلا يمكن أن يصير حيوانا فالمراد أنه لا   (1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب: 51. مسلم في كتاب الجنة حديث 40، 43. الترمذي في كتاب الزهد باب: 39. ابن ماجه في كتاب الزهد باب: 38. أحمد في مسنده (2/ 118، 121) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 موت بعد ذلك. عن الحسن وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ متعلق بقوله: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وقوله: وَأَنْذِرْهُمْ اعتراض. ويحتمل أن يتعلق ب أَنْذِرْهُمْ أي أنذرهم على هذه الحال غافلين غير مؤمنين. ويحتمل أن يكون «إذ» ظرفا ل أَنْذِرْهُمْ أي أنذرهم حين قضي الأمر ببيان الدلائل وشرح أمر الثواب والعقاب. ثم أخبر عنهم أنهم في غفلة وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ثم قرر بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ أن أمور الدنيا كلها تزول وأن الخلق كلهم يرجعون إلى حيث لا يملك الحكم إلا الله وفيه من التخويف والإنذار ما فيه. التأويل: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ الأزلي مَرْيَمَ القلب إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها تفردت من أهل الدنيا متوجها إلى جانب شروق النور الإلهي فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حجاب الخلوة والعزلة فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا وهو نور الإلهام الرباني والخاطر الرحماني كقوله: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 521] فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا كما تمثل روح التوحيد بحروف «لا إله إلا الله» لانتفاع الخلق به. قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ ظنا منها أنه يشغلها عن الله. قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ الوارد الرباني لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا طاهرا عن لوث الظلمة الإنسية وهو النفس المطمئنة القدسية. وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ خاطر من عالم البشرية وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أطلب غير ما خلقت لأجله وهو التوجه إلى عالم الروح المجرد فَحَمَلَتْهُ بالقوة القريبة من الفعل فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا لافتقاره إلى العبور على منازل الشريعة والطريقة فَأَجاءَهَا مخاض الطلب والتعب إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ وهي كلمة «لا إله إلا الله» التي كان أصلها ثابتا في أرض نفسها قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا قال بعض أهل التحقيق: هذه كلمة يذكرها الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم. قال علّي عليه السلام يوم الجمل: يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وعن بلال: ليت بلالا لم تلده أمه. وقيل: إن مريم قالت ذلك لعلمها بأن الله تعالى يدخل النار خلقا كثيرا بسبب تهمتها وبسبب الغلو والتقصير في حق ابنها قلت: إن مريم القلب قالت يا ليتني مت عن اللذات الجسمية قبل هذا الوقت الذي فزت باللذات الحقيقية وكنت نسيا منسيا، فإن الخمول راحة والشهرة آفة فَناداها بلسان الحال من تحت تصرفها من آلات القوى أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ أي تحت تصرفك سَرِيًّا هو الغلام الموعود أو جدول الكشوف والعلوم الدينية وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ بالمداومة على الذكر تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا من المشاهدات والمكاشفات حالا فحالا فَكُلِي وَاشْرَبِي من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 خوان الأفضال وبحر النوال من مادته «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «1» وَقَرِّي عَيْناً بأنوار الجمال في حجرة الوصال فَإِمَّا تَرَيِنَّ من السوانح البشرية أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً كما قيل الدنيا يوم ولنا فيه صوم أي الالتفات لغير الله. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها من عادة الجهال إنكار أحوال أهل الكمال. يا أُخْتَ هارُونَ النفس المطمئنة أو الأمارة بناء على أن هارون كان صالحا أو طالحا وما كانَ أَبُوكِ وهو الروح المفارق امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ وهي القالب بَغِيًّا تستأنس إلى غير عالم الطبيعة التي خلقت لأجلها فَأَشارَتْ إِلَيْهِ فيه أن هذا القوم هم أهل الإشارات فِي الْمَهْدِ مهد السر وذلك المتولد من نفخ الروح في مريم القالب ليس ابنا لله ولا محلا له ولا نفسه. فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ فقوم عبدوا الله لأجله، وقوم عبدوه طمعا في جنته، وقوم عبدوا الهوى وذلك قوله: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أَسْمِعْ بِهِمْ أي بأهل الله وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا فإنهم بالله يسمعون وبه يبصرون. [سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 65] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)   (1) رواه البخاري في كتاب التمني باب: 9. مسلم في كتاب الصيام حديث 57. الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده (3/ 8) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 القراءات: رَبِّي إِنَّهُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو مُخْلَصاً بفتح اللام: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل. الباقون بكسرها. إبراهام وما بعده: هشام والأخفش عن ابن ذكوان إذا ابتلي بالياء التحتانية وكذلك في سورة الحج: قتيبة نُورِثُ بالتشديد: رويس. الوقوف: إِبْراهِيمَ ط نَبِيًّا هـ شَيْئاً هـ سَوِيًّا هـ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ط عَصِيًّا هـ وَلِيًّا هـ يا إِبْراهِيمُ ط ج وقد يوصل ويوقف على آلِهَتِي. مَلِيًّا هـ سَلامٌ عَلَيْكَ ج للابتداء بسين الاستقبال مع أن القائل واحد لَكَ رَبِّي ط حَفِيًّا هـ وَأَدْعُوا رَبِّي ز لانقطاع النظم والوصل أولى لأن عسى لطمع الإجابة بالدعاء شَقِيًّا هـ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا لأن ما بعده جواب لما وَيَعْقُوبَ ط نَبِيًّا هـ نَبِيًّا هـ عَلِيًّا هـ مُوسى ز للابتداء بأن مع أن المراد بالذكر إخلاص موسى نَبِيًّا هـ نَجِيًّا هـ نَبِيًّا هـ إِسْماعِيلَ ز لما مر نَبِيًّا هـ ج للأية مع العطف وَالزَّكاةِ ط مَرْضِيًّا هـ إِدْرِيسَ ز نَبِيًّا هـ عَلِيًّا هـ مَعَ نُوحٍ ز على تقدير ومن ذريته إبراهيم وما بعده قوم إذا تتلى عليهم، وكذا وجه من وقف على ذُرِّيَّةِ آدَمَ أو على إِسْرائِيلَ والأصح أن الكل عطف على ذرية آدم والوقف على قوله: وَاجْتَبَيْنا لئلا يحتاج إلى الحذف وليرجع ثناء السجود والبكاء إلى الكل وَبُكِيًّا هـ غَيًّا هـ شَيْئاً هـ لا بناء على أن جَنَّاتِ بدل من الْجَنَّةَ هـ بِالْغَيْبِ ط مَأْتِيًّا هـ سَلاماً هـ وَعَشِيًّا هـ تَقِيًّا هـ بِأَمْرِ رَبِّكَ ج لاختلاف الجملتين ذلِكَ ج لأن قوله: وَما كانَ معطوف على نَتَنَزَّلُ مع وقوع العارض نَسِيًّا ج هـ، لأن ما بعده بدل أو خبر مبتدأ محذوف لِعِبادَتِهِ ط سَمِيًّا هـ. التفسير: إن الذين أثبتوا معبودا سوى الله منهم من أثبت معبودا حيا عاقلا كالنصارى، ومنهم من عبد معبودا جمادا كعبدة الأوثان، وكلا الفريقين ضال إلا أن الفريق الثاني أضل. وحين بين ضلال الفريق الأول شرع في بيان ضلال الفريق الثاني تدرجا من الأسهل إلى الأصعب. وإنما بدأ بقصة إبراهيم عليه السلام لأنه كان أبا العرب وكانوا مقرين بعلوّ شأنه وكمال دينه فكأنه قال لهم: إن كنتم مقلدين فقلدوه في ترك عبدة الأوثان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 وعبادتها، وإن كنتم مستدلين فانظروا في الدلائل التي ذكرها على أبيه. والمراد بذكر الرسول إياه في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس كقوله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ [الشعراء: 69] وإلا فهو سبحانه هو الذي يذكره في تنزيله. وقوله: إِذْ قالَ بدل من إِبْراهِيمَ وما بينهما اعتراض، ولمكان هذا الاعتراض صار الوقف على إِبْراهِيمَ مطلقا. وجوز في الكشاف أن يتعلق «إذ» ب كانَ أو ب صِدِّيقاً نَبِيًّا أي كان جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات. والصديق من أبنية المبالغة فهي إما مبالغة صادق لأن ملاك أمر النبوة الصدق، وإما مبالغة مصدق وذلك لكثرة تصديقه الحق وهذا أيضا بالحقيقة يعود إلى الأول، لأن مصدق الحق لا يعتبر تصديقه. إلا إذا كان صادقا جدا في أقواله مصدقا لجميع من تقدم من الأنبياء والكتب، وكان نبيا في نفسه رفيع القدر عند الله وعند الناس بحيث جعل واسطة بينه وبين عباده. وقيل: إن «كان» بمعنى «صار» والأصح أنه بمعنى الثبوت والاستمرار أي إنه لم يزل موصوفا بالصدق والنبوة في الأوقات الممكن له ذلك فيها. والتاء في يا أَبَتِ عوض من ياء الإضافة وقد مر في أول سورة يوسف. أورد على أبيه الدلائل والنصائح وصدر كلا منها بالنداء المتضمن للرفق واللين استمالة لقلب أبيه وامتثالا لأمر ربه على ما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أوحى الله إلى إبراهيم إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة القدس وأدنيه من جواري» . فقوله: لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ منسيّ المفعول لا منويه فإن الغرض نفي الفعلين على الإطلاق دون التقييد. و «ما» موصولة أو موصوفة أي الذي لا يسمع أو معبودا لا يسمع وشَيْئاً مفعول به من قوله: «أغن عني وجهك» أي ادفعه. ويجوز أن يكون بمعنى المصدر أي شيئا من الإغناء، وعلى هذا يجوز أن يقدر نحوه مع الفعلين السابقين أي لا يسمع شيئا من السماع إلى آخره. وحاصل الدليل أن العبادة غاية الخضوع فلا يستحقها إلا أشرف الموجودات لا أخسها وهو الجماد غاية عذرهم عن تلك هي أنها تماثيل أشياء يتصوّر نفعها أو ضرها كالكواكب وغيرها فيقال لهم: أليس الكواكب وسائر الممكنات تنتهي في الاحتياج إلى واجب الوجود؟ فإذا جعل شيء من هذه الأشياء معبودا فقد شورك الممكن والواجب في نهاية التعظيم وهذا مما ينبو عنه الطبع السليم، ورفع الوسائط من البين أدخل في الإخلاص وأقرب إلى الخلاص. وقوله: يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي تنبيه ونصيحة وفيه أن هذا العلم تجدد له حصوله فيكون أقرب إلى التصديق. وفي قوله: مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فائدة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 هي أنه لم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال: إن معي طائفة من العلم ليست معك فلا تستنكف، وهب أنا في مفازة وعندي معرفة بالدلالة دونك فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا مستويا مؤدّيا إلى المقصود وهو صلاح المعاش والمعاد. استدل أرباب التعليم بالآية بأنه لا بد من الاتباع. وأجيب بأنه لا يلزم من اتباع النبي اتباع غيره. والإنصاف أن هذا الطريق أسهل. ثم أكد المعنى المذكور بنصيحة أخرى زاجرة عما هو عليه فقال: يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ أي لا تطعه فإن عبادة الأصنام هي طاعة الشيطان. ثم أسقط حصة نفسه إذ لم يقل إن الشيطان عدوّ لبني آدم بل قدّم حق ربه فقال: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا حين ترك أمره بالسجود عنادا واستكبارا لا نسيانا وخطأ، نبهه بهذه النصيحة على وجود الرحمن ثم على وجود الشيطان، وأن الرحمن مصدر كل خير، والشيطان مظهر كل شر بدلالة الموضوع اللغوي، وهذا القدر كاف من التنبيه لمن تأمل وأنصف. ثم بين الباعث على هذه النصيحة فقال: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ وفيه مع التخويف من سواء العاقبة أنواع من الأدب إذ ذكر الخوف والمس ونكر العذاب. قال الفراء: معنى أخاف أعلم. والأكثرون على أنه محمول على ظاهره لأن إبراهيم عليه السلام لم يكن جازما بموت أبيه على الكفر وإلا لم يشتغل بنصحه. والخوف على الغير ظن وصول الضرر إلى ذلك الغير مع تألم قلبه من ذلك كما يقال: أنا خائف على ولدي. وذكروا في الولي وجوها منها: أنه إذا استوجب عذاب الله كان مع الشيطان في النار والمعية سبب الولاية أو مسببها غالبا، وإطلاق أحدهما على الآخر مجاز. وليس هناك ولاية حقيقة لقوله: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الزخرف: 67] إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم: 22] ومنها أن حمل العذاب على الخذلان ومنها أن الولي بمعنى التالي والتابع قال جار الله: جعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أتباعه وأوليائه أكبر من نفس العذاب، لأن ولاية الشيطان في مقابلة رضا الرحمن وقال عز من قائل: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] وإذا كان رضوان الله أكبر من نعيم الجنة فولاية الشيطان أعظم من عذاب النار. ثم إن الشيخ قابل ملاطفات إبراهيم بالفظاظة والغلظة قائلا أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ فقدم الخبر على المبتدأ إشعارا بأنه عنده أعنى. وفي هذا الاستفهام ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته. وفي قوله: يا إِبْراهِيمُ دون أن يقول: «يا بني» في مقابلة يا أَبَتِ تهاون به كيف لا وقد صرح بالإهانة قائلا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ باللسان أي لأشتمنك أو باليد أي لأقتلنك وأصله الرمي بالرجام. ثم هاهنا إضمار أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 فاحذرني وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا أي زمانا طويلا من الملاوة، أو أراد مليا بالذهاب والهجران مطيقا له قويا عليه قبل أن أثخنك بالضرب. فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على التمرد والجهالة قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ يعني سلام توديع ومتاركة كقوله: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] وفيه أن متاركة المنصوح إذا ظهر منه آثار اللجاج من سنن المرسلين، ويحتمل أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له ورفقا به بدليل قوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا بليغا في البر والإلطاف وقد مر في آخر «الأعراف» . احتج بالآية بعض من طعن في عصمة الأنبياء قال: إنه استغفر لأبيه الكافر وهو منهي عنه لقوله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] الآية. ولقوله في الممتحنة قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ إلى قوله: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة: 4] فلو لم يكن هذا معصية لم يمنع من التأسي به. والجواب لعل إبراهيم عليه السلام في شرعه لم يجد ما يدل على القطع بتعذيب الكافر أو لعل بهذا الفعل منه من باب ترك الأولى، أو لعل الاستغفار بمعنى الاستبطاء كقوله: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية: 14] والمعنى سأسأل ربي أن يخزيك بكفرك ما دمت حيا. والجواب في الحقيقة ما مر في آخر سورة التوبة في قوله عز من قائل وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التوبة: 114] والمنع من التأسي لا يدل على المعصية، فلعل الاستغفار مع ذلك الشرط كان من خصائصه كما أن كثيرا من الأمور كانت مباحة للرسول الله صلى الله عليه وسلم هي محرمة علينا. ثم صرح بما تضمنه السلام من التوديع والهجران فقال: وَأَعْتَزِلُكُمْ أي أهاجر إلى الشام وَأعتزل ما تَدْعُونَ أي ما تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ وقد يعبر بالدعاء عن العبادة لأنه منها ومن وسائطها، يدل على هذا التفسير قوله: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ أما قوله: وَأَدْعُوا رَبِّي فيحتمل معنيين: العبادة والدعاء كما يجيء في سورد الشعراء. وفي قوله: عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا تعريض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم وعبادتها مع التواضع وهضم النفس المستفاد من لفظ عَسى. قال العلماء: ما خسر على الله أحد فإن إبراهيم لما ترك أباه الكافر وقومه فرارا بدينه عوّضه الله أولادا مؤمنين أنبياء وذلك قوله: وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ شيئا مِنْ رَحْمَتِنا عن الحسن: هي النبوة. وعن الكلبي: المال والولد. والأظهر أنها عامة في ذلك كل خير ديني ودنيوي ولسان الصدق الثناء الحسن، عبر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 492 باللسان عما يوجد به كما عبر باليد عما يطلق بها وهو العطية وقد مر تحقيق الإضافة في أول يونس في قوله: قَدَمَ صِدْقٍ [يونس: 2] تبرأ إبراهيم من أبيه ابتغاء مرضاة الله فسماه الله أبا بالمؤمنين مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الحج: 78] ، وتل ولده للجبين ففداه الله بذبح عظيم، وأسلم نفسه لرب العالمين فجعل النار عليه بردا وسلاما، وأشفق على هذه الأمة فقال وابعث فيهم رسولا، فأشركه الله في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس، ووفى في حق سارة كما قال تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37] فجعل موطىء قدمه مباركا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125] وعادى كل الخلق في الله حين قال فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 77] فلا جرم اتخذه الله خليلا. ثم قفى قصة إبراهيم بقصة موسى عليه السلام لأنه تلوه في الشرف. والمخلص بكسر اللام الذي أخلص العبادة عن الشرك والرياء وأخلص وجهه لله، وبالفتح الذي أخلصه الله وكانَ رَسُولًا نَبِيًّا الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء والنبي الذي ينبىء عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب، وكان المناسب ذكر الأعم قبل الأخص إلا أن رعاية الفاصلة اقتضت عكس ذلك كقوله في طه بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى [طه: 7] الْأَيْمَنِ من اليمين أي من ناحية اليمنى من موسى أو هو من اليمن صفة للطور أو للجانب وَقَرَّبْناهُ حال كونه نَجِيًّا أي مناجيا شبه تكليمه إياه من غير واسطة ملك بتقريب بعض الملوك واحدا من ندمائه للمناجاة والمسارة. وعن أبي العالية أن التقريب حسي، قربه حتى سمع صريف القلم الذي كتبت به التوراة والأول أظهر، ومنه قولهم للعبادة «تقرب» وللملائكة «أنهم مقربون» . وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أي من أجلها أي بعض رحمتنا فيكون أَخاهُ بدلا وهارُونَ عطف بيان كقولك «رأيت رجلا أخاك زيدا» . ونَبِيًّا حال من هارون. قال ابن عباس: كان هارون أكبر من موسى فتنصرف الهبة إلى معاضدته وموازرته. وذلك بدعاء موسى في قوله: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي [طه: 29] وخص إسماعيل بن إبراهيم بصدق الوعد وإن كان الأنبياء كلهم صادقين فيما بينهم وبين الله أو الناس، لأنه المشهور المتواصف من خصاله من ذلك: أنه وعد نفسه الصبر على الذبح فوفى به. وعن ابن عباس أنه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه واعد رجلا ونسي ذلك الرجل فانتظره من الضحى إلى قريب من غروب الشمس. وسئل الشعبي عن الرجل يعد ميعاده إلى أي وقت ينتظره؟ فقال: إذا واعدته في وقت الصلاة فانتظره إلى وقت صلاة أخرى. وكان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لغيرهم ولأن الابتداء بالإحسان الديني والدنيوي بمن هو أقرب أولى قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: 6] «بدأ بمن تعول» ويحسن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 أن يقال: أهله أمته كلهم أقارب أو أباعد من حيث إنه يلزمه في جميعهم ما يلزم المرء في أهله خاصة من قضاء حقوق النصيحة والشفقة ورعاية مصالحهم الدينية والدنيوية. وعلى القولين يندرج في الصلاة الصلوات المفروضة والمندوبة كصلاة التهجد وغيرها، وأما الزكاة فالأقرب أنها الصدقة المفروضة. وعن ابن عباس أنها طاعة الله والإخلاص لأن فاعلها يزكو بها عند الله. وأما إدريس فالأصح أنه اسم عجمي بدليل منع الصرف كما مر مرارا في آدم ويعقوب وغيرهما. وقيل: «افعيل» من الدرس لكثرة دراسته كتاب الله، ولعل معناه بالأعجمية قريب من الدراسة فظنه القائل مشتقا منها. وفي رفعته أقوال منها: أن المكان العليّ شرف النبوة والزلفى عند الله، وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة، وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب، وأول من خاط الثياب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود، واسمه أخنوخ من أجداد نوح لأنه نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وأهل التنجيم بعضهم يسمونه هرمس ولهم نوادر في استخراج طوالع المواليد ينسبونه إليه. وقيل: إن الله تعالى رفعه إلى السماء وإلى الجنة وهو حي لم يمت. وقال آخرون: رفع إلى السماء وقبض روحه. عن ابن عباس أنه سأل كعبا عن قوله: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا قال: جاء خليل من الملائكة فسأله أن يكلم ملك الموت حتى يؤخر قبض روحه، فحمله ذلك الملك بين جناحيه فصعد به، فلما كان في السماء الرابعة إذ بملك الموت يقول: بعثت لأقبض روح إدريس في السماء الرابعة وأنا أقول: كيف ذلك وهو في الأرض؟ فالتفت إدريس فرأى ملك الموت فقبض روحه هناك. وعن ابن عباس أنه رفع إلى السماء السادسة. وعن الحسن: المراد أنه رفع إلى الجنة ولا شيء أعلى منها. أُولئِكَ المذكورون من لدن زكريا إلى إدريس هم الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ «من» للبيان لأن جميع الأنبياء منعم عليهم مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ هي للتبعيض وكذا في قوله: وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ والمراد بمن هو من ذرية آدم إدريس لقربه منه، وبذرية من حمل مع نوح إبراهيم عليه السلام لأنه من ولد سام بن نوح، وبذرية إبراهيم إسماعيل، وبذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم لأن مريم من ذريته. وَمِمَّنْ هَدَيْنا يحتمل العطف على من الأولى والثانية وفي هذا الترتيب تنبيه على أن هؤلاء الأنبياء اجتمع لهم مع كمال الأحساب شرف الأنساب، وأن جميع ذلك بواسطة هداية الله وبمزية اجتنائه واصطفائه. ثم إن جعلت الَّذِينَ خبرا ل أُولئِكَ كان إذا يتلى كلاما مستأنفا، وإن جعلته صفة له كان خبرا وقد عرفت في الوقوف سائر الوجوه من قرأ يتلى بالتذكير لأن تأنيث الآيات غير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 حقيقي والفاصل حاصل. والبكي جمع باك «فعول» كسجود في «ساجد» أبدلت الواو ياء وأدغمت وكسر ما قبلها للمناسبة. ومن زعم أنه مصدر فقدسها لأنها قرينة سجدا. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» «1» أراد بالآيات التي فيها ذكر العذاب. وقال غيره: إطلاق الآيات والحديث المذكور يدل على العموم لأن كل آية إذا فكر فيها المفكر صح أن يسجد عندها ويبكي. قلت: لعل المراد بآيات الله ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة، لأن القرآن حينئذ لم يكن منزلا واختلفوا في السجود. فقيل: هو الخشوع والخضوع. وقيل: الصلاة. وقيل: سجدة التلاوة على حسب ما تعبدنا به. ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا يتعبدون بالسجود. قال الزجاج: الإنسان في حال خروره لا يكون ساجدا فالمراد خروا متهيئين للسجود. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤا القرآن بحزن فإنه نزل بحزن» «2» . وعن ابن عباس: إذا قرأتم سجدة «سبحان» فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وقالت العلماء: يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة «سبحان» قال: اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك. وإن قرأ ما في هذه السورة قال: اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهديين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك. ولما مدح هؤلاء الأنبياء ترغيبا لغيرهم من سيرتهم وصف أضدادهم لتنفير الناس عن طريقتهم قائلا فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وهو عقب السوء كما مر في آخر «الأعراف» فإضاعة الصلاة في مقابلة الخرور سجدا، واتباع الشهوات بإزاء البكاء. عن ابن عباس: هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلوا نكاح الأخت من الأب. وعن إبراهيم النخعي ومجاهد: أضاعوها بالتأخير. وعن علي رضي الله عنه في قوله: وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ من بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور. وعن قتادة: هو في هذه الأمة فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا قال جار الله: كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد. وقال الزجاج: هو على حذف المضاف أي جزاء غي كقوله: يَلْقَ أَثاماً [الفرقان: 68] أي مجازاة أثام. وقيل: غيا من طريق الجنة. وقيل: هو واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها احتج بعضهم بقوله: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ على أن تارك الصلاة كافر وإلا لم يحتج إلى   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة 176. كتاب الزهد باب 19. (2) رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب: 176. [ ..... ] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 تجديد الإيمان. والجواب أنه إذا كان المذكورون هم الكفرة أو اليهود- كما رويناه عن ابن عباس- سقط الاستدلال. واحتجت الأشاعرة في أن العمل ليس من الإيمان لأن العطف دليل التغاير. وأجاب الكعبي بأنه عطف الإيمان على التوبة مع أنها من الإيمان، ومنع من أن التوبة من الإيمان ولكنها شرطه لأنها العزم على الترك والإيمان إقرار باللسان، وإنما حذف الموصوف هاهنا وقال في الفرقان وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الفرقان: 70] لأنه أوجز في ذكر المعاصي فأوجز في التوبة وأطال هناك فأطال هناك. وهذا الاستثناء بحسب الغالب فقد يتوب عن كفره ويؤمن ولم يدخل بعد وقت الصلاة، أو كانت المرأة حائضا ثم مات فهو من أهل النجاة مع أنه لم يعمل صالحا. ومعنى لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً لا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم بل يضاعف لهم تفضلا تنبيها على أن تقدم الكفر لا يضرهم بعد أن يتوبوا، ويحتمل أن ينتصب شَيْئاً على المصدر أي شيئا من الظلم. ومعنى جَنَّاتِ عَدْنٍ قد مر في سورة التوبة في قوله: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [التوبة: 72] وصفها الله تعالى بالإقامة والدوام خلاف ما عليه جنان الدنيا. ولما كانت الجنة مشتملة على جنات عدن أبدلت منها، ويحتمل انتصابها على الاختصاص وكذا انتصاب «التي» . قال جار الله: عدن علم بمعنى العدن وهو الإقامة وهو علم لأرض الجنة لكونها مكان إقامة ولولا ذلك لما ساغ الإبدال، لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة. ولما ساغ وصفها ب «التي» ومعنى بِالْغَيْبِ مع الغيبة أي وعدوها وهي غائبة عنهم غير حاضرة، أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها، أو الباء للسببية أي وعدها عباده بسبب تصديق الغيب والإيمان به خلاف حال المنافقين. وقوله: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا بالأول أنسب وهو مفعول بمعنى «فاعل» ، أو على أصله لأن ما أتاك فقد أتيته. وجوز في الكشاف أن يكون. من قولك: «أتى إليك إحسانا» أي كان وعده مفعولا منجزا. قوله: إِلَّا سَلاماً استثناء متصل على التأويل لأن اللغو فضول الكلام وما لا طائل تحته كما تقدم في يمين اللغو في «البقرة» وفي «المائدة» أي إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغوا فلا يسمعون لغوا إلا ذلك كقولهم «عتابك السيف» . أو استثناء منقطع أي لا يسمعون فيها إلا قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة، ويجوز أن يكون متصلا بتأويل آخر وهو أن معنى السلام الدعاء بالسلامة وأهل دار السلام عن الدعاء بالسلامة أغنياء، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام. وفي الآية تنبيه ظاهر على وجوب اتقاء اللغو حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. ثم إنه سبحانه من عادته ترغيب كل قوم بما أحبوه في الدنيا فلذلك ذكر أساور من الذهب والفضة لبس الحرير التي كانت للعجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرة، وكانت من عادة أشرف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء لأنها العادة الوسطى المحمودة للمتنعمين منهم فوعدهم بذلك قائلا: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا هذا قول الحسن. ولا يكون ثم ليل ولا نهار ولكن على التقدير أي يأكلون على مقدار الغداة إلى العشي. وقيل: أراد دوام الرزق كما تقول: أنا عند فلان صباحا ومساء تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين. وقوله: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ كقوله في «الأعراف» وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها [الأعراف: 43] وهي استعارة أي تبقى عليهم الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث منه. قال القاضي: في الآية دلالة على أن الجنة يختص بدخولها من كان متقيا غير مرتكب للكبائر. وأجيب بمنع الاختصاص وبأنه يصدق على صاحب الكبيرة أنه اتقى الكفر. سئل هاهنا أن قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ كلام الله وقوله بعده: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ خطاب ليس من كلام الله فما وجه العطف بينهما؟ وأجيب بأنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح، فظاهر قوله: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ خطاب جماعة لواحد وأنه لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول كما روي أن قريشا بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وهل يجدونه في كتابهم. فسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه، وقالت اليهود: نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمان اليمامة عن خصال ثلاث فلم يعرف فاسألوه عنهن، فإن أخبركم بخصلتين منها فاتبعوه، فاسألوه عن فئة أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فلم يدر كيف يحيب، فوعدهم الجواب ولم يقل: إن شاء الله. فاحتبس الوحي عليه أربعين يوما- وقيل خمسة عشر يوما- فشق عليه ذلك مشقة شديدة. وقال المشركون: ودعه ربه وقلاه. فنزل جبرائيل عليه السلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أبطأت عني حتى ساء طني واشتقت إليك. قال: كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست. فأنزل الله الآية وأنزل قوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً [الكهف: 23] وسورة الضحى. ومعنى التنزل على ما يليق بهذا الموضع هو النزول على مهل أي نزولنا في الأحايين وقتا غب وقت ليس إلا بأمر الله عز وجل. ثم أكد جبرائيل ما ذكره بقوله: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا من الجهات والأماكن أو من الأزمنة الماضية والمستقبلة وما بينهما من المكان والزمان الذي نحن فيه فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة، أو من زمان إلى زمان إلا بأمر ربك ومشيئته. وقيل: له ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة وَما بَيْنَ ذلِكَ وهو ما بين النفختين أربعون سنة. وقيل: ما مضى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 من أعمارنا وما غبر منها والحال التي نحن فيها أو ما قبل وجودنا وبعد فنائنا. وقيل: الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا. والسماء التي وراءنا، وما بين السماء والأرض وعلى الأقوال فالمراد أنه المحيط بكل شيء لا يخفى عليه خافية. ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة فكيف يقدم على فعل إلا بأمره! وقال أبو مسلم: في وجه النظم إن قوله: وَما نَتَنَزَّلُ من قول أهل الجنة لمن بحضرتهم أي ما ننزل الجنة إلا بأمر ربك. أما قوله: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا فعلى القول الأول معناه أنه ما كان امتناع النزول إلا لعدم الإذن ولم يكن لترك الله إياكم لقوله: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضحى: 3] وعلى قول غير أبي مسلم هو تأكيد لإحاطته تعالى بجميع الأشياء، وأنه لا يجوز عليه أن يسهو عن شيء ما البتة. وعلى قول أبي مسلم المراد أنه ليس ناسيا لأعمال العاملين فيثيب كلا منهم بحسب عمله فيكون من تتمة حكاية قول أهل الجنة، أو ابتداء كلام من الله تعالى خطابا لرسوله ويتصل به قوله: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي بل هو ربهما وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ الفاء للسببية لأن كونه رب العالمين سبب موجب لأن يعبد وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ لم يقل «على عبادته» لأنه جعل العبادة بمنزلة القرن في قولك للمحارب «اصطبر لقرنك» أي أوجد الاصطبار لأجل مقاومته. ثم أكد وجوب عبادته بقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي ليس له مثل ونظير حتى لا تخلص العبادة له، وإن عديم النظير لا بد أن يصبر على مواجب إرادته وتكاليفه خصوصا إذا كانت فائدتها راجعة إلى المكلف. وقيل: أراد أنه لا شريك له في اسمه وبيانه في وجهين: أحدهما أنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن إلا أنهم لم يطلقوا لفظ الله على من سواه. وعن ابن عباس: أراد لا يسمى بالرحمن غيره. قلت: وهذا صحيح ولعله هو السر في أنه لم يكرر لفظ «الرحمن» في سورة تكريره في هذه السورة. وثانيهما هل تعلم من سمي باسمه على الحق دون الباطل لأن التسمية على الباطل كلا تسمية. التأويل: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ الأزلي إِبْراهِيمَ القلب إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً للتصديق ثلاث مراتب: صادق صدق في أقواله، وصادق صدق في أخلاقه وأحواله، وصديق صدق في قيامه مع الله في الله بالله وهو الفاني عن نفسه الباقي بربه إِذْ قالَ لِأَبِيهِ الروح الذي يعبد صنم الدنيا بتبعية النفس قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ اللدني ما لَمْ يَأْتِكَ لما ذكرنا أن القلب محل للفيض الإلهي أقبل من الروح كالمرآة فإنها تقبل النور لصفائها وينعكس النور عنها لكثافتها وصقالتها وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ السر وَيَعْقُوبَ الخفي وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ أسمعنا موسى القلب من جانب طور الروح لا من جانب وادي النفس الذي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 هو على أيسر وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ أي الجسم والنفس والقلب والروح بالصلاة له توجه كل منهم توجها يليق بحاله، وبالزكاة أي تزكية كل واحد منهم من الأخلاق الذميمة وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا في مقعد صدق عند مليك مقتدر خَرُّوا بقلوبهم على عتبة العبودية سُجَّداً بالتسليم للأحكام الأزلية وَبُكِيًّا بكاء السمع يذوبان الوجود على نار الشوق والمحبة عِبادَهُ بِالْغَيْبِ أي بغيبتهم عن الوجود قبل التكوين كقوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة: 111] وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ رؤية الله على ما جاء في الحديث: «وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوّا وعشيا» وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ المقدور في علم الله، وتنادى أهل العزة من سرادقات العزة أن يا أهل الطبيعة أفيقوا من المتمنيات فإنا ما ننزل من عالم الغيب. إلا بأمر ربك وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ليحتاج إلى تذكير متمن، بل هو رب سموات الأرواح وأرض الأجساد وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار له فَاعْبُدْهُ بأركان الشريعة بجسدك وبآداب الطريقة بنفسك وبالإعراض عن الدنيا والإقبال على المولى بقلبك وبالفناء في الله والبقاء به بروحك وبسرك. هَلْ تَعْلَمُ لَهُ نظيرا في المحبوبية لك. والله أعلم بالصواب. [سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 98] وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 القراآت: أَإِذا مثل أَإِنَّكُمْ في «الأنعام» يَذْكُرُ من الذكر: ابن عامر ونافع وعاصم وسهل وروح والمعدل عن زيد. والآخرون بتشديد الذال من التذكر مدغما. ثُمَّ نُنَجِّي من الإنجاء: عليّ وروح والمعدل عن زيد. الآخرون بالتشديد خَيْرٌ مَقاماً بضم الميم: ابن كثير. الباقون بفتحها. ريا بالتشديد: أبو جعفر ونافع عن ورش وابن ذكوان والأعشى وحمزة في الوقف، وعن حمزة أيضا بالهمزة في الوقف ليدل على أصل اللغة. الآخرون بهمز بعدها يا وَوَلَداً وما بعده بضم الواو سكون اللام: حمزة وعليّ. الآخرون بفتحهما يكاد على التذكير: نافع وعليّ ينفطرن من الانفطار: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وخلف وابن عامر والمفضل وأبو بكر وحماد والخزاز عن هبيرة. الباقون يَتَفَطَّرْنَ من التفطر. الوقوف: حَيًّا هـ شَيْئاً هـ جِثِيًّا هـ ج للآية وللعطف عِتِيًّا هـ ج لذلك صِلِيًّا هـ وارِدُها ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى مَقْضِيًّا هـ تقريبا للنجاة من الورود مع أن «ثم» لترتيب الأخبار جِثِيًّا هـ آمَنُوا لا لأن ما بعده مفعول «قال» نَدِيًّا هـ وَرِءْياً هـ مَدًّا هـ لأن «حتى» لانتهاء مدد الضلالة أو لابتداء الرؤية وجواب «إذا» محذوف وهو «آمنوا» السَّاعَةَ ط لابتداء التهديد جُنْداً هـ هُدىً هـ مَرَدًّا هـ وَوَلَداً هـ ط لابتداء الاستفهام للتقريع عَهْداً ط هـ للردع كَلَّا ط مَدًّا هـ لا للعطف فَرْداً هـ عِزًّا هـ كَلَّا ط ضِدًّا هـ أَزًّا هـ لا للتعجيل عَلَيْهِمْ ط عَدًّا هـ ط وَفْداً هـ ط وِرْداً هـ لئلا تشتبه الجملة بالوصف لهم عَهْداً هـ م حذرا من إيهام العطف وَلَداً هـ ط إِدًّا هـ لا لأن ما بعده صفة هَدًّا هـ لا لأن التقدير لأن دعوا وَلَداً هـ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف وَلَداً هـ ط عَبْداً هـ ط فَرْداً هـ وُدًّا هـ مِنْ قَرْنٍ ط رِكْزاً هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 500 التفسير: لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته بالتبعية أن يعبدوا الله ويصطبروا لعبادته كان لمنكر أن يعترض بأن هذه العبادات لا منفعة فيها في الدنيا لأنها مشقة ولا في الآخرة لاستبعاد حشر الأجساد إلى حالها، فلا جرم حكى قول المنكر ليجيب عن ذلك فقال: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ وهو للجنس لأن هذا الاستغراب مركوز في الطباع قبل النظر في الدليل، أو لأن هذا القول إذا صدر عن بعض الأفراد صح إسناده إلى بني نوعه لأنه منهم كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانا وإنما القاتل واحد منهم. وقيل: المراد بالإنسان هاهنا شخص معين هو أبو جهل أو أبي بن خلف. وقيل: بعض الجنس هم الكفرة. وانتصب «إذا» بفعل مضمر يدل عليه أُخْرَجُ المذكور لا نفسه لأن ما بدعه لام الابتداء لا يعمل فيما قبله. لا تقول: اليوم لزيد قائم. وإنما جاز الجمع بين حرف الاستقبال وبين لام الابتداء المفيدة للحال، لأن اللام هاهنا خلصت لأجل التأكيد كما خلصت الهمزة في «يا الله» للتعويض، واضمحل عنها معنى التعريف. و «ما» في «إذا» ما للتوكيد أيضا وكأنهم قالوا مستنكرين: أحقا أنا سنخرج أحياء حين تمكن فينا الفناء بالموت؟ والمراد بالخروج إما الخروج من الأرض أو الخروج من حال الفناء أو الندور ومن قولهم: «خرج فلان عالما» إذا كان نادرا في العلم فكأنه قال على سبيل الهزء: سأخرج حيا نادرا. وإنما قدم الظرف وأولى حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة ومنه جاء الإنكار كقولك لمن أساء إلى محسنه «أحين تمت عليك نعمة فلان أسأت إليه» ؟! ولما كان الإنسان لا يصدر عنه هذا الإنكار إلا إذا لم يتذكر أو لم يذكر النشأة الأولى قال سبحانه منبها على ذلك أَوَلا يَذْكُرُ وهاهنا إضمار تقديره أيقول ذلك ولا يذكر. وزعم جار الله أن الواو عطفت لا يذكر على يقول في قوله: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف الجر. قال العقلاء: لو اجتمعت الخلائق على إيراد حجة في البعث أوجز من هذه لم يقدروا عليها، لأن خلق الذات مع الصفات أصعب من تغيير الذات في أطوار الصفات، وهذا معلوم لكل صانع يتكرر عنه عمل، لأن الأول لم يستقر بعد في خزانة خيال. والثاني قد ارتسم واستقر وثبت له مثال واحتذاء. وإذا كان حال من يتفاوت في قدرته الصعب والسهل كذلك، فما الظن بمن لا يتوقف مقدوره إلا على مجرد تعلق الإرادة الأزلية به؟ وفي قوله: وَلَمْ يَكُ شَيْئاً بحث قد مر في أول السورة مثله. وحين نبه على النكتة الضرورية أكدها بالإقسام قائلا فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ الفاء للاستئناف وهو يفيد الإعراض عن قصة والشروع في أخرى عقيبها والواو للقسم وشرف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 501 المقسم به دليل كمال العناية بالمقسم عليه، وإضافة القسم إلى المخاطب وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع المفسرين تفخيم لشأنه ورفع من مقداره، والواو في وَالشَّياطِينَ إما للعطف وإما بمعنى مع بناء على أن كل كافر مقرون مع شيطانه في سلسلة، وإذا حشر جميع الناس حشرا واحدا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا مع الشياطين بل الكفرة، وإن كان الضمير عائدا إلى منكري البعث فقط فلا إشكال. وكذا في قوله: لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا أي جثيا على الركب غير مشاة على أقدامهم لما يدهشهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على الأرجل، أو على العادة المعهودة في مواقف مطالبات الملوك ومقاولاتهم. ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ لنميزن مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ طائفة شاعت أي تبعت غاويا من الغواة، وقد سبق تفسيره في الأنعام. أَيُّهُمْ أَشَدُّ قرىء بالنصب وهو ظاهر، وأما المقتصرون على الضم فذهب سيبويه إلى أنها مبنية كيلا يلزم خلاف القياس من وجهين: أحدهما إعراب أيّ مع أن من حق الموصول أن يبنى، والآخر حذف المبتدأ مع الأصل فيه أن يكون مذكورا والتقدير: أيهم هو أشد. وذهب الخليل إلى أنها معربة ولكنها لم تنصب على أن تكون مفعول لَنَنْزِعَنَّ بل رفعت بتقدير الحكاية أي من كل شيعة مقول فيهم أيهم أشد، فيكون من كل شيعة مفعول لَنَنْزِعَنَّ كقولك «أكلت من كل طعام» أي بعضا من كل. ويجوز أن يقدّر لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد، قال سيبويه: لو جاز «اضرب أيهم» أفضل على الحكاية لجاز «اضرب الفاسق الخبيث» أي الذي يقال له الفاسق الخبيث وهذا باب قلما يصار إليه في سعة الكلام. ومذهب يونس في مثله أن الفعل الذي قبل «أيّ» معلق عن العمل، ويجيز التعليق في غير أفعال القلوب. ثم إن علقت قوله: عَلَى الرَّحْمنِ ب أَشَدَّ كقولهم: «هو أشد على خصمه» فظاهر، وإن علقته بالمصدر فذلك لا سبيل إليه عند النحويين لأن المصدر لا يعمل فيما قبله. فالوجه أن يقال: إنه بيان للمحذوف فكأنه سئل إن عتوّه على من؟ فقيل: على الرحمن. وكذا الكلام في أَوْلى بِها صِلِيًّا تعلق المجرور بأفعل من غير تأويل أو ب صِلِيًّا على التأويل. صلى فلان النار يصلى صليا إذا احترق. أخبر أوّلا أنه يميز من كل فرقة ضالة من هو أضل ثم بين بقوله: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا أنه يطرحهم أي أهل الضلال البعيد في النار على الترتيب يقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم، ولا ريب أن الضال المضل يكون أولى بالتقدم من الضال، وكذا الكافر المعاند بالنسبة إلى المقلد وإن كانوا جميعا مشتركين في شدة العتوّ. ويجوز أن يراد بالذين هم أولى المنتزعين كما هم كأنه قال: ثم لنحن أعلم بتصلية هؤلاء وأنهم أولى بالصلي لكون دركاتهم أسفل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 502 وَإِنْ مِنْكُمْ الخطاب للناس من غير التفات، أو للإنسان المذكور فيكون التفاتا، وعلى التقديرين فإن أريد الجنس كأنه لم يكن في قوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا إشكال، ولكنه يشكل بأن المؤمنين كيف يردون النار؟ وأجيب بما روي عن جابر بن عبد الله أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض: أليس وعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم: قد وردتموها وهي خامدة» . وعنه أيضا رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم حتى إن للناس ضجيجا من بردها» . وأما قوله: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ فالمراد عن عذابها. وعن ابن عباس: يردونها كأنها إهالة. ومنهم من لم يفسر الورود هاهنا بالدخول لأن ابن عباس قال: قد يرد الشيء الشيء ولم يدخله كقوله تعالى: لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القصص: 23] ومعلوم أن موسى لم يدخل الماء ولكنه قرب منه. ويقال: وردت القافلة البلد إذا قربت منه، فالمراد بالورود جثوهم حولها. وعن ابن مسعود والحسن وقتادة: هو الجواز على الصراط لأن الصراط ممدود عليها. وعن مجاهد: هو مس الحمى جسده في الدنيا قال عليه السلام: «الحمى من فيح جهنم» «1» وفي رواية «الحمى حظ كل مؤمن من النار» . وإن أريد بالناس أو بالإنسان الكفرة فلا إشكال في ورودهم النار ولكنه لا يطابقه قوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ووجه بأنه أراد أن المتقين يساقون إلى الجنة عقيب ورود الكفار لا أنهم يوردونها يتخلصون. أسئلة: كيف يندفع عنهم ضرر النار عند من فسر الورود بالدخول؟ زعم بعضهم أن البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها مواضع خالية عن النار أشباه الطرق إلى دركات جهنم، والمؤمنون يردون تلك المواضع. والأصح أنه سبحانه يزيل عنها طبيعة الإحراق بالنسبة إلى المؤمنين وهو على كل شيء قدير، ولهذا لا تضر النار الملائكة الموكلين بالعذاب. ما الفائدة في إيراد المؤمنين النار إذا لم يعذبوا بها؟ فيه وجوه منها: أن يزدادوا سرورا إذا رأوا الخلاص منها. ومنها افتضاح الكافرين إذا اطلع المؤمنون عليهم. ومنها أن المؤمنين يوبخون الكفار ويسخرون منهم كما سخروا في الدنيا. ومنها   (1) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق باب: 10. كتاب الطب باب: 28. مسلم في كتاب السلام حديث 78، 79. الترمذي في كتاب الطب باب: 25. ابن ماجه في كتاب الطب باب: 91. الدارمي في كتاب الرقاق باب: 55. الموطأ في كتاب العين حديث 16. أحمد في مسنده (1/ 291) (2/ 21، 85) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 503 أن يزيد التذاذهم بالجنة فبضدها تتبيّن الأشياء. هل ثبت في الأخبار كيفية دخول النار ثم خروج المتقين منها؟ قد ثبت أن الحاسبة تكون في الأرض أو في موضعها لقوله: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إبراهيم: 48] وجهنم قريبة من الأرض والجنة في السماء. فالاجتماع يكون في موضع الحساب ثم يدخلون من ذلك الموضع إلى جهنم، ثم يرفع الله أهل الجنة ويبقى أهل النار فيها. قلت: هذا على رأي الفلاسفة الإسلاميين ظاهر، فالمحاسبة تكون في الأرض ومرور الكل يكون على كرة النار، ثم يرفع أهل الكمال إلى السماء ويبقى الكفرة في النار ويؤيده قوله: كانَ أي الورود عَلى رَبِّكَ حَتْماً أي محتوما مصدر بمعنى المفعول مَقْضِيًّا قضى به وعزم أن لا يكون غيره، وذلك أن العبور من جميع الجوانب على كرة النار. وأجمعت المعتزلة بذلك على أن العقاب واجب على الله عقلا. وقال الأشاعرة: شبه بالواجب من قبل استحالة يطرق الخلف إليه. وقد سبق أن المتقي عند المعتزلة من يجتنب المعاصي كلها، وعند غيرهم هو الذي اجتنب الشرك فقط، وقد يهدم بالآية قاعدة القائل بمنزلة بين المنزلتين. وأجيب أن تنجية المتقين أعم من أن تكون إلى الجنة أو إلى غيرها، وهب أن تنجيتهم إلى الجنة إلا أن الذي طاعته ومعصيته سيان غير داخل في المتقين ولا في الظالمين فيبقى حكمة مسكوتا عنه. ومن المعتزلة من تمسك بالوعيد بقوله: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ ومنع أن الصيغة للعموم، ولو سلم فمخصص بآيات الوعد لما ردّ على منكري البعث وقرر كيفية الحشر. قال: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الآية، والمراد أنهم عارضوا حجة الله بكلام أعوج فقالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من حالنا ولم يكن بالعكس، لأن الحكيم لا يليق به أن يهين أولياءه ويعز أعداءه. يروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون ثم يدّعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله عز وجل منهم. قال جار الله: معنى بينات مرتلات الألفاظ ملخصات المعاني مبينات المقاصد، إما محكمات أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو بتبيين الرسول قولا أو فعلا، أو ظاهرات الإعجاز تحدى بها فلم يقدر على ما معارضتها، أو حججا وبراهين. وعلى التقادير تكون حالا مؤكدة كقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [البقرة: 91] لأن آيات الله لا تكون إلا بهذه الأوصاف. ومعنى لِلَّذِينَ آمَنُوا أنهم يخاطبونهم بذلك أو يفوهون به لأجلهم وفي شأنهم. والمقام بالضم موضع الإقامة أي المنزل، وبالفتح موضع القيام، والنديّ المجلس ومجتمع القوم حيث ينتدون. قوله: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ يعني المؤمنين بالآيات والجاحدين لها من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 504 الكلام المنصف على زعمهم، والمقصود نحن أوفر حظا على ما يظهر منا في أحوال قيامنا وقعودنا، وحسن الحال في الدنيا ظاهر على الفضل والرفعة وضده أمارة على النقص والضعة، فأجابهم الله تعالى بقول: وَكَمْ أَهْلَكْنا أي كثيرا من المرات أهلكنا قبلهم أهل عصر و «من» بيان المهلك. ويجوز أن تكون زائدة للتأكيد و «كم» استفهامية لتقرير التكثير، أو خبرية عند من يجوّز زيادتها في الموجب. وهُمْ أَحْسَنُ في محل النصب صفة ل «كم» أو الجر صفة قَرْنٍ والأثاث متاع البيت وقد مر في النحل في قوله: أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ [الآية: 80] قال الجوهري: من همز رِءْياً جعله من رأيت وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة، ومن لم يهمزه فإما أن يكون على تخفيف الهمزة أي قلب الهمزة ياء وأدغم، أو يكون من «رويت ألوانهم وجلودهم ريا» أي امتلأت وحسنت. وقال جار الله: الري هو المنظر والهيئة «فعل» بمعنى «مفعول» . وقرىء بهمز قبله ياء على القلب كقولهم «راء» في «رأي» . وقرىء بالزاي المنقوطة واشتقاقه من الزي بالفتح وهو الجمع لأن الزي محاسن مجموعة. وفي الآية حذف التقدير أحسن من هؤلاء، والحاصل أنه تعالى أهلك من كان أكثر مالا وجمالا منهم وذلك دليل على إفساد إحدى مقدمتيهم وهي أن كل من وجد الدنيا كان حبيب الله، أو على فساد المقدمة الأخرى وهي أن كل من كان حبيبا لله فإنه لا يوصل إليه غما. ثم بين أن مآل الضال إلى الخزي والنكال وإن طالت مدته وكثرت عدته، وقوله: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ خبر مخرج على لفظ الأمر إيذانا بوجوب الإمهال وأنه مفعول لا محالة لتنقطع معاذير الضال ويقال له يوم القيامة أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر: 37] أو ليزدادوا إثما كقوله إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران: 178] أو هو في معنى الدعاء بأن يمهله الله عز وجل وينفس في مدة حياته. والغاية أحد الأمرين المذكورين أي انقطاع العذر أو ازدياد الإثم. أما قوله: حَتَّى إِذا رَأَوْا إلى آخر. فقد قال في الكشاف: إنه يحتمل أن يكون متصلا بقوله: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ إلى آخره، وما بينهما اعتراض قالوا: أي الفريقين خبر مقاما وأحسن نديا حتى إذا رأوا ما يوعدون. والمعنى لا يزالون يتفوّهون بهذا القول مولعين به إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين إِمَّا الْعَذابَ في الدنيا وهو غلبة المسلمين بالقتل والأسر وتغير أحوالهم من العز إلى الذل ومن الغنى إلى الفقر، وأما يوم القيامة، ويحتمل أن تتصل بما يليها والمراد أنهم لا ينفكون عن ضلالتهم وسوء مقالتهم إلى أن يعاينوا عذاب الدنيا، أو الساعة ومقدماتها. وقوله: فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً في مقابلة قولهم: خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا لأن مقامهم هو مكانهم والنديّ المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم، والجند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 505 الأعوان، ولا ريب أن مكان القتل والأسر شر مكان في الدنيا ومكان عذاب النار شر مكان في الآخرة. ولا شك أيضا أنه لو كان لهم في الوقتين ناصر قوي لم يلحقهم من الخزي والنكال ما لحقهم. وحين بيّن حال أهل الضلال أراد أن يبين حال أهل الكمال فقال: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وذلك أن بعض الاهتداء يجر إلى البعض الآخر كالإيمان يجر إلى الإخلاص فيه كما أن بعض الغواية يجر إلى بعضها. ومنهم من فسر الزيادة بالعبادات المرتبة على الإيمان. والواو في وَيَزِيدُ للاستئناف. وقد تكلف جار الله فقال: إنه للعطف على معنى فَلْيَمْدُدْ أي يزيد في ضلال الضال بخذلانه ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه. وقد مر في سورة الكهف أن الباقيات الصالحات فسرها الأكثرون بجميع الأعمال الصالحات المؤدية إلى السعادات الباقيات. وفسرها بعضهم بما هي أعظم ثوابا منها كالصلوات الخمس وغيرها. وقوله: خَيْرٌ يقتضي غيرا يكون مشاركا له في أصل الخيرية ويكون هذا خيرا منه، فإن قدرنا ذلك شيئا فيه خيرية كبعض الأعمال الدنيوية المباحة أو كسائر الأعمال الصالحة عند من يفسر الباقيات بمعنى الأخص فظاهر أنها خير ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا أي مرجعا وعاقبة أو منفعة من قولهم: «هل لهذا الأمر مرد» إن قدرنا ذلك شيئا لا ثواب فيه ولا خيرية كما زعم جار الله أن المراد هي خير ثوابا من مفاخرات الكفار، فيكون إطلاق الثواب على عقاب الكفار من قبيل التهكم ومن باب قولهم: «تحية بينهم ضرب وجيع» . ويكون وجه التفضيل في الخير ما قيل في قولهم: «الصيف أحر من الشتاء» أي هو أبلغ في حره من الشتاء في برده، ثم أردف مقالتهم الحمقاء بأخرى مثلها قائلا على سبيل التعجب أَفَرَأَيْتَ كأنه قال: أخبر أيضا بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقيب حديث أولئك. وإنما استعملوا «أرأيت» بمعنى «أخبر» لأن رؤية الشيء من أسباب صحة الخبر عنه. عن الحسن: نزلت في الوليد بن المغيرة، والمشهور أنها في العاص بن وائل. قال خباب بن الأرت: كان لي عليه دين فاقتضيته، وقيل: صاع له حليا فاقتضاه الأجر فقال: إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا، فأنا أقضيك، ثم فإني أوتي مالا وولدا حينئذ. من قرأ وَلَداً بفتحتين فظاهر، ومن قرأ بالضم فالسكون، فإما جمع ولد كاسد في أسدا، أو بمعنى الولد كالعرب والعرب، فأنكر الله سبحانه عليه بقوله مستفهما أَطَّلَعَ الْغَيْبَ من قولهم «اطلع الجبل» أي ارتقى الى أعلاه، ولاختيار هذه الكلمة شأن كأنه قال: أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى عالم الغيب الذي تفرد به علام الغيوب أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً عن الكلبي: هل عهد الله إليه أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 506 يؤتيه ذلك. وعن قتادة: هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول: وقيل: العهد كلمة الشهادة كَلَّا ردع وتنبيه على الخطأ فيما تصوره لنفسه وتمناه وفي قوله: سَنَكْتُبُ بسين التسويف مع أن الحفظة يكتبون ما قاله في الحلل دليل على أن السين جرد هاهنا لمعنى الوعيد، أو أراد سيظهر له نبأ الكتابة بالتعذيب والانتصار يؤيده قوله: وَنَمُدُّ لَهُ أي نطوّل له مِنَ الْعَذابِ ما يستأهله أمثاله من المستهزئين أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد. مده وأمده بمعنى. ثم أكد المدد بالمصدر وهو مؤذن بفرط الغضب أعاذنا الله منه، ثم عكس استهزاءه بقوله: وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ أي نمنع عنه منتهى ما زعم أنه يناله في الآخرة من المال والولد لأنه تألى على الله في قوله: لَأُوتَيَنَّ ومن يتأل على الله يكذبه لأن ذلك غاية الجراءة ونهاية الأشعبية. والمراد هب أنا أعطيناه ما اشتهاه أما نرثه منه في العاقبة وَيَأْتِينا غدا فَرْداً بلا مال ولا ولد. وكلام صاحب الكشاف في الوجهين ملخبط فليتأمل فيه. وكذا في قوله: فَرْداً على الأول حال مقدرة نحو فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: 73] لأنه وغيره سواء في إتيانه فردا حين يأتي، ثم يتفاوتون بعد ذلك. وذلك أن الخلود لا يتحقق إلا بعد الدخول، أما انفراده فمحقق في حالة الإتيان وتفاوت الحال بعد ذلك، واشتراك الكل في الإتيان منفردا لا مدخل له في المقصود فلا أدري ما حمله على هذا التكلف. قال: ويحتمل أن هذا القول: إنما يقوله ما دام حيا فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله، ويأتينا منفردا عنه غير قائل له، أو أراد أن هذا القول لا ننساه ولا نلغيه بل نثبته في صحيفته لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به، ويأتينا على فقره ومسكنته فردا من المال والولد لم نعطه سؤله ومتمناه، فيجتمع عليه خطبان تبعة قوله وفقد سؤله. وحين فرغ من الرد على منكري البعث شرع في الرد على عبدة الأصنام فبين أوّلا عرضهم وذلك أن يتعززوا بآلهتهم وينتفعوا بشفاعتهم، ثم أنكر عليهم وردعهم بقوله: كَلَّا ثم أخبر عن مآل حالهم بقوله سَيَكْفُرُونَ فإن كان الضمير للمعبودين فهم إما الملائكة كقوله: قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ: 41] وإما الأصنام فلا يبعد أن ينطق الله الجماد بذلك كقوله: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [النحل: 86] وإن كان الضمير للعابدين فهو كقوله: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [النحل: 86] وإن [الأنعام: 23] أما الضمير في يكونون فللمعبودين، وقوله: عَلَيْهِمْ في مقابلة قوله: لَهُمْ عِزًّا وضد العز الهوان كأنه قيل: ويكونون عليهم ذلا لهم عزا ويحتمل أن يراد بالضد العون لأنه يضاد العدو، ووحد لاتفاق كلمتهم وفرط تضامهم وتوافقهم كقوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 507 صلى الله عليه وسلم: «وهم يد على من سواهم» ومعنى كون الآلهة أضدادا أي أعوانا عليهم أنهم وقود النار وأن المشركين عذبوا بسبب عبادتها، ويحتمل أن يكون الضمير في يَكُونُونَ للمشركين أي يكون المشركون كفرة بآلهتهم وأعداء لهم بعد أن كانوا يعبدونها. وحيث بيّن مذاهب الفرق الضالة أراد أن يبين منشأها فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الآية. والأز الهز والتهييج. قالت: الأشاعرة: في الآية دلالة على أنه تعالى مريد لجميع الكائنات لأن قول القائل: «أرسلت فلانا على فلان» يفيد أنه سلطه عليه منه قوله صلى الله عليه وسلم: «سم الله وأرسل كلبك عليه» ويؤيده قوله: تَؤُزُّهُمْ أي تغريهم على المعاصي وتحثهم عليها بالوسواس والتسويلات. وقالت المعتزلة: أراد بهذا الإرسال التخلية بينهم وبينهم كما إذا لم يمنع الرجل من دخول بيت جيرانه. وحاصل كلامهم أنه أرسل الأنبياء وأرسل الشياطين، ثم خلى بين المكلفين وبين الأنبياء والشياطين إلا أنه خص أولياءه بمزيد الألطاف حتى قبلوا قول الأنبياء، ومنع أعداءه تلك الألطاف وهو المسمى بالخذلان فقبلوا قول الشياطين. ولما كان هذا الإرسال سببا لهلاك الكفار عداه ب «على» لا ب «إلى» قلت: لا يخفى أن استناد الكل إلى الله تعالى فنزاع الفريقين لفظيّ أو قريب منه. فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ يقال: عجلت عليه بكذا إذا استعجل منه أي لا تعجل عليهم بأن يهلكوا فتستريح أنت والمسلمون من شرورهم فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة. قال ابن عباس: نزلت في المستهزئين وهم خمسة رهط. وعنه أنه كان إذا قرأها بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك، وآخر العدد فراق أهلك، وآخر العدد دخول قبرك. وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد. وقال بعضهم: إن الحبيب من الأحباب مختلس ... لا يمنع الموت بواب ولا جرس وكيف يفرح بالدنيا ولذتها ... فتى يعد عليه اللفظ والنفس ثم لما قرر أمر الحشر وأجاب عن شبه منكريه أراد أن يشرح حال المكلفين وقتئذ فقال: يَوْمَ نَحْشُرُ وانتصابه بمضمر متقدم أو متأخر أي اذكر يوم كذا وكذا نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف. ويجوز أن ينتصب ب لا يَمْلِكُونَ خص المتقون بالجمع إلى محل كرامة الرحمن وافدين. يقال: وفد فلان على الأمير وفادة أي ورد رسولا فهو وافد والجمع وفد كصاحب وصحب. عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يحشرون على أرجلهم ولكنهم على نوق رحالها ذهب وعلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 508 نجائب سروجها ياقوت» . وخص المجرمون بالسوق إلى جهنم وردا أي وهم الذين يردون الماء، وفيه من الإهانة ما فيه كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء. وقال جار الله: حقيقة الورد المسير إلى الماء فسمي به الواردون. قال بعض العلماء: في الآية دلالة على أن أهوال يوم القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون على هذا النوع من الكرامة فكيف ينالهم بعد ذلك شدة؟ قلت: يحتمل أن يكون الحشر إلى الرحمن غير الحشر إلى الموقف، فيراد بالحشر إلى الرحمن أي إلى دار كرامته وسوقهم إلى الجنة لقوله: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الزمر: 73] وهذا بعد امتياز الفريقين، فالأمن الكلي فيما بعد هذه الحالة لا ينافي الخوف والدهشة فيما قبلها كما ورد في حديث الشفاعة وغيره. وقوله: إِلَى الرَّحْمنِ دون أن يقول إلينا من وضع الظاهر موضع المضمر، وفيه من البشارة ما فيه. ولا يلزم منه التجسم للتأويل الذي ذكرناه، والضمير في لا يَمْلِكُونَ للمكلفين المذكورين بقسمهم وفاعله مَنِ اتَّخَذَ على البدلية لأنه في معنى الجمع. ويجوز أن تكون الواو علامة للجمع كالتي في «أكلوني البراغيث» فيكون مَنِ اتَّخَذَ فاعلا والاستثناء مفرغا. ويجوز أن ينتصب مَنِ اتَّخَذَ على الاستثناء أو على تقدير حذف المضاف أي إلا شفاعة. من اتخذه واختلف المفسرون في الشفاعة فقيل: لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم. وقيل: لا يملك غيرهم أن يشفعوا لهم. واتخاذ العهد الاستظهار بالأيمان والعمل، أو بكلمة الشهادة وحدها والأول يناسب أصول المعتزلة، والثاني يناسب أصول الأشاعرة. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم: «أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يقول كل صباح ومساء: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك له وأن محمدا عبدك ورسولك فلا تكلني إلى نفسي فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة» «1» ويجوز أن يكون من عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به أي لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها كقوله: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ [النجم: 26] .   (1) رواه أحمد في مسنده (1/ 412) (5/ 191) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 509 وحين رد على عبدة الأوثان عاد إلى الرد على من أثبت له ولدا من اليهود والنصارى والعرب، ومنهم من خص الآية بالرد على العرب القائلين بأن الملائكة بنات الله لأن الرد على النصارى تقدم في أول السورة. وفي قوله: لَقَدْ جِئْتُمْ التفات من الغيبة إلى المخاطبة تسجيلا عليهم بالجراءة والتعرض لسخطه. والأد الأمر العجيب أو المنكر، والتركيب يدل على الشدة والثقل ومنه أدت الناقة تؤد إذا رجعت الحنين في جوفها. ويقال: فطره بالتخفيف إذا شقه، ومطاوعه انفطر وبالتشديد للتكثير، ومطاوعه تفطر وهذا البناء للتكثير. وانتصب هَدًّا إما على المصدر لأن الخرور في معناه، وإما لأن التقدير يهد هدا، أو على الحال أي مهدودة، أو على العلة أي لأنها تهد. ومحل أَنْ دَعَوْا إما مجرور بدلا من الهاء في مِنْهُ وإما منصوب بنزع الخافض أي هدّا لأن دعوا، علل الخرور بالهد والهد بالدعاء، وإما مرفوع بأنه فاعل هد أي هدها الدعاء، وخير الوجوه أوسطها كما في الوقوف والدعاء. أما بمعنى التسمية فيكون المفعول الأول متروكا طلبا للعموم والإحاطة بكل ما دعي ولدا له، وإما بمعنى النسبة أي نسبوا إلى الرحمن ولدا. وَما يَنْبَغِي لا يصح ولا يستقيم وهو في الأصل مطاوع بغى إذا طلب، وإنما لا يصير مطلوبا لأنه محال. أما الولادة المعروفة فلا مقال في استحالتها، وأما التبني فلأن القديم لا جنس له حتى يميل طبعه إليه ميل الوالد إلى الولد لمن أضاف إليه ولدا فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن المختص به، فليس أصول النعم وفروعها إلا منه كما قيل: لينكشف عن بصرك غطاؤه فأنت وجميع ما عندك عطاؤه. وهذا من فوائد تكرير هذا الاسم في هذا المقام. سؤال: كيف تؤثر هذه الكلمة في الجمادات حتى تنفطر وتنشق وتخر؟ أجيب بأنه سبحانه كأنه يقول: كدت أفعل هذا بالسماوات والأرض والجبال عند دعائهم الولد لي غضبا مني على من تفوّه بها لولا حلمي، أو هو تصوير لأثر هذه الكلمة في الدنيا، أو المراد أن هذا الاعتقاد يوجب أن تكون هذه الأجرام على ما ترى من النظام كقوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] وقال أبو مسلم: أراد أن هذه الأجرام لو كانت ممن يعقل كادت تفعل ذلك. ثم بين أن العابدين والمعبودين في السموات أو في الأرضين كلهم تحت قهره وتسخيره في الدنيا وفي الآخرة وأنه محيط بجهل أحوالهم وتفاصيلها فقال: إِنْ كُلُّ «إن» نافية أي ليس فرد من أفراد الخلائق إلا أتى الرحمن إلا وهو ملتجىء إلى ربوبيته مقر بعبوديته. ثم أجمل حال المؤمنين بما لا مزيد عليه في باب الكرامة قائلا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 510 سيحدث لهم في القلوب مودّة من غير ما سبب من الأسباب المعهودة كقرابة أو اصطناع وذلك كما يقذف في قلوب أعدائهم الرعب. والسين إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله المودة بين الناس عند إظهار الإسلام، وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: يا عليّ قل اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعن ابن عباس: يعني يحبهم الله ويحببهم إلى خلقه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: «يا جبرائيل قد أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء: إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض» «1» وعن قتادة: ما أقبل العبد إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه. وعن كعب قال: مكتوب في التوراة: لا محبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله تعالى ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض، وتصديق ذلك في القرآن سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا هذا قول جمهور المفسرين. وعن أبي مسلم أن المراد أنه سهب لهم في الجنة ما يحبون، واستعمال المصدر بمعنى المفعول كثير. وإنما صار إلى هذا القول لأن المسلم التقي يبغضه الكفار وقد يبغضه المسلمون أكثرهم، وقد يحصل مثل هذه المحبة للكفار والفساق فيكونون مرزوقين بميل الناس إلى اختلاطهم ومحبتهم فكيف يمكن جعله إنعاما في حق المؤمنين. وأيضا إن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا من فعل الله، فحمل الكلام على إعطاء المنافع به أولى. وأجيب بأن المراد محبة الملائكة والأنبياء والصالحين ومثل هذه لا تحصل للكافر والفاسق، وبأنه محمول على فعل الألطاف وخلق داعية إكرامه في قلوبهم. ثم عظم شأن ما في هذه السورة من التوحيد والنبوة وبيان الحشر والرد على الفرق الضالة قائلا: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ كأنه قال: بلغ هذا المنزل أو بشر به وأنذر فإنما أنزلناه بلسانك أي بلغتك وسهلناه وفصلناه لتبشر به وتنذر. واللد جمع الألد الشديد الخصومة بالباطل كقوله في «البقرة» وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ [البقرة: 204] يريد أهل مكة. ثم ختم السورة بما هو غاية في الإنذار ونهاية في التخويف لأنبائه عن انقضاء القرون الخالية بالفناء أو بالإفناء بحيث لم يبق منهم شخص يرى ولا صوت يسمع فيعلم منه أن مآل الباقين أيضا إلى ذلك فيجتهدوا في تحصيل الزاد للمعاد ولا يصرفوا همتهم إلى ما هو بصدد الزوال والنفاد. والركز الصوت الخفي وركز   (1) رواه البخاري في كتاب الأدب باب: 41. كتاب بدء الخلق باب: 41. مسلم في كتاب البر حديث 157. الترمذي في كتاب تفسير سورة 19 باب: 7. الموطأ في كتاب الشعر حديث 15. أحمد في مسنده (2/ 267، 341) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 511 الرمح تغييب طرفه في الأرض والركاز المال المدفون. التأويل: وَيَقُولُ النفس الإنسانية لجهلها بالحقائق إذا مات عن الصفات البشرية أُخْرَجُ حَيًّا بالصفات الروحانية. لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ فلكل شخص قرين من الشياطين ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ القهر والطبيعة إِنْ مِنْكُمْ من الأنبياء والأولياء والمؤمنين والكافرين إلا هو وارد هاوية الهوى بقدم الطبيعة حَتْماً مَقْضِيًّا لأن حكمته الأزلية اقتضت خلق هذا النوع المركب من العلوي والسفلي ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا الهوى يقدم الشريعة على طريق الطريقة للوصول إلى الحقيقة آياتُنا من الحقائق والأسرار قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا الحق لِلَّذِينَ آمَنُوا تحقيقا وإيقانا وَكَمْ أَهْلَكْنا بحب الدنيا والإغراق في بحر الشهوات والإحراق بنار المناصب للعرضيات إِمَّا الْعَذابَ وهو الموت على الإنكار والغفلة وَإِمَّا السَّاعَةَ وهي الإماتة عن الصفات البشرية عند قيام قيامة الشوق والمحبة. فَسَيَعْلَمُونَ حزب الله من حزب الشيطان وَيَزِيدُ اللَّهُ بالترقي من الإيمان إلى الإيقان إلى العيان أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً من فوائد ذكر اسم الرحمن هاهنا أن الرحمانية أمهلتهم حتى قالوا ما قالوا وإلا فالألوهية مقتضية لإعدامهم في الحال وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً عن مشيئة وإرادة بخلافهم في الدنيا فإنهم يظنون أن لهم إرادة واختيارا. فَإِنَّما يَسَّرْناهُ فيه أنه لولا تيسير الله درايته على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فكيف يسع ظروف الحروف المحدثة المتناهية حقائق كلامه الأزلية غير المتناهية وَكَمْ أَهْلَكْنا في تيه الضلالة أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً بالثناء الحسن عليهم والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 512 (سورة طه) (مكية حروفها خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون كلماتها ألف وثلاثمائة وأربعون وآياتها مائة وخمس وثلاثون) [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 36] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) القراآت: طه بإمالة الطاء والهاء: حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد وعباس وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب. وفي الكشاف أن أبا عمرو فخم الطاء لاستعلائها وأمال الهاء. والآخرون بتفخيمها لِأَهْلِهِ امْكُثُوا بضم الهاء وكذلك في «القصص» : حمزة إِنِّي آنَسْتُ إِنِّي أَنَا اللَّهُ بفتح ياء المتكلم فيهما: أبو جعفر وابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 513 كثير وأبو عمرو لعلي آتيكم بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر غير ابن مجاهد عَلَى النَّارِ هُدىً ممالة: عليّ غير ليث وأبي حمدون وحمدوية وحمزة في رواية ابن معدان وأبي عمر والنجاري عن ورش وأبي عمرو وغير ابراهيم وابن حماد إِنِّي أَنَا رَبُّكَ بفتح الهمزة وياء المتكلم: ابن كثير وأبو عمرو ويزيد. بكسر الهمزة وفتح الياء: نافع الباقون: بكسر الهمزة وسكون الياء طُوىً منونا حيث كان: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وإنا اخترناك على الجمع: حمزة والمفضل لِذِكْرِي إني لِيَ أَمْرِي عَيْنِي رَأْسِي (إني) بفتح الياءات: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. (لي فيها) بالفتح: حفص والمفضل والأعشى والبرجمي والأصبهاني عن ورش مخير أَخِي اشْدُدْ بفتح الياء موصولة: ابن كثير غير الخزاعي عن ابن فليح وأبو عمرو وَاشْدُدْ بفتح الهمزة وَأَشْرِكْهُ بضمها على التكلم: ابن عامر والباقون بضم الأول وفتح الثاني على الأمر سُؤْلَكَ بالواو: أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف. الآخرون بالهمزة. الوقوف: طه هـ كوفي ومن قال معناه يا رجل أو يا طالب أو يا هادي لم يقف لِتَشْقى هـ للاستثناء يَخْشى هـ لا بناء على أن تَنْزِيلًا بدل تَذْكِرَةً الْعُلى هـ الرَّحْمنُ مبتدأ اسْتَوى هـ الثَّرى هـ وَأَخْفى هـ إِلَّا هُوَ ط الْحُسْنى هـ حَدِيثُ مُوسى هـ لئلا يوهم أن «إذ» ظرف للإتيان هُدىً هـ يا مُوسى هـ نَعْلَيْكَ ج للابتداء بأن مع اتحاد القول طُوىً هـ ط إلا لمن قرأ إنا اخترناك يُوحى هـ فَاعْبُدْنِي هـ لا للعطف لِذِكْرِي هـ تَسْعى هـ فَتَرْدى هـ يا مُوسى هـ عَصايَ ج لا مكان أن يجعل أَتَوَكَّؤُا مستأنفا أو حالا والعامل أضمر أو أشير بناء على أن «هي» بمعنى «هذه» . أُخْرى هـ يا مُوسى هـ تَسْعى هـ وَلا تَخَفْ ق لحق السين الْأُولى هـ آيَةً أُخْرى هـ لا لتعلق اللام. الْكُبْرى هـ ج للآية والاستئناف بالأمر على أن المقول متصل طَغى هـ صَدْرِي هـ أَمْرِي هـ لا لِسانِي هـ لا قَوْلِي ص لطول الكلام أَهْلِي هـ لا أَخِي هـ لا وقف لمن قرأ اشْدُدْ بفتح الهمزة جوابا للدعاء ومن فتح الياء فله الوصل ومن قرأ اشْدُدْ بضم الهمزة فله الجواز لا تساق الدعاء على الدعاء بلا عاطف أَزْرِي هـ لا أَمْرِي هـ لا لتعلق «كي» كَثِيراً هـ بَصِيراً يا مُوسى هـ. التفسير: في طه قولان للمفسرين: أحدهما أنه من حروف التهجي وقد سلف البحث في أمثالها، والذي زادوه هاهنا أمور منها: قول الثعلبي: الطاء شجرة طوبى، والهاء الهاوية وكأنه أقسم بالجنة والنار. ومنها ما روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أن الطاء طهارة أهل الدين والهاء هدايتهم. وقيل: أراد يا طاهرا من الذنوب ويا هاديا الى علام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 514 الغيوب. ومنها قول سعيد بن جبير هو افتتاح باسمه الطيب الطاهر الهادي. قيل: الطاء تسعة في الحساب والهاء خمسة ومعناه: يا أيها البدر. القول الثاني أنها كلمة مفيدة ومعناها يا رجل. مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة والكلبي. ثم قال سعيد بن جبير بلسان القبطية. وقال قتادة بلسان اليونانية والسريانية. وقال عكرمة بلسان الحبشة. وقال الكلبي بلسان عك وهو عك ابن عدنان أخو معد وهو اليوم في اليمن. وعن الحسن أن طه أمر وأصله طأ أمرا بالوطء فقلبت الهمزة هاء وذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معا، ويؤكده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالليل حتى اسمعدّت قدماه- أي تورمتا- فقال له جبرائيل: أرفق على نفسك فإن لها عليك حقا ونزلت طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى أي تتعب بالعبادة ولكنك بعثت بالحنيفية السهلة. وعند الأكثرين معنى لِتَشْقى لتتعب بفرط تأسفك عليهم وتحسرك على أن يؤمنوا. والشقاء يجيء بمعنى التعب ومنه المثل «أشقى من رائض مهر وأتعب» . وقيل: إن أبا جهل والنضر بن الحرث قالا له: إن كل شقي لأنك تركت دين آبائك فرد الله عليهم بأن القرآن هو السبب في نيل كل سعادة. قال جار الله: إن جعلت طه تعديد الأسماء الحروف فقوله ما أَنْزَلْنا ابتداء الكلام، وإن جعلته اسما للسورة فمبتدأ وما بعده خبر وقد أقيم الظاهر- وهو القرآن- مقام الضمير الرابط، وإن جعلته قسما فما يتلوه جواب وكل واحد من لِتَشْقى وتَذْكِرَةً علة للفعل إلا أن الأول وجب مجيئه مع اللام لأنه ليس فعلا لفاعل الفعل المعلل والثاني جاز قطع اللام عنه لوجود الشرط. ولا يجوز أن يكون تَذْكِرَةً بدلا من محل لِتَشْقى لاختلاف الجنسين، فإن التذكرة لا يمكن أن تحمل على الشقاء ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي فيه «إلا» بمعنى «لكن» . وفي قوله لِتَشْقى وإِلَّا تَذْكِرَةً وجه آخر وهو أنه ما أنزلنا عليك القرآن لتتحمل متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة أي ما أنزلنا عليك هذا التعب الشاق إلا لهذا الغرض كما يقال: ما شافهناك بذلك الكلام لتتأذى إلا ليعتبر بك غيرك. فانتصب تَذْكِرَةً على أنه حال أو مفعول له، وإذا كانت حالا جاز أن يكون تَنْزِيلًا بدلا منها، وإذا كانت مفعولا لأجله لم يجز أن يكون تَنْزِيلًا بدلا منها لأن الشيء لا يعلل بنفسه، فالإنزال لا يعلل بالتنزيل في الظاهر. ويجوز أن ينتصب تَنْزِيلًا بمضمر أي نزل تنزيلا أو بأنزلنا لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة أنزلناه تذكرة، أو على المدح والاختصاص، أو ب يَخْشى مفعولا به أي أنزله الله تذكرة لمن يخشى تنزيل الله عز وجلّ أي لمن يؤل أمره إلى الخشية لأنه هو المنتفع به. ومعنى كون القرآن تذكرة أنه صلى الله عليه وسلم كان يعظهم به وببيانه. مِمَّنْ خَلَقَ متعلق ب تَنْزِيلًا فيكون الظرف لغوا أو بكائنا صفة له فيكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 515 مستقرا. وفائدة الانتقال إلى الغيبة من لفظ المتكلم حين لم يقل تنزيلا منا أمور منها: الافتنان في الكلام على عادتهم. ومنها تنسيق الصفات مع لفظ الغيبة. ومنها التفخيم بالإسناد أولا إلى ضمير المتكلم المطاع في أَنْزَلْناهُ ثم إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد. وقيل: أنزلنا حكاية كلام جبرائيل فلا التفات. والْعُلى جمع العليا تأنيث الأعلى وفي وصف السموات بها دلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها. ويحصل منه تعظيم شأن القرآن بالضرورة فعلى قدر المرسل يكون حال الرسالة. ومنه قول الحكماء: عقول الرجال تحت لسان أقلامهم. وارتفع الرَّحْمنُ على المدح على تقدير هو الرحمن، أو هو مبتدأ مشار بلامه إلى من خلق. والبحث في الاستواء على العرش من جانبي المشبهة والموحدة قد مر مشبعا في «الأنعام» في قوله وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الأنعام: 18] وفي الأعراف في قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ [الآية: 54] فلا حاجة إلى الإعادة. ثم أكد كمال ملكه وملكه بقوله لَهُ ما فِي السَّماواتِ الآية. عن محمد بن كعب: أن ما تحت الثرى هو ما تحت سبع الأرضين. وعن السدي: هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة. وقيل: الثور أو الحوت. والتحقيق أن الثرى هو التراب الندى وهو ما جاوز البحر من جرم الأرض، فالذي تحته هو ما بقي من جرم الأرض إلى المركز فيحتمل أن يكون هناك أشياء لا يعلمها إلا الله سبحانه من المعادن وغيرها، ولا ريب أن الكل لله سبحانه. ثم بيّن كمال علمه بقوله وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى فالسر ما أسررته إلى غيرك وأخفى من ذلك ما أخطرته ببالك، أو السر هذا وأخفى منه ما استسره. وقيل: أخفى فعل ماض أي يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلم هو. قلت: هذا المعنى صحيح لأنه تعالى محيط بجميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء قط ولا يحيط به شيء من الأشياء فلا يطلع على غيوبه أحد، إلا أن اللفظ يحصل فيه بشاعة إذا حمل على هذا التفسير فلهذا قال صاحب الكشاف: وليس بذلك وكيف طابق الجزاء الشرط. وأجيب بأن معناه إن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غني عن جهرك. فإما أن يكون نهيا عن الجهر كقوله وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [الأعراف: 205] وإما أن يكون تعليما للعباد أن الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر كأن يقتدي غيره به. ومن فوائد الآية زجر المكلف عن القبائح- ظاهرة كانت أو باطنة- وترغيبه في الطاعات- ظاهرة وباطنة- وقد شرحنا شمة من حقيقة علمه تعالى في تفسير قوله وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31] وفي غير ذلك من المواضع المناسبة، فلنقتصر الآن على ذلك. ثم ذكر أن الموصوف بالقدرة والعلم على الوجه المذكور لا شريك له وهو الذي يستحق العبادة دون غيره. واعلم أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 516 مراتب التوحيد أربع: الإقرار باللسان، ثم الاعتقاد بالقلب، ثم تأكيد ذلك الاعتقاد بالحجة، ثم الاستغراق في بحر المعرفة بحيث لا يدور في خاطره سوى الأحد الصمد. والأول بدون الثاني نفاق، والثاني بدون الأول غير مفيد إلا إذا لم يجد مهلة كما إذا نظر وعرف فمات. ويروى أن ملك الموت مكتوب في جبهته «لا إله إلا الله» حتى إذا رآه المؤمن تذكر كلمة الشهادة فيكفيه ذلك ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان» «1» والإقرار بدون الثالث إيمان المقلد وفيه خلاف مشهور والأصح أنه مقبول، وأما المقام الرابع فهو مقام الصديقين والخاصة من عباد الله، ومبتداه تفريق ونقص وترك ورفض على ما قرره المحققون، وآخره الفناء في الله والبقاء به. قال النحويون: لا إله إلا الله تقديره لا إله في الوجود إلا الله. وقال أهل العرفان: معناه لا إله في الإمكان إلا الله. روي أن موسى بن عمران قال: يا رب علمني شيئا أذكرك به. فقال: قل لا إله إلا الله. فقال: كل عبادك يقول. فقال: قل لا إله إلا الله. قال: إنما أردت شيئا تخصني به. قال: يا موسى لو أن السموات السبع ومن فوقهم في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن «لا إله إلا الله» . والبحث عن أسماء الله تعالى قد سلف في تفسير البسملة، وعن أسمائه الحسنى قد مر في «الأعراف» في قوله وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الأعراف: 180] . واعلم أن الموجودات على ثلاثة أقسام: كامل لا يحتمل الزيادة والنقصان وهو الله تقدس وتعالى، وناقص لا يحتمل الكمال سوى الصورة الكمالية التي جبل عليها كصغير الإنسان من المخلوقات وناقص يتقلب بين الأمرين فتارة يصعد إلى حيث يخبر عنه بأنه فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 55] وتارة يتسفل إلى أن يقال له ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التين: 5] والكمال بالحقيقة لما ليس معرض الزوال فلا كمال في الصحة والجاه والمال وإنما الكمال في الانتساب إلى الكبير المتعال، وهو تحقيق نسبة العبدية المنبئة عن عزة الربوبية، وكل منتسب إلى بلد أو قبيلة فإنه يبالغ في مدحها حتى يلزم مدحه بالعرض فيجب على المكلف أن يذكر ربه بالأسماء الحسنى حتى يثبت بذلك شرفه ويحسن ذكره. إلهنا حسن الاسم دليل حسن المسمى، وحسن المسمى يدل على أنه لا يفعل القبيح ولا يزال مواظبا على الإحسان كما قيل: يا حسن الوجه توق الخنا ... لا تخلطن الزين بالشين   (1) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب: 15. مسلم في كتاب الإيمان حديث 147. أبو داود في كتاب اللباس باب: 16. الترمذي في كتاب الفتن باب: 17. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب: 9. الدارمي في كتاب المقدمة باب: 8. أحمد في مسنده (1/ 282، 399) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 517 فيا حسن الأسماء والصفات لا تردّنا عن خوان إحسانك محرومين. ذكر أن صيادا اصطاد سمكة وكانت له بنت فأخذتها وألقتها في البحر وقالت: إنها ما وقعت في الشبكة إلا لغفلتها. إلهنا تلك المرأة رحمت سمكة بسبب غفلتها ونحن قد اصطادنا إبليس وأخرجنا من بحر رحمتك لغفلتنا فردّنا إلى مقرنا وأنت أرحم الراحمين. عن محمد بن كعب القرظي أن موسى عليه السلام قال: يا رب أيّ خلق أكرم عليك؟ قال: الذي لا يزال لسانه رطبا من ذكري. قال: أيّ خلقك أعلم؟ قال: الذي يلتمس علما إلى علمه. قال: وأيّ خلقك أعدل؟ قال: الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس. قال: وأيّ خلقك أعظم جرما؟ قال: الذي يتهمني وهو الذي يسألني ثم لا يرضى بما قضيته له. إلهنا إنا نتهمك فإنا نعلم أن كل ما أحسنت فهو فضل، وكل ما لا تفعله بنا من الإحسان فهو عدل، فلا تؤاخذنا بسوء أعمالنا. وعن الحسن: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: سيعلم الجمع من أهل الكرم، أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون فيتخطون رقاب الناس. ثم يقال: أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله؟ ثم ينادي أين الحمادون لله على كل حال؟ ثم تكون التبعة والحساب على من بقي. إلهي فنحن حمدناك وأثنينا عليك بمقدار قدرتنا وطاقتنا، فاعف عنا بفضلك وحسن أسمائك. وحين عظم شأن القرآن وبيّن حال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما كلف من أعباء الرسالة قفاه بقصة موسى تثبيتا له وتقوية وتسلية. قال الكلبي: معنى وَهَلْ أَتاكَ أي لم يأتك إلى الآن وقد أتاك الآن فتنبه له. ويقول المرء لصاحبه: هل بلغك خبر كذا ليتطلع السامع لما يومي إليه. وعن مقاتل والضحاك عن ابن عباس أن المراد منه تقرر الخبر في قلبه أي قد أتاك ذلك في الزمان المتقدم. «وإذ» ظرف للحديث لأنه حدث، أو المراد اذكر وقت كذا ومظروفه محذوف أي حين رأى نارا كان كيت وكيت. قال أهل السير: استأذن موسى شعيبا عليهما السلام في الخروج إلى أمه، وخرج بأهله وولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصلد زنده، فرأى نارا من يسار الطريق من بعيد. قال السدي: ظن أنها من نيران الرعاة. وقال الآخرون: إنه رآها في شجرة. واختلفوا أيضا في أن الذي رآه كان نارا أم لا. قالوا: والصحيح أنه كان نارا ليكون صادقا في خبره إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء. ويمكن أن يقال: إطلاق اللفظ على ما يشبه مسماه ليس بكذب. قيل: النار أربعة أقسام: نار تأكل ولا تشرب وهي نار الدنيا، ونار تشرب ولا تأكل وهو نار الشجر جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً [يس: 80] ونار تأكل وتشرب وهي نار موسى عليه السلام. وبعبارة أخرى نور بلا حرقة وهي نار موسى، وحرقة بلا نور وهي نار جهنم، وحرقة ونور وهي نار الدنيا، ولا حرقة ولا نور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 518 وهي نار الأشجار. فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إنما جمع لأن أهله جمع وهم المرأة والخادم والولد. ويجوز أن يخاطب المرأة وحدها ولكن أخرج الخطاب على ظاهر لفظ الأهل فإنه اسم جمع. وأيضا فقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة تفخيما أي أقيموا في مكانكم فقد آنَسْتُ ناراً أي أبصرت إبصارا لا شبهة فيه أو إبصارا يؤنس به. والتركيب يدل على الظهور، ومن ذلك إنسان العين لأنه يظهر الأشياء، ومنه الإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم، ومنه الأنس ضد الوحشة لظهور المطلوب وهو المأنوس به. قال جار الله: لما وجد الإيناس وكان مقطوعا متيقنا حققه لهم بكلمة «إن» ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين بنى الأمر فيهما على الرجاء دون الجزم قائلا لَعَلِّي آتِيكُمْ قال المحققون: فيه دلالة على أن إبراهيم عليه السلام لم يكذب البتة لأن موسى قبل نبوته احترز عن الكذب المظنون فلم يقل «إني آتيكم» لئلا يعد ما لم يستيقن الوفاء به، فإبراهيم وهو أبو الأنبياء أولى بالاحتراز من الكذب الصريح. والقبس النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة ونحوهما. وهُدىً على حذف المضاف أي ذوي هدى، أو إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى. والظاهر أنه أراد قوما يهدونني الطريق. وعن مجاهد وقتادة: قوما ينفعونني بهداهم في أبواب الدين، وذلك أن همم الأبرار معقودة في جميع أحوالهم بالأمور الدينية لا يشغلهم عنها شاغل. ومعنى الاستعلاء في على النار وهو مفعول ثان لأجد، أو حال من ذوي هدى أن أهل النار يشغلون المكان القريب منها أو المصطلون بها كفنوها قياما وقعودا فهم مشرفون عليها وإن كان المكانان مستويين. فَلَمَّا أَتاها أي أتى النار. قال ابن عباس رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء تتقد، وسمع تسبيح الملائكة ورأى نورا عظيما فخاف وبهت فألقيت عليه السكينة، ثم نودي وكانت الشجرة عوسجة. وقال وهب: ظن موسى أنها أوقدت فأخذ من دقاق الحطب ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده فتأخر عنها وهابها، ثم لم يزل تطمعه ويطمع فيها، ثم لم يكن أسرع من خمودها فكأنها لم تكن، ثم رمى موسى بنظره إلى فرعها فإذا خضرته ساطعة في السماء، وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار، فلما رأى موسى ذلك وضع يده على عينيه فنودي يا مُوسى من قرأ إِنِّي بالفتح فتقديره نودي بأني، ومن قرأ بالكسر فلأن النداء في معنى القول، أو لأن التقدير نودي فقيل يا موسى. وتكرير الضمير في «أنيّ» أَنَا رَبُّكَ لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة. روي أنه لما نودي يا موسى قال: من المتكلم؟ فقال الله عز وجلّ: إني أنا ربك. فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان. فقال: أنا عرفت أنه كلام الله بأني أسمعه من جميع جهاتي الست وأسمعه بجميع أعضائي حتى كأن كل جارحة مني صارت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 519 أذنا. وقيل: لعله سمع النداء من جماد كالحصا والشجرة فيكون معجزا. وأيضا إنه رأى النار في الشجرة الخضراء بحيث إن الخضرة ما كانت تطفئ تلك النار ولا النار تضر بالخضرة، فعرف أنه لا يقدر عليه أحد إلا الله. وجوّز الأشاعرة أن يكون قد خلق الله تعالى علما ضروريا بذلك والمعتزلة منعوا منه قالوا إن حصول العلم الضروري بأن ذلك المتكلم هو الله يستلزم العلم الضروري بوجود الصانع لا ستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات معلوما بالاستدلال، وحصول العلم الضروري بوجود الصانع ينافي التكليف وبالاتفاق لم يخرج موسى عن التكليف. قال القاضي: إن كانت النبوة قد تقدمت لموسى فلا كلام في حصول هذه الخوارق وإلا وجب أن تكون المعجزات لغيره من الأنبياء في زمانه كشعيب مثلا. قال: وهذا أولى لأن قوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى دليل على أنه أوّل وحي يوحى إليه. وعند أهل السنة الإرهاص جائز فلم يوجبوا إحالة تلك الخوارق إلى غيره. وعندهم أن الله تعالى أسمعه الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت. والمعتزلة أنكروا وجود ذلك الكلام. وقالوا: إنه تعالى خلق ذلك النداء في جسم من الأجساد كالشجرة وهو قادر على ذلك. وأهل السنة مما وراء النهر أثبتوا الكلام القديم إلا أنهم زعموا أن الذي سمعه موسى صوت خلقه الله في الشجرة لأنه تعالى رتب النداء على أنه أتى النار، والمرتب على المحدث. ومثله استدلال المعتزلة بقوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ على أن كلامه تعالى ليس بقديم لأن الأمر والمأمور معدوم سفه فلا بد أن يكون هذا الأمر عند وجود موسى فيكون محدثا. أجابت الأشاعرة بأن كلامه الأزلي ليس بأمر ولا نهي، ولو سلم فأمره بالأزل مستمر إلى أن صار الشخص مأمورا من غير تغير في أمره كالقدرة الأزلية تتعلق بالمقدور الحادث. وأما الحكمة في الأمر بخلع النعلين قال المفسرون: لأنهما كانتا من جلد حمار ميت غير مدبوغ وهو قول علي ومقاتل والكلبي والضحاك وقتادة والسدي. وقال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد: ليباشر الوادي بقدميه متبركا به. وقيل: عظم البقعة عن وطئها إلا حافيا يؤيده قوله إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ. ومن هنا كره بعضهم الصلاة والطواف في النعل، وكان السلف يطوفون بالكعبة حفاة، ومنهم من استعظم دخول المسجد بنعليه وكان إذا وقع منه ذلك تصدق. وعلى القول الأول لا يكره إلا إذا كان غير مدبوغ. وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في نعليه ثم خلعهما في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال: ما لكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: خلعت فخلعنا. قال: فإن جبرائيل أخبرني أن فيهما قذرا. يروى أن موسى خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي. قال الجوهري طُوىً بكسر الطاء وضمها اسم موضع بالشأم. فمن صرفه جعله اسم واد ومكان، ومن لم يصرفه جعله اسم بقعة. وقال بعضهم: طوى بالضم مثل طوى وهو الشيء المثنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 520 أي طوى مرتين أي قدس. وقال الحسن: ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين، ويحتمل أن يراد نودي نداءين. وقيل: طوى مصدر كهدى ومعناه العلى. وعن ابن عباس أنه مر بذلك الوادي ليلا فطواه فكان المعنى بالواد المقدس الذي طويته طيا أي قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ اصطفيتك للنبوة. قيل: فيه دلالة على أن النبوة لا تحصل بالاستحقاق وإنما هي ابتداء عطية من الله. وفي هذه الأخبار غاية اللطف والرحمة ولكن في قوله فَاسْتَمِعْ نهاية الجلال والهيبة ففي الأول رجاء وفي الثاني خوف كأنه قال: جاءك أمر عظيم فتأهب له واجعل جميع همتك مصروفة إليه. لِما يُوحى أي للذي يوحى أو للوحي متعلق ب فَاسْتَمِعْ أو ب اخْتَرْتُكَ ثم قال إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا ورتب عليه فَاعْبُدْنِي ليعلم أن عبادته إنما لزمت لإلهيته ومن هنا قال العلماء: إن الله معناه المستحق للعبادة. قال الأصوليون: تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز ولكن عن وقت الخطاب جائز لأنه أمره بالعبادة ولم يذكر كيفيتها. وأيضا قال وَأَقِمِ الصَّلاةَ ولم يبين هيئاتها. أجاب القاضي عن هذا الأخير بأنه لا يمتنع أن موسى عليه السلام قد عرف الصلاة التي تعبد الله بها شعيبا وغيره من الأنبياء، فكان الخطاب متوجها إلى ذلك، وزيف بأن حمل الخطاب متوجها على التأسيس أولى قال: قد بين له ولكن لم يحك الله تعالى سوى هذا القدر. ورد بأن البيان أكثر فائدة من المجمل، فلو كان مذكورا لكان أولى بالحكاية. ولقائل أن يقول: سلمنا أن المبين أكثر فائدة للمخاطب، ولكن لا نسلم أن حكاية المبين أولى فلعل حكاية المجمل تكفي لغيره لصيرورة بعض هيئات ذلك التكليف منسوخا وإن كان أصله باقيا. وفي قوله لِذِكْرِي وجوه. لأن اللام إما بمعنى الوقت أو هي للتعليل. والذكر إما بالجنان أو هو ضد النسيان. وياء المتكلم فاعل في الأصل أو مفعول. وهل يحتمل الكلام تقدير مضاف أم لا؟. ولمثل هذه الاعتبارات تعددت الوجوه فمنها: أن اللام للتعليل والياء منصوب أي لتذكرني فإن ذكري أن أعبد ويصلي لي، أو أراد لتذكرني في الصلاة لاشتمالها على الأذكار. عن مجاهد: والفرق أن إطلاق الذكر على العبادة والصلاة في الأول حقيقة شرعية، وفي الثاني مجاز. أو نقول: في الأول تكون نفس الصلاة مطلوبة بالذات، وفي الثاني تكون مطلوبة بعرض الذكر، أو أراد لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري. ومنها أن المضاف مع ذلك محذوف أي لإخلاص ذكري وطلب وجهي. ومنها أن الياء فاعل أي لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها، أو لأن أذكرك بالمدح والثنا وأجعل لك لسان صدق. ومنها أن اللام للوقت كقولك «جئتك لوقت كذا» أي لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة. ومنها أن يحمل الذكر على ضد النسيان أي لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في كونهم رطاب اللسان في جميع الأحيان بذكر مولى الأنعام ومولى الإحسان رِجالٌ لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 521 تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور: 37] وأراد ذكر الصلاة بعد نسيانها وكان حق العبارة أن يقال لذكرها كقوله صلى الله عليه وسلم «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» » فلعل المضاف محذوف أي لذكر صلاتي، أو ذكر الصلاة هو ذكر الله فالياء في الأصل منصوب، أو الذكر والنسيان من الله عز وجلّ في الحقيقة فالياء فاعل. قال الشافعي: من فاتته صلاة يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء ولو ترك الترتيب جاز. ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة فإن كان في الوقت سعة يستحب أن يبدأ بالفائتة، وإن بدأ بصلاة الوقت جاز إلا إذا ضاق الوقت فإنه يجب الابتداء بصلاة الوقت، وإن تذكر الفائتة بعد ما شرع في صلاة الوقت أتمها ثم قضى الفائتة، ويستحب أن يعيد صلاة الوقت بعدها. وقال أبو حنيفة: يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم تزيد على صلاة يوم وليلة حتى لو تذكر خلال صلاة الوقت بطلت إلا أن يكون الوقت ضيقا فلا تبطل. حجة الشافعي ما روي في حديث قتادة أنهم ناموا عن صلاة الفجر ثم انتبهوا بعد طلوع الشمس فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقودوا رواحلهم ثم صلاها، ولو كان وقت الانتباه متعينا للصلاة لما فعل كذلك. نعم إنه وقت لتقرير الوجوب عليه ثم الوقت موسع بعد ذلك. حجة أبي حنيفة قوله تعالى أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي وقوله صلى الله عليه وسلم فليصلها «إذا ذكرها» وفي حديث جابر أن عمر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق يسب كفار قريش ويقول: يا رسول الله ما صليت صلاة العصر حتى كادت تغيب الشمس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا والله ما صليتها بعد. قال: فنزل في البطحاء وصلى العصر بعد ما غابت الشمس ثم صلى المغرب بعدها. وأما القياس فهما صلاتان فريضتان جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة فأشبهتا صلاني عرفة ومزدلفة. فلما لم يجز إسقاط الترتيب فيهما وجب أن يكون كذلك حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة، وأما إذا دخل في حد الكثرة فيسقط هذا الترتيب. ثم لما أمر موسى بالعبادة عامة وبالصلاة التي هي أفضلها خاصة علل ذلك بقوله إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ. سؤال: «كاد» نفيه إثبات وإثباته نفي. فقوله أَكادُ أُخْفِيها يكون معناه لا أخفيها وهو باطل لقوله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34] ولأن قوله. لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار إذ لو كان المكلف عارفا وقت القيامة وكذا وقت الموت اشتغل بالمعاصي إلى قريب من ذلك الوقت ثم تاب فيكون إغراء على المعصية.   (1) رواه البخاري في كتاب المواقيت باب: 37. مسلم في كتاب المساجد حديث 309. الترمذي في كتاب الصلاة باب: 16، 17. النسائي في كتاب المواقيت باب: 52- 54. ابن ماجه في كتاب الصلاة باب: 10، 11. الموطأ في كتاب الوقوت حديث 25. أحمد في مسنده (3/ 31، 44) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 522 والجواب لا نسلم أن «كاد» إثباته نفي وإنما هو للمقاربة فقط، والباقي موكول إلى القرينة. ولئن سلم فالمراد بعدم الإخفاء إخباره بأنها آتية وإن كان وقتها غير معين كأنه قال: أكاد لا أقول هي آتية لفرط إرادة الإخفاء ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به. وبالغ بعض المفسرين في هذا المعنى فقال: أراد أكاد أخفيها من نفسي أي لو صح إخفاؤها من نفسي لأخفيتها مني وأكدوا ذلك بأنهم وجدوه في مصحف أبيّ كذلك. فقال قطرب: هذا على عادة العرب في المخاطبة إذا بالغوا في كتمان الشيء قالوا: كتمته من نفسي. وقيل: «كاد» من الله واجب وأراد أنا أخفيها من الخلق كقوله عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الاسراء: 51] أي هو قريب قاله الحسن. وعن أبي مسلم أن «أكاد» بمعنى أريد كقوله كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [يوسف: 21] ومنه قولهم «لا أفعل ذلك ولا أكاد» أي لا أريد أن أفعله. وقيل: أكاد صلة والمعنى أن الساعة آتية أخفيها. وقال أبو الفتح الموصلي: الهمزة للإزالة أي أكاد أظهرها معناه قرب إظهارها كقوله اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: 1] ومثله ما روي عن أبي الدرداء وسعيد بن جبير أخفيها بفتح الهمزة من خفاه إذا أظهره. وقوله لِتُجْزى متعلق ب أُخْفِيها كما قلنا أو ب آتِيَةٌ، فلولا القيامة لم يتميز المطيع من العاصي والمحسن من المسيء وذلك خلاف قضية العدالة والحكمة. واحتجاج المعتزلة بالآية ظاهر لأنه قال بِما تَسْعى أي بسعيها. فلو لم يكن أعمال العباد بسعيهم لم يصح هذا الإسناد، ولو لم يكن الثواب مستحقا على العمل لم يكن لباء السببية معنى والجواب أن اعتبارها الوسط لا ينافي انتهاء الكل إلى الله، واستناد الجزاء إلى عنايته الأزلية التي لا علة لها. ومعنى الفاء في فَلا يَصُدَّنَّكَ أنه إذا صح عندك أني أخبرتك بإتيان الساعة فلا تلتفت إلى قول المخالف الذي يصدك عن التصديق بالساعة، لأن قوله ناشىء عن الهوى واتباعه. وجوّز أبو مسلم أن يكون الضمير في عَنْها للصلاة. والعرب تذكر شيئين ثم ترمي بضميرهما إلى السامع اعتمادا على أنه يرد كلا منهما إلى ما هو له، وزيف بأن هذا إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة هنا. وأما الخطاب فالظاهر أنه لموسى لأن الكلام أجمع معه. وجوّز بعضهم أن يكون لنبينا عليه السلام والمقصود الأمة، والنهي عن الصد في الظاهر لمن لا يؤمن بالساعة وهو بالحقيقة نهي لموسى عن التكذيب. والوجه فيه أن صد الكافر عن التصديق سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب، أو صدّ الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته فذكر المسبب ليدل على السبب كأنه قيل: كن في الدنيا صلبا حتى لا يطمع في إغوائك الكافر. والذي دعا إلى هذا النهي البالغ في معناه هو أن المبطلين والجاحدين كثرة وهي مزلة قدم فعلى المرء أن يكون مع المحقين وإن قلوا لا مع غيرهم وإن كثروا. وفيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 523 حث بليغ على العمل بالدليل وزجر قويّ عن التقليد وإنذار بأن الردى والهلاك مع اتباع الهوى. وهاهنا استدل الأصوليون على شرف علمهم ووجوب تعلمه كيلا يتمكن الخصم من تشكيكه. وزعم القاضي أن في نسبة الصد إلى الكافر بالبعث دليلا على أن القبائح إنما تصدر عن العباد. وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا. قال أهل التحقيق: قوله أوّلا لموسى فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إشارة إلى التخلية وتحصيل ما ينبغي تحصيله. وأصول ذلك ترجع إلى علم المبدأ وهو قوله إِنِّي أَنَا اللَّهُ وإلى علم الوسط وهو قوله فَاعْبُدْنِي وإنه مشتمل على الأعمال الجسمانية. وقوله لِذِكْرِي وهو مشتمل الأعمال الروحانية وإلى علم المعاد وذلك قوله إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ. وأيضا إنه افتتح الخطاب بقوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ وهو غاية اللطف، وختم الكلام بقوله فَلا يَصُدَّنَّكَ إلى آخره وهو قهر تنبيها على أن رحمته سبقت غضبه، وأن العبد لا بد أن يكون سلوكه على قدمي الرجاء والخوف. قوله وَما تِلْكَ مبتدأ وخبر وبِيَمِينِكَ حال منتصب بمعنى الإشارة أو الاستفهام. وجوّز الكوفيون أن يكون تِلْكَ اسما موصولا صلته بِيَمِينِكَ أي ما التي بيمينك. قيل: لم يقل بيدك لأنه يحتمل أن يكون في يساره خاتم أو شيء آخر وكان يلتبس عليه الجواب. أسئلة: ما الفائدة في هذا السؤال؟ جوابه أن الصانع الماهر إذا أراد أن يظهر من الشيء الحقير كقطعة من حديد شيئا شريفا كاللبوس المسرد عرضه على الحاضرين ويقول ما هذا حتى إنه بعد إظهار صنعته يلزمهم بقولهم ويقول: خذوا هذا من ذلك الذي قلتم فكأنه سبحانه قال لموسى: هل تعرف حقيقة ما في يمينك وأنه خشبة يابسة حتى إذا قلبه ثعبانا عظيما كان قد نبهه على كمال قدرته الباهرة. وقال أهل الخطابة: إنه سبحانه لما أطلعه على تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء، وأسمعه تسبيح الملائكة ثم أسمعه كلام نفسه ممازجا باللطف والقهر والتكاليف تحير موسى ودهش وكاد لا يعرف اليمين من الشمال فقيل له وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ليعرف موسى أن يمينه هي التي فيها العصا. وأيضا إنه لما تكلم معه بالكلم الإلهية وقرب موسى أن يدهش تكلم معه بكلام البشر إزالة لتلك الدهشة والحيرة لا لأن المسئول عنه مما يقع فيه الغلط كما أن السائل لا يجوز عليه الغلط نظيره حال المؤمن في القبر يغلبه الوجل والخجل والحياء فيسأل عن أمر لا يشك فيه في الدنيا وهو التوحيد دفعا للإيحاش وجلبا للاستئناس. وأيضا لما عرف موسى كمال الإلهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية فسأله عن منافع العصا فذكر ما ذكر، فعرّفه الله تعالى أن فيها منافع أجل مما ذكر تنبيها على أن عقول البشر قاصرة عن خفيات الأمور لولا التوفيق والإرشاد. آخر: خاطب موسى بلا واسطة وخاطب محمدا صلى الله عليه وسلم بواسطة جبرائيل، فيلزم أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 524 يكون موسى أفضل. وجوابه المنع بدليل فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10] وبيان الأفضلية أن كلامه مع موسى لم يكن سرا وكلامه مع محمد سر لم يستأهل له سواه. وأيضا حصل لأمته في الدنيا شرف التكليم المصلي يناجي ربه، وفي الآخرة شرف التسليم والتسليم سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] . وأيضا إن موسى كان عند استغراقه في بحر المحبة متعلقا بالعصا ومنافعها، ومحمد عليه السلام لم يلتفت إلى الكونين حين عرضا عليه ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] بل كان فانيا عن الأغيار باقيا بالواحد القهار ولهذا لم يزد في الثناء حينئذ على قوله «أنت كما أثنيت على نفسك» «1» . وهاهنا نكت منها: أنه سبحانه لما أشار إلى العصا واليد بقوله وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى حصل في كل منهما برهان باهر ومعجز ماهر فصار أحدهما- وهو الجماد- حيوانا والآخر- وهو الكثيف- نورانيا لطيفا. ثم إنه تعالى ينظر في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد فأي عجب أن ينقلب قلبه الجامد المظلم حيا مستنيرا. ومنها أن العصا صارت بين يمين موسى حيا فكيف لا يصير قلب المؤمن الذي هو بين أصبعين من أصابع الرحمن حيا! ومنها أن يصير بمدد نظر الرب في كل يوم مرات بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء. ثم إن جواب موسى عليه السلام يتم بقوله هِيَ عَصايَ إلا أنه زاد على ذلك لأنه كان يحب المكالمة وكان المقام مقام انبساط وقرب فاغتنم الفرصة وجعل ذلك كالوسيلة إلى درك الغرض. وقيل: هو جواب سؤال آخر كأنه سئل فما تصنع بها فأخذ في ذكر منافعها. وقيل: خاف أن ينكر عليه استصحاب العصا كالنعلين. ومعنى أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أغتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة والتركيب يدور على الشد والإيثاق. وَأَهُشُّ بِها أي أخبط الورق بها على رؤوس غنمي لتأكله. والتركيب يدل على الرخاوة واللين ومنه «رجل هش المكسر» أي سهل الشأن فيما يطلب من الحوائج وهو مدح «وهش الخبز» يهش بالكسر إذا كان ينكسر لرخاوته. قال المحققون: إن موسى عليه السلام كان يتوكأ على العصا ومحمد صلى الله عليه وسلم كان يتكل على فضل الله ورحمته قائلا مع أمته حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173] فورد في حقه حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين [الأنفال: 64] أي حسبك وحسب من اتبعك. وأيضا إنه بدأ بمصالح نفسه في قوله أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها ثم بمصالح رعيته   (1) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 222. أبو داود في كتاب الصلاة باب: 148. النسائي في كتاب قيام الليل باب: 51. الترمذي في كتاب الدعوات باب: 75، 112. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب: 3. الموطأ في كتاب مسّ القرآن حديث 31. أحمد في مسنده (1/ 96، 118) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 525 بقوله وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر أمته وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» فلا جرم يقول موسى يوم القيامة «نفسي نفسي» ومحمد يقول «أمتي أمتي» . ثم قال وَلِيَ فِيها مَآرِبُ هي جمع المأربة بضم الراء الحاجة وقد تفتح الراء. وحكى ابن الأعرابي وقطرب بكسر الراء أيضا ومثله الأرب بفتحتين والإربة بكسر الهمزة وسكون الراء. وإنما قال أُخْرى لأن المآرب في معنى جماعة ونظيره الأسماء الحسنى. ومن آياتنا الكبرى قالوا: إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فتطول مكالمته وقالوا: انقطع بالهيبة كلامه فأجمل. وقيل: في المآرب كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والجراب وغيرها، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل، وإذا قصر رشاؤه وصله بها، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه. وقيل: إن موسى عليه السلام كان أحس بأنه تعالى إنما سأله عن أمر العصا لمنافع عظيمة فقال: إلهي ما هذه العصا إلا كغيرها ولكنك لما سألت عنها وكلمتني بسببها عرفت أن لي فيها مآرب أخرى. وقيل: كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا وتكونان شمعتين بالليل، وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب، وكانت تقيه الهوام. قلت: هذه الخوارق إن كانت بعد نبوة موسى فلا كلام، وإن كانت قبلها ففي صحة الرواية بعد وإلا كان الأنسب تقديمها عند تعدد المنافع. وعلى تقدير صحتها فلعلها إرهاص أو من معجزات شعيب على ما يروى أنه كان قد أعطاها إياه. قال أهل النكت: إن موسى لما قال وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أراد الله سبحانه أن يعرّفه أن فيها مأربة أخرى لا يفطن لها وقالَ أَلْقِها يا مُوسى وبوجه آخر كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا، والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب، فأمر بتركهما تنبيها على أن السالك مادام في مقام الطلب والهرب كان مشتغلا بنفسه وطالبا لحظه فلا يحصل له كمال الاستغراق في بحر العرفان. وفيه أن موسى عليه السلام مع جلالة منصبه وعلو شأنه لم يمكن له الوصول إلى حضرة الجلال حتى خلع النعل وألقى العصا، فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابه؟! قال الكلبي: الاستطاعة قبل الفعل لأن القدرة على إلقاء العصا إما أن توجد والعصا في يده فذاك قولنا، أو توجد وهي خارجة عن يده وذلك تكليف بأنه يلقي من يده ما ليس في يده. ويمكن أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 526 يجاب بأن القدرة مع إلقاء العصا. قوله فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى [الأعراف: 107] وفي موضع آخر فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ وفي آخر كَأَنَّها جَانٌّ [النمل: 10] عبارات عن معبر واحد لأن الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والعظيم. وأما الثعبان- وهو العظيم من الحيات- والجان- وهو الدقيق منها- فبينهما تناف في الظاهر لا في التحقيق، لأنها حين انقلابها كانت تكون حية صفراء دقيقة كالجان، ثم تتورم ويتزايد جرمها حتى يصير ثعبانا آخر الأمر. أو أنها كانت في شخص ثعبان وسرعة حركة الجان ولهذا وصفها بالسعي وهو المشي بسرعة وخفة حركة. والعجب أن موسى قال أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها فصدّقه الله تعالى في ذلك وجعلها متكئا له بأن كانت أعظم معجزاته. وإنما قلبها حية في ذلك الوقت لتكون معجزة لموسى عليه السلام يعرف بها نبوة نفسه فإن النداء والنور والكلام لم يكن في ظهور الدلالة كهذه، ولأن توالي المعجزات كتتابع الخلع والكرامات. وأيضا لأنه عرضها عليه ليشاهدها ويوطن نفسه عليها حتى لا يخافها عند عدوّه فالولي يستر العيوب والعدوّ يبرز المناقب في صورة المثالب، فكيف إذا وجد مجال طعن وقدح؟! وقد مر في «الأعراف» أن الحية كان لها عرف كعرف الفرس، وكان بين لحييها أربعون ذراعا، فلما رأى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه من الفزع والنفار ما يملك البشر عند الأهوال حتى ذهل عن الدلائل وأخذ يفر، ولو أنه بلغ حينئذ مقام فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات: 50] لم يفر عن شيء. أو لعله لما حصل له مقام المكالمة بقي في قلبه عجب فأراه الله تعالى أنه بعد في نقص الإمكان ولم يفاوت عالم البشرية وما النصر والتثبيت إلا من الله وحده. فقد روي أنه لما قال له ربه: لا تَخَفْ بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها، قال الشيخ أبو القاسم الأنصاري: ذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة، لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه البتة. وعن بعضهم أنه خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها. قلت: يحتمل أن يكون خوف موسى وهجره إياها من فوات المنافع المعدودة ولهذا علل عدم خوفه بقوله سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى قال جار الله: السيرة من السير كالركبة من الركوب. يقال: سار فلان سيرة حسنة. ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة ومنه سير الأولين، فيجوز أن ينتصب على الظرف أي في طريقتها الأولى حال ما كانت عصا، أو يكون أعاد منقولا بالهمزة من عاده بنزع الخافض بمعنى عاد إليه فيتعدى إلى مفعولين، أو يكون المراد بالإعادة الإنشاء ثانيا. ونصب سِيرَتَهَا بفعل مضمر في موضع الحال أي سنعيدها تسير سيرتها الأولى حيث كنت تتوكا عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها. ثم قوى أمره بمعجزة ثانية فقال وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ يقال: لكل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 527 ناحيتين جناحان ومنه جناحا العسكر وجناحا الإنسان لجنبهما. والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران أي يميلهما. فقيل: المراد بالآية تحت العضد بدليل قوله تَخْرُجْ وعن ابن عباس: معناه إلى صدرك. وضعف بأنه لا يطابقه قوله تَخْرُجْ قلت: لا شك أن الصدر مستور بالقميص فيظهر عند ذلك معنى الخروج ويفسره قوله في موضع آخر وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [النمل: 12] والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوءة. والبرص أبغض شيء عند العرب بحيث تمجه أسماعهم فكان جدير بأن يكنى عنه. ومعنى بَيْضاءَ أنها تنور كشعاع الشمس. قال في الكشاف: من غير سوء من صلة البيضاء كما تقول: ابيضت من غير سوء. قلت: لعله أراد أن «من» للتعليل أي ليس البياض هو السوء وإنما السبب غيره وحقيقته ترجع إلى الابتداء. وبَيْضاءَ وآيَةً حالان معا أو متداخلتان. واحتمل أن ينتصب اية بمضمر يدل عليه الكلام نحو «خذ ودونك» . وقوله لِنُرِيَكَ إما أن يتعلق بهذا المحذوف أو بمحذوف آخر أي لنريك مِنْ آياتِنَا فلعنا ما فعلنا. ولا يبعد عندي أن يتعلق بالأمرين المذكورين أي أَلْقِها واضْمُمْ لنريك قال الحسن: اليد في الإعجاز أعظم من العصا لأنه تعالى وصفها بالكبرى. وضعف بأنه ليس في اليد إلا تغير اللون وأما في العصا ففيه تغير اللون والزيادة في الحجم وخلق الحياة والقدرة على الأمور الخارقة، فالمراد لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى. وجوز في الكشاف أن يكون المراد لنريك بهما الكبرى من آياتنا. ويرد عليه لزوم أن تكون الآيات الكبرى منحصرة فيهما وليس كذلك فإن معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكبر من الكل، وكفاك بالقرآن شاهدا على ذلك. ثم صرح بالمقصود من المعجزات فقال اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ وخصه بالذكر لأن قومه تبع له. ثم بين العلة في ذلك فقال إِنَّهُ طَغى وعن وهب أن الله تعالى قال لموسى: استمع كلامي واحفظ وصيتي برسالتي فإنك بعيني وبسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر تقديسي، وإني أقسم بعزتي لولا الحجة والعذر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار شديدة، ولكن هان عليّ وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي وقل له قولا لينا لا يغتر بلباس الدنيا، وإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل. قال: فسكت موسى سبعة أيام ثم جاءه ملك فقال له: أجب ربك فيما أمرك فعنده قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي قال علماء المعاني: أنهم أولا بقوله رَبِّ اشْرَحْ لِي وَيَسِّرْ لِي فعلم أن ثمة مشروحا وميسرا. ثم بين فرفع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 528 الإبهام بذكر الصدر والأمر وكان أوكد من جهة الإجمال. ثم التفصيل كان في صدر موسى ضيق كما جاء في موضع آخر وَيَضِيقُ صَدْرِي [الشعراء: 13] فسأل الله أن يبدل الضيق بالسعة حتى يفهم ما أنزل عليه من الوحي. وقيل: أراد شجعني على مخاطبة فرعون وعلى تحمل أعباء الرسالة. واعلم أن الكلام في الدعاء وشرائطه وفوائده وسائر ما يتعلق به قد سبق منا في «البقرة» في تفسير قوله سبحانه وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [الآية: 186] . ولنذكر هاهنا نكتا شريفة: الأولى أنه تعالى كامل في الأزل إلا أنه غير مكمل في الأزل لأن التكميل هو جعل الشيء كاملا ولا شيء معه في الأزل فلا تكميل، وذلك كما يقال: إنه سبحانه لا يعلم عددا مفصلا لحركات أهل الجنة لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه وحركات أهل الجنة غير متناهية فامتنع ذلك لا لقصور في العلم بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول. ولما كان الغرض من التكوين تكميل الناقصين، وكان الوجود أول صفة من صفات الكمال أجلس الله سبحانه على هذه المائدة بعض المعدومات، لأنه لو أجلس الكل عليها لدخل في الوجود ما لا نهاية له، ولانتهت القدرة الذاتية لامتناع إيجاد الموجود. وكما أن رحمته اقتضت وضع مائدة الوجود لبعض المعدومات دون بعض حتى صار ذلك البعض حيا مدركا للمنافي والملائم واللذة والألم والخير والشر فقال: الأحياء عند ذلك يا رب الأرباب شرفتنا بخلعة الوجود وخلعة الحياة، ولكن ازدادت حاجتنا لأنا- حال العدم وحال الجمادية- ما كنا نحتاج إلى الملائم والمخالف والموافق، وما كنا نخاف المنافي والمؤذي، والآن احتجنا إلى طلب الملائم ودفع المنافي، فإن لم يكن لنا قدرة على الهرب والطلب كنا كالزمن المقعد في الطريق عرضة للآفات وهدفا لسهام البليات، فاقتضت الرحمة الكاملة تخصيص بعض الأحياء بالقدرة كما اقتضت تخصيص بعض المعدومات بالوجود وتخصيص بعض الموجودات بالحياة فقال: القادرون عند ذلك: إلهنا الجواد الكريم إن الحياة والقدرة بلا عقل لا تكون إلا للبهائم المسخرة في حمل الأثقال، فأفض علينا من العقل الذي هو أشرف مخلوقاتك. فأعطى بعضهم العقل فحصل في أرواحهم نور البصيرة وجوهر الهداية ختامه مسك كما أن خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كان أفضل المخلوقات، فنظر العقل في نفسه فرأى نفسه كالحقة المملوءة من الجواهر بل كسماء مزينة بالزواهر وهي العلوم الضرورية البديهية المركوزة في بداية العقول وصرائح الأذهان، يهتدي بها السائرون في ظلمات بر الشكوك وبحر الشبهات، فاستدل العقل بتلك الأرقام على راقم، وبتلك النقوش على نقاش، فغلبته دهشة الأنوار الأزلية وكاد يغرق في بحر الفكر، ويضيق عليه نطاق التأمل والتدبر، ويقع في تجاذب أيدي الأعداء الداخلة والخارجة وشياطين الجن والإنس فعند ذلك قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 529 وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي فانتهاء جميع الحوادث اليه وتيسير الأمور الكلية والجزئية من عنده، وهو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته. الثانية: إنه تعالى خاطبه أولا بالتوحيد إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا وثانيا بالعبادة فَاعْبُدْنِي وثالثا بمعرفة المعاد إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ ورابعا بمعرفة الحكمة في جملة أفعاله وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ وخامسا بعرض المعجزات الباهرة عليه لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى وسادسا بإرساله إلى أعظم الناس كفرا وكانت هذه التكاليف الشاقة سببا لضيق العطن وانحلال عقدة الصبر فلا جرم تضرع إلى الله سبحانه قائلا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وهاهنا دقيقة هي أن شرح الصدر مقدمة لسطوح الأنوار الإلهية في القلب، والاستماع مقدّمة الفهم. ولما أعطى موسى المقدّمة بقوله فَاسْتَمِعْ نسج موسى على ذلك المنوال فقال رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ولما آل الأمر إلى محمد وكان خاتم النبيين ومقصودا من الكائنات ومخاطبا بقوله أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] أوتي النتيجة فقيل له وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] ووصف بقوله وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 46] فشرح الصدر هو أن يصير الصدر قابلا للنور، والسراج المنير هو المعطي للنور. فالتفاوت بين موسى ومحمد عليهما السلام هو التفاوت بين الآخذ والمعطي ولهذا قال موسى: اللهم اجعلني من أمة محمد. الثالثة: إنه تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور أحدها وصف ذاته بالنور اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35] وثانيها الرسول قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15] وثالثها الكتاب وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الأعراف: 157] ورابعها الإيمان يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ [التوبة: 32] وخامسها عدل الله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [الزمر: 69] وسادسها ضياء القمر وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح: 16] وسابعها النهار وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] وثامنها البينات إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [المائدة: 44] وتاسعها الأنبياء نُورٌ عَلى نُورٍ [النور: 35] وعاشرها المعرفة مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [النور: 35] فكأن موسى عليه السلام قال أوّلا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بمعرفة أنوار جلال كبريائك. وثانيا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك. وثالثا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك. ورابعا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بنور الإيمان والإيقان بإلهيتك. وخامسا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بالاطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك. وسادسا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلالك وعزتك كما فعله إبراهيم صلوات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 530 الرحمن عليه. وسابعا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي عن مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل عدلك. وثامنا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بالاطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمائك. وتاسعا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي في أن أكون خلف صدق أنبيائك المتقدمين متشبها بهم في الانقياد لحكم رب العالمين. وعاشرا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بأن تجعل سراج الإيمان كالمشكاة التي فيها المصباح. الرابعة: شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير القلب كالسراج، ومستوقد السراج محتاج إلى سبعة أشياء: زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن. فالزند زند المجاهدة وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا [العنكبوت: 69] والحجر حجر التضرع وادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأعراف: 55] والحراق منع الهوى وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى [النازعات: 40] والكبريت الإنابة وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ [الزمر: 54] والمسرجة الصبر وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45] والفتيلة الشكر لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [ابراهيم: 7] والدهن الرضا وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور: 48] ثم إذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن تطلب المقصود من حضرة ربك بالتضرع والدعاء قائلا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فهنالك تسمع قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى. الخامسة: هذا النور الروحاني المسمى بشرح الصدر أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه أحدها: الشمس يحجبها الغيم، وشمس المعرفة لا تحجبها السموات السبع إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10] وثانيها الشمس تغيب ليلا وشمس المعرفة لا تغيب ليلا إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آل عمران: 17] سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] الليل للعاشقين ستير يا ليت أوقاته تدوم وعند الصباح يحمد القوم السرى. وثالثها الشمس تفنى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير: 1] والمعرفة لا تفنى أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ [ابراهيم: 24] سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] ورابعها الشمس إذا قارنها القمر انكسفت وشمس توحيد المعرفة وهي «أشهد أن لا إله إلا الله» إذا لم تقرن بقمر النبوة وهي «أشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم» لم يصل نور إلى عالم الجوارح. وخامسها الشمس تسود الوجه والمعرفة تبيض الوجوه يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] وسادسها الشمس تحرق والمعرفة تنجي من الإحراق «جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي» . وسابعها الشمس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 531 تصدع والمعرفة تصعد إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10] وثامنها الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في الدارين فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] وبوجه آخر الشمس زينة لأهل الأرض، والمعرفة زينة لأهل السماء. وتاسعها الشمس فوقاني الصورة تحتاني المعنى، والمعارف الإلهية تحتانية الصورة فوقانية المعنى، وفيه أن الخيبة مع الترفع والشرف مع التواضع. وعاشرها الشمس تعرّف أحوال الخلق، والمعرفة تصل القلب إلى الخالق. والشمس تقع على الولي والعدوّ والمعرفة لا تحصل إلا للولي، ولما كان شرح الصدر الذي هو أول مراتب الروحانيات أشرف من أعلى مراتب الجسمانيات بدأ موسى بطلبه قائلا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. السادسة: الشمس سراج أوقدها الله تعالى للفناء كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] والمعرفة سراج استوقده للبقاء يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [ابراهيم: 27] والذي خلقه للفناء إذا قرب منه الشيطان احترق يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجن: 9] والذي خلقه للبقاء كيف يقرب منه الشيطان رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وأيضا: الشمس في السماء ثم إنها مع بعدها تزيل الظلمة عن بيتك، فشمس المعرفة مع قربها لأنها في قلبك أولى أن تزيل ظلمة المعصية والكفر عن قلبك. وأيضا الإنسان إذا استوقد سراجا فإنه لا يزال يتعهده ويمده، والله تعالى هو الموقد لسراج المعرفة وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ [الحجرات: 7] أفلا يمده وهو معنى قوله رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وأيضا إذا كان في البيت سراج فإن اللص لا يقرب منه، وإنه سبحانه قد أوقد سراج المعرفة في قلبك فكيف يقرب الشيطان منه رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وأيضا المجوس إذا أوقدوا نارا لا يجوزون إطفاءها، فالملك القدوس إذا أوقد سراج المعرفة في قلبك كيف يرضى بإطفائها رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. السابعة: أنه سبحانه أعطى قلب المؤمن تسع كرامات أحدها أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: 122] وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضا ميتة فهي له» فيعلم أنه لما خلق أرض القلب فأحياها بنور الإيمان لا يكون لغيره فيها نصيب. وثانيها الشفاء وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة: 14] وفيه أنه إذا وضع الشفاء في العسل بقيت تلك الخاصية فيه أبدا. فإذا وضع الشفاء في الصدر فكيف لا يبقى أبدا؟ وثالثها الطهارة أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى [الحجرات: 3] وفيه أن الصائغ إذا امتحن الذهب فبعد ذلك لا يدخله في النار، فالله تعالى لما امتحن قلب المؤمن كيف يدخله النار بعده؟ ورابعها الهداية وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: 11] وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 532 يهدي نفسك والقرآن يهدي روحك والمولى يهدي قلبك، والأول قد يحصل وقد لا يحصل إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] وكذا الثاني يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة: 26] وأما هداية القلب فلا تزول البتة لأن الهادي لا يزول وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صراط مستقيم [القصص: 56] وخامسها الكتابة أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: 22] وفيه أن القرطاس إذا كتب فيه القرآن لم يجز إحراقه، فقلب المؤمن الذي فيه القرآن وجميع أحكام ذات الله وصفاته كيف يليق بالكريم إحراقه؟ وأيضا إن بشرا الحافي أكرم قرطاسا فيه اسم الله تعالى فنال سعادة الدارين، فإكرام قلب فيه معرفة الله أولى بذلك. وأيضا إن القرطاس إذا كتب فيه اسم الله الأعظم عظم قدره حتى إنه لا يجوز للجنب والحائض مسه، فالقلب الذي فيه أكرم الموجودات كيف يجوز للشيطان الخبيث أن يمسه؟ وسادسها هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [الفتح: 4] وفيه أن أبا بكر لما نزلت عليه السكينة في الغار قيل له لا تحزن إن الله معنا. فالمؤمن إذا نزلت السكينة في قلبه لا بد أن يقال له عند قبض الروح: لا تخف ولا تحزن كما قال تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت: 30] وسابعها المحبة والزينة كما قال وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 6] وفيه أن الدهقان إذا ألقى في الأرض حبة فهو لا يفسدها ولا يحرقها، فهو سبحانه حين ألقى حبة المحبة في أرض القلب كيف يحرقها؟ وثامنها فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ [آل عمران: 103] وفيه أن محمدا حين ألف بين قلوب أصحابه ما تركهم غيبة ولا حضورا سلام «علينا وعلى عباد الله الصالحين» فأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين كيف يتركهم سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] . وتاسعها الطمأنينة أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 21] وفيه أن الحاجات غير متناهية وما سوى الله فهو متناه، والمتناهي لا يقابل غير المتناهي. فالكافي للمهمات لا يكون إلا من له كمالات غير متناهيات فلا يزيل قلق الحوائج واضطراب الأماني إلا الله سبحانه، وبإزاء هذه الكرامات ورد في حق الكفار أضدادها فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [التوبة: 127] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة: 10] قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً [المائدة: 13] إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الكهف: 57] خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7] أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24] بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [المطففين: 14] طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [النحل: 108] فلأجل تلك الكرامات والهرب من أضدادها قال موسى رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. الثامنة: في حقيقة شرح الصدر وذلك أن لا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا إلا رغبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 533 بأن يكون متعلق القلب الأهل والولد وتحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم، ولا رهبة بأن يكون خائفا من الأعداء والمنازعين فإن القوة البشرية لضعفها كينبوع صغير، فإذا وزعت على جداول كثيرة ضعف الكل وضاعت وإذا انصب الكل في موضع واحد ظهر أثرها وقويت فائدتها، فسأل موسى ربه أن يوقفه على معايب الدنيا وقبح صفاتها ليكون متوجها بالكلية إلى عالم القدس ومنازل الروحانيات وهذا معنى قوله رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. أو نقول: إنه لما كلف بضبط الوحي في قوله فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى وبالمواظبة على خدمة الخالق في قوله فَاعْبُدْنِي فكأنه صار مكلفا بتدبير العالمين، والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر فسأل موسى ربه قوة وافية بالطرفين فقال رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي أو نقول: معدن النور هو القلب، والاشتغال بما سوى الله- من الزوجة والولد والصديق والعدوّ بل الجنة والنار- هو الحجاب المانع من وصول نور شمس القلب إلى فضاء الصدر، فإذا قوى الله بصيرة العبد حتى طالع عجز الخلق وقلة فائدتهم في الدارين صغروا في عينه كالذباب والبق والبعوض فلا يدعوه رغبة إلى شيء مما يتعلق بالدنيا ولا رهبة من شيء من ذلك فيصير الكل عنده كالعدم فعند ذلك يزول الحجاب وينفسخ القلب بل الصدر للنور رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. التاسعة: لنضرب مثلا لذلك فنقول: البدن بالكلية كالمملكة، والصدر كالقلعة، والفؤاد كالصفة، والقلب كالسرير، والروح كالملك، والعقل كالوزير، والشهوة كالعامل الكبير الذي يجلب النعم إلى البلدة، والغضب كالا سفهيد الذي يشتغل بالضرب، والتأديب والحواس كالجواسيس، وسائر القوى كالمحترفين والعملة والصناع. ثم إن الشيطان كملك مطاع وإنه يخاصم هذه البلدة والقلعة والهوى والحرص وسائر الأخلاق الذميمة جنوده، فإذا أخرج الروح وزيره وهو العقل أخرج الشيطان في مقابله الهوى فجعل العقل يدعو إلى الله تعالى والهوى إلى الشيطان. ثم إن الروح أخرج الفطنة إعانة للعقل فأخرج الخصم في مقابلته الشهوة، فالفطنة توقفك على معايب الدنيا، والشهوة تحسن لذات الدنيا. ثم إن الروح أمد الفطنة بالفكرة لتوقف على الحاضر والغائب من المعايب على ما قال «تفكر ساعة خير من عبادة سنة» فأخرج الشيطان في مقابلة الفكرة الغفلة، ثم أخرج الروح الحلم والثبات فإن العجلة ترى الحسن قبيحا والقبيح حسنا، فأخرج الشيطان بإزائه العجلة والسرعة فلهذا قال صلى الله عليه وسلم «ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وما دخل الخرق في شيء إلا شانه» «1» وخلق السموات والأرض في ستة أيام ليتعلم منه الرفق والثبات فهذه   (1) رواه مسلم في كتاب البر حديث 78. أبو داود في كتاب الجهاد باب: 1. أحمد في مسنده (6/ 58، 112) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 534 هي الخصومة الواقعة بين الصفين وقلبك وصدرك هو المعركة. ثم إن لهذا الصدر الذي هو القلعة خندقا وهو الزهد في الدنيا، وله سور وهو الرغبة في الآخرة. فإن كان الخندق عظيما والسور قويا عجز عسكر الشيطان وجنوده فانهزموا، وإن كان بالضد دخل الشيطان وجنوده من الكبر والهوى والعجب والبخل وسوء الظن بالله ومن النميمة والغيبة وسائر الخصال الذميمة، وينحصر الملك في القصر ويضيق الأمر عليه. ثم إذا جاء مدد التوفيق وأخرج هذا العسكر من القلعة انفسح وانشرح رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. النكتة العاشرة: في الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب. الصدر مقر الإسلام أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزمر: 22] والقلب مقر الإيمان حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 6] أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: 22] والفؤاد مقر المشاهدة ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: 11] واللب مقام التوحيد إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: 9] أي الذين خرجوا من قشر الوجود المجازي ويقوا بلب الوجود الحقيقي. ثم إن القلب كاللوح المحفوظ في العالم الصغير فإذا ركب العقل سفينة التوفيق وألقاها في بحار أمواج المعقولات من عالم الروحانيات هبت من مهاب العظمة والكبرياء رخاء السعادة تارة ودبور الأدبار أخرى، فحينئذ يضطر الراكب إلى التماس أنوار الهدايات وطلب انفتاح أبواب السعادات فيقول رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وإنما سأل موسى شرح الصدر دون القلب لأن انشراح الصدر يستلزم انشراح القلب دون العكس. وأيضا شرح الصدر كالمقدمة لشرح القلب والجواد يكفيه الإشارة، فإذا علم أنه طالب للمقدمة فلا يليق بكرمه أن يمنعه النتيجة. وأيضا إنه راعى الأدب في الطلب فاقتصر على طلب الأدنى. فلا جرم أعطى المقصود فقال قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى وحين اجترأ في طلب الرؤية بقوله أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] أجيب بقوله لَنْ تَرانِي. واعلم أن جميع المهيئات الممكنة كالبلور الصافي الموضع في مقابلة شمس القدس ونور العظمة ومشرق الجلال، فإذا وقع للقلب التفات إليها حصلت له نسبة إليها بأسرها، فينعكس شعاع كبرياء الإلهية من كل واحد منها إلى القلب فيحرق القلب. ومعلوم أن المحرق كلما كان أكثر كان الاحتراق أتم، فلهذا قال موسى رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي حتى أقوى على إدراك درجات الممكنات وأصل إلى مقام الاحتراق بأنوار الجلال كما نبينا صلى الله عليه وسلم «أرني الأشياء كما هي» وهاهنا دقيقة وهي أن موسى لما زاد لفظة لِي في قوله رَبِّ اشْرَحْ لِي دون أن يقول «رب اشرح صدّري» علم أنه أراد أن تعود منفعة الشرح إليه فلا جرم يقول يوم القيامة «نفسي نفسي» وإن نبينا صلى الله عليه وسلم لما لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 535 ينس أمته في مقام القرب إذ قيل له «السلام عليك أيها النبي» فقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فلا جرم يقول يوم القيامة «أمتي أمتي» وشتان ما بين نبي يتضرع إلى الله ويقول رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وبين نبي يخاطب أولا بقوله أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] . ولا يخفى أن المراد بالشرح والتيسير عند أهل السنة هو خلقهما، وعند المعتزلة تحريك الدواعي والبواعث بفعل الألطاف المسهلة، فإنه يحتمل أن يكون هناك من الألطاف ما لا يحسن فعلها إلا بعد هذا السؤال. أما قوله سبحانه وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي فاعلم أن النطق فضيلة عظيمة وموهبة جسيمة ولهذا قال خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن: 3، 4] بغير توسط العاطف كأنه إنما يكون خالقا للإنسان إذا علمه البيان. وفي لسان الشاعر وهو زهير: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم. وعن علي كرم الله وجهه: ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة مصورة أو بهيمة مهملة. وقالت العقلاء: المرء بأصغريه. المرء مخبوء تحت لسانه. وفي مناظرة آدم والملائكة لم تظهر الفضيلة إلا بالنطق. ومن التعريفات المشهورة: إن الإنسان هو الحيوان الناطق، وهذا النطق وإن كان في التحقيق هو إدراك المعاني الكلية لكن النطق اللساني لا ريب أنه أظهر خواص الآدمي وقد نيط به أمر تمدنه والتعبير عما في ضميره فقول موسى رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي إشارة إلى طلب النور الواقع في القلب، وقوله وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي رمز الى تسهيل ذلك التحصيل، وقوله وَاحْلُلْ طلب لسهولة أسباب التكميل لأن اللسان آلة إلا فاضة والإفادة وبه يتيسر ذلك الخطب الجسيم والمنصب العظيم. وحسبك يا فتى شرفا وفخرا ... سكوت الحاضرين وأنت قائل ومن الناس من مدح الصمت بوجوه منها: قوله صلى الله عليه وسلم «الصمت حكمة وقليل فاعله» وقولهم: مقتل الرجل بين فكيه. وفي نوابغ الكلم: يا بني ق فاك لا تقرع قفاك. ومنها أن الكلام خمسة أقسام: فالذي ضرره خالص أو غالب أو مساو للنفع واجب الترك احترازا من السفه والعبث، والذي نفعه خالص أو غالب عسر المراعاة فالأولى تركه. ومنها أنه ما من موجود أو معدوم معلوم أو موهوم إلا واللسان يتناوله بإثبات أو نفي بحق أو بباطل، بخلاف سائر الأعضاء. فالعين لا تصل إلا إلى الألوان والسطوح، والأذن لا تصل إلا إلى الأصوات والحروف، واليد لا تصل إلا إلى الأجسام، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 536 وكذا باقي الجوارح. أما اللسان فإنه رحب الميدان واسع المضطرب خفيف المئونة سهل التناول لا يحتاج إلى آلات وأدوات للمعصية به فكان الأولى ترك الكلام وإمساك اللسان. والإنصاف ان الصمت في نفسه ليس بفضيلة لأنه أمر عدمي والنطق في نفسه فضيلة، وإنما يصير رذيلة لأسباب عرضية مما عددها ذلك القائل فيرجع الحق إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم «رحم الله امرأ قال خيرا فغنم أو سكت فسلم» قالوا: ترك الكلام له أربعة أسماء: الصمت وهو أعمها حتى إنه يستعمل فيما ليس يقوى على النطق كقولهم «مال ناطق أو صامت» . والسكوت وهو ترك الكلام ممن يقدر على الكلام والإنصات هو السكوت مع استماع قال تعالى فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الأعراف: 204] والإصاخة وهو الاستماع إلى ما يصعب إدراكه كالسر والصوت من المكان البعيد. أما العقدة فقيل: إنها كانت في أصل خلقته وعن ابن عباس أنه في حال صباه أخذ بلحية فرعون ونتفها فهم فرعون بقتله وقال: هذا هو الذي يزول ملكي على يده فقالت آسية: إنه صبي لا يعقل وإن شئت فامتحنه بالتمرة والجمرة. وقيل: بالياقوت والجمر. فأحضرا بين يديه فأراد مد اليد إلى الياقوت فحول جبرائيل يده إلى الجمرة فأخذها ووضعها في فيه فظهر به تعقد وتحبس عن بعض الحروف. فإن صحت هذه الرواية فالنار إنما أحرقته وأثرت فيه إطفاء لثائرة غضب فرعون وإلا فالله سبحانه قادر على دفع الإحراق عن طبع النار كما في حق إبراهيم صلوات الرحمن عليه، وكما في حق موسى حين ألقي في التنور. ويروى أن يده احترقت أيضا وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم يبرأ ولما دعاه قال: الي أيّ رب تدعوني؟ قال: إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها. وعن بعض العلماء أنه لم تبرأ يده لئلا ينعقد بينه وبين فرعون حرمة المؤاكلة من قصعة واحدة. وقيل: لم تحرق يده لأن الصولة ظهرت باليد، وإنما احترق اللسان لأنه خاطبه بقوله «يا أبت» . وما الحكمة في طلب حل العقدة؟ الأظهر كيلا يقع في أداء الرسالة خلل فلهذا قال يَفْقَهُوا قَوْلِي وقيل: لأن العقدة في اللسان قد تقتضي الاستخفاف بالقائل وعدم الالتفات إليه. وقيل: إظهارا للمعجزة فكما أن حبس لسان زكريا عن الكلام كان معجزا له فكذا إطلاق لسان موسى كان معجزا في حقه. وهل زالت تلك العقدة بالكلية؟ فعن الحسن نعم لقوله قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى والأصح أنه بقي بعضها لقوله تعالى حكاية عن فرعون أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ [الزخرف: 52] أي يقارب أن لا يبين. وكان في لسان الحسين بن علي رضي الله عنه رتة أي عجمة في الكلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ورثها من عمه موسى. وفي تنكير عقدة أيّ عقدة من عقد دلالة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 537 على أنه طلب حل بعضها بحيث يفهم عنه فهما جيدا ولم يطلب الفصاحة الكاملة. وقال أهل التحقيق: وذلك لأن حل العقدة بالكلية نصيب محمد صلى الله عليه وسلم فكان أفصح العرب والعجم وقد قال تعالى وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء: 34] فلما كان ذلك حقا ليتيم أبي طالب لا جرم ما دار حوله. ومن مطالب موسى قوله وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ قال أهل الاشتقاق: الوزير من الوزر بالكسر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنة، أو من الوزر بفتحتين وهو الملجأ لأن الملك يعتصم برأيه ويلجيء إليه أموره، أو من الموازرة وهي المعاونة فيكون من الأزر والقوة ومنه قوله تعالى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي أي ظهري لأنه محل القوة. قال الجوهري: آزرت فلانا أي عاونته، والعامة تقول: وازرته. وعلى هذا فيكون القياس أزيرا بالهمز على ما حكي عن الأصمعي ووجه القلب حمل «فعيل على «مفاعل» لاتحاد معنييهما في نحو «عشير» و «جليس» و «صديق» وغيرها. وحمله على أخوته من نحو الموازرة ويوازر والاستعانة بالوزير وبحسن رأيه دأب الملوك العقلاء وقد استحسنه نبينا صلى الله عليه وسلم فقال «إذا أراد الله بملك خيرا قيض له وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن نوى خيرا أعانه عليه، وإن أراد شرا كفه» «1» وكان أنوشروان يقول: لا يستغني أجود السيوف عن الصقل، ولا أكرم الدواب عن السوط، ولا أعلم الملوك عن الوزير. وكفى بمرتبة الوزارة منقبة وفخرا وشرفا وذكرا أن النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزات الباهرة ابتهل إلى الله سبحانه في مقام القرب والمكالمة يطلبه منه، فيجب على من أوتي هذه الرتبة أن يؤدي إلى الله حقها ولا يغتر بالدنيا وما فيها، ويزرع في أرض الوزارة ما لم يندم عليه وقت حصاده. وقيل: إن موسى خاف على نفسه العجز عن القيام بذلك الأمر العظيم والخطب الجسيم فطلب المعين. والأظهر أنه رأى أن التعاون على الدين والتظاهر عليه مع خلوص النية وصفاء الطوية أبعد عن التهمة وأعون على الغرض، ولهذا حكى عن عيسى أنه قال مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [الصف: 14] وخوطب نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال «إن لي في السماء وزيرين وفي الأرض وزيرين فاللذان في السماء جبرائيل وميكائيل واللذان في الأرض أبوبكر وعمر» «2» ثم إن موسى طلب أن يكون ذلك الوزير من أهله أي من أقاربه لتكون الثقة به أكثر وليكون الشرف في بيته أوفر وإنه كان واثقا بأخيه هارون فأراد أن   (1) رواه أبو داود في كتاب الإمارة باب: 4. (2) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب: 16 . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 538 يخصه بهذا المنصب الشريف قضاء لحقوق الإخاء، فمن منع المستوجبين فقد ظلم وكان أفصح منه لسانا وأكبر سنا وألين جانبا. قال جار الله: وَزِيراً وهارُونَ مفعولا اجْعَلْ قدم ثانيهما عناية بأمر الوزارة، أو لِي ووَزِيراً مفعولان هارُونَ عطف بيان للوزير وأَخِي في الوجهين بدل من هارُونَ أو عطف بيان آخر. وقيل: يجوز فيمن قرأ اشْدُدْ على الأمر أن يجعل أَخِي مرفوعا على الابتداء واشْدُدْ خبره فيوقف على هارُونَ وشد الأزر به عبارة عن تقويته به وأن يجعله ناصرا له فيما عسى يرد عليه من الشدائد والخطوب، بل يجعله وسيلة له في أمر النبوة وطريق الرسالة لأنه صرح بذلك في قوله وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. ثم ذكر غاية الأدعية فإن المقصد الأسنى هو الاستغراق في بحر التوحيد ونفي الإشراك، فإن التعاون مهيج الرغبات ومسهل سلوك سبل الخيرات فقال كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً أي تسبيحا كثيرا وَنَذْكُرَكَ ذكرا كَثِيراً وقدم التسبيح وهو التنزيه لأن النفي مقدم على الإثبات، فبالأول تزول العقائد الفاسدة، وبالثاني ترتسم النقوش الحسنة المفيدة. ثم ختم الأدعية بقوله إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً وفيه فوائد منها: أنه فوض استجابة الدعوات إلى عمله بأحوالهما وأنهما بصدد أهلية الإجابة أم لا، وفيه من حسن الأدب ما لا يخفى. ومنها أنه عرض فقره واحتياجه على علمه وأنه مفتقر إلى التعاون والتعاضد ولهذا سأل ما سأل. ومنها أنه أعلم بأحوال أخيه هل يصلح لوزارته أم لا، وأن وزارته هل تصير سببا لكثرة التسبيح والذكر. وحين راعى من دقائق الأدب وأنواع حسن الطلب ما يجب رعايته فلا جرم أجاب الله تعالى مطالبه وأنجح مآربه قائلا قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ والسؤل بمعنى المسئول كالخبز بمعنى المخبوز والأكل بمعنى المأكول. وزيادة قوله يا مُوسى بعد رعاية الفاصلة لأجل كمال التمييز والتعيين والله أعلم. بمصالح عبيده. التأويل: يا من طاب بطهارته بساط النبوة ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إلا لتسعد بتخلقك بخلقه ويسعد بسببك الأولون والآخرون من أهل السموات وأهل الأرضين. تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ أرض بشريتك وسموات روحانيتك التي هي أعلى الموجودات الممكنات كما قال «أول ما خلق الله روحي» . استوى بصفة الرحمانية على عرش قلبك ليكون معه وقت لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل: لَهُ ما فِي السَّماواتِ الروحانية من الصفات الحميدة وَما فِي الْأَرْضِ البشرية من الصفات الذميمة وَما بَيْنَهُما أي بين سماء الروح وأرض النفس وهو القلب بما فيه من الإيمان والإيقان والصدق والإخلاص وَما تَحْتَ الثَّرى أي ما هو مركوز في جبلة الإنسانية: وَإِنْ تَجْهَرْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 539 بِالْقَوْلِ أن يظهر شيء من صفاتك بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وهو ما يظهر من سيرتك وَأَخْفى هو ما أخفى الله من خفيك. والسر في اصطلاح الصوفية لطيفة بين القلب والروح، وهو معدن الأسرار الروحانية. والخفي لطيفة بين الروح والحضرة الإلهية وهو مهبط أنوار الربوبية وأسرارها وجملتها المعقولات، وقد يحصل لكل إنسان عند نشأته الأولى وإن كان كافرا. والأخفى لطيفة بين الروح والحضرة الإلهية ويكون عند نشأته الأخرى ولا يحصل إلا لمؤمن موحد صار مهبط الأنوار الربانية وجملتها المشاهدات والمكاشفات وحقائق العلوم اللدنية، ولهذا قال عقيبه اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لأن مظهر الألوهية وصفاته العليا وأسمائه الحسنى هو الخفي الذي لا شيء أقرب إلى الحضرة منه إلا وهو سر وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31] وهو حقيقة قوله «إن الله خلق آدم فتجلى فيه» وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى القلب إِذْ رَأى ناراً [طه: 10] وهو نور في الحقيقة مأنوس به من جانب طور الروح فَقالَ لِأَهْلِهِ وهم النفس وصفاتها امْكُثُوا في ظلمة الطبيعة الحيوانية إِنِّي آنَسْتُ نار المحبة التي لا تبقى ولا تذر من حطب الوجود المجازي شيئا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ يخرجكم من ظلمات الطبيعة إلى أنوار الشريعة أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً بآداب الطريقة إلى الحقيقة فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ من شجرة القدس بخطاب الإنس فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أي اترك الالتفات إلى الزوجة والولد فإن النعل يعبر في الرؤيا بهما، أو اترك الالتفات إلى الكونين إنك واصل الى جناب القدس، أو هما المقدمتان في نحو قولنا «العالم محدث وكل محدث فله محدث وموجد» وذلك أنه إذا غرق في لجة العرفان بقيت المقدمات على ساحل الوسائل وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يا موسى القلب من سائر خلق وجودك من البدن والنفس والسر والروح فَاسْتَمِعْ بسمع الطاعة والقبول إنني لما تجليت بأنانية الوهيتي لأنانية وجودك المجازي لا يبقى إلا أنا فَاعْبُدْنِي بإفناء وجودك وأدم المناجاة معي لنيل ذكري إياك بالتجلي. إن قيامة العشق آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لعظم شأنها إلا أن متقاضى الكرم اقتضى إظهارها لأخص عبيدي لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى في العبودية من الروح والسر والقلب والنفس والقالب فلما كان سعي الروح بحب الوطن الأصلي للرجوع إليّ أمكن إضافة وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: 72] فجزاؤه من تجلي صفات الجلال بانعدام الناسوتية في اللاهوتية وكان سعي السعي بالخلو عن الأكوان لقبول فيض المكون فجزاؤه بإفاضة الفيض الإلهي عليه. وسعي القلب بقطع تعلقات الكونين لتصفيته وقابليته لتجلي صفات الجمال والجلال، فجزاؤه بدوام التجلي وأن يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه من الشراب الطهور الذي يزيل لوث الحدوث عن لوح القلوب لكشف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 540 حقائق. وسعي النفس بتبديل الأخلاق وانتفاء الأوصاف الحيوانية، فجزاؤه بإشراق نور ربها لإزالة ظلمة صفاتها واطمئنانها إلى ذكر ربها لتصير قابلة لجذبه ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] وسعي القالب باستعمال أركان الشريعة وآداب الطريقة، فجزاؤه ورفعة الدرجات ونيل الكرامات في الدارين فلا يصدنك عن هذه السعادات النفس الأمارة بالسوء التي لا تؤمن بها. ويحتمل أن يقال: أكاد أخفي الساعة ودخول الجنة والنار لئلا تكون عبادتي مشوبة بطمع الجنة وخوف النار. قالوا: أخطأ موسى في قوله هِيَ عَصايَ وكان عليه أن يقول «أنت أعلم بحالها مني» وفي قوله أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وكان عليه أن يتكىء على لطف الله وكرمه فلهذا قيل له أَلْقِها يا مُوسى وفي قوله وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي إذ نسي أن العصا لا تكون واسطة لرزق أغنامه وإنما الرزاق هو الله. خُذْها وَلا تَخَفْ فإن الضار والنافع هو الله وحده فلا يكن خوفك إلا منه ولا رجاؤك إلا به وَاضْمُمْ يد همتك إلى جناح قنوعك تَخْرُجْ بَيْضاءَ نقية عن درن السؤال وعن الطمع وباقي الحقائق مذكور في التفسير. وفي قوله قَدْ أُوتِيتَ بلفظ الماضي إشارة إلى أنه أعطي ذلك بالتقدير الأزلي لا بالتدبير العملي والله أعلم بالصواب. [سورة طه (20) : الآيات 37 الى 76] وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 541 القراآت: وَلِتُصْنَعَ بسكون اللام والعين على الأمر: يزيد الآخرون بكسر اللام ونصب العين لِنَفْسِي اذْهَبْ فِي ذِكْرِي اذْهَبا بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو خلقه بفتح اللام على أنه فعل: نصير الباقون بالسكون. مَهْداً وكذلك في «الزخرف» : عاصم وحمزة وعليّ وخلف وروح. الآخرون مِهاداً سُوىً بكسر السين: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وعليّ الآخرون بالضم لا نُخْلِفُهُ بالجزم جوابا للأمر: يزيد يَوْمُ الزِّينَةِ على الظرف: هبيرة: وَقَدْ خابَ حيث كان بالإمالة: حمزة فَيُسْحِتَكُمْ من الإسحات: حمزة وعليّ وخلف ورويس وحفص. الباقون بفتح الياء والحاء إِنْ مخففة: ابن كثير وحفص والمفضل. الباقون مشددة. هذين أبو عمرو وهذانِ بالتشديد: ابن كثير. الباقون بالتخفيف فَأَجْمِعُوا بهمزة الوصل وفتح الميم أمرا من الجمع: أبو عمرو. والآخرون على لفظ الأمر من الإجماع: وَقَدْ أَفْلَحَ بنقل الحركة إلى الدال حيث كان: ورش وعباس وحمزة في الوقف تخيل بالتاء الفوقانية: ابن ذكوان وروح والمعدل عن زيد الباقون وابن مجاهد عن ابن ذكوان بالتحتانية. تلقف بالتشديد والرفع على الاستئناف: ابن ذكوان. تَلْقَفْ بالتخفيف والجزم: حفص والمفضل. وقرأ البزي وابن فليح مشددة التاء كيد سحر على المصدر: حمزة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 542 وعلي وخلف. الباقون كَيْدُ ساحِرٍ على الوصف. قالَ آمَنْتُمْ بالمد: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن عامر وأبو جعفر ونافع وابن كثير عن ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل قال أمنتم على الخبر بغير مد: حفص وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل. الباقون أآمنتم بزيادة همزة الاستفهام وَمَنْ يَأْتِهِ مختلسة الهاء: يزيد وقالون ويعقوب غير زيد، وأبو عمرو عن طريق الهاشمي عن اليزيدي وَمَنْ يَأْتِهِ بسكون الهاء: خلا دور جاء والعجلي وشجاع واليزيدي غير أبي شعيب ويحيى وحماد. الباقون يَأْتِهِ بالإشباع. الوقوف: أُخْرى هـ لا لأن «إذ» تفسير المرة ما يُوحى هـ لا لأن ما بعده تفسير ما يُوحى وَعَدُوٌّ لَهُ ط مِنِّي ج لأن الواو وقد تكون مقحمة وتعلق اللام ب أَلْقَيْتُ وقد تكون عاطفة على محذوف أي لتحب ولتصنع، ومن جزم اللام وقف على مِنِّي لا محالة عَلى عَيْنِي م لئلا يوهم أن «إذ» ظرف لِتُصْنَعَ مَنْ يَكْفُلُهُ ط لانقطاع النظم وانتهاء الاستفهام على أن فاء التعقيب مع اتحاد القصة يجيز الوصل. وَلا تَحْزَنَ ط لابتداء منة أخرى فُتُوناً هـ ط يا مُوسى هـ لِنَفْسِي هـ لا تساق الكلام مع حق الفاء مضمرة ذِكْرِي هـ ج لمثل ما قلنا والمضمر واو طَغى هـ للآية مع الفاء يَخْشى هـ يَطْغى هـ وَأَرى هـ وَلا تُعَذِّبْهُمْ ط لأن «قد» لتوكيد الابتداء وقد انقطع النظم على أن اتحاد المقول يجيز الوصل مِنْ رَبِّكَ ط لذلك فإن الواو للابتداء فِي كِتابٍ ج لاحتمال ما بعده الصفة والاستئناف وَلا يَنْسى هـ بناء على أن «الذي» صفة الرب والأحسن تقدير هو الذي أو أعني الذي ماءً ط للالتفات شَتَّى هـ أَنْعامَكُمْ ط النُّهى هـ أُخْرى هـ وَأَبى هـ يا مُوسى هـ سُوىً هـ ضُحًى هـ أَتى هـ بِعَذابٍ ج لاختلاف الجملتين افْتَرى هـ النَّجْوى هـ الْمُثْلى هـ صَفًّا هـ اسْتَعْلى هـ أَلْقى هـ أَلْقى ج لأن التقدير فألقوا ما ألقوه فإذا حبالهم مع فاء التعقيب وإذا المفاجأة المنافيين للوقف نَفْسِهِ هـ مُوسى هـ الْأَعْلى هـ ما صَنَعُوا ط كَيْدُ ساحِرٍ ط أَتى هـ وَمُوسى هـ لَكُمْ ط السِّحْرَ ق للقسم المحذوف ولانقطاع النظم مع فاء التعقيب وإتمام مقصود الكلام النَّخْلِ ج لابتداء معنى القسم ولفظ استفهام يعقبه مع اتفاق الجملة واتحاد الكلام. وَأَبْقى هـ قاضٍ ط الْحَياةَ الدُّنْيا ط مِنَ السِّحْرِ ط وَأَبْقى هـ جَهَنَّمَ ط وَلا يَحْيى هـ الْعُلى هـ لا لأن ما بعده بدل فِيها ط تَزَكَّى هـ. التفسير: منّ عليه منا أنعم، ومنّ عليه منة أي امتن عليه كأن الله سبحانه قال لموسى: إني راعيت صلاحك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال، أو كنت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 543 ربيتك من غير سابقة حق فلو منعتك الحال مطلوبك لكان ذلك ردا بعد القبول وحرمانا بعد الإحسان وذلك ينافي الكرم الذاتي. قالوا: المنة تهدم الصنيعة فهي نوع من الأذى. فقوله وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ يكون من المن لا من المنة، قلت: يحتمل أن لا تكون المنة من المنعم المطلق أذية وإنما تكون تنبها على النعم وإيقاظا من سنة الغفلة حتى يتلقى المكاف النعمة بالشكر والطاعة. وإنما قال مَرَّةً أُخْرى لأن الجملة قصة واحدة وإن كانت مشتملة على من كثيرة، والوحى إلى أم موسى إما أن يكون على لسان نبي في عصرها كشعيب مثلا، أو عن لسان ملك لا على طريق النبوّة كالوحي إلى مريم في قوله وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ [آل عمران: 42] أو أراها في المنام أنه وضع ولدها في التابوت وقذف في البحر ثم رده الله إليها، أو ألهمها بذلك، أو لعل الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحق ويعقوب أخبروا بذلك وانتهى خبرهم إليها. ومعنى ما يُوحى ما يجب أن يوحى لما فيه من المصلحة الدينية ولأنه أمر عظيم ولأنه مما لا يعلم إلا بطريق الوحي. «وأن» هي المفسرة لأن الإيحاء في معنى القول، والقذف يستعمل بمعنى الوضع أي ضعيه في التابوت وقد مر معناه في «البقرة» في قصة طالوت. قال جار الله: الضميران الباقيان في قوله فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ عائدان إلى موسى أيضا لئلا يؤدي إلى تنافر النظم، فإن المقذوف والملقى إذا كان موسى وهو في جوف التابوت لزم أن يكون التابوت أيضا مقذوفا وملقى ويؤيده أن الضمير في قوله عَدُوٌّ لَهُ لموسى بالضرورة لأن عداوة التابوت غير معقولة. وإذا كان الضمير الأول والضمير الأخير لموسى فالأنسب بإعجاز القرآن أن يكون الضمير المتوسط أيضا له، لأن المعنى صحيح واللفظ متناسب فلا حاجة الى العدول اعتمادا على القرينة. واليم هو البحر، والمراد هاهنا نيل مصر والساحل شاطىء البحر. وأصل السحل القشر ولهذا قال ابن دريد: هو مقلوب لأن الماء سحله فهو مسحول. قال أهل الإشارة: من خصوصية انشراح الصدر بنور الوحي أن يقذف في قلبه قذف الولد الذي هو أعز الأشياء في تابوت التوكل وبحر التسليم حتى يلقيه اليم بساحل إرادة الله ومشيئته. يروى أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا فوضعته فيه وجصصته وقيرته ثم ألقته في اليم، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية إذا بالتابوت فأمر به فأخرج ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجها فأحبه عدوّ الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر اللفظ يدل على أن التابوت التقط من الساحل، فلعل اليم ألقاه بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون فأداه النهر إلى البركة. أما كون فرعون عدوا لله من جهة كفره وعتوه فظاهر، وأما كونه عدوّا لموسى وهو صغير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 544 فباعتباره المآل، أو لأنه لو ظهر له حاله لقتله فسبحان من يربي حبيبه في حجر عدوّه. قالوا: كان بحضرة فرعون حينئذ أربعمائة غلام وجارية، فحين أشار بأخذ التابوت ووعد من يسبق إلى ذلك الإعتاق تسابقوا جميعا ولم يظفر بأخذه إلا واحد منهم فأعتق الكل. والنكتة فيه أن عدوّ الله لم يجوز من كرمه حرمان البعض إذ عزم الكل على الأخذ، فأكرم الأكرمين كيف لا يعتبر عزائم المؤمنين على الطاعة والخير؟ فالمرجو منه إعتاق الكل من النار وإن وقع لبعضهم تقصير في العمل. قوله مِنِّي إما أن يتعلق ب أَلْقَيْتُ أو يكون صفة للمحبة أي محبة حاصلة مني وعلى الوجهين فالمحبة إما محبة الله ومن أحبه الله أحبته القلوب، وإما محبة الناس التي زرعها الله في قلوبهم، فقد يروى أنه كانت على وجهه مسحة جمال وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه. قال القاضي: هذا الوجه أقرب لأنه في الصغر لا يوصف بمحبة الله التي يرجع معناها إلى إيصال الثواب. ورد بأن محبة الله عبارة عن إرادة الخير والنفع وهو أعم من أن يكون جزاء على العمل أو لا يكون ولهذا بين المحبة بقوله وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعى الشيء بالعينين إذا عني بحفظه، ولما كان العالم بالشيء حارسا له عن الآفات كما أن الناظر إليه يحرسه أطلق لفظ العين على العلم لاشتباههما من هذا الوجه. وأيضا العين سبب الحراسة فأطلق السبب وأريد المسبب، ويقال: عين الله عليك إذا دعي له بالحفظ والحياطة، فالجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المبني للمفعول في لِتُصْنَعَ وجوز في الكشاف أن يكون إِذْ تَمْشِي ظرفا لِتُصْنَعَ وليس بذلك وإنما هو ظرف ب أَلْقَيْتُ أو بدل من إِذْ أَوْحَيْنا على الوقتين من زمان واحد واسع يقول الرجل: لقيت فلانا سنة كذا، ثم تقول وأنا لقيته إذ ذاك وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها. يروى أنه لما فشا الخبر أن آل فرعون أخذوا غلاما في اليم وأنه لا يرتضع من ثدي امرأة كما قال سبحانه وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ [القصص: 12] جاءت أخت موسى عليه السلام واسمها مريم متنكرة فقالت هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فجاءت بالأم فقبل ثديها وذلك قوله فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ وقال في القصص فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ [القصص: 13] تصديقا لقوله إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ [القصص: 7] كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بلقائك وَلا تَحْزَنَ بسبب وصول لبن غيرها إلى معدتك وَقَتَلْتَ وأنت ابن اثنتي عشرة سنة نَفْساً هو القبطي الذي يجيء ذكره في القصص فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وهو اقتصاص فرعون منك. وقيل: الغم هو القتل بلغة قريش، أو أراد بالغم خوف عقاب الله وذلك قوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 545 فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [القصص: 16] وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً مصدر على «فعول» في المتعدي كالشكور والكفور، أو جمع فتن كالظنون للظن، أو جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كبدور في بدرة، وحجوز في حجزة، والفتنة المحنة والابتلاء بخير أو شر قال تعالى وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] وفيها معنى التخليص من قولهم «فتنت الذهب» إذا أردت تخليصه. عن سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس عن الفتون فقال: أي خلصناك من محنة بعد محنة. ولد في عام كان يقتل فيه الولدان، وألقته أمه في البحر، وهمّ فرعون بقتله، وقتل قبطيا، وأجر نفسه عشر سنين، وضل الطريق، وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة، وكان يقول عند كل واحدة فهذه فتنة يا ابن جبير. قال العلماء: لا يجوز إطلاق اسم الفتان على الله تعالى وإن جاء وَفَتَنَّاكَ لأنه صفة ذم في العرف وستجيء قصة لبثة في أهل مدين وأنه على ثمان مراحل من مصر في سورة القصص إن شاء العزيز. قوله عَلى قَدَرٍ أي في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأستنبئك فيه، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء وهو رأس أربعين سنة، أو على موعد قد عرفته بأخبار شعيب أو غيره. والصنع بالضم مصدر صنع إليه معروفا أو قبيحا أي فعل، والاصطناع «افتعال» منه واستعماله في الخير أكثر، واصطنع فلان فلانا إذا اتخذه صنيعة، واصطنعت فلانا لنفسي إذا اصطنعته وخرجته ومعناه أحسنت إليه حتى إنه يضاف إليّ. وقوله لِنَفْسِي أي لأصرفن جوامع همتك في أو امري حتى لا تشتغل بغير ما أمرتك به من تبليغ الرسالة وإقامة الحجة. وقال جار الله: مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك أهلا للتقريب والتكريم لخصائص فيه فيصطنعه بالكرامة ويستخلصه لنفسه فلا يبصر إلا بعينه ولا يسمع إلا بأذنه ولا يأتمن على مكنون سره سواه. وقال غيره من المعتزلة: إنه سبحانه إذا كلف عباده وجب عليه أن يلطف بهم، ومن حمله الألطاف ما لا يعلم إلا سمعا، فلو لم يصطنعه للرسالة لبقي في عهدة الواجب فهذا أمر فعله الله لأجل نفسه حتى يخرج عن عهدة ما يجب عليه. ولما عد عليه المنن السابقة بإزاء الأدعية المذكورة رتب على ذكر ذلك أمرا ونهيا. أما الأمر فقوله اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ وفيه بيان ما لأجله اصطنعه وهو الإبلاغ وأداء الرسالة. بِآياتِي أي مع آياتي لأنهما لو ذهبا بدونها لم يلزمه الإيمان وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد. وما هذه الآيات غير العصا واليد لأنه لم يجر إلا ذكرهما فأطلق الجمع على الاثنين، أو لأن كلا منهما مشتملة على آيات أخر، أو لأنه يستدل بكل منهما على وجود إله قادر على الكل عالم بالكل وعلى نبوة موسى وعلى جواز الحشر حيث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 546 انقلب الجماد حيوانا والمظلم مستنيرا ومثله قوله فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ [آل عمران: 97] وقيل: هما مع حل العقدة. وقيل: أراد اذهبا إني أمدكما بآياتي وأظهرها على أيديكما متى وقع الاحتياج إليها. وأما النهي فقوله وَلا تَنِيا بكسر النون مثل تعدا وقرىء تَنِيا بكسر حرف المضارعة أيضا للإتباع. والونى بفتحتين الضعف والفتور والكلال والإعياء، والمعنى لا تنسياني بل اتخذا ذكري وسيلة في تحصيل المقاصد واعتقدا أن أمرا من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكري فإن المداومة على ذكر الله توجب عدم الخوف من غيره. وأن يستحقر في نظره ما سواه لقوة نفسه واستنارة باطنه. وقيل: أراد بالذكر تبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على كل العبادات فضلا عن أعظمها فائدة وأتمها عائدة. وقيل: اذكرني عند فرعون وقومه بأني لا أرضى بالكفر وأعاقب عليه وأثيب على الإيمان وأرتضيه، وبالجملة كل ما يتعلق بالترهيب والترغيب. ما الفائدة في تكرير قوله اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ؟ والجواب بعد التقرير والتأكيد أمرهما أن يشتغلا بأداء الرسالة معا لا أن ينفرد به موسى، أو الأول أمر بالذهاب إلى كل بني إسرائيل والقبط، والثاني مخصوص بفرعون الطاغي. ثم إنه خوطب كلاهما وموسى حاضر فقط لأنه أصل، أو هو كقوله وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [البقرة: 72] والقاتل واحد منهم. ويحتمل أن هارون قد حضر وقتئذ فقد روى أن الله عز وجلّ أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى. وقيل: ألهم بذلك. وقيل: سمع بخبره فتلقاه. سؤال: لم أمرا بتليين القول للعدوّ المعاند؟ جوابه لأن من عادة الجبابرة إذا أغلظ لهم في الكلام أن يزدادوا عتوا وعلوا. وقيل: لما له من حق تربية موسى شبه حق الأبوة. وكيف ذلك القول اللين؟ الأصح أنه نحو قوله تعالى هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [النازعات: 18، 19] لأن ظاهره الاستفهام والمشهورة وعرض ما فيه صلاح الدارين. وقيل: أراد عداه شبابا لا يهرم بعده، وملكا لا ينزع منه إلا بالموت، وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته. حكى عمرو بن دينار قال: بلغني أن فرعون عمر أربعمائة وتسعا وستين سنة. فقال له موسى: إن أطعتني فلك مثل ما عمرت فإذا مت فلك الجنة. وقيل: أراد كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث: أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة. ويحتمل أن يكون أمر بالقول اللين لأنه كان في موسى حدة وخشونة. بحيث إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارا فعالج حدته باللين ليكون حليما في أداء الرسالة. ومعنى الترجي في لَعَلَّهُ يعود إلى موسى وأخيه أي اذهبا على رجائكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو أن يثمر سعيه فعساه يتذكر بأن يرجع من الإنكار إلى الحق رجوعا كليا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 547 إذا تأمل فأنصف أَوْ يَخْشى فيقل: إنكاره وإصراره. قالت المعتزلة: جدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن قطع المعذّرة وإلزامه الحجة. وقالت الأشاعرة: العقول قاصرة عن معرفة سر القدر ولا سبيل إلا التسليم وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان. قالوا: إنه كمن يدفع سكينا إلى من علم قطعا أنه يمزق بطن نفسه ثم يقول: إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان. ويروى عن كعب أنه قال: والذي يحلف به كعب إنه مكتوب في التوراة «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً وسأفسي قلبه فلا يؤمن» قالا رَبَّنا فيه دليل على أن هارون أيضا كان حاضرا وقتئذ كما روينا. وسئل أن انشرح صدره وتيسر أمره فكيف قالا إِنَّنا نَخافُ فإن حصول الخوف ينافي شرح الصدر؟ وأجيب بأن المراد من شرح الصدر ضبط الأوامر والنواهي وحفظ الشرائع والأحكام بحيث لا يتطرق إليها خلل وتحريف، وهذا شيء آخر مغاير لزوال الخوف. قلت: لعلهما خافا أن لا يتمكنا من أداء الرسالة بدليل قوله أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أي يسبق رسالتنا ويبادرنا بالعقوبة أَوْ أَنْ يَطْغى أي يجاوز الحد بأن يقول فيك ما لا ينبغي أو يجاوز حد الاعتدال في معاقبتنا إن لم يعاجل بنا فلا نتمكن من إقامة وظائف الأداء. وأيضا الدليل النقلي السمعي إذا انضاف إلى الدليل العقلي زاده إيقانا وطمأنينة ولهذا قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أي بالنصرة والتأييد أَسْمَعُ وَأَرى ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل فأفعل بكما ما يوجب عنايتي وحراستي، فلا يذهب وهمكما إلى أن مواد كرامتي انقطعت عنكما إذا فارقتما مقام المكالمة فصار هذا الوهم سبب خوفكما. ويجوز أن يكون الفعلان متروكي المفعول كأنه قيل: أنا سامع مبصر وإذا كان الحافظ والناصر كذلك تم الحفظ وكملت النصرة. قال بعض الأصوليين: في الآية دلالة على أن الأمر لا يقتضي الفور وإلا كان تعللهما بالخوف معصية وإنها غير جائزة على الرسل في الأصح. وقال بعض المتكلمين: فيها دليل على أن السمع والبصر صفتان زائدتان عن العلم والإلزام التكرار فإن معيته هي بالعلم. ولقائل أن يقول: الخاص يغاير العام ولكن لا يباينه. ثم كرر الأمر قائلا: فَأْتِياهُ فَقُولا فسئل إنهما أمرا بأن يقولا له قولا لينا فكيف غلظاه أوّلا بقوله إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ففيه إيجاب انقياده لهما وإكراهه على طاعتهما وهذا مما يعظم على الجبار. وثانيا بقوله فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وفيه إدخال النقص في ملكه لأنه كان يستخدمهم في الأعمال الشاقة. وثالثا بقوله وَلا تُعَذِّبْهُمْ وفيه منعه عما يريده بهم؟ وأجيب بأن هذا القدر من التغليظ ضروري في أداء الرسالة. قيل: أليس الأولى أن يقولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 548 فيكون ذكر المعجز مقرونا بادعاء الرسالة. والجواب أن قوله فَأَرْسِلْ من تتمة الدعوى، وإنما وحد قوله بِآيَةٍ ومعه آيتان بل آيات لقوله اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي لأنه أراد الجنس كأنه قيل: قد جئناك ببيان من عند الله وبرهان. قال في الكشاف: قلت: وفيه أيضا نوع من الأدب كما لو قلت: أنا رجل قد حصلت شيئا من العلم ولعل عندك علوما جمة على أن تخصيص عدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد عليه. وأيضا الأصل في معجزات موسى كان هي العصا ولهذا وقعت في معرض المعارضة كما أن الأصل في معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم كان هو القرآن فوقع لذلك في حيز التحدي وَالسَّلامُ أي جنس السلامة أو سلام خزنة الجنة عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى يحتمل أن يكون هذا أيضا مما أمر بأن يقولاه لفرعون، ويحتمل أن تكون الرسالة قد تمت عند قوله بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ويكون هذا وعدا بالسلامة من عقوبات الدارين لمن آمن وصدق. قالت الأشاعرة: في قوله أَنَّ الْعَذابَ أي جنسه أو كل فرد منه عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى دليل على أنه لا يعاقب أحدا من المؤمنين ترك العمل به في بعض الأوقات، فوجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام على أن العقاب المتناهي لا نسبة له إلى النعيم المقيم الذي لا نهاية له فكأنه لم يعاقب أصلا. وأيضا العارف بالله قد اتبع الهدى فوجب أن يكون من أهل السلامة قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى خاطب الاثنين ووجه النداء إلى موسى لأنه الأصل في ادعاء الرسالة وهارون وزيره، ويجوز أنه خص موسى عليه السلام بالنداء لما عرف من فصاحة هارون والرتة التي كانت في لسان موسى. فأراد أن يعجز عن الجواب. قال أهل الأدب: إن فرعون كان شديد البطش جبارا ومع ذلك لم يبدأ بالسفاهة والشغب بل شرع في المناظرة وطلب الحجة، فدل على أن الشغب من غير حجة شيء ما كان يرتضيه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم؟! وفي اشتغال موسى بإقامة الدلالة على المطلوب دليل على فساد التقليد وفساد قول القائل بأن معرفة الله تستفاد من قول الرسول، وفيه جواز حكاية كلام المبطل مقرونا بالجواب لئلا يبقى الشك. وفيه أن المحق يجب عليه استماع شبهة المبطل حتى يمكنه الاشتغال بحلها. واعلم أن العلماء اختلفوا في كفر فرعون فقيل: كان عارفا بالله إلا أنه كان معاندا بدليل قوله لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الاسراء: 102] وقوله وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: 14] وقوله في سورة القصص وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ [الآية: 39] وليس فيه إلا إنكار المعاد دون إنكار المبدأ. وقوله في الشعراء وَما رَبُّ الْعالَمِينَ إلى قوله إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 549 يعني أنا أطلب منه الماهية وهو يشرح الوجود فدل على أنه اعترف بأصل الوجود. وأيضا إن ملك فرعون لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام لأن موسى لما هرب إلى مدين قال له شعيب لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 25] فكيف يعتقد مثل هذا الشخص إنه إله العالم بل كل عاقل مكلف يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم فلا يكون واجب الوجود. وأيضا إنه سأل هاهنا بمن طالبا للكيفية، وفي «الشعراء» بما طالبا للماهية فكأن موسى لما أقام الدلالة على الوجود ترك المناظرة والمنازعة معه في هذا المقام لظهوره وشرع في مقام أصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر. وأيضا إنه قال في الجواب رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ وصلة الذي لا بد أن تكون جملة معلومة الانتساب. ومن الناس من قال: إنه كان جاهلا بالله بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما. فمنهم من قال: إنه كان دهريا نافيا للمؤثر أصلا. ومنهم من قال: إنه فلسفي قائل بالعلة الموجبة أو هو من عبدة الكواكب، أو من الحلولية والمجسمة. وأم ادعاء الالهية والربوبية فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد لحكمه. قال بعض العلماء: إنما قال فَمَنْ رَبُّكُما [طه: 49] ولم يقل «فمن إلهكما» تعريضا بأنه رب موسى كما قال أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشعراء: 18] قلت: يحتمل أن يكون تخصيص موسى بالنداء تنبيها على هذا المعنى. ولم يعلم الكافر أن الربوبية التي أدعاها موسى لله في قوله إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ غير هذه في الحقيقة ولا مشاركة بينهما إلا في اللفظ، وهذا كما عارض نمرود إبراهيم صلوات الرحمن عليه في قوله أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة: 258] ولم يعلم أن إحياءه وإماتته ليسا من الإحياء والإماتة في شيء ثم شرع موسى، في الدلالة على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات، وفيه دلالة على أن موسى كان أصلا في النبوة وأن هارون راعى الأدب فلم يشتغل بالجواب قبله لأن الأصل في النبوة هو موسى، ولأن فرعون خصص موسى بالنداء. من قرأ خلقه بسكون اللام فإما بمعنى الخليقة أي أعطى الخلائق ما به قوامهم من المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح، ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها فيستخرجون الحديد من الجبال واللآلئ من البحار ويركبون الأغذية والأدوية والأسلحة والأمتعة ونظير هذا الكلام قوله الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: 2، 3] وقوله حكاية عن إبراهيم الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: 78] وإما أن يكون الخلق بمعنى الصورة والشكل أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به فأعطى العين هيئتها التي تطابق الإبصار، والأذن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 550 ما يوافق الاستماع، والأنف للشم، واليد للبطش، بل أعطى رجل الآدمي شكلا يوافق سعيه، ورجل الحيوانات الأخر شكلا يطابق مشيها، بل أعطى ذوات القرون رجلا توافق حاجتهن، وكذا الخف والحافر وذوات المخالب. وقيل: أراد وأعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة فجعل الحصان والحجر زوجين، وكذا البعير والناقة والرجل والمرأة. ومن قرأ خلقه بفتح اللام صفة للمضاف أو المضاف إليه والمفعول الثاني متروك أي كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه. واعلم أن عجائب حكمة الله تعالى في مخلوقاته بحر لا ساحل له، وقد دون العلماء طرفا منها في كتب التشريح وخواص الأحجار والنبات والحيوان، ولنذكر هاهنا واحدا منها هي أن الطبيعي يقول: الثقيل هابط والخفيف صاعد، فالماء لذلك فوق الأرض والهواء فوق الماء والنار فوق الكل. ثم إنه سبحانه جعل العظم والشعر أصلب الأعضاء على طبيعة الأرض وجعل مكانهما فوق البدن. وجعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء وجعل تحته النفس الذي هو الهواء، وجعل تحته الحرارة الغريزية في القلب كالنار ليكون دليلا على وجود الفاعل المختار خلاف ما يقوله الدهري والطبيعي وسائر الكفار. وأيضا اختصاص كل جسم بقوة وتركيب وهداية إما أن يكون واجبا أو جائزا، والأول محال وإلا لم يقع فيها تغير. والثاني يستدعي مرجحا فإن كان ذلك المرجح واجب الوجود لذاته فهو المطلوب، وإن كان جائز الوجود افتقر في اتصافه بالوجود إلى موجد، ولا بد من الانتهاء إلى موجد يجب وجوده لذاته. ثم إنه يستغني عن سمات النقص وشوائب الافتقار وليس إلا الله الواحد القهار. قال أهل النظم: إن موسى عليه السلام لما قرر عليه أمر المبدأ قالَ فرعون إن كان وجود الواجب في هذا الحد من الظهور فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى لم يؤمنوا وجحدوا فعارض الحجة بالتقليد والبال الحال؟ أو أنه لما هدده بالعذاب في قوله أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قال فما بالهم كذبوا فما عذبوا؟ فأجاب بأن هذا مما استأثر الله بعلمه وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما يخبرني به علام الغيوب. أو أنه سأله عن أحوال القرون الخالية وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد ليصرف موسى عن المقصود ويشغله بالحكايات خوفا من أن يميل قلوب ملته إلى حجته الباهرة ودلائله الظاهرة، فلم يلتفت موسى إلى حديثه بل قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ولا يتعلق غرضي بأحوالهم. ويجوز أن يكون الكلام قد انجر ضمنا أو صريحا إلى إحاطة الله سبحانه بكل شيء فنازعه الكافر قائلا: ما بال سوالف القرون في تمادي كثرتهم وتباعد أطرافهم كيف أحاط بهم وبأجزائهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 551 وجواهرهم؟ فأجاب بأن كل كائن محيط به علمه ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل. وقوله عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي مع قوله فِي كِتابٍ لا يتنافيان، بل المراد أنه تعالى عالم بجميع المغيبات مطلع على الكليات والجزئيات من أحوال الموجودات والمعدومات، ومع ذلك فإن جميع الأحوال ثابتة في اللوح المحفوظ ثم كان لقائل أن يقول: لعلها أثبتت في اللوح لاحتمال الخطأ والنسيان فتدارك ذلك بقوله لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى قال مجاهد: هما واحد المراد أنه لا يذهب عنه شيء ولا يخفى عليه. والأكثرون على الفرق فقال القفال: الأول إشارة إلى كونه عالما بالكل، والثاني إشارة إلى بقاء ذلك العلم أي لا يضل عن معرفة الأشياء، وما علم من ذلك لا ينساه ولا يتغير علمه، يقال: ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له. وقال مقاتل: لا يخطىء ذلك الكتاب ربي ولا ينسى ما فيه. وقال الحسن: لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه. وقال أبو عمر: ولا يغيب عنه شيء ولا يغرب عنه شيء. وقال ابن جرير: لا يخطىء في التدبير فيعتقد غير الصواب صوابا وإذا عرفه لا ينساه والوجوه متقاربة. والتحقيق ما قاله القفال. وعن ابن عباس: لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه. ولما ذكر الدليل العام المتناول لجميع المخلوقات السماويات والأرضيات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النباتات والجمادات ذكر الدلائل الخاصة فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي كالمهد وهو ما يمهد للصبي. قال أبو عبيدة: الذي أختاره مهاد لأنه اسم لما يمهد والمهد مصدر. وقال غيره: المهد اسم والمهاد جمع. وقال المفضل: هما مصدران وَسَلَكَ أي حصل لَكُمْ فِيها سُبُلًا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري. يقال: سلكت الشيء في الشيء سلكا بالفتح أي أدخلته فيه فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بواسطة إنزال الماء. ومن المتكلمين الأقدمين من أنكر تأثير الوسائط رأسا وأَزْواجاً أي أصنافا فأسميت بذلك لأنها مزدوجة مقترن بعضها ببعض. وشَتَّى صفة للأزواج جمع شتيت كمريض ومرضى، أو صفة للنبات لا مصدر سمي به النابت كما سمي بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع يعني أنها مختلفة النفع والطبع والطعم واللون والرائحة والشكل. ثم هاهنا إضمار والتقدير وقلنا أو قائلين كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ وذلك أن بعضها يصلح للناس وبعضها يصلح للبهائم، وإباحة الأكل تتضمن إباحة سائر وجوه الانتفاع كقوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ [البقرة: 188] ومن نعم الله تعالى أن أرزاق العباد إنما تتحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله. قال الجوهري: النهية بالضم واحدة النهى وهي العقول لأنها تنهى عن القبيح. وجوز أبو علي الفارسي أن يكون مصدرا كالهدى وخص أرباب العقول بذلك لأنهم هم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 552 المنتفعون بالنظر فيها والاستدلال بها على وجود صانعها. مِنْها خَلَقْناكُمْ لأن آدم مخلوق من الأرض. أو لأن بني آدم خلقوا من النطفة ودم الطمث المتولدين من الأغذية المنتهية إلى العناصر الغالبة عليها الأرضية، أو لما ورد في الخبر أن الملك يأخذ من تربة المكان الذي يدفن فيه الآدمي فيذرّها على النطفة. وَفِيها نُعِيدُكُمْ لأن الجسد يصير ترابا فيختلط بالأرض إلا من رفعه الله إلى السماء، وهو أيضا يحتمل أن يعاد إليها بعد ذلك. وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى بالحشر والبعث، أو بأن نخرجكم ترابا وطينا ثم نحييكم بعد الإخراج، أو المراد الإحياء في القبر. وهاهنا بحث وهو أن يكون قوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ إلى هاهنا من تتمة كلام موسى، أو هو ابتداء كلام من الله تعالى. وعلى الأول يمكن أن يوجه قوله: فَأَخْرَجْنا بأن المراد فأخرجنا نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراثة والزرع أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى إلا أن قوله: كُلُوا وَارْعَوْا إلى قوله: وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ لا يطابقه. وإن قيل: إن كلام موسى يتم عند قوله: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لم يصلح قوله: فَأَخْرَجْنا ابتداء كلام من الله لمكان فاء التعقيب، فالصواب أن يتم كلام موسى عند قوله: وَلا يَنْسى. ثم إنه تعالى ابتدأ فقال: الَّذِي أي هو الذي جعل إلى آخره، وعلى هذا يكون قوله: فَأَخْرَجْنا من قبيل الالتفات؟؟؟ للكلام وإيذانا بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره تخصيصا بأن مثل هذا لا يدخل تحت قدرة أحد سواه. والحاصل أنه تعالى عدد عليهم ما علق بالأرض من المنافع حيث جعلها لهم فراشا يتقلبون عليها عند الإقامة، وسوّى لهم فيها مسالك يتقلبون بها في أسفارهم، وأنبت فيها أصناف النبات متاعا لهم ولأنعامهم. ثم إن الأرض لهم كالأم التي منها أنشئوا وهي التي تجمعهم وتضمهم إذا ماتوا. ثم يخرجون من الأجداث خروج الأجنة من الأرحام، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تمسحوا بالأرض» أي ارقدوا واسجدوا عليها من غير حائل، أو تيمموا بها فإنها بكم برة أي إنها لكم كالأم. ومنها خلقناكم وفيها معايشكم وهي بعد الموت كفاتكم. قوله عز وعلا: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا أي عرفناه صحتها. ثم إن كان التعريف يستلزم حصول المعرفة فيكون كفره كفر جحود وعناد كقوله: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: 14] وإلا كان كفر جهالة وضلالة. سؤال الجمع المضاف يفيد العموم ولا سيما إذا أكد بالكل، لكنه تعالى ما أراه جميع الآيات لأن من جملتها ما أظهرها على الأنبياء الأقدمين ولم يتفق لموسى مثلها. الجواب هذا التعريف الإضافي محذوّ به حذو التعريف العهدي لو قيل الآيات كلها وهي التي ذكرت في قوله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 553 بَيِّناتٍ [الإسراء: 101] ولو سلم العموم فالمراد أنه أراه الآيات الدالة على التوحيد في قوله: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ وعلى النبوة بإظهار المعجزات القاهرة وعلى المعاد لأن تسليم القدرة على الإنشاء يستلزم تسليم القدرة على الإعادة بالطريق الأولى، أو أراد أنه أراه آياته المختصة به وعدد عليه سائر آيات الأنبياء وإخبار النبي الصادق جار مجرى العيان، أو إراءة بعض الآيات كإراءة الكل كما أن تكذيب بعض الآيات يستلزم تكذيب الكل كما قال: فَكَذَّبَ أي الآيات كلها وَأَبى قول الحق. قال القاضي: الإباء الامتناع وإنه لا يوصف به إلا من يتمكن من الفعل والترك وإلا لم يتوجه الذم. وجواب الأشاعرة أنه لا يسأل عما يفعل ثم إن فرعون خاف أن تميل قلوب ملته إلى قول موسى فذكر ما يوجب نفار القوم عنه مع القدح في نبوته لادعاء إمكان معارضته قائلا أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا فإن الإخراج من الديار قرينة القتل بدليل قوله: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ [النساء: 66] ثم طالب للمعارضة موعدا فإن جعلته زمان الوعد بدليل قوله: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ بالرفع كان الضمير في لا نُخْلِفُهُ عائدا إلى الوعد المعلوم من الموعد أو إلى زمان الوعد مجازا. وانتصب مَكاناً على أنه ظرف للوعد المقدر، وإن جعلته مكان الوعد ليكون قوله: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ مطابقا له معنى، لأنه لا؟؟؟ من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان مشتهر عندهم وكأنه قيل: موعدكم مكان الاجتماع في يوم الزينة. وإن جعلته مصدرا ليصح وصفه بعدم الإخلاف من غير ارتكاب إضمار، أو؟؟؟ انتصب مَكاناً على أنه ظرف. ثم من قرأ يَوْمُ الزِّينَةِ بالنصب فظاهر أي وعدكم أو انجاز وعدكم في يوم الزينة، أو وقت وعدكم في يوم الزينة. وفي يوم يُحْشَرَ النَّاسُ هو ضحى؟؟؟ ذلك اليوم. ومن قرأ بالرفع فيقدر مضاف محذوف أي وعدكم وعد يوم الزينة. و؟؟؟ سُوىً بالكسر والضم عدلا ووسطا بين الفريقين وهو معنى قول مجاهد. فوصف المكان بالاستواء باعتبار المسافة. وقال ابن زيد: أي مستويا لا يحجب شيئا بارتفاعه وانخفاضه ليسهل على كل الحاضرين ما يجري بين الفريقين. وقال الكلبي: مَكاناً سُوىً هذا المكان الذي نحن فيه الآن. قال القاضي: الأظهر أن قوله: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ من قول فرعون لأنه الطالب للاجتماع. وقال الإمام فخر الدين الرازي: الأقرب أنه من كلام موسى ليكون الكلام مبنيا على السؤال والجواب، ولأن تعيين يوم الزينة يقتضي إطلاع الكل على ما سيقع وهذا إنما يليق بالمحق الواثق بالغلبة لا بالمبطل المزور، على أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 554 موعدكم خطاب الجمع وليس هناك إلا موسى وهارون، فإما أن يرتكب أن أقل الجمع اثنان وهو مذهب مرجوح، وإما أن يقال الجمع للتعظيم ولم يكن فرعون ليعظمهما، ويوم الزينة يوم عيد لهم يتزينون فيه. وعن مقاتل يوم النيروز، وعن سعيد بن جبير يوم سوق لهم. وعن ابن عباس: هو يوم عاشوراء. وإنما قال: وَأَنْ يُحْشَرَ من غير تسمية الفاعل لأنهم يجتمعون ذلك اليوم بأنفسهم من غير حاشر لهم. ومحل أَنْ يُحْشَرَ رفع أو جر عطفا على اليوم أو الزينة عين اليوم. ثم الساعة وهي ضُحًى ذلك اليوم. وإنما واعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيى عن بينة، وليشيع أمره العجيب في الأقطار والأعصار والأطراف والأكناف، ففي ذلك تقوية دين الحق وتكثير راغبيه وقلة شوكة المخالف وتوهين عزائمهم فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ انصرف إلى مقام تهيئة الأسباب المعارضة فإن صاحب السحر يحتاج في تدبير السحر إلى طول الزمان ولهذا طلب الموعد وقال مقاتل: أعرض وثبت على إعراضه عن الحق فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي أسباب الكيد وأدوات الحيلة والتمويه من مهرة السحر وغير ذلك ثُمَّ أَتى الموعد. عن ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرا مع كل واحد منهم حبل وعصا. وقيل: أربعمائة. وقيل: أكثر من ذلك فضرب لفرعون قبة طولها سبعون ذراعا فجلس فيها ينظر إليهم فبين الله تعالى أن موسى قدم قبل كل شيء الوعيد والتحذير على عادة الصالحين من أهل النصح والإشفاق، ولا سيما الأنبياء المبعوثين رحمة للأمم وَيْلَكُمْ نصب على المصدر الذي لا فعل له أو على النداء لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن تدعوا آياته ومعجزاته سحرا فَيُسْحِتَكُمْ السحت لغة أهل الحجاز والإسحات لغة أهل نجد وبني تميم، ومعناه الاستئصال. حذرهم أمرين: أحدهما عذاب الدارين والتنوين للتعظيم، والآخر الخيبة والحرمان عن المقصود فإن التمويه لا بقاء له فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كقوله في الكهف: إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ [الكهف: 21] أي وقع التنازع بينهم وَأَسَرُّوا النَّجْوى الضمير لفرعون وقومه. وقيل: للسحرة ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن نجواهم إن غلبنا موسى اتبعناه. وعن قتادة: إن كان ساحرا فسنغلبه، وإن كان من السماء فله أمر. وعن وهب: لما قال وَيْلَكُمْ الآية قالوا: ما هذا بقول ساحر. والأكثرون على الأول وذلك أنهم تفاوضوا وتشاوروا حتى استقروا على شيء واحد وهو أنهم. قالوا إن هذان ساحران إلى آخر الآية: لا إشكال في قراءة أبي عمرو وكذا في قراءة ابن كثير وحفص، لأنه كقولك «إن زيدا لمنطلق» واللام فارقة بين المخففة والنافية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 555 وأما من قرأ «إن» بالتشديد وهذانِ بالألف فأورد عليه أن «إن» لم يعمل في المثنى. وأجيب بأنه على لغة الحرث بن كعب وخثعم وبعض بني عذرة، ونسبها الزجاج إلى كنانة، وابن جني إلى بعض بني ربيعة، جعلوا التثنية كعصا وسعدى مما آخره ألف فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب. وقيل: «إن» بمعنى «نعم» واعترض أن ما بعده حينئذ يصير كقوله: أم الحليس لعجوز شهربة ولا يجوز مثله إلا في ضرورة الشعر. وإنما موضع لام الابتداء في السعة هو المبتدأ. والجواب أن القرآن حجة على غيره، وذكر الزجاج في جوابه أن التقدير لهما ساحران فاللام داخلة على صدر الجملة الصغرى. قال: وقد عرضت هذا القول على محمد بن يزيد وعلي وإسماعيل بن إسحق فارتضاه كل منهم وذكروا أنه أجود ما سمعنا في هذا الباب، وضعفه ابن جنى بأن المبتدأ إنما يجوز حذفه لو كان أمرا معلوما جليا وإلا كان تكليفا بعلم الغيب للمخاطب، وإذا كان معروفا فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام. وأيضا إن الحذف من باب الاختصار والتأكيد من باب الإطناب، فالجمع بينهما محال مع أن ذكر المؤكد وحذف التأكيد أحسن في العقول من العكس. وأيضا امتنع البصريون من جعل النفس في قولك: «زيد ضرب نفسه» تأكيدا للمستكن فدل ذلك على أن تأكيد المنوي غير جائز. وأيضا لو كان ما ذهب إليه الزجاج جائزا لحمل النحويون قول الشاعر على ذلك ولم يحملوه على الاضطرار، ولمن تبصر قول الزجاج أن يجيب عن الأول بأن التأكيد إنما هو لنسبة الخبر إلى المبتدأ لا للمبتدأ وحده، ولو سلم فذكر اللام يدل على المبتدأ المنوي وذكر المبتدأ لا يدل على التأكيد فكان حذف المبتدأ أولى. وعن الثاني بأن الكلام قد يكون موجزا من وجه مطنبا من وجه آخر فلا منافاة، وإنما المنافاة إذا كانت الجهتان واحدة. وعن الثالث بأنهم امتنعوا من حمل النفس على التأكيد في المثال المذكور لأنهم رأوا أن إسناد الفعل إلى المظهر أولى من إسناده إلى المضمر، لا لأن تأكيد المنوي ممتنع على أنا بينا أن المؤكد ليس بمحذوف في الآية مطلقا فإن أحد طرفي الكلام مذكور. وعن الرابع بأن ذهول المتقدمين عن هذا الوجه لا يقتضي كونه باطلا فكم ترك الأول للآخر. ولنرجع إلى التفسير قال الفراء: الطريقة اسم لوجوه الناس وأشرافهم الذين هم قدوة لغيرهم. ويقال: هم طريقة قومهم وهو طريقة قومه، قبح أمر موسى في أعين الحاضرين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 556 ونفرهم عنه بأنه ساحر، والطباع نفور عن السحر وبأنه يقصد إخراجكم من دياركم- وهذا أيضا مما يبغض القاصد إليهم- وبأنه يريد أن يذهب بأشراف قومكم وأكابركم قالوا وهم بنو إسرائيل لقول موسى أرسل معنا بني إسرائيل وجعلها الزجاج من باب حذف المضاف أي بأهل طريقتكم المثلى وسموا مذهبهم الطريقة المثلى والسنة الفضلى لأن كل حزب بما لديهم فرحون. والمثلى تأنيث الأمثل أي الأشبه بالحق، ومنهم من فسر الطريقة هاهنا بالجاه والمنصب والرياسة وكان الأمر على ما يقال به. من قرأ فَأَجْمِعُوا من الجمع فظاهر، ومن قرأ من الإجماع فمعناه اجعلوا كيدكم مجمعا عليه حتى لا تختلفوا نظيره ما مر في سورة يونس فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [الآية: 71] سماه كيدا لأنه علم أن السحر لا أصل له. وقال الزجاج: معناه ليكن عزمكم كلكم كالكيد مجمعا عليه. ثم أمرهم بأن يأتوا صفا أي مصطفين مجتمعين ليكون أهيب في الصدور وأوقع في النفوس. وعن أبي عبيدة أنه فسر الصف بالمصلى أي مصلى من المصليات أو هو علم لمصلى بعينه لأن الناس يصطفون فيه لعيدهم وصلواتهم. وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى أي فاز من غلب وهو اعتراض. واعلم أن قصة السحرة أكثرها يشبه ما مر في «الأعراف» وقد فسرناها هنالك فنحن الآن نقتصر ونذكر ما هو المختص بهذه السورة. إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أي اختر أحد الأمرين إلقاءك أو إلقاءنا فَإِذا حِبالُهُمْ هي «إذا» المفاجأة وأصلها الوقت أي فاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم. قال وهب: سحروا أعين موسى عليه السلام حتى تخيل ذلك. وقيل: أراد أنه شاهد شيئا لولا علمه بأنه لا حقيقة لذلك الشيء لظن فيها أنها تسعى فيكون تمثيلا فَأَوْجَسَ أضمر فِي نَفْسِهِ خِيفَةً هو مفعول فَأَوْجَسَ ومُوسى فاعله أخر للفاصلة. وذلك الخوف إما من جبلة البشرية حين ذهل عن الدليل وهو قول الحسن، وإما لأنه خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه قاله مقاتل، أو خاف أن يتأخر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت، أو خاف أن يتفرق بعض القوم قبل أن يشاهدوا غلبته، أو خاف تمادي الأمر عليه وتكرره فأزال الله تعالى خوفه مجملا بقوله إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وفيه من أنواع التأكيد ما لا يخفى وهي الاستئناف والتصدير بأن، والتوسيط بالفصل، وكون الخبر معرفا ولفظ العلو ومعناه الغلبة وصورة التفضيل ولا فضل لهم ومفصلا بقوله وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ لم يقل عصاك لما علم في الأعراف ولما في هذه السورة وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ وقال جار الله: هو تصغير لشأن العصا وتهوين لأمر السحرة أي ألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك فإنه بقدرة الله يبتلع ما صَنَعُوا أي زوّروا وافتعلوا على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها، أو هو تعظيم لشأنها أي لا تحفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة لأن في يمينك شيئا أعظم شأنا من كلها إِنَّما صَنَعُوا إن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 557 الذي افتعلوه كيد سحر أي ذي سحر، أو ذوي سحر، أو هم في توغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه، أو الإضافة للبيان أي كيد هو سحر كقولك «علم فقه» وإنما وجد ساحر فيمن قرأ على الوصف ليعلم أن المقصود هو الجنس كما قال. وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أي هذا الجنس ولو جمع لأوهم أن المراد هو العدد وإنما نكر أولا لأن المراد تنكير الكيد كأنه قال: هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر أو من أفعال السحرة وجميع أقسام السحر، وأفراد السحرة لا فلاح فيها ومن نظائره «إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللا لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة» . ومعنى سبهللا أنه يجيء ويذهب في غير شيء. ومعنى حَيْثُ أَتى أينما كان وأية سلك فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قال جار الله: سبحان الله ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر في السجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!. وروي أنهم لم يرفعوا رءوسهم حتى رأوا الجنة والنار أو أثواب أهلها، وعن عكرمة: لما خروا سجدا أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة. واستبعده القاضي لأنه كالإلجاء إلى الإيمان وأنه ينافي التكليف. وقلت: إذا كان الإيمان مقدما على هذا الكشف فلا منافاة ولا إلجاء. ثم إن فرعون لعب لعب الحجل وأنكر عليهم إيمانهم وألقى شبهته في البين أنه كبيرهم أي أسحرهم وأعلاهم درجة في الصناعة، أو معلمهم وأستاذهم من قول أهل مكة للمعلم «أمرني كبيري» أي أستاذي في العلم أو غيره، وأوعدهم بقطع الأيدي والأرجل مِنْ خِلافٍ قال في الكشاف: «من» لابتداء الغاية لأن القطع مبتدأ وناشيء من مخالفة العضو والعضو لا من وفاته إياه. قلت: الأولى أن يقال الخلاف هاهنا بمعنى الجهة المخالفة حتى يصح معنى الابتداء أي لأقطعن أيديكم وأرجلكم مبتدأ من الجهتين المتخالفتين يمينا وشمالا، فيكون الجار والمجرور في موضع الحال أي لأقطعنها مختلفات الجهات. قيل فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي عليها والأصوب أن يقال: هي على أصلها شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن المظروف في الظرف أَيُّنا أَشَدُّ أراد نفسه وموسى وفيه صلف باقتداره وقهره وما ألفه من تعذيب الناس واستخفاف بموسى مع الهزء به، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء قاله في الكشاف. قلت: يحتمل أن يريد بقوله أَيُّنا الله تعالى ونفسه لنقدم ذكر رب هارون وموسى، وقد سبق عذاب الله في قوله أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى وفي قوله فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ ويؤيده قول السحرة في جوابه وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى لَنْ نُؤْثِرَكَ لن نختارك عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ المعجزات الظاهرات وَعلى الَّذِي فَطَرَنا أو الواو للقسم وعلى هذا يجوز أن يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 558 على ما جاءنا بمعنى فيما جاءنا أي لن نميل إليك والحالة هذه. وعلى الوجه الأول ففحوى الكلام لن نترك طاعة خالقنا والتصديق بمعجزات نبيه لأجل هواك فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ بما شئت من العذاب إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي في مدة الحياة العاجلة. وقرىء تَقْضِي مبنيا للمفعول هذه الحياة بالرفع إجراء للظرف مجرى المفعول به اتساعا مثل صيم يوم الجمعة. والحاصل أن قضاءك وحكمك منحصر في مدة حياتنا الفانية، والإيمان وثمرته باق لا يزول، والعقل يقتضي تحمل الضرر الفاني للفوز بالسعادة الباقية وللخلاص من العقاب الأبدي وذلك قولهم إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا قال الحسن: سبحان الله قوم كفار ثبت في قلوبهم الإيمان طرفة عين فلم يتعاظم عندهم أن قالوا في ذات الله تعالى فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ والله إن أحدهم ليصحب القرآن ستين عاما ثم ليبيع دينه بثمن غبن. ولما كان أقرب خطاياهم عهدا ما أظهروه من السحر قالوا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وفي هذا الإكراه وجوه: عن ابن عباس أن الفراعنة كانوا يكرهون فتيانهم على تعلم السحر ليوم الحاجة فكانوا من ذلك القبيل. وروي أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائما ففعل فوجده تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر الساحر لأن الساحر إذا نام بطل سحره فأبوا أن يعارضوه. وعن الحسن أنهم حشروا من المدائن مكرهين، وزعم عمر بن عبيد أن دعوة السلطان إكراه، وليس بقوي فلا إكراه إلا مع الخوف فحيثما وجد حكم بالإكراه وإلا فلا. وباقي الآيات ابتداء إخبار من الله أو هي من تتمة كلامهم فيه قولان، ولعل الأول أولى إِنَّهُ أي الشأن مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ أي حيث لا حكم إلا هو فيسقط استدلال المجسمة حال كون الآتي مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها موتة مريحة وَلا يَحْيى حياة ممتعة. قالت المعتزلة: صاحب الكبيرة مجرم وكل مجرم فإن له جهنم بالآية لعموم «من» الشرطية بدليل صحة الاستثناء فيحصل القطع بوعيد أصحاب الكبائر. أجابت الأشاعرة بأن المجرم كثيرا ما يجيء في القرآن بمعنى الكافر كقوله يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ إلى قوله وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر: 46] ولا ريب أن التكذيب بالبعث والجزاء كفر، وكقوله إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين: 29] إلى آخر السورة. فلم قلتم: إن المجرم هاهنا ليس بمعنى الكافر فتبطل المقدمة الأولى؟ سلمنا لكن المقدمة الثانية كليتها ممنوعة على الإطلاق وإنما هي كلية بشرط عدم العفو، وحينئذ لا يحصل القطع بالوعيد على الإطلاق. سلمنا المقدمتين والنتيجة لكنه معارض بعموم الوعد في قوله وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً فإن قيل: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 559 صاحب الكبيرة لم يأته مؤمنا عندنا. قلنا: يصدق عليه المؤمن لأن الإيمان صدر عنه في الزمان الماضي كالضارب على من قد ضرب أمس وليس بين الحال والزمان الماضي منافاة كلية ولهذا صح «جاءني زيد قد قام» بل صح قوله قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ وأنه حال آخر فكأنه قيل: ومن يأته قد آمن قد عمل. ولئن قيل: إن عقاب المعصية يحبط ثواب الطاعة. قلنا: ممنوع بل العكس أولى لأن الدفع أسهل من الرفع وإقامة الحد على التائب في بعض الصور لأجل المحنة لا لأجل التنكيل. وقوله نَكالًا مِنَ اللَّهِ في حق من لم يتب بعد من السرقة سلمنا أن قوله وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً لا يعم صاحب الكبيرة إلا أن قوله فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى من الجنة لمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحات أي الواجبات، لأن الزائد عليها غير محصور فسائر الدرجات التي غير عالية لا بد أن تكون لغيرهم وما هم إلا العصاة من أهل الإيمان. ثم عظم شأن المذكور بقوله وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى أي قال «لا إله لا إلا الله» قاله ابن عباس. وفيه دليل على أن قوله وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً يشمل صاحب الكبيرة، وقال آخرون تَزَكَّى أي تطهر من دنس الذنوب وعلى هذا يقع صاحب الكبيرة خارجا. [سورة طه (20) : الآيات 77 الى 114] وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 560 القراآت: لا تخف دركا بالجزم: حمزة الباقون لا تَخافُ بالرفع أنجيتكم وواعدتكم ورزقتكم على التوحيد: حمزة وعلي وخلف ووعدناكم من الوعد. أبو عمرو وسهل ويعقوب فَيَحِلَّ وَمَنْ يَحْلِلْ بالضم فيهما: عليّ. الآخرون بالكسر بِمَلْكِنا بفتح الميم: أبو جعفر ونافع، وعاصم غير المفضل بضمها حمزة، وعلي وخلف بكسرها الباقون والمفضل حملنا بفتح الحاء والميم مخففة: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف سوى حفص. الآخرون بضم الحاء وكسر الميم مشددة تتبعني بالياء الساكنة في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وأفق أبو عمرو ونافع غير إسماعيل في الوصل، وقرأ يزيد وإسماعيل بفتح الياء. الباقون بحذفها. ابْنَ أُمَ بكسر الميم: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. لم تبصروا بتاء الخطاب: حمزة وعلي وخلف الباقون على الغيبة فَنَبَذْتُها مدغما: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف ويزيد وهشام وسهل لَنْ تُخْلَفَهُ بكسر اللام: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. الآخرون بفتحها لنحرقنه بفتح النون وضم الراء: يزيد. الآخرون من الحريق. فلا يخف بالجزم على النهي: ابن كثير أن نقضي بالنون مبنيا للفاعل وحيه بالنصب: يعقوب الباقون بالياء مضمومة وبفتح الضاد وَحْيُهُ بالرفع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 561 الوقوف: يَبَساً ج لأن قوله لا تَخافُ يصلح صفة للطريق مع حذف الضمير العائد أي لا تخاف فيه، ويصلح مستأنفا. ومن قرأ لا تخف فوقفه أجوز لعدم العاطف ووقوع الحائل مع تعقب النهي الأمر إلا أن يكون جوابا للأمر فلا يوقف وَلا تَخْشى هـ ما غَشِيَهُمْ ط لأن التقدير وقد أضل من قبل على الحال الماضية دون العطف لأنه عند ما غشيه لم يتفرغ للإضلال. وَما هَدى هـ وَالسَّلْوى هـ غَضَبِي ج هَوى هـ اهْتَدى هـ يا مُوسى هـ لِتَرْضى هـ السَّامِرِيُّ هـ أَسِفاً ج لانتساق الماضي على الماضي بلا ناسق حَسَناً ط مَوْعِدِي هـ السَّامِرِيُّ هـ لا فَنَسِيَ هـ ط قَوْلًا لا للعطف وَلا نَفْعاً هـ ط فُتِنْتُمْ بِهِ ج للابتداء بأن مع اتصال العطف أَمْرِي ج مُوسى هـ أَلَّا تَتَّبِعَنِ ط أَمْرِي هـ رَأْسِي ج للابتداء (بأن) مع اتصال المعنى واتحاد القائل وْلِي هـ يا سامِرِيُّ هـ نَفْسِي هـ لا مِساسَ ص لَنْ تُخْلَفَهُ ج لاختلاف الجملتين عاكِفاً ط للقسم المحذوف نَسْفاً هـ إِلَّا هُوَ ط عِلْماً هـ سَبَقَ ج للإستئناف والحال ذِكْراً ج هـ لأن الشرطية تصلح صفة للذكر وتصلح مبتدأ بها وِزْراً هـ لا لأن قوله خالِدِينَ حال من الضمير في يَحْمِلُ وهو عائد إلى «من» ومن للجمع معنى فِيهِ ط حِمْلًا هـ لا لأن يَوْمَ يُنْفَخُ بدل من يوم القيامة. زُرْقاً هـ ج لأن ما بعده يصلح للصفة وللاستئناف عَشْراً هـ يَوْماً هـ نَسْفاً هـ لا صَفْصَفاً هـ لا أَمْتاً هـ لا عِوَجَ لَهُ ج لاختلاف الجملتين هَمْساً هـ قَوْلًا هـ عِلْماً هـ الْقَيُّومِ ط ظُلْماً هـ هَضْماً هـ ذِكْراً هـ الْحَقُّ ج وَحْيُهُ ز لعطف الجملتين المتفقتين مع اعتراض الظرف وما أضيف إليه عِلْماً هـ. التفسير: هذا شروع في قصة إنجاء بني إسرائيل وإهلاك عدوّهم وقد تقدم في «البقرة» وفي «الأعراف» وفي «يونس» ومعنى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً اجعل لهم من قولهم «ضرب له في ماله سهما وضرب اللبن عمله» أو أراد بين لهم طريقا فِي الْبَحْرِ بالضرب بالعصا حتى ينفلق فعدي الضرب إلى الطريق، ثم بين أن جميع أسباب الأمن حاصلة في ذلك الطريق. واليبس مصدر وصف به ومثله اليبس ونحوهما العدم والعدم ويوصف به المؤنث لذلك فيقال: ناقتنا يبس إذا جف لبنها. والدرك. والدرك اسمان من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك. وفي لا تَخْشى إذا قرىء لا تخف أوجه الاستئناف أي وأنت لا تخشى، وجوز في الكشاف أن يكون الألف للإطلاق من أجل الفاصلة كقوله وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب: 10] وأن يكون كقول الشاعر: كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 562 أراد لم تر لأن ما قبله: وتضحك مني شيخة عبشمية قلت: لعل هذا إنما يجوز في الضرورة ولا ضرورة وفي الآية فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ الحق بهم جنوده أو تبعهم ومعه جنوده كما مر في «يونس» فَغَشِيَهُمْ أي علاهم ورهقهم مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ وهذا من جملة ما علم في باب الإيجاز لدلالته على أنه غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله، وقد سلف منه في السور المذكورة ما حكي في الأخبار وروي في الآثار. ونسبة الإضلال إلى فرعون لا تنافي انتهاء الكل إلى إرادة الله ومشيئته. وقوله وَما هَدى تأكيد للإضلال وفيه تهكم به في قوله وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر: 38] ثم عدد ما أنعم به على بني إسرائيل، ويجوز أن يكون خطابا لليهود المعاصرين لأن النعمة على الآباء نعمة في حق الأبناء ومثله قوله وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ أي الواقع على يمين من انطلق من مصر إلى الشام لأن منفعة المواعدة عادت إليهم وإن كانت المواعدة لنبيهم فبكتب التوراة في ألواح قام شرعهم واستقام أمر معاشهم ومعادهم. كُلُوا من تتمة القول. وطغيانهم في الرزق هو شغلهم باللهو والتنعم عن القيام بشكرها وتعدي حدود الله فيها بالإسراف والتقتير والغصب. ومن قرأ فَيَحِلَّ بالكسر فبمعنى الوجوب من قولهم «حل الدين يحل» إذا وجب أداؤه، ومن قرأ بالضم فبمعنى النزول ونزول الغضب نزول نتائجه من العقوبات والمثلات. ومعنى هَوى هلك وأصله السقوط من مكان عال كالجبل. وقيل: هوى أي وقع في الهاوية. سؤال: كيف أثبت المغفرة في حق من استجمع التوبة والإيمان والعمل الصالح، والمغفرة إنما تتصور في حق من أذنب؟ وأيضا ما معنى قوله ثُمَّ اهْتَدى بعد الأمور المذكورة والاهتداء إنما يكون قبلها لا أقل من أن يكون معها؟ الجواب أراد وإني لغفار لمن تاب من الكفر وآمن وعمل صالحا. وفيه دليل لمن ذهب إلى وجوب تقديم التوبة من الكفر على الإيمان. والحاصل أن الغفران يعود إلى الذنوب السابقة على هذه الأمور، ويجوز أن يراد أنه إذا تاب من الكفر وأقبل على الإيمان والعمل الصالح فإن الله يغفر الصغائر التي تصدر عنه في خلال ذلك كقوله إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء: 31] وأما الاهتداء فالمراد به الاستقامة والثبات على الأمور المذكورة كقوله إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: 30] ومعنى «ثم» الدلالة على تباين المرتبتين، فإن المداومة على الخدمة أصعب من الشروع فيها كما قيل: لكل إلى شأو العلى حركات ... ولكن عزيز في الرجال ثبات ونظير هذا العطف قوله أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الأعراف: 4] وقد مر البحث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 563 فيه. ويروى أن موسى قد مضى مع النقباء السبعين إلى الطور على الموعد المضروب، ثم تقدمهم شوقا إلى كلام ربه وتنجز ما وعد به بناء على اجتهاده وظنه أن ذلك أقرب إلى رضا الله فأنكر الله تعالى تقدمه قائلا وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ أيّ شيء عجل بك عنهم؟ فالمراد بالقوم النقباء لا جميع قومه على ما توهم بعضهم يؤكده قوله هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي ولم يكن جميع قومه على أثره. قال جار الله: قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين: أحدهما إنكار العجلة في نفسها، والثاني السؤال عن سبب التقدم فكان أهم الأمرين إلى موسى تمهيد العذر من العجلة نفسها فاعتل بأنه لم يوجد مني إلا تقدم يسير وليس بيني وبينهم إلا مسافة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي طلبت دوم رضاك عني أو مزيد رضاك بناء على اجتهادي أن التعجيل إلى مقام المكالمة والحرص على ذلك يوجب مزيد الثواب والكرامة. وقيل: لما أنكر عليه الاستعجال دهش خوفا من العقاب فتحير في الجواب قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ يعني جميع قومه الذين خلفهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا. يروى أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوها أربعين مع أيامها وقالوا: قد أكملنا العدة. ثم كان أمر العجل بعد ذلك فسئل أنه تعالى كيف قال لموسى عنه مقدمه فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ؟ وأجيب بأنه على عادة الله تعالى في إخباره عن الأمور المترقبة بلفظ الماضي تحقيقا للوقوع، أو أراد بدء الفتنة لأن السامري افترض غيبة موسى فعزم على إضلال قومه غب انطلاقه. ولقائل أن يمنع كون هذه الأخبار عند مقدم موسى عليه السلام بل لعله عند رجوعه بدليل فاء التعقيب في قوله فَرَجَعَ مُوسى قال جار الله إنه رجع بعد ما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة وأوتي التوراة. وسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة. وقيل: السامرة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم. وقيل: كان علجا من كرمان واسمه موسى بن ظفر وكان منافقا وكان من قوم يعبدون البقر. قالت المعتزلة: الفتنة بمعنى الإضلال لا يجوز أن تنسب إلى الله تعالى لأنه يناقض قوله وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ وإنما الفتنة بمعنى الامتحان بتشديد التكليف ومنه «فتنت الذهب بالنار» وبيان ذلك أن السامريّ لما أخرج لهم العجل صاروا مكلفين بأن يستدلوا بحدوث جملة الأجسام على أن العجل لا يصلح للإلهية. وقالت الأشاعرة: الشبهة في كون الشمس والقمر إلها أعظم من العجل الذي له خوار وهو جسد من الذهب وحينئذ لا يكون حدوث ذلك العجل تشديدا في التكليف، فلا يكون فتنة من هذا الوجه فوجب حمله على خلق الضلال فيهم. وأجابوا عن إضافة الضلال إلى السامري بأن جميع المسببات العادية تضاف إلى أسبابها في الظاهر وإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 564 كان الموجد لها في الحقيقة هو الله تعالى. قال بعضهم: الأسف المغتاظ، وفرق بين الاغتياظ والغضب لأن الغيظ تغير يلحق المغتاظ فلا يصح إلا على الأجسام، والغضب قد يراد به الإضرار بالمغضوب عليه فلهذا صح إطلاقه على الله سبحانه. ثم عاتب موسى عليه السلام قومه بأمور منها: قوله أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً كأنهم كانوا معترفين بالرب الأكبر لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي تذكر عبدة الأصنام أو على تأويل الحلول. والوعد الحسن هو إنزال التوراة التي فيها هدى ونور. وقيل: هو الثواب على الطاعات ومثله ما روي عن مجاهد أن العهد المذكور من قوله وَلا تَطْغَوْا فِيهِ إلى قوله ثُمَّ اهْتَدى وقيل: وعدهم إهلاك فرعون ووعدهم أرضهم وديارهم وقد فعل. ومنها قوله أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي الزمان يريد مدة مفارقته لهم وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان فاخلفوا موعده بعبادتهم العجل. وقيل: أراد عهدهم بنعم الله تعالى من الإنجاء وغيره. والأكثرون على الأول لما روي أنه وعدهم ثلاثين كما أمر الله تعالى وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً [الأعراف: 142] فجاء بعد الأربعين لقوله تعالى وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ ولما روي أنهم حسبوا العشرين أربعين ومنها قوله أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ قالوا: هذا لا يمكن إجراؤه على الظاهر لأن أحدا لا يريد هلاك نفسه ولكن المعصية- وهو خلاف الموعد- لما كانت توجب ذلك صح هذا الكلام لأن مريد السبب مريد للمسبب بالعرض. احتج العلماء بالآية وبما مر من قوله فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي أن الغضب من صفات الأفعال لا من صفات الذات لأن صفة ذات الله تعالى لا تنزل في شيء من الأجسام. وموعد موسى هو ما ذكرنا من أنهم وعدوه الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور. وقيل: وعدوه اللحاق به والمجيء على أثره قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا بالحركات الثلاث أي بأن ملكنا أمرنا أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفناه ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده. والظاهر أن القائلين هم عبدة العجل. وقيل: إنهم الذين لم يعبدوا العجل وقد يضيف الرجل فعل قرينه إلى نفسه فكأنهم قالوا: الشبهة قوبت على عبدة العجل فلم يقدر على منعهم ولم يقدروا أيضا على مخالفتهم حذرا من التفرقة وزيادة الفتنة. ثم إن القوم بينوا ذلك العذر المجمل فقالوا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ أي أثقالا من حلي القبط كما مر في «الأعراف» . وقيل: الأوزار الآثام وإنها في الحقيقة أثقال مخصوصة معنوية سموا بذلك لأن المغانم لم تحل حينئذ أو لأنهم كانوا مستأمنين في دار الحرب وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي. وقيل: إن تلك الحلي كان القبط يتزينون بها في مجامع الكفر ومجالس المعاصي فلذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 565 وصفت بأنها أوزار كما يقال في آلات المعاصي. فَقَذَفْناها أي في الحفرة، كان هارون أمرهم بجمع الحلي انتظارا لعود موسى، أو في موضع أمرهم السامري بذلك بعد أن أوقد النار فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ مثل فعلنا أراهم أنه يلقي حليا في يده مثل ما ألقوه. وإنما ألقى التربة التي أخذها من موطىء حافر فرس جبريل كما يجيء في قوله فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ قد مر في «الأعراف» فَقالُوا أي السامري ومن تبعه هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ موسى أن يطلبه هاهنا فذهب يطلبه عند الطور، أو فنسي السامري وترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر، أو نسي الاستدلال على أن العجل لا يجوز أن يكون إلها بقوله أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ «أن» مخففة من الثقيلة ولهذا لم تعمل. وقرىء بالنصب على أنها الناصبة. قال العلماء: ظهور الخوارق على يد مدعي الإلهية جائز لأنه لا يحصل الالتباس، وهاهنا كذلك فوجب أن لا يمتنع خلق الحياة في صورة العجل. وروى عكرمة عن ابن عباس أن هارون مر بالسامري وهو يصنع العجل فقال: ما تصنع؟ فقال: أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي. فقال: اللهم أعطه ما سألك. فلما مضى هارون قال السامري: اللهم إني أسألك أن يخور فخار. وعلى هذا التقدير يكون معجزا للنبي لا السامري. ثم إنه سبحانه أخبر أن هارون لم يأل نصحا وإشفاقا في شأن نفسه وفي شأن القوم قبل أن يقول لهم السامري ما قال. أما شفقته على نفسه فهي أنه أدخلها في زمرة الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، أما الامتثال فإنه امتثل في نفسه وفي شأن القوم أمر أخيه حين قال لهم يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ قال جار الله: كأنهم أول ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة فتنوا به واستحسنوه فقبل أن ينطق السامري بادرهم هارون فزجرهم عن الباطل أولا بأن هذا من جملة الفتن. ثم دعاهم إلى الحق بقوله وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ومن فوائد تخصيص هذا الاسم بالمقام أنهم إن تابوا عما عزموا عليه فإن الله يرحمهم ويقبل توبتهم. ثم بين أن الوسيلة إلى معرفة كيفية عبادة الله هو اتباع النبي وطاعته فقال فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي وهذا ترتيب في غاية الحسن. واعلم أن الشفقة على خلق الله أصل عظيم في الدين وقاعدة متينة. روى النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» «1» ويروى أن   (1) رواه البخاري في كتاب الأدب باب: 27. مسلم في كتاب البر حديث 66. أحمد في مسنده (4/ 268، 270) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 566 رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا هو جالس إذا نظر إلى شاب على باب المسجد فقال: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه. فسمع الشاب ذلك فولى وقال: إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد عليّ بأني من أهل النار وأنا أعلم أنه صادق، فإذا كان الأمر كذلك فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتشعل النار بي حتى يبر يمينه ولا تسفع النار أحدا. فهبط جبريل وقال: يا محمد بشر الشاب بأني قد أنقذته من النار بتصديقه لك وفداء أمتك بنفسه وشفقته على الخلق. قال أهل السنة هاهنا: إن الشيعة تمسكوا بقوله صلى الله عليه وسلم «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» «1» . ثم إن هارون ما منعته التقية في مثل ذلك الجمع بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعته، فلو كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الخطأ لكان يجب على عليّ كرم الله وجهه أن يفعل ما فعل هارون من غير تقية وخوف. وللشيعة أن يقولوا: إن هارون صرح بالحق وخاف فسكت ولهذا عاتبه موسى بما عاتب فاعتدر ب إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي [الأعراف: 15] وهكذا علي رضي الله عنه امتنع أولا من البيعة فلما آل الأمر إلى ما آل أعطاهم ما سألوا. وإنما قلت هذا على سبيل البحث لا لأجل التعصب. ثم إن القوم قابلوا حسن موعظة هارون بالتقليد والجحود قائلين لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى ولا يخفى ما في هذا الكلام من أنواع التوكيد من جهة النفي ب «لن» ، ومن لفظ البراح والعكوف، ومن صيغة اسم الفاعل، ومن تقديم الخبر. ثم حكى ما جرى بين موسى وهارون بعد الرجوع وقوله ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ كقوله ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] في أن «لا» هذه مزيدة أم لا؟. وقد مر في «الأعراف» . وفي هذا الإتباع قولان: فعن ابن عباس ما منعك من اتباعي بمن أطاعك واللحوق بي وترك المقام بين أظهرهم. وقال مقاتل: أراد الإتباع في وصيته كأنه قال: هلا قاتلت من كفر بمن آمن ومالك لا تباشر الأمر كما كنت أباشره. قال الأصوليون: في قوله أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي دلالة على أن تارك المأمور به عاص والعاصي يستحق العقاب لقوله وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الجن: 22] فيعلم منه أن الأمر للوجوب. واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بأن موسى عليه السلام هل أمر هارون باتباعه أم لا؟ وعلى التقدير فهارون أتبعه أم لا؟ فإن لم يأمره أو أمره ولكن اتبعه فملامته لهارون من غير جرم تكون ذنبا، وإن أمره ولم يتبعه كان هارون عاصيا. وأيضا قوله أَفَعَصَيْتَ بمعنى الإنكار. فإما أن يكون موسى   (1) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب: 9. الترمذي في كتاب المناقب باب: 20. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب: 11. أحمد في مسنده (1/ 170، 177، 185) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 567 كاذبا في نسبة العصيان إلى هارون، وإما أن يكون هارون عاصيا. وأيضا أخذه بلحية هارون وبرأسه إن كان بعد البحث والتفتيش فهارون عاص وإلا فموسى. وأجيب بأن كل ذلك أمور اجتهادية جائزة الخطأ أو هي من باب الأولى وقد مر في أوائل «البقرة» في قصة آدم ما يتعلق بهذه المسألة. قوله: لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي أي وصيتي لك بحفظ الدهماء واجتماع الشمل يؤيده قوله: نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ قال الإمام أبو القاسم الأنصاري: الهداية أنفع من الدلالة فإن السحرة ما رأوا إلا آية واحدة فآمنوا وتحملوا في الدين ما تحملوا، وأما قوم موسى فقد رأوا ذلك مع زيادة سائر الآيات التسع ومع ذلك اغتروا بصوت العجل وعكفوا على عبادته، فعرفنا أن الغرض لا يحصل إلا بهداية الله تعالى. ولما فرغ موسى من عتاب هارون أقبل على السامري، ويمكن أن يكون بعيدا ثم حضر أو ذهب إليه موسى ليخاطبه. قال جار الله: الخطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه. فإذا قيل: لمن يفعل شيئا ما خطبك؟ فمعناه ما طلبك له والغرض منه الإنكار عليه وتعظيم صنيعه قالَ أي السامري بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ قال ابن عباس ورواه أبو عبيدة: علمت بما لم يعلموا به من البصارة يعني العلم. وقال الآخرون: رأيت بما لم تروه فالباء للتعدية، رجح العلماء قراءة الغيبة على الخطاب احترازا من نسبة عدم البصارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والقبضة بالفتح مصدر بمعنى المفعول وهو المقبوض بجميع الكف. عامة المفسرين على أن المراد بالرسول جبريل عليه السلام وأثره التراب الذي أخذه من موقع حافر دابته واسمها حيزوم فرس الحياة. ومتى رآه؟ الأكثرون على أنه رآه يوم فلق البحر كان جبريل على الرمكة وفرعون على حصان وكان لا يدخل البحر، فتقدم جبريل فتبعه فرس فرعون. وعن علي رضي الله عنه أن جبريل لما نزل ليذهب بموسى إلى الطور أبصره السامري من بين الناس وكان راكب حيزوم فقال: إن لهذا شأنا فقبض من تربة موطئه. فمعنى الآية فقبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد. ثم من المفسرين من جوز أن السامري لم يعرف أنه جبريل ومنهم من قال: إنه عرفه. عن ابن عباس: إنما عرفه لأنه رباه في صغره وحفظه من القتل حين أمر فرعون بقتل أولاد بني إسرائيل. فكانت المرأة تلد وتطرح ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون فتأخذ الملائكة الولدان فيربونهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس. فكان السامري أخذه جبريل وجعل كف نفسه في فيه وارتضع منه العسل واللبن فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه. وقال أبو مسلم: إطلاق الرسول على جبريل في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 568 المقام من غير قرينة تكليف بعلم الغيب. وأيضا تخصيص السامري من بين الناس برؤية جبريل وبمعرفة خاصية تراب حافر دابته لا يخلو عن تعسف، ولو جاز اطلاع بعض الكفرة على تراب هذا شأنه فلقائل أن يقول: لعل موسى اطلع على شيء آخر لأجله قدر على الخوارق. فالأولى أن يراد بالرسول موسى فقد يواجه الحاضر بلفظ الغائب كما يقال: ما قول الأمير في كذا؟ ويكون إطلاق الرسول منه على موسى نوعا من التهكم لأنه كان كافرا به مكذبا. وأراد بأثره سنته ورسمه من قولهم «فلان يقفو أثر فلان» أي عرفت أن الذي عليه ليس بحق وقد كنت قبضت شيئا من سنتك فطرحتها. فعلى قول العامة يكون قوله: وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي إشارة إلى ما أوحي إليه وليه الشيطان أن تلك التربة إذا نبذت على الجماد صار حيوانا. وعلى قول أبي مسلم يشير إلى أن اتباع أثرك كان من تسويلات النفس الأمارة فلذلك تركته. ثم بين موسى أن له عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة. يروى أنه أراد أن يقتله فمنعه الله من ذلك وقال: لا تقتله فإنه سخيّ. وفي قوله: لا مِساسَ وجوه: الأوّل إنه حرم عليه مماسة الناس لأنه إذا اتفق أن هناك مماسة فأحدهم الماس والثاني الممسوس فلذلك إذا رأى أحدا صاح لا مساس. ويقال: إن قومه باق فيهم ذلك إلى الآن الثاني: أن المراد منع الناس من مخالطته. قال مقاتل: إن موسى أخرجه من محلة بني إسرائيل وقال له: اخرج أنت وأهلك طريدا إلى البراري. اعترض الواحدي عليه بأن الرجل إذا صار مهجورا فلا يقول: هو لا مساس. وإنما يقال له ذلك. وأجيب بأن هذا على الحكاية أي أجعلك يا سامري بحيث إذا أخبرت عن حالك لم تقل إلا لا مساس. والثالث: قول أبي مسلم إن المراد انقطاع نسله وأن يخبر بأنه لا يمكن له مماسة المرأة أي مجامعتها. وأما حاله في الآخرة فلذلك قوله: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ قال جار الله: من قرأ بكسر اللام فهو من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا. ثم بين مآل حال إلهه فقال: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً أي ظللت فحذف إحدى اللامين تخفيفا لَنُحَرِّقَنَّهُ من الإحراق ففيه دليل على أنه صار لحما ودما لأن الذهب لا يمكن إحراقه بالنار ونسفه في الميم. قال السدي: أمر موسى بذبحه فسال منه الدم ثم أحرق ثم نسف. والنسف النقض ومن جعله من الحرق أي لنبردنه بالمبرد ففيه دلالة على أنه لم ينقلب حيوانا إلا إذا أريد برد عظامه. ومن جعله من التحريق فإنه يحتمل الوجهين والمراد إهدار السامري وإبطال كيده ومحق صنيعه والله خير الماكرين. ثم ختم الكلام ببيان الدين الحق فقال: إِنَّما إِلهُكُمُ أي المستحق للعباد والتعظيم اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً قد مر مثله في «الأنعام» قال مقاتل: أي يعلم من يعبده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 569 وحين فرغ من قصة موسى شرع في تثبيت رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال: كَذلِكَ أي نحو اقتصصنا عليك قصة موسى وفرعون والسامري نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ سائر أخبار الرسل مع أممهم تكثيرا لمعجزاتك. ثم عظم شأن القرآن بقوله: وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً أي ما ذكر فيه كل ما يحتاج إليه المكلف في دينه وفي دنياه والوزر العقوبة الثقيلة التي تنقض ظهر صاحبها، أو المراد جزاء الوزر وهو الإثم خالِدِينَ فِيهِ أي في ذلك الوزر أو في احتماله وَساءَ فيه ضمير مبهم يفسره حِمْلًا والمخصوص محذوف للقرينة أي ساء حملا وزرهم. واللام في لَهُمْ للبيان كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] ويجوز أن يكون «ساء» بمعنى «قبح» ويكون فيه ضمير الوزر. وانتصب حِمْلًا على التمييز ولَهُمْ حال من حِمْلًا ولا أدري لم أنكره صاحب الكشاف، اللهم إلا أن يمنع وقوع الحال من التمييز وفيه نظر. قال ابن السكيت: الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس. وفي الصور قولان: أشهرهما أنه القرن يؤيده قوله: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [المدثر: 8] وإنه تعالى يعرّف أمور الآخرة بأمثال ما شوهد في الدنيا ومن عادة الناس النفخ في البوقات عند الأسفار وفي العساكر فجعل الله تعالى النفخ في تلك الآلة علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات. وأقربهما من المعقول أن الصور جمع صورة يؤكده قراءة من قرأ بفتح الواو. يقال: صورة وصورة كدرة ودرر. والنفخ نفخ الروح فيها ولكنه يرد عليه أن النفخ يتكرر لقوله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى [الزمر: 68] والإحياء لا يتكرر بعد الموت إلا ما ثبت من سؤال القبر وليس هو بمراد من النفخة الأولى بالاتفاق وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ. عن ابن عباس: هم الذين اتخذوا مع الله إلها آخر. وقال المعتزلة: هم الكفار والعصاة. وفي الزرق وجوه: قال الضحاك ومقاتل: إن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب، لأن الروم أعداؤهم وإنهم زرق العيون، ومن كلامهم في صفة العدوّ «أسود الكبد أصهب السبال أزرق العين» . وقال الكلبي: زُرْقاً أي عميا. قال الزجاج: يخرجون بصراء في أول أمرهم لقوله: لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إبراهيم: 42] ولقوله: اقْرَأْ كِتابَكَ [الإسراء: 14] ثم يؤل حالهم إلى العمى وإن حدقة من يذهب نور بصرة تزرق. وقيل: زُرْقاً أي عطاشا لقوله: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مريم: 86] فكأنهم من شدة العطش يتغير سواد عيونهم حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي يَتَخافَتُونَ يتسارون بَيْنَهُمْ من شدة خوفهم أو لأن صدورهم امتلأت رعبا، وهؤلاء يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا إما لأنها أيام سرورهم وهن قصار، وإما لأنها قد انقضت والذاهب قليل وإن طال ولا سيما بالنسبة إلى الأبد السرمدي كأن ظنينهم يقول: قدر لبثنا في الدنيا بالقياس إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 570 لبثنا في الآخرة كعشرة أيام. فقال أعقلهم: بل كاليوم الواحد. وإنما قال: عَشْراً لأن المراد عشر ليال. وقال مقاتل: أراد عشر ساعات أي بعض يوم. وعلى هذا فأفضلهم رد عليهم استقصارهم وتقالهم. وقيل: المراد لبثهم في القبور. قال أهل النظم: كأن سائلا سأل: كيف يصح التخافت بين المجرمين والجبال حائلة مانعة؟ فلذلك قال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ وقال الضحاك: إن مشركي مكة قالوا على سبيل الاستهزاء: يا محمد كيف يكون حال الجبال يوم القيامة؟ فنزلت. ويحتمل أن يكون هذا جواب شبهة تمسك بها منكرو البعث- منهم جالينوس- زعم أن الأفلاك لا تفنى لأنها لو فنيت لابتدأت بالنقصان حتى تنتهي إلى البطلان، وكذا الجبال وغيرها من الأجرام الكلية، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم هذه المسألة الأصولية من غير تأخير ولهذا أدخل فاء التعقيب في الجواب. والنسف القلع. وقال الخليل: التطيير والإذهاب كأنه يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها. وحاصل الجواب أن كل بطلان لا يلزم أن يكون ذبوليا بل قد يكون رفعيا. والضمير في فَيَذَرُها للمضاف المحذوف أي فيدع مقارها ومراكزها وهو للأرض للعلم بها كقوله: ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها [فاطر: 45] والقاع المستوي من الأرض. وقيل: المكان المطمئن. وقيل: مستنقع الماء. والصفصف الأرض الملساء المستوية. وقيل: التي لا نبات فيها. والأمت النتوّ اليسير. وقيل: التلال الصغار. قالوا: العوج بالكسر في المعاني وكأنه سبحانه نفى العوج الذي يدق عن الإحساس ولا يدرك إلا بالقياس الهندسي، وإذا كان هذا النوع من العوج الاعتباري منتفيا فكيف بالعوج الحسي! وقد يستدل بالآية على أن الأرض يومئذ تكون كرة حقيقة إذ لو كانت مضلعة وقعت بين الأضلاع فصول مشتركة فيعوج الامتداد القائم عليها هناك. ثم إنه تعالى وصف ذلك اليوم بأن الخلائق فيه يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ قيل: هو النفخ في الصور. وقوله: لا عِوَجَ لَهُ أي لا يعدل عن أحد بدعائه بل يحشر الكل. وقيل: إن إسرافيل أو ملكا آخر يقوم على صخرة بيت المقدس ينادي: أيها العظام النخرة والأوصال المتفرقة واللحوم المتمزقة، قومي إلى ربك للحساب والجزاء فلا يعوج له مدعوّ بل يتبعون صوته من غير انحراف. وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ خفضت من شدة الفزع فَلا تَسْمَعُ أيها السامع إِلَّا هَمْساً وهو الصوت الخفي. وذلك أن الجن والإنس علموا أن لا مالك لهم سواه، وحق لمن كان الله محاسبه أن يخشع طرفه ويضعف صوته ويختلط قوله ويطول غمه. وعن ابن عباس والحسن وعكرمة وابن زيد الهمس وطء الأقدام إلى المحشر. قوله: إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ يصلح أن يكون «من» منتصبا على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 571 المفعولية وأن يكون مرفوعا على البدلية بتقدير حذف المضاف أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن وَرَضِيَ لَهُ أي لأجله قَوْلًا. قال الإمام فخر الدين الرازي: الاحتمال الأول أولى لعدم التزام الإضمار، ولأن درجة الشافع درجة عظيمة فلا تصلح ولا تحصل إلا لمن أذن له فيها وكان عند الله مرضيا. فلو حملنا الآية على ذلك كان من إيضاح الواضحات بخلاف ما لو حملت على المشفوع. وأقول: الاحتمالان متقاربان متلازمان لأن المشفوع لا تقبل الشفاعة في حقه إلا إذا أذن الرحمن لأجله فيعود إلى الثاني. قالت المعتزلة: الفاسق غير مرضي عند الله تعالى فوجب أن لا ينتفع بشفاعة الرسول. وأجيب بأنه قد رضي لأجله قولا واحدا من أقواله وهو كلمة الشهادة. قالوا: هب أن الفاسق قد رضي الله قولا لأجله، فلم قلتم إن الإذن حاصل للشافع في حقه؟ والجواب أنا أيضا نمنع من أن الإذن غير حاصل في حقه على أنه قال في موضع آخر وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء: 28] فلم يعتبر إلا أحد القيدين. ثم أخبر عن نهاية علمه بقوله: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. الضمير للذين يتبعون الداعي أي يعلم ما يقدمهم من الأحوال وما يستقبلونه وَلا يُحِيطُونَ بمعلومه عِلْماً. وقال الكلبي ومقاتل: الضمير للشافعين من الملائكة والأنبياء كما مر في آية الكرسي. وفيه تقريع لمن يعبد الملائكة ليشفعوا له أي يعلم ما كان قبل خلقهم وما كان منهم بعد خلقهم من أمر الآخرة والثواب والعقاب وإنهم لا يعلمون شيئا من ذلك فكيف يصلحون للمعبودية. ثم ذكر غاية قدرته فقال: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ أي زلت رقاب الممكنات منقادين لأمره كالأسارى. عنا يعنو عنوّا إذا صار أسيرا. وقيل: أراد وجوه العصاة في القيامة كقوله: سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الملك: 27] ولعله خص الوجوه بالذكر لأن أثر الذل والانكسار فيها أبين وأظهر. قال جار الله: وَقَدْ خابَ وما بعده اعتراض أي كل من ظلم فهو خائب خاسر. ولأهل السنة أن يخصوا الظلم هاهنا بالشرك أو يعارضوا هذا العموم بعمومات الوعد. من قرأ فَلا يَخافُ بالرفع فعلى الاستئناف أي فهو لا يخاف كقوله: فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة: 95] ومن قرأ فلا يخف فمعناه فليأمن له لأن النهي عن الخوف أمر بالأمن. من فسر الظلم بأنه الأخذ فوق حقه بالنقص من حقه كصفة المطففين فيقدر مضافا محذوفا أي فلا يخاف جزاء ظلم ولا هضم لأنه لم يظلم ولم يهضم، ومن فسر الظلم بأنه العقاب لا على جريمة والهضم بأنه النقص من الثواب فلا يحتاج إلى تقدير المضاف. قال أبو مسلم: الظلم أن ينقص من الثواب والهضم أن لا يوفى حقه من التعظيم لأن الثواب مع كونه من اللذات لا يكون ثوابا إلا إذا قارنه التعظيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 572 قال جار الله: وَكَذلِكَ عطف على قوله: كَذلِكَ نَقُصُّ أي ومثل ذلك الإنزال وعلى نهجه، وكما أنزلنا عليك هؤلاء الآيات المضمنة للوعيد أنزلنا القرآن كله عربيا لأن العرب أصل وغيرهم تبع لأن النبي عربي. وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ كررناه وفصلناه ويدخل في ضمنه الفرائض والمحارم لأن الوعيد يتعلق بترك أحدهما وبفعل الآخر لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً حمل جار الله الأول على إرادة ترك المعاصي والثاني على فعل الخير والطاعة، لأن الذكر قد يطلق على الطاعة والعبادة. قلت: لا ريب أن القرآن ينفر عن السيئات ويبعث على الطاعات من حيث إن فهم معانيه يؤذي إلى ذلك، وإنما قدم الأول على الثاني لأن التخلية مقدمة على التحلية. ويحتمل أن تكون التقوى عبارة عن فعل الخيرات وترك المنكرات جميعا. والذكر يكون محمولا على ضد النسيان أي إن نسوا شيئا من التروك والأفعال أحدث لهم ذكرا إذا تأملوا معانية. وكلمة «أو» على الأول للتخيير والإباحة لا للتنافي، وعلى الثاني يجوز أن تكون للتنافي. وقيل: أراد أنزلنا القرآن ليتقوا فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يوجب القرآن لهم ذكرا أي شرفا ومنصبا كقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] وعلى التقديرين يكون في إنزال القرآن نفع. ثم عظم شأن القرآن من وجه آخر وهو عظمة شأن منزلة قائلا فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ارتفع صفاته عن صفات المخلوقين أنزل القرآن ليحترزوا عما لا ينبغي وأنه منزه عن الانتفاع والتضرر بطاعاتهم ومعاصيهم. ومعنى الحق قد مر في البسملة. قال جار الله: فيه استعظام له ولما يصرّف عليه عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده والإدارة بين ثوابه وعقابه وغير ذلك كما يجري عليه أمر ملكوته. قال أبو مسلم: إن قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ إلى هاهنا كلام تام. وقوله: وَلا تَعْجَلْ خطاب مستأنف. وقال آخرون: إنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن يفوته شيء فيقرأ مع الملك، فإنه تعالى حين شرح كيفية نفع القرآن للمكلفين وبين أنه سبحانه متعال عن الانتفاع والتضرر بالطاعات والمعاصي. وأنه موصوف بالملك الدائم والعز بالباقي، وكل من كان كذلك وجب أن يصون رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي وما يتعلق بصلاح العباد في المعاش والمعاد. قال: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ لأنه حصل لك الأمان من السهو والنسيان مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي من قبل أن تتم قراءة جبريل ونحوه قوله لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16] قاله مقاتل والسدي وابن عباس في رواية عطاء. وقال مجاهد وقتادة: أراد ولا تعجل بالقرآن فتقرأ على أصحابك من قبل أن يوحي إليك بيان معانية أي لا تبلغ ما كان مجملا حتى يأتيك البيان. وقال الضحاك: إن أهل مكة وأسقف نجران قالوا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 573 يا محمد، أخبرنا عن كذا وكذا وقد ضربنا لك أجلا ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه وفشت المقالة أن اليهود قد غلبوا فنزلت هذه الآية. أي لا تعجل بنزول القرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه من اللوح المحفوظ إلى إسرافيل ومنه جبرائيل ومنه إليك. وعن الحسن: أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: زوجي لطم وجهي فقال: بينكما القصاص فنزلت الآية فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القصاص. وإنما نشأت هذه الأقوال لأن قوله: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ يحتمل التعجيل بقراءته في نفسه، أو في تأديته إلى غيره، أو في اعتقاده ظاهره، أو في تعريف الغير ما يقتضيه الظاهر. وقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ احتمل أن يراد من قبل أن يقضى إليك تمامه، أو من قبل أن يقضى إليك بيانه فقد يجوز أن يحصل عقيبه استثناء أو شرط أو غيرهما من المخصصات والمبينات ويؤكد هذه المعاني قوله: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً لأن معرفة البيان علم زائد على معرفة الإجمال. والظاهر أن هذا الاستعجال كان أمرا اجتهاديا وكان الأولى تركه فلذلك نهى عنه. قال جار الله: هذا الأمر متضمن للتواضع لله والشكر له عند ما علم من ترتيب التعلم أي علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم وأدبا جميلا ما كان عندي فزدنى علما إلى علم. ومن فضائل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم. وفيه إشارة إلى أن أسرار القرآن غير متناهية، اللهم إن هذا العبد الضعيف معترف بقصوره ونقصانه فأسألك مما سألك به نبيك أن ترزقني بتبعيته علما ينفعني في الدارين. التأويل: وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى القلب أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي وهم صفات القلب من الأخلاق الحميدة سر بهم من مصر البشرية إلى بحر الروحانية. فَاضْرِبْ لَهُمْ بعصا الذكر طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً من ماء الهوى وطين الصفات الحيوانية وباقي التأويل كما مر في «يونس» وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ منّ صفاتنا وسلوى أخلاقنا فاتصفوا بطيبات أخلاقنا وَلا تَطْغَوْا فِيهِ بإفشاء أسرار الربوبية إلى غيرنا كمن قال: أنا الحق وسبحاني. فإن الحالات لا تصلح للمقاولات. وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ رجع عن الطغيان وَآمَنَ بالربوبية وَعَمِلَ صالِحاً في مقام العبودية ثُمَّ اهْتَدى فتحقق أن حضرة الربوبية منزهة عن دنس الوهم والخيال ومقام الوصال مباين للقيل والقال. وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ فيه أن الشوق إذا غلب انقطع العلائق وأن مطلوب السائل لا ينبغي أن يكون إلا رضا الله. قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ فيه أن فتنة الأمة والمريد مقرونة بالنبي والشيخ. بِمَلْكِنا أي بإرادتنا ومشيئتنا ولكن بإرادة الله ومشيئته. فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ من غير اختيار منه ولكن باضطرار من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 574 القدرا بْنَ أُمَ قيل خاطبه بذلك ليذكره قول الملائكة: يا ابن النساء الحيض ما للتراب ورب الأرباب. فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها فيه أن الكرامة لأهل الكرامة كرامة ولأهل الغرامة استدراج وفتنة فيصرفونها في الباطل والطبيعة لا في الحق والحقيقة. قوله: لا مِساسَ فيه معارضة بنقيض مقصود من أراد الجمعية والغلبة واتباع الناس إياه، فعدت بالتفرد والتوحش والنفار عن الخلق زُرْقاً إن الوجه أشرف أعضاء الإنسان والعين أشرف أعضاء الوجه، وزرق العين دلالة على خروجها عن الاعتدال، وإذا كان أشرف الأعضاء خارجا عن الاعتدال فما ظنك بغيرها؟ وكذا بالأخلاق التابعة للأمزجة. وَعَنَتِ الْوُجُوهُ أي كل جهة بها يستند الممكن إلى الواجب. يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لأن كل ناس تدعى بإمامهم فيتبعونه البتة وأهل الله لا يفرون إلا إلى الله في قوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يونس: 25] وعلى الله المستعان. [سورة طه (20) : الآيات 115 الى 135] وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 575 القراآت: وإنك بالكسر: أبو بكر وحماد والخراز ونافع. الباقون بالفتح عطفا على أَلَّا تَجُوعَ ولا يلزم منه دخول «إن» المكسورة على المفتوحة للفصل بالخبر، ولأنه يجوز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه أَعْمى بالإمالة: حمزة وعلي وخلف حَشَرْتَنِي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير. ترضى مبينا للمفعول: علي وأبو بكر وحماد والمفضل زَهْرَةَ بفتح الهاء: قتيبة وسهل ويعقوب. الآخرون بسكونها. وقرأ حمزة وعلي وخلف هذه السورة وكل سورة آياتها على الياء بالإمالة المفرطة وإن شاء بين الفتح والكسر. الوقوف: عَزْماً هـ إِلَّا إِبْلِيسَ ط أَبى هـ فَتَشْقى هـ وَلا تَعْرى هـ، لمن قرأ وَأَنَّكَ بالكسر وَلا تَضْحى هـ لا يَبْلى هـ الْجَنَّةِ ز لنوع عدول عن ذكر حال اثنين إلى بيان فعل من هو المقصود فَغَوى هـ ص وَهَدى هـ عَدُوٌّ ج لابتداء الشرط مع الفاء وَلا يَشْقى، هـ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى هـ بَصِيراً هـ فَنَسِيتَها ج لعطف المختلفين تُنْسى هـ بِآياتِ رَبِّهِ ط وَأَبْقى هـ مَساكِنِهِمْ ط النُّهى هـ مُسَمًّى هـ ط غُرُوبِها ج لعطف الجملتين مع اختلاف النظم تَرْضى هـ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ط وَأَبْقى هـ عَلَيْها ط رِزْقاً ط نَرْزُقُكَ ط لِلتَّقْوى هـ مِنْ رَبِّهِ ط الْأُولى هـ وَنَخْزى هـ فَتَرَبَّصُوا ج لسين التهديد مع الفاء اهْتَدى هـ. التفسير: في تعلق قصة آدم بما قبلها وجوه منها: أنه لما قال: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ ثم عظم شأن القرآن وبالغ فيه ذكر القصة إنجازا للوعد. ومنها أنه لما قال: وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أردفه بهذه القصة ليعلم أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم وخلة موروثة، وذلك أنه عهد إلى آدم من قبل هؤلاء الذين صرف لأجلهم الوعيد فنسي وترك العهد. ومنها أن قوله: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ دليل على أنه صلى الله عليه وسلم زاد على قدر الواجب في رعاية أمر الدين وكان مفرطا في أداء الرسالة وحفظ ما أمر به فناسب أن يعطف عليه قصة آدم لأنه كان موسوما بالتفريط والإفراط والتفريط كلاهما من باب ترك الأولى، وإذا كان أوّل الأنبياء وخاتمهم موصوفين بما فيه نوع تقصير فما ظنك بغيرهما! ومن هنا يعرف أفضلية الخاتم فإنه سعى في طلب الكمال إلى أن عوتب بالخروج عن حد الاعتدال، وآدم توسط في حيز النقصان فلا جرم وسم بالظلم والعصيان. ومنها أن محمدا صلى الله عليه وسلم أمر بأن يقول رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ثم ذكر عقيبه قصة آدم تنبيها على أن بني آدم مفتقرون في جميع أحوالهم إلى التضرع واللجأ إلى الله حتى ينفتح عليهم أبواب التيسير في العلم والعمل. ومعنى عَهِدْنا إِلى آدَمَ أمرناه ووصيناه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 576 مِنْ قَبْلُ أي من قبل محمد والقرآن. وفي النسيان قولان: أحدهما أنه نقيض الذكر. عن الحسن: والله ما عصي قط إلا بنسيان. والثاني أن معناه الترك وعلى هذا يحتمل أن يقال: أقدم على الأكل من غير تأويل. وأن يقال: أقدم عليه بتأويل قد مر في «البقرة» . قال أهل الإشارة: عهد إليه أن لا يعلق نوره فانقاد للشيطان وهو النسيان. والعزم أيضا فيه أقوال: أحدها عزما على الذنب لأنه أخطأ ولم يتعمد. وثانيها عزما في العود إلى الذنب ثانيا. وثالثها رأيا وصبرا أي لم يكن من أهل العزيمة والثبات إذ كان من حقه أن يتصلب في المأمور به تصلبا يؤيس الشيطان من التسويل. قال جار الله: قوله: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ يجوز أن يكون بمعنى العلم ومفعولا هـ لَهُ عَزْماً وأن يكون بمعنى نقيض العدم كأنه قال: وعد مثاله عزما. قوله: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ سلف في «البقرة» مستقصى قوله: إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ ذكروا في سبب عداوته إياه أنه كان شابا عالما لقوله: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها وإبليس كان شيخا جاهلا لأنه أثبت فضله بفضيلة أصله، والشيخ الجاهل أبدا يكون عدوّا للشاب العالم. وأيضا الماء والتراب مضادان للنار فَلا يُخْرِجَنَّكُما فلا يكون سببا لإخراجكما لأن الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه فَتَشْقى فتتعب في طلب القوت وسائر ما يتعيش به الإنسان أسند الشقاء إليه وحده مع اشتراكهما في الخروج لأن الرجل أصل في باب الإنفاق والكسب والمرأة تابعة له. ثم بين ذلك الشقاء بقوله: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها إلى آخره. والظمأ العطش وتقول: ضحيت للشمس بالكسر أضحى ضحاء ممدودا إذا برزت لها. والمراد به الكن مع أن الجنة ليس فيها شمس حتى يتصور فيها الضحاء، نفى كون هذه الأمور في الجنة ليثبت حصولها في غيرها. ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي: الشبع والري والكسوة والكن. وأما المنكوح فمشترك إلا أن مؤن النكاح تختص بالدنيا وأنها أيضا ترجع إلى المذكورات. يروى أنه كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع. فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ أنهى إليه وسوسة كما مر في «الأعراف» . بيان الوسوسة أنه قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أضافها إلى الخلد وهو الخلود لأن من أكل منها بزعمه كما قيل لحيزوم فرس الحياة لأنه من باشر أثره حيي وَمُلْكٍ لا يَبْلى أي لا ينقطع ولا يزول. قال القاضي: ليس في الظاهر أنه قيل ذلك منه لأنه لا بد أن يحصل بين حال التكليف وحال المجازاة فصل بالموت، والنبي يمتنع أن لا يعلم هذا القدر. وأجيب بالمنع ولو سلم فلم لا يكفي الفصل بغشي أو نوح خفيف. ولو سلم أنه لا يكفي فلم استحال أن يجهل النبي ذلك كما جهل عدم جواز الرؤية زعمكم حين قال: أَرِنِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 577 أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] ومما يدل على أن آدم قبل وسوسته قوله تعالى: فَأَكَلا بالفاء والفاء مشعر بالعلية كقول الصحابي: «زنى ماعز فرجم» وما في الآية قد مر تفسيره في «الأعراف» إلا قوله: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى قال بعض الناس: إن آدم ذنبه كبيرة وإلا لم يوصف بالعصيان والغواية فإن العاصي والغاوي اسمان مذمومان عرفا وشرعا وقد ترتب الوعيد عليهما. وأجيب بأن المعصية مخالفة الأمر والأمر قد يكون مندوبا. وزيف بالمنع من أن المندوب غير مأمور به. ثم أن مخالفة عاص وإلا كان الأنبياء كلهم عصاة لأنهم لا ينكفون عن ترك المندوب. قالوا: يقال أشرت إليه في أمر كذا فعصاني وأمرته بشرب الدواء فعصاني. وأجيب بالمنع من أن هذا من مستعملات العرب العاربة، ولو سلم فلعله إنما يقال ذلك إذا عرف أن المستشير لا بد له أن يفعل ذلك، وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلا وإن لم يكن وجوب شرعي لأن ذلك الإيجاب لم يصدر عن الشارع. ومنهم من زعم أنه ذنب صغير وهم عامة المعتزلة ورد بأن المعاصي اسم من يستحق العقاب وهذا لا يليق بالصغيرة. وأجاب أبو مسلم الأصفهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف ولهذا قال سبحانه فَغَوى أي خاب من نعيم الجنة لأن الرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء فيصل إلى المقصود والغي ضده، وأنه سعى في طلب الخلود فنال ضد المقصود. وعن بعضهم فَغَوى أي بشم من كثرة الأكل وزيفه جار الله. ورد قول أبي مسلم بأن مصالح الدنيا تكون مباحة فلا يوصف تاركها بالعصيان. قلت: في هذا نظر، والأحوط في هذا الباب أن يعتقد كون هذه الواقعة قبل النبوة بدليل قوله: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ أي اختاره للرسالة وَهَدى لحفظ أسباب العصمة. أصل الاجتباء هو الجمع كما مر في آخر «الأعراف» . يروى عن أبي أمامة: لو وزنت أحلام بني آدم لرجح حلمه. وقد قال الله تعالى: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً قال العلماء: فيه دليل على أنه لا رادّ لقضائه وما قدره كائن لا محالة، وإذا جاء القضاء عمي البصر والدليل قد يكون في غاية الظهور ومع ذلك يخفى على أعقل الناس كما خفي على آدم عداوة إبليس، وأنه تعرّض لسخط الله في شأنه حين امتنع من سجوده فكيف قبل منه وسوسة لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الأنفال: 68] قال المحققون: الأولى أن لا يطلق لفظ العاصي والغاوي على آدم عليه السلام وإن ورد في القرآن وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى لأنه لم تصدر عنه الزلة إلا مرة واحدة، وصيغة اسم الفاعل تنبىء عن المزاولة، ولأن المسلم إذا تاب عن الشرب أو الزنا وحسنت توبته لا يقال له شارب وزان، ولأن السيد يجوز له أن يشتم عبده بما شاء وليس لغيره ذلك. قالَ اهْبِطا قد مر تفسير مثله في «البقرة» خاطبهما بالهبوط لأنهما أصلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 578 البشر ثم عم الخطاب لهما ولذريتهما في قوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ أما قوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فقد قال القاضي: يكفي في توفية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء الناس والناس أعداء لهم، فإذا انضاف إلى ذلك عداوة بعض الفريقين لبعض لم يمتنع دخوله في الكلام. عن ابن عباس: ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا قوله: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى والسبب فيه أن العقاب في الآخرة لأجل أنه قد ضل عن الدين في مدة التكليف، واتباع كتاب الله يستلزم عدم الضلال عن الدين المستتبع للنجاة من العقاب في الآخرة. وأما الشقاء الذي قد يلحق المؤمن في الدنيا فلا اعتداد به لقصر مدته على أن الرضا بالقضاء يهوّن عليه مصائب الدنيا وآفاتها. ثم ذكر وعيد من أعرض عن ذكره ظاهر الكلام يدل على أن الذكر هاهنا هو الهدى المذكور لأن قوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي في مقابلة قوله: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ. وقد مر في أول «البقرة» أن المراد به الشريعة والبيان. وقال كثير من المفسرين: إن الذكر هو القرآن وسائر كتب الله وفيه نوع تخصيص. والضنك الضيق مصدر وصف به. ولهذا استوى فيه المذكر والمؤنث. يقال: منزل ضنك ومعيشة ضنك كأنه قيل: ذات ضنك. قالت الحكماء: عيش الدنيا ضنك ضيق لانقضائه وقصر مدّته وكثرة شوائبه، وإنما العيش الواسع عيش الآخرة. وهذا الضيق المتوعد به إما في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة مال إلى كل طائفة. أما الأول فلأن المسلم الراضي بقضاء ربه معه من التسليم والتوكل والقناعة ما يعيش به عيشا رافغا. والمعرض عن الدين متول عليه الحرص والشح فلا ينفك عن الانقباض ولطموح ما ليس يناله من الفراغ والرفاغ الكلي فلا هم له إلا هم الدنيا. عن ابن عباس: المعيشة الضنك هي أن يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها، ومن الكفرة من ضربت عليه الذلة والمسكنة. وسئل الشبلي عن قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية» فقال: أهل البلاء هم أهل الغفلات عن الله تعالى فعقوبتهم أن يردهم الله تعالى إلى أنفسهم وأيّ معيشة أضيق وأشد من أن يرد الإنسان إلى نفسه. قلت: التحقيق أن بعض البليات من العقوبات فطلب العافية منها لازم، وبعضها لمزيد الدرجات ولكن الإنسان خلق ضعيفا فكثيرا ما يؤل أمر المبتلي إلى الجزع والفزع فيحرم الثواب فتطلب العافية من هذا القسم أيضا خوفا من المآل. وأما الثاني فعن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري ورفعه أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه: «عذاب القبر للكافر» وعن ابن عباس أن الآية نزلت في الأسود بن عبد الله المخزومي والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه. وأما الثالث فعن الحسن وقتادة والكلبي أنه ضيق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 579 في الآخرة وفي جهنم، وأن طعامهم فيها الضريع والزقوم والحميم والغسلين، فلا يموتون فيها ولا يحيون. أما قوله: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى كقوله: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه: 102] فيمن فسر الزرق بالعمى وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً [الإسراء: 97] وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الإسراء: 72] قال الجبائي: أراد أنه لا يهتدي يوم القيامة إلى طريق ينال منه خيرا كالأعمى. وعن مجاهد والضحاك ومقاتل أنه أراد أعمى عن الحجة وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال القاضي: هذا القول ضعيف لأنه لا بد في القيامة أن يعلمهم الله تعالى بطلان ما كانوا عليه بتمييزه لهم الحق من الباطل، ومن هذه حاله لا يوصف بذلك إلا مجازا باعتبار ما كان، لكن قوله: وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ينافيه. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: ومما يؤكد هذا الاعتراض أنه تعالى علل ذلك العمى بما أن المكلف نسي الدلائل في الدنيا، فلو كان العمى الحاصل في الآخرة عين ذلك النسيان لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر كما في الدنيا. قال: والتحقيق في الجواب عن الاعتراض هو أن النفوس الجاهلة في الدنيا إذا فارقت أبدانها تبقى على جهالتها في الآخرة فتصير تلك الجهالة سببا لأعظم الآلام الروحانية. وأقول على القاضي: يحتمل أن يكون مجازا باعتبار الغاية. فقد ينفي الشيء باعتبار عدم غايته وثمرته فلا ينافي كونه أعمى في الآخرة بهذا الاعتبار إعلام الله تعالى إياه الحجة، ولا كونه بصيرا في الدنيا كونه أعمى في الآخرة بالاعتبار المذكور لأن المعرض عن الدليل يشبه أن يكون كافرا معاندا، ويكون الغرض من الإعلام التوبيخ والإلزام يؤيده قوله تعالى في جوابه: كَذلِكَ أي مثل ذلك فعلت أنت. ثم فسر ذلك بقوله: أَتَتْكَ آياتُنا أي دلائلنا واضحة مستنيرة فَنَسِيتَها أي تركت العمل بها والقيام بموجبها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى تترك بلا فائدة النظر والاعتبار. وعلى الإمام الرازي: إنه لا يلزم من كون المكلف غير متضرر بنسيان الدلائل في الدنيا كونه غير متضرر به في الآخرة. وأما قوله في الجواب المحقق بناء على قاعدة الحكيم إن جهل النفس يصير سببا لتعذيبها فإن كان منعا لقول المعتزلة إنه تعالى يعلم المكلف بطلان ما كان عليه في الدنيا فذاك لا يفتقر إلى العدول، وإن كان تسليما لقولهم فمن أين يتحمل الاعتراض هذا وقد رأيت في بعض الآثار أن أشد الناس عمى يوم القيامة هم الذين حفظوا القرآن ثم نسوه. دليله قوله تعالى: أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها اللهم اجعلني ممن يواظب على تلاوة كتابك حتى لا أنساه يوم ألقاك. وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ قيل: عصى ربه. والأظهر أنه أراد أشرك وكفر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 580 بدليل قوله: وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ وهو الحشر على العمى أَشَدُّ وَأَبْقى من ضيق المعيشة في العاجل أو أراد، وتركنا إياه في العمى أشد وأبقى من تركه لآياتنا. ثم وبخ المعرضين عن الدلائل بعدم الاعتبار بأحوال القرون الخالية فقال: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ بالفاء وفي السجدة بالواو، لأن الكلام هاهنا كالمتصل بقوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي وهناك كالمنفصل عن الإعراض لأنه قال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها [السجدة: 22] . وبعد ذلك أورد قصة موسى فناسب الاستئناف بالواو، وأما حذف من هاهنا وإثباته هنالك فلما مر من أن «من» تفيد الاستيعاب وهنالك قد زاد في القرون بشرح قصة بني إسرائيل وما فيهم من الملوك والأنبياء. قال في الكشاف: فاعل: أَفَلَمْ يَهْدِ الجملة بعده. وأنكر البصريون مثل هذا لأن الجملة لا تقع فاعلا فلهذا قال: يريد أو لم يهد لهم هذا المعنى أو مضمون هذا الكلام. قال القفال: جعل كثرة ما أهلك من القرون مبينا لهم. وقال الزجاج: أراد أو لم نبين لهم ما يهدون به لو تدبروا وتأملوا. وقيل: فيه ضمير الله أو الرسول والجملة بعده تفسره يريد أن قريشا يتقلبون في بلاد عاد وثمود ويمشون في مساكنهم ويعاينون آثار هلاكهم. والنهى العقول وقد مر في السورة. قال بعض أهل اللغة: إن للنبيه مزية على العقل فلا يقال إلا لمن له عقل ينتهي به عن القبائح فقوله: لِأُولِي النُّهى كقوله: أُولُوا الْعَزْمِ [الأحقاف: 35] والحزم ومن هذا فسره بعضهم بأهل الورع والتقوى. ثم بين الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلا على من كذب من هذه الأمة فقال: وَلَوْلا كَلِمَةٌ هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة كتبها في اللوح المحفوظ وأخبر بها ملائكته ورسله لأن فيهم أو في نسلهم من يؤمن، أو لمصلحة أخرى خفية. قال أهل السنة: إنه بحكم المالكية له أن يفعل ما يشاء من غير علة. واللزام مصدر لازم وصف به. وقيل: فعال لما يفعل به فهو بمعنى ملزم كأنه آلة اللزوم أي لَكانَ الأخذ العاجل لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى وهو عذاب الآخرة. وقيل: يوم بدر معطوف على كَلِمَةٌ وجوز في الكشاف أن يكون معطوفا على الضمير في كان. ولعله إنما جوز ذلك للفصل أي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل. وحين بين أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر على ما يقولون من التكذيب وسائر الأذيات. زعم الكلبي ومقاتل أنها منسوخة بآية القتال وليس بذاك فإن كلا منهما معمول بها في موضعها وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي متلبسا بحمده على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 581 أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه، والأكثرون أنها بمعنى الصلاة ليكون كقوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45] ولأنه بين أوقاتها فقيل طلوع الشمس هو صلاة الفجر، وقبل غروبها صلاة الظهر والعصر لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ المغرب والعتمة. وقوله وَأَطْرافَ النَّهارِ أي في طرفيه فجمع للمبالغة وأمن الإلباس، أو لأن أقل الجمع اثنان. أو أراد طرفي كل نهار تكرار لصلاتي الفجر والعصر لا المغرب على ما ظن اعتناء بشأنهما كقوله وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] وآناء جمع «أنى» وهو الساعة وقد مر في «آل عمران» . وإنما قدم آناء الليل وأدخل الفاء في فَسَبِّحْ المؤذنة بتلازم ما قبلها وما بعدها تنبيها على زيادة الاهتمام بشأن صلاة الليل، لأن الليل وقت السكون والراحة وهدوّ الأصوات فالصلاة فيه أشق على النفس وأدخل صلاة الظهر لأنه خصص قبل الغروب بصلاة العصر. ومنهم من زاد فيها النوافل لأن الآية صلاة الظهر لأنه خصص قبل الغروب بصلاة العصر. ومنهم من زاد فيها النوافل لأن الصلاة في الأوقات المذكورة تشملها والأمر قد يكون للندب لا أقل من التغليب. وقال أبو مسلم: الأقرب حمل التسبيح على التنزيه والإجلال كأنه لما أمره بالصبر على أذية القوم بعثه على الاشتغال بالتقديس والمواظبة عليه في كل الأوقات. وقوله: لَعَلَّكَ تَرْضى كقوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: هـ] ولا ريب أن الأطماع من الكريم واجب الوقوع اللهم ارزقنا شفاعته. ولما حث رسوله على الأمور الدينية نهاه عن الميل إلى الزخارف الدنيوية فقال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي نظر عينيك. ومد النظر تطويله استحسانا للمنظور إليه، وفيه أن النظر الغير الممدود معفوّ عنه كما لو نظر فغض. وقال أبو مسلم: المنهي عنه في الآية ليس هو التطويل وإنما هو الأسف أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوا من حظ الدنيا. قال أبو رافع: نزل ضيف بالنبي صلى الله عليه وسلم فبعثني إلى يهوديّ يستقرضه فقال: لا أقرضه إلا برهن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأمين في السماء وإني لأمين في الأرض، أحمل إليه درعي الحديد فنزلت. والأزواج الأصناف. وقيل: أي أشكالا وأشباها من الكفار لأنهم أشكال في الذهاب عن الصواب. وقد مر في آخر الحجر. ولقد شدد العلماء المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وملابسهم ومراكبهم لأنهم اتخذوها لعيون النظارة. فالناظر إليها محصل لغرضهم فيكون إغراء لهم على اتخاذها. قال جار الله: انتصب زَهْرَةَ على الذم، أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 582 على تضمين متعنا بمعنى خولنا وأعطينا، أو على إبداله من محل بِهِ أو على إبداله من أَزْواجاً والتقدير ذوي زهرة وهي الزينة والبهجة. ومن قرأ بفتح الهاء فبمعناها أيضا أو هي جمع زاهر كأنهم لصفاء ألوانهم وظهور آثار النعومة عليهم زاهر وهذه الدنيا بخلاف ما عليه المؤمنون الصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب. وقوله: لِنَفْتِنَهُمْ أي لنبلوهم كقوله: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ [الكهف: 7] وقيل: لنعذبهم كقوله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ [التوبة: 55] . وقال الكلبي ومقاتل: لنشدد عليهم في التكليف لأن الاجتناب عن المعاصي مع القدرة يكون أشق على النفس. وَرِزْقُ رَبِّكَ هو ثواب الآخرة أو ما رزقت من الإسلام والنبوّة خَيْرٌ وَأَبْقى وقيل: أراد به الحلال الطيب الذي يحق أن ينسب إلى ربك خير من أموالهم التي غلب عليها الغصب والسرقة وسائر وجوه الخيانة، وأبقى بركة ونماء وحسن عاقبة. وَأْمُرْ أَهْلَكَ في سورة مريم وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ [الآية: 55] أي أقبل أنت مع أهلك على عبادة الله. ومن السلف من كان إذا أصاب أهله خصاصة قال: قوموا فصلوا بهذا أمر الله رسوله ثم يتلو هذه الآية. وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية. ثم ينادي الصلاة الصلاة رحمكم الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعليّ كل صباح ويقول: الصلاة وكان يفعل ذلك شهرا. وقوله: وَاصْطَبِرْ عَلَيْها أراد أنك كما تأمرهم بها فحافظ عليها فإن الوعظ بلسان الفعل أثم منه بلسان القول لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً كما يريد الملوك خراجا من رعيتهم والسادة خرجا من عبيدهم بل نَحْنُ نَرْزُقُكَ كقوله: وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 57- 58] والحاصل أنا إنما أمرناك بالصلاة فذلك لأجل انتفاعك بثوابها لا لأنا ننتفع بها. وقيل: لا نسألك رزقا لنفسك ولا لأهلك بل نحن نرزقك وإياهم فلا تهتم بأمر الرزق والمعيشة وفرغ بالك لأمر الآخرة وفي معناه قولهم «من كان في عمل الله كان الله في عمله» . وقال أهل الإشارة وَرِزْقُ رَبِّكَ رمز إلى قوله «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «1» قال عبد الله بن سلام: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله ضيق أو شدة أمرهم بالصلاة. وَالْعاقِبَةُ أي الجميلة لِلتَّقْوى.   (1) رواه البخاري في كتاب التمني باب: 9. مسلم في كتاب الصيام حديث 57. الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده (3/ 8) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 583 ثم عاد إلى قوله: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ فحكى واحدة من شبهاتهم هي قولهم: لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ كأنهم لم يتعدّوا بالقرآن الذي أخرس شقاشقهم فرد الله عليهم بقوله: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى لأن القرآن برهان سائر الكتب المنزلة لأنه معجز دونها فهو شاهد لها بالصحة وأنها من عند الله. وقيل: أراد بالبينة ما فيها من بشارة مقدم محمد صلى الله عليه وسلم. وعن ابن جرير أنه ما رأوا فيها من قصص الأمم المكذبة وبيان إهلاكهم بعد اقتراح الآيات وإنما أتاهم هذا البيان في القرآن فلهذا وصف القرآن بكونه بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى ثم بين الحكمة في نزول القرآن فقال: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل البرهان المذكور الدال عليه البينة لَقالُوا أي في القيامة لأن الهالك لا قول له في الدنيا. وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة يقول لم يأتني رسول وإلا كنت أطوع خلقك» وتلا قوله: «لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا والمغلوب على عقله يقول لم تجعل لي عقلا أنتفع به. ويقول الصبي: كنت صغيرا أعقل. فيرفع لهم نار ويقال لهم ادخلوها فيدخلها من كان في عالم الله أنه سعيد ويتلكأ من كان في علمه أنه شقى. فيقول الله تعالى: عصيتم اليوم فكيف برسولي لو أتاكم؟!» . وطعن المعتزلة في هذا الخبر قالوا: لا يحسن العقاب على ما لم يفعل. وقال الجبائي: في الآية دلالة على وجوب فعل اللطف والمراد أنه يجيب أن يفعل بالمكلفين ما يؤمنون عنده وإلا كان لهم أن يقولوا: هلا فعلت ذلك بنا لنؤمن. وقال الكعبي: فيها أوضح دليل على أنه تعالى يقبل الاحتجاج من عباده. وليس معنى قوله: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء: 23] أن الجور منه يكون عدلا بل تأويله أنه لا يقع منه إلا العدل. وإذا ثبت أنه تعالى يقبل الحجة فلو لم يكونوا قادرين على ما أمروا به لكان لهم فيه أعظم حجة. واستدل أهل السنة بها على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع وإلا لكان العقاب حاصلا قبل مجيئه. ثم ختم السورة بوعيد إجمالي فقال: قُلْ كُلٌّ أي كل منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ عاقبة أمره وهذا الانتظار إما قبل الموت بسبب الأمر بالجهاد أو ظهور الدولة والغلبة، أو بالموت فإن كان واحد من الخصمين ينتظر موت صاحبه، وإما بعد الموت وهو ظهور أثر الثواب والعقاب وتمييز المحق والمبطل ويؤيده قوله: فَسَتَعْلَمُونَ إلى آخره وهذا من كلام المنصف وبالله المستعان. (تم) . تم الجزء السادس عشر وبه يتم المجلد الرابع من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري، ويليه المجلد الخامس، وأوله تفسير سورة الأنبياء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 584 الفهرس فهرس المجلد الرابع من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 585 تفسير سورة هود الآيات: 1- 24 3 الآيات: 25- 49 16 الآيات: 50- 68 30 الآيات: 69- 83 35 الآيات: 84- 102 43 الآيات: 103- 123 49 تفسير سورة يوسف الآيات: 1- 20 62 الآيات: 21- 35 74 الآيات: 36- 53 87 الآيات: 54- 68 99 الآيات: 69- 83 108 الآيات: 84- 102 116 الآيات: 103- 111 130 تفسير سورة الرعد الآيات: 1- 11 135 الآيات: 12- 29 146 الآيات: 30- 43 159 تفسير سورة إبراهيم الآيات: 1- 17 169 الآيات: 18- 34 185 الآيات: 35- 52 197 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 587 تفسير سورة الحجر الآيات: 1- 50 207 الآيات: 51- 99 226 تفسير سورة النحل الآيات: 1- 23 239 الآيات: 24- 42 255 الآيات: 43- 60 263 الآيات: 61- 70 273 الآيات: 71- 83 286 الآيات: 84- 100 295 الآيات: 101- 128 306 تفسير سورة الإسراء الآيات: 1- 21 321 الآيات: 22- 40 337 الآيات: 41- 60 352 الآيات: 61- 72 364 الآيات: 73- 89 372 الآيات: 90- 111 389 تفسير سورة الكهف الآيات: 1- 26 401 الآيات: 27- 46 426 الآيات: 47- 59 435 الآيات: 60- 82 442 الآيات: 83- 110 456 تفسير سورة مريم الآيات: 1- 15 466 الآيات: 16- 40 475 الآيات: 41- 65 489 الآيات: 66- 98 500 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 588 تفسير سورة طه الآيات: 1- 36 513 الآيات: 37- 76 542 الآيات: 77- 114 561 الآيات: 115- 135 576 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 589 [ المجلد الخامس ] بسم الله الرّحمن الرّحيم الجزء السابع عشر من أجزاء القرآن الكريم (سورة الأنبياء مكية حروفها أربعة آلاف وثمانمائة وتسعون كلمها ألف ومائة وثمان وسبعون آياتها مائة وست عشرة) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 القراآت قالَ رَبِّي بالألف: حمزة وعلي وحفص. الباقون قل على الأمر نُوحِي بالنون مبنيا للفاعل: حفص غير الخراز. الباقون: بالياء مجهولا. الوقوف: مُعْرِضُونَ ج للآية مع احتمال كون ما بعده صفة أو استئنافا. يَلْعَبُونَ لا لأن لاهِيَةً حال أخرى مترادفة أو متداخلة من ضمير يَلْعَبُونَ وهي لقلوبهم في المعنى. قُلُوبُهُمْ ط مِثْلُكُمْ ج لابتداء الاستفهام مع اتحاد المقول تُبْصِرُونَ هـ وَالْأَرْضِ ز لاتفاق الجملتين مع استغناء الثانية عن الأولى الْعَلِيمُ هـ شاعِرٌ ج لاختلاف النظم مع اتحاد المقول الْأَوَّلُونَ هـ أَهْلَكْناها ج لابتداء الاستفهام مع اتحاد المقول يُؤْمِنُونَ هـ لا تَعْلَمُونَ هـ خالِدِينَ هـ الْمُسْرِفِينَ هـ ذِكْرُكُمْ هـ تَعْقِلُونَ هـ آخَرِينَ هـ يَرْكُضُونَ هـ ط لتقدير القول تُسْئَلُونَ هـ ظالِمِينَ هـ خامِدِينَ هـ لاعِبِينَ هـ مِنْ لَدُنَّا هـ على جعل «إن» نافية والأصح أنها للشرط فاعِلِينَ هـ زاهِقٌ لا تَصِفُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط لأن ما بعده مبتدأ يَسْتَحْسِرُونَ هـ ج لأن ما بعده يصلح حالا واستئنافا، لا يَفْتُرُونَ هـ. التفسير: قال جار الله: اللام في قوله لِلنَّاسِ إما صلة لاقترب أو تأكيد لإضافة الحساب إليهم كقولك في أزف رحيل الحي أزف للحي الرحيل، فيه تأكيد إن من جهة تقديم الحي ومن جهة إظهار اللام، ثم تزيد تأكيدا آخر من جهة وضع ضمير الحي مضافا إليه الرحيل، موضع لام التعريف فيه فتقول: أزف للحي رحيلهم. والمراد اقترب للناس وقت حسابهم وهو القيامة كقوله اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: 1] فإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب وغيره، كأنه لما هدد في خاتمة السورة المتقدمة بقوله فَسَتَعْلَمُونَ بين في أول هذه السورة أن وقت ذلك العلم قريب. فإن قيل: كيف وصف بالاقتراب وقد مضى دون هذا القول أكثر من سبعمائة عام فالجواب أن كل ما هو آت قريب، وإنما البعيد الذي دخل في خبر كان قال القائل: شعر فلا زال ما تهواه أقرب من غد ... ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس على أنه لم يمض بعد يوم من أيام الله وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] ومما يدل على أن الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي قوله صلى الله عليه وسلم «بعثت أنا والساعة كهاتين» «1» وقد وعد بعث خاتم النبيين في آخر الزمان، وفي ذكر هذا الاقتراب تنبيه للغافلين وزجر للمذنبين. فالمراد بالناس كل من له مدخل في الحساب وهم جميع   (1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 39. مسلم في كتاب الجمعة حديث 43. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 7. الدارمي في كتاب الرقاق باب 46. أحمد في مسنده (4/ 309) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 المكلفين. وما روي عن ابن عباس أن المراد بالناس المشركون فمن باب إطلاق اسم الجنس على بعضه بالدليل القائم وهو ما يتلوه من صفات المشركين من الغفلة والإعراض وغيرهما. والذكر الطائفة النازلة من القرآن، وقرىء مُحْدَثٍ بالرفع صفة على المحل، واحتجت المعتزلة بالآية على أن القرآن محدث، وأجاب الأشاعرة بأنه لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف لأنه متجدد في النزول، وإنما النزاع في الكلام النفسي الذي لا يصح عليه الإتيان والنزول. وزعم الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه أن حاصل قول المعتزلة في هذا المقام يؤل إلى قولنا القرآن ذكر، وبعض الذكر محدث لأن قوله مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ لا يدل على حدوث كل ما كان ذكرا بل على أن ذكرا ما محدث، كما أن قول القائل: لا يدخل هذا البلد رجل فاضل إلا يبغضونه، لا يدل على أن كل رجل يجب أن يكون فاضلا، وإذا كان كذلك فيصير صورة القياس كقولنا «الإنسان حيوان وبعض الحيوان فرس» وإنه لا ينتج شيئا لأن كلية الكبرى شرط في إنتاج الشكل الأول كما عرف في علم الميزان. قلت: إن المعتزلة لا يحتاجون في إثبات دعواهم إلى تركيب مثل هذا القياس لأن مدعاهم يثبت بتسنيم إحدى مقدمتي القياس الذي ركبه وهي قوله «بعض الذكر محدث» لأنه نقيض ما يدعيه الأشاعرة وهو لا شيء من القرآن بمحدث. وإذا صدق أحد النقيضين كذب بالضرورة، فظهر أن الإمام غلطهم في هذا القياس الذي ركبه، ثم لقائل أن يقول تتميما لقول المعتزلة: إذا ثبت أن بعض القرآن محدث لزم أن يكون كله محدثا لأن القائل قائلان: أحدهما ذهب إلى قدم كله، والثاني إلى حدوث كله، ولم يذهب أحد إلى قدم بعضه وحدوث بعضه. قال أهل البرهان: إنما قال في هذه السورة مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ لموافقة قوله بعد هذا قالَ رَبِّي يَعْلَمُ وقال في الشعراء مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ [الآية: 5] لكثرة ذكر الرحيم فيها. فكان «الرحمن بالرحيم» أنسب. قوله تعالى يَلْعَبُونَ اللعب الاشتغال بما لا يعني قوله لاهِيَةً هي من لهى عنه بالكسر إذا ذهل وغفل. وفيه إن هم إلا كالأنعام بل هم لا يحصلون من الاستماع والتذكير إلا على مثل ما تحصل هي عليه آذانهم تسمع وقلوبهم لا تعي ولا تفقه. ومعنى وَأَسَرُّوا النَّجْوَى بالغوا في إخفائها وجعلوها بحيث لا يفطن أحد لها ولا يعلم أنهم متناجون وفي «واو» أسروا وجهان: أحدهما أنه على لغة من يجوز إلحاق علامة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 التثنية والجمع بالفعل إذا كان مقدما على فاعله، وثانيهما وهو الأقوى أن الواو ضمير راجع إلى الناس المقدم ذكرهم والَّذِينَ ظَلَمُوا بدل منهم. أو هو منصوب المحل على الذم، أو هو مبتدأ خبره أَسَرُّوا النَّجْوَى مقدما عليه. وعلى التقادير أراد وأسروا النجوى هؤلاء فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم ثم أبدل من النجوى قوله هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ إلى قوله وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي أتقبلون سحره وتحضرون هناك وأنتم ترون أنه رجل مثلكم، أو تعلمون أنه سحر وأنتم من أهل البصر والعقل؟ وجوز بعضهم أن يكون قوله هَلْ هذا إلى آخره مفعولا لقالوا مضمرا، وإنما أسروا نجوى هذا الحديث لأنهم أرادوا شبه التشاور فيما بينهم تحريا لهدم أمر النبي كما جاء في كلام الحكماء. ويرفع أيضا إلى النبي صلى الله عليه وسلم «استعينوا على حوائجكم بالكتمان» ويجوز أن يسروا بذلك ثم يقولوا للرسول والمؤمنين: إن كان ما تدعون حقا فأخبرونا بما أسررنا. من قرأ قالَ رَبِّي فعلى حكاية الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه قال: إنكم وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فإن ربي عالم بذلك، وإنه من وراء عقابه يصف نفسه في بعض المواضع بأنه يعلم السر وذلك حين يريد تخصيصه بعلم الغيب، ووصف نفسه هاهنا بأنه يعلم القول. قال جار الله: هذا آكد لأنه عام يشمل السر والجهر، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة، وأقول هذا إذا كان اللام في القول للاستغراق، أما إذا كان للجنس فلا يلزم زيادة العلم إذ لا دلالة للعام على الخاص. بل نقول: العلم بالسر يستلزم العلم بالجهر بالطريق الأولى فلا مزية لإحدى العبارتين على الأخرى وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ خصص علمه بالمسموعات أولا ثم عمم وقال الإمام قدم «السميع» على «العليم» لأنه لا بد من استماع الكلام أولا ثم من حصول العلم بمعناه. قلت: هذا قياس للغائب على الحاضر قوله بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ معنى هذه الإضرابات مع ملاحظة ما قبلها أنهم أنكروا أولا كون الرسول من جنس البشر، ثم كأنهم قالوا: سلمنا ذلك ولكن الذي ادعيت أنه معجز ليس بمعجز غايته أنه خارق للعادة، وليس كل ما هو خارق للعادة معجزا فقد يكون سحرا هذا إذا ساعدنا على أن فصاحة القرآن خارجة عن العادة، لكنا عن تسليم هذه المقدمة بمراحل فإنا ندعي أنه في غاية الركاكة وسوء النظم كأضغاث أحلام وهي الأحلام المختلطة التي لا أصل لها وقد مر في سورة يوسف. سلمنا ولكنه من جنس كلام الأوساط افتراه من عنده؟ سلمنا أنه كلام فصيح ولكنه لا يتجاوز فصاحة الشعراء، وإذا كان حال هذا المعجز هكذا. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أي كما أتى الأولون بالآيات لأن إرسال الرسل متضمن لإتيانهم بالآيات. ومن تأمل في هذه الأقوال المحكية عن أولئك الكفرة علم أنها كلام مبطل متحير هائم في أودية الضلال وألا يكفي في إعجاز القرآن أنهم عدلوا حين تحدوا به عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 المعارضة بالحروف إلى المقارعة بالسيوف. ثم بين أن الآيات التي يقترحونها لا فائدة لهم فيها لأنهم أعتى من الأمم السالفة وأنهم ما آمنوا عند مجيء الآيات المقترحة فأهلكوا لأجل ذلك أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ مع شدة شكيمتهم فيه معنى الإنكار أي لا يؤمنون البتة وحينئذ يجب إهلاكهم، ولكن قد سبق القول من الله أن هذه الأمة أمنوا من عذاب الاستئصال. ثم أجاب عن شبهتهم الأولى وهي قولهم هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بقوله وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا وقد مر مثله في آخر سورة يوسف وفي النحل. وإنما جاز الأمر بالرجوع إلى أهل الكتاب وإن كانوا من الكفرة، لأن هذا الخبر قد تواتر عندهم وبلغ حد الضرورة على أن أهل الكتاب كانوا يتابعون المشركين في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان قولهم عندهم حجة. وقيل: أهل الذكر أهل القرآن. وضعف بأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يؤمرون بالرجوع إلى قولهم؟ واستدل كثير من الفقهاء بالآية في أن للعاميّ أن يرجع إلى فتيا العلماء، وللمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر وأجيب بأنها خطاب مشافهة وارد في الواقعة المخصوصة، وفي السؤال عن أهل الكتاب فلا يتعدى عن مورد النص وقد مر في آخر سورة يوسف الفرق بين قوله وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ وقوله وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ بغير «من» وليس إلا هاهنا وفي أوائل الفرقان وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ [الآية: 20] ثم أكد كون الرسل من جنس البشر بقوله وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً الآية كأنهم قالوا: إنه بشر يأكل كما نأكل ويموت كما نموت، فلعلهم اعتقدوا خلود الملائكة لا أقل من العمر الطويل، ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي وما جعلنا الأنبياء قبلك ذوي جسد غير طاعمين وإلا قيل: وما جعلنا لهم جسدا. ووحد الجسد لإرادة الجنس أي ذوي ضرب من الأجساد وأراد كل واحد منهم قوله: صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ أصله في الوعد فنصب بنزع الخافض، ثم فسر الوعد بقوله فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وهم المؤمنون، ثم نبههم على عظيم نعمه عليهم بقوله، لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي شرفكم وصيتكم، أو فيه بيان مكارم الأخلاق التي بها يبقى الذكر الجميل مع الثواب الجزيل، ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة فقال وَكَمْ قَصَمْنا والقصم القطع الكبير وهو الذي يبين تلاؤم الأجزاء، وإذا لم يبين فهو الفصم بالفاء، وذلك أن القاف حرف شديد والفاء رخو لوحظ جانب المعنى في اللفظ ومعنى مِنْ قَرْيَةٍ من أهل قرية لقوله وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ وللضمائر في قوله فَلَمَّا أَحَسُّوا إلى آخر القصة. والمراد بالإحساس الإدراك بحاسة اللمس أو علم لا شك فيه كالمحسوس المشاهد. والركض ضرب الدابة بالرجل كأنهم ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم حين أدركتهم مقدمة العذاب، قال الجوهري: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 الركض تحريك الرجل على الدابة استحثاثا لها ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا، فعلى هذا يجوز أن القوم كانوا يعدون على أرجلهم فقيل لهم لا تركضوا. والقائل إما من الملائكة أو من المؤمنين أو يجعلون أحقاء بأن يقال لهم ذلك، أو أسمع رب العزة ملائكته هذا القول لينفعهم في دينهم، أو ألهم الله الكفار ذلك فحدثوا به أنفسهم: وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ من العيش الهنيء والإتراف إبطار النعمة لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ غدا عما جرى عليكم وعلى أموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو أجلسوا في مجالسكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم بما تأمرون وماذا ترسمون فينفذ فيهم أمركم ونهيكم، أو يسألكم الناس مستعينين بتدابيركم بآرائكم، أو يسألكم الوافدون وأرباب الطمع مستمطرين سحاب أكفكم إما لأنهم كانوا أسخياء ولكن سمعة ورياء، إما لأنهم بخلاء وفي كل هذه الوجوه تهكم بهم وتوبيخ لهم فَما زالَتْ تِلْكَ الدعوى وهي قولهم يا وَيْلَنا لأن المولول كأنه يدعو الويل دَعْواهُمْ الأول اسم «ما زال» والثاني خبره أو بالعكس. والدعوى بمعنى الدعوة وقد مر في قوله وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] والحصيد المحصود كقوله مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ شبهوا بالزرع المستأصل والنار التي تخمد فتصير رمادا أي جعلناهم مشبهين بالمحصود والخامد، ووحد حَصِيداً لأن المراد زرعا حصيدا، ولأن «فعيلا» قد يستوي فيه الواحد والجمع، عن ابن عباس أن الآية نزلت في حضور وسحول قريتين باليمن تنسب إليهما الثياب. وفي الحديث كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين سحوليين. وروى حضوريين بعث الله إليهم نبيا فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم فكأن القوم حصدوا بالسيف وروي أنه لما أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء بالثارات الأنبياء. قال أهل النظم: لما بين إهلاك كثير من القرى لأجل ظلمهم وتكذيبهم منها اللتان رواهما ابن عباس، أتبعه ما يدل على أنه فعل ذلك عدلا ومجازاة لا عبثا ولا مجازفة فقال: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ الآية أي وما سوينا هذا السقف المرفوع والمهاد الموضوع وَما بَيْنَهُما من الأركان والمواليد كما تسوّي الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم للهو أو اللعب، وإنما سويناهما لغايات صحيحة ومنافع للخلق دينية ودنيوية كما مر طرف منها في أول «البقرة» ويمكن أن يقال: المقصود من سياق الآية تقرير نبوة محمد والرد على منكريه لأنه ظهر المعجز عليه، فإن كان صادقا فهو المطلوب، وإن كان كاذبا كان إظهار المعجز عليه من باب اللعب وهو منفي عنه سبحانه. قال القاضي عبد الجبار: فيه دليل على أنه لا يخلق اللعب وكل قبيح وإلا كان لاعبا وعورض بمسألتي العلم والداعي. ثم بين أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 السبب في ترك اتخاذ اللهو واللعب ليس هو العجز والضعف ولكن لأن الحكمة تنافيه، معنى مِنْ لَدُنَّا من جهة قدرتنا وقيل: اللهو الولد بلغة اليمن أو المرأة، وقيل: من لدنا أي من الملائكة لا من الإنس ردا على من قال: عزير ابن الله والمسيح ابن الله. ويحتمل أن يقال من لدنا أي من عندنا على سبيل الخفية فلا تعرفونه ولا تسمعون اسمه فيكون الرد شاملا لكل من ادعى لله ولدا ولو من الملائكة. ثم أضرب عن اتخاذ اللهو واللعب فوصف نفسه بما يضاد فعل العبث قائلا بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ يعني الباطل زاهِقٌ أي ففاجأ الدمغ زهوق الباطل، قال علماء المعاني: هذا من باب استعارة المحسوس للمعقول بجامع عقلي: فأصل استعمال القذف والدمغ في الأجسام لأن القذف الرمي بنحو الحجارة، والدمغ من دمغه إذا شجه حتى بلغت الشجة الدماغ، ثم استعير القذف لإيراد الحق على الباطل، والدمغ لإذهاب الباطل بجامع الزهوق، ثم وبخهم ونعى عليهم بما وصفوه بالولد وغير ذلك مما لا يجوز عليه وينافي وجوب الوجود بما وصفوا رسوله به من السحر والشعر وغير ذلك من الأوصاف المضادة للرسالة فقال وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ أي تصفونه به. ثم بين كمال قدرته ونهاية حلمه وحكمته فقال وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والمراد بمن عنده الملائكة المقربون والمقصود عندية الشرف والرتبة. فأما عندية المكان ففيها بحث طويل. قال الزجاج: لا يَسْتَحْسِرُونَ أي لا يتعبون ولا يمسهم الإعياء. قال جار الله: كان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور ولكنه ذكر بلفظ المبالغة وهو «استفعل» لبيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور، وأنهم أحقاء بتلك العبادات الشاقة بأن يستحسروا ومع ذلك لا يعدّونها تعبا عليهم. ثم أكد ذلك بقوله يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ منصوبان على الظرفية لا يَفْتُرُونَ لا يلحقهم الفتور والكلال. وحاصل الآية أؤن الملائكة مع غاية شرفهم ونهاية قربهم لا يستنكفون عن طاعة الله، فكيف يليق بالبشر مع ضعفهم ونقصهم أن يتمردوا عن طاعته؟ وقد مر في أول سورة البقرة استدلال مفضلي الملائكة على الأنبياء بهذه الآية وبغيرها فلا حاجة إلى إعادته عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال: قلت لكعب الأحبار: أرأيت قول الله عز وجل يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ثم قال: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ [البقرة: 161] أليس الرسالة واللعن مانعين لهم عن التسبيح؟ أجاب كعب بأن التسبيح لهم كالنفس لنا لا يمنعهم عن الاشتغال بشيء آخر. واعترض بأن آلة التنفس فينا مغايرة للسان فلهذا صح اجتماع التنفس والتكلم. وأجيب بأنه لا استبعاد في أن يكون لهم ألسن كثيرة، أو يكون المراد بعدم الفتور أنهم لا يتركون التسبيح في أوقاته اللائقة به. التأويل: اقترب لأهل النسيان أن يحاسبوا أنفسهم كقوله أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ وعظ وتذكير من عالم رباني مُحْدَثٍ إلهامه إلا أنكروه عليه ونسبوه إلى التخليط ونحوه وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً فيه أن الله قادر على أن لا يجعل النبي والولي ذا جسد ولكن اقتضت حكمته كونهم ذوي أجساد آكلين للطعام فإن الطعام للروح الحيواني الذي هو مركب الروح الإنساني كالدهن للسراج، وبالقوى الحيوانية تتم الكمالات النفسانية وتدرك المحسوسات وتستفاد العلوم المستندة إلى الإحساس والتجربة وتفصيله أكثر من أن يحصى. قال بعض المشايخ، لولا الهوى ما سلك أحد طريقا إلى الله وَما كانُوا خالِدِينَ والسر فيه أن يعلموا من الموت حقيقة اسم المميت كما علموا من الحياة حقيقة اسم المحيي. ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ الذي وعدناهم حين أهبطوا إلى الأرض فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ من متابعيهم من هاوية الهوان وعالم الطبيعة وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ الذين أسرفوا على أنفسهم بالركون إلى أسفل سافلين الطبائع. وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ أهل قَرْيَةٍ قالت فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا وهي شدة قطع التعلق عن الكونين فإن الفطام عن المألوف شديد لا تَرْكُضُوا منا بل ففروا إلينا وَارْجِعُوا إلى التنعمات الروحانية وَمَساكِنِكُمْ الأصلية لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ عزة وكرامة وَما خَلَقْنَا سموات الأرواح وأرض الأجساد، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار من غير غاية، وإنما خلقناها لتكون لطفنا وقهرنا بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ للحق ثلاث مراتب: مرتبة أفعال الحق ومرتبة صفات الحق ومرتبة ذات الحق، ففي كل مرتبة يتجلى الحق فيها للعبد، أرهق باطل تلك المرتبة عن العبد حتى إذا تجلى له بأفعاله ذهب عنه باطل الأفعال، وإذا تجلى له بصفاته ذهب باطل صفاته، وإذا تجلى له بذاته في ذاته فيقول: أنا الحق وسبحاني والويل لمن لم يذهب باطله بإحدى هذه المراتب فيبقى متصفا بالوجود المجازي. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 الى 50] أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 القراآت: إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ بالنون: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد إِنِّي إِلهٌ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ابن ذكوان. الم ير بغير واو: ابن كثير الآخرون بواو متوسطة بين همزة الاستفهام والفعل ونظائرها كثيرة تُرْجَعُونَ بفتح التاء وكسر الجيم: يعقوب وابن مجاهد عن ابن ذكوان. ولا تسمع من الاسماع خطأ بالنبي صلى الله عليه وسلم الصم بالنصب: ابن عامر. الآخرون على الغيبة من السماع. الصُّمُّ بالرفع مِثْقالَ حَبَّةٍ بالرفع على «كان» التامة وكذلك في سورة لقمان: أبو جعفر ونافع. الباقون بالنصب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 الوقوف: يُنْشِرُونَ هـ لَفَسَدَتا ج للابتداء ب فَسُبْحانَ للتعظيم مع فاء التعقيب تعجيلا للتنزيه يَصِفُونَ هـ يُسْئَلُونَ هـ آلِهَةً ط بُرْهانَكُمْ ج لاتحاد المقول من غير عاطف قَبْلِي ط لا يَعْلَمُونَ هـ لا لأن ما بعده مفعول مُعْرِضُونَ هـ فَاعْبُدُونِ هـ سُبْحانَهُ ط مُكْرَمُونَ هـ ط لأن ما بعده صفة بعد صفة يَعْمَلُونَ هـ وَلا يَشْفَعُونَ هـ لا للاستثناء مُشْفِقُونَ هـ جَهَنَّمَ ط الظَّالِمِينَ هـ فَفَتَقْناهُما ط لانتهاء الاستفهام إلى الإخبار حَيٍّ ط يُؤْمِنُونَ هـ يَهْتَدُونَ هـ مَحْفُوظاً ج لاحتمال الواو الاستئناف والحال مُعْرِضُونَ هـ وَالْقَمَرَ ط يَسْبَحُونَ هـ الْخُلْدَ ط الْخالِدُونَ هـ الْمَوْتِ ط فِتْنَةً ط تُرْجَعُونَ هـ هُزُواً ط آلِهَتَكُمْ ج لاحتمال الواو الاستئناف والحال كافِرُونَ هـ مِنْ عَجَلٍ ط فَلا تَسْتَعْجِلُونِ هـ صادِقِينَ هـ يُنْصَرُونَ هـ يُنْظَرُونَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ ط مِنَ الرَّحْمنِ ط مُعْرِضُونَ هـ مِنْ دُونِنا ط فصلا بين الاستفهام والإخبار يُصْحَبُونَ هـ الْعُمُرُ ط مِنْ أَطْرافِها ط الْغالِبُونَ هـ بِالْوَحْيِ ط لاستئناف ولا يسمع بالياء التحتانية والوصل أجوز لتتميم المقول، ومن قرأ على الخطاب وقف لأنه خرج عن المقول يُنْذَرُونَ هـ ظالِمِينَ هـ شَيْئاً ط أَتَيْنا بِها ط حاسِبِينَ هـ لِلْمُتَّقِينَ هـ لا لاتصال الصفة ولا يخفى أنه يحتمل النصب أو الرفع على المدح فيجوز أن لا يوصل. مُشْفِقُونَ هـ أَنْزَلْناهُ ط مُنْكِرُونَ. التفسير: إنه سبحانه بدأ في أول السورة بذكر المعاد ثم انجر الكلام إلى النبوات وما يتصل بها سؤالا وجوابا فختم الكلام بالإلهيات لأنها المقصود بالذات فقال على سبيل الإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها بواسطة «أم» المنقطعة أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ نسبت إلى الأرض كما يقال «فلان من مكة» لأنها أصنام تعبد من الأرض، لأن الآلهة على ضربين أرضية وسماوية. أو أراد أنها من جنس الأرض لأنها تنحت من حجر أو تعمل من جوهر آخر أرضي. ويقال: أنشر الله الموتى ونشرها أي أحياها. ومن أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات كأنهم بادعائهم لها الإلهية أدعوا لها الإنشار وإن كانوا منكرين البعث فضلا عن قدرة الأصنام عليه لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور. والإنشار من جملة المقدورات بالدلائل الباهرة وفيه باب من التهكم والتسجيل وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده، لأن الاقتدار على الإبداء والإعادة من لوازم الإلهية. ومعنى هُمْ أفادت الخصوصية كأنه قيل: أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم، وفيه رمز إلى أن الأمر المختص بالاهتداء هو وحده. ولما قدم الإنكار شرع في دليل التوحيد فقال: لَوْ كانَ فِيهِما أي في السموات والأرض وقد مر ذكرهما آلِهَةٌ إِلَّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 اللَّهُ أي غير الله. قال النحويون: إلا هاهنا بمعنى غير لتعذر حمل إلا على الاستثناء لأنها تابعة لجمع منكور غير محصور، والاستثناء لا يصح إلا إذا كان المستثنى داخلا في المستثنى منه لولا الاستثناء وقد يقال: إن «إلا» في هذه المادة لا يمكن أن تكون للاستثناء لأنا لو حملناها على الاستثناء لصار المعنى لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله لم يحصل الفساد. وللمفسرين في تفسير الآية طريقان: أحدهما حمل الغائب على الشاهد والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة غير الواحد الذي هو فاطرهما لَفَسَدَتا وفيه دلالة على أمرين: الأول وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحدا، والثاني أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه لقوله غير الله وإنما وجب الأمر أن لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف. وثانيهما طريق التمانع بأن يقال: لو فرضنا إلهين وأراد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه، فإن وقع مرادهما لزم اجتماع الضدين في محل واحد، وإن لم يقع مرادهما لزم عجزهما، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر فذلك الآخر عاجز لا يصلح للإلهية. والاعتراض على هذا التقدير من وجهين: الأول أن اختلافهما في الإرادة أمر ممكن والممكن لا يجب أن يقع. والثاني أن الفساد في السموات والأرض كيف يترتب على اختلافهما وفي الجواب طريقان: أحدهما الرجوع إلى التفسير الأول وهو إحالة الأمر على ما هو الغالب المعتاد من أن الملك عقيم ولا يجتمع فحلان على شول، والشول جماعة النوق التي جف لبنها وارتفع ضرعها وأتي عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية، فلا بد من وقوع التنازع والاختلاف وحدوث الهرج والمرج عند ذلك. الطريق الثاني العدول إلى ضرب آخر من البيان، وهو أن اتفاق الإلهين على مقدور واحد محال لأن كلّا منهما مستقل بالتأثير كامل في القدرة، فإذا وقع المقدور بأحدهما استحال أن يقع بالآخر مرة أخرى على أنه لو أراد كل واحد منهما أن يوجده هو فهذا أيضا اختلاف. ولو قيل: إنه يريد كل واحد منهما أن يكون الموجد له أحدهما لا بعينه فهذه إرادة مبهمة لا تصلح للتأثير، فلا بد من الاختلاف وقد عرفت حاله ولزوم الفساد حينئذ ظاهر، لأن كل ما يصدر عن إلهين عاجزين أو إله عاجز لم يكن على الوجه الأصلح والنمط الأصوب، بل العاجز لا يصلح للإيجاد أصلا فلا يوجد على ذلك التقدير شيء من الممكنات وهو الفساد الكلي. ومنهم من يقرر دليل التمانع على وجوه أخر منها: أنا لو قدرنا إلهين فهل يقدر كل واحد منهما على أن يمنع صاحبه عن مراده أم لا؟ فإن قلت: يقدر. كان كل منهما مقهورا للآخر، وإن قلت: لا يقدر فقد ثبت عجز كل واحد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 منهما. ومنها أن أحدهما هل يقدر على أن يستر شيئا من أفعاله عن الآخر أو لا؟ فإن قدر فالمستور عنه جاهل عاجز وإلا فالأول عاجز. ولا يخفى ما في أمثال هذين الوجهين من الضعف لأن عدم القدرة على المحال لا يسمى عجزا ولهذا لا يمكن أن يقال: إنه تعالى عاجز عن خلق مثله أو إنه إذا أوجد شيئا نفذت قدرته عن خلق ذلك الشيء وحصل له عجز. ومن الطاعنين في دليل التمانع من فسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله كما تزعم عبدة الأصنام لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على وجوه التدبير والتصرف لأنفسها فضلا عن غيرها. ولقائل أن يقول: إن الآلهة لو كانت منفردة بالتدبير يلزم الفساد. أما أنها لو كانت وسائط أو معاونة للإله الأعظم كما تزعم عبدة الأوثان فمن أين يلزم الفساد. واعلم أنا قد بينا دلائل التوحيد في مواضع من هذا الكتاب ولا سيما في سورة البقرة في تفسير قوله وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الآية: 163] ولنا في هذا المقام طريقة أخرى ما أظنها وطئت قبلي فأقول وبالله التوفيق: إن الوحدة من صفات الكمال وقد ركز ذلك في العقول حتى إن كل عامل مهما تم له أمر بواحد لم يتعد فيه إلى اثنين، وإذا اضطر إلى الشركة والتعاون راعى فيه الأبسط فالأبسط لا يزيد العدد إلا بقدر الافتقار وعلى هذا مدار الأمور السياسية والمنزلية هذا في المؤثر. وأما في الأثر فلا ريب أنه استند إلى ما هو بسيط حقيقي لم يكن فيه إلا جهة واحدة افتقارية وإذا استند إلى ما فوق ذلك كان فيه من الجهات الافتقارية بحسب ذلك فيكون النقص تابعا لقلة جهات الافتقار وكثرتها، وكل مرتبة للممكنات تفرض من العقول والنفوس والأفلاك والعناصر والمواليد، فإن كان مبدأ تلك السلسلة الطويلة واحدا كانت الجهات الاعتبارية الافتقارية فيها أقل مما لو كان المبدأ أزيد من واحد. وهذه قضية يقينية إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه سبحانه أراد أن يدفع هذا النقص من الممكنات و «لو» هذه بمعنى «أن» والمراد أن هذا النقص والفساد لازم لوجود آلهة غير الله سواء كان الله من جملتهم أم لا، ولن يرضى العاقل بما فيه نقصه وفساده فوجب أن لا يعتقد إلها غير الله وهذه النتيجة هي المراد بقوله فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ من الأنداد والشركاء فتكون هذه الآية نظيرة قوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا [الزمر: 29] وفيه قول زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق قومه: أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور تركت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الرجل البصير ثم أكد تفرده بالإلهية بقوله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وفيه رد على الثنوية والمجوس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 الذين أثبتوا لله شريكا فاعلا للشرور والآلام، وذلك أنهم طلبوا الحكمة في أفعال الله تعالى فقالوا: لو كان مدبر العالم واحدا لم يخص هذا بأنواع الخيرات من الصحة والغنى وذلك بأصناف الشرور من المرض والفقر، فذكر سبحانه أن الاعتراض على أفعاله ينافي الديانة وأن له أن يفعل ما يشاء ولا مجال للسؤال عن أفعاله، فكل من الأشاعرة والمعتزلة سلموا أنه لا يجوز أن يقال لله لم فعلت، ولكنهم حملوا عدم جواز السؤال على مأخذ آخر. أما الأشاعرة فذهبوا إلى أن أفعاله لا تعلل بالمصالح والأغراض وله بحكم المالكية أن يفعل في مخلوقاته ما شاء فإن من تصرف في ملك نفسه لا يقال له لم فعلت، وكيف يتصور في حقه استحقاق الذم واستحقاق المدح له قديم؟ وما يثبت للشيء لذاته يستحيل أن يتبدل لأجل تبدل الصفات. وكما أن ذاته غير معللة بشيء فكذلك صفاته وأفعاله، وإنه غير محتاج إلى الأسباب والوسائط والأغراض والمقاصد. وأما المعتزلة فقد قالوا: إنه تعالى عالم بقبح المقابح وعالم بكونه غنيا عنها، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح. وإذا عرف المكلف إجمالا أن كل ما يفعله الله فهو حكمة وصواب وجب أن يسكت عن «لم» وإذا كان الملوك المجازيون لا يسألهم من في مملكتهم عما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم تهيبا وإجلالا لهم مع جواز الخطأ والزلل عليهم، فملك الملوك ورب الأرباب أولى بأن لا يسأل عن أفعاله مع ما ركز في العقول من أن كل ما يفعله فهو حسن مشتمل على الغايات الصحيحة. ثم زاد الإلهية تأكيدا بقوله وَهُمْ يُسْئَلُونَ وفيه رد على منكري التكليف الذاهبين إلى أن العباد لا يسألون عما فعلوا في دار الدنيا قالوا: إن التكليف أمر غير معقول لأنه إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك وهو محال لأن صدور الفعل عن المكلف يستدعي الترجيح فالتكليف بالترجيح في حال عدم الترجيح تكليف بالمحال، وإما أن يتوجه حال الرجحان ويكون الفعل حينئذ واجب الوقوع فيكون التكليف عبثا. وأيضا التكليف بما هو معلوم الوقوع لله عبث لأنه واجب الوقوع وبما هو غير معلوم الوقوع تكليف بما لا يطاق، وأيضا سؤال العبد لعبد إن لم يكن فيه فائدة فعبث، وإن كان فيه فائدة فإن عادت إلى الله تعالى كان محتاجا مستكملا، وإن عادت إلى العبد فالله تعالى قادر على إيصالها إليه من غير واسطة التكليف، على أن السؤال إن كان لأجل إيصال الضرر فذلك لا يليق بالكريم الرحيم، وجوابهم أن الأسباب والوسائط معتبرة في كل شيء من عالم الأسباب حتى الثواب والعقاب، على أن حاصل الشبهات يرجع إلى أن المنكر كأنه قال: إنه تعالى لم كلف عباده ولم كلفهم ما لا يطيقون وهو يناقض القاعدة الممهدة أنه لا يسأل عما يفعل. ثم كرر أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استفظاعا لكفرهم وليرتب عليه قوله قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ذلك عقلا أو نقلا. أما العقل فقد مر أنه يقضي بعدم الشريك حذرا من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 الفساد، وأما النقل فقوله هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ هو من إضافة المصدر إلى المفعول أي عظة لأمتي. عن ابن عباس واختاره القفال والزجاج أنه أراد هذا هو الكتاب المنزل على من معي من الأمة وهذا هو الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء وأممهم يعني التوراة والإنجيل والزبور والصحف والكل وارد في معنى التوحيد ونفي الشركاء. وعن سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل والسدي أن قوله وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي صفة للقرآن أيضا لأنه اشتمل على أحوال الأمم الماضية كما اشتمل على أحوال هذه الأمة. ثم ختم الآية بقوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ تنبيها على أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل لأن عندهم ما هو أصل الشر والفساد وهو عدم العلم وفقد التمييز بين الحق والباطل، فلذلك أعرضوا عن استماع الحق وطلبه، وفي لفظ الأكثر إشارة إلى أن فيهم من يعلم ولكنه يعاند، أو أجري لفظ الأكثر على الكل على عادة الفصحاء كي لا يكون الكلام بصدد المنع. ثم قرر آي التوحيد خصوصا قوله هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي على أحد التفسيرين بقوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الآية. ثم رد على خزاعة وأمثالهم القائلين بأن الملائكة بنات الله بقوله وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ثم نزه نفسه عن ذلك بقوله سُبْحانَهُ ثم أخبر عما هم عليه في الواقع وهو أن الملائكة عباد الله مُكْرَمُونَ مقربون لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أي بقولهم أي يتبعون قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ فهم التابعون لأمر الله في أقوالهم وأفعالهم يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وقد مر تفسيره في «طه» وفي آية الكرسي وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى كقوله في طه لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه: 109] وقد مر البحث فيه. قال في الكشاف وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أي متوقعون من أمارة ضعيفة. قلت: لعله أراد أنهم يتوقعون ما هو سبب لخشيته وهو العقاب من أدنى أمارة بخلاف البشر فإنهم لا يتوقعون ذلك إلا من أمارة قوية. ويحتمل أن يقال: إنهم يخشون الله ومع ذلك يحذرون من أن تلك الخشية يقع فيها تقصير. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبرئيل عليه السلام ليلة المعراج ساقطا كالحلس من خشية الله عز وجل. ثم نبه على غاية عظمته ونهاية جبروته بقوله وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فيحتمل أن يدعي الإلهية لنفسه دون الله أو يدعي أنه إله مع الله أي بعد مجاوزة إلهيته وهذا على سبيل الفرض والتقدير كقوله وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 88] وفي قوله فَذلِكَ دون أن يقول فهو تبعيد للمشرك الجاحد عن ساحة عزته وفيه تفظيع لأمر الشرك وتهديد عظيم لمن أشرك، وأراد بالظلم هاهنا الشرك، والمعتزلة عمموه والأول أظهر. ثم عدل في أدلة التوحيد إلى منهج آخر من البيان وهو الاستدلال بالآفاق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 والأنفس قائلا أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي جماعة السموات وجماعة الأرض كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما الرتق بالسكون السد. رتقت الشيء فارتتق أي التأم ومنه امرأة رتقاء ومصدرها الرتق بالتحريك، والفتقاء ضدها أي كانتا مرتوقتين فجعلناهما مفتوقتين. عن ابن عباس في رواية عكرمة وهو قول الحسن، وقتادة أن المراد كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض. ومثله قول كعب: خلق الله السموات والأرض ملتصقتين، ثم خلق ريحا توسطتهما فحصل الفتق، وقال أبو صالح ومجاهد: كانت السموات متلاصقات لا فرج بينها ففتقها الله بأن جعلها سبعا وكذلك الأرضون. وعن ابن عباس في رواية أخرى وعليه كثير من المفسرين، أن السموات والأرض كانتا رتقا بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر. ويشبه أن يراد بالسماوات على هذا التفسير السحب نظيره قوله وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [الطارق: 12] ويؤيده قوله عقيبه وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وقيل: إنهما جمع السموات وإن كان نزول المطر من السماء الدنيا فقط باعتبار الجهة لأن جهتها هي جهتهن، أو باعتبار أن كل قطعة منها سماء فيكون كقولهم «ثوب أخلاق» «وبرمة أعشار» وقريب من هذا قول من قال: المعنى أن السموات والأرض كانتا مظلمتين ففتقهما الله تعالى بإظهار النور فيهما كقوله وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] وقال أبو مسلم الأصفهاني: الرتق حالة العدم إذ ليس فيها ذوات متميزة فكأنها أمر واحد متصل متشابه، والفتق الإيجاد لحصول التمييز وانفصال بعض الحقائق عن البعض فيكون كقوله فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: 14] والفطر الشق. وعن بعض علماء الإسلام أن الرتق انطباق منطقتي الحركتين الأولى والثانية الموجب لبطلان العمارات وفصول السنة، والفتق افتراقهما المقتضي لإمكان العمارة ولتغير الفصول وفيه بعد. وهاهنا سؤال: وهو أن الكفار متى رأوهما رتقا حتى صح هذا الاستفهام للتقرير؟ كيف وقد قال الله تعالى ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ [الكهف: 51] والجواب على الأقوال الأخيرة ظاهر فإن فتق السماء بالمطر والأرض بالنبات أو فتقهما بتنفيذ النور فيهما وإظهاره عليهما أمور محسوسة، وكذا إدخالهما من العدم إلى الوجود مما يشهد به الحس السليم والعقل المستقيم. وأما على القولين الأولين فلعلهم علموا ذلك من أهل الكتاب وكانوا يقبلون قولهم لما بينهما من التوافق في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال صاحب الكشاف في الجواب: إنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد، أو أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلا بد للتباين دون التلاصق من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 مخصص وهو القديم سبحانه. قوله وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ قال السكاكي صاحب المفتاح: أي جعلنا مبدأ كل حي من هذا الجنس الذي هو جنس الماء. واعترض عليه بأنه كيف يصح ذلك وآدم من تراب والجن من نار والمشهور أن الملائكة ليست أجساما مائية؟ وأجاب بأنه يأتي في الروايات أنه جل وعز خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء، والجن من نار خلقها منه، وآدم من تراب خلقه منه. وقال صاحب الكشاف: إنما قال خلقنا كل شيء حي من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ وجوز أن لا يكون الجعل بمعنى الخلق بل يكون بمعنى التصيير متعديا إلى مفعولين، فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه. وقال في التفسير الكبير: اللفظ وإن كان عاما إلا أن القرينة قائمة فإن الدليل لا بد أن يكون مشاهدا محسوسا ليكون أقرب إلى المقصود، فبهذا الطريق تخرج الملائكة والجن وآدم لأن الكفار لم يروا شيئا من ذلك: قلت: فعلى هذا يكون قوله وَجَعَلْنا داخلا في حيز الاستفهام كأنه قيل: ألم يروا أنا فتقنا السموات والأرض بعد رتقهما وجعلنا من الماء كل حيوان. ومن المفسرين من جعل الحي شاملا للنبات أيضا كقوله فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الجاثية: 5] قوله وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ قد مر تفسيره في أول «النحل» وباقي الآية كقوله في طه وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا [الآية: 53] والفجاج جمع الفج وهو الطريق الواسع وهي صفة سُبُلًا قدمت عليه فصارت حالا عنه أراد أنه حين خلقها جعلها على تلك الصفة فهذا كالبيان لما أبهم في قوله لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نوح: 20] والاهتداء إما حسي أي تهتدون إلى البلاد، وإما عقلي وهو الاهتداء إلى وحدانية الله تعالى. ومنهم من زعم أن الضمير في قوله وَجَعَلْنا فيها عائد إلى الجبال وهذا قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس. وروي عن ابن عمر أنه قال: كانت الجبال منضمة فلما أغرق قوم نوح فرقها فجاجا وجعل فيها طرقا. قال علماء الإسلام: ليس في قوله وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً إن السماء للأرض كالسقف للبيت لأنها فوق لا يقابله مثله، ولكنه أطلق عليها اسم السقف لأنها كذلك في النظر بالنسبة إلى سكان كل بقعة. وفي المحفوظ وجهان: أي مَحْفُوظاً بقدرته من أن يقع على الأرض أو محفوظ بالشهب عن الشياطين. وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ فلا يتدبرون في ترتيبها ومسيراتها وطلوع أجرامها وغروبها واتصالاتها وانصرافاتها وتأثيراتها فيما دونها بإذن خالقها ومبدعها. قوله كُلٌّ فِي فَلَكٍ من مقلوب الكل. والفلك في اللغة كل شيء دائر وجمعه أفلاك. وزعم الضحاك أنه ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم. والأكثرون على أن الفلك جسم تدور النجوم عليه. ثم اختلفوا في حقيقته فقال الكلبي: ماء مكفوف أي مجموع تجري فيه الكواكب بدليل قوله يَسْبَحُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 والسباحة لا تكون إلا في الماء. ورد بأنه يقال فرس سابح إذا امتد في الجري. وقالت الحكماء: هو جسم كروي لا ثقيل ولا خفيف غير قابل للخرق والالتئام والنمو والذبول، ولذلك منعوا من كون الفلك ساكنا، والكواكب متحركة فيه كالسمك في الماء واعتذروا عن السباحة بأنها في النظر كذلك. قال صاحب الكشاف: التنوين في كل عوض من المضاف إليه أي كلهم فورد عليه إشكالان: أحدهما أنه لم يسبق إلا ذكر الشمس والقمر فكيف يعود ضمير الجمع إليهما؟ وأجاب بأن ذلك باعتبار كثرة مطالعهما كما يجمع بالشموس والأقمار لذلك. ويمكن أن يقال: أقل الجمع اثنان أو أنه جعل النجوم تبعا لذكرهما. الثاني أن كلهم ليسوا في فلك ولكن كل منهم في فلك آخر على ما يشهد به علم الهيئة، وأجاب بأنه أراد جنس الفلك كقولك «كسانا الأمير حلة» ، أو أراد كل واحد. قلت: لو صح هذا التقدير الثاني لم يرد الإشكال الأول ولكنه ينافي قوله يَسْبَحُونَ مجموعا. قال بعض الحكماء في هذا الجمع دلالة على أن الكواكب أحياء ناطقة. وأجيب بأنه إنما جمع جمع العقلاء لأن السباحة من فعلهم. قلت: قد يسبح كثير من الحيوانات، فلعل المختص بالعقلاء هو السباحة الصناعية المكتسبة. وهاهنا بحث وهو أن الإمام فخر الدين الرازي استحسن قول بعض الأوائل أن الحركة السماوية صنف واحد وهي الآخذة من المشرق إلى المغرب إلا أن بعضها أبطأ من البعض كالحركات الغربية، وكذا اختلافات تلك الحركات بسبب تلك المختلفات. قال: وهذا أقرب ليكون غاية سرعة الحركة للفلك الأعظم وغاية السكون للجرم الذي هو أبعد عن المحيط وهو الأرض، ولئلا يلزم بسبب حركة ما دون الفلك الأعظم بحركته وبحركاتها الخاصة تحرك الجرم الواحد في زمان واحد بحركتين مختلفتين إلى جهتين فإنه يستلزم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين. قلت: أما حديث كون ما هو أبعد عن المركز أسرع حركة فإقناعي، وأما لزوم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين فممنوع لأن التي تظهر في المتحرك هي الحركة المركبة الحاصلة من فضل الأسرع على الأبطأ لا كل من الحركتين، وهذا مشاهد من حركة النملة إلى خلاف جهة حركة الرحى، ومن حركة راكب السفينة فيها إلى خلاف جهة حركتها. وأما الذي استحسنه من كلام الأوائل فباطل لأنه لو كان كذلك لحصلت الاظلال اللائقة بكل جزء من أجزاء فلك البروج في يوم بليلة، وكذا الارتفاعات المناسبة لها في البلاد المتفقة العرض وليس كذلك، وقد ذكرنا هذا المعنى في كتبنا النجومية أيضا. وحين فرغ من بيان طرف من هيئة الأجرام السماوية ومنافعها الدنيوية نبه بقوله وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ على أن هذه الآثار لا تدوم ولا تخلق للبقاء وإنما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 خلقت للابتلاء والامتحان ولكي يتوصل بها المكلفون إلى السعادات المدخرة لهم في الآخرة وهي دار الخلود. وبوجه آخر لما فرغ من دلائل الآفاق شرع في دلائل الأنفس فقال: وَما جَعَلْنا الآية، عن مقاتل أن ناسا كانوا يقولون إن محمدا لا يموت فنزلت وقيل: لعلهم ظنوا أنه لو مات لتغير الشرع وهذا ينافي كونه خاتم الأنبياء، فبين الله سبحانه أن حاله كحال من تقدمه من الأنبياء في المفارقة من دار الدنيا. والأكثرون على أن سبب النزول هو أنهم كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله عنه الشماتة لهذه وفي معناه قول القائل: فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا. قوله كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ قد تقدم في آخر آل عمران تفسيره. قوله وَنَبْلُوكُمْ أي نعاملكم معاملة المختبر بما نسوق إليكم من الشرور والخيرات فيظهر عندهما صبركم وشكركم. وقدم الشر لأن الموت من باب الشرور في نظر أهل الظاهر. وفِتْنَةً مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه. وحين أثبت الموت الذي هو الفراق عن دار التكليف بين بقوله وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ أن الجزاء على الأعمال ثابت مرئي البتة بعد المفارقة. استدلت المجسمة بقوله وَإِلَيْنا أنه تعالى جسم ليمكن الرجوع إلى حيث هو، والتناسخية بأن الرجوع مسبوق بالكون في المكان المرجوع إليه، وجواب الأولين أنه أراد الرجوع إلى حيث لا حكم إلا له، وجواب الآخرين التسليم لكنه لا يفيد مطلوبهم لأن الرجوع إلى المبدأ غير الرجوع إلى دار الدنيا، واعلم أن مثل هذه الآية سيجيء في سورة العنكبوت إلا أنه قال هناك ثُمَّ إِلَيْنا ولم يذكر قوله وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً فكأن هذه الفاصلة قامت مقام التراخي في «ثم» . قال السدي ومقاتل: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي جهل وأبي سفيان فقال أبو جهل لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف. فقال أبو سفيان: وما تنكر أن يكون نبيا في بني عبد مناف! فسمع النبي صلى الله عليه وسلم قولهما فقال لأبي جهل: ما أراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة، وأما أنت يا أبا سفيان فإنما قلت ما قلت حمية فأنزل الله تعالى وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ أي ما يتخذونك إِلَّا هُزُواً ثم فسر ذلك بقوله أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ والذكر أعم من أن يكون بالخير أو بالشر إلا أنه إذا كان من العدو يفهم منه الذم لا الثناء، والمعنى أنه يبطل معبوديتها وينكر عبادتها ويقبح أمرها ثم بين غاية جهالتهم وتعكيس قضيتهم بقوله وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ قدم الجار والمجرور وكرر الضمير ليفيد أنهم عاكفون هممهم على ذكر آلهتهم من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 كونها شفعاء وشهداء، ولو ذكرها ذاكر بخلاف ذلك ساءهم. وأما ذكر الرحمن الذي منه جلائل النعم ودقائقها وأصولها وفروعها فلا يخطر منهم ببال، ولو ذكره ذاكر استهزؤا به حتى إن بعضهم يقولون: ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة فهم أحق أن يتخذوا هزوا. ويحتمل أن تكون الباء للسببية أي هم كافرون بسبب ذكرهم الرحمن لا على ما ينبغي، فيكون الذكر في الموضعين بمعنى واحد. وقيل بِذِكْرِ الرَّحْمنِ أي بما أنزل إليك من القرآن وكانوا يستعجلون بعذاب الله كما يجيء من قوله وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ فقدم لذلك أولا مقدمة هي قوله خُلِقَ الْإِنْسانُ أي هذا الجنس مِنْ عَجَلٍ أراد أنه مجبول على إفراط العجلة كما مر في قوله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [الإسراء: 11] وعن ابن عباس أنه آدم أراد أن يقوم حين بلغ الروح صدره، وعن مجاهد أن آدم لما دخل الروح رأسه وعينيه رأى الشمس قاربت الغروب فقال: يا رب عجل خلقي قبل أن تغيب الشمس. وعن ابن عباس أيضا أنه النضر بن الحرث والأول أظهر. وقيل: العجل الطين بلغة حمير، وقال الأخفش: أي من العجل في الأمر وهو قوله كُنْ وقيل: هو على القلب أي خلق العجل من الإنسان سَأُرِيكُمْ آياتِي وهي الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة فَلا تَسْتَعْجِلُونِ فإنها كائنة لا محالة في وقتها وقيل: هي أدلة التوحيد وصدق الرسول. وقيل: آثار القرون الخالية بالشام واليمن. سؤال: قوله خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ فيه أن الآدمي معذور على الاستعجال لأنه له كالأمر الطبيعي الذي لا بد منه، فلم رتب عليه النهي بقوله فَلا تَسْتَعْجِلُونِ؟ وأجيب بأن فيه تنبيها على أن ترك العجلة حالة شريفة وخصلة عزيزة. وقال جار الله: هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها. آخر: القوم استعجلوا الوعد على جهة التكذيب، ومن هذا حاله لا يكون مستعجلا في الحقيقة؟ أجيب بأن الاستعجال على هذا الوجه أدخل في الذم لأنه استعجال على أمر موهوم عندهم لا معلوم لَوْ يَعْلَمُ جواب «لو» محذوف وحِينَ مفعول به ل يَعْلَمُ والمعنى لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه وهو وقت إحاطة النار بهم، لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال. ويجوز أن يكون يَعْلَمُ متروك المفعول أي لو كانوا من أهل العلم لما كانوا مستعجلين، وعلى هذا يكون حِينَ منصوبا بمضمر أي حين لا يكفون يعلمون أنهم كانوا على الباطل، وخص الوجوه والظهور بالذكر لأن نكاية النار في هذين العضوين أشد مع أن الإحاطة التامة تفهم منهما. ثم بين أن وقت مجيء العذاب غير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 معلوم لهم فإن مجيء الساعة مخفي عن المكلفين ليكونوا أقرب إلى تلافي الذنوب فقال بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ قال جار الله: أي لا يكفونها بل تفجؤهم فتغلبهم. قلت: فائدة «بل» في هذه المقامات للانتقال من جملة إلى أخرى أهم من الأولى، ويحتمل أن تكون «لو» لظاهر التمني والضمير للنار. وقيل: للساعة. وفي قوله وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ تذكير بإمهالهم في دار الدنيا أي ثم يهلكون بعد طول الإمهال. ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ الآية. وقد مرت في أول الأنعام. ولما بين أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجوههم النار ذكر أنهم في الدنيا أيضا مفتقرون إلى حراسة الله وكلاءته فقال قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إذا نمتم وَالنَّهارِ إذا تقلبتم في وجوه المصالح مِنَ الرَّحْمنِ أي من بأسه وعذابه كالقتل والسبي ونحوهما. قيل: إنما خص الرحمن بالذكر تلقينا للجواب حتى يقول العاقل أنت الكالئ يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك ونظيره ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الإنفطار: 6] ثم أضرب عن الأمر بالاستفهام قائلا بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ لا يخطرونه ببالهم فضلا أن يخافوا بأسه كأنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكالئ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. أما قوله أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ فذكر في الكشاف أنه إضراب عن الكلام السابق بما في «أم» من معنى «بل» . وقال غيره: الميم زائدة وإنه استفهام مستأنف والتقدير ألهم آلهة تمنعهم من دوننا من العذاب، ومعنى مِنْ دُونِنا أن تلك الآلهة لا تتجاوز منعنا وحفظنا ثم استأنف فقال لا يَسْتَطِيعُونَ ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي تلك الآلهة ليست تقدر على نصر أنفسها فكيف تحفظ غيرها وتنصرها. وقوله وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ قال المازني: هو من أصحبت الرجل إذا منعته. والأكثرون على أنه من الصحبة بمعنى النصرة والمعونة ومنه قولهم «صحبك الله» . والحاصل أن من لا يكون قادرا على دفع الآفات ولا يكون مصحوبا من الله بالإعانة والنصرة كيف يتوقع منه دفع ضر أو جلب نفع! ولما أبطل كون الأصنام نافعة أضرب عن ذلك منتقلا إلى بيان أن ما هم فيه من الحفظ والكلاءة والتمتع بالحياة العاجلة هو من الله لا من مانع يمنعهم من الإهلاك ولا من ناصر يعينهم على أسباب التمتع سوى الله. وفي قوله حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ إشارة إلى أنه لما امتدت أيام الروح والطمأنينة حسبوا أن ذلك لن يزول عنهم فاغتروا به ونسوا المنعم فاستأهلوا العقاب كما أشار إليه بقوله أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وفي لفظ الإتيان تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين الذين هم حزب الله من نقص ديار الكفر وتخريبها وعمارة حوزة الإسلام وتشييد مبانيه وقد مر مثله في آخر سورة الرعد. والاستفهام في قوله أَفَهُمُ الْغالِبُونَ للتقرير أي لنحن الغالبون وهم المغلوبون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 ثم بين أن هذه الإنذارات ليست من قبل الرسول ولكنه بالوحي، ثم مهد عذر الرسول إن لم تنجع فيهم رسالته بأن الصم لا يسمعون دعاء المنذر. واللام في الصُّمُّ للعهد أي لا يسمع هؤلاء الإنذار فوضع الصُّمُّ في موضع اسم الإشارة إيذانا بأنهم هم الموسومون بالصمم عن استماع الحق، ولو كان اللام للجنس لكان الأنسب إطلاق الدعاء لأن الصم لا تسمع الدعاء بشروا أو أنذروا. ثم ذكر أنهم لا يعترفون بالتقصير والظلم إلا عند معاينة العذاب فقال: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ وفي ذكر المس وبناء المرة من النفح الذي هو بمعنى القلة والنزارة. منه قولهم «نفحه بعطية» أي رضخه، «ونفحته الدابة» وهو رمح يسير دليل على أنهم في غاية الضعف يجزعون من أدنى أثر من عذاب الله. قوله وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ المراد من الوضع الإحضار والقسط أي العدل صفة الموازين وإن كان موحدا كقولهم للقوم «إنهم عدل» قاله الفراء. وعن الزجاج أراد ذوات القسط. واللام في لِيَوْمِ الْقِيامَةِ بمعنى الوقت كما يقال «جئت لتاريخ كذا» . وقيل: أراد لأجل الحساب يوم القيامة. وقد مر تحقيق الوزن وما يتعلق به من الأبحاث في أول سورة الأعراف. يروى أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان، فلما رآه غشي عليه ثم أفاق فقال: يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ فقال: يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة. وفي قوله فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً بحث بين المعتزلة والأشاعرة وقد مر مرارا وَإِنْ كانَ أي الوزن والعمل مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها أنت ضمير المثقال باعتبار إضافته إلى الحبة. قيل: الحبة أعظم من الخردلة فكيف قال: حبة من خردل؟ وأجيب بأن الوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار، والظاهر أنه أراد الحبة من حيث اللغة. وقوله مِنْ خَرْدَلٍ بيان لها لأن الحبة أعم من أن تكون من الخردل أو من الحنطة أو من غيرهما ولكن المبالغة في الأول أكثر، وذلك أن الخردلة سدس شعيرة وهي نصف سدس ثمن الدينار عند الحساب ونصف سدس سدسه في الشرع، والحبة ثمن تسع الدينار في عرف حساب فارس والعراق، فمثقال حبة من خردل يكون على الوجه الأول ثمن تسع خردلة، وعلى ما قلنا يكون هو الخردل بعينه. والحاصل أن شيئا من الأعمال صغيرا كان أو كبيرا غير ضائع من علم الله وأنه يجازي عليه. رؤي الشبلي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: حاسبوني فدققوا ... ثم منوا فأعتقوا. قال في التفسير الكبير: زعم الجبائي أن من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 يستحق بها خمسين جزءا من الثواب فهذا الأقل منحبط بالأكثر كما كان. والآية تبطل قوله لأن الله تعالى تمدح بأن اليسير من الطاعة لا يسقط، ولو كان الأمر كما قاله الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة. قلت: للجبائي أن يقول: الإتيان بالطاعة مشروط عندي بعدم الإحباط كما أن العقاب على المعصية مشروط عندكم بعدم العفو. وَكَفى بِنا حاسِبِينَ كقوله وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [النساء: 6] وحين فرغ من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد شرع في قصص الأنبياء تسلية لنبيه وتثبيتا وعظة لأمته وتذكيرا، وقد مر قصة موسى إلا أنه أوجز فيها هاهنا والموجز تقدمه الفصحاء غالبا، ولأن موسى أقوى حالا ومعجزة، ولأن ذكر التوراة يناسب ما تقدم من قوله قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وصف التوراة بأنها جامعة لكونها فرقانا يفرق به بين الحق والباطل، وقد مر سائر تفاسير الفرقان في أول البقرة وَضِياءً كقوله فِيها هُدىً وَنُورٌ [المائدة: 44] وذكر للمتقين أي شرفا وموعظة، أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم وقوله بِالْغَيْبِ إما حال من الرب أي حال كونه غائبا عن حسهم والله لا يغيب عنه شيء فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «1» وإما حال منهم أي حال كونهم غائبين عن عذاب الآخرة وأهوالها، أو غائبين عن الناس أي يخشون ربهم في الخلوات. ثم عظم شأن القرآن بقوله وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أي كثير البركة أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي أنتم دون سائر الناس مع علمكم بفصاحته وإعجازه تخصونه بالإنكار. ولا يخفى ما فيه من التوبيخ للعرب ومن داناهم. التأويل أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً من أرض البشرية ثم هم يحيون القلوب الميتة بل الله يحييها بنور ذكره وطاعته لو كان في سماء الروحانية وأرض البشرية آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ كالعقل والهوى لَفَسَدَتا كما فسد سماء أرواح الفلاسفة حين أثبتت عقولهم للواجب صفات لا تليق به، وفسد أرض بشرية الطبائعية حين زلت قدمهم عن استعمال قوانين الشريعة بمقتضى هوى الطبيعة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لأن أفعاله تعالى صادرة عن الحكمة والقدرة وَهُمْ يُسْئَلُونَ لأن أفعالهم منشؤها الظلومية والجهولية لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ لأنه ليس فيهم ما يخالف داعية العقل وهو الطبع الذي يجذب صاحبه إلى السفل، ولهذا وصفهم بالإكرام ووصف بني آدم بالتكريم في قوله وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70] ففي التكريم تكثير ليس في   (1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 31 باب 2. مسلم في كتاب الإيمان حديث 57 أبو داود في كتاب الإيمان باب 4. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 9. أحمد في مسنده (1/ 27) (2/ 107) (4/ 129) . [ ..... ] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 الإكرام والسبب أن أمر بني آدم أشكل وحالهم أصعب يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من خجالة قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] وَما خَلْفَهُمْ من الأمر بسجود آدم والاستغفار لمن في الأرض أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أنهم رأوها في عالم الأرواح لأنها خلقت قبل الأجساد بألفي عام، وفي رواية بأربعة آلاف سنة كانَتا رَتْقاً أي كانت سموات الأرواح متعلقة بأرض القوالب فَفَتَقْناهُما بالمفارقة وقطع التعلق وَجَعَلْنا مِنَ ماء حياة العلم كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ بالحياة الأبدية وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ أرض القالب رَواسِيَ هي هموم العلائق البدنية أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ فلولاها لمالت كل نفس إلى عالمها وبطل الغرض من التكليف، ويمكن أن يكون الرواسي إشارة إلى الأبدال الذين هم أوتاد الأرض بهم يرزق ويمطر الناس فِجاجاً سُبُلًا هي طرق الإرشاد والتسليك وَجَعَلْنَا سماء القلب سَقْفاً مَحْفُوظاً من وساوس شياطين الإنس والجن وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ ليل البشرية ونهار الروحانية وشمس المعرفة وقمر الإسلام كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فأهل الإسلام في فلك الشريعة، وأهل الإيمان في فلك الطريقة، وأهل الولاية في فلك أطوار الحقيقة كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أما النفس الحيوانية فلأن من خواصها أن تصير الغذاء من جنسها فلا جرم إذا عجز الغذاء عن التشبيه بها لعجز القوة الغاذية حل أجلها، وأما النفس الناطقة فلأن من خواصها أنها تصير من جنس غذائها وهو الكمالات العلمية والعلمية التي هي فيوض ربانية يتجوهر الروح بجوهرها فيحصل له الفناء عن وجوده والبقاء بشهود ربه وَنَبْلُوكُمْ بالمكروهات التي تسمونها شرا بالمحبوبات التي تحسبونها خيرا فِتْنَةً فربما كان الأمر عكس ما تصورتم وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ اختيارا وقهرا وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه أن الأغيار لا ينظرون إلى الأخيار إلا بعين الإنكار خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ بالنسبة إلى خلق السموات والأرض وما بينهما فإنها خلقت في ستة أيام وخمرت طينة آدم أربعين صباحا مع أن فيها أنموذجا من الكل واستعدادا لقبول الخلافة وقابلية تجلي الذات والصفات ومظهرية الكنز الخفي وأشار إلى هذه المعاني بقوله سَأُرِيكُمْ آياتِي أي في مظاهر الآفاق ومرايا أنفسكم بالتدريج وبالتربية في كل طور فَلا تَسْتَعْجِلُونِ فإن حد الاستكمال من المهد إلى اللحد بل من الأزل إلى الأبد وهذا منطق الطير لا يفهمه إلا سليمان الوقت. ويمكن أيضا أن يقال: إن الروح الإنساني أول شيء تعلقت به القدرة وهذا معنى العجلة قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ فيه أن ملوك الأرض لو حرسوهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ من الخصوم والأعداء فمن لهم حتى يحفظوهم في ليل البشرية ونهار الروحانية من سطوات قهر الجلال الذي الرحمانية من صفاته كما أن الرحيمية من صفات الجمال، فلو وكلهم بالخذلان إلى ظلمة البشرية بقوا في الجهل، ولو وكلهم بالإضلال في نور المعقولات تاهوا في أودية الحيرة والحجب النورية، والمنع من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 الحجب الظلمانية والجهل البسيط أسرع من إزالة الجهل المركب بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ الجهال وَآباءَهُمْ الذين علموهم تلك المعقولات التي صارت حجبا نورية لهم حتى اغتروا بظاهر الحال وأنكروا المعاد والشريعة. ثم بين أن الحق يغلب على الباطل البتة فقال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ البشرية وَنَضَعُ الْمَوازِينَ ميزان الفضل قد نصب في الأزل نَحْنُ قَسَمْنا تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا وميزان العدل ينصب في الأبد وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فالأول كالبزرة والثاني كالثمرة. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 91] وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 القراآت جُذاذاً بكسر الجيم: علي. الآخرون بضمها أف بفتح الفاء: ابن كثير وابن عامر وسهل ويعقوب أُفٍّ بالكسر والتنوين: أبو جعفر ونافع وحفص. الباقون بالكسر من غير تنوين لنحصنكم بالنون: أبو بكر وحماد ورويس وبالتاء الفوقانية والضمير للصنعة أو للدرع لأنها مؤنثة سماعا: ابن عامر ويزيد وحفص والمفضل وروح وزيد. الباقون بالياء التحتانية والضمير لداود عليه السلام أو للبوس والكل بتخفيف الصاد والرياح على الجمع: يزيد بطريق المفضل الآخرون على التوحيد. مَسَّنِيَ الضُّرُّ وعِبادِيَ الصَّالِحُونَ في آخر السورة مرسلة الياء: حمزة. الباقون بفتحها وأن لن يقدر بالياء مجهولا: يعقوب ننجي بضم النون الواحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء: ابن عامر وعباس وأبو بكر وحماد. الآخرون من الإنجاء مخففا. الوقوف: عالِمِينَ ج هـ لأن «إذ» يصلح ظرفا لآتينا أو ل رُشْدَهُ أو للعلم به مفعولا لأذكر محذوفا عاكِفُونَ هـ عابِدِينَ هـ مُبِينٍ هـ اللَّاعِبِينَ هـ فَطَرَهُنَّ ز لواو الابتداء والحال أولى الشَّاهِدِينَ هـ يَرْجِعُونَ هـ الظَّالِمِينَ هـ إِبْراهِيمُ هـ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 يَشْهَدُونَ هـ يا إِبْراهِيمُ هـ ط فَعَلَهُ ز وفيه بعد ويجيء في التفسير يَنْطِقُونَ هـ الظَّالِمُونَ هـ لا للعطف عَلى رُؤُسِهِمْ ج لاتحاد المقصود مع إضمار القول يَنْطِقُونَ هـ وَلا يَضُرُّكُمْ ط لاستئناف الدعاء عليهم مِنْ دُونِ اللَّهِ ط تَعْقِلُونَ هـ فاعِلِينَ هـ عَلى إِبْراهِيمَ هـ لا بناء على أن التقدير وقد أرادوا الْأَخْسَرِينَ ج هـ للعطف والآية لِلْعالَمِينَ هـ إِسْحاقَ ط بناء على أن المراد ووهبنا له يعقوب حال كونه نافلة نافِلَةً ط صالِحِينَ هـ الزَّكاةِ ج لاحتمال الاستئناف والحال عابِدِينَ هـ وكان ينبغي أن لا يوقف للعطف ولكنهم حكموا بالوقف لتمام القصة وكذلك أمثالها الْخَبائِثَ ط فاسِقِينَ هـ لا بناء على أن التقدير وقد أدخلناه رَحْمَتِنا ط الصَّالِحِينَ هـ الْعَظِيمِ هـ ج للعطف مع الآية بِآياتِنا ط أَجْمَعِينَ هـ غَنَمُ الْقَوْمِ ج لاحتمال الواو بعده الاستئناف والحال شاهِدِينَ هـ لا للعطف بالفاء سُلَيْمانَ ج لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتحاد الكلام وَعِلْماً ز لعطف المتفقين مع نوع عدول وَالطَّيْرَ ط فاعِلِينَ هـ مِنْ بَأْسِكُمْ ج للاستفهام مع الفاء شاكِرُونَ هـ فِيها ط عالِمِينَ هـ دُونَ ذلِكَ ج لاحتمال الاستئناف والحال حافِظِينَ هـ الرَّاحِمِينَ هـ ط للفاء وللآية لِلْعابِدِينَ هـ وَذَا الْكِفْلِ ط الصَّابِرِينَ هـ وقد يوصل لعطف وَأَدْخَلْناهُمْ على نَجَّيْناهُ للقدرة فِي رَحْمَتِنا ط الصالحين هـ سُبْحانَكَ قد يوقف لأجل «أن» ولكنه داخل في حكم النداء الظَّالِمِينَ ج هـ على ما ذكر في الوجهين فَاسْتَجَبْنا لَهُ لا لاتفاق الجملتين واتصال النجاة بالاستجابة مِنَ الْغَمِّ ط الْمُؤْمِنِينَ هـ الْوارِثِينَ هـ فَاسْتَجَبْنا لَهُ هـ لا مكان الفصل بين الاستجابة المعجلة وحصول الولد الموهوب على المهلة زَوْجَهُ ط وَرَهَباً ط خاشِعِينَ ط لِلْعالَمِينَ هـ. التفسير: الرشد الاهتداء لوجوه المصالح في الدين والدنيا وقد يخص هاهنا بالنبوة لقوله رُشْدَهُ ومعنى الإضافة أن لهذا الرشد شأنا ولقوله وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ وفيه أنه علم منه أسرارا عجيبة وأحوالا بديعة حتى اتخذه خليلا واصطفاه نبيا نظيره اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] وعلى هذا فمعنى قوله مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى وهارون قاله ابن عباس. وعلى الأول يحتمل هذا وأن يراد من قبل البلوغ حين استدل بالكواكب قاله مقاتل. وعن ابن عباس في رواية الضحاك حين أخذ الله ميثاق النبيين في صلب آدم. قالت الأشاعرة: أراد بإيتاء الرشد خلق ذلك فيه إذ لو حمل على أسباب ذلك تناول الكفار. أجاب الكعبي بأن هذا إنما يقال فيمن قبل لا فيمن رد، نظيره بأن يعطي الأب كل واحد من ولديه ألفا فقبله أحدهما وثمره ورده الآخر أو أخذه ثم ضيعه فيقال: أغنى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 فلان ابنه فيمن ثمر المال، ولا يقال مثله فيمن ضيع. واعترض بأن قبوله على هذا التقدير يكون جزءا من مسمى الرشد وحينئذ لا يصح استناد إيتاء الرشد إلى الله وحده، وهذا بخلاف نص القرآن. والتمثال اسم للشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء شبهته به، واسم ذلك الممثل تمثال جعل إبراهيم عليه السلام هذا التجاهل والتغابي ابتداء كلامه لينظر فيما عساهم يوردونه من شبهة فيحلها لهم مع ما في هذا السؤال من تحقير آلهتهم وتسفيه أخلافهم. وفي قوله أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ دون أن يقول عليها كقوله يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ [الأعراف: 138] نوع آخر من التجهيل والتوبيخ لأنه ادعى عليهم أنهم جعلوا العكوف مختصا بها دون خالقها وخالق كل شيء قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ لا يمكن لهم أن يتمسكوا بشيء آخر سوى التقليد فزيف طريقتهم بالتنبيه على خطئهم وخطأ أسلافهم فقال: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لأن كل مذهب لا يستند إلى دليل كان صاحبه ضالا أو في حكم ذلك. ثم إن القوم تعجبوا من تضليلهم مع كثرتهم ووحدته ومنعهم عما ألفوه وضروا به فقالوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي بما ليس بهزل ودعابة أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ فحينئذ عدل إبراهيم عن مجرد التنبيه إلى إثبات الدعوى بالبينة والدليل وجاهدهم أولا باللسان قائلا بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ الظاهر أن الضمير للسموات والأرض إلا أنه قيل: كونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم. وقوله وأنا على ذلكم من الشهداء فيه تأكيد وتحقيق لما قاله كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه «أشهد إنه كريم أو لئيم» لأن الشهادة خبر قاطع. وفيه أنه قادر على إثبات ما ادعاه بالحجج والبينات كما شاؤا ثم أخبر أنه سيجاهدهم جهادا بالفعل من غير تقية وخوف قال وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ قال جار الله: في تاء القسم مع أنه عوض عن الباء زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من سهولة الكيد على يده لأن ذلك لصعوبته كان كالمقنوط منه خصوصا في زمن نمرود مع شدة شكيمته وقوة سلطانه. قلت: لا ريب أن هذا مستبعد عادة ولكنه سهل لمن أيده الله ونصره كما قال علي رضي الله عنه: والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة رحمانية. سؤال: الكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به فكيف يتصور ذلك في حق الأصنام؟ وجوابه أنه قال ذلك بناء على زعمهم أنه يجوز ذلك عليها، أو أراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل أهمهم وأحزنهم. قال السدي: كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم: لو خرجت معنا؟ فخرج معهم. فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 رجلي، فلما بقي هو وضعفاء الناس نادى وقال الله لأكيدن أصنامكم. وروى الكلبي أن إبراهيم كان من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضا، فلما هم إبراهيم بالذي هم به من كسر الأصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء فقال لأصحابه: إني أراني أشتكي عدا فذلك قوله في الصافات فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 88، 89] وأصبح من الغد معصوبا رأسه، فخرج القوم لعيدهم ولم يتخلف أحد غيره فقال سرا: أما والله لأكيدن أصنامكم، فسمعه رجل واحد وأخبر به غيره وانتشر الخبر. وعلى الوجهين يصح قوله فيما بعد قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ وروي أن آزر خرج به في عيد لهم فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم وقالوا: إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنما مصطفة وثمة صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلها بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً قال الجوهري: جذذت الشيء جذا قطعته وكسرته، والجذاذ ما كسر منه وضمه أفصح من كسره. قلت: فعلى هذا هو اسم جمع لا جمع إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي في الخلقة كما روينا. وقيل: في التعظيم. ويحتمل أن يكون جامعا للأمرين. أما الضمير الواحد في قوله لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فيحتمل عوده إلى إبراهيم أي جعلهم جذاذا واستبقى الكبير رجاء أنهم يرجعون إلى دينه أو إلى السؤال عنه لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم فيبكتهم بقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ ويحتمل عوده الكبير كما ذهب إليه الكلبي. والمعنى لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحا والفأس على عاتقك، وهذا بناء على ظنهم أن الأصنام قد تتكلم وتجيب، على أن نفس ذلك الكبير كان دليلا على فساد مذهبهم لأن الإله يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء لأنهم كانوا يعظمونها ويقولون: إن المستخف بها يلحقه ضرر عظيم، فحين كسرها إبراهيم ولم ينله ضرر من تلك الجهة بطل ما اعتقدوه. فلما انكشفت لهم جلية الحال وقالُوا مَنْ فَعَلَ هذا الكسر والحطم والاستخفاف بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ المعدودين في جملة من يضع الشيء في غير موضعه لأنه وضع الإهانة مكان التعظيم قالُوا سَمِعْنا احتمل أن يكون القائل واحدا، ونسب القول إلى الجماعة لأنه منهم، واحتمل أن يكون جمعا على الوجهين اللذين رويناهما، أو لأنهم سمعوا منه قوله على وجه الاستهزاء ما هذِهِ التَّماثِيلُ والفعلان بعد فَتًى صفتان له إلا أن الأول ضروري ذكره لأنك لا تقول «سمعت زيدا» وتسكت حتى تذكر شيئا مما يسمع، والثاني ليس كذلك. والأصح أن قوله إِبْراهِيمُ فاعل يُقالُ لأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 المراد الاسم لا المسمى وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف أو منادى. قالُوا أي فيما بينهم فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ الجار والمجرور في محل الحال أي بمرأى منهم ومنظر أو معاينا ومشاهدا قال. في الكشاف: معنى الاستعلاء في «على» أنه يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عليه بما سمع منه وبما فعله فيكون حجة عليه قاله الحسن وقتادة والسدي وعطاء عن ابن عباس. وقال محمد بن إسحق: معناه لعلهم يحضرون عقوبتنا له ليكون ذلك زاجرا لهم عن الإقدام على مثل فعله. وهاهنا إضمار أي فأتوا به ثم قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا الظلم والاستخفاف بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ طلبوا منه الاعتراف ليقدموا على إيذائه ف قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وقوله هذا صفة كبيرهم. زعم الطاعنون في عصمة الأنبياء أن هذا القول من إبراهيم كذب وأكدوا قولهم بما جاء في الحديث «إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات» وللعلماء في جوابهم طريقان: أحدهما تسليم أنه كذب ولكنهم قالوا: الكذب ليس قبيحا لذاته وإنما يقبح لاشتماله على مفسدة. وقد يحسن الكذب إذا اشتمل على مصلحة كتخليص نبي ونحوه، وزيف هذا الطريق بأنا لو جوزنا أن يكذب النبي لمصلحة لبطل الوثوق بالشرائع، فلعل الأنبياء أخبروا عما أخبروا لمصلحة المكلفين في باب المعاش مع أنه ليس للمخبر عنه وجود كما في الواقع. الطريق الثاني وعليه جمهور المحققين المنع من أنه كذب وبيانه من وجوه: الأول أنه من المعاريض التي يقصد بها الحق وهو إلزام الخصم وتبكيته كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخط في غاية الحسن، أنت كتبت هذا وصاحبك أمي لا يحسن الخط فقلت له: بل كتبته أنت. كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع استهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي. الثاني أن إبراهيم عليه السلام غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مزينة، وكأن غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها. الثالث أن يكون ذلك حكاية لما يؤل إليه مذهبهم كأنه قال: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبدو يدعى إلها أن يقدر على أمثال هذه الأفعال، ويؤيد هذا الوجه ما يحكى أنه قال فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا غضب أن تعبد معه هذه الصغار، الرابع ما يروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله بَلْ فَعَلَهُ ثم يبتدىء كَبِيرُهُمْ هذا أي فعله من فعله. الخامس عن بعضهم أنه يقف عند قوله كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ وأراد بالكبير نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم. السادس أن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير «بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم» . فيكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 بكونهم ناطقين، فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين، السابع قراءة محمد بن السميفع فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ بالتشديد أي فلعل الفاعل كَبِيرُهُمْ وفيه تعسف. وأما قول إبراهيم عليه السلام إِنِّي سَقِيمٌ فلعله كان به سقم قليل وسوف يجيء تمام البحث فيه. وأما قوله لسارة «إنها أختي» فالمراد أنها أخته في الدين فلم يكن وقتئذ على وجه الأرض مسلم سواهما فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ حين نبههم على قبح طريقتهم فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ لأنكم تعبدون من لا يستحق العبادة. وقال مقاتل: معناه فلاموا أنفسهم فقالوا: إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير. وقيل: أنتم الظالمون لأنفسكم إذ سألتم منه ذلك حتى أخذ يستهزىء بكم في الجواب. يقال: نكسته أي قلبته فجعلت أسفله أعلاه، وانتكس انقلب، وانتكاس الإنسان هو أن يكون رأسه من تحت فلهذا قال ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ والمراد أنهم استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤا بالفكرة الصالحة، ثم انقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة قائلين لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ وفيه أنهم رضوا بإلهيتها مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق. وقال ابن جرير: المعنى نكست حجتهم فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم وبيان انتكاس الحجة قولهم لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فإن هذه حجة عليهم لا لهم. وقيل: المراد بانتكاس رؤوسهم إطراقهم خجلا وانكسارا. ثم زاد إبراهيم في توبيخهم قائلا أَفَتَعْبُدُونَ الآية وقد مر في سورة سبحان أن «أف» صوت يدل على التضجر، واللام لبيان المتأفف به، أي لكم ولآلهتكم هذا التأفف وذلك أنه أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم. قالُوا حَرِّقُوهُ المشهور أن الذي أشار بتحريقه هو نمرود بن كنعان ابن سنجاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح. وقال مجاهد: سمعت ابن عمر يقول: إنه رجل من أعراب العجم يريد الأكراد. وعن ابن جريج عن وهب أن الذي قال هذا القول قد خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. روى مقاتل أن نمرود وقومه أجمعوا على إحراقه فحبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى وهي من قرى الأنباط وذلك قوله ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات: 97] ثم جمعوا له الحطب الكثير أربعين يوما حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: إن عافاني الله لأجمعن حطبا لإبراهيم. فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الهواء لاحترق ثم أخذوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فضجت السماء والأرض ومن فيهما من الملائكة إلا الثقلين ضجة واحدة: أي ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم وإنه يحرق فيك، فأذن لنا في نصرته، فقال سبحانه: إن استغاث بأحد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 منكم فأغيثوه وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه. فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن الرياح وقال: إن شئت طيرت النار في الهواء فقال إبراهيم: لا حاجة لي إليك. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل. وروي أنه قال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك. ثم أتاه جبرائيل في الهواء فقال: يا إبراهيم هل لك من حاجة؟ قال: أما إليك فلا. قال: فسل ربك. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي: فأرسل الله ملائكة أخذوا بضبعيه وأقعدوه في الأرض، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار منه إلا وثاقه. وأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة وقال: يا إبراهيم إن ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبائي. قال المنهال بن عمرو: أخبرت أن إبراهيم مكث في النار أربعين يوما أو خمسين. وقال: ما كنت أياما أطيب عيشا مني إذ كنت فيها قلت: وذلك لاستغراقه في بحر الفيوض والآثار الربانية ولو لم يكن فيه إلا القرب من لطف خليله والبعد من قهر عدوه لكفى. ثم نظر نمرود من صرح له مشرف على إبراهيم فرآه جالسا في روضة ومعه جليس له من الملائكة والحطب يحترق حواليه فناداه يا إبراهيم: هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم. فقام يمشي حتى خرج. فقال نمرود: إني مقرب إلى ربك قربانا فذبح أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم، وكان إبراهيم عليه السلام إذ ذاك ابن ست عشرة سنة. قال العلماء: اختاروا العقاب بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه ولهذا جاء في الحديث «لا يعذب في النار إلا خالقها» «1» ومن ثم قالوا وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا قويا فاختاروا له أشد العقاب وهو الإحراق وإلا كنتم مقصرين في نصرتها قُلْنا عن السدي أن القائل هو جبرائيل عليه السلام والأكثرون على أنه سبحانه. وذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أنه لا قول هناك بل أراد به الجعل لأن النار جماد فلا فائدة في خطابه. ويمكن أن يجاب بأن الله قادر على أن يخلق لها فهما يصح به التخاطب، ولو سلم فلعل في ذلك الخطاب مصلحة للملائكة. والظاهر أن قوله يا نارُ خطاب لتلك النار المخصوصة فإن الغرض يتعلق ببردها فقط وفي النار منافع للخلائق، فلا يحسن من الكريم إبطالها. وقيل: المذكور اسم الماهية فلا بد من حصول البرد في تلك الماهية أينما وجدت، ويناسبه رواية مجاهد عن ابن   (1) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب 164. الدارمي في كتاب السير باب 23. بلفظ «لا ينبغي أن يعذب بالنار إلّا رب النار» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 عباس أنه لم يبق يومئذ في الدنيا ونار إلا طفئت. واختلفوا في أن النار كيف بردت؟ فقيل: إنه تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق والله على كل شيء قدير. وقيل: خلق في جسد إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار كما يفعل بخزنة جهنم، وكذلك في النعامة لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة، والسمندل ولا يؤذيه المقام في النار. وقيل: جعل بينه وبين النار حائلا منع من وصول أثر النار إليه. والمحققون على القول الأول لأن النص دل ظاهره على أن نفس النار صارت باردة، وليست الحرارة جزءا من مسمى النار حتى يمتنع كونها نارا وهي باردة، وأما على القولين الآخرين فيلزم أن لا يحصل البرد فيها وهو خلاف النص قوله وَسَلاماً أي ذات برد وسلام فبولغ في ذلك حتى كأن ذاتها برد وسلام. والمعنى ابردي حتى يسلم منك إبراهيم، أو ابردي بردا غير ضار ويناسبه ما روي عن ابن عباس لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. وقوله عَلى إِبْراهِيمَ حال من فاعل الكون أو متعلق بالبرد والسلام، ولولا هذا القيد لكانت النار بردا على كافة الخلق، قوله فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ وفي الصافات فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ [الآية: 98] لأن في هذه السورة كادهم إبراهيم لقوله لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ وكادوه لقوله وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فغلبهم إبراهيم لأنه كسر أصنامهم وسلم من نارهم فكانوا هم الأخسرين. وفي الصافات قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات: 97] فأججوا نارا عظيمة وبنوا بناء عاليا ورفعوه إليه ورموا به إلى أسفل فرفعه الله وجعلهم في الدنيا من السافلين وفي العقبى في السافلين. ويروى أنهم بنوا لإبراهيم بنيانا وألقوه فيه، ثم أوقد عليه النار سبعة أيام ثم أطبقوا عليه، ثم فتحوا عنه فإذا هو غير محترق يعرق عرقا. فقال لهم حارث أبو لوط: إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله، فجعلوه فوق بئر وأوقدوا تحته فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته فآمن له لوط كما يجيء في العنكبوت، وهاجر إلى أرض الشام فذلك قوله وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها أي بالخصب وسعة الأرزاق أو بالمنافع الدينية لأن أكثر الأنبياء بعثوا فيها. وقيل: ما من ماء أرض عذب إلا وينبع أصله من تحت صخرة بيت المقدس. يروى أنه نزل بفلسطين ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة. وقيل: الأرض مكة وَوَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً هي ولد الولد وهي حال من يعقوب فقط، وقيل: النافلة العطية الزائدة ومنه الصلاة النافلة. ونوفل للرجل الكثير العطاء، وعلى هذا احتمل أن يكون حالا من يعقوب فقط أي سأل إسحق فأعطيه وأعطى يعقوب زيادة وفضلا من غير سؤال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 واحتمل أن يكون حالا من كليهما أي وهبناهما له عطية منا، والأول قول مجاهد وعطاء، والثاني وهو أن النافلة العطية قول ابن عباس وأبي بن كعب وقتادة والفراء والزجاج وَكُلًّا من إبراهيم وإسحق ويعقوب جَعَلْنا صالِحِينَ قال الضحاك: أي مرسلين وقال غيره: عالمين عاملين. وفي قوله جَعَلْنا صالِحِينَ وكذا قوله وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً دلالة الأشاعرة على أن الصلاح بجعل الله وكذا الإمامة وغيرها من الأفعال أجاب الجبائي بأنه أراد تسميتهم بذلك ومدحهم وأنه حكم به لهم كما يقال: إن الحاكم عدل فلانا وجرحه إذا حكم بالعدالة والجرح، وضعف بأنه خلاف الظاهر. وقوله يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي يدعون الناس إلى دين الله بأمرنا وإرادتنا. قال أهل السنة: فيه أن الدعوة إلى الحق والمنع من الباطل لا يجوز إلا بأمر الله تعالى. وقالت المعتزلة: فيه أن من صلح لأن يقتدى به في الدين فالهداية واجبة عليه ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها. ولا خلاف في أن الهادي إذا كان مهتديا بنفسه كان الانتفاع بهداه أعم والنفوس إلى الاقتداء به أميل فلذلك قال وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ أي أن يفعلوها لأن المراد هو إيحاء أن يحدثوا الخيرات من أنفسهم ونفس الفعل الخير لا يمكن إيحاؤه فرد إلى فعل الخيرات تخفيفا، فإن المقصود معلوم، ثم أضيف المصدر إلى المفعول لإفادة تخفيف آخر في اللفظ وكذلك إِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ أي أوحينا إليهم أن يقيموا ويؤتوا، قال الزجاج: حذف الهاء من إقامة لأن المضاف إليه عوض منها. وقال غيره: الإقام والإقامة مصدران. ولا ريب أن تخصيص هاتين الخصلتين بالذكر دليل على شرفهما والأولى أصل التعظيم لأمر الله، والثانية أصل الشفقة على خلق الله. وَكانُوا لَنا عابِدِينَ فيه أنه سبحانه لما وفى بعهد الربوبية فآتاهم النبوّة والدرجات العالية فهم أيضا وفوا بعهد العبودية فلم يغفلوا عنها طرفة عين. قوله وَلُوطاً عن الزجاج أنه معطوف على أَوْحَيْنا وعن أبي مسلم أنه معطوف على قوله وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ والحكم الحكمة، وقيل الفصل بين الخصوم، وقيل النبوة والقرية سذوم والمراد أهلها وخبائثهم مشهورة قد عددت في «الأعراف» وفي «هود» . وقَوْمَ سَوْءٍ نقيض رجل صدق وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أي أهل رحمتنا أو في الجنة والثواب. عن ابن عباس والضحاك. وقال مقاتل: هي النبوة أي أنه لما كان من الصالحين آتيناه النبوة كي يقوم بحقها. وقال أهل التحقيق: حين آتاه الحكم والعلم وتخلص من جلساء السوء فتحت عليه أبواب المكاشفات وتجلت له أنوار الذات والصفات وإنها هي الرحمة في الحقيقة. قوله وَنُوحاً وكذا نظائره معطوف على قوله وَلَقَدْ آتَيْنا أو المراد واذكر نوحا. وإِذْ نادى بدل منه أي اذكر وقت ندائه مِنْ قَبْلُ هؤلاء المذكورين والنداء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 هو دعاؤه على قومه بنحو قوله رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 10] . وقوله رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] بدليل قوله فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أي أهل دينه وهم من معه في الفلك مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وهو الطوفان وما كان فيه من تكذيب قومه وإيذائهم. وفي لفظ الكرب وهو الغم الذي يأخذ بالنفس، ثم وصفه بالعظم إشعار بأنه عليه السلام لقي من قومه أذى شديدا لا يكتنه كنهه. ثم زاده بيانا بقوله وَنَصَرْناهُ الآية. تقول: نصرته منه فانتصر إذا جعلته منتصرا منه أي منتقما. وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي شأن الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ ظرف ل يَحْكُمانِ وهو حكاية حال ماضية. قال ابن السكيت. النفش بالتحريك أن ينتشر الغنم بالليل من غير راع وعليه جمهور المفسرين. وعن الحسن: إنه يكون ليلا ونهارا. وليس في قوله وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ دلالة على أن أقل الجمع اثنان لاحتمال أنه أرادهما والمتحاكمين إليهما. والضمير في فَفَهَّمْناها للحكومة أو الفتوى. ويروى أنه دخل رجلان على داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث. أي زرع. وقيل كرم- والآخر صاحب غنم. فقال صاحب الحرث: إن غنم هذا دخلت حرثي وأكلت منه شيئا. فقال داود: اذهب فإن الغنم لك. فخرجا فمرا على سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه. فقال: لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا. فأخبر بذلك أبوه فدعاه وقال: كيف كنت تقضي بينهما؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث فتكون له منافعها من الدر والنسل والوبر حتى إذا عاد الحرث من العام القابل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم إلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه. قال أبو بكر الأصم: الحكمان واحد لأن الثاني بيان للأول. والمشهور عن الصحابة ومن بعدهم أنهما متغايران لقوله وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ ولقوله: فَفَهَّمْناها والفاء للتعقيب فدل على أنه فهم حكما خلاف الأول. وعلى تقدير الاختلاف فهما بالوحي أو بالاجتهاد، فيه خلاف بين العلماء، فمنهم من لم يجوز الاجتهاد على الأنبياء أصلا كالجبائي لقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [الأنعام: 50] ولأن النبي قادر على تحصيل حكم الواقعة بالنص، ولأن مقتضى الاجتهاد مظنون وخلاف المظنون لا يوجب الكفر وخلاف الرسول يوجب الكفر، ولما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوقف في بعض الأحكام انتظارا للوحي ولو جاز له الاجتهاد لم يتوقف، ولأنه لو جاز على النبي لجاز على جبرائيل أيضا وحينئذ يرتفع الأمان عن الوحي فلعل هذه الشرائع من مجتهدات جبرائيل. وأجيب بأنه إذا أوحي إليه جواز الاجتهاد له صح قوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3- 4] وبأن الحكم الحاصل عن الاجتهاد مقطوع لا مظنون لأنه تعالى إذا قال له الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 مهما غلب على ظنك كون الحكم في الأصل معللا بكذا ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فهذا الحكم مقطوع به والظن واقع في طريقه. سلمنا جواز المخالفة لكنه مشروط بصدوره عن غير معصوم، ولهذا لو اجتمعت الأمة على مسألة اجتهادية امتنع خلافهم. وكان الرسول أوكد، وبأن التوقف لعله وجد منه حين لم يظهر له وجه الاجتهاد وبأن الأمة أجمعوا على عدم جواز اجتهاد جبرائيل. ومما يدل على جواز الاجتهاد لنا أنه إذا غلب على ظن المجتهد أحد الطرفين فإن عمل بهما كان جمعا بين النقيضين، وان أهملهما لزم ارتفاع النقيضين، وإن عمل بالمرجوح دون الراجح فذلك باطل بالاتفاق فلم يبق إلا العمل بالراجح. قال الجبائي: ولئن سلمنا أن الاجتهاد على الأنبياء جائز لكن هذه المسألة غير اجتهادية لأن الذي أتلفه صاحب الماشية مجهول المقدار، فكيف يجعل الغنم في مقابلة ذلك؟ وأيضا إن اجتهاد داود إن كان صوابا فالاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وإن كان خطأ فكيف لم يذكر الله توبته بل مدحه بقوله وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وأيضا لو حكم بالاجتهاد لم يسم ذلك علما، وأيضا قوله فَفَهَّمْناها يدل على أنه من الله لا من سليمان. وأجيب بأن الجهالة بعد تسليمها قد تكون معفوا عنها كما في حكم المصراة، ولعل الخطأ في اجتهاده كان من الصغائر فلهذا أهمل ذكره والاجتهاد من باب العلوم والظن في الطريق كما مر، والذي يحصل في نظر المجتهد مستند إلى الله. أما الذين منعوا من الاجتهاد مطلقا أو في هذه المسألة، فذهبوا إلى أن حكومة داود نسخت بحكومة سليمان، ولا استبعاد في أن يوحي الناسخ إلى غير من أوحى إليه المنسوخ. قال الفقهاء: مثال حكومة داود في شرعنا قول أبي حنيفة في العبد إذا جنى على النفس خطأ يدفعه المولى بذلك أو يفديه، وعند الشافعي يبيعه في ذلك ويفديه، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث. ومثال حكومة سليمان قول الشافعي فمن غصب عبدا فأبق من يده فإنه يضمن القيمة فينتفع به المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد، فإذا ظهر العبد يرد ويقال له ضمان الحيلولة. هذا ولو وقعت هذه القضية في شرعنا فلا ضمان عند أبي حنيفة وأصحابه لا بالليل ولا بالنهار، لأن جرح العجماء جبار. إلا أن يكون معها راع. والشافعي يوجب الضمان بالليل دون النهار لأن الليل وقت الهدوء وجمع الماشية، فتسريحها تقصير من صاحبها بخلاف النهار. وعن البراء بن عازب أنه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدته، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، لأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل. قال بعض الأصوليين: كل مجتهد مصيب لقوله وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وقال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 بعضهم: المصيب واحد لقوله فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ولو كان كلاهما مصيبا لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم فائدة. وضعف بعضهم كلا الاستدلالين بعد تسليمهما بأن ما ثبت في شرعهم لا يلزم أن يكون ثابتا في شرعنا. ولما مدح داود على سبيل الاشتراك ذكر ما يختص بكل منهما فبدأ بداود قائلا: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ أي حال كونهن مسبحات أو هو استئناف كأنه قيل: كيف سخرهن؟ فقال: يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وهو معطوف على الجبال أو مفعول معه، وتسبيح الجبال إما حقيقة أو مجاز وعلى الأول قال مقاتل: كان إذا سبح داود سبح الجبال والطير معه. وقال الكلبي: إذا سبح داود أجابته الجبال. وقال سليمان بن حيان: كان داود إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطا واشتياقا. وعلى الثاني قيل: كانت الجبال تسير معه حيث سار فكل من رآها كان يسبح الله تعالى، فلما حملت على التسبيح وصفت به وهذا القول اختيار كثير من أصحاب المعاني والمعتزلة، لأن الجماد غير قابل للحياة والفهم عندهم، ولأن المتكلم هو الذي يفعل الكلام لا الذي يكون محلا للكلام، ولهذا يقال: إن المتكلم هو الله حين كلم موسى لا الشجرة. وإنما قدم تسبيح الجبال على الطير لأن ذلك أدل على القدرة وأدخل في الإعجاز، فإن الطير أقرب إلى الحيوان الناطق من الجماد ولا يلزم من نطق الطير أو الجبل أن يكونا مكلفين فليس كل ناطق مكلفا كالأطفال والمجانين. وَكُنَّا فاعِلِينَ أي قادرين على أن نفعل أمثال هذه الخوارق على أيدي الأنبياء لأجلهم وإن كانت عجيبة عندكم. واللبوس اللباس يقال: البس لكل حالة لبوسها والمراد الدرع. عن قتادة أنها كانت صفائح فسردها وحلقها داود فجمعت الخفة والتحصين وتوارث الناس منه وعمت النعمة بها لكل المحاربين فلذلك قال فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ قال علماء المعاني: هذا التركيب أدخل في الإنباء عن طلب الشكر من قولنا «فهل أنتم تشكرون» إذ المختار فيه أن يقدر مفسر محذوف أي هل تشكرون تشكرون. ومن قولنا «أفأنتم شاكرون» لأنه وإن كان ينبىء عن عدم التجدد لمكان الجملة الاسمية إلا أنه دون المذكور في القرآن فإن «هل» أدعى للفعل من الهمزة، فترك الفعل معه يكون أدخل في الإنباء عن استدعاء المقام عدم التجدد لأن تخلف المعلول عن العلة القوية يدل على وجود مانع أقوى منه إذا تخلف عن العلة الضعيفة. ثم حكى ما أنعم به على سليمان فقال وَلِسُلَيْمانَ أي وسخرنا له الرِّيحَ حال كونها عاصِفَةً ولا ينافي هذا قوله في فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ [ص: 36] لأن المراد أنها مع كونها في نفسها رخية طيبة كالنسيم كانت في عملها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 عاصفة تحمل كرسيه من إصطخر إلى الشام، أو أنها كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفا لهبوبها على حسب إرادته وأمره. وفي قوله وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ إشارة أنه فعل كل ما فعل بالأنبياء المذكورين عن حكمة بالغة وتدبير محكم وإحاطة بأحوالهم وعلم باستئهالهم. قوله وَمِنَ الشَّياطِينِ أي سخرنا من الشياطين مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ ويجوز أن يكون الكلام خبر أو مبتدأ و «من» موصولة أو موصوفة. كانوا يغوصون لأجله في البحار فيستخرجون الجواهر وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي متجاوزا ما ذكر من بناء المدائن والقصور وسائر الصنائع العجيبة. قالت العلماء: الظاهر أن التسخير لكفارهم دون المؤمنين منهم لإطلاق الشياطين ولقوله: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أي من أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يوجد منهم فساد في الجملة إذ كان من دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوا بالنهار. والحفظ إما بسبب الملائكة أو مؤمني الجن الموكلين بهم، أو بأن حبب إليهم طاعته وخوفهم مخالفته. قال ابن عباس في تفسيره: يريد أن سلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء. قال الجبائي: كيف تتهيأ منهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة وإنما تمكنهم الوسوسة فقط، فلعل الله تعالى كثف أجسامهم خاصة وقواهم على تلك الأعمال الشاقة وزاد في عظمهم معجزة لسليمان فلما مات سليمان ردهم إلى الخلقة الأولى. إذ لو أبقاهم على الخلقة الثانية لكان شبهة على الناس، فلعل بعض الناس يدعي النبوة ويجعله دلالة عليها. واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه بأنك لم قلت: إن الجن أجسام فلعلهم من الموجودات التي ليست متحيزة ولا حالة في المتحيز. ولا يلزم منه الاشتراك مع الباري فإن الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في الملزومات فضلا عن اللوازم السلبية. سلمنا أن الجن أجسام لكن لم قلت: إن البنية شرط للقدرة وليس في يدكم إلا الاستقراء الضعيف؟ سلمنا أنه لا بد من تكثيف أجسامهم فمن أين يلزم ردهم إلى الخلقة الأولى؟ فإن قال: لئلا يفضي إلى التلبيس. قلنا: إذا ثبت أن ذلك كان معجزة لنبي قبله لم يتمكن المتنبي من الاستدلال ومن عجيب قدرة الله سبحانه أن أصلب الأجسام في هذا العالم الحجارة والحديد، وقد سخرهما الله تعالى لداود فأنطق الحجر ولين الحديد، وفي ذلك دلالة باهرة على أنه تعالى قادر على إحياء العظام الرميمة. ومن الغرائب أن الشياطين مخلوقة من النار وكان يأمرهم بالغوص في الماء، وفيه إظهار الضد بالضد فتبارك الله رب العالمين. ومن عجائب القصص والأخبار حكاية أيوب عليه السلام وصبره على بلائه حتى صار مثلا. عن وهب بن منبه أنه كان من الروم من ولد عيص بن إسحاق وكانت أمه من ولد لوط اصطفاه الله وجعله نبيا، ومع ذلك بسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله وكان له سبعة بنين وسبع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 بنات وله أصناف المواشي وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ونخيل. وكان إبليس لا يحجب عن السموات حين أخرجه الله من الجنة حتى رفع عيسى عليه السلام فحجب عن أربع حتى إذا ولد نبينا صلى الله عليه وسلم حجب عن جميع السموات إلا من استرق السمع. قال: فسمع إبليس تحاور الملائكة في شأن أيوب فأدركه الحسد فقال: يا رب إنك أنعمت على عبدك أيوب فشكرك وعافيته فحمدك ثم لم تجرّبه بشدة ولا بلاء، وأنا زعيم إن ضربته بالبلاء ليكفرن بك. فقال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ماله. فجمع إبليس عفاريت الجن وقال لهم: ماذا عندكم من القوة فإني سلطت على مال أيوب. فقال عفريت أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من النار فأحرقت كل شيء فقال إبليس: فأت الإبل ورعاتها. فذهب ولم يشعر الناس حتى ظهر من تحت الأرض، إعصار لا يدنو منها شيء إلا احترق، فلم يزل يحرقها ورعاتها حتى أتى على آخرها. فذهب إبليس على شكل أولئك الرعاء إلى أيوب فوجده قائما يصلي، فلما فرغ من الصلاة قال: يا أيوب هل تدري ما الذي صنع ربك؟ وأخبره بحال الإبل ورعاتها. فقال أيوب: إنها ماله إذا شاء نزعه. فقال إبليس: إن الناس منهم من يقول ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور، ومنهم من يقول: لو كان إلهه يقدر على شيء لمنع من وليه. ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به أعداءه ويفجع به أصدقاءه فقال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني، خرجت من بطن أمي عريانا وأضجع في التراب عريانا وأحشر إلى الله عريانا، ولو علم الله عريانا، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيدا وأوجر فيك. فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئا فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت روحه. فقال إبليس: فأت الغنم ورعاءها فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاؤها، فخرج إبليس متمثلا بقهرمان الرعاة إلى أيوب فقال له القول الأول، ورد عليه أيوب الرد الأول، فرجع إبليس صاغرا فقال له عفريت آخر: عندي من القوة إذا شئت تحولت رياحا عاصفة أقلع كل شيء أتيت عليه قال: فاذهب إلى الحرث والثيران، فأتاهم فأهلكهم وأخبر إبليس به أيوب فرد عليه مثل الرد الأوّل، فجعل إبليس يصيب أمواله شيئا فشيئا حتى أتى على جميعها. فلما رأى إبليس صبره على ذلك صعد إلى السماء وقال: يا إلهي هل أنت مسلطي على ولده فإنها الفتنة الكاملة. فقال الله: انطلق فقد سلطتك، فأتى أولاد أيوب في قصرهم فقلب القصر عليهم ثم جاء إلى أيوب متمثلا بالمعلم وهو جريح مشدوخ الرأس يسيل دمه ودماغه فقال: لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل جميع أدمغتهم من أنوفهم لتقطع قلبك! فلم يزل يقول هذا ويرققه حتى رق أيوب وبكى وقبض قبضة من التراب فحثاها على رأسه، فاغتنم ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 إبليس. ثم لم يلبث أيوب حتى استغفر واسترجع فصعد إبليس ووقف موقفه وقال: إلهي إنما هون أيوب خطب المال والولد لعلمه أنك تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده وإني لك زعيم لو ابتليته في جسده ليكفرن بك. فقال تعالى: انطلق فقد سلطتك على جسده وليس لك سلطان على عقله وقلبه ولسانه. فأتاه فنفخ في منخره حين هو ساجد فاشتعل منه جسده وخرج من فرقه إلى قدمه ثآليل، وقد وقعت فيه حكة لا يملكها فكان يحك بأظفاره حتى كشطت أظفاره، ثم حكها بالمسوح الخشنة ثم حكها بالفخار والحجارة، ولم يزل يحكها حتى تقطع لحمه وتغير وأنتن فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشا، ورفضه الناس كلهم غير امرأته رحمة بنت إفرايم بن يوسف عليه السلام فكانت تصلح أموره. ثم إن وهبا طول في الحكاية إلى أن قال: إن أيوب عليه السلام أقبل على الله تعالى مستغيثا متضرعا إليه قائلا: يا رب لأي شيء خلقتني يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي، يا ليتني كنت عرفت الذي أذنبته والعمل الذي عملت حتى صرفت وجهك الكريم عني. ألم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليا وللأرملة قيما. إلهي أنا عبد ذليل فإن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي. جعلتني للبلاء غرضا وسلطت عليّ ما لو سلطته على جبل لضعف عن حمله. إلهي تقطعت أصابعي وسقطت لهواتي وتناثر شعري وذهب المال وصرت أسأل اللقمة فيطعمني من يمن بها عليّ ويعيرني بفقري وهلاك أولادي. قال الإمام أبو القاسم الأنصاري في جملة هذا الكلام: ليتك لو كرهتني لم تخلقني. ثم قال: ولو كان ذلك صحيحا لاغتنمه إبليس فإن قصده أن يحمله على الشكوى وأن يخرجه من زمرة الصابرين. قلت: إن غرض إبليس لا يحصل بمجرد الشكوى وإنما كان غرضه أن يرتد أيوب عليه السلام ولهذا قال سفيان بن عيينة: من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد ذلك جزعا إذا كان في شكواه راضيا بقضاء الله تعالى إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء. ألم تسمع قول يعقوب عليه السلام: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف: 86] . ومما حكاه الله سبحانه من شكوى أيوب قوله أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ الضر بالفتح الضرر في كل شيء، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال. قال جار الله: ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة عليه وذكر ربه بما يجب أن يصدر دعاء الرحمة عنه ولم يصرح بالمطلوب، وحسن الطلب باب من أبواب الأدب. يحكى أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت: يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصا. فقال لها: ألطفت في السؤال لا جرم لأردنها تثب وثبة الفهود وملأ بيتها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 حبا. وفي قوله: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ رمز إلى أنه جواد مطلق لا يرحم لمنفعة تعود إليه، ولا لمضرة يدفعها عنه، ولا يطلب شيئا، ولا يجلب مدحا وكل رحيم سواه. فأما رحمته لغرض من الأغراض أو لرقة طبع ونحو ذلك على أن تلك الرحمة أيضا تتوقف على داعية يخلقها الله فيه، والآفات والآلام التي تراها في هذا العالم كلها مستندة إلى صفة قهره التي لا بد لكل ملك منه أو مستتبعة لمصالح وغايات لا يعلمها إلا هو، وإنها ضرورية في الوجود لاشتمالها على خيرات أكثر من الشرور. واختلف العلماء في السبب الذي لأجله دعا الله أيوب فعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أيوب عليه السلام بقي في البلاء ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان فدخلا عليه ذات يوم فوجدا ريحا فقالا: لو كان أيوب عند الله خير ما بلغ إلى هذه الحالة. قال: فما شق على أيوب شيء مما ابتلي به مثل ما سمع منهما. فقال: اللهم إن كنت تعلم إني لم أبت شبعان وأنا أعلم بمكان جائع فصدق وهما يسمعان ثم خر أيوب ساجدا. وقال: اللهم إني لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي فكشف الله ما به. وقال الحسن: مكث أيوب بعد ما ألقي على الكناسة سبع سنين وأشهرا ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته صبرت معه وكانت تأتيه بالطعام. وكان أيوب مواظبا على حمد الله والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه فصرخ إبليس صرخة جزعا من صبر أيوب فاجتمع جنوده من أقطار الأرض وقالوا له: ما خبرك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فإنه لا يزيد بالبلاء إلّا صبرا وحمدا لله تعالى. فقالوا له: أين مكرك أين عملك الذي أهلكت به من مضى؟ من أين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال: من قبل امرأته. قالوا: فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها لأنه لا يقربه أحد غيرها. قال: أصبتم. فانطلق حتى إذا أتى امرأته فتمثل لها في صورة رجل فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت: هو هذا يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده. فظن إبليس أنها جزعت فطمع فيها ووسوس إليها وذكر لها ما كان بها من النعم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه. قال الحسن: فصرخت فلما صرخت علم أن قد جزعت فأتاها بسخلة وقال: لتذبح هذه باسم أيوب ويبرأ. قال: فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك أين المال وأين الماشية؟ أين الولد؟ أين الصديق؟ أين اللون؟ أين الحسن؟ أين جسمك الذي قد بلى وقد صار مثل الرماد وتتردد فيه الدواب؟ اذبح هذه السخلة واسترح، فقال أيوب: أتاك عدوّ الله ونفخ فيك ويلك من أعطانا الذي تذكرين من المال والولد والصحة؟ قالت: الله. قال: كم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة. قال: فمنذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟ قالت: منذ سبع سنين وأشهر. قال: ويلك ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 أنصفت ربك ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة! والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة، أمرتني أن نذبح لغير الله وحرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئا من طعامك وشرابك الذي تأتيني به فطردها. فلما نظر أيوب في شأنه وليس عنده لا طعام ولا شراب ولا صديق وقد ذهبت امرأته خر ساجدا وقال أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فقال: أرفع رأسك فقد استجبت لك ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص: 42] فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دابة. إلا سقطت ثم ضرب رجله مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وقام صحيحا، وعاد إليه شبابه وجماله حتى صار أحسن مما كان حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادا من ذهب فجعل يضمه بيده فأوحي إليه: يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها. قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف. ثم إن امرأته قالت: هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت وتأكله السباع لأرجعن إليه. فلما رجعت ما رأته في تلك الكناسة ولا تلك الحالة فجعلت تطوف وتبكي فدعاها أيوب وقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة. فقال: تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: وهل يخفى على أحد يراه. فتبسم قائلا: أنا هو. فعرفته بضحكه فاعتنقته ثم قال: إنك أمرتني أن أذبح لإبليس وإني أطعت الله وعصيت الشيطان فعافاني الله ببركة ذلك. الرواية الثالثة: قال الضحاك ومقاتل: بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات، فلما غلب أيوب إبليس ذهب إبليس إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس كمراكب الناس وقال لها: أنت صاحبة أيوب؟ قالت: نعم. قال: فهل تعرفيني؟ قالت: لا. قال: أنا إله الأرض، أنا صنعت بأيوب ما صنعت وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك جميع ما لكما من مال وولد فإن ذلك عندي. قال وهب: وسمعت أنه قال: لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسم الله تعالى لعوفي مما فيه من البلاء. وأيضا قال لها: لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال والولد وأعافي زوجك. فرجعت إلى أيوب فأخبرته فقال: أتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم لئن عافاني الله لأجلدنك مائة جلدة وقال عند ذلك مَسَّنِيَ الضُّرُّ يعني من طمع إبليس في سجودي وسجود زوجتي له. الرواية الرابعة قال إسماعيل السدي: إن إبليس تمثل للقوم في صورة بشر وقال: تركتم أيوب في قريتكم أعدى إليكم ما به من العلة، فأخرجوه إلى باب البلد ثم قال لهم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 إن امرأته تدخل عليكم وتعمل وتمس زوجها أما تخافون أن تعدي إليكم علته، فحينئذ لم يستعملها أحد فتحيرت وكان لها ثلاث ذوائب فعمدت إلى إحداها وقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزا ولحما فقال أيوب: من أين هذا؟ قالت: كل فإنه حلال. فلما كان من الغد لم تجد شيئا فباعت الثانية، وكذلك فعلت في اليوم الثالث وقالت: كل فإنه حلال. فقال: لا آكل أو تخبريني فأخبرته فبلغ ذلك من أيوب ما الله به عليم فقال: رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ. والرواية الخامسة قيل: سقطت دودة من فخذه فرفعها وردها إلى موضعها وقال: قد جعلني الله طعمة لك فعضته عضة شديدة فقال: مَسَّنِيَ الضُّرُّ فأوحى الله إليه: لولا أني جعلت في كل شعرة منك صبرا لما صبرت. واعلم أن مس الضر هاهنا مطلق إلا أنه ورد في «ص» مقيدا وذلك قوله أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ [ص: 41] فصح أن يكون سندا لهذه الروايات إلا أن الجبائي طعن فيها بأن الشيطان كيف يقدر على إحداث الأمراض والأسقام والقادر على ذلك قادر على خلق الأجسام وحينئذ يكون إلها. وأيضا إن هذه التأثيرات تنافي قوله سبحانه حكاية عنه وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ [إبراهيم: 22] والجواب أنه كان بإذن من الله كما حكينا فلا محذور ولا تنافي. وقال: ومن البعيد أنه لم يسأل الله إلا عند أمور مخصوصة والجواب أن الأمور مرهونة بأوقاتها. وقال: انتهاء أمراض الأنبياء إلى حد التنفير من القبول غير جائز. والجواب المنع ولا سيما بشرط العافية في العاقبة. قوله سبحانه فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ مجمل يقتضي إعادته إلى ما كان في بدنه وأحواله. وقوله: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ تفصيل لذلك المجمل وفيه قولان: الأول قال ابن عباس وابن مسعود وقتادة ومقاتل والكلبي: إن الله تعالى أحيا له أهله يعني أولاده بأعيانهم. والثاني قال الليث: أرسل مجاهد إلى عكرمة وسئل عن الآية فقال: أراد أهلك لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا. فقد روي أن زوجته ولدت بعد ذلك ستة وعشرين ابنا له. ثم بين الحكمة في ذلك الابتلاء ثم الاستجابة بقوله رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا لأيوب وَذِكْرى لغيره من العابدين للرحمن أو الرحمة والذكرى كلاهما لِلْعابِدِينَ لكي يتفكروا فيصبروا كما صبر حتى يتابوا في الدارين كما أثيب. وإنما خص الرحمة والتذكرة بالعابدين لأنهم هم المنتفعون بذلك لا الذين يعبدون الهوى والشيطان. قال أهل البرهان: إنما قال في هذه السورة رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وقال في «ص» رَحْمَةً مِنَّا [ص: 43] لأنه بالغ هاهنا في الدعاء بزيادة قوله: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فبالغ في الاستجابة لأن لفظ «عند» يدل على مزيد التخصيص وأنه سبحانه تولى ذلك من غير واسطة. وحين ذكر صبر أيوب وانقطاعه إليه ذكر غيره من الأنبياء المشهورين بالصبر منهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 إسماعيل عليه السلام، صبر على الانقياد للذبح وعلى الإقامة بواد لا زرع فيه ولا ضرع، وصبر على بناء البيت ورفع قواعده، فلا جرم أخرج الله ببركة ذلك من صلبه خاتم النبيين، ومنهم إدريس وقد مر ذكره في سورة مريم. قال ابن عمر: بعث إلى قومه داعيا لهم إلى الله فأبوا فأهلكهم الله ورفع إدريس إلى السماء. ومنهم ذو الكفل قيل: هو زكريا وعلى هذا فقد تقدمت قصته أيضا. وفي هذا القول نظر، لأن قصة زكريا تجيء عن عقيب فيلزم التكرار. وقيل: هو إلياس وكان خمسة من الأنبياء ذوي اسمين: إسرائيل ويعقوب، وإلياس وذو الكفل، وعيسى والمسيح، ويونس وذو النون، ومحمد وأحمد. وقيل: يوشع بن نون سمي بذلك لأنه ذو الحظ من الله دينا ودنيا، أو لأنه كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم. وقال أبو موسى الاشعري ومجاهد: إنه لم يكن نبيا ولكن كان عبدا صالحا، وقال الحسن والأكثرون: إنه من الأنبياء وهذا أقرب لأنه معطوف عليهم معدود فيما بينهم. يروى عن ابن عباس أن اليسع أو نبيا آخر في بني إسرائيل قربت وفاته فأراد أن يستخلف رجلا على الناس فقال: من يقبل مني خلافتي على أن يصلي بالليل ويصوم بالنهار ويقضي بين الناس فلا يغضب؟ فقام رجل وقال: أنا أتكفل لك هذه الثلاثة فدفع إليه ملكه ووفى بما ضمن، فحسده إبليس فأتاه وقت القيلولة فقال: إن لي غريما قد ظلمني حقي وقد دعوته إليك فأبى فأرسل معي من يأتيك به، فأرسل معه وقعد حتى فاتته القيلولة وعاد إلى صلاته وصلى ليله إلى الصباح، ثم أتاه من الغد وقال مثل ذلك حتى شغله عن القيلولة وهكذا في اليوم الثالث. وقيل: إنه في اليوم الثالث قال للبواب: قد غلب عليّ النعاس فجاء إبليس فلم يأذن له البواب فدخل من كوة البيت ودق الباب من داخل، فاستيقظ الرجل وعاتب البواب فقال: أما من قبلي فلم تؤت فقام إلى الباب، فإذا هو مغلق وإبليس على صورة شيخ في البيت فقال له: أتنام والخصوم على الباب فعرفه وقال: إبليس؟ قال: نعم. أعييتني في كل شيء فعلت هذه الأفعال لأغضبك فعصمك الله مني فسمي ذا الكفل لأنه قد وفى بالكفالة. ولا خلاف أن ذا النون هو يونس لأن النون هو السمكة والاسم إذا دار بين أن يكون لقبا محضا وبين أن يكون مقيدا فحمله على المقيد أولى. واختلفوا في أن وقوعه في بطن الحوت كان قبل اشتغاله بأداء الرسالة أو بعد. أما القول الأوّل فعن ابن عباس أن يونس وقومه كانوا من فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفا وبقي سبطان ونصف، فأوحى الله تعالى إلى شعيب عليه السلام أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له حتى يوجه نبيا قويا فإني ألقي في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فقال له الملك: من ترى وكان في مملكته خمسة من الأنبياء؟ فقال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 يونس بن متى. فإنه قويّ أمين. فدعاه الملك وأمره أن يخرج فقال له يونس: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا. قال: فههنا أنبياء غيري فألحوا عليه فخرج مغاضبا للملك ولقومه فأتى بحر الروم فوجد قوما هناك وسفينة فركب معهم فاضطربت السفينة حتى كادوا أن يغرقوا فقال الملاحون: هاهنا رجل عاص أو عبد آبق لأن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح، إلا وفيها رجل عاص، ومن عادتنا في مثل هذا البلاء أن نقترع فمن خرجت له القرعة ألقيناه في البحر حتى تسلم السفينة. فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة كلها على يونس. فقال: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق وألقى نفسه في البحر فابتلعه حوت، فأوحى الله تعالى إلى الحوت لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنا له ولم أجعله طعاما لك. ثم نجاه الله من بطن الحوت فنبذه بالعراء كالفرخ المنتوف ليس عليه شعر ولا جلد، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرتها حتى اشتد، فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس فقيل له: أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب سلامتهم؟. فتوجه يونس نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فقال لملكهم: إن الله أرسلني إليك لترسل معي بني إسرائيل. فقالوا: ما نعرف ما تقول ولو علمنا أنك صادق لفعلنا ولقد أتيناكم في دياركم وسبيناكم، فلو كان كما تقول لمنعنا الله منكم. فطاف فيهم ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله إليه قل لهم: إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب. فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه. فقال علماؤهم: اطلبوه فإن كان في المدينة فليس ما ذكره بشيء، وإن كان قد خرج فهو كما قال. فطلبوه فلم يجدوه، فلما أيسوا أغلقوا باب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم وغنمهم وعزلوا الوالدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات، فلما طلع الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها وصاح الصبيان وثغت المواشي فرفع الله عنهم فبعثوا إلى يونس وآمنوا به وبعثوا معه بني إسرائيل. القول الثاني وعليه أكثر المفسرين: أن قصة الحوت كانت بعد دعائه أهل نينوى وتبليغه رسالة الله إليهم كما مر في سورة يونس. واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه القصة من وجوه: الأوّل أنه ذهب مغاضبا لربه هكذا فسره ابن عباس وابن مسعود والحسن والشعبي وسعيد وابن جبير ووهب واختاره ابن قتيبة ومحمد بن جرير، ومن المعلوم أن مغاضبة الله من أعظم الذنوب. ولئن سلم أنه كان مغاضبا لقومه فذلك أيضا محظور لأنه كان يجب أن يصبر معهم. الثاني قوله فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ وهو شك في قدرة الله. الثالث: اعترافه بأنه من الظالمين والظلم من صفات الذم. الرابع: إخبار الله تعالى في موضع آخر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 بقوله فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات: 142] والمليم ذو الملامة. الخامس: قوله للنبي صلى الله عليه وسلم وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [القلم: 42] وقال في موضع آخر فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ [الأحقاف: 35] والجواب أنه عليه السلام غضب لأجل ربه أنفة لدينه وبغضا للكفر وأهله، وغاضب قومه بمفارقته كي يخوّفهم حلول العقاب عليهم عندها. فغاية ما في الباب أن تلك المغاضبة ترك الأولى وهو الصبر على مشاق الرسالة بعد أدائها إلى أن يأذن الله له في المهاجرة. وعن الثاني أن معنى. لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ لن نضيق كقوله اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد: 26] وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق: 7] فهو من القدر لا من القدرة، ويجوز أن يكون من القدر بمعنى القضاء. قال الزجاج: يقال قدر الله الشيء قدرا وقدره تقديرا. والمعنى فظن أن لن نقضي عليه بشدة وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وابن عباس في رواية واختاره الفراء والزجاج. يقال: قدر الله عليه الضراء وقدر له السراء كما يقال: قدر القاضي على فلان أوله. ولئن سلمنا أنه من القدرة فالمراد القدرة بالفعل أي فظن أن لن نعمل فيه قدرتنا، فالقدرة غير وإعمالها غير، فظن انتفاء الأول كفر دون الثاني أو هو وارد على سبيل التمثيل والاستعارة أي كانت حاله ممثلة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر الله، أو هو استفهام بمعنى التوبيخ معناه أفظن أن لن نقدر عليه: عن ابن زيد. سلمنا الكل لكن هذه الواقعة لعلها قبل رسالته كما حكينا ومثل هذا الظن في حق غير الأنبياء لا يبعد بوسوسة الشيطان، ولكن المؤمن يرده بعد ذلك بالبرهان. وعن البواقي أن الكل راجع إلى ترك الأولى ونحن لا ننكر ذلك وكفى بذكر يونس في عدد الأنبياء الصابرين الصالحين دليلا على أنه لم يصدر عنه شيء ينافي عصمته والله تعالى أعلم. أما قوله فَنادى فِي الظُّلُماتِ فمعنى الجمع راجع إلى شدة الظلمة وتكاثفها أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة: 257] وقيل: ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. وقيل: ابتلع حوته حوت أكبر منه فحصل في ظلمتي بطن الحوتين وظلمة البحر. وقيل: إن الحوت إذا عظم غوصه في البحر كان ما فوقه من البحر ظلمة في ظلمة. ومعنى أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أي لا إله إلا أنت أو بأنه لا إله إلا أنت سُبْحانَكَ تنزيه له عن كل النقائص. منها الظن المذكور على أي وجه فرض، ومنها العجز عن تخليصه، ومنها خلو ذلك الفعل عن حكمة كاملة. إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ بالفرار من غير إذن وأنا الآن من التائبين وفيه من حسن الطلب ما فيه فلذلك قال فَاسْتَجَبْنا لَهُ ثم بين الاستجابة بقوله وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ أي من غمه بسبب كونه في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 بطن الحوت وبسبب خطيئته وَكما أنجينا يونس من كرب الحبس إذ دعانا كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ من كل كرب إذا استغاثوا بنا. عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له» . وعن الحسن: ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم. وقد بقي في الآية بحث لفظي وهو أن بعض أهل العربية غلطوا عاصما في قراءته نجي بالتشديد والنون لا تدغم في الجيم. واستخرج بعضهم له وجها وهو أن يكون نجي فعلا ماضيا مجهولا من التنجية لكنه أرسل الياء وأسند الفعل إلى المصدر المضمر ونصب المؤمنين بذلك المصدر أي نجى نجاء المؤمنين كقولك «ضرب الضرب زيدا» ثم ضرب زيدا على إضمار المصدر، وأنشد ابن قتيبة حجة لهذه القراءة: ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا وقال أبو علي الفارسي وغيره من الأئمة المحققين: إن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر وإنما الوجه الصحيح في قراءة عاصم أن يحمل ذلك على الإخفاء، فلعل الراوي التبس عليه فظنه إدغاما. ثم بين انقطاع زكريا وتبتله إليه رغبة فيمن يؤنسه ويعينه في أمر دينه ودنياه وإن انتهى الحال به وبزوجته في الكبر إلى حد اليأس من ذلك عادة. وفي قوله وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ وجهان: أحدهما أنه ثناء على الرب بأن مآل كل الأمور إليه فيكون مؤكدا لما فوض إليه أمر الولد. والثاني أنه أراد إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث. وفي إصلاح زوجه وجوه: منها أنها جعلت صالحة للولادة بعد عقرها. ومنها أنها جعلت حسنة الخلق وكانت سيئة الخلق، ولا شك أن حسن خلق الزوج نعمة عظيمة. ومنها أن الإصلاح يتعلق بأمر الدين كأنه سأل ربه المعونة على الدين والدنيا بالولد والأهل جميعا. ويرد على الوجه الأول أن إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد، والجواب أن الواو لا تفيد الترتيب أو أراد بالهبة إرادة الهبة. أما الضمير في قوله إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ فقد قيل: إنه عائد إلى زكريا وولده وأهله. وقال جار الله: إنه للمذكورين من الأنبياء عليهم السلام يريد أنهم ما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم إلا لمسارعتهم في تحصيل الخيرات، وهذا من أجلّ ما يمدح به المؤمن لأنه يدل على الجد والرغبة في الطاعة. وَيَدْعُونَنا رَغَباً في ثوابنا وَرَهَباً عن عقابنا. ومعنى خاشِعِينَ قال الحسن: ذللا لأمر الله. وقيل: متواضعين. وعن مجاهد: الخشوع الخوف الدائم في القلب. وفي تقديم الجار والمجرور على خاشِعِينَ إشارة إلى أنهم لا يخشون أحدا إلا الله. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه الذي إذا أرخى ستره وأغلق بابه رأى الله منه خيرا ليس هو الذي يأكل خشبا أي علقا ويلبس خشنا ويطأطىء رأسه. ولما فرغ من ذكر الرجال الكاملين ذكر من هي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 سيدة نساء العالمين فمدحها بإحصان فرجها إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا حتى إنها منعت جبرائيل جيب درعها قبل أن عرفته. والنفخ فيها عبارة عن إحياء عيسى في بطنها أي فنفخنا الروح في عيسى فيها كقول الزامر «فنفخت في بيت فلان» أي نفخت في المزمار في بيته، أو المراد وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا- وهو جبرائيل- لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها. وهذا البيان هو المراد في سورة التحريم فلذلك قال فَنَفَخْنا فِيهِ [التحريم: 12] أراد فرج الجيب أو غيره. وإنما قال وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ لأنه أراد أن مجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير أب. التأويل: الإشارات المفهومة من قصص الأنبياء أكثرها مرّ فلنذكر ما يختص بالمقام. منها قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ أي الله الكبير لأن كسر الأصنام ليس من طبيعة الإنسانية بل من طبيعتها أن تنحتها، فإن صدر من أحدهم كسرها فإنما ذلك بتوفيق الله وتأييده. فقوله هذا بدل الكل من الضمير في فعله: قالوا أحرقوه إذا أراد الله أن يكمل عبدا من عباده المخلصين فداه خلقا عظيما كما لو أراد استكمال حوت في البحر فداه كثيرا من الحيتان الصغار، فلما أراد تخليص جسد الخلة من غش البشرية جعل نمرود وقومه فداء له حتى أجمعوا على تحريقه ولم يعلموا أن تلك النار له نور. وذلك العذاب له روح وريحان، لأن نار العشق قد أحرقت أنانيته حتى لم ير غير الله بل لم يبق إلا هو فلم يمكن للنار أن تتصرف فيه فوقع قوله: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ تمثيلا لهذا المعنى. بالنار خوفني قومي فقلت لهم ... النار ترحم من في قلبه نار ونجينا إبراهيم الروح ولوط القلب من أرض البشرية إلى أرض الروحانية المتبركة المشرفة المشرقة لتجلي الذات والصفات. وَنَجَّيْناهُ من قرية القالب. الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ بالأوصاف البهيمية والسبعية وَداوُدَ الروح وَسُلَيْمانَ القلب إِذْ يَحْكُمانِ فِي شأن حرث الدنيا إِذْ نَفَشَتْ أي دخلت فيه في ظلمة ليل البشرية غَنَمُ الْقَوْمِ أي الصفات البشرية من غير راعي العقل فأفسدت الحرث بالإفراط والإسراف. فحكم الروح بانجذابه إلى عالمه بالكلية أن يمنع الأوصاف عن التصرف فيها مطلقا. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ القلب لكونه متقلبا في طودي الروح والجسد أن يحكم بمنع التصرف فيها إلى أن يعود الحرث من حالة الإسراف فيه المؤدي إلى الفساد إلى حالة التوسط والاعتدال الذي هو المعتبر في باب الكمال والإكمال جمعا بين المصلحتين ورعاية للجانبين. وَسَخَّرْنا مَعَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 داوُدَ الْجِبالَ وهي الأعضاء والجوارح التي فيها ثقل وكثافة يُسَبِّحْنَ بتسبيحه وَالطَّيْرَ وهن القوى الحيوانية السيارة بل الطيارة بين فضاء القلب والقالب. هذا في الباطن، وأما في الظاهر فإذا استولى سلطان الذكر على أجزاء البدن انعكس نوره في مرآة القلب إلى ما يحاذيها من الجمادات والحيوانات فيذكر ما يذكره كالحصاة سبحت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن بعض الصحابة أنه قال: كنا نأكل الطعام ونسمع تسبيحه وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ إن الله تعالى ألهم داود الروح كيفية إلانة القلب الذي هو في القساوة بمنزلة الحديد حتى يتولد من ذلك القلب أوصاف حميدة تحصن الإنسان من بأس الأعداء التي هي النفس والهوى والشيطان. وسخرنا لِسُلَيْمانَ القلب ريح الروح الحيواني فإنه مركب الروح الإنساني به يتهيأ له السير إلى مقام بورك له فيه وَمِنَ الشَّياطِينِ وهم الأوصاف النفسية مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ في بحر الحديد فيستخرجون درر الفضائل الإنسية وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ من الوسائط والوسائل إلى تلك الفضائل: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ من أن يزيغوا عن سواء السبيل ويميلوا عن جادة الشريعة وقانون الطريقة. قال أهل التحقيق: إذا بلغ الإنسان مبلغ الرجال البالغين سخر الله له بحسب مقامه السفليات والعلويات كما سخر لسليمان الريح والجن والشياطين والطير ومن العلويات الشمس حين ردت لأجل صلاته، وسخر لداود عليه السلام الجبال والطير والحديد والأحجار التي قتل بها جالوت، وسخر لنبينا جميع السفليات والعلويات حتى قال «زويت لي الأرض» «1» وقال «أوتيت مفاتيح خزائن الأرض» «2» وكان الماء ينبع من بين أصابعه. وقال «نصرت بالصبا» وكانت الأشجار تسلم عليه وتسجد له وتنقلع بإشارته من مكانها وترجع، والحيوانات تتكلم معه وتشهد بنبوته. وقال «أسلم شيطاني على يدي» «3» . وأما من العلويات فقد انشق القمر بإشارته وسخر له البراق وجبرائيل، وعبر السموات والجنة والنار والعرش والكرسي إلى مقام قاب قوسين أو أدنى. وَأَيُّوبَ القلب المبتلى بديوان الهواجس والوساوس الذي فارقه أوصافه الحميدة وأخلاقه الشريفة لشدة تألمه بالعلائق البدنية وعوائق الأمور الدنيوية فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ بأن قلنا   (1) رواه مسلم في كتاب الفتن حديث 19. أبو داود في كتاب الفتن باب 1 الترمذي في كتاب الفتن باب 14. ابن ماجة في كتاب الفتن باب 9. أحمد في مسنده (5/ 278) . (2) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 122. مسلم في كتاب المساجد حديث 6، 7. النسائي في كتاب الجهاد باب 1. الدارمي في كتاب المقدمة باب 14. أحمد في مسنده (2/ 264، 450) . (3) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث 69، 70. الترمذي في كتاب الرضاع باب 17. النسائي في كتاب النساء باب 4. الدارمي في كتاب الرقاق باب 35، 66. أحمد في مسنده (1/ 257) بلفظ «إلا أن الله أعانني عليه فأسلم» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 له ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص: 42] نظيره وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ [طه: 69] لينبع ماء حياة العلم والمعرفة فتسلم من تعلقات الكونين المؤذية للقلب والروح إِذْ ذَهَبَ من عالمه مُغاضِباً لغيره من المجردات فألقي في بحر الدنيا فالتقمه حوت النفس الأمارة بالسوء، وابتلع حوت النفس حوت القالب فَنادى في ظلمات حجب النفس والقالب والدنيا وَزَكَرِيَّا الروح وَهَبْنا لَهُ يَحْيى القلب وَأَصْلَحْنا لَهُ زوج القالب وَيَدْعُونَنا رَغَباً في الفناء فينا وَرَهَباً من البقاء بأنانيتهم وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أما القالب فبأعمال الشريعة، وأما النفس فبتهذيب الأخلاق، وأما القلب فبالاطمئنان بذكر الله، وأما السر فباجتهاده في كشف الأسرار، وأما الروح فببذل الوجود في طلب المعبود، وأما الخفي فبإفنائه في الله وبقائه بالله. وَمَرْيَمَ النفس الَّتِي أَحْصَنَتْ قلبها عن تصرفات الكونين فأحييناها بالحياة الأبدية. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 92 الى 112] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 القراآت: وحرم بكسر الحاء: حمزة وعلي وعاصم غير حفص وأبي زيد عن المفضل فتحت بالتشديد: ابن عامر ويزيد ويعقوب. لا يحزنهم بضم الياء وكسر الزاء يزيد نَطْوِي بضم التاء الفوقانية وفتح الواو والسَّماءَ بالرفع: يزيد. لِلْكُتُبِ على الجمع: حمزة وعلي وخلف وحفص بَدَأْنا مثل أَنْشَأْنا قال بالألف على حكاية قول الرسول رَبِّ بحذف الياء اكتفاء بالكسرة: حفص غير الخراز رب بضم الباء على أنه مبتدأ احكم على صيغة التفضيل. يزيد عن يعقوب الباقون رَبِّ احْكُمْ يصفون على الغيبة: المفضل وابن ذكوان في رواية. الوقوف: واحِدَةً ز لأن المقصود من قوله أَنَا رَبُّكُمْ قوله فَاعْبُدُونِ وكان الكلام متصلا فَاعْبُدُونِ هـ بَيْنَهُمْ ط راجِعُونَ هـ لِسَعْيِهِ ج لاختلاف الجملتين كاتِبُونَ هـ لا يَرْجِعُونَ هـ يَنْسِلُونَ هـ كَفَرُوا ط لإضمار القول ظالِمِينَ هـ جَهَنَّمَ ط وارِدُونَ هـ ما وَرَدُوها ط خالِدُونَ هـ فِيها ط لا يَسْمَعُونَ هـ الْحُسْنى لا لأن ما بعده خبر «إن» مُبْعَدُونَ هـ لا لأن ما بعده خبر بعد خبر حَسِيسَها ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف خالِدُونَ هـ ج لاحتمال الجملة بعده أن تكون صفة أو استئنافا الْمَلائِكَةُ ط لأن التقدير قائلين هذا يومكم تُوعَدُونَ هـ لِلْكُتُبِ ط لأن الجار يتعلق بما بعده نُعِيدُهُ ط لحق المضمر أي وعدنا وحقا عَلَيْنا ط فاعِلِينَ هـ الصَّالِحُونَ هـ عابِدِينَ هـ ط لاختلاف الجملتين لِلْعالَمِينَ هـ واحد ج للاستفهام مع الفاء مُسْلِمُونَ هـ عَلى سَواءٍ ط لابتداء النفي تُوعَدُونَ هـ تَكْتُمُونَ هـ حِينٍ هـ بِالْحَقِّ ط لأن ما بعده مبتدأ خارج عن المقول، ومن قرأ ربي احكم فوقفه مجوز لنوع عدول من الواحد إلى الجمع تَصِفُونَ هـ. التفسير: لما فرغ من قصص الأنبياء أراد أن يذكر ما استقر عليه أمر الشرائع في آخر الزمان فقال إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ وسيرتكم، فالأمة الدين والطريقة لأنه أصل وقانون يرجع إليه. وللتركيب دلالة على ذلك وهذا إشارة إلى ملة الإسلام أي إن هذه الملة هي طريقتكم وسيرتكم التي يجب أن تكونوا عليها حال كونها طريقة واحدة غير مختلفة. وَأَنَا رَبُّكُمْ لا غيري فَاعْبُدُونِ والخطاب للناس كافة، وكان الظاهر أن يقال بعده وتقطعتم أمركم بينكم أي جعلتم أمر دينكم بينكم قطعا كما يقسم الشيء بين الجماعة فيصير لهذا نصيب ولهذا نصيب فصرتم فرقا مختلفة وأحزابا شتى، إلا أنه عدل من الخطاب إلى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه يقبح أمرهم إلى غيرهم فيقول: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء؟ عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون وخلصت فرقة وأن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة وتخلص فرقة واحدة قالوا: يا رسول الله ومن الفرقة الناجية؟ قال: الجماعة الجماعة» «1» فهذا الحديث مفسر للآية من حيث إن هذه الأمة يجب أن يكونوا على كلمة واحدة. طعن بعضهم في الحديث أنه إن أراد بالاثنتين والسبعين فرقة أصول الأديان فإنها لا تبلغ هذا العدد، وإن أراد الفروع فإنها أضعاف هذا العدد. وأجيب بأنه أراد ستفترق أمتي هذا العدد في حال ما، وهذا لا ينافي كون العدد في بعض الأحوال أنقص أو أزيد. قال أهل البرهان: إنما قال في هذه السورة فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا بالواو وفي «المؤمنين» فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا [الآية: 53] بالفاء لأن الخطاب هاهنا أعم والعبادة أعم من التقوى. وأيضا الخطاب يتناول الكفار وقد وجد منهم التقطع قبل هذا القول، وفي سورة المؤمنين الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بدليل قوله يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [الآية: 51] ثم قال: فَتَقَطَّعُوا [الآية: 53] أي ظهر منهم أي من أمتهم التقطع بعد هذا القول ولأن التقطع منهم أغرب أكده هناك بقوله زُبُراً وفي قوله كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ وعيد عظيم للفرق المختلفة. ثم فصل مآل لهم بقوله فَمَنْ يَعْمَلْ الآية والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه في قوله فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء: 19] وإنما لم يقل «فلا يكفر سعيه» لأن نفي الجنس أبلغ فإن نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها. وفي قوله وَإِنَّا لَهُ أي لذلك السعي كاتِبُونَ مبالغة أخرى فإن المثبت في الصحيفة أبعد من النسيان والغلط كما قيل: قيدوا العلم بالكتابة. ولا سيما إذا كان الكاتب ممن لا يجوز عليه السهو والنسيان. قال المفسرون: معناه حافظون لنجازي عليه. وقيل: مثبتون في أم الكتاب أو في صحف الأعمال. هذا حال السعداء وأما أحوال أضدادهم فذلك قوله وَحَرامٌ ومن قرأ حرم فإنه فعل بمعنى مفعول. والتركيب يدور على المنع أي ممتنع أو ممنوع وهذا خبر لا بد له من مبتدأ وذلك قوله أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ أو غير ذلك. والرجوع إما الرجوع عن الشرك إلى الإسلام أو الرجوع إلى الدنيا أو إلى الآخرة. وعلى الأول إما أن تكون «لا» زائدة أقحمت للتأكيد ومعنى الآية ممتنع على أهل قرية عزمنا على إهلاكها أو قدرنا إهلاكها أن يرجعوا أو يتوبوا إلى أن تقوم الساعة والمراد تصميمهم على الكفر. وإما أن تكون معيدة ولكن الحرام بمعنى الواجب تسمية لأحد الضدين باسم الآخر باشتراكهما في المنع إلا أن الوجوب منع عن   (1) رواه أبو داود في كتاب السّنة باب 1. الترمذي في كتاب الإيمان باب 18. ابن ماجة في كتاب الفتن باب 17. أحمد في مسنده (2/ 322) (3/ 120) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 الترك والحرمة منع عن الفعل، وقد ورد في الاستعمال مثل ذلك قال سبحانه قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا [الأنعام: 151] وترك الشرك واجب وليس بمحرم، وقالت الخنساء: وإن حراما لا أرى الدهر باكيا ... على شجوه إلا بكيت على عمرو وعلى الثاني فالإهلاك على أصله، والمعنى أن رجوعهم إلى الدنيا ممتنع أو عدم رجوعهم واجب إلى قيام الساعة نظيره قوله فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس: 67] وعلى الثالث فقوله «حتى» غاية لقوله لا يَرْجِعُونَ أي ممتنع عدم رجوع المهلكين إلى عذاب الآخرة حتى الساعة، وذلك أن رجوعهم إلى عذاب النار قبل الساعة واجب بقوله النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر: 46] وقال أبو مسلم: أراد أن رجوعهم إلى الآخرة واجب إلى هذه الغاية أي أنهم يكونون أول الناس حضورا في محفل القيامة. وعلى الرابع فالمعنى وحرام عليهم ذلك وهو المذكور من السعي المشكور غير المكفور لأنهم لا يرجعون عن الكفر إلى أن تقوم الساعة. قوله تعالى حَتَّى إِذا فُتِحَتْ «حتى» هي التي يقع بعدها الجملة وهي هاهنا مجموع الشرط والجزاء و «إذا» المفاجأة تسد مسد فاء الجزاء، وقد يجمع بينهما للتعاون على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد وإنما احتيج إلى هذا التأكيد لأن الشرط يحصل في آخر أيام الدنيا والجزاء إنما يحصل يوم القيامة، ولعل بينهما فاصلة بالزمان إلا أن التفاوت القليل كالمعدوم والمضاف محذوف أي سد يأجوج ومأجوج وتأنيث الفعل لأنهما قبيلتان وهما ومن جنس الأنس كما مر في آخر الكهف. يقال: الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج ومأجوج. وفي الحديث «إن منكم واحدا ومن يأجوج ومأجوج ألف» . قوله وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ قال أكثر المفسرين: الضمير ليأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السد. وعن مجاهد أنه لجميع المكلفين الذين يساقون إلى المحشر. والحدب ما ارتفع من الأرض والنسل الإسراع. وَاقْتَرَبَ عطف على فُتِحَتْ وهو داخل في الشرط. والْوَعْدُ الْحَقُّ القيامة وقوله فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ كقوله في سورة إبراهيم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إبراهيم: 42] وقال في الكشاف: هِيَ ضمير مبهم توضحه الأبصار وتفسره. قلت: فعلى هذا هِيَ مبتدأ وشاخِصَةٌ خبره وأَبْصارُ بدل هِيَ ولو قيل: هِيَ ضمير القصة مبتدأ والجملة التي هي أبصار الذين كفروا شاخصة خبره جاز وهو قول سيبويه. ثم هاهنا إضمار أي يقولون يا وَيْلَنا وهو في موضع الحال من الذين كفروا والعامل شاخصة قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا الوعد أو الأمر بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أنفسنا بتلك الغفلة وبتكذيب الرسل وعبادة الأوثان. ثم بين حال معبوديهم يوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 القيامة فقال: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أي محصوبها بمعنى محصوب فيها، والحصب الرمي ومنه الحصباء لأنه يرمى بها الشيء وقرىء حطب. واللام في قوله أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ كاللام في قوله «هو لزيد ضارب» وذلك لضعف عمل اسم فيما تقدم عليه. والمعنى لا بد لكم أن تردوها ولا معدل لكم عن دخولها. ثم ألزمهم الحجة بقوله لَوْ كانَ هؤُلاءِ المعبودون آلِهَةً في الحقيقة ما وَرَدُوها لكنهم واردوها للخبر الصادق الذي يتنبه لصدقه من يتأمل في إعجازه فينتج أن هؤلاء ليسوا بآلهة وأنها لا تستحق تعظيما أصلا. ثم أخبر أنهم بعد ورودهم النار لا يخلصون منها أبدا فقال وَكُلٌّ أي من العابدين والمعبودين فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ قد سبق معانيه في آخر سورة هود وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ شيئا إما لأنهم يجعلون في توابيت من نار عن ابن مسعود، وإما لأنه تعالى يصمهم كما يعميهم. والصمم في بعض الأوقات لا ينافي كونهم سامعين أقوال أهل الجنة في غير ذلك الوقت، أو المراد أنهم لا يسمعون ما يسرهم، أو الضمير للمعبودين والسماع سماع إجابة، وعلى هذا فالضمير في لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ للعابدين وجاز اعتمادا على فهم السامع حيث يرد كلا من الضميرين إلى ما يناسبهما كأنه قيل: العابد يدعو والمعبود لا يجيب، ويجوز أن يكون للمعبودين أيضا لأن فيهم من يتأتى منه الزفير كالشياطين فغلب، أو لأن الجماد ينطقه الله وقتئذ والزفير بمعنى اللهيب والله أعلم. يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحرث وكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليهم إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية. فأقبل عبد الله بن الزبعري فأخبره الوليد بن المغيرة بما جرى فقال معترضا: أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال عليه السلام: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك وأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ الآية. فخرج من الحديث. والآية جواب ابن الزبعري على أتم وجه وأكمله كأنه قيل أولا إن الآية باقية على عمومها لأن الذين عبدوا عزيرا والمسيح والملائكة لم يعبدوهم في الحقيقة، وانما عبدوا الشياطين التي دعتهم إلى ذلك، ولئن سلم أنهم عبدوهم في الحقيقة لكنهم مخصوصون بما سبقت لهم منا الخصلة الحسنى وهي السعادة أو البشرى بالثواب أو بتوفيق الطاعة وكل ميسر لما خلق له. ومن المفسرين من أجاب عن اعتراض ابن الزبعري بوجوه أخر منها: أن قوله إِنَّكُمْ خطاب لمشركي قريش وإنهم لم يعبدوا سوى الأصنام. ولقائل أن يقول: حمل الآية على العموم أتم فائدة. ومنها أن قوله وَما تَعْبُدُونَ لا يتناول العقلاء فيسقط الاعتراض. ولقائل أن يقول: ما أعم لا مباين فيشمل ذوي العقول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 وغيرهم ولهذا جاء وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: 5] سبحان ما سخركن لنا. ومنها أنه تعالى يصور لهم في النار ملكا على صورة من عبدوه، وضعف بأن القوم لم يعبدوا تلك الصورة، وبأن الملك لا يتعذب بالنار كخزنة جهنم. واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فقوله إِنَّ الَّذِينَ لا يبعد أن يكون عاما لكل المؤمنين ويؤيده ما روي أن عليا قرأ هذه الآية ثم قال: أنا منهم وأبوبكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف. وزعم مثبتوا لعفو أن الحسنى في الآية هي الوعد بالعفو لأنه قال أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ بأزاء قوله أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ والورود الدخول فالإبعاد الإخراج من النار بعد أن كانوا فيها. وأيضا إبعاد البعيد محال. وقوله لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها إذ الصوت الذي يحس به مخصوص بما بعد الإخراج. وأيضا قوله لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ يفهم منه أنه يحزنهم الفزع الأصغر، فالأكبر عذاب الكفار والأصغر عذاب صاحب الكبيرة، والأكثرون على أن المراد من قوله مُبْعَدُونَ أنهم لا يدخلون النار ولا يقربونها البتة لأن ما جعل بعيدا عن شيء ابتداء يحسن أن يقال: إنه أبعد عنه، وهؤلاء لم يفسروا الورود في قوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] بالدخول كما مر في سورة مريم. وفي قوله لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها تأكيد للإبعاد فقد لا يدخل النار ويسمع حسيسها. ثم بين أنهم مع البعد عن المنافي منتفعون بالقرب من الملائم ملتذون به على سبيل التأبيد فقال وهم فيما اشتهته أَنْفُسُهُمْ أي فيما تطلبه للالتذاذ به خالِدُونَ هذا نصيب أهل الجنة، وأما أهل الله فهم فيما اشتهت قلوبهم وأرواحهم وأسرارهم خالدون. والفزع الأكبر قيل: النفخة الأخيرة لقوله وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النمل: 87] وعن الحسن هو الانصراف إلى النار فإنه لافزع أكبر مما إذا شاهدوا النار، وهذا أمر يشترك فيه أهل النار جميعا، ثم مراتب التعذيب بعد ذلك متفاوتة. وعن الضحاك وسعيد بن جبير هو حين تطبق النار على أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة، وقيل: حين يذبح الموت على صورة كبش أملح فعند ذلك يستقر أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة وتستقبلهم الملائكة مهنئين قائلين هذا يَوْمُكُمُ أي وقت ثوابكم الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ذلك قال الضحاك: هم الحفظة الذين كتبوا أعمالهم. والعامل في يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ: لا يَحْزُنُهُمُ أو تَتَلَقَّاهُمُ. والسجل اسم للطومار الذي يكتب فيه. وعن ابن عباس أنه ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه وهو مروي أيضا عن علي رضي الله عنه. وروى أيضا أبو الجوزاء عن ابن عباس أنه كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بمعروف. قال الزجاج: هو الرجل بلغة الحبش. فعلى هذه الوجوه فالطي وهو المصدر مضاف إلى الفاعل وعلى الوجه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 الأول هو مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف كطي الطاوي للسجل وهو قول الأكثرين. واشتقاقه من السجل الدلو العظيم وقد قرىء به والتركيب يدل على الامتلاء والاجتماع ولهذا لا يسمى الدلو سجلا إلا إذا كان فيه ماء ومنه «أسجلت الحوض ملأته.» وقوله لِلْكُتُبِ أي للكتابة ومعناه ليكتب فيه أو لما يكتب فيه لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء ثم يوقع على المكتوب. ومن جمع فمعناه للمكتوبات أي ما يكتب فيه من المعاني الكثيرة، وكيفية هذا الطي لا يعلمها إلا من أخبر عن ذلك أما قوله كَما بَدَأْنا فمن المفسرين من قال: أنه ابتداء كلام ومنهم من قال: إنه وصف قوله هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بقوله يَوْمَ نَطْوِي ثم عقبه بوصف آخر فقال كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ وهو مفعول نعيد الذي يفسره نُعِيدُهُ و «ما» كافة أي نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيها للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لهما على السواء. فكما أوجده أولا عن عدم يعيده ثانيا عن عدم. ومنهم من قال: الإعادة إنما تتعلق بالضم والتركيب بعد تفريق الأجزاء الأصلية والآية لا تطابقه كل المطابقة. وأول خلق كقولك «هو أول رجل» أي إذا فضلت رجلا رجلا فهو أولهم، وإنما خص أول الخلائق بالذكر تصويرا للإيجاد عن العدم ودفعا للاعتراض. وجوز جار الله أن تنتصب الكاف بفعل مضمر يفسره نعيده و «ما» موصولة أي نعيد مثل الذي بدأنا نعيده وأَوَّلَ خَلْقٍ ظرف ل بَدَأْنا أي أول ما خلق أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ وقوله وَعْداً مصدر مؤكد لأن قوله نعيد عدة للإعادة وقيل: أراد حتما عَلَيْنا لسبب الإخبار عن ذلك وتعلق العلم بوقوعه فإن وقوع ما علم الله وقوعه واجب ثم حقق ذلك بقوله إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أي سنفعل ذلك لا محالة فإنا قادرون عليه. عن سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد أن الزبور جنس للكتب المنزلة كلها، والذكر أم الكتاب يعني اللوح ففيه كتابة كل ما سيكون اعتبارا للملائكة، وكتب الأنبياء كلهم منتسخة منه، وعن قتادة أن الزبور هو القرآن، والذكر هو التوراة. وعن الشعبي أن الزبور هو كتاب داود عليه السلام والذكر التوراة. وجوز الإمام فخر الدين أن يراد بالذكر العلم أي كتبنا فيه بعد أن كنا عالمين غير ساهين. والمراد تحقيق وقوع المكتوب فيه، والأرض أرض الجنة، والعباد الصالحون هم المؤمنون العالمون بما يجب عليهم نظيره قوله وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر: 74] قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والسدي وأبو العالية. وإنما ذهبوا إلى هذا القول لأن أرض الدنيا تعم الصالح وغير الصالح، ولأن الآية وردت بعد ذكر الإعادة. وعن ابن عباس أيضا في رواية الكلبي أنها أرض الدنيا يرثها المؤمنون بعد إجلاء الكفار نظيره وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور: 55] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 وقيل: الأرض المقدسة يرثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسلم عند نزول عيسى بن مريم إِنَّ فِي هذا الذي ذكر في السورة من الأخبار والوعد والوعيد وغير ذلك لَبَلاغاً لكفاية لِقَوْمٍ عابِدِينَ عاملين بما ينبغي عمله من الخيرات بعد ما عملوا من كيفية أدائها. والبلاغ ما يبلغ به المرء مطلوبه من الوسائط والوسائل، ولا مطلوب أجل من سعادة الدارين فكل من كان وسيلة إلى نيل هذا المطلوب على الوجه الأتم الأكمل كان وجوده رحمة من الله للطالب المتحير وما ذاك إلا خاتم النبيين فلهذا قال وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وكونه رحمة للكل لا ينافي قتله بعض الكفرة والتعرض لأموالهم وأولادهم كما أن كي بعض أعضاء المريض بل قطعه لا ينافي حذق الطبيب وإشفاقه على المريض ومن هنا قيل: آخر الدواء الكي. والعاقل لا ينسب التقصير إلى الفاعل لقصور في القابل. قالت المعتزلة: لو كان كفر الكافر بخلق الله لم يكن إرسال الرسول رحمة له لأنه لا يحصل له حينئذ إلا لزوم الحجة عليه. وأجيب بأن كونه رحمة للفجار هو أنهم أمنوا بسببه عذاب الاستئصال، ولا يلزم أن يكون الرسول رحمة للمؤمنين من جهة كونه رحمة للكافرين، والجواب المحقق أن كونه رحمة عامة بالنسبة إلى أمة الدعوة لا ينافي كونه رحمة خاصة بالنسبة إلى أمة الإجابة وهو قريب مما ذكرناه أولا، والحجة وتبعتها لازمة على الكافر وإن لم يبعث النبي غايته أنها بعد البعثة ألزم. وفي الآية دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملائكة لأنه رحمة لهم فإنهم من العالمين وعورض بقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 5] والاستغفار رحمة. والجواب أن الرحمة بمعنى كونه في نفسه مكملا في الغاية غير الرحمة بمعنى الدعاء، فلا يلزم من كون الأول سببا للأفضلية كون الثاني كذلك، ثم بين أن أصل تلك الرحمة وأسها هو دعاؤه إلى التوحيد والبراءة عن الشرك فقال قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ إن كانت «ما» موصولة فمعناه أن الذي يوحي إليّ هو أن وصفه تعالى مقصور على الوحدانية لا يتجاوزه إلى ما يناقضها أو يضادها بأي قسمة فرضت وإن كانت كافة المعنى أن الوحي مقصور على استئثار الله بالوحدة، وذلك أن القصر يكون أبدا لما يلي إنما وفي قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ بعث لهم على قبول هذا الوحي الذي هو أصل التكاليف كلها، وفيه نوع من التهديد فلذلك صرح به قائلا فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ أي أعلمتكم والمراد هاهنا أخص من ذلك وهو الإنذار عَلى سَواءٍ هو الدعاء إلى الحرب مجاهرة كقوله فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: 58] إلى وقت أي حال كونكم مستوين في ذلك لا فرق بين القريب والأجنبي والقاصي والداني والشريف والوضيع ولهذا قال أبو مسلم: الإيذان على سواء هو الدعاء إلى الحرب مجاهرة كقوله فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: 58] وقيل: أراد أعلمتكم ما هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 الواجب عليكم من أصول التكاليف ولا سيما التوحيد على السوية من غير فرق في الإبلاغ بين مكلف ومكلف. ولست أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أم بعيد والموعود قيل: هو عذاب الآخرة. واعترض بأنه ينافي قوله وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ وقيل: هو الأمر بالقتال لأن السورة مكية وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة. وقيل: هو إعلاء شأن الإسلام وغلبة ذويه فإنه لا بد أن يلحق للكفار حينئذ ذلة وصغار. ولما أمره أن ينفي عن نفسه علم الغيب أمره أن يقول لهم إن الله سبحانه هو العالم بالسر والعلن فيعلم ما تجاهرون به من المطاعن في الإسلام وما تكتمونه في صدوركم من الإحن والضغائن فيجازيكم على القبيلين وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ أي ما أدري لعل تأخير هذا الوعد أو إبهام وقته أو تأخير الأمر بالجهاد امتحان لكم لينظر كيف تعملون وتمتيع لكم إِلى حِينٍ حضور وقت الموعد. وقال الحسن: لعل ما أنتم عليه من الدنيا ونعيمها بلية لكم. وقيل: أراد لعل ما بينت وأعلمت وأوعدت ابتلاء لكم لأن المعرض عن الإيمان مع البيان حالا بعد حال يكون عذابه أشد. ومعنى رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أقض بيني وبين من يكذبني بالعذاب. قال قتادة: أمره الله تعالى أن يقتدي بالأنبياء في هذه الدعوة وكانوا يقولون رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف: 89] فاستجيب له فعذبوا ببدر، وقال جار الله: بالحق لا تحابهم وشدد عليهم كما هو حقهم كما قال «أشدد وطأتك على مضر» «1» وقيل: معناه وافعل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع تنصرني عليهم كأنه سبحانه قال له: قل داعيا إليّ رب احكم بالحق وقل متوعد للكفار وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ الذي يستعان به عَلى ما تَصِفُونَ من الشرك والكفر وما تعارضون به دعوتي من الأباطيل، وكانوا يطمعون أن يكون لهم الغلبة والدولة فقلب الله الأمر عليهم. وفي هذا الأمر تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ورفع عن مقداره حيث أمر بالانقطاع إلى الرب في دفع أذية القوم ليحصل له مع الخلاص من أذيتهم شرف الاستجابة وهذه غاية العناية. التأويل: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ فيه إشارة إلى أن السالك إذا عبر المقامات التي ذكرنا تصير متفرقات شمله مجتمعة في الفناء بالله والبقاء به، فيكون أمة واحدة في ذاته كما أن إبراهيم كان أمة فيعرفه الله نفسه ويقول أَنَا رَبُّكُمْ الذي بلغتكم هذه الرتبة فَاعْبُدُونِ أي فاعرفون وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ فمنهم من سكن إلى الدنيا، ومنهم من سكن إلى الجنة، ومنهم من فر إلى الله كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ أما طالب الدنيا فيرجع إلى صورة قهرنا وهي جهنم،   (1) رواه البخاري في كتاب الأذان باب 128. مسلم في كتاب المساجد حديث 294، 295. أبو داود في كتاب الوتر باب 10. النسائي في كتاب التطبيق باب 27. الدارمي في كتاب الصلاة باب 216. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 وأما طالب الآخرة فيرجع إلى صورة رحمتنا وهي الجنة، وأما الذي يطلبنا فإنه يرجع إلينا بالحقيقة وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ في الأزل من أهل السعادة حتى إذا فتح سد يَأْجُوجُ النفس ومَأْجُوجُ الهوى، والسد أحكام الشريعة وفتحها مخالفاتها وموافقات الطبع وهم أعني دواعي النفس من كل معدن شهوة من الحواس الظاهرة والباطنة يَنْسِلُونَ فيفسدون ما يمرون عليه من القلب والسر والروح وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ إهلاك القلوب الغافلة فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ بصائرها بالانهماك في الأهواء إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى العناية الأزلية لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها أعني مقالات أهل البدع والأهواء وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ المطمئنة المجذوبة بجذبة ارْجِعِي في مقامات السير في الله خالِدُونَ الفزع الأكبر قوله في الأزل «هؤلاء في النار ولا أبالي» يَوْمَ نَطْوِي سماء وجود الإنسان بتجلي صفات الجلال في إفناء مراتب الوجود من الانتهاء إلى الابتداء وذلك قوله كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ يعني أن الرجوع يكون بالتدريج كما أن البدء كان بالتدريج خلق النطفة علقة ثم خلق العلقة مضغة ثم خلق المضغة عظاما ثم كسا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر. ففي الإعادة يجب أن يمر السالك من الإحساس على الحيوانية ثم النباتية ثم المعدنية ثم البسائط العنصرية ثم الملكوتية ثم الروحانية ثم إلى صفات الربوبية بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ أي في أم الكتاب مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أي بعد أن قلنا للقلم أكتب نظيره كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] أن أرض جنة الوجود الحقيقي يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ وهم الذين طويت سماء وجودهم المجازي. فالوجود المجازي لكونه غير ثابت ولا مستقر كالسماء، والوجود الحقيقي لكونه ثابتا ومستقرا على حالة واحدة كالأرض لِقَوْمٍ عابِدِينَ عارفين. وَما أَرْسَلْناكَ من كتم العدم إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فلولاك لما خلقت الأفلاك «أول ما خلق الله روحي» ولولا الأزل لم تنته الهوية إلى الآخر والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 (سورة الحج) (مكية إلا قوله هذان خصمان إلى صراط الحميد حروفها خمسة آلاف ومائة وخمسة وسبعون كلمها ألف ومائتان وإحدى وتسعون آياتها ثمان وسبعون) [سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 22] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 القراآت: سُكارى في الحرفين على تأويل الجماعة: حمزة وعلي وخلف وَنُقِرُّ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ بالنصب فيهما: المفضل وربأت بالهمزة حيث كان. يزيد ليضن بفتح الياء: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب خاسر الدنيا اسم فاعل منصوبا على الحالية. روح وزيد ثم ليقطع ثم ليقضوا بكسر اللام فيهما: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن عامر وورش وافق القواس في لْيَقْضُوا وزاد ابن عامر وَلْيُوفُوا وَلْيَطَّوَّفُوا وقرأ الأعشى وَلْيُوفُوا بالتشديد، وقرأ أبو بكر وحماد وَلْيُوفُوا بالتشديد وسكون اللام. الباقون بالتخفيف والسكون هذان بتشديد النون: ابن كثير. الوقوف: رَبَّكُمْ ج على تقدير فإن عَظِيمٌ هـ شَدِيدٌ هـ مَرِيدٍ هـ لا لأن ما بعده صفة السَّعِيرِ هـ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ط لأن التقدير ونحن نقر ومن قرأ بالنصب لم يقف أَشُدَّكُمْ ج لانقطاع النظم في اتحاد المعنى شَيْئاً ط بَهِيجٍ هـ قَدِيرٌ هـ لا للعطف فِيها لا الْقُبُورِ هـ مُنِيرٍ هـ لا لأن ما بعده حال عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ط الْحَرِيقِ هـ لِلْعَبِيدِ هـ حَرْفٍ ج للشرط مع الفاء بِهِ لا للعطف مع الفاء مع الاستقلال عَلى وَجْهِهِ ق إلا لمن قرأ خاسر الدنيا ط وَالْآخِرَةَ ط الْمُبِينُ هـ من ينفعه ط الْبَعِيدُ هـ مِنْ نَفْعِهِ ط الْعَشِيرُ هـ الْأَنْهارُ ط ما يُرِيدُ هـ ما يَغِيظُ هـ بَيِّناتٍ ط مَنْ يُرِيدُ هـ يَوْمَ الْقِيامَةِ ط شَهِيدٌ هـ مِنَ النَّاسِ ط وقيل: يوصل ويوقف على الْعَذابُ ط مُكْرِمٍ ط ما يَشاءُ هـ فِي رَبِّهِمْ ز لعطف الجملتين المتفقتين مع أن ما بعده ابتداء بيان حال الفريقين أحدهما فَالَّذِينَ كَفَرُوا والثاني إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ مِنْ نارٍ ج هـ الْحَمِيمُ ج هـ لأن ما بعده يصلح استئنافا وحالا أو وصفا على أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 اللام للجنس كما في قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني. وَالْجُلُودُ هـ ط حَدِيدٍ هـ الْحَرِيقِ هـ. التفسير: إنه قد أنجز الكلام من خاتمة السورة المتقدمة إلى حديث الإعادة وما قبلها أو بعدها كوراثة المؤمنين الأرض وما معها كطي السماء، فلا جرم بدأ الله سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها حثا على التقوى التي هي خير زاد إلى المعاد ويدخل في التقوى فعل الواجبات وترك المنكرات، ولا يكاد يدخل فيها النوافل لأن المكلف لا يخاف بتركها العذاب وإنما يرجو بفعلها الثواب. ويمكن أن يقال: إن ترك النوافل قد يفضي إلى إخلال بالواجب فلهذا لا يكاد المتقي يتركها. يروى أن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمع الناس حوله فقرأهما عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول، ولم يطبخوا قدرا وكانوا من بين حزين وباك ومتفكر وهذه الزلزلة وهي المذكورة في قوله إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة: 1] ومعناها شدة التحريك، وتضعيف الحروف دليل على تضعيف المعنى كأنه ضوعف زلل الأشياء عن مقارها ومراكزها. والإضافة إضافة المصدر إلى الفاعل على المجاز الحكمي العائد إلى الإسناد في قولك «زلزلت الساعة الأرض» أو إلى المفعول فيه على الاتساع فلا مجاز في الحكم لأن المراد حينئذ هو أن فاعلها الله في القيامة قاله الحسن. وعن الشعبي هي طلوع الشمس من مغربها فتكون الإضافة بمعنى اللام كقولك «أشراط الساعة» قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن المعدوم شيء لأن الله تعالى سمى زلزلة الساعة شيئا مع أنها معدومة. أجابت الأشاعرة بأن المراد هو أنها إذا وجدت كانت شيئا عظيما. وانتصب يَوْمَ تَرَوْنَها أي الزلزلة بقوله تَذْهَلُ أي تغفل عن دهشة كُلُّ مُرْضِعَةٍ وهي التي ترضع بالفعل مباشرة للإرضاع وإنما يقال لها المرضع من غيرها إذا أريد معنى أعم وهو أنه من شأنها الإرضاع بالقوة أو بالفعل كحائض وطالق. وفي هذا تصوير لهول الزلزلة كأنه بلغ مبلغا لو ألقمت المرضعة الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الخوف. و «ما» في عَمَّا أَرْضَعَتْ مصدرية أو موصولة أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل. عن الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. وإنما قال كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ دون كل حامل ليكون نصا في موضع الجنين فإن الحمل بالفتح هو ما كان في بطن أو على رأس شجرة، والثاني خارج بدليل العقل فبقي الأول. قال القفال: ذهول المرضعة ووضع ذات الحمل حملها يحتمل أن يكون على جهة التمثيل كقوله يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [المزمل: 17] وَتَرَى النَّاسَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 أفرد بعد أن جمع لأن الزلزلة تراها الناس جميعا، وأما السكر الشامل للناس فإنه يراه من له أهلية الخطاب بالرؤية وقتئذ ولعله ليس إلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى أثبت السكر أولا على وجه التشبيه فإن الخوف مدهش كالمسكر، ونفاه ثانيا على التحقيق إذ لم يشربوا خمرا وهذه أمارة كل مجاز. روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار. قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم فقالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد، أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود.» «1» واختلفوا في أن شدة ذلك اليوم تحصل لكل واحد أو لأهل النار خاصة فقيل: إن الفزع الأكبر يعم وغيره يختص بأهل النار وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون. وقيل: تحصل للكل ولا اعتراض لأحد على الله. ثم أراد أن يحتج على منكري البعث فقدم لذلك مقدمة تشمل أهل الجدال كلهم فقال وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ نظيره وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ [البقرة: 8] وقد مر إعرابه في أول البقرة. ومعنى فِي اللَّهِ في شأن الله وفيما يجوز عليه وما لا يجوز من الصفات والأفعال ويفهم من قوله بِغَيْرِ عِلْمٍ أن المعارف كلها ليست ضرورية وأن المذموم من الجدال هو هذا القسم، وأما الجدال الصادر عن العلم والتحقيق فمحمود مأمور به في قوله وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] والشيطان المريد العاتي سمي بذلك لخلوه عن كل خير وقد مر في قوله مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [التوبة: 101] والمراد إبليس وجنوده أو رؤساء الكفار الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر. عن ابن عباس نزلت في النضر بن الحرث وكان مجادلا يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين والله غير قادر على إحياء من بلي وصار ترابا. ومعنى كُتِبَ عَلَيْهِ قضي على ذلك الشيطان أو علم من حاله وظهر وتبين، والأول يليق بأصول الأشاعرة، والثاني بأصول الاعتزال. وقيل: المراد كتب على من يتبع الشيطان، ولا يخلو عن تعسف أنه من تولى الشيطان أي جعله وليا له أضله عن طريق الجنة   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 7. مسلم في كتاب الإيمان حديث 379. الترمذي في كتاب تفسير سورة 22 باب 1، 2. أحمد في مسنده (1/ 388) (2/ 166) (3/ 32، 33) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 وهداه إلى النار، قال صاحب الكشاف إن الأول فاعل كُتِبَ والثاني عطف عليه. وفيه نظر لأن «من» يبقى بلا جواب إن جعلت شرطية وبلا خبر إن جعلت موصولة. والصحيح أن قوله فَأَنَّهُ مبتدأ أو خبر محذوف صاحبه والتقدير من تولاه فشأنه أنه يضله أو أنه يضله ثابت اللهم إلا إذا جعلت «من» موصوفة تقديره كتب على من يتبع الشيطان أنه شخص تولى الشيطان فأنه كذا أي كتب عليه ذلك، وحين نبه عموما على فساد طريقة المجادلين بغير علم خصص المقصود من ذلك، والمعنى إن ارتبتم في البعث فمعكم ما يزيل ريبكم وهو أن تنظروا في بدء خلقكم، فبين التراب والنطفة والماء الصافي كماء الفحل لأنه ينطف نطفانا أي يسيل سيلا تاما مباينة، وكذا بين النطفة والعلقة وهي قطعة الدم الجامد لأنها إذ ذاك تعلق بالرحم، وكذا بين العلقة والمضغة وهي قدر ما يمضغ من اللحم، ولا ريب أن القادر على تقليب الإنسان في هذه الأطوار المتباينة ابتداء قادر على إعادته إلى أحد هذه الأطوار بل هذه أدخل في القدرة وأهون في القياس. قال الجوهري: المخلقة التامة الخلق. وقال قتادة والضحاك: أراد إنه يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك فلذلك يتفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصهم. وقال مجاهد: المخلقة الولد يخرج حيا، وغير المخلقة السقط لأنه لم يتوارد عليها خلق بعد خلق وقيل: المخلقة المصورة وغير المخلقة ضدها وهو الذي يبقى لحما من غير تخطيط وشكل، ويناسبه ما روى علقمة عن عبد الله قال: إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكا فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال غير مخلقة مجتها الأرحام دما، وإن قال مخلقة قال: يا رب فما صفتها أذكر أم أنثى ما رزقها وأجلها أشقي أم سعيد؟ فيقول سبحانه: انطلق إلى الكتاب فاستنسخ منه هذه النطفة فينطلق الملك فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي اخر صفتها. وقوله لِنُبَيِّنَ لَكُمْ غاية لقوله خَلَقْناكُمْ أي إنما نقلناكم من حال إلى حال ومن طور إلى طور لنبين لكم بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا. وفي ورود الفعل غير معدي إلى المبين إشعار بأن ذلك المبين مما لا يكتنه كنهه ولا يحيط به الوصف، وقيل: أراد إن كنتم في ريب من البعث فإنا نخبركم أنا خلقناكم من كذا وكذا لنبيّن لكم ما يزيل ريبكم في أمر بعثكم، فإن القادر على هذه الأشياء كيف يعجز عن الإعادة؟ ولما بين كيفية خلق الإنسان بالتدريج إلى أن تتكامل أعضاؤه أراد أن يبين أن من الأبدان ما تمجه الأرحام، ومنها ما تنطوي هي عليه إلى كمال النضج والتربية، فأسقط القسم الأول اكتفاء بالثاني فاستأنف قائلا وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ أن نقره من ذلك إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو كمال ستة أشهر إلى أربع سنين غايتها عرفت بالاستقراء ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ أي كل واحد منكم طفلا، أو الغرض الدلالة على الجنس فاكتفي بالواحد، ثُمَّ نربيكم شيئا بعد شىء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ومن قرأ وَنُقِرُّ بالنصب فمعناه خلقناكم مدرجين هذا التدريج لغايتين: إحداهما أن نبين قدرتنا، والثانية أن نقر في الأرحام من نقر حتى تولدوا وتنسلوا وتبلغوا حد التكليف. والأشد كمال القوة والتمييز كأنه شدة في غير شيء واحد فلذلك بني على لفظ الجمع قوله وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وقد مر في «النحل» شبيهه فليرجع إليه. ثم أكد أمر البعث بالاستدلال من حال النبات أيضا فقال وَتَرَى أي تشاهد أيها المستحق للخطا الْأَرْضَ حال كونها هامِدَةً ميتة يابسة لا نبات بها، والتركيب يدل على ذهاب ما به قوام الشيء ورواؤه من ذلك. همدت النار همودا طفئت وذهبت بكليتها وهمد الثوب همودا بلي فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ تحركت ولا يكاد يستعمل الاهتزاز إلا في حركة تصدر عن سرور ونشاط وَرَبَتْ انتفخت وزادت كما مر في قوله زَبَداً رابِياً [الرعد: 17] وذلك في «الرعد» والمراد كمال تهيؤ الأرض لظهور النبات منها. ومن قرأ بالهمزة فمعناه ارتفعت من قولهم «ربأ القوم» إذا كان لهم طليعة فوق شرف. ثم أشار إلى كمال حاله في الظهور بقوله وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي بعضا من كل صنف. بَهِيجٍ والبهجة النضارة وحسن الحال ولهذا قال المبرد: هو الشيء المشرق الجميل. وإسناد الإنبات إلى الأرض مجاز لأن المنبت بالحقيقة هو الله ذلِكَ الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض مع ما في تضاعيف ذلك من عجائب الصنع وغرائب الإبداع حاصل (ب) أمور خمسة: الأول بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الثابت الذي لا يزول ملكه وملكه لا حق في الحقيقة إلا هو فما سواه يكون مستندا إلى خلقه وتكوينه لا محالة. الثاني أنه من شأنه إحياء الموتى. الثالث أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وهذا كالبيان لما تقدمه فإن القادر على كل شيء ممكن قادر لا محالة على إحياء الموتى لأنه من جملة الممكنات وبيان إمكانه ظاهر. فإن كل ما جاز على شيء في وقت ما جاز عليه في سائر الأوقات إذ لو امتنع فإما لغيره فالأصل عدمه، وإما لذاته وهذا يقتضي أن لا يتصف به أولا فإن ما بالذات لا يزول بالغير. الرابع والخامس قوله وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ قال في الكشاف: معناه أنه حكيم لا يخلف ميعاده، وقد وعد الساعة والبعث فلا بد أن يفي بما وعد. قلت: إن هذا التفسير غير واف فلقائل أن يقول: فحاصل الآيات يرجع إلى قولنا إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ بالتدريج وأحيينا الأرض بسبب أنا وعدنا الساعة ووعدنا صادق. وهذا كلام غير منتظم في الظاهر كما ترى، ولو صح هذا لاستغنى عن التطويل بأن يقال مثلا: لا تشكوا في أمر البعث فإنه كائن لا محالة. والذي يسنح لي في تفسيره أنه سبحانه أزال الشك في أمر البعث بقوله إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فمزيل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 ريبكم هذان الاستدلالان، ثم لما كان لسائل أن يسأل لم خلق الإنسان وما يترتب عليه معاشه؟ فأجيب بأن لهذا الشأن وهو خلق الإنسان أسبابا فاعلية وأسبابا غائية، أما الأولى فهي أنه تعالى واجب الوجود الحق وأنه قادر على كل مقدور لا سيما إحياء الموتى الذي استدللنا عليه لأنه أهون، وأن قدرته لا تظهر إلا إذا تعلقت بالمقدور، فكمال القدرة بالفعل هو أن يتعلق بكل مقدور يصح في القسمة العقلية، وهذا النوع من المقدور كان ثابتا في القسمة لأنه واسطة بين العالم العلوي والعالم السفلي وله تعلق بالطرفين وانجذاب إلى القبيلين فوجب في الحكمة والقدرة إيجاده ثم إيجاد ما يتوقف عليه بقاؤه واستكماله. وأما علته الغائية فهي أن داره الأولى كانت دار تكليف وقد هيأنا له دارا أخرى لأجل الجزاء وذلك لا يحصل إلا بالبعث والنشور. ولعل هذا الموضع مما لم يفسره على هذا الوجه غيري أرجو أن يكون صوابا والله تعالى أعلم بمراده. قوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ عن ابن عباس أنه أبو جهل. وقيل: هو النضر أيضا وكرر للتأكيد كما كرر سائر الأقاصيص، وقال أبو مسلم: الأول في المقلدين فإنهم قد يجادلون تصويبا لتقليدهم. وهذا في المقلدين المتبوعين بدليل قوله لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال العلماء: أراد بالعلم العلم الضروري وبالهدي النظري من العلم لأنه يهدي إلى المعرفة وبالكتاب المنير العلم السمعي المتعلق بالوحي. قال بعض أهل اللغة: العطف المنكب. وقال الجوهري: عطفا الرجل جانباه من لدن رأسه إلى وركه ويقال: «فلان ثنى عطفه عني» أي أعرض. وقيل: هو عبارة عن الكبر والخيلاء كلي الجيد. قال جار الله: لما أدى جداله إلى الضلال جعل كأنه غرضه، ولما كان الهدى معرضا له فتركه وأعرض عنه بالباطل جعل كالخارج بالجدال، وفسر الخزي هاهنا بما أصابه يوم بدر. ذلِكَ الذي مني به شيء من خزي الدنيا وعذاب الآخرة بما قدمت يداه وباقي مباحث الآية قد سلف في آخر «آل عمران» . ثم أخبر عن شقاق أهل النفاق بقوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ أي على طرف من الدين لا في وسطه فهذا مثل لكونه مضطربا في أمر الدين غير ثابت القدم كالذي يكون على طرف العسكر ينهزم بأدنى سبب، وباقي الآية تفصيل لهذا الإجمال. قال الكلبي: نزلت في أعاريب قدموا المدينة فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته غلاما وكثر ماله وماشيته قال: ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن به وقر. وإن كان الأمر بخلافه قال: ما أصبت إلا شرا وانقلب عن دينه الذي أظهره بلسانه وفر. وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة. وقيل: نزلت في المؤلفة قلوبهم منهم الأقرع بن حابس والعباس بن مرداس. وعن أبي سعيد الخدري أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 رجلا من اليهود أسلم فأصابته مصائب كذهاب البصر والمال والولد فتشاءم بالإسلام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقلني. فقال: إن الإسلام يسبك كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة والإسلام لا يقال ونزلت الآية. والفتنة هاهنا مخصوصة بالابتلاء بالشرور والآلام لوقوعها في مقابلة الخير وهذا على الاستعمال الغالب وإلا فالخير أيضا قد يكون سببا للابتلاء كقوله وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] ثم حكى حاله في الدارين بقوله خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ أما خسران الدنيا بعد أن أصابه ما أصاب ففقدان العزة والكرامة والغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء، وكون عرضه وماله ودمه مصونة، وأما الآخرة فحرمان الثواب وحصول العقاب أبد الآباد، ولا خسران أبين من هذا نعوذ بالله منه. وفي قوله يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية. دلالة على أن المذكورة قبلها إنما نزلت في أهل النفاق من المشركين لا من اليهود فإنهم لا يعبدون الأصنام نعم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. قوله يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ الآية. فيه بحث لفظي وبحث معنوي. أما الأول فهو أن يَدْعُوا بمعنى «يقول» والجملة بعده محكية، و «من» موصولة أو موصوفة وعلى التقديرين هو مع تمامه مبتدأ ما بعده وهو لَبِئْسَ الْمَوْلى خبره واللام الثانية في الخبر لتأكيد اللام الأولى، وهذا حسن بخلاف قوله «أم الحليس لعجوز» فإنه أدخل لام الابتداء في الخبر على سبيل الاستقلال ويجوز أن يكون يَدْعُوا تكرارا للأول وما بعده جملة مستأنفة على الوجه المذكور. وفي حرف عبد الله لَمَنْ ضَرُّهُ بغير لام ووجهه ظاهر، وعلى هذا يكون قوله لَبِئْسَ الْمَوْلى جملة مستقلة. والمولى الناصر، والعشير المعاشر أي الصاحب. وأما البحث المعنوي. فهو أنه نفى الضرر والنفع عن الأصنام أولا ثم أثبتهما لها ثانيا حين قال ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فما وجه ذلك؟ والجواب أن المقصود في الآية الثانية رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم في الشدائد مستصوبين آراءهم، لأن وصف المولى والعشير لا يليق إلا بالرؤساء. سلمنا أنه أراد في الموضعين الأصنام إلا أنه أثبت الضر لها مجازا لأنها سبب الضلال الذي هو سبب عذاب النار نظيره رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: 36] وأثبت لها النفع بناء على معتقدهم أنها شفعاؤهم عند الله. والمراد يقول: هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ولا يرى أثر الشفاعة لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ذلك، أو أراد يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه، ثم قال: لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا لبئس المولى. ثم لما بين حال المنافقين والمشركين أتبعها حال المؤمنين الذين معبودهم قادر على إيصال كل المنافع فقال إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الآية. قالت الأشاعرة: في قوله إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 دليل على أنه خالق الإيمان وفاعله لأنه يريد الإيمان من العبد بالاتفاق. أجاب الكعبي بأنه يفعل ما يريده لا ما يريد أن يفعله غيره، ورد بأن ما يريد أعم من قولنا ما يريده من فعله وما يريد من فعل غيره. قوله سبحانه مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ في هذا الضمير وجهان: الأول وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختيار الفراء والزجاج أنه يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم للعلم به لأن ذكر الإيمان يدل على الإيمان بالله ورسوله، وعلى هذا فالظان من هو؟ قيل: كان قوم من المسلمين لشدة غيظهم على المشركين يستبطئون النصر فنزلت. وعندي في هذا القول بعد. وعن مقاتل نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا: نخاف أن الله لا ينصر محمدا فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود والأولى العموم. وكان حساده وأعداؤه يتوقعون أن لا ينصره الله وأن الله لا يغلبه على أعدائه فمتى شاهدوا أن الله ينصره غاظهم ذلك، والسبب الحبل، والسماء سماء البيت، والقطع الاختناق لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه، والمراد من كان يظن من حاسديه أن الله تعالى يفعل خلاف النصر والظفر وكان يغيظه نصرة الله إياه فليستفرغ جهده في إزالة ما يغيظه، وليس ذلك إلا بأن يمد حبلا إلى سماء بيته ثم يشده في عنقه ويختنق في عنقه وليصور في نفسه أنه إن يفعل ذلك هل يذهبن كيده ما يغيظه، سمى فعله كيدا حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده وإنما كاد به نفسه. والحاصل ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ، ومنهم من قال: السماء هي المظلة لأن الاختناق حينئذ أبعد عن الإمكان فيكون أصعب فيصرف الحاسد عن الغيظ إلى طاعة الله ورسوله. ومنهم من قال: مع ذلك أن القطع هو قطع المسافة أي فليصعد على الحبل إلى السماء، والغرض تصوير مشقة من غير فائدة، أو القطع قطع الوحي أو النصر أي فليصعد وليقطع الوحي أن ينزل عليه أو النصر أن يأتيه. الوجه الثاني أن الضمير عائد إلى «من» والنصر الرزق. قال أبو عبيدة: وقف علينا سائل من بني بكر فقال: من ينصرني نصره الله أي من يعطيني أعطاه الله. ووجه النظم من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فلهذا الظن يعدل عن التمسك بدين محمد وينقلب على وجهه كما مر فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق أو غير ذلك مما عددنا، فإن الله لا يقلبه مرزوقا. وحين بين الأحوال وضرب الأمثال أشار إلى هذا المذكور بلفظ البعيد إما للتعظيم وإما لأن كل ما دخل في حيز الذكر وحصل في حيز كان فهو في حكم البعيد فقال وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ حرف التعليل وكذا معلله محذوف للعلم به أي ولأن الله يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ أنزله كذلك مبينا. قالت الأشاعرة: المراد بالهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة والأول غير جائز، لأن الله تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين، ولأن قوله يَهْدِي مَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 يُرِيدُ يدل على أن الهداية غير واجبة عليه بل هي معلقة بمشيئته، ووضع الأدلة واجب فتعين أن المراد خلق المعرفة. أجاب القاضي عبد الجبار بأنه أراد تكليف من يريد لأن التكليف لا يخلو من وصف ما كلف به ومن بيانه، أو أراد يهدي إلى الجنة، والإثابة من يريد ممن آمن وعمل صالحا، أو يهدي به الذين يعلم منهم الإيمان أو يثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى، وإلى هذين الوجهين أشار الحسن بقوله أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي من قبل لا من لم يقبل. واعترض بأن الله سبحانه وتعالى ذكر هذا الكلام بعد بيان الأدلة والجواب عن الشبهات فلا يجوز حمله على محض التكليف، وأما الوجوه الأخر فخلاف الظاهر مع أن ما ذكرتموه واجب عندكم على الله وقوله مَنْ يُرِيدُ ينافي الوجوب. ثم أراد أن يميز بين المهدي من الفرق وبين الضال منهم فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية قال مقاتل: الأديان ستة: واحد لله تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان قلت: فالمؤمنون واليهود والنصارى تشترك في القول بالإله والنبي وتفترق بالاعتراف بعموم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبعدم الاعتراف به، والصابئون قد تجعل من جنس النصارى وقد تجعل من غيرهم، والمجوس قولهم في البابين مضطرب لأن الإله عندهم اثنان ونبيهم ليس بنبي في الحقيقة وإنما هو متنبىء، والمشركون لا نبي لهم ولا كتاب. قال أهل البرهان: قدم النصارى على الصابئين في أوائل البقرة لأنهم أهل كتاب وعكس هاهنا لأن الصابئين مقدمة عليهم بالزمان، وفي المائدة يحتمل الأمران أي والصابئون كذلك أو هم والنصارى إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أي يقضي بين المؤمنين وغيرهم وتكرير إن في الخبر لزيادة التأكيد والفصل مطلق يحتمل الفصل في الأحوال وفي المواطن أيضا إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فلا يجري في قضائه ظلم ولا حيف أَلَمْ تَرَ أي تعلم بإخبار الله والمراد أن هذه الأجسام غير ممتنعة عما يريد الله إحداثه فيها من أنواع تصرفاته وتدبيراته وهذا بين، قال العلماء: قوله وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ليس بمعطوف على ما قبله من المفردات لأن السجود بالمعنى المذكور يتناول كل الناس ولا يختص ببعضهم لدليل العقل، ولأن قوله وَمَنْ فِي الْأَرْضِ يتناول الثقلين جميعا والعطف يوهم التخصيص بالبعض. ولا يمكن أن يكون السجود بالنسبة إلى كثير من الناس بمعنى وضع الجبهة وبالنسبة إلى غيرهم بمعنى نفوذ مشيئة الله فيها لأن اللفظ المشترك لا يصح استعماله في مفهوميه معا، فهو إذن مرفوع بفعل مضمر يدل عليه المذكور أي ويسجد له كثير من الناس بمعنى وضع الجبهة أيضا. وهو مبتدأ محذوف الخبر وهو مثاب لأن الخبر دليل عليه وهو قوله حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ أو هو مبتدأ وخبر أي وكثير من المكلفين من الناس الذين هم الناس على الحقيقة فكأنه أخرج الذين وجب عليهم العذاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 من جملة الناس لأنهم أشبه بالنسناس أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: 179] أو قوله ثانيا وَكَثِيرٌ تكرار للأول لأجل المبالغة كأنه قيل: وكثير من الناس حق عليهم العذاب، وباقي الآية دليل على أن الكل بقضائه وقدره والإكرام والإهانة من عنده وبسابق علمه وسابق مشيئته، فمن أهانه في الأزل لم يكرمه أحد إلى الأبد. عن ابن عباس أن قوله هذانِ خَصْمانِ راجع إلى أهل الأديان الستة أي هما فوجان أو فريقان خصمان والخصم صفة وصف بها المحذوف. وإنما قيل اخْتَصَمُوا نظرا إلى المعنى. وقيل: إن أقل الجمع اثنان. ومعنى فِي رَبِّهِمْ أي في دينه وصفاته فقال المؤمنون في شأنه قولا وقال الكافرون قولا. وروي أن أهل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أحق بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله منكم آمنا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبنبيكم وبجميع الكتب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تتركونه حسدا فنزلت. وعن قيس بن عبادة عن أبي ذر الغفاري أنه كان يحلف بالله أنها نزلت في ستة نفر من المسلمين: علي وحمزة وعبيدة بن الحرث، ومن المشركين عتبة وشيبة والوليد بن عتبة. فقال علي رضي الله عنه: أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة. وعن عكرمة هما الجنة والنار. قالت النار: خلقني الله لعقوبته. وقالت الجنة: خلقني الله لرحمته، فقص الله من خبرهما على محمد صلى الله عليه وسلم والأقرب هو الأول. وقوله فَالَّذِينَ كَفَرُوا فصل الخصومة المعني بقوله إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ وقوله قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ فيه أنه تعالى يقدر لهم نيرانا على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة، أو المراد أن تلك النيران مظاهرة عليهم كالثياب المظاهرة على اللابس بعضها فوق بعض. وعن سعيد بن جبير أن قوله مِنْ نارٍ أي من نحاس أذيب بالنار كقوله سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم: 50] والحميم الماء الحار. عن ابن عباس: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها. ومعنى يُصْهَرُ يذاب صهرت الشيء فانصهر أي أذبته فذاب فهو صهير أي يذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم وهو أبلغ من قوله وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد: 15] لأن تأثير الشيء من الظاهر في الباطن أبلغ من تأثيره في الباطن. قال في الكشاف: المقامع السياط وقال الجوهري: المقمعة واحدة المقامع مِنْ حَدِيدٍ كالمحجن يضرب على رأس الفيل. وفي الحديث «لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها» «1» والإعادة لا تكون إلا بعد الخروج ففي الآية إضمار أي كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ فخرجوا أُعِيدُوا فِيها أو المراد بالإرادة المداناة والمشارفة كقوله يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ   (1) رواه أحمد في مسنده (3/ 29) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 [الكهف: 77] وهذا أقرب كقوله لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ [البقرة: 162] ويؤيده ما يروى عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهو وافيها سبعين خريفا. وإنما اختصت هذه السورة بقوله مِنْ غَمٍّ وهو الأخذ بالنفس حتى لا يجد صاحبه مخلصا لأنه بولغ هاهنا في أهوال النار بخلاف ما في السجدة وإنما أضمر هاهنا قبل قوله وَذُوقُوا بخلاف «السجدة» . وقيل لهم ذوقوا لأنه وقع الاختصار هاهنا على عَذابَ الْحَرِيقِ وهناك أطنب فقيل ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20] وأيضا قد تقدم ذكر القول في تلك السورة كثيرا بخلافه هنا والله تعالى أعلم. التأويل: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ هلاك الاستعداد الفطري شَيْءٌ عَظِيمٌ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ هي مواد الأشياء فإن لكل شيء مادة ملكوتية ترضع رضيعها من الملك وتربيه وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ وهي الهيوليات حَمْلَها وهو الصور الكمالية التي خلقت الهيوليات لأجلها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى الغفلة والعصيان وحب الدنيا والجاه والرياسة وغيرها وَما هُمْ بِسُكارى العشق والمحبة والمعرفة فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ أي كنتم ترابا ميتا فبعثنا التراب بأن خلقنا منه آدم، ثم أمتنا منه النطفة، ثم بعثناها بأن جعلناها علقة ثم مضغة ثم خلقا آخر لنبين لكم أمر البعث والنشور وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ أمهات العدم ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت إيجاده بحسب تعلق الإرادة به، وفيه دليل على أنه لا يبعد أن يكون الفاعل كاملا في فاعليته ولكن لا تتعلق إرادته بالمقدور فيبقى في حيز العدم إلى حين تعلق الإرادة به، ومنه يظهر حدوث العالم ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا من أطفال المكونات خارجا من رحم العدم مستعدا للتربية والكمال. وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى عن الشهوات فيحيا بحصول الكمالات وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أسفل سافلين الطبيعة وَتَرَى أرض القالب هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا ماء حياة المعرفة والعلم اهْتَزَّتْ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ في الإلهية وَأَنَّهُ يُحْيِ القلوب الميتة وَأَنَّ السَّاعَةَ قيامة العشق والخدمة للطالبين الصادقين آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ القلوب المحبوسة في قبور الصدور عَذابَ الْحَرِيقِ بنار الشهوات لكنه لا يحس بها في الدنيا لأنه نائم بنوم الغفلة فإذا مات انتبه مَنْ كانَ يَظُنُّ فيه أن العبد يجب أن يكون حسن الظن بالله ثُمَّ لْيَقْطَعْ مادة تقديري في الأزل ونزول أحكامي في القدر فَلْيَنْظُرْ هَلْ ينقطع أم لا هذانِ خَصْمانِ يعني النفس الكافرة والروح المؤمنة قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ بتقطيع خياط القضاء على قدرهم وهي ثياب نسجت من سدى مخالفات الشرع ولحمة موافقات الطبع. يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ حميم الشهوات النفسانية. وفي لفظ الفوق دلالة على أنهم مغلوبون تحتها، وفيه أن الخيالات الفاسدة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 تنصب من الدماغ إلى القلب. يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ من الأخلاق الحميدة الروحانية وَالْجُلُودُ أي يفسد أحوالهم الباطنة والظاهرة بفساد تخيلاتهم، ولا مخلص لهم عن دركات تلك الملكات لغاية رسوخها والله أعلم بالصواب. [سورة الحج (22) : الآيات 23 الى 41] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 القراآت: وَلُؤْلُؤاً بهمزتين منصوبا: نافع وحفص. مثله ولكن بتخفيف الأولى واوا ساكنة: أبوبكر وحماد وزيد وكذلك في سورة فاطر. وقرأ سهل ويعقوب والمفضل هاهنا بالهمزة والنصب. وفي «فاطر» بالهمز والخفض. الباقون بالهمز والخفض في السورتين سَواءً بالنصب: حفص وروح وزيد. الآخرون بالرفع. والبادي بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن كثير وافق أبو عمرو وأبو جعفر ونافع غير قالون في الوصل. بَوَّأْنا مثل أَنْشَأْنا بَيْتِيَ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وحفص وهشام. فَتَخْطَفُهُ بتشديد الطاء: أبو جعفر ونافع الرياح يزيد طريق المفضل وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ بالنصب على تقدير النون: عباس مَنْسَكاً ونحوه بكسر السين: حمزة وعلي وخلف لن تنال الله بتاء التأنيث: يعقوب ولكن تناله بالتأنيث أيضا زيد يُدافِعُ من الدفع: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب الباقون يُدافِعُ من المدافعة أُذِنَ مبنيا للمفعول: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم يُقاتَلُونَ مبنيا للمفعول أيضا: أبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص الآخرون مبنيا للفاعل فيهما. دفاع بألف: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب لَهُدِّمَتْ مخففا: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وسهل وحمزة وعلي وخلف مشددا مدغما الباقون مشددا. الوقوف: وَلُؤْلُؤاً ط مِنَ الْقَوْلِ ج للعطف مع تكرار وَهُدُوا الْحَمِيدِ هـ وَالْبادِ هـ ط أَلِيمٍ هـ السُّجُودِ هـ عَمِيقٍ هـ لا لتعلق اللام الْأَنْعامِ ج للابتداء بالأمر مع الفاء الْفَقِيرَ هـ للعطف مع العدول الْعَتِيقِ هـ ذلِكَ ق قد قيل: لأن المراد ذلك على ما ذكر أو الأمر والشأن ذلك ثم يبتدأ بالشرط عِنْدَ رَبِّهِ ط الزُّورِ هـ لا مُشْرِكِينَ بِهِ ط سَحِيقٍ هـ ذلِكَ ق الْقُلُوبِ هـ الْعَتِيقِ هـ الْأَنْعامِ ط أَسْلِمُوا ط الْمُخْبِتِينَ هـ لا لاتصال الوصف الصَّلاةِ هـ يُنْفِقُونَ ج هـ خَيْرٌ ق والوصل أحسن للفاء صَوافَّ ج للشرط مع الفاء وَالْمُعْتَرَّ ط تَشْكُرُونَ هـ مِنْكُمْ ط هَداكُمْ ط الْمُحْسِنِينَ هـ آمَنُوا ط كَفُورٍ هـ ظُلِمُوا ط لَقَدِيرٌ هـ لا بناء على أن الَّذِينَ بدل من الضمير في نَصْرِهِمْ رَبُّنَا اللَّهُ ط كَثِيراً هـ يَنْصُرُهُ ط عَزِيزٌ هـ الْمُنْكَرِ ط الْأُمُورِ هـ. التفسير: لما ذكر حال أحد الخصمين في الآخرة أراد أن يذكر حال الآخر وهو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 المؤمن ولهذا ألزم التكرار، إلا أنه يفطن بهذه الآية فائدة أخرى هي بيان أن أهل الجنة يحلون فيها وقد مر مثله في أوائل الكهف. ومن قرأ لُؤْلُؤاً بالنصب فعلى تقدير ويؤتون لؤلؤا لأن السوار من اللؤلؤ غريب إلا أن يكون شيئا منظوما منه. وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ عن ابن عباس هو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده يلهمهم الله ذلك وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أي إلى طريق المقام المحمود وهو الجنة أو إلى صراط الله كقوله إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [إبراهيم: 1] وقال السدي: الطيب من القول هو القرآن. وقيل: شهادة أن لا إله إلا الله وقال حكماء الإسلام: هو كشف الغطاء عن الحقائق الروحانية والمعارف الربانية، ثم كرر وعيد أهل الكفر ومن داناهم فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ إنما حسن عطف المستقبل على الماضي لأنه أراد به الاستمرار وأنه من شأنهم الصد وكأنه قيل: كفروا واستمروا على الصد. وقال أبو علي الفارسي. كفروا في الماضي وهم الآن يصدون. عن ابن عباس أنها نزلت في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه عام الحديبية عن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهدي. ومن قرأ سَواءً بالنصب فعلى أنه مفعول ثان لجعلنا أي جعلناه مستويا الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ومن قرأ بالرفع فعلى أن الْعاكِفُ مبتدأ وسَواءً خبر مقدم والجملة مفعول ثان ويجوز أن يكون لِلنَّاسِ مفعولا ثانيا أي جعلناه متعبدا لكل من وقع عليه اسم الناس، وقوله سَواءً إلى آخره الجملة بيان لذلك الجعل أي لا فرق بين الحاضر المقيم به وبين الطارئ من البدو، واختلفوا في أن المكي والآفاقي يستويان في أي شيء. فعن ابن عباس في بعض الروايات أنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها للآية بناء على أن المراد بالمسجد الحرام مكة، ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال «مكة مباحة سبق إليها» وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وهو قول قتادة وسعيد بن جبير أيضا، ولأجل ذلك زعموا أن كراء دور مكة حرام. والأكثرون على أنهما مستويان في العبادة في المسجد ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار» «1» وعلى هذا فلا منع من بيع دور مكة وإجارتها وهو مذهب الشافعي وقد جرت المناظرة بينه وبين إسحق الحنظلي وكان إسحق لا يرخص في كراء دور مكة فاحتج الشافعي بقوله تعالى الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الحج: 40] بأن عمر اشترى دار السجن فسكت إسحق   (1) رواه البخاري في كتاب مسجد مكة باب 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 وإنما ذهب الأولون إلى أن المراد بالمسجد الحرام هاهنا مكة كلها لأنه جعل العاكف فيه بأزاء البادي. أجاب الأكثرون بأنه أراد بالعاكف المجاور للمسجد المتمكن في كل وقت من التعبد فيه. والإلحاد العدول عن القصد كما مر في قوله وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الأعراف: 180] وقوله بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ حالان ومفعول يُرِدْ متروك ليفيد العموم أي ومن يرد فيه مرادا ما جائرا ظالما. وفائدة الحال الثانية أن العدول عن القصد قد يكون بالحق كقوله وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ [الشورى: 40] واختلفوا في الإلحاد في الحرم فعن قتادة وسعيد بن جبير وابن عباس في رواية عطاء أنه الشرك يعني من لجأ إلى حرم الله ليشرك به عذبه الله. وقال مقاتل: نزلت في عبد الله بن حنظلة حيث قتل الأنصاري وهرب إلى مكة كافرا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم الفتح وهو العذاب الأليم. وعن مجاهد أنه الاحتكار. وقيل: المنع من عمارته. وعن عطاء: هو قول الرجل في المبايعة «لا والله» وبلى والله. ومثله ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فقيل له في ذلك فقال: كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل «لا والله» و «بلى والله» . والأولى التعميم. وفيه أن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في مهامه ومقاصده، وهذا وإن كان واجبا في كل مكان إلا أن وجوبه هناك أوكد فللمكان خاصية كما للزمان ولهذا قال مجاهد: تضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات. عن ابن مسعود: أن القصد إلى الذنب يكتب هناك ذنبا وإن لم يخرج إلى الفعل. وعنه لو أن رجلا يهم بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله تعالى عذابا أليما. واعلم أن خبر إن محذوف لدلالة جواب الشرط عليه كأنه قيل: إن الذين كفروا ويصدون نذيقهم من عذاب أليم ومن يرد في الحرم بإلحاد فهو كذلك، وحين انجر الكلام إلى ذكر المسجد الحرام أتبعه ذكر الكعبة وبعض ما يتعلق به من المناسك فقال وَإِذْ بَوَّأْنا أي وأذكر حين جعلنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ مباءة أي مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة، ويروى أن موضع البيت كان مطموسا فبعث الله تعالى ريحا كنست ما حوله حتى ظهر أسه القديم فبنى إبراهيم عليه وقد مر قصة ذلك في «البقرة» . وقيل: بعث غمامة على قدر البيت الحرام في العرض والطول وفيها رأس يتكلم وله لسان وعينان فقال: يا إبراهيم ابن على قدري فأخذ في البناء وذهبت السحابة. وأن في أَنْ لا تُشْرِكْ هي المفسرة وذلك أن المقصود من التوبة هو العبادة فكأنه قيل: تعبدنا لإبراهيم قلنا له: لا تشرك وطهر وقد مر مثله في «البقرة» . وإنما قال هاهنا وَالْقائِمِينَ لأن العاكف ذكر مرة في قوله سَواءً الْعاكِفُ والقائم إما بمعنى القيام في الصلاة بدليل قوله وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أو بمعنى المقيم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 المتوطن. والظاهر أن الخطاب في وَأَذِّنْ لإبراهيم أيضا أي ناد فِي النَّاسِ وهو أن يقول حجوا أو عليكم بِالْحَجِ يروى أنه صعد أبا قبيس فقال: أيها الناس حجوا بيت ربكم، قال مجاهد: فما حج إنسان ولا يحج إلى القيامة إلا وقد سمع ذلك النداء من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فمن أجاب مرة حج مرة ومن أجاب أكثر فأكثر. ولعل الفائدة في قوله يَأْتُوكَ هي هذه لأن الإتيان إلى مكة بسبب ندائه إتيان إليه. وأيضا هو أول من حج وغيره يقتدي به وكأنه يأتيه. وعن الحسن وهو اختيار أكثر العلماء المعتزلة أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه معطوف على «أذكر» مقدرا، ثم إنه عام لجميع الناس أو خاص بمن حج معه في حجة الوداع قولان. وقيل: إنه ابتداء فرض الحج والرجال المشاة واحده راجل. وقوله وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ حال آخر كأنه قيل رجالا وركبانا. والضامر البعير المهزول لطول السفر. ويَأْتِينَ صفة ل كُلِّ ضامِرٍ لأنه في معنى الجمع. والفج الطريق الواسع وقد مر في السورة المتقدمة. والعميق البعيد ومثله معيق وبه قرأ ابن مسعود. وفي تقديم المشاة تشريف لهم. روى سعيد بن جبير بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة من حسنات الحرم. قيل: يا رسول الله وما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة بمائة ألف حسنة» قال جار الله: نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات وقد كنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله تعالى لأن المسلمين لا ينفكون عن التسمية إذا نحروا أو ذبحوا، وفيه تنبيه على أن التسمية من الأغراض الأصلية المعتبرة خلاف ما كان يفعله المشركون من الذبح للنصب. وفي قوله عَلى ما رَزَقَهُمْ إشارة إلى أن نفس القربان وتيسير ذلك العمل من نعم الله تعالى ولو قيل «لينحروا في أيام معلومات بهيمة الأنعام» لم يكن شيء من هذه الفوائد. والأيام المعلومات عند أكثر العلماء عشر ذي الحجة الأول آخرها يوم النحر لأنها معلومة عند الناس لحرصهم على أعمال الحج فيها. ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة والمعشر الحرام، كذلك للذبح وقت بعينه وهو يوم النحر وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والحسن ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس واختيار الشافعي وأبي حنيفة. وعن ابن عباس في رواية أخرى أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعدها وهو اختيار أبي مسلم وقول أبي يوسف ومحمد. وعلى الأول يكون قوله فِي أَيَّامٍ متعلقا بكلا الفعلين أعني لِيَشْهَدُوا وَيَذْكُرُوا وعلى الثاني يختص تعلقه بالثاني. ومعنى بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ بهيمة من الأنعام لأن البهيمة تشمل كل ذات أربع في البر والبحر فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز، وقد مر في أول المائدة قال مقاتل: إذا ذبحت فقل «بسم الله والله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 أكبر اللهم منك وإليك» وتستقبل القبلة. وزاد الكلبي «إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين» . قال القفال: كأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها فكأنه يبذل تلك الشاة بذل مهجته طلبا لمرضاة الله واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته. أما قوله فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ فالبائس الذي أصابه بؤس أي شدة والفقير قد مر في آية الصدقات في «التوبة» وفي غيرها. ثم من الناس من قال: الأمران للوجوب لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون منها فأمر المسلمون بمخالفتهم. والأكثرون على أن الأكل ليس بواجب. ثم منهم من قال: يحسن أن يأكل النصف ويتصدق بالنصف رعاية للأمرين. ومنهم من قال: يأكل الثلث ويتصدق بالثلثين لما يجيء من قوله فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ فجعلها على ثلاثة أقسام ومنهم من قال: يأكل الثلث ويدخر الثلث ويتصدق بالثلث لما جاء في الحديث من الأمر بالادخار. والأولى وهو مذهب الشافعي أنه إن أطعم جميعها أجزأه، وإن أكل جميعها لم يجزئه، وإذا تصدق بأقل شيء من لحمها يكفي هذا إذا كان متطوعا. وأما الواجبات كالنذور والكفارات وجبران النقصانات مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة فلا يأكل منها لا هو ولا أغنياء الرفقة ولا فقراؤها لما روي عن هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية الخزاعي قال: قلت: يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من البدن؟ قال: أنحرها ثم أغمس نعلها في دمها ثم خل بين الناس وبينها يأكلونها. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم في مثله: لا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك. قوله ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ لا يبعد أن يكون معطوفا على لِيَشْهَدُوا فإن هذه الأعمال كلها غايات للإتيان إلا أن إسكان هذه اللامات في بعض القراآت يدل على أنها لام الأمر وعلى هذا تكون هذه الأوامر الغائبة معطوفة على الأمرين الحاضرين قبلها والله أعلم. قال أبو عبيدة: لم يجيء في الشعر ما يحتج به في معنى التفث. وقال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير. وقال القفال: قال نفطويه: سألت أعرابيا فصيحا ما معنى قوله ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ؟ فقال: ما أفسر القرآن ولكنا نقول للرجل: ما أتفثك وما أدرنك! ثم زعم القفال أن هذا أولى من قول الزجاج لأن المثبت أولى من النافي. وقال المبرد: أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها. وأجمع أهل التفسير على أن المراد هاهنا إزالة الأوساخ والزوائد كقص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة. فتقدير الآية ثم ليقضوا إزالة تفثهم وليوفوا نذورهم أي الأعمال التي أوجبها الحج بالشروع فيه، أو أعمال البر التي أوجبوها على أنفسهم بالنذر فإن الرجل إذا حج أو اعتمر فقد يوجب على نفسه من الهدي وغيره ما لولا إيجابه لم يكن الحج يقتضيه. وَلْيَطَّوَّفُوا هو طواف الإفاضة والزيارة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 التي هي ركن وقد شرحت حاله في البقرة في قوله فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [البقرة: 198] وقيل: هو طواف الوداع والصدر. سمي بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن، وقال قتادة: لأنه أعتق من تسلط الجبابرة عليه وهو قول ابن عباس وابن الزبير ورووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عيينة لأنه لم يملك قط. وعن مجاهد لأنه أعتق من الغرق أيام الطوفان. وقيل: معناه البيت الكريم من قولهم «عتاق الخيل والطير» . والحرمة ما لا يحل هتكه وجميع التكاليف بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها، ويحتمل أن يراد هاهنا ما يتعلق بالحج، عن زيد بن أسلم أن الحرمات خمس: الكعبة الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمحرم حتى يحل. وتعظيمها العلم بوجوبها والقيام بحقوقها. وقوله فَهُوَ خَيْرٌ أي فالتعظيم له خير من التهاون بذلك. وقوله عِنْدَ رَبِّهِ إشارة إلى أن ثوابه مدخر لأجله. قوله وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ قد مر في أول «المائدة» مثله أي إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه وهي حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] أو قوله غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: 1] أو قوله وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 121] وحين حث على تعظيم الحرمات أتبعه الأمر بما هو أعظم أنواعها وأقدم أصنافها قائلا فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ وبينه بقوله مِنَ الْأَوْثانِ أي الرجس الذي هو الأوثان كقولك «عندي عشرون من الدراهم» . والرجس العمل القبيح في الغاية وقد مر في آخر المائدة في تفسير قوله رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [الآية: 90] والزور من الزور الميل والإضافة كقولهم «رجل صدق» جمع بين القول الزور وبين الشرك لأن عبادة الأوثان هي رأس الزور وملاكه. قال الأصم: وصف الأوثان بأنها رجس لأن عادتهم في القرابين أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها، والأقرب أنها وصفت بذلك لأن عبادتها فعلة متمادية في القبح والسماجة. وللمفسرين في قول الزور وجوه منها: أنه قولهم هذا حلال وهذا حرام. ومنها أنه شهادة الزور رفعوا هذا التفسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها أنه الكذب والبهتان. ومنها أنه قول أهل الجاهلية في الطواف «لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.» وقوله حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ حالان مؤكدان والمراد الإخلاص في التوحيد كقوله حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120] وفائدة الحالين هي فائدة التولي والتبري وإنما أخر نفي الإشراك وإن كان مقدما في الرتبة إذ التخلية والتبرئة مقدمة على التحلية والتولية ليرتب عليه قوله وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ الآية. قال جار الله: إن كان تشبيها مركبا فمعناه من أشرك بالله فقد أهلك نفسه غاية الإهلاك وذلك بأن صور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفته أي استلبته الطير فتفرق مزعا أي قطعا من اللحم في حواصلها، أو بحال من خر فعصفت به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 الريح حتى هوت به في بعض المطاوح السحيقة البعيدة. وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي تركه فأشرك فقد سقط منها والإهواء التي توزع أفكاره بالطير المتخطفة، وفي المثل الآخر شبه الشيطان الذي يطرح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بالأشياء في المهاوي المتلفة. وتعظيم شعائر الله وهي الهدايا كما مر في أول «المائدة» هي أن يختارها عظام الأجرام غالية الأثمان. وقد مر وصفها الشرعي في «البقرة» في قوله فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [الآية: 196] وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب قال في الكشاف فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى من ليرتبط به. وأقول: في هذا الوجوب نظر لأنه ليس بشرعي ولا بعقلي على ما تزعم المعتزلة. أما المضاف الأول فلأنه يحتمل أن يعود الضمير إلى التعظيم بمعنى الخلة، وأما الآخران فلأن «من» للعموم فلا يلزم أن يقدر لفظة منه، أو فاعل التعظيم موحدين حتى لا يطابقها لفظ القلوب بل يحتمل أن يقدر لفظة منهم أو يقدر فإن تعظيمهم إياها فيرجع الكلام إلى قولنا وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فإن تلك الخلة منهم من تقوى القلوب أي ناشئة من تقوى قلوبهم، فإن القلوب مراكز التقوى التي منها عيارها وعليها مدارها ولا عبرة بما يظهر من آثارها على سائر الجوارح دونها. ثم كان لسائل أن يسأل: ما بال هذه الحيوانات تذبح فيتقرب بها إلى الله تعالى؟ فلهذا قال لَكُمْ فِيها مَنافِعُ يعني الدنيوية من الدر وركوب الظهر وسيشير إلى الدينية بقوله لَكُمْ فِيها خَيْرٌ ولهذا أطلق ذلك وقيد هذه بقوله إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو أوان النحر. ثم بين أن وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها أو مكان نحرها منته إلى البيت أو إلى ما يجاوره ويقرب منه وهو الحرم كما مر في قوله هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: 95] ومثله قوله «بلغنا البلد» إذا شارفوه واتصل مسيرهم بحدوده. قال القفال: هذا إنما يختص بالهدايا التي بلغت مني، فأما إذا عطبت قبل بلوغ مكة فإن محلها هو موضعها. روى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد فقال صلى الله عليه وسلم: اركبها فقال: يا رسول الله إنها هدي. فقال: اركبها ويلك. وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا. وهذا هو الذي اختاره الشافعي. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز الانتفاع بها لأنه لا يجوز إجارتها ولو كان مالكا لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها. وضعف بأن أم الولد لا يمكنه بيعها ويمكنه الانتفاع بها. وممن ذهب إلى هذا القول من فسر الأجل المسمى بوقت تسميتها هديا، والمراد أن لكم أن تنتفعوا بهذه الأنعام إلى أن تسموها أضحية وهديا فإذا فعلتم ذلك فليس لكم أن تنتفعوا بها. وقد ينسب هذا القول إلى ابن عباس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 ومجاهد وعطاء وقتادة والضحاك. أجاب الأولون بأن الضمير في قوله لَكُمْ فِيها مَنافِعُ عائد إلى الشعائر، وتسمية ما سيجعل شعيرة مجاز والأصل عدمه. قال في الكشاف: «ثم» للتراخي في الوقت فاستعيرت للتراخي في الأحوال، والمعنى إن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم، وأعظم هذه المنافع وأبعدها شوطا في النفع محلها منتهية إلى البيت. ومنهم من فسر الشعائر بالمناسك كلها وفسر الأجل المسمى بأوان انقطاع التكليف، وزيفه جار الله بأن محلها إلى البيت يأباه، ثم بين أن القرابين في الشرائع القديمة وإن اختلفت أمكنتها وأوقاتها فقال وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً موضعا أو وقتا يذبح فيه النسائك الذبائح كسر السين سماع وفتحها قياس. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى النسك والمراد شرعنا لكل أمة من الأمم السالفة من زمن إبراهيم إلى من قبله وبعده أن ينسكوا له أي يذبحوا لوجهه على جهة التقرب وجعل الغاية في ذلك هي أن يذكر اسمه على نحرها، ثم بين العلة في تخصيص اسمه بذلك قائلا فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لأن تفرده بالإلهية يقتضي أن لا يذكر على الذبائح إلا اسمه. ويجوز أن يتعلق هذا الكلام بأول الآية، والمعنى إنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح لا لتعدد الإله. ثم ذكر أن تفرده بالإلهية يقتضي اختصاصه بالطاعة قائلا فَلَهُ أَسْلِمُوا أي خصوه بالانقياد الكلي والامتثال لأوامره ونواهيه خالصا لوجهه من غير شائبة إشراك. ثم أمر نبيه عليه السلام بتبشير المخبتين وفسرهم بقوله الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ والتركيب يدور على التواضع والخشوع ومنه الخبت للمطمئن من الأرض. وعن عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا. قال الكلبي: هم المجتهدون في العبادة. ثم عطف على المخبتين قوله وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ أي من المكاره في ذات الله كالأمراض والمحن، فأما الذي يصيبهم من قبل الظلمة فقد قال العلماء: إنه لا يجب الصبر عليه ولكن لو أمكن الدفع وجب دفعه ولو بالقتال. ثم خص من أنواع التكاليف التي تشق على النفس وتكرهها نوعين هما أشرف العبادات البدنية والمالية أعني الصلاة والزكاة وقوله وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ عطف على الْمُقِيمِي الصَّلاةِ من حيث المعنى كأنه قيل: والذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. ثم عاد إلى تعظيم شأن الضحايا مرة أخرى وخص منها العظام الجسام بقوله وَالْبُدْنَ جَعَلْناها هي بضم الدال وسكونها جمع بدنة وهي الإبل خاصة لعظم بدنها إلا أن الشارع ألحق البقرة بها حكما. قال أبو حنيفة ومحمد: لو قال: عليّ بدنة يجوز له نحرها في غير مكة. وقال أبو يوسف: لا يجوز إلا بمكة بناء على أن البدنة مختصة بناقة أو بقرة تذبح هناك. واتفقوا فيما إذا نذر هديا أنه يجب ذبحه بمكة، وفيما إذا أنذر جزورا أنه يذبحه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 حيث شاء. وانتصب قوله والْبُدْنَ بفعل يفسره ما بعده. ومعنى جعلها من شعائر الله أنها من أعلام الشريعة التي شرعها الله. عن بعض السلف أنه لم يملك إلا تسعة دنانير فاشترى بها بدنة فقيل له في ذلك فقال: سمعت ربي يقول لَكُمْ فِيها خَيْرٌ أي ثواب في الآخرة كما ذكرنا. وبعضهم لم يفرق بين الآيتين فحمل كلا منهما على خير الدنيا والآخرة، والأنسب ما فسرناه حذرا من التكرار ما أمكن. ومعنى صَوافَّ قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن، ولعل السر فيه تكثير سوادها للناظرين وتقوية قلوب المحتاجين. فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها أي سقطت على الأرض من وجبت الحائط وجبة سقطت، ووجبت الشمس وجبة غربت. والمعنى إذا زهق روحها حل لكم الأكل منها وإطعام القانع والمعتر فالقانع السائل والمعتر الذي لا يسأل تعففا. وقيل: بالعكس فهما من الأضداد كأن القانع قنع بالسؤال أو قنع بما قسم له فلا يسأل، والمعتر رضي بعرّه أي عيبه فلا يسأل أو يسأل. ثم منّ على عباده بأن سخر لهم البدن أن يحتبسوها صافة قوائمها مطعونا في لباتها مثل التسخير الذي شاهدوا وعلموا يأخذ بخطامها صبي فيقودها إلى حيث يشاء، وليست بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر جرما وأقل قوة لولا أنه سبحانه سخرها. يروى أن أهل الجاهلية كانوا يلطخون الأوثان وحيطان الكعبة بلحوم القرابين ودمائها فبين الله تعالى ما هو المقصود منها فقال لَنْ يَنالَ اللَّهَ أي لن يصيب رضا الله أصحاب اللحوم والدماء المهراقة بمجرد الذبح والتصدق. وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ بأن يكون القربان حلالا روعي فيها جهات الأجزاء ثم يصرفها فيما آمر. ثم كرر منة التسخير وأن الغاية تكبير الله على الهداية لأعلام دينه ومناسك حجه، وصورة التكبير وما يتعلق بها قد سبق في «البقرة» في آية الصيام. قالت المعتزلة: لما لم ينتفع المكلف بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه وجب أن تكون التقوى فعلا له وإلا كان بمنزلة الأجسام. وأيضا إنه قد شرط التقوى في قبول العمل وصاحب الكبيرة غير متق فوجب أن لا يقبل عمله. والجواب أنه لا يلزم من عدم انتفاعه ببعض ما ليس من أفعاله أن لا ينتفع بكل ما ليس من أفعاله. وأيضا إن صاحب الكبائر اتقى الشرك فيصدق عليه أنه متق وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ إلى أنفسهم بتوفير الثواب عليها. والإحسان بالحقيقة أن تعبد الله كأنك تراه، وفيه ترغيب لما شرط من رعاية الإخلاص في القرابين وغيرها. وحين فرغ من تعداد بعض مناسك الحج ومنافعها وكان الكلام قد انجر إلى ذكر الكفار وصدهم عن المسجد الحرام أتبعه بيان ما يزيل ذلك الصد ويمكن من الحج وزيارة البيت فقال إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ ومن قرأ يُدافِعُ فمعناه يبالغ في الدفع عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا فعل المغالب والمدفوع هو بأس المشركين وما كانوا يخونون الله ورسوله فيه يدل عليه تعليله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أي أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذه صفته قال مقاتل: أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذا؟ وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقون من المشركين أذى شديدا وكانوا يلقونه من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فنزل أُذِنَ وفاعله الله سبحانه أم لم يسم والمأذون فيه القتال بدليل قوله لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ إن فتح التاء فظاهر لأن المشركين كانوا يقاتلون المؤمنين وإنهم يؤمرون بالصبر، وإن كسرت فمعناه أذن للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل نزل حرصهم على القتال منزلة نفس القتال بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي بسبب كونهم مظلومين وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية. وقيل: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم. وفي قوله إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ ثم في قوله وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ عدة كاملة بإعلاء هذا الدين وإظهار ذويه على أهل الأديان كلهم كما تقول لغيرك إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك. لا تريد مجرد إثبات القدرة بل تريد أنك ستفعل ذلك. ثم وصف ذلك الظلم بأن وصف الموعودين بالنصر بقوله الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ومحل أَنْ يَقُولُوا جر على الإبدال من حَقٍّ أي بغير موجب سوى التوحيد الذي يوجب الإقرار والتمكين لا الإخراج والإزعاج نظيره هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ [المائدة: 59] وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ قد مر في أواخر البقرة. وللمفسرين فيه عبارات قال الكلبي: يدفع بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن القاعدين. وعن ابن عباس: يدفع بالمحسن عن المسيء وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يدفع بالمسلم الصالح عن مائة من أهل بيته ومن جيرانه ثم تلا هذه الآية» وقال الضحاك: يدفع بدين الإسلام وأهله عن أهل الذمة. وقال مجاهد: يدفع عن الحقوق بالشهود وعن النفوس بالقصاص. أما الصوامع والبيع والصلوات فعن الحسن أنها كلها أسماء المساجد، فقد يتخذ المسلم لنفسه صومعة لأجل العبادة. قال الجوهري: الأصمع الصغير الأذن ويقال أتانا بثريدة مصمعه، إذا دققت وحدد رأسها. وصومعة النصارى «فوعلة» من هذا لأنها دقيقة الرأس، وقد تطلق البيعة على المسجد للتشبيه وكذا الصلوات. وسميت كنيسة اليهود صلاة لأنها يصلى فيها، ويحتمل أن يراد مكان الصلوات أو يراد الصلاة الشرعية نفسها. وصح إيقاع الهدم عليها نظرا إلى قرائنها كقوله: متقلدا سيفا ورمحا. وإن كان الرمح لا يتقلد. هذا كله توجيه تفسير الحسن. والأكثرون على أنها متعبدات مختلفة، فعن أبي العالية أن الصوامع للنصارى والبيع لليهود والصلوات للصابئين والمساجد للمسلمين. وفي تخصيصها بقوله يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً تشريف لها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 وتفضيل على غيرها لأن الظاهر عود الضمير إليها فقط. وعن قتادة أن الصوامع للصابئين والبيع للنصارى والصلوات لليهود. قال الزجاج: وهي بالعبرانية صلوتا. وقيل: الصوامع والبيع كلتاهما للنصارى ولكن الأولى في الصحراء والأخرى في البلد، وإنما أخر متعبد أهل الإسلام لتأخر زمانهم ولا ضير فإن أول الفكر آخر العمل. وقال صلى الله عليه وسلم «نحن الآخرون السابقون» «1» وتفسير الآية على قول الأكثرين لولا دفع الله لهدم في شرع كل نبي المكان المعهود لهم في العبادة، فهدم في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد. وعلى هذا الوجه إنما رفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف والنسخ، ويحتمل أن يراد لولا ذلك لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان في زمن أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المسلمين وأهل الكتاب الذين في ذمتهم، وهدموا المتعبدات بأسرها. وعلى هذا الوجه إنما دفع عن سائر أهل الأديان لأن متعبداتهم يجري فيها ذكر الله في الجملة ليست بمنزلة بيوت الأصنام. ثم عزم على نفسه نصرة من ينصر دينه وأولياؤه وأكد ذلك بقوله إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ومعنى القوة والعزة أنه لا يمتنع شيء من نفاذ أمره فيه مع أنه لا يتأثر عن شيء أصلا. ونصرة الله العبد تقويته على أعدائه ووضع الدلائل على ما يفيده في الدارين ونفث روح القدس بأمره داعية الخير والصلاح في روعه. ثم أتبع قوله الذين أخرجوا قوله. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ وقيل: هو بدل من قوله مَنْ يَنْصُرُهُ وهو إخبار منه عز وجل عما ستكون عليه سيرة المهاجرين إذا مكنهم في الأرض وبسط لهم الدنيا. وعن عثمان: هذا والله ثناء قبل بلاء، أراد أن الله تعالى قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا في شأن الدين وإعلائه ما أحدثوا. قيل: إنه مخصوص من المهاجرين بالخلفاء الراشدين لأنه تعالى لم يعط التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة غيرهم. وعن الحسن أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا فتمكينهم هو إبقاؤهم إلى أوان التكليف، وقد يشمل الأطفال أيضا إذا ماتوا قبل البلوغ لقوله الله أعلم بما كانوا عاملين. ثم ختم الآية بقوله وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي مرجعها ومصيرها إلى حكمه وتقديره وقد أراد تمكين أهل هذا الدين في كل حين فيقع لا محالة. التأويل: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ القلب سواء فيه من سبق إليه مدة طويلة والذي يصل إليه في الحال لأفضل إلا بسبق مقامات القلب ومنازله وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ الروح مكان بيت القلب وَطَهِّرْ بَيْتِيَ عن غيري وهو كل ما فيه حظ النفس دون   (1) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 68. مسلم في كتاب الجمعة حديث 19، 21. النسائي في كتاب الجمعة باب 1. الدارمي في كتاب المقدمة باب 8. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 الواردات المطيفة والأخلاق الثابتة والأحوال المتوالية كالرغبة والرهبة والقبض والبسط والأنس والهيبة رِجالًا هي النفس وصفاتها وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ هي البدن وجوارحه فإن الأعمال الشرعية قد ركبت الجوارح المرتاضة، فأعمال البدن مركبة من حركات الجوارح ونيات الضمير كما أن أعمال النفس بسيطة. لأنها نيات الضمير فقط مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ هو مصالح الدنيا لأن مصالحها بعيدة عن مصالح الآخرة لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ فمنافع النفس وصفاتها بتبديل الأخلاق، ومنافع القلب والجوارح بظهور أثر الطاعة عليها وَيَذْكُرُوا أي القلب والنفس والقالب شكرا عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ تبديل الصفات البهيمية بالصفات الروحانية فانتفعوا بها وأفيضوا منها على الطالبين فهو خير لأن العبد يصل بالطاعة إلى الجنة ويصل بحرمة الطاعة إلى الله، وترك الخدمة يوجب العقوبة وترك الحرمة يوجب الفرقة. وَأُحِلَّتْ لَكُمُ استعمال الصفات البهيمية بقدر الضرورة إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في قولنا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: 31] وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» فَاجْتَنِبُوا مقتضيات الهوى وكونوا صادقين في الطلب لا مزورين مائلين إلى الحق غير طالبين معه غيره، وخر من سماء القلب فاستلبه طير الشياطين أو تهوي به ريح الهوى والخذلان إلى أسفل سافلين البعد والحرمان. لكم في شواهد آثار صنع الإرشاد منافع وهي لذة العبور على المقامات ولذة البسط ولذة الأنس إلى أجل مسمى وهو حد الكمال، ثم انتهاء السلوك إلى حضرة القديم. ولكل سالك جعلنا مقصدا وطريقا، منهم من يطلب الله من طريق المعاملات، ومنهم من يطلبه من طريق المجاهدات، ومنهم من يطلبه بطريق المعارف، ومنهم من يطلبه به. فَلَهُ أَسْلِمُوا أي أخلصوا والإخلاص تصفية الأعمال من الآفات، ثم الأخلاق من الكدورات، ثم الأحوال من الالتفات، ثم الأنفاس من الأغيار وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ عنى المستقيمين على هذه الطريقة. وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ الوجل عند الذكر على حسب تجلي الحق للقلب. وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من غير تمني ترحة ولا روم فرحة وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ الحافظين مع الله أسرارهم لا يطلبون إطلاع الخلق على أحوالهم وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يبذلون الموجود في طلب المقصود والوجود بشهود المعبود وَالْبُدْنَ يعني بدن الأبدان الجسام جعلنا قربانها عند كعبة القلب بذبحها عن شهواتها من شعائر أهل الصدق في الطلب، فإذا ماتت عن طبيعتها فانتفعوا بها أنتم وغيركم من الطالبين والقانعين بما أفضتم عليه، والمعترين المتعطشين الذين لا يروون ريا من ماء حياة المعرفة شربت الحب كأسا بعد كأس ... فما نفد الشراب وما رويت كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ فيه أن ذبح النفس بسكين الرياضة لا يتيسر إلا بتسخير خالقها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 وتيسير موجدها يؤكده قوله إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ خيانة النفس وهواها عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ فيه أن قتال النفس يجب أن يكون بإذن من الله تعالى وهو أن يكون على وفق الشرع وفي أوان التكليف وعلى حسب ظلم النفس على القلب وإخراجها إياه من ديار الطمأنينة وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النفوس بالقلوب لضيعت صوامع أركان الشريعة، وبيع آداب الطريقة، وصلوات مقامات الحقيقة، ومساجد القلوب التي يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً لاتساعها بإشراق نور الله عليها إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ البشرية أَقامُوا صلاة المواصلة وأتوا زكاة الأحوال وهي إيثار ربع عشر الأوقات على مصالح الخلق، وأمروا بحفظ الحواس عن مخالفات الأمر وبمراعاة الأنفاس مع الله، ونهوا عن مناكير الرياء والإعجاب وإلى الله عاقبة الأمور. [سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 64] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 القراآت: نكيري بإثبات الياء حيث كان في الحالين: يعقوب. وافق ورش وسهل وعباس في الوصل. أهلكتها على التوحيد: أبو عمرو وسهل ويعقوب الآخرون أَهْلَكْناها وبير بالياء: أبو عمرو غير شجاع وأوقية ويزيد والأعشى وورش وربيعة وابن فليح وحمزة في الوقف. يعدون على الغيبة: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف معجزين بالتشديد: حيث كان: ابن كثير وأبو عمرو. ثم قتلوا بالتشديد ابن عامر وَأَنَّ ما يَدْعُونَ بياء الغيبة وكذلك في سورة لقمان: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وحفص. الوقوف: وَثَمُودُ هـ ولُوطٍ هـ مَدْيَنَ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى أَخَذْتُهُمْ ج لابتداء التهديد مع فاء التعقيب نَكِيرِ هـ مَشِيدٍ هـ يَسْمَعُونَ بِها هـ للابتداء بأن مع الفاء الصُّدُورِ هـ وَعْدَهُ ط تَعُدُّونَ هـ أَخَذْتُها ط الْمَصِيرُ هـ مُبِينٌ هـ ج للابتداء مع الفاء كَرِيمٌ هـ الْجَحِيمِ هـ أُمْنِيَّتِهِ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى آياتِهِ ط حَكِيمٌ هـ لا لتعلق اللام قُلُوبِهِمْ ط بَعِيدٍ هـ لا قُلُوبُهُمْ ط مُسْتَقِيمٍ هـ عَقِيمٍ هـ لِلَّهِ ط بَيْنَهُمْ ط النَّعِيمِ هـ مُهِينٌ هـ حَسَناً ط الرَّازِقِينَ هـ يَرْضَوْنَهُ ط حَلِيمٌ هـ ذلِكَ ج لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ط غَفُورٌ هـ بَصِيرٌ هـ الْكَبِيرُ هـ ماءً ز لنوع عدول مع العطف مُخْضَرَّةً ط خَبِيرٌ هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط الْحَمِيدُ هـ. التفسير: إنه سبحانه بعد ضمان النصر لنبيه صلى الله عليه وسلم والدفع عن أمته ذكر ما فيه تسليته وهو أنه ليس بأوحدي في التكذيب له والقصص معلومة مما سلف. قال جار الله: إنما لم يقل «وقوم موسى» لأن موسى كذبه غير بني إسرائيل وهم القبط، أو المراد وكذب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره؟ والنكير بمعنى الإنكار عبر به عن الهلاك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 المعجل لأنه يستلزمه أو لأن الهلاك رادع لغيرهم فكأنه أنكر به عليهم حتى ارتدعوا، أو هو بمعنى التغيير لأنه أبدلهم بالنعمة محنة وبالحياة هلاكا وبالعمارة خرابا. قوله وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ الأولى في محل النصب على أنها حال، والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على أَهْلَكْناها وهذه ليس لها محل. قال أبو مسلم: أراد هي كانت ظالمة فهي الآن خاوية على عروشها وقد مر تفسيرها في البقرة في قوله أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ [الآية: 159] قوله وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ عطف على قَرْيَةٍ أي وكم بئر عطلناها عن سقائها مع أنها عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء، وكم قصر مشيد مجصص أو مرتفع أخليناه عن ساكنيه؟ فحذف هذه الجملة لدلالة معطلة عليها. وقد يغلب على الظن من هاتين القرينتين أن «على» في قوله عَلى عُرُوشِها بمعنى «مع» كأنه قيل: هي خاوية أي ساقطة أو خالية مع بقاء عروشها قاله في الكشاف. وأقول: إذا كانت القرى المهلكة غير البئر والقصر فهذا الظن مرجوح أو مساو لا غالب. يروى أنها بئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله من العذاب وهي بحضرموت، سميت بذلك لأن صالحا حين حضرها مات وسميت بلدة عند البئر اسمها حاضوراء بناها قوم صالح وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما وأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان نبيا فقتلوه فأهلكهم الله وعطل بئرهم وخرب قصورهم. يحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري قال: هذا عجيب لأني زرت قبر صالح بالشام ببلدة يقال لها عكة فكيف قيل: إنه بحضرموت؟ قلت: لا غرو أن يتفق الموت بأرض والدفن بأرض أخرى. ثم أنكر على أهل مكة عدم اعتبارهم بهذه الآثار قائلا أَفَلَمْ يَسِيرُوا حثهم على السفر ليروا مصارع تلك الأمم فيعتبروا. ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ولم يعتبروا فلهذا جاء الإنكار كقوله وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137، 138] والمراد بالسماع سماع تدبر وانتفاع وإلا كان كلا سماع كما أن المراد بالإبصار إبصار الاعتبار ولهذا قال فَإِنَّها أي إن القصة لا تَعْمَى الْأَبْصارُ أي أبصارهم وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وفي هذا التصور زيادة التمكين والتقرير لغرابة نسبة العمى إلى القلب، وجوز في الكشاف أن يكون الضمير في فَإِنَّها ضميرا مبهما يفسره الأبصار وفاعل تَعْمَى ضمير عائد إلى الضمير الأول المبهم. والمعنى على الوجهين أن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها وإنما العمى بقلوبهم، أو لا تعتدوا بعمى الأبصار وإن فرض لأنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب. وزعم بعضهم أن في الآية إبطالا لقول من جعل محل الكفر الدماغ وليس بقوي فقد يتشاركان في ذلك، أو يكون سلطانه في القلب والدماغ كالآلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 ثم حكي من عظيم ما هم عليه من التكذيب أنهم يستهزؤن باستعجال العذاب العاجل والآجل كأنهم جوزوا الفوت فلهذا قال وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أو لعلهم طلبوا عذاب الآخرة فذكر أن استعجاله في الدنيا كالخلف لأن موعده الآخرة وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ قال أبو مسلم: أراد أن العاقل لا ينبغي أن يستعجل عذاب الآخرة لأن يوما واحدا من أيام عذاب الله في الشدة كألف سنة من سنينكم لأن أيام الشدائد مستطالة، أو كألف سنة من سني العذاب إذا عدها العاد وذلك لشدة العذاب أيضا. وقيل: أراد أن اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه على السواء لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضا إمهال ألف سنة. وقد يدور في الخلد أن هذا إشارة إلى لا تناهي طرف الأبد المستتبع لازدياد امتداد الآحاد الاعتبارية لأجل سهولة الضبط، والغرض أن من كانت أيامه في الطول إلى هذا الحد لا يفيد الاستعجال بالنسبة إليه شيئا فالأولى بل الواجب تفويض الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها من غير تقدم ولا تأخر ثم كرر قوله وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ وليس بتكرار في الحقيقة لأن الأول سيق لبيان الإهلاك مناسبا لقوله فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ولهذا عطف بالفاء بدلا عتن ذلك، والثاني سيق لبيان الإملاء مناسبا لقوله لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ فكأنه قيل: وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حينا ثم أخذتهم بالعذاب والمرجع للكل إلى حكمي. ثم أمر رسوله بأن يتلو عليهم جملة حاله في الرسالة وهي أنه نذير مبين وجملة حالهم في باب التكليف مآلا، وإنما اقتصر على النذارة لأنها تتضمن البشارة فإن كلام الحكيم لا يخلو عن ترغيب وإن كان مبنيا على الترهيب بدليل يا أَيُّهَا النَّاسُ وهو نداء للكفرة في قول ابن عباس. قال في الكشاف: هم الذين قيل فيهم أَفَلَمْ يَسِيرُوا ووصفوا بالاستعجال، وإنما أقحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا. قالت الأشاعرة: المغفرة إما للصغائر أو للكبائر بعد التوبة أو قبلها. والأولان واجبان عند الخصم وأداء الواجب لا يسمى غفرانا فبقي الثالث ويلزم منه عفو صاحب الكبيرة من أهل القبلة، أما الرزق فلا شك أنه الثواب، وأما الكريم فإما أن يكون أمرا سلبيا وهو أن يكون الإنسان معه بحيث يستغنى عن المكاسب وتحمل المتاعب والذل والدناءة وما ينجر إلى المآثم والمظالم، وإما أن يكون ثبوتيا وهو أن يكون رزقا كثيرا دائما خالصا عن شوائب الضرر مقرونا بالتعظيم والإجلال وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أي بذلوا جهدهم في تكذيبها وإرادة إبطالها كمن يسعى سعيا أي يمشي مشيا سريعا. قال أهل اللغة: عاجزه سابقه لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه. والمراد معاجزين الله ورسوله أي مقدرين ذلك ظنا منهم أن كيدهم للإسلام يتم لهم، وأن طعنهم في القرآن وتثبيطهم الناس عن التصديق يبلغ بهم غرضهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 ثم بين أن له أسوة بالأنبياء السالفة والرسل السابقة في كل ما يأتي ويذر فقال وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ خصص أولا ثم عمم، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، فقد لا يكون معه كتاب بل يؤمر بأن يدعو إلى شريعة من قبله، وقد لا ينزل عليه الملك ظاهرا وإنما يرى الوحي في المنام أو يخبره بذلك رسول في عصره، ولا بد للكل من المعجزة. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الأنبياء فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا. قال عامة المفسرين في سبب نزول الآية: أنه صلى الله عليه وسلم لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم. وكان ذات يوم جالسا في ناد من أنديتهم وقد نزل عليه سورة وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النجم: 1] فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 19- 20] وكان ذلك التمني في نفسه فجرى على لسانه «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته حتى ختم السورة، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين، فتفرقت قريش مسرورين وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فأتاه جبرائيل وقال: ما صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاف خوفا شديدا فأنزل الله تعالى هذه الآية. واعترض المحققون على هذه الرواية بالقرآن والسنة وبالمعقول. أما القرآن فكقوله وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 44- 46] وقوله وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] وقوله وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ [الإسراء: 74] نفى القرب من الركون فكيف به؟ وأما السنة فهي ما روي عن ابن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا وضع من الزنادقة، وقد صنف فيه كتابا وقال الإمام أبوبكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وقد روى البخاري في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون الإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق. وأما المعقول فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لنفي الأوثان فكيف يثبتها؟ وأيضا إنه بمكة لم يتمكن من القراءة والصلاة عند الكعبة ولا سيما في محفل غاص. وأيضا إن معاداتهم إياه كانت أكثر من أن يغتروا بهذا القدر فيخروا سجدا قبل أن يقفوا على حقيقة الأمر. وأيضا منع الشيطان من أصله أولى من تمكنه من الإلقاء ثم نسخه. وأيضا لوجوزنا ذلك لارتفع الأمان من الشرع، ولناقض قوله بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [المائدة: 67] وحال الزيادة في الوحي كحال النقصان منه. إذا عرفت هذا فللأئمة في تأويل الآية قولان: الأول أن التمني بمعنى القراءة كما سلف في البقرة في قوله وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ [الآية: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 78] وما المراد بهذه القراءة فيه وجهان: أحدهما أنه ما يجوز أن يسهو النبي فيه ويشتبه على القارئ دون ما رووه من قوله «تلك الغرانيق العلى» . وثانيهما أنه قراءة هذه الكلمة وإنها قد وقعت بعينها. وكيف وقعت؟ ذهبت جماعة إلى أنه لما قرأ سورة والنجم اشتبه على الكفار فتوهموا بعض ألفاظه ذلك، وزيف بأن هذا التوهم من الجم الغفير بعيد. وقيل: إن شيطان الجن ألقاها في البين فظنها الحاضرون من قول الرسول. وضعف بأن هذا يفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل ما يتكلم به النبي. قلت: الإنصاف أنه غير ضعيف ولا يفضي إلى ارتفاع الوثوق لقوله سبحانه فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ وقيل: إن المتكلم به شيطان الإنس وهم الكفرة كانوا يقربون منه في حال صلاته ويسمعون قراءته ويلقون فيها في أثناء وقفاته. وقيل: إن المتكلم به الرسول قاله سهوا كما روي عن قتادة ومقاتل أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان، ولا ريب أنه يكون بإلقاء الشيطان. وضعف باستلزامه زوال الأمان عن الشرع وقد عرفت جوابه، وبأن مثل هذا الكلام المطابق لفواصل السورة يستبعد وقوعها في النعاس. وزعم قوم أن الشيطان أجبره على ذلك ورد بنحو قوله تعالى إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [النحل: 99] وذهب جماعة إلى أنه قال ذلك اختيارا. ثم إنها باطلة أم لا فيه وجهان: أما الأول ففيه طريقان: أحدهما قول ابن عباس في رواية أن «شيطانا» يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل وألقاها إليه فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم فجاء جبريل واستعرضه فقرأها، فلما بلغ إلى تلك الكلمة أنكر عليه جبريل فقال: إنه أتاني آت على صورتك فألقاها على لساني. وثانيهما أنه لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من تلقاء نفسه ثم رجع عنها. والطريقان منحرفان عند المحققين، لأن الأول يقتضي أن النبي لا يفرق بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث. والثاني أنه يؤدي إلى كونه خائنا في الوحي. وأما الوجه الثاني فتصحيحه أنه أراد بالغرانيق الملائكة، وقد كان قرآنا منزلا في وصف الملائكة فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله تلاوته. أو هو في تقدير الاستفهام بمعنى الإنكار، أو المراد بالإثبات هاهنا النفي كقوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] قال الجوهري: الغرنيق بضم الغين وفتح النون من طير الماء طويل العنق، وإذا وصف به الرجال فواحدهم غرنيق وغرنوق بكسر الغين وفتح النون، وغرنوق وغرانق بالضم وهو الشاب السيد والجمع غرانق بالفتح والغرانيق. القول الثاني أن التمني هو تمني القلب ومعنى الآية ما من نبي إلا وهو بحيث إذا تمنى أمرا من الأمور وسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ما هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 الحق. وما تلك الوسوسة؟ قيل: هي أن يتمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالخير وقد مر فساده. وقال مجاهد: إنه كان يتمنى إنزال الوحي بسرعة دون تأخير فعرفه الله تعالى أن ذلك خاطر غير رحماني، وإنما المصلحة هي إنزال الوحي على وفق الحوادث. وقيل: كان يتفكر في تأويل المجمل فيلقي الشيطان إلى جملته ما هو غير مراد، وكان رد الله سبحانه إلى المعنى المراد بإنزال المحكمات. وقيل: معناه إذا أراد فعلا يتقرب به إلى الله حال الشيطان بينه وبين مقصوده والله تعالى يثبته على ذلك نظيره إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201] وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: 200] واعترض على هذا القول بأن تمني القلب كيف يكون فتنة للذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون، وللقاسية قلوبهم وهم المشركون؟ وأجيب بأنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة لمن ضعفت عقيدته في النبي. والحاصل أن الرسل لا ينفكون عن السهو وإن كانوا معصومين عن العمد فعليهم أن لا يتبعوا إلا ما يقطعون به لصدوره عن علم وذلك هو المحكم. وذهب أبو مسلم إلى أن حاصل الآية هو أن كل نبي من جنس البشر الذين هم بصدد الخطأ والنسيان من قبل وساوس الشيطان. ووجه النظم بين هذه الآية والتي قبلها أنه أمر بأن يقول إني لكم نذير لكني من البشر لا من الملائكة ولم يرسل الله قبلي ملكا بل أرسل رجالا يوسوس الشيطان إليهم، وعلى هذا فالملائكة لعدم إمكان استيلاء الشيطان عليهم أعظم درجة من الأنبياء وأقوى حالا منهم. وقال صاحب الكشاف: المعنى أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت وهو أن لا ينزل ما ينفر أمته ولا يوافق هواهم، مكن الله الشيطان ليلقي في أمانيهم مثل ما ألقي في أمنيتك حتى سبق لسانك. فقلت «تلك الغرانيق» إلخ. وسبب التمكين إرادة امتحان من حولهم والله سبحانه له أن يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن ليضاعف ثواب الثابتين ويزيد في عقاب المذبذبين. فهذه جملة أقوال المفسرين في الآية. وأما قوله فَيَنْسَخُ اللَّهُ فالمراد إزالة تأثير ما يلقي الشيطان وهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام وقوله ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ فالمراد بالآيات هي آيات القرآن أي يجعلها بحيث لا يختلط بها شيء من كلام غيره فتكون ثابتة في مظانها، أو يجعلها بحيث لا يتطرق إليها تأويل فاسد معمول به عند الأمة. ويحتمل أن يكون المراد بأحكام الآيات الإرشاد إلى أدلة الأحكام الشرعية. وقوله وَإِنَّ الظَّالِمِينَ أراد المنافقين والمشركين المذكورين إلا أنه وضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم والشقاق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 البعيد والمعاداة الكاملة. وأعلم أنه سبحانه ذكر لتمكين الشيطان من الإلقاء في الأمنية أثرين: أحدهما في حق غير أهل الإيمان وهم أهل النفاق والشرك وذلك قوله لِيَجْعَلَ الآية. وثانيهما في حق المؤمنين العارفين بالله وصفاته وهو قوله وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ قال مقاتل: يعني القرآن. وعن الكلبي: أي النسخ. قال جار الله: أي تمكين الشيطان من الإلقاء قلت: أما عند الأشاعرة فلأن المالك له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء، وأما عند المعتزلة فلأن أفعاله جارية على وفق الحكمة والتدبير. فَتُخْبِتَ تخضع وتطمئن لَهُ قُلُوبُهُمْ بناء على أصلي الفريقين. والصراط المستقيم هاهنا فسروه بالتأويلات الصحيحة والبيانات المطابقة للأصول. قلت: وتفسيره بمعنى أعم من ذلك غير ضائر. ثم بين أن الأعصار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن يكون في شك من القرآن والرسول واليوم العقيم. قيل: يوم بدر لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه، أو لأنه لا خير فيه للكفار من قولهم «ريح عقيم» إذا لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا، أو لأن يوم الحرب يقال له «العقيم» من حيث أن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن، أو من حيث إن المقاتلين يقال لهم «أبناء الحرب» فإذا قتلوا بقي الحرب بلا أبناء. وعن الضحاك أنه يوم القيامة لأنهم لا يرون فيه خيرا، أو لأن كل ذات حمل تضع فيه حملها، أو لأنه لا ليل فيه فيستمر كاستمرار المرأة على عدم الولادة. ولا تكرار على هذا القول لأن المراد بالساعة مقدماته، أو المراد حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذابها، فوضع يوم عقيم مقام الضمير. واستحسن بعض الأئمة قول الضحاك ورجحه لأن الأول يلزم منه أن الكفار ينتهي شكهم في يوم بدر وليس كذلك فإنهم في مرية بعد يوم بدر أيضا. ويمكن أن يقال: «أو» للعطف على أول الآية فيكون المراد بالذين كفروا في الأول الجنس، وفي الثاني العهد. سلمنا أنه للعطف على تَأْتِيَهُمُ إلا أن اللام في الَّذِينَ كَفَرُوا للجنس فيقع على الذين ما انتهى شكهم إلى يوم القيامة ويحتمل أن يراد بالساعة وقت موت كل واحد وبعذاب يوم عقيم القيامة. ثم بين أنه لا مالك يوم تأتي الساعة إلا الله وأنه يحكم بين الناس فيميز بين أهل الجنة وأهل النار. ثم أفرد المهاجرين بالذكر تخصيصا لهم بمزيد التشريف. يروى أن طوائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله، هؤلاء الذين قتلوا قد عملنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله عز وجل وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا قال بعض المفسرين هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة. وقال بعضهم: هم الذين خرجوا من الأوطان في سرية أو عسكر. ولا يبعد حمل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 الآية على الفريقين. والرزق الحسن نعيم الجنة. وعن الكلبي: هو الغنيمة لأنها حلال. وقال الأصم: العلم والفهم كقول شعيب وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً [هود: 88] وضعف الوجهان بأنهما ممتنعان بعد القتل أو الموت. قال العلماء: وإنما تظهر هذه الفضيلة للمهاجرين في مزيد الدرجات وإلا فلا بد من شرط اجتناب الكبائر كما في حق غيرهم. وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأن رزق غيره ينتهي إليه وغيره لا يقدر على مثل رزقه، ولأن رزقه لا يختلط بالمن والأذى ولا بغرض من الأغراض الفاسدة، ولأنه يرزق ويعطي ما به يتم الانتفاع بالرزق من القوى والحواس وغير ذلك من الشرائط الوجودية والعدمية. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن غير الله يقدر على الفعل وهو الرزق. ويمكن أن يجاب بأنه مجاز أو على سبيل الفرض والتقدير. وليس في الآية دليل ظاهر على أن المهاجر المقتول والمهاجر الميت على فراشه هل يستويان في الأجر أم لا بل المعلوم منها هو الجمع بينهما في الوعد. وقد يستدل على التسوية بما روي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «المقتول في سبيل الله والمتوفي في سبيل الله بغير قتل هما في الأجر شريكان» فإن لفظ الشركة مشعر بالتسوية. وحين بين رزقهم شرع في ذكر مسكنهم. قيل: في المدخل الذي يرضونه خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم، لها سبعون ألف مصراع. وقال أبو القاسم القشيري: هو أن يدخلهم الجنة من غير مكروه تقدم. وقال ابن عباس: يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيرضونه ولا يبغون عنها حولا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم حَلِيمٌ عن تفريط المفرط منهم فيمهله حتى يتوب فيدخل الجنة. ثم بين أنه مع إكرامه لهم في الآخرة لا يدع نصرهم في الدنيا قبل أن يقتلوا أو يموتوا فقال ذلِكَ قال الزجاج: أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصة إذا قتلوا أو ماتوا. عن مقاتل: أن قوما من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون أن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم وثبت لهم المسلمون فنصروا، فوقع في أنفس المسلمين شيء من القتال في الشهر الحرام فنزل وَمَنْ عاقَبَ أي قاتل بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ أي كما ابتدئ بقتاله سمى الابتداء باسم الجزاء للطباق وللملابسة من حيث إن ذلك سبب وهذا مسبب عنه ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ أي ثم كان المجازي مبغيا عليه أي مظلوما. ومعنى «ثم» تفاوت الرتبة لأن كونه مبدوأ بالقتال معه نوع ظلم كما قيل «البادي أظلم» وهو موجب لنصرته ظاهرا إلا أن كونه في نفس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 الأمر مظلوما هو السبب الأصلي في النصرة. وعن الضحاك أن الآية مدنية وهي في القصاص والجراحات. واستدل الشافعي بها في وجوب رعاية المماثلة في القصاص فقال: من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه. وفي ختم الآية بذكر العفو والمغفرة وجوه منها: أن المندوب للمجني عليه هو أن يعفو عن الجاني كقوله فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] وكأنه قال: أنا ضامن لنصرته إن ترك الانتقام وطلب إكثار ما هو أولى به فإني عفوّ غفور. ومنها أنه ضمن النصر على الباغي ولوح بذكر هاتين الصفتين بما هو أولى بالمجني عليه وهو العفو والصفح. ومنها أنه دل بذكرهما على أنه قادر على العقوبة لأن العفو عند المقدرة. ثم بين أن ذلك النصر بسبب أنه قادر ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وذلك أن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر، أو أراد تحصيل أحد العرضين الظلام والضياء في مكان الآخر وقد مر في أوائل آل عمران. وفيه أن خالق الليل والنهار ومصرف الأدوار والأكوار لا يخفى عليه شيء من الزمانيات خيرا أو شرا إنصافا أو بغيا وأكد هذا المعنى بقوله أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يسمع أقوال الخلائق ويبصر أفعالهم. ثم بين أن كمال القدرة والعلم هو يقتضي وجوب الوجود فقال ذلِكَ أي الوصف بخلق الملوين وبالإحاطة بما يجري فيهما بسبب أن الحقية منحصرة في ذاته وأن وجود غيره ولا سيما الأوثان موسوم بالبطلان فلا نقص كالإمكان. ويعلم مما ذكر أنه لا شيء أعلى منه شانا وأكبر سلطانا. وإنما قال هاهنا مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ بزيادة هو وفي «لقمان» مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ [الآية: 30] لأن هذا وقع بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين ولهذا أيضا زيدت اللام في قوله وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ بخلاف ما في «لقمان» وأيضا يمكن أن يقال: تقدم في هذه السورة ذكر الشيطان فلهذا ذكرت هذه المؤكدات بخلاف «لقمان» فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان هناك بنحو ما ذكر هاهنا. ثم ذكر أنواعا أخر من دلائل قدرته ونعمته فقال أَلَمْ تَرَ قيل: هي رؤية البصر لأن نزول الماء من جهة السماء أو اخضرار النبات من المبصرات. وقيل: بمعنى العلم لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم لم يعتد بها. وفي قوله فَتُصْبِحُ دون أن يقول فأصبحت مناسبا ل أَنْزَلَ إشارة إلى بقاء أثر المطر زمانا طويلا وإن كان ابتداء الإصباح عقيب النزول نظيره قول القائل: «أنعم فلان عليّ عام كذا فأروح وأغدو شاكرا له» . ولو قال: «فرحت وغدوت» لم يقع ذلك الموقع. وإنما لم ينصب فَتُصْبِحُ جوابا للاستفهام لإيهام عكس ما هو المقصود لأنه يوهم نفي الاخضرار كما لو قلت لصاحبك: ألم تراني أنعمت عليك فتشكر. إن نصبته أوهمت أنك ناف لشكره شاك تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت لشكره بطريق الاستمرار ولا يبعد أن تكون هذه الآية إشارة إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 دليل الإعادة كما في أول السورة وهذا قول أبي مسلم. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ قال الكلبي: لطيف في أفعاله خبير بأعمال خلقه، وقال مقاتل: لطيف باستخراج النبت خبير بكيفية خلقه. وقال ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط وقد مر مثل هذه في أواسط «الأنعام» . ثم بين أن كل ما في السموات والأرض ملكه وملكه لا يمتنع شيء منها من تصرفاته، وهو غني عن كل ذلك وإنما خلقها لحاجة المكلفين إليها ومن جملتها المطر والنبات خلقها رحمة للحيوانات وإنعاما عليها. وإذا كان إنعامه خاليا عن غرض عائد إليه كان مستحقا للحمد بل هو حميد في ذاته وإن لم يحمده الحامدون. التأويل: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ قالب أَهْلَكْناها بضيق الصدر وسوء الخلق واستيلاء الغفلة. وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ هي القلب الفارغ عن أعمال القوى الروحانية في طلب المعارف والحقائق وَقَصْرٍ مَشِيدٍ وهو الرأس الخالي عن نتائج الفكر الصافي والحواس السليمة أَفَلَمْ يَسِيرُوا في أرض البشرية عابرين على منازل السالكين إلى أن يصلوا إلى مقام القلب فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها الرحمن بذاته أَوْ آذانٌ قلوب يَسْمَعُونَ بِها أقواله أو أبصار بصائر يبصرون بها أفعاله. وإذا صح وصف القلب بالسمع والبصر صح وصفه بسائر وجوه الإدراكات، فقد يدرك نسيم الإقبال بمشام السر كقوله «إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن» «1» وكقول يعقوب إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ [يوسف: 94] وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ليس خلفه في وعيد المؤمنين بخلف في الحقيقة لأنه تصديق قوله «سبقت رحمتي غضبي» «2» وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ قيل: لأنه موجد الزمان وليس عنده صباح ولا مساء فوجود الزمان وعدمه وكثرته وقلته سواء عنده والاستعجال وضده إنما يتصور في المتزمنات قلت: ففيه أن الكل بإرادته وإن ما أراد الله فأسبابه متهيئة يحصل في يوم بإرادته ما لا يحصل في ألف سنة بحسب فرضنا وتقديرنا ومن هنا قيل: جذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين أَمْلَيْتُ لَها فيه أنه تعالى يمهل ولكنه لا يهمل لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي ستر فمنهم من يستر زلته، ومنهم من يستر عليه أعماله الصالحة صيانة له عن الملاحظة، ومنهم من يستر عليه حاله لئلا يصيبه من الشهوة فتنة كما قيل: لا تنكرن جحدي هواك فإنما ... ذاك الجحود عليك ستر مسبل   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 541) . (2) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15، 22، 28. مسلم في كتاب التوبة حديث 14- 16. الترمذي في كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 242، 258) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 ومنهم من يستره بين أوليائه في باب العزة كما قال «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري» ومنهم من يستر أنانيته بهويته فيقول أنا الحق وسبحاني. والرزق الكريم هو الخالي عن شوائب الحدوث لأنه من القديم الكريم إِلَّا إِذا تَمَنَّى فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بل الولي لا يليق به التمني بل ما على الرسول إلا البلاغ ولا على الولي إلا الرضا والتسليم، فلو بقي في أحدهم أدنى ملاحظة لغير الله كالحرص على إيمان القوم فوق ما أمر به ابتلاه الله ببلاء مجال الشيطان في أمنيته بقول أو بعمل، فتدركه العناية الأزلية ويزيل الخاطر الشيطاني ويثبته على الخاطر الرحماني، ولا يكون لدخان الفتنة تأثير في نور يقينه كما لا تأثير للضباب في شعاع الشمس بخلاف من في قلبه ظلم الشبهات فإن ذلك الدخان يزيدها كدورة ورينا حتى تأتيهم ساعة سلب الاستعداد بالكلية، أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ هو الأبد لأنه لا ليل له وهو عذاب قطيعة لا وصلة بعدها وَالَّذِينَ هاجَرُوا عن أوطان الطبيعة في طلب الحقيقة ثُمَّ قُتِلُوا بسيف الصدق والرياضة حتى تزكوا أنفسهم أَوْ ماتُوا عن أوصاف البشرية لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً فرزق القلوب حلاوة العرفان. ورزق الأسرار مشاهدات الجمال، ورزق الأرواح مكاشفات الجلال. وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأنه يرزق من أوصاف ربوبيته كما قال صلى الله عليه وسلم «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «1» وَمَنْ عاقَبَ بالمجاهدة نفسه بِمِثْلِ ما عاقبت النفس بالمخالفة قلبه ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ أي غلبت النفس على القلب باستيلاء صفاتها لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ باستئصال النفس وتمحيق صفاتها إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ لما سلف غَفُورٌ لما بقي في نفوس الطالبين من الأنانية. يُولِجُ ليل السر في نهار التجلي وبالعكس، أو يولج ليل القبض في نهار البسط، أو ليل الهيبة في نهار الأنس أَنْزَلَ مِنَ سماء القلب ماء الحكمة فَتُصْبِحُ أرض البشرية مُخْضَرَّةً بالشريعة وأرض القلوب والأرواح والأسرار بالعلوم والكشوف والأنوار والله أعلم بالصواب. [سورة الحج (22) : الآيات 65 الى 78] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)   (1) رواه البخاري في كتاب التمني باب 9. مسلم في كتاب الصيام حديث 57، 58. الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده (3/ 8) (6/ 126) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 القراآت: ما لم ينزل من الإنزال ابن كثير وأبو عمرو وسهل. والآخرون بالتشديد يصطون بالصاد مثل بَصْطَةً [الآية: 247] في البقرة الذين يدعون بياء الغيبة: سهل ويعقوب. الوقوف: بِأَمْرِهِ ط بِإِذْنِهِ ط رَحِيمٌ هـ أَحْياكُمْ ز لأن «ثم» لترتيب الأخبار يُحْيِيكُمْ هـ ط لَكَفُورٌ هـ إِلى رَبِّكَ ط مُسْتَقِيمٍ هـ تَعْمَلُونَ هـ تَخْتَلِفُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط فِي كِتابٍ ط يَسِيرٌ هـ عِلْمٌ ط نَصِيرٍ هـ الْمُنْكَرَ ط آياتُنا ط ذلِكُمُ ط النَّارُ ط كَفَرُوا ط الْمَصِيرُ هـ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ط اجْتَمَعُوا لَهُ ط مِنْهُ ط وَالْمَطْلُوبُ هـ قَدْرِهِ ط وَمِنَ النَّاسِ ط بَصِيرٌ هـ خَلْفَهُمْ ط الْأُمُورُ هـ تُفْلِحُونَ هـ ج للآية مع العطف جِهادِهِ ط حَرَجٍ ط إِبْراهِيمَ ط النَّاسِ ج للعطف مع الفاء بِاللَّهِ ط مَوْلاكُمْ ط النَّصِيرُ هـ. التفسير: إن من جملة نعم الله تعالى على عباده تسخير الأرضيات وتذليلها لهم، فلا أصلب من الحديد والحجر، ولا أشد نكاية من النار وقد سخرها للإنسان وسخر لهم الأنعام أيضا ينتفعون بها بالأكل والركوب والحمل عليها والانتفاع بالنظر إليها أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 17] وسخر لهم الدواب، وغيرها وسخر لهم الفلك حال كونها جارية بأمره وهو تهيئة الأسباب المعاونة ودفع الأشياء المضادة لسهولة جريها. ولا ريب أن الانتفاع بالأرضيات لا يتأتى إلا بعد الأمن من وقوع السماء على الأرض، فمنّ الله تعالى على المكلفين بأن حفظها كيلا تقع أو كراهة أن تقع على الأرض وذلك بمحض الاقتدار عند أهل الظاهر، أو بأن جعل طبعها هو الإحاطة بما في ضمنها إذ لا خفة فيها ولا ثقل ولهذا خصت بالحركة على المركز. وفي قوله إِلَّا بِإِذْنِهِ إشارة إلى أن الأفلاك ستنخرق وتنشق فتقع على الأرض، ويحتمل أن يقال: توقيف الوقوع على الإذن لا يوجب حصول الإذن، فالانخراق والانشقاق لا يستفاد من هذه الآية. ثم ذكر الإنسان مبدأه ومعاده فقال وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ نظيره قوله في أول البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الآية: 28] وقد سبق هنالك. وفي قوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ زجر لهم عن الكفران بطريق التوبيخ. وعن ابن عباس أنه الكافر. وبعضهم جعله أخص فقال: هو أبو جهل وأضرابه، والأولى إرادة الجنس، ثم عاد إلى بيان أن أمر التكاليف مستقر على ما في هذه الشريعة فقال لِكُلِّ أُمَّةٍ الآية. قال في الكشاف: إنما فقد العاطف هاهنا بخلاف نظرائها في السورة لأن تلك مناسبة لما تقدمها وهذه مباينة لها. قلت: وذلك لأن من هاهنا إلى آخر السورة عودا بعد ذكر المعاد إلى الوسط الذي هو حالة التكليف، والأقرب أن المنسك في هذه الآية هو الشريعة كقوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48] وهو قول ابن عباس في رواية عطاء. وقيل: أراد مكانا معينا وزمانا لأداء الطاعات. وقال مجاهد: هو الذبائح ولا وجه للتخصيص هاهنا والأمة أعم من أن تكون قد بقيت آثارهم أو لم تبق. أما الضمير في قوله فَلا يُنازِعُنَّكَ فلا بد من رجوعه إلى الأمم الباقية آثارهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الزجاج: إنه نهي له عن منازعتهم كما تقول «لا يضاربنك فلان» أي لا تضار به. وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمنا. وقال في الكشاف: هو نهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي لا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك، أو هو زجر لهم عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنازعة في أمر الدين وكانوا يقولون في الميتة «ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله» . ومنه يعلم استقرار أمر الديانة على هذه الشريعة وأن على كل أمة من الأمم التي بقيت منها بقية أن يتبعوه ويتركوا مخالفته فلذلك قال: وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي لا تخص بالدعوة أمة دون أمة فإن كلهم أمتك إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ أي على دين وسط ودليل ظاهر. وإن أبوا إلا الجدال فكل أمرهم إلى الله قائلا اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ وفيه وعيد وإنذار مخلوط برفق ولكن اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أي يفصل بين المؤمنين والكافرين منكم، ويحتمل أن يكون من تتمة المقول وأن يكون ابتداء خطاب من الله سبحانه للأمم. أَلَمْ تَعْلَمْ خطاب لكل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 عالم أو للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد تقوية قلبه وإلا فالرسالة لا تكون إلا بعد العلم بكونه تعالى عالما بكل المعلومات وإلا اشتبه عليه الصادق بالكاذب. إِنَّ ذلِكَ الذي ذكر وهو كل ما في السماء والأرض فِي كِتابٍ قال أبو مسلم: أراد به الحفظ والضبط كالشيء المكتوب، والجمهور على أنه حقيقة وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه. ولعل في تلك الكتابة لطفا للملائكة لأن مطابقة تلك الأشياء المكتوبة لما سيحدث إلى الأبد من أدل دليل على كونه عالم الذات ولذلك قال إِنَّ ذلِكَ الكتب عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وهذا تصوير لضده وهو صعوبة مثل ذلك على غيره وإلا فلا مدخل لليسر والصعوبة في كمال قدرته. وحين بين كمال ألوهيته قطع شأن أهل الشرك بقوله وَيَعْبُدُونَ الآية والمراد أنهم لم يتمسكوا في صحة عبادته بدليل سمعي ولا علم ضروري وقوله وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ الظلم الشرك، والنصرة إما بالشفاعة أو بالحجة ولا حجة إلا للحق وهو كقوله في آخر آل عمران وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [الآية: 192] وقد مر. والمنكر دلائل الغيظ والحنق. وقال جار الله: هو الفظيع من التجهم والبسور أو هو الإنكار كالمكرم بمعنى الإكرام وقال الكلبي: أراد أنهم كرهوا القرآن مع وضوح دلائله. وقال ابن عباس: هو التجبر والترفع. وقال مقاتل: أنكروا أن يكون من الله تعالى. السطو الوثب والبطش أي يهمون بالبطش والوثوب لعظم إنكار ما تلي عليهم. وقوله مِنْ ذلِكُمُ إشارة إلى غيظهم على التالين أو إلى همهم. ثم إنه كأن سائلا قائلا ما ذلك الشر فقيل النَّارُ أي هو النار. قلت: وذلك أن حرارة الغيظ والسطو تشبه حرارة النار ولكن هذه أقوى ولا سيما نار جهنم. ثم استأنف للنار حكما فقال وَعَدَهَا الآية. ويحتمل أن تكون النَّارُ مبتدأ ووَعَدَهَا خبرا. ثم ضرب للأصنام مثلا فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ إنما قال بلفظ الماضي لأنه معلوم من قبل لكل ذي عقل. والمثل بمعنى المثل استعاروه لجملة من الكلام مستغربة مستفصحة متلقاة بالرضا والقبول أهل للتسيير والإرسال وذلك أنهم جعلوا مضربها مثلا لموردها، ثم استعاروا هذا المستعار للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لتماثلها في الغرابة وهذا هو الذي قصد في الآية: فَاسْتَمِعُوا لَهُ أي تدبروه وحق له ذلك فإن السماع المجرد لا نفع له. قال جار الله: محل وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ نصب على الحال كأنه قال مستحيل أن يخلقوا الذباب مشروطا عليهم اجتماعهم جميعا فكيف لو انفردوا؟ وأقول: الظاهر أن «لو» هذه للمبالغة وجوابه محذوف لدلالة ما تقدم عليه تقديره، ولو اجتمعوا لخلق الذباب لن يخلقوه أيضا، وليس من شرط كل جملة أن يكون لها محل. ثم زاد لعجزهم وضعفهم تأكيدا بقوله وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ الآية. بمعنى أترك أمر الحلق والإيجاد وتكلم فيما هو أسهل من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 ذلك، إن هذا الحيوان الضعيف الذي لا قدرة لهم على خلقه لو سلب منهم شيئا لم يقدروا أيضا على استخلاص ذلك الشيء منه. عن ابن عباس أنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وقيل: سمي الذباب ذبابا لأنه كلما ذب آب. ثم عجب من ضعف الأصنام والذباب بقوله ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه. وقيل: الطالب عابد الصنم والمطلوب هو الصنم أو عبادته، ويجوز أن يكون الطالب هو السالب والمطلوب المسلوب منه. ثم بين أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة بهذه المثابة ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عرفوه حق معرفته وقد مر مثله في «الأنعام» . إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ قادر غالب فكيف يسوّي بينه وبين العاجز المغلوب في العبادة وهي نهاية التعظيم. وذلك أنهم لو اعتقدوا كون تلك الأصنام طلسمات موضوعة على الكواكب فإذا لم تنفع نفسها في المقدار المذكور فلأن لا تنفع غيرها أولى، وإن اعتقدوا أنها تماثيل الملائكة أو الأنبياء فلا يليق بها غاية الخضوع التي يستحقها خالق الكل. وحين رد على أهل الشرك معتقدهم في الإلهيات أراد أن يرد عليهم عقيدتهم في النبوّات وهي أن الرسول لا يكون بشرا فقال اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ فالملك رسول إلى النبي والنبي رسول إلى سائر البشر قاله مقاتل. هاهنا سؤالان: الأول أن «من» للتبعيض فتفيد الآية أن بعض الملائكة رسل فيكون مناقضا لقوله جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] والجواب أن الموجبة الجزئية لا تناقض الموجبة الكلية، أو أراد بهذا البعض من هو رسول إلى بني آدم وهم أكابر الملائكة ولا يبعد أن يكون بعض الملائكة رسلا إلى بعض آخر منهم. وثانيهما أنه قال في موضع آخر لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ [الزمر: 4] وقد نص في هذه الآية أن بعض الناس مصطفى فيلزم من مجموع الآيتين أنه قد اصطفى ولدا. والجواب أن تلك الآية دلت على أن كل ولد مصطفى ولكن لا يلزم من هذه الآية أن كل مصطفى ولد فمن أين يحصل ما ادعيت؟ والتحقيق أن الموجبتين في الشكل الثاني لا ينتجان هذا، ويحتمل أن تكون هذه الآية مسوقة للرد على عبدة الملائكة كما كانت الآية المتقدمة للرد على عبدة الأصنام إذ يعلم من هذا أن علو درجة الملائكة ليس لكونهم آلهة بل لأن الله اصطفاهم للرسالة حين كانوا أمناء على وحيه لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ثم بين علو شأنه وكمال علمه وإحاطته بأحوال المكلفين ما مضى منها وما غبر، وأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 مرجع الأمور كلها إليه، وفي كل ذلك زجر عن الإقدام على المعصية وبعث على الجد في الطاعة فلا جرم صرح بالمقصود قائلا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا والظاهر أنه خطاب مختص بالمؤمنين ويؤكده قوله بعد ذلك هُوَ اجْتَباكُمْ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ وقيل: عام لكل المكلفين لأن المأمورات بعده لا تختص ببعض الناس دون بعض والتخصيص بالذكر للتشريف فإنهم الذين قبلوا الخطاب. ودل بالركوع والسجود على الصلاة لأنهما ركنان معتبران. وقيل: كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود ذكره ابن عباس. قال جار الله: عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال: نعم إن لم تسجدهما فلا تقرأهما. وعن عبد الله بن عمر: فضلت سورة الحج بسجدتين. وهو مذهب الشافعي. وأما أبو حنيفة فلا يرى هذه سجدة لأنه قرن الركوع بالسجود قال: فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة، قدم الصلاة لأنها أشرف العبادات ثم عمم فأمر بالعبادة مطلقا، ثم جعل الأمر أعم وهو فعل الخيرات الشامل للنوعين التعظيم لأمر الله والشفعة على خلق الله كأنه قال: كلفتكم الصلاة بل كلفتكم ما هو أعم منها وهو العبادة، بل كلفتكم أعم وهو فعل الخيرات على الإطلاق. وقيل: معناه واعبدوا ربكم اقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله عز وجل. وعن ابن عباس أن فعل الخير صلة الأرحام ومكارم الأخلاق. ومعنى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ افعلوا كل ذلك راجين الفلاح وهو الظفر بنعيم الآخرة لا متيقنين ذلك فإن الإنسان قلما يخلو في أداء فرائضه من تقصير والعواقب أيضا مستورة. ثم أمره بخلاف النفس والهوى في جميع ما ذكر وهو الجهاد الأكبر فقال وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ أي في ذاته ومن أجله حَقَّ جِهادِهِ أي حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه فإضافة الجهاد إلى الله من قبيل التوسعة ولأدنى ملابسة من حيث إن الجهاد فعل لوجهه. وقيل: هو أمر بالغزو، أمروا أن يجاهدوا آخرا كما جاهدوا أولا فقد كان جهادهم في الأول أقوى وكانوا فيه أثبت نحو صنيعهم يوم بدر. وعن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: أما علمت أنا كنا نقرأ وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله؟ فقال عبد الرحمن: ومتى ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء. قال العلماء: لو صحت هذه الرواية فلعل هذه الزيادة من تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم ليست من نفس القرآن وإلا لتواترت. وأما عبارات المفسرين فعن ابن عباس: حق جهاده أي لا تخافوا في الله لومة لائم. وقال الضحاك: اعملوا لله حق عمله. وقال آخرون: استفرغوا ما في وسعكم في إحياء دين الله وإقامة حدوده باليد واللسان وجميع ما يمكن، وردوا أنفسكم عن الهوى والميل. وعن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 مقاتل والكلبي: أن الآية منسوخة بقوله فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] كما أن قوله اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] منسوخ بذلك. وضعف بأن التكليف مشروط بالقدرة فلا حاجة إلى التزام النسخ. ثم عظم شأن المكلفين بقوله هُوَ اجْتَباكُمْ أي اختاركم لدينه ونصرته وفيه تشريف كقوله وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] ثم كان لقائل أن يقول: التكليف وإن كان تشريفا إلا أن فيه مشقة على النفس فقال وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي ضيق وشدة وذلك بأنه فتح باب التوبة ووسع على المكلفين بأنواع الرخص والكفارات والديات والأروش. يروى أن أبا هريرة قال: كيف قال سبحانه وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مع أنا منعنا عن الزنا والسرقة؟ فقال ابن عباس: بلى ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم. قالت المعتزلة: لو خلق الله فيه الكفر ثم نهاه عنه كان ذلك من أعظم الحرج. وعورض بأنه نهاه عن الكفر مع أنه علم ذلك منه، وكأنه أمره بقلب علم الله جهلا وهو أعظم الحرج. ثم أثنى على هذه الأمة بقوله مِلَّةَ أَبِيكُمْ أي أعني الدين ملة أبيكم، ويجوز أن ينتصب بمضمون ما تقدم كأنه قيل: وسع دينكم توسعة ملة أبيكم فأقام المضاف إليه مقام المضاف، وإنما كان إبراهيم أبا هذه الأمة لأنه أبو الرسول صلى الله عليه وسلم وكل نبي أبو أمته. والمراد أن التوحيد والحنيفية هي مما شرعه إبراهيم. هُوَ أي الله أو إبراهيم سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أي في سائر الكتب أو في قوله وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 128] وَفِي هذا القرآن أما إن كان المسمى هو الله فظاهر، وأما إن كان هو إبراهيم فلعله أراد أن حكاية دعائه مذكورة في القرآن. وقوله لِيَكُونَ الرَّسُولُ متعلق بقوله هُوَ اجْتَباكُمْ أي فضلكم على الأمم لهذا الغرض نظيره قوله في البقرة وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا [الآية: 143] والأصل تقديم الأمة كما في «البقرة» لأن الخطاب معهم وليقع الختم على شهادة الرسول كما هو الواقع إلا أنه عكس الترتيب في هذه السورة ليناط به قوله فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ والمراد إذ خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه واعتصموا بدلائله العقلية والسمعية أو بألطافه وعنايته. قال ابن عباس: سلوا الله العصمة عن كل المحرمات. وقال آخرون: اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون فهو خير مولى وناصر. استدلت المعتزلة بالآية في قولهم إنه يريد الإيمان من الكل من وجوه: الأول أنه أراد أن يكونوا شهداء ولن يكونوا كذلك إلا إذا آمنوا، الثاني أنه لا يمكن الاعتصام به إلا إذا لم يوجد منه الشر البتة. الثالث أنه لو خلق في عباده الكفر والمعاصي لم يكن نعم المولى. وأجيب بعد تسليم إرادة الإيمان من الكل أن إرادة الشيء إن كانت مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكفار تستلزم أن يكون الله تعالى مريدا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 لجهل نفسه. وإن لم تستلزم فقد سقط السؤال وأيضا الاعتصام به إنما يكون منه كقوله «أعوذ بك منك.» «1» وأيضا إنه خلق الشهوة في قلب الفاسق وخلق المشتهي وقربه منه ودفع المانع وسلط عليه شياطين الإنس والجن، فلو لم تكن كل هذه مقتضية لكونه بئس المولى لم يكن خلق الكفر أيضا مقتضيا لذلك. التأويل: سَخَّرَ لَكُمْ ما في أرض البشرية من الصفات الحيوانية والشيطانية، وسخر فلك الواردات المغيبة تجري في بحر القلب، ويمسك سماء القلب أن تقع على أرض النفس بأن تتصف بصفاتها إِلَّا بِإِذْنِهِ بقدر ما أباحه الشرع من ضروريات المأكول والملبوس وغيرهما وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بازدواج الروح إلى القالب ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عن صفات البشرية ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بنور الصفات الرحمانية فَلا يُنازِعُنَّكَ في أمرك فإن لك مع الله وقتا لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولكل قوم رتبة لا يتجاوزونها إن الذين يدعون من دون الله كالأصنام الظاهرة والباطنة لن يطلعوا على كيفية خلق الذباب، وإن يسلبهم ذباب هواجس النفس شيئا من صفاء القلب وجمعية الوقت ضَعُفَ الطَّالِبُ وهو القلب غير المؤيد بنور الإيمان وَالْمَطْلُوبُ وهو النفس والشيطان ارْكَعُوا بالنزول عن مرتبة الإنسانية إلى خضوع الحيوانية: وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [النور: 45] وَاسْجُدُوا بالنزول إلى مرتبة الحيوانية وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرحمن: 6] وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ بجعل الطاعة خالصة له وَافْعَلُوا الْخَيْرَ بمراقبة الله في جميع أحوالكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بالوصال. وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ فجهاد النفس بتزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ، وجهاد القلب بتصفيته وقطع تعلقه عن الكونين، وجهاد الروح بتحليته بإفناء الوجود في وجوده هُوَ اجْتَباكُمْ لهذه الكرامات من بين سائر البريات ولولا أنه اجتباكم ما اهتديتم إليه كما قيل: فلولاكم ما عرفنا الهوى وما جعل عليكم في دين العشاق. وهو السير إلى الله من ضيق «من تقرّب إلي شبرا   (1) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 222. أبو داود في كتاب الصلاة باب 148 الترمذي في كتاب الدعوات باب 112. النسائي في كتاب الطهارة باب 119. ابن ماجة في كتاب الدعاء باب 3. أحمد في مسنده (1/ 96) . [ ..... ] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 تقربت إليه ذراعا» «1» والسير إلى الله من سنة إبراهيم إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ في الأزل وهو في هذا الطور. وإنما قدم الرسول لأن روحه في طرف الأزل مقدم «أول ما خلق الله روحي» فهو مشرف وقتئذ على أرواح أمته وبعد ذلك خلقت أرواح أمته مشرفين على أرواح غيرهم. وفي سورة البقرة اعتبر طرف الأبد فوقع الختم على الرسول وعلى شهادته فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ بدوام السير والعروج إلى الله والتعظيم لأمره وَآتُوا الزَّكاةَ بدعوة الخلق إلى الله والشفقة عليهم وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ حتى تصلوا إليه هو متولي أفنائكم عنكم فَنِعْمَ الْمَوْلى في إفناء وجودكم وَنِعْمَ النَّصِيرُ في إبقائكم بربكم والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين وذرياته وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا إلى يوم الدين. تم الجزء السابع عشر، ويليه الجزء الثامن عشر وأوله تفسير سورة المؤمنون   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15. مسلم في كتاب الذكر حديث 20، 21. الترمذي في كتاب الدعوات باب 131. ابن ماجة في كتاب الأدب باب 58. أحمد في مسنده (2/ 413) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 بسم الله الرّحمن الرّحيم الجزء الثامن عشر من أجزاء القرآن الكريم (سورة المؤمنون) (مكية وحروفها 4840 كلمها 1840 آياتها 118 [سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 30] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 القراآت: لأمانتهم على التوحيد: ابن كثير على صلاتهم موحدة: حمزة وعلي وخلف. وعِظاماً العظم موحدين على إرادة الجنس أو على وضع الواحد مكان الجمع لعدم اللبس: ابن عامر وأبو بكر وحماد وجبلة الأول موحدا والثاني مجموعا: زيد عن يعقوب. وروى القطعي عن أبي زيد بالعكس فيهما. الباقون مجموعين سَيْناءَ بكسر السين: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون بفتحها. تَنْبُتُ من الإنبات: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب غير روح. الآخرون بفتح التاء وضم الباء من النبات. تسقيكم بفتح النون: نافع وابن عامر وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد. بالتاء الفوقانية: يزيد: الباقون بضم النون. مُنْزَلًا بفتح الميم وكسر الزاء: أبو بكر وحماد. الآخرون بضم الميم وفتح الزاء. الوقوف: الْمُؤْمِنُونَ هـ لا خاشِعُونَ هـ لا مُعْرِضُونَ هـ لا فاعِلُونَ هـ لا حافِظُونَ هـ مَلُومِينَ هـ لاعتراض الاستثناء بين الأوصاف ولاستحقاق الشرط الابتداء ولطول الكلام وإلا فالآيتان من أوصاف المؤمنين أيضا العادُونَ هـ ج راعُونَ هـ لا يُحافِظُونَ هـ وإلا لأوهم تخصيص الإرث بالمذكورين في الآيتين فقط الْوارِثُونَ هـ لا الْفِرْدَوْسَ ط خالِدُونَ هـ طِينٍ ج هـ للعدول عن المظهر إلى كناية عن غير مذكور فإن المراد من الإنسان آدم، ومن الهاء في جعلناه جنس ولده مع عطف ظاهر مَكِينٍ هـ ج للعطف لَحْماً صلى وقد قيل للابتداء بإنشاء نفخ الروح تعظيما آخَرَ ط الْخالِقِينَ هـ ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار فإن بين الإحياء والإفناء مهلة لَمَيِّتُونَ هـ ط لذلك لَقادِرُونَ هـ للآية مع اتصال المعنى بلفظ الفاء وَأَعْنابٍ لئلا يوهم أن الجار والمجرور وصف أعناب تَأْكُلُونَ هـ لا لأن شجرة مفعول فَأَنْشَأْنا لِلْآكِلِينَ هـ لَعِبْرَةً ط لأن الجملة بعدها ليست بصفة لها تَأْكُلُونَ هـ لاحْمَلُونَ هـ ط غَيْرُهُ ط تَتَّقُونَ هـ مِثْلُكُمْ لا لأن قوله يُرِيدُ صفة بَشَرٌ عَلَيْكُمْ ط مَلائِكَةً ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول الْأَوَّلِينَ ج هـ للآية مع اجتناب الابتداء بقول الكفار مع اتحاد مقصود الكلام حِينٍ هـ كَذَّبُونِ هـ التَّنُّورُ هـ لا لأن ما بعده جواب فإذا مِنْهُمْ ج لعطف المتفقتين مع اعتراض الاستثناء ظَلَمُوا ج للابتداء بأن مع احتمال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 إضمار اللام والفاء للتعليل مُغْرَقُونَ هـ الظَّالِمِينَ هـ الْمُنْزِلِينَ هـ لَمُبْتَلِينَ هـ. التفسير: لما انجر الكلام في السورة المتقدمة إلى الختم بالصلاة والزكاة بدأ في هذه السورة بذكر فضائلهما وفضائل ما ينخرط في سلكهما من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات. «وقد» نقيضة «لما» لأنها تثبت المتوقع و «لما» تنفيه، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي إخبار بثبوت الفلاح لهم. وقد مر معنى الإيمان والاختلاف فيه بين الأقوام في أول «البقرة» . وأما الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون، وترك الالتفات، والنظر إلى موضع السجود، والتوقي عن كف الثوب أي جمعه، والعبث بجسده وثيابه، والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم، والسدل بأن يضع وسط الثوب على رأسه أو على عاتقه ويرسل طرفيه، والاحتراز عن الفرقعة والتشبيك وتقليب الحصى، والاختصار وهو أن يمسك بيده عصا أو سوطا ونحوهما. قال الحسن وابن سيرين: كان المسلمون يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فلما نزلت هذه الآية طأطأ وكان لا يجاوز بصره مصلاه، وهذا الخشوع واجب عند المحققين. نقل الإمام الغزالي عن أبي طالب المكي عن بشر الحافي: من لم يخشع فسدت صلاته. وعن الحسن: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع. وعن معاذ بن جبل: من عرف من على يمينه وشماله متعمدا وهو في الصلاة فلا صلاة له. وروي عنه مرفوعا: إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها وعشرها وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها. وادعى عبد الواحد بن زيد إجماع العلماء على أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته. ومما يدل على صحة هذا القول قوله سبحانه أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء: 82] والتدبر لا يتصوّر بدون الوقوف على المعنى، وكذا قوله وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] والغفلة تضاد الذكر ولهذا قال وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ [الأعراف: 205] وقوله حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء: 43] نهي للسكران إلا أن المستغرق في هموم الدنيا بمنزلته. وقوله صلى الله عليه وسلم «المصلي يناجي ربه» ولا مناجاة مع الغفلة أصلا بخلاف سائر أركان الإسلام فإن المقصود منها يحصل مع الغفلة، فإن الغرض من الزكاة كسر الحرص وإغناء الفقير، وكذا الصوم قاهر للقوي كاسر لسطوة النفس التي هي عدوّ الله، وكذا الحج فإن أفعاله شاقة وفيه من المجاهدة ما يحصل به الابتلاء وإن لم يكن القلب حاضرا. والمتكلمون أيضا اتفقوا على أنه لا بد من الحضور والخشوع قالوا: لأن السجود لله تعالى طاعة، وللصنم كفر، وكل واحد منهما يماثل الآخر في ذاته ولوازمه، فلا بد من مميز وما ذاك إلا القصد والإرادة ولا بد فيهما من الحضور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 وأما الفقهاء فالأكثرون منهم لا يوجبون ذلك فيقال لهم: هبوا أنه ليس من شرط الإجزاء وهو عدم وجوب القضاء، أليس هو من شرط القبول الذي يترتب عليه الثواب؟ فمن استعار ثوبا ثم ردّه على أحسن الوجوه فقد خرج عن العهدة، وكذا إن ردّه على وجه الإهانة والاستخفاف إلا أنه يستحق المدح في الصورة الأولى والذم في الصورة الثانية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه. ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول: اللهم زوّجني الحور العين. فقال: بئس الخاطب أنت قلت: لا ريب أن الاحتياط إنما هو في رعاية جانب الخشوع كما حكي عن بعض العلماء أنه اختار الإمامة فقيل له في ذلك؟ فقال: أخاف إن تركت الفاتحة أن يعاتبني الشافعي. وإن قرأت مع الإمام أن يعاتبني أبو حنيفة، فاخترت الإمامة طلبا للخلاص عن هذا الخلاف. قال علماء المعاني: سبب إضافة الصلاة إليهم هو أن الصلاة دائرة بين المصلي والمصلى لأجله، فالمصلي هو المنتفع بها وحده وهي عدته وذخيرته، وأما المصلى له فمتعال عن ذلك. ولما كان اللغو هو الساقط من القول أو الفعل احتمل أن يقع في الصلاة، وأيضا كان الإعراض عنه من باب التروك كما أن الخشوع وهو استعمال الآداب وما لا يصح ولا تكمل الصلاة إلا به كان من باب الأفعال وعلى الفعل والترك بناء قاعدة التكليف فلا جرم جعلهما قرينين فقال وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ واللغو على ما قلنا يشمل كل ما كان حراما أو مكروها أو مباحا لا ضرورة إليه ولا حاجة قولا أو فعلا. فمن الحرام قوله تعالى حكاية عن الكفار لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] فإن ذلك اللغو كفر والكفر حرام. ومن المباح قوله لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ [البقرة: 225] ولو لم يكن مباحا لم يناسبه عدم المؤاخذة. والإعراض عن اللغو هو بأن لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه كما قال عز من قائل وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان: 72] ثم وصفهم بفعل الزكاة وهو مناسب للصلاة. وليس المراد بالزكاة هاهنا عين القدر المخرج من النصاب لأن الخلق لا قدرة لهم على فعلها فلا يصح المعنى إلا بتقدير مضاف أي لأداء الزكاة فاعلون، بل المراد فعل المزكي الذي هو التزكية. فقوله للمزكي فاعل الزكاة كقولك للضارب فاعل الضرب. وعن أبي مسلم أنه حمل الزكاة هاهنا على كل فعل محمود مرضي كقوله قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: 14] والأول أقرب لأنه مناسب لعرف الشرع. الصفة الرابعة قوله وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ قال الفراء: «على» بمعنى «عن» وقال غيره: هو في موضع الحال أي إلا والين أو قوامين على أزواجهم نظيره قولهم «كان زياد على البصرة» أي واليا عليها، والمعنى أنهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 مستمرون على حفظ الفروج في كافة الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم. أو تعلق الجار بمحذوف يدل عليه غَيْرُ مَلُومِينَ كأنه قيل: يلامون على كل من يباشرونه إلا على أزواجهم فإنهم غير ملومين عليهن. وجوّز في الكشاف أن يكون صلة لحافظين من قولهم «احفظ عليّ عنان فرسي» على تضمينه معنى النفي أي لا تسلط علي فرسي. وإنما لم يقل «أو من ملكت» لأنه اجتمع في السرية وصفان: الأنوثة التي هي سبب نقصان العقل وكونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع فَمَنِ ابْتَغى حدا وَراءَ ذلِكَ الحد الذي شرع وهو إباحة أربع من الحرائر وما شاء من الإماء وكفى به حدا فسيحا فَأُولئِكَ هُمُ الكاملون في العدوان المتناهون فيه. قيل: لا دليل فيه على تحريم نكاح المتعة لأنها من جملة الأزواج إذا صح النكاح. ومنع من أنها من الأزواج ولو كانت زوجة لورث منها الزوج لقوله وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ [النساء: 12] ولورثت منه لقوله وَلَهُنَّ الرُّبُعُ [النساء: 12] ثم الآية من العمومات التي دخلها التخصيص بدلائل أخر فيخرج منها الغلام بل الوطء في الدبر على الإطلاق لأنه ليس موضع حرث، وكذا الزوجة والأمة في أحوال الحيض والعدة والإحرام ونحوها. وقال أبو حنيفة: الاستثناء من النفي ليس بإثبات فقوله «لا صلاة إلا بطهور» «ولا نكاح إلا بولي» لا يقتضي حصول الصلاة والنكاح بمجرد حصول الطهور والولي، ولا تخصيص عنده في الآية. والمعنى أنه يجب حفظ الفروج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات، وهكذا نقله الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره. الصفة الخامسة رعاية الأمانة والعهد والمراد بهما الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه لتمكن رعايتهما، والراعي القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية. ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الناس كالعبادات والمعاملات والودائع والقصود والنيات والعقود والنذور والطلاق والعتاق وغيرها، وقد مر في تفسير قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء: 58] وقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] ويحتمل الخصوص فيما تحملوه من أمانات الناس وعهودهم. الصفة السادسة محافظة الصلاة كما مر في قوله حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ [البقرة: 238] وذلك في «البقرة» وصفوا أولا بالخشوع في صلاتهم وآخرا بالمداومة عليها وبمراقبة أعدادها وأوقاتها فرائض كانت أو سننا، رواتب أو غيرها. فالمحافظة أعم من الخشوع وأشمل، ومن هنا يعرف فضيلة الصلاة إذ وقع الافتتاح بها والاختتام عليها وإن اختلف الاعتباران والعبارتان. أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الأحقاء بأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 يسموا ورّاثا دون من عداهم ممن يرث مالا فانيا أو متاعا قليلا أو ممن يدخل الجنة سواهم كالاطفال والمجانين والفساق بعد العفو وكالولدان والحور. ثم بين الموروث بقوله الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ وقد سبق معنى هذه الوراثة في «الأعراف» في قوله وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها [الأعراف: 43] قال الفقهاء: لا فرق في الميراث بين ما ملكه الميت وبين ما يقدر ملكه فيه ولذلك قالوا للدية إنها ميراث المقتول. وكل من في الجنة فله مسكن مفروض في النار على تقدير كفره، وكل من في النار فله مسكن مفروض في الجنة على تقدير إيمانه كما ورد في الحديث، فإذا تبادل المسكنان كان جميع أهل الجنة وارثين، ولكن كل الفردوس لا يكون ميراثا بل بعضه ميراث وبعضه بالاستحقاق إلا أنه يصدق بالجملة أنهم ورثوا الفردوس أي الجنة ولهذا أنث الضمير في قوله هُمْ فِيها خالِدُونَ وقيل: إن الجنة كانت مسكن أبينا آدم عليه السلام فإذا انتقلت إلى أولاده كان شبيها بالميراث. والفردوس بلسان الحبشة أو الروم هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر. روي أن الله عز وجل بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل خلالها المسك الأذفر. وروى أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «الفردوس مقصورة الرحمن فيها الأنهار والأشجار» وعن أبي أمامة مرفوعا «سلوا الله الفردوس فإنها أعلى الجنان وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش» ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لما خلق الله تعالى جنة عدن قال لها: تكلمي. فقالت: قد أفلح المؤمنون» ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا أحسن العبد الوضوء وصلى الصلاة لوقتها وحافظ على ركوعها وسجودها ومواقيتها قالت: حفظك الله كما حافظت علي وتشفع لصاحبها. فإذا أضاعها قالت: ضيعك الله كما ضيعتني وتلف كما يلف الثوب ويضرب بها على وجه صاحبها» قالت العلماء: أما كلام الجنة فالمراد به أنها أعدت للمتقين كقوله قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] وكذا الكلام في كلام «طوبى» . وأما أنه تعالى خلق الجنة بيده فالمراد تولى خلقها وإيجادها من غير واسطة. وأما حديث الصلاة فلا ريب أنها حركات وسكنات ولا يصح عليها التكلم فالمراد به ضرب المثل كقولك للمنعم عليك «إن إحسانك إليّ ينطق بالشكر» . ولما حث عباده على العبادات ووعدهم الفردوس على مواظبتها عاد إلى تقرير المبدأ والمعاد ليتمكن ذلك في نفوس المكلفين وهو ثلاثة أنواع: الأول الاستدلال بأطوار خلق الإنسان والسلالة الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر وهذا البناء للقلة ولما يسقط عن الشيء كالقلامة. قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل: المراد آدم لأنه استل من الطين، والكناية في جَعَلْناهُ راجعة إلى الإنسان الذي هو ولد آدم أي جعلنا جوهره نطفة وقال آخرون: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 الإنسان هاهنا هو ولد آدم والطين اسم آدم والسلالة هي الأجزاء الكلية المبثوثة في أعضائه التي تجتمع منيا في أوعيته، ويحتمل أن يقال: إن كل نسل آدم حاله كذلك لأن غذاءه ينتهي إلى النبات المتولد من صفو الأرض والماء المسمى بالسلالة. ثم إن تلك السلالة تصير منيا وعلى هذا فكلتا لفظي «من» للابتداء. قال في الكشاف: الأولى للابتداء والثانية للبيان وهو موجه على التفسير الأول فقط. والقرار المستقر أراد به الرحم. وإنما وصفت بالمكين لمكانتها في نفسها فإنها مكنت حيث هي وأحرزت، أو على الإسناد المجازي باعتبار المستقر فيها كقولك «طريق سائر» . وترتيب الأطوار كما مر في أول الحج. ومعنى «ثم» في بعض هذه المعطوفات تراخي الرتبة ولا سيما في قوله ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي خلقا مباينا للخلق الأول حيث جعله حيوانا وكان جمادا إلى غير ذلك من دقائق اللطف وغرائب الصنع وذلك بعد استكماله ثلاثة أربعينات. ومن هنا ذهب أبو حنيفة فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده إلى أنه يضمن البيضة ولا يردّ الفرخ لأنه خلق آخر سوى البيضة. وروى العوفي عن ابن عباس أن ذلك تصريف الله في أطواره بعد الولادة من الطفولية وما بعدها إلى استواء الشباب وخلق الفهم والعقل فيه يؤيده قوله ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ويروى هذا القول أيضا عن مجاهد وابن عمر فَتَبارَكَ اللَّهُ كثر خيره وبركته أو هو وصف له بالدوام والبقاء أو بالتعالي لأن البركة يرجع معناها إلى الامتداد وكل ما زاد على الشيء فقد علاه. ومعنى أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أحسن المقدّرين تقديرا فحذف المميز للعلم به. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن كل ما يفعله الله فهو حسن وحكمة فلا يكون خالقا للكفر والمعاصي. وأجيب بأن الحسن هاهنا بمعنى الإحكام والإتقان في التركيب والتأليف وبأنه لا يقبح منه شيء لأنه تعالى يتصرف في ملكه. قالوا: لولا أن غيره تعالى خالق لم تحسن هذه الإضافة فيعلم منه أن العبد خالق أفعاله. وعورض بقوله اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] وأجيب بأن المراد أنه أحسن الخالقين في زعمكم واعتقادكم. وبعضهم أجاب بأن وجه حسن الإضافة هو أنه تعالى وصف عيسى بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير ولا يخفى ضعف هذا الجواب من أنه يلزم إطلاق الجمع على الواحد ومن حيث إنه يلزم إطلاق الخالق على المصوّرين. والحق أن الخلق لو كان بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد لا يلزم منه شيء من هذه الإشكالات. روي أن عبد الله بن أبي سرج كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب هكذا نزلت. فقال عبد الله: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ فلحق بمكة كافرا ثم أسلم يوم الفتح. وروي عن عمر أيضا سبق لسانه بقوله فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ قبل أن ينزل. واعلم أن هذا غير مستبعد ولا قادح في إعجاز القرآن لأنه ليس بمقدار سورة الكوثر التي وقع فيها أقل التحدي به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 سؤال: ما الحكمة في الموت وهلا وصل تعيم الدنيا بنعيم الآخرة ليكون في الأنعام أبلغ؟ جواب لو كان كذلك لكان الآتي بالطاعة آتيا بها لمحض الجنة والثواب فلا جرم أوقع الله تعالى الإماتة والإعادة في البين لتكون الطاعات أدخل في الإخلاص وأبعد عن صورة المبايعة. وليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة وهي حياة القبر فتعرف تلك بدليل آخر. ويمكن إن يقال: بل الآية تتضمنها فإنها أيضا من جنس الإعادة. النوع الثاني: الاستدلال بخلق السموات قال الخليل والفراء والزجاج: سميت السموات طرائق لأنها طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل. وقال علي بن عيسى: لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم. وقيل: لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ أي عن السموات وحفظها أن لا تقع على الأرض قاله سفيان بن عيينة. وعن الحسن أراد بالخلق الناس أي ما كنا غافِلِينَ عن مصالحهم فخلقنا الطرائق فوقهم لينزل منها عليهم البركات والأرزاق ولينتفعوا بغير ذلك من منافعها. ويحتمل أن يريد بالأول كمال قدرته وبالثاني كمال علمه بأحوال مخلوقاته وفيه نوع من الزجر. ويمكن أن يراد خلقنا السموات وما كنا عن خلقها ذاهلين فلهذا لم تخرج عن التقدير الذي أردنا كونها عليه نظيره ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك: 3] النوع الثالث: الاستدلال بنزول الأمطار وإخراج النبات وإنشاء الحيوانات. ونزول المطر عند الظاهرين من أهل الشرع لا يبعد أن يكون من نفس السماء، وعند أرباب المعقول منهم يراد به إنزاله من جهة السماء قالوا: إنه سبحانه يصعد الأجزاء المائية من البحر بواسطة التبخير فتصير في الجو صافية عذبة زائلة عنها ملوحة البحر، ثم ينزلها بواسطة السحب وقد سلف في أول البقرة تفصيل ذلك. ومعنى بِقَدَرٍ بتقدير يسلمون معه من المضار ويصلون إلى المنافع، أو بمقدار يوافق حاجاتهم. ومعنى إسكان ماء المطر في الأرض جعله مددا للينابيع والآبار. وقيل: أراد إثباته في الأرض على ما روي عن ابن عباس أن الأنهار خمسة: سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة واستودعها الجبال وأجراها في الأرض. وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ أي كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن نذهب به بوجه من الوجوه. ولهذا التنكير حسن موقع لا يخفى إذ فيه إيذان على أن الذاهب به قادر على أيّ وجه أراد، وفيه تحذير من كفران نعمة الماء وتخويف من نفاذه إذا لم يشكر. ثم لما نبه على عظم نعمته بخلق الماء بين المنافع الحاصلة بسببه وخص منها النخيل والأعناب وشجرة الزيتون لأنها أكرم الشجر وأعمها نفعا، ووصف النخل بأن ثمرهما جامع لأمرين: التفكه والتطعم. وجوز في الكشاف أن يكون قوله وَمِنْها تَأْكُلُونَ من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 قولهم «فلان يأكل من حرفة كذا» كأنه قال: ومن هذه الجنان وجوه أرزاقكم ومعايشكم. ووصف الزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا. قال جار الله: طور سيناء وطور سينين إما أن يكون الطور فيه مضافا إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإما أن يكون المجموع اسما للجبل وهو جبل فلسطين على قول والطور الذي منه نودي موسى. من قرأ سَيْناءَ بفتح السين فهو كصحراء، ومن قرأ بكسرها فمنع صرفه للعلمية والعجمة أو التأنيث بتأويل البقعة ولا يكون ألفه حينئذ للتأنيث كعلباء وحرباء. قال في الكشاف بِالدُّهْنِ في موضع الحال والباء للمصاحبة دون التعدية، لأن نبات الدهن أو إنباته لا يكاد يستعمل. فالمعنى تنبت الشجرة وفيها الدهن أو تنبت الشجرة زيتونها وفيه الزيت. ويجوز أن يكون أنبت بمعنى نبت أيضا، والصبغ الإدام لأنه يصبغ الخبز. قلت: لا يبعد أن يريد بالصبغ نفس ثمر الزيتون لا الزيت، وكذا يحتمل أن تكون الباء في بِالدُّهْنِ للتعدية إلا أن يكون الإنبات متعديا. قال المفسرون: إنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل لأنها منه تشعبت في البلاد وتفرقت أو لأن معظمها هنالك. قوله وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً قد مر في «النحل» . ولعل القصد بالأنعام هاهنا الإبل خاصة لأنها هي المحمول عليها في العادة ولأنه قرنها بالفلك وهي سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر. وإنما قال في هذه السورة. فَواكِهُ كَثِيرَةٌ بالجمع بخلاف ما في «الزخرف» لتناسب قوله هنا مَنافِعُ كَثِيرَةٌ ولتناسب قوله جَنَّاتٍ كما قال هنالك فاكِهَةٌ [الرحمن: 11] على التوحيد لتناسب قوله وَتِلْكَ الْجَنَّةُ [مريم: 63] وإنما قال هنا في الموضعين وَمِنْها تَأْكُلُونَ بزيادة الواو خلاف الزخرف لأن تقدير الآية: منها تدخرون ومنها تأكلون ومنها تبيعون ومنها ومنها، وليس كذلك فاكهة الجنة فإنها للأكل فحسب فافهم. واعلم أنه لما انجر الكلام إلى ذكر الفلك أتبعه قصة نوح لأنه أول من ألهم صنعتها، وفيه أيضا تمزيج القصص بدلائل التوحيد على عادة القرآن لأجل الاعتبار والتنشيط. وقوله ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ جملة مستأنفة تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة. ومعنى أَفَلا تَتَّقُونَ أفلا تخافون أن تتركوا عبادة من هو لوجوب وجوده مستحق العبادة ثم تذهبوا فتعبدوا ما ليس بهذه الصفة بل هو في أخس مراتب الإمكان وهي الجمادية. ثم حكى الله سبحانه عنهم شبها: الأولى قولهم ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إنكار كون الرسول من جنس البشر أو إنكار كونه مثلهم في الأسباب الدنيوية من المال والجاه والجمال كأنهم ظنوا أن القرب من الله يوجب المزية في هذه الأمور ويتأكد هذا الاحتمال بالشبهة الثانية وهي قوله يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي يتكلف طلب الفضل والرياسة عليكم نظيره وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ [يونس: 78] ويتأكد الاحتمال الأول بالشبهة الثالثة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 وهي قوله وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً لعلو شأنهم ووفور علمهم وكمال قوتهم. وقد حكى هذه الشبهة عن أقوام آخرين في «حم السجدة» قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت: 14] خص هذه السورة باسم الله على الأصل ولتقدم ذكر الله وخص تلك السورة باسم الرب لتقدم ذكر الرب في قوله ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ [فصلت: 9] وهم من جملة العالمين قالوه إما اعتقادا وإما استهزاء. الشبهة الرابعة الاعتصام بحبل التقليد ما سَمِعْنا بِهذا أي بمثل هذا الكلام أو بمثل هذا المدعي فيجوز أن يكونوا صادقين في ذلك للفطرة المتداولة، ويجوز أن يكونوا تجاهلوا وتكذبوا لانهماكهم في الغي وتشمرهم لدفع الحق وإفحام النبي صلى الله عليه وسلم بأيّ وجه يمكنهم يؤيده الشبهة الخامسة وهي نسبتهم إياه إلى الجنون مع علمهم ظاهرا بأنه أرجح الناس عقلا ورزانة. قال جار الله: الجنة الجنون أو الجن أي به جن يخبلونه، وهذا بناء على زعم العوام أن المجنون ضر به الجن. ثم رتبوا على هذه الشبهة قولهم فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي اصبروا عليه إلى أن ينكشف جنونه ويفيق أو إلى أن يموت أو يقتل. وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام فإنه عليه السلام كان يفعل أفعالا على خلاف عاداتهم. وكان رؤساؤهم يقولون للعوام: إنه مجنون لينفروهم عنه وليلبسوا عليهم أمره. ويحتمل أن يكون هذا كلاما مستأنفا وهو أن يقولوا لقومهم اصبروا فإنه إن كان نبيا حقا فالله ينصره ويقوّي أمره فنحن حينئذ نتبعه، وإن كان كاذبا فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه. واعلم أنه سبحانه لم يذكر جواب شبهاتهم لركاكتها ولأنه قد علم في هذا الكتاب الكريم أجوبتها غير مرة وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الأنعام: 9] قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الإسراء: 95] أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ [القصص: 66] أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة: 170] وإذا بطل طريقة التقليد صار حديث التربص ضائعا يجب قبول قول من يدعي النبوّة بعد ظهور المعجزة من غير توقف. ثم حكى أن نوحا عليه السلام لما علم إصرارهم على الكفر قالَ رَبِّ انْصُرْنِي أي أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي ففي نصرته إهلاكهم، أو انصرني بدل تكذيبهم إياي كقولك «هذا بذاك» والمراد بدلني من غم التكذيب سلوة النصرة أو انصرني بإنجاز ما كذبوني فيه وهو وعد العذاب في قوله إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 59] وباقي القصة إلى قوله إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ قد مر تفسير مثلها في سورة هود. ومعنى فَاسْلُكْ أدخل فيها وقد مر في أول الحجر في قوله كَذلِكَ نَسْلُكُهُ [الآية: 12] وسَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ نقيض سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الأنبياء: 101] لأن «على» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 تستعمل في الضار كما أن اللام تستعمل في النافع. وقد جاء زيادة منهم هاهنا على الأصل وحذفت في «هود» ليحسن عطف وَمَنْ آمَنَ من غير التباس وبشاعة. قيل: في قوله بِأَعْيُنِنا على الجمع فساد قول المشبهة إن الله خلق آدم على صورته. أما قوله فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أي ركبت واستوليت أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ لم يقل «فقولوا» لأن أول الكلام مبني على خطاب نوح، ولأن قول النبي قول الأمة مع ما فيه من الإشعار بفضله ومن إظهار الكبرياء وأن كل أحد لا يليق لخطاب رب العزة. وفي الأمر بالحمد على هلاكهم تقبيح صورة الظلمة كقوله فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام: 45] وإنما جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاة من الغرق جزما لأنه كان عرفه أن ذلك سبب نجاتهم من الاشتراك مع الظلمة في حكم الإهلاك. ثم أمره أن يسأل ما هو أهم وأنفع أن ينزله في السفينة بدليل عطف فَقُلِ على جزاء فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أو ينزله في الأرض عند خروجه من السفينة لأنه لا يبعد أن يدعو عند ركوب السفينة بما يتعلق بالخروج منها مُنْزَلًا أي إنزالا أو موضع إنزال يبارك له فيه بزيادة إعطاء خير الدارين وقد أمره أن يشفع بالدعاء الثناء المطابق للمسألة وهو قوله وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي إنزالا وذلك أنه أقدر على الحفظ وأعلم بحال النازل بل كل منزل فإنه لا يقدر على إيصال الخير إلى النازل إلا بإقداره وتمكينه وإلقاء تلك الداعية في قلبه إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من القصة لَآياتٍ لعبرا ودلالات لمن اعتبر وادّكر فإن إظهار تلك المياه العظيمة والذهاب بها إلى مقارّها لا يقدر عليها إلا القدير الخبير وَإِنْ كُنَّا هي المخففة من الثقيلة واللام في لَمُبْتَلِينَ هي الفارقة. والمعنى وإن الشأن والقصة كما مبتلين أي مصيبين قوم نوح ببلاء الغرق أو مختبرين بهذه الآيات من يخلفهم لننظر من يعتبر كقوله وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 15] وقيل: المراد كما يعاقب بالغرق من كفر فقد يمتحن به من لم يكفر على وجه المصلحة لا التعذيب، فليس الغرق كله على وجه واحد. التأويل: الفلاح الظفر والفوز والبقاء أي ظفر المؤمنون بالإيمان الحقيقي المقيد بجميع الشرائط بنفوسهم ببذلها في الله، وفازوا بالوصول إلى الله وبقوا به بعد أن فنوا فيه. الخشوع في الظاهر انتكاس الرأس وغض العين واستماع الأذن وقراءة اللسان ووضع اليمين على الشمال كالعبيد، واعتدال الظهر في القيام وانحناؤه في الركوع وثبات القدمين. والخشوع في الباطن سكون النفس عن الخواطر والهواجس وحضور القلب لمعاني القراءة والأذكار ومراقبة السر بترك الالتفات إلى المكوّنات، واستغراق الروح في بحر المحبة وذوبانه عند تجلي صفات الجمال والجلال. واللغو كل ما يشغلك عن الله. والزكاة تزكية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 النفس عن الأخلاق الذميمة بل عن حب الدنيا لأنه رأس كل خطيئة إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ في كلمة «على» دلالة على أنهم يجب أن يستولوا على الأزواج لا بالعكس وإلا كن عدوّا لهم كقوله إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14] وعلامة الاستيلاء على الأزواج أن يبتغي بالنكاح النسل ورعاية السنة في أوانها لا حظ النفس وإلا كان متجاوزا طريق الكمال لأمانتهم يعني التي حملها الإنسان وَعَهْدِهِمْ هو عهد الميثاق في الأزل يحافظون الفرق بين المحافظة والخشوع، أن الخشوع معتبر في نفس الصلاة، والمحافظة معتبرة فيها وفيما قبلها من الشرائط وفيما بعدها وهو أن لا يفعل ما يحبطها ويضيعها الوارثون لأنهم أحياء القلوب وقد نالوا من المراتب ما خلفتها أموات القلوب مِنْ سُلالَةٍ لأنه سل من جميع أجزاء الأرض فجاء مختلف الألوان والأخلاق حسب اختلاف أجزاء الطين. بل بحسب اختلاف المركبات من الطين. ففيه حرص الفأرة والنملة، وشهوة الحمار والعصفور، وغضب الفهد والأسد، وكبر النمر، وبخل الكلب، وشره الخنزير، وحقد الحية، وغير ذلك من الصفات الذميمة. وفيه شجاعة الأسد، وسخاوة الديك، وقناعة البوم، وحلم الجمل، وتواضع الهرة، ووفاء الكلب، وبكور الغراب، وهمة البازي ونحوها من الأخلاق الحميدة فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ لأنه خلق أحسن المخلوقين. أما من حيث الصورة فلأنه تعالى خلق من نطفة متشابهة الأجزاء بدنا مختلف الأبعاض والأعضاء كاللحم والشحم والعظم والعروق والشعر والظفر والعصب والعروق والمخ والأنف والفم واليد والرجل وغيرها مما يشهد لبعضها علم التشريح. وأما من حيث المعنى فلأنه خلق الإنسان مستعدا لحمل الأمانة التي أبى حملها السموات والأرض والجبال وسيجيء تحقيق ذلك في موضعه ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ إلى قوله تُبْعَثُونَ فيه أن الإنسان قابل لموت القلب ولموت النفس ولحشرهما. وفي موت أحدهما حياة الآخر وحشره. وموت القلب عبارة عن انغماسه وتستره في حجب الغواشي الآتية عليه من طرق الحواس الظاهرة وحاستي الوهم والخيال فلذلك قال وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ هي الأغشية والحجب من الجهات المذكورة وَما كُنَّا عَنِ مصالح الْخَلْقِ غافِلِينَ فلا نترك العبد في تلك الحجب بدليل قوله وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ سماء العناية ماءً الرحمة بِقَدَرٍ استعداد السالك فَأَسْكَنَّاهُ في أرض وجوده فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ المعارف وَأَعْنابٍ الكشوف وشجرة الخفي الذي يخرج من طور سيناء الروح بتأثير تجلي أنوار الصفات تَنْبُتُ بدهن حسن الاستعداد لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة لأنه سر بين الله وبين الروح. وَصِبْغٍ لآكل الكونين بقوة الهمة. ثم أخبر عن نعم الغالب أن فيها منافع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 لأنها آلة تحصيل الكمال عَلَيْها وَعَلَى فلك الشريعة في سفر السير إلى الله حْمَلُونَ وتأويل قصة نوح قد مر في سورة هود والله أعلم. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 56] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) القراآت: هَيْهاتَ هَيْهاتَ بكسر التاء فيهما: يزيد والوقف بالتاء لا غير وهو الصحيح عنه. وروى ابن وردان عنه بالكسر والتنوين فيهما. الباقون بفتح التاء فيهما في الحالين إلا الكسائي فإنه يقف بالهاء تَتْرا بالتنوين: ابن كثير وأبو عمرو ويزيد والوقف بالألف لا غير. الباقون بالياء في الحالين وأن هذه بفتح الهمزة وسكون النون: ابن عامر وَإِنَّ بالكسر والتشديد: عاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون وأن بالفتح والتشديد زبرا بفتح الباء: عباس. الآخرون بضمها. الوقوف: آخَرِينَ هـ ج للآية مع الفاء واتصال المعنى غَيْرُهُ ط تَتَّقُونَ هـ الدُّنْيا لا لأن ما بعده مقول القول مِثْلُكُمْ لا لأن ما بعده صفة بشر تَشْرَبُونَ هـ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 لَخاسِرُونَ هـ مُخْرَجُونَ هـ لِما تُوعَدُونَ هـ بِمَبْعُوثِينَ هـ لأن الكل مقول الكفار وباب رخصة الضرورة وجواز إتيان الآية مفتوح بِمُؤْمِنِينَ هـ ط بِما كَذَّبُونِ هـ نادِمِينَ ج هـ للآية مع حسن الوصل تصديقا لقوله عَمَّا غُثاءً ط تفخيما للكلمة التبعيدية بالابتداء مع فاء التعقيب. الظَّالِمِينَ هـ آخَرِينَ هـ ط لأن الجملة ليست بصفة لها لأن العجز عن سبق الأجل لا يختص بهم يَسْتَأْخِرُونَ هـ ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار. تَتْرا ط منونا قرىء أولا للابتداء بكلما أَحادِيثَ ج لما ذكر في غُثاءً لا يُؤْمِنُونَ هـ مُبِينٍ هـ لا لتعلق الجار عالِينَ هـ ج للآية مع الفاء عابِدُونَ هـ ج لذلك الْمُهْلَكِينَ هـ يَهْتَدُونَ هـ وَمَعِينٍ هـ صالِحاً ط عَلِيمٌ هـ ط لمن قرأ وَإِنَّ بالكسر فَاتَّقُونِ هـ زُبُراً ط فَرِحُونَ هـ حِينٍ هـ وَبَنِينَ هـ لا لأن نُسارِعُ مفعول ثان للحسبان الْخَيْراتِ ط لا يَشْعُرُونَ هـ. التفسير: عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن هذه القرون هم عاد قوم هود لمجيء قصتهم على أثر قصة نوح في غير هذا الموضع ولقوله تعالى في الأعراف وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الآية: 69] وقيل: إنهم ثمود لأنهم أهلكوا بالصيحة وقد قال الله تعالى في هذه القصة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ومعنى فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ جعلناهم موضع إرسال وإلا فلفظة أرسل لا تعدى إلا «بإلى» وضمن الإرسال معنى القول ولهذا جيء بأن المفسرة أي قلنا لهم على لسان الرسول اعْبُدُوا اللَّهَ قال بعضهم: قوله أَفَلا تَتَّقُونَ غير موصول بما قبله وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه وردّوا عليه الحجة. والجمهور على أنه موصول لأنه دعاهم إلى الله وحذرهم عقابه إن لم يقبلوا قوله ولم يتركوا عبادة الأوثان. قال جار الله: إنما قال في هذه السورة وَقالَ الْمَلَأُ بالواو وفي الأعراف قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ [الآية: 66] بغير واو ومثله في سورة هود قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ [الآية: 53] لأنه بنى الأمر في ذينك الموضعين على تقدير سؤال سائل، وفي هذه السورة أراد أنه اجتمع في الحصول هذا الحق وهذا الباطل فعطف قولهم على قوله. وقال السكاكي صاحب المفتاح: إنما قدم الجار والمجرور أعني قوله مِنْ قَوْمِهِ على وصف الملا وهم الذين كفروا لطول الصلة بالمعطوفات، ولأنه لو أخر لأوهم أن قوله مِنْ قَوْمِهِ متعلق بالدنيا. ومعنى لقاء الآخرة لقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب. وَمعنى أَتْرَفْناهُمْ أنعمناهم بحيث شغلوا بالدنيا عن الأخرى. وقوله مِمَّا تَشْرَبُونَ أي من الذي تشربونه فحذف الضمير أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه. ثم أكدوا شبهتهم أن الرسول لا يكون من جنس البشر بقولهم وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ «واذن» واقع في جزاء الشرط وجواب لقومهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 أي إنكم إذا قبلتم قول مثلكم وأطعتموه خسرتم عقولكم وأبطلتم آراءكم إذ لا ترجيح لبعض البشر على بعض في معنى الدعوة إلى طريق مخصوص هذا بيان كفرهم. ثم بين تكذيبهم بلقاء الآخرة وطعنهم في الحشر بقوله أَيَعِدُكُمْ الآية. قال جار الله: ثني «أنكم» للتوكيد وحسن ذلك الفصل بالظرف ومُخْرَجُونَ خبر الأول أو أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مبتدأ معناه إخراجكم وخبره إِذا مِتُّمْ والجملة خبر الأول أو أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ في تقدير وقع إخراجكم وهذه الجملة الفعلية جواب «إذا» والجملة الشرطية خبر الأول وفي حرف ابن مسعود أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ ثم أكدوا الاستفهام الإنكاري بقولهم هَيْهاتَ ومعناه بعد وهو اسم هذا الفعل، وفي التكرير تأكيد آخر وكذا في إضمار الفاعل وتبيينه بقوله لِما تُوعَدُونَ قال جار الله: اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] لبيان المهيت به. وقال الزجاج: هو في تقدير المصدر أي البعد لما توعدون أو بعد لما توعدون فيمن نون. ثم بين إترافهم بأنهم قالوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا أي إلا هذه الحياة لأن «إن» النافية دخلت على «هي» العائدة إلى الحقيقة الذهنية فنفت ما بعدها نفي الجنس، وقد مر في «الأنعام» . وإنما زيد في هذه السورة قوله نَمُوتُ وَنَحْيا لأن هذه الزيادة لعلها وقعت في كلام هؤلاء دون كلام أولئك ولم يريدوا بهذا الكلام أنفس المتكلمين وحدهم بل أرادوا أنه يموت بعض ويولد بعض وينقرض قرن ويأتي قرن آخر، ولو أنهم اعتقدوا أنهم يحيون بعد الموت لم يتوجه عليهم ذم ولناقضه قولهم وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ. ثم حكى أنهم زعموا أن كل ما يدعيه هود من الاستنباء وحديث البعث وغيره افتراء على الله وأنهم لا يصدقونه البتة فلا جرم قالَ هو داعيا عليهم كما دعا نوح على قومه رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ قال الله مجيبا له أي عما زمان قليل قصير لَيُصْبِحُنَّ جعل صيرورتهم نادِمِينَ دليلا على إهلاكهم لأنه علم أنهم لا يندمون إلا عند ظهور سلطان العذاب ووقوع أماراته وذلك وقت إيمان اليأس. وزيادة «ما» لتوكيد قصر المدة والصَّيْحَةُ صيحة جبريل كما سلف في الأعراف وفي «هود» ومعنى بِالْحَقِّ بالعدل كقولك «فلان يقضي بالحق» وعلى أصول الاعتزال بالوجوب لأنهم قد استوجبوا الهلاك. والغثاء حميل السيل مما بلي واسودّ من الأوراق والعيدان وغيرها، شبههم بذلك في دمارهم أو في احتقارهم أو في قلة الاعتناء بهم، وفي ضمن ذلك تشبيه استيلاء العذاب عليهم باستيلاء السيل على الغثاء يقلبه كيف يشاء. ثم دعا عليهم بالهلاك في الدارين بقوله فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ كما مر في سورة هود. وفيه وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم وعرف الظالمين لكونهم مذكورين صريحا بخلاف ما يجيء من قوله فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ لأنهم غير مذكورين إلا بطريق الإجمال وذلك قوله ثُمَّ أَنْشَأْنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ والظاهر أنهم قوم صالح ولوط وشعيب كما ورد في قصصهم على هذا الترتيب في «الأعراف» وفي «هود» وغيرهما. وعن ابن عباس أنهم بنو إسرائيل. والمعنى إنا بعد ما أخلينا الديار من المكلفين أنشأناهم وبلغناهم حد التكليف حتى قاموا مقام من كانوا قبلهم. ثم بين كمال علمه وقدرته في شأن المكلفين بقوله ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أي كل طائفة مجتمعة في قرن لها آجال مكتوبة في الحياة وفي الموت بالهلاك أو الإهلاك، لا يتقدمها ولا يتأخر عنها، وفيه أن المقتول ميت بأجله. وقال الكعبي: معنى الآية أنهم لا يتقدمون وقت عذابهم إن لم يؤمنوا، ولا يتأخرون عنه ولا يستأصلهم إلا إذا علم منهم أنهم لا يزدادون إلا عنادا، وأنهم لا يلدون مؤمنا، وأنه لا نفع في بقائهم لغيرهم ولا ضرر على أحد في هلاكهم. ثم بين أن رسل الله كانوا بعد هذه القرون متواترين وأن شأنهم في التكذيب كان واحدا، وكانت سنة الله فيهم باتباع بعضهم بعضا في الإهلاك. والتاء في تَتْرا بدل من الواو في الوتر وهو الفرد أي أرسلناهم واحدا بعد واحد، والرسول يلابس المرسل والمرسل إليه جميعا فلذلك جاء في القرآن «رسلنا» و «رسلهم» و «رسولها» وأحاديث يكون اسم جمع للحديث أو جمعا له من غير لفظه، ومنه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ويكون جمعا للأحدوثة من لفظها كالأضحوكة والأعجوبة وهو المراد من الآية أي جعلناهم أخبارا يسمعونها ويتعجب منها لأنهم استؤصلوا فلم يبق فيهم عين ولا أثر سوى الحكاية. ثم ذكر طرفا من قصة موسى عليه السلام. عن الحسن بِآياتِنا أي بديننا كيلا يلزم منه تكرار لأن السلطان المبين هو المعجز، والأقرب قول ابن عباس أنها الآيات التسع لأن الآيات عند ذكر الرسل يراد بها المعجزات في عرف القرآن، والسلطان هو العصا لأنها كانت أم آياته وأقدمها فخصت بالذكر لشرفها وقوة دلالتها. ويجوز أن يراد أنها آيات في أنفسها وحجة بينة بالنسبة إلى المتحدين بها، أو يراد به تسلط موسى عليه السلام في الاستدلال على الصانع وأنه ما كان يقيم لهم وزنا. ثم حكى عن فرعون وقومه صفتهم وشبهتهم. أما الصفة فهي الاستكبار والعلو أي طلبوا الكبر وتكلفوه واستنكفوا عن قبول الحق وكانوا مع ذلك رفيعي الحال في أمور الدنيا غالبين قاهرين مستظهرين بالعدد والعدد، وأما الشبهة فهي إنكار كون الرسول من جنس البشر ولا سيما إذا كان قومهما وهم بنو إسرائيل خدما وعبيدا لهم. قال أبو عبيدة: العرب تسمي كل من دان لملك عابدا له، ويحتمل أن يقال: إنه كان يدعي الإلهية فادعى للناس العبادة وإن طاعتهم عبادة على الحقيقة والبشر يقع على الواحد وعلى الجمع. والمثل يوصف به الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث. ويقال أيضا: هما مثلاه وهم أمثاله. ثم بين أنه لما خطرت هذه الشبهة ببالهم صرحوا بالتكذيب فأهلكوا لذلك وكانوا في حكم الله وعلمه كذلك. ثم حكى ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 جرى على قوم موسى بعد إهلاك عدوهم وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ومن الناس من ظن أن هذا الضمير راجع إلى فرعون وملئه. والمعنى أنه خص موسى بالكتب لا للتكذيب ولكن ليهتدوا به، فلما أصروا على الكفر مع البيان العظيم استحقوا الإهلاك وهو وهم لأن موسى لم يؤت التوراة إلا بعد إهلاك القبط بدليل قوله وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى [القصص: 43] وفي قوله في أول «البقرة» وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ إلى قوله وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الآية: 51] والقصة مشهورة. فالصحيح أنه ذكر موسى وأراد قومه كما يقال «هاشم وثقيف» ويراد قومهم نظيره عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ [يونس: 83] وقد مر في آخر «يونس» . ثم أجمل قصة عيسى بقوله وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وقد مر بيانه في آخر الأنبياء في قوله وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الآية: 92] قال جار الله: لو قيل آيتين لجاز لأن مريم ولدت من غير مسيس، وعيسى روح من الله ألقى إليها وقد تكلم في المهد وكان يحيى الموتى مع معجزات أخر. واللفظ محتمل للتثنية على تقدير: وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية ثم حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. والأقرب حمل اللفظ على الوجه الذي لا يتم إلا بمجموعهما وهو الولادة على الوجه العجيب الناقص للعادة. والربوة بحركات الراء هي الأرض المرتفعة. عن كعب وقتادة وأبي العالية: هي إيليا أرض بيت المقدس وأنها كبد الأرض وأقرب إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وعن الحسن: فلسطين والرملة. ومثله عن أبي هريرة قال: الزموا هذه الرملة رملة فلسطين فإنها الربوة التي ذكرها الله. وقال الكلبي وابن زيد: هي مصر. والأكثرون على أنها دمشق وغوطتها والقرار المستقر من أرض منبسطة مستوية. وعن قتادة: أراد ذات ثمار وماء يعني لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها والمعين الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض من عانه إذا أدركه بعينه فوزنه «معيون» على «مفعول» وقال الفراء والزجاج: إن شئت جعلته «فعيلا» من الماعون وهو ما سهل على معطيه من أثاث البيت ومثله قول أبي علي: المعين السهل الذي ينقاد ولا يتعاصى. وقال جار الله: ووجه من جعله «فعيلا» أنه نفاع لظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة. قال المفسرون: سببب الإيواء أنها قرت بابنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة سنة، وإنما ذهب بها ابن عمها يوسف ثم رجعت إلى أهلها بعد ما مات ملكهم. قوله سبحانه يا أَيُّهَا الرُّسُلُ ليس على ظاهره لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة وفي تأويله وجوه: أحدها الإعلام بأن كل رسول في زمانه نودي بذلك ووصى به ليعتقد السامع أن أمرا نودي له جميع الرسل حقيق أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 يؤخذ به ويعمل عليه، ويؤيد هذا التأويل ما روي عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن في شدة الحر عند فطره صلى الله عليه وسلم وهو صائم فرده الرسول إليها وقال: من أين لك هذا؟ فقالت: من شاة لي ثم رده وقال: من أين هذه الشاة؟ فقالت: اشتريتها بمالي فأخذه. ثم إنها جاءته وقالت: يا رسول الله لم رددته؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بذلك أمرت الرسل أن لا تأكل إلا طيبا ولا تعمل إلا صالحا. وثانيها وهو قول محمد بن جرير أن المراد به عيسى وقد خاطب الواحد خطاب الجمع لشرفه وكقوله الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران: 173] والمراد نعيم بن مسعود. ووقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية أي آويناهما وقلنا لهما هذا أي أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا الكلام، فكلا مما رزقناكما واعملا عملا صالحا اقتداء بالرسل. وثالثها وهو الأظهر عندي أن المراد نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار الرسل. ووجه اتصال الكلام بما بعده ظاهر كما نقرره، ووجه اتصاله بما قبله هو انتهاء الكلام إلى ذكر المستلذ وبالحقيقة المراد به الأمة كقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1] والطيب ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه أو هو الحلال. وقيل: طيبات الرزق حلال لا يعصى الله فيه، وصاف لا ينسى الله فيه، وقوام يمسك النفس ويحفظ العقل. وفي تقديم الأكل من الطيبات على الأمر بالعمل الصالح دليل على أن العمل الصالح لا بد أن يكون مسبوقا بأكل الحلال. وفي قوله إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تحذير من مخالفة هذا الأمر. وقال في سورة سبأ إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الآية: 11] وكلاهما من أسمائه تعالى إلا أنه ورد هاهنا على الأصل لأن العلم أعلم وهناك راعى الفاصلة أو خصص لأن الخطاب مخصوص بآل داود. ومن قرأ وَإِنَّ بالكسر فعلى الاستئناف، ومن قرأ بالفتح مخففا ومشددا فعلى حذف لام التعليل والمعلل فَاتَّقُونِ ثم من قال: الخطاب لجميع الرسل فالمشار إليه بهذه هو أصول الأديان والشرائع التي لا خلاف فيها بين الرسل وجملتها تقوى الله كما ختم به الآية. والضمير في فَتَقَطَّعُوا راجع إلى أممهم. قال الكلبي ومقاتل والضحاك: يعني مشركي مكة والمجوس واليهود والنصارى. ومن قال: الخطاب لعيسى فهذه إشارة إلى ملته في وقتها. وعلى القول الأظهر بل على جميع الأقوال المشار إليه ملة الإسلام كما مر مثله في آخر سورة الأنبياء، كأنه أمر هناك بالعبادة التي هي أعم ثم أمر بالتقوى التي هي أخص ولهذا قال فَتَقَطَّعُوا بالفاء ليتوجه الذم أتم فإن المأتي به كلما كان أبعد من المأمور به كان سبب الذم أقوى، فلا يكون ترتيب التقطع على التقوى كترتبه على العبادة ولهذا أكد التقطع بقوله زُبُراً بضم الباء جمع زبور أي حال كونه كتبا مختلفة يعني جعلوا دينهم أديانا ومذاهب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 شتى. ومن قرأ بفتح الباء فمعناه قطعا استعيرت من زبر الفضة والحديد. ثم أكد الذم بقوله كُلُّ حِزْبٍ بِما أي كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه دينا لنفسه معجب به يرى أنه المحق الرابح وغيره المبطل الخاسر. ثم بالغ في الذم والتهديد بقوله فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ وهذا الأمر مما يدل على أن المخاطب بقوله يا أَيُّهَا الرُّسُلُ هو نبينا صلى الله عليه وسلم وقد يطلق لفظ الجماعة على الواحد تعظيما وتفخيما كقوله إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] والغمرة الماء الذي يغمر القامة. قال جار الله: ضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم وغوايتهم، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل. قلت: وأنت إذا تأملت فيما أسلفنا لك في المقدمة التاسعة من مقدمات الكتاب عرفت الفرق بين الوجهين. قال في الكشاف إلى حين أي إلى أن يقتلوا أو يموتوا. والتحقيق أنه الحالة التي يظهر عندها الحسرة والندامة وذلك إذا عرّفهم الله بطلان ما كانوا عليه وعرّفهم سوء منقلبهم فيشمل الموت والقبر والمحاسبة والنار، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونهي عن الجزع من تأخير عقابهم. ثم إن القوم كانوا أصحاب نعمة ورفاهية فبين الله تعالى أن ذلك الذي جعله مددا لهم وهو المال والبنون سبب لاستدراجهم إلى زيادة الإثم نظيره في آل عمران إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [الآية: 178] وما في أَنَّما موصولة والرابط محذوف أي نسارع لهم فيه. وفي قوله بَلْ لا يَشْعُرُونَ أنهم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا أهو استدراج أم مسارعة في الخبر. وفيه أنه سبحانه أعطاهم هذه النعم ليكونوا متمكنين بها من الاشتغال بطلب الحق وحين أعرضوا عن الحق كان لزوم الحجة عليهم أقوى. التأويل: يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ لم يعلموا أنهم وإن كانوا يأكلون مما يأكلون ولكنهم لا يأكلون كما يأكلون. «المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعه أمعاء» وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وأهل الله يأكلون ويشربون من مقام «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «1» وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ أي في حال الطفولية كانت صفات الروح والقلب عون النفس وتربيتها وتربية صفاتها لاستكمال القالب إلى حد البلوغ، والاستعداد لتحمل أعباء تكاليف الشرع وَآوَيْناهُما يعني مريم النفس وعيسى القلب إِلى رَبْوَةٍ القالب الذي فيه قرارهما ويجري فيه ماء معين الحكمة من القلب على اللسان يا أَيُّهَا الرُّسُلُ أي القوى المرسلة إلى القالب.   (1) رواه البخاري في كتاب التمني باب 9. مسلم في كتاب الصوم حديث 57، 58. الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده (3/ 8) (6/ 126) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 [سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 90] إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) القراآت: تهجرون بضم التاء وكسر الجيم: نافع. الآخرون بفتح التاء وضم الجيم خرجا فخرج بغير الألف فيهما: ابن عامر كلاهما بالألف حمزة وعلي وخلف. الباقون بحذف الألف من الأول وإثباتها في الثاني فتحنا بالتشديد: يزيد سَيَقُولُونَ لِلَّهِ الثانية والثالثة: أبو عمرو وسهل ويعقوب. الآخرون باللام فيهما كالأول حملا على المعنى لأن قولك «من رب هذا» «ولمن هذا» في معنى واحد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 الوقوف: مُشْفِقُونَ هـ لا يُؤْمِنُونَ لا يُشْرِكُونَ هـ لا راجِعُونَ هـ لا لأن الكل معطوفات على اسم «إن» والخبر أُولئِكَ الجملة سابِقُونَ هـ لا يُظْلَمُونَ هـ عامِلُونَ هـ يَجْأَرُونَ هـ لا لحق القول لا تُنْصَرُونَ هـ تَنْكِصُونَ هـ لا لأن ما بعده حال مُسْتَكْبِرِينَ هـ قد قيل: على جعل الجار والمجرور مفعول سامِراً أو مفعول تَهْجُرُونَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ مُنْكِرُونَ هـ لصورة الاستفهام وهو العطف جِنَّةٌ ط كارِهُونَ هـ فِيهِنَّ ط مُعْرِضُونَ هـ ط لأن الاستفهام إنكار خَيْرٌ ز وقد قيل: بناء على أن الواو للابتداء والحال أوجه. الرَّازِقِينَ هـ مُسْتَقِيمٍ هـ لَناكِبُونَ هـ يَعْمَهُونَ هـ يَتَضَرَّعُونَ هـ مُبْلِسُونَ هـ وَالْأَفْئِدَةَ ط تَشْكُرُونَ هـ تُحْشَرُونَ هـ وَالنَّهارِ ط تَعْقِلُونَ هـ الْأَوَّلُونَ هـ لَمَبْعُوثُونَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ تَعْلَمُونَ هـ لِلَّهِ ط تَذَكَّرُونَ هـ الْعَظِيمِ هـ لِلَّهِ ط تَتَّقُونَ هـ تَعْلَمُونَ هـ لِلَّهِ ط تُسْحَرُونَ هـ لَكاذِبُونَ هـ. التفسير: إنه سبحانه لما نفي الخيرات الحقيقية عن الكفرة المتنعمين أتبعه ذكر من هو أهل للخيرات عاجلا وآجلا فوصفهم بصفات أربع: الأولى الإشفاق من خشية ربهم وظاهره ينبىء عن تكرار، لأن الإشفاق يتضمن الخشية فمنهم من قال: جمع بينهما للتأكيد، ومنهم من حمل الخشية على العذاب أي من عذاب ربهم مشفقون وهو قول الكلبي ومقاتل، ومنهم من حمل الإشفاق على أثره وهو الدوام في الطاعة. والمعنى الذين هم من خشيته دائمون على طاعته جادّون في طلب مرضاته. ومنهم من قال: الإشفاق كمال الخوف أي هم من سخط الله عاجلا ومن عقابه آجلا في نهاية الخوف، ويلزم ذلك أن يكونوا في غاية الاحتراز عن المعاصي. وفيه أنهم إذا كانوا خائفين من الخشية فلأن يخافوا من عدم الخشية أولى. الثانية قوله وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ والظاهر أنها القرآن. وقيل: هي المخلوقات الدالة على وجود الصانع. وليس المراد التصديق بوجودها فقط فإن ذلك معلوم بالضرورة فلا يوجب المدح، بل التصديق بكونها دلائل موصلة إلى العرفان ويتبعه الإقرار اللساني ظاهرا. الثالثة التبري عما سوى الله ظاهرا وباطنا بأن لا يشرك به طرفة عين. الرابعة قوله وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أي يعطون ما أعطوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ خائفة في شأن ذلك الإعطاء. ثم علل ذلك الوجل بقوله أَنَّهُمْ أي لأنهم إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ فإن من اعتقد الرجوع إلى الجزاء والمساءلة ونشر الصحف وتتبع الأعمال وعلم أن المجازي هو الذي لا يخفى عليه الضمائر والسرائر لم يخل عمله من حسن النية وخلوص الطوية بحيث يكون أبعد عن الرياء وأدخل في الإخلاص. والظاهر أن هذا الإيتاء مختص بالزكاة والتصدق، ويحتمل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 أن يراد إعطاء كل فعل أو خصلة أي إتيانها يؤيده ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ ويأتون ما أتوا أي يفعلون ما فعلوا. وعن عائشة أنها قالت: قلت يا رسول الله هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال: لا يا بنت الصديق ولكن هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل منه. وفي قوله يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ معنيان: أحدهما يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها، والثاني أنهم يتعجلون في الدنيا وجوه المنافع والإكرام لأنهم إذا سورع بها لهم فقد سارعوا في نيلها. قال جار الله: وهذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفى عن الكفار للمؤمنين. وقال في قوله وَهُمْ لَها سابِقُونَ إنه متروك المفعول أو منويه أي فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها، والمراد إياها سابقون كقولك «هو لزيد ضارب» بمعنى «هو زيدا ضارب» جئت باللام لضعف عمل اسم الفاعل ولا سيما فيما قبله، والمعنى أنهم ينالون الخيرات قبل الأخرى حيث عجلت لهم في الدنيا. وجوّز أن يكون لَها سابِقُونَ خبرين أحدهما بعد الآخر كقولك «هذا هو» لهذا الأمر أي صالح له. وحين انجر الكلام إلى ذكر أعمال المكلفين ذكر حكمين لها الأوّل قوله وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وفي الوسع قولان: أحدهما أنه الطاقة والآخر أنه دون الطاقة وهو قول المعتزلة ومقاتل والضحاك والكلبي، لأنه اتسع فيه على المكلف ولم يضيق مثاله إن لم يستطيع أن يصلي قائما فليصل قاعدا وإلا فليوم إيماء. وفيه أن هذا الذي وصف به الصالحين غير خارج من وسعهم. الثاني قوله وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ والمراد بنطقه إثبات كل عمل فيه وهو اللوح أو صحيفة الأعمال لا يقرأون منها يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل. والبحث بين الأشاعرة والمعتزلة في مثل هذا المقام معلوم. أما قوله بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا ففيه طريقان: أحدهما راجع إلى الكفار والمعنى بل قلوب الكفار في غفلة غامرة لها من هذا الذي بيناه في القرآن، أو من هذا الذي ينطق بالحق أو الذي عليه هؤلاء المؤمنون. وَلَهُمْ أَعْمالٌ متجاوزة لذلك الذي وصف به المؤمنون كمتابعة الهوى وطلب الدنيا والإعراض عن المولى. هُمْ لَها عامِلُونَ في الحال على سبيل الاعتياد لا يفطمون عنها حتى يأخذهم العذاب أو في الاستقبال لأنها مبينة في علم الله مكتوبة في اللوح عليهم أن يعملوا بها بحكم الشقاء الأزلي. وثانيهما وهو اختيار أبي مسلم أن هذه الآيات من صفات المشفقين كأنه سبحانه قال بعد وصفهم وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ونهايته ما أتى به هؤلاء. وَلَدَيْنا كِتابٌ يحفظ أعمالهم. بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا الذي وصفناهم به أهو مقبول عند الله أم مردود وَلَهُمْ أَعْمالٌ من دُونِ ذلِكَ الذي وصف هُمْ لَها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 عامِلُونَ وهي النوافل السرية والأعمال القلبية. ثم إنه رجع إلى وصف الكفار بقوله حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ وهو عذاب الآخرة أو قتلهم يوم بدر أو الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف. فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقدّ والأولاد. والجؤار الصراخ باستغاثة. ثم أخبر أنه يقال لهم حينئذ على جهة التبكيت لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ لا تغاثون من جهتنا أو لا تمنعون منا، ثم عدد عليهم التوبيخ بمقابحهم. ومعنى النكوص على العقبين التباعد عن الحق والتجافي عنه كمن رجع على ورائه وقد مر في «الأنعام» . وفي مرجع الضمير في بِهِ أقوال: أحدها أنه للبيت العتيق أو للحرم. والذي سوّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت والتفاخر بولايته والقيام به وكانوا يقولون لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم. وثانيها مستكبرين بهذا التراجع والتباعد. وثالثها مستكبرين بالقرآن على تضمين الاستكبار معنى التكذيب، أو على أن الباء للسببية لأن سماع القرآن كان يحدث لهم استكبارا وعتوّا. ورابعها أنه يتعلق ب سامِراً أو ب تَهْجُرُونَ والهجر بالضم الفحش وبالفتح الهذيان، وأهجر في منطقه إذا أفحش. والضمير للقرآن أو للنبي أي تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه أو في النبي، وكانت عامة سمرهم حول البيت ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا وسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والسامر نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع. ثم بين أن سبب إقدامهم على الكفر أحد أمور أربعة: الأوّل عدم التدبر في القرآن لأنهم إن تدبروه وتأملوا مبانيه ومعانيه ظهر لهم صدقه وإعجازه فيصدقوا به وبمن جاء به. الثاني قوله أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ والمراد أمر الرسالة. ثم المقصود تقرير أنه لم يأت آباءهم الأقربين رسول كقوله لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس: 6] فلذلك أنكروه واستبعدوه، أو تقرير أنه أتى آباءهم الأقدمين رسل وذلك أنهم عرفوا بالتواتر أن رسل الله فيهم كثيرة وكانت الأمم بين مصدق ناج وبين مكذب هالك بعذاب الاستئصال، فما دعاهم ذلك إلى تصديق هذا الرسول وآباؤهم إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان. وقيل: أراد أفلم يدبروا القرآن فيخافوا عند تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين، أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم حين خافوا الله فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه؟ عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين ولا تسبوا قسا فإنه كان مسلما ولا تسبوا الحرث بن كعب ولا أسد بن خزيمة ولا تميم بن مر فإنهم كانوا على الإسلام وما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 شككتم فيه من شيء فلا تشكوا في أن تبعا كان مسلما» «1» الثالث قوله أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا نبه بذلك على أنهم عرفوه وعرفوا صحة نسبته وأمانته فكيف كذبوه بعد أن اتفقت كلمتهم على أنه أمين؟ الرابع نسبتهم إياه إلى الجنون وكانوا يعلمون أنه أرجحهم عقلا ولكنه جاء بما يخالف هواهم فتشككوا في أمره أو شككوا العوام إبقاء على مناصبهم ورياستهم. ثم أضرب عن أقوالهم منبها على مصدوقية أمر النبي فقال بَلْ جاءَهُمْ متلبسا بِالْحَقِّ أو الباء للتعدية والحق الدين القويم والصراط المستقيم وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ وأقلهم كانوا لا يكرهونه وإن لم يظهروا الإيمان به خوفا من قالة الأعداء كما يحكى عن أبي طالب، ولهذا جاء الخلاف في صحة إسلامه. ثم بين أن الإلهية تقتضي الاستقلال في الأوامر والنواهي، وأن الحق والصواب ينحصر فيما دبره إله العالمين وقدّره فقال وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ نظيره ما مر في قوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] وقيل: الحق الإسلام، والمراد لو انقلب الإسلام شركا كما تقتضيه أهواؤهم لجاء الله بالقيامة، ولأهلك العالم ولم يؤخر. وعن قتادة: الحق هو الله، والمعنى لو كان الله آمرا بالشرك والمعاصي على وفق آرائهم لما كان إلها ولكان شيطانا فلا يقدر على إمساك السموات والأرض، وحينئذ يختل نظام العالم. ثم ذكر أن نزول القرآن عليهم من جملة الحق فقال بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ إن كانت الباء للتعدية فظاهر، وإن كانت للمصاحبة فعلى حذف مضاف أي أتاهم رسولنا متلبسا بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أوصيتهم وفخرهم، أو الإضافة بدل اللام العهدي أي بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات: 169] ثم بيّن أن دعوته ليست مشوبة بالطمع الموجب للنفرة فقال أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً أي جعلا وكذا الخراج وقد مر في آخر الكهف. وقيل: الخرج أقل ولذا قرأ الأكثرون خَرْجاً فَخَراجُ يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخالق خير. وحين أثبت لرسوله مواجب قبول قوله ونفى عنه أضدادها صرح بمضمون أمره ومكنون سره فقال وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو دين الإسلام لا تدعوهم إلى غيره من الطرق المنحرفة عن جادة الصواب، وأشار إلى هذه الطرق بقوله وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ هم المذكورون فيما تقدم أو كل من لا يؤمن بالاخرة عَنِ الصِّراطِ المستقيم المذكور لَناكِبُونَ والتركيب يدور على العدول عن القصد ومنه المنكب لمجمع   (1) روى أحمد في مسنده (5/ 340) «لا تسبوا تبعا فإنه قد كان أسلم» ولم يأت على ذكر التبعية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 عظم العضد والكتف، والنكباء للريح التي تعدل عن مهاب الرياح للقوم. ثم بين إصرارهم على الكفر بقوله وَلَوْ رَحِمْناهُمْ الآية. يروى أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة عن أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز، جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال: بلى. فقال الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فادع الله أن يكشف عنا الضر فأنزل الله الآية. والمعنى لو كشف الله برحمته هذا الهزال والجوع عنهم لأصروا على ما هم فيه من الطغيان. ثم استشهد على ذلك بقوله وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ أي قبل ذلك بِالْعَذابِ يعني ما جرى عليهم يوم بدر فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ أي ما خضعوا له وقد مر اشتقاقه في «آل عمران» وَما يَتَضَرَّعُونَ عدل إلى المضارع لأنه أراد وما من عادة هؤلاء أن يتضرعوا حتى فتحنا عليهم باب العذاب الشديد وهو الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل، فأبلسوا الساعة أي خضعت رقابهم وجاء أعتاهم وأشدهم شكيمة وأخشنهم عريكة يستعطفك. ويحتمل أن يراد محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما شوهد منهم انقياد للحق وهم كذلك إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون، والإبلاس السكوت مع تحير أو اليأس من كل خير. ثم نبه بقوله وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ على أن أسباب التأمل في الدلائل موجودة، وأبواب الأعذار بالكلية مسدودة، فما كفر من كفر ولا عند من عند إلا للشقاء الأزلي. وفي قوله قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي تشكرون شكرا قليلا «وما» مزيدة للتوكيد دليل على أن المقر أقل من الجاحد. وعن أبي مسلم أنه قال: أراد بالقلة العدم. وفي الآية ثلاثة معان: أحدها إظهار النعمة. وثانيها مطالبة العباد بالشكر عليها فشكر السمع أن لا يسمع إلا لله وبالله ومن الله، وشكر البصر أن ينظر بنظر العبرة لله وبالله وإلى الله، وشكر الفؤاد تصفيته عن رين الأخلاق الذميمة وقطع تعلقه عن الكونين لشهوده بالله. وثالثها الشكاية أن الشاكر قليل. ثم بين دلائل أخر على الوحدانية فقال وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ أي خلقكم وبثكم في الأرض للتناسل وإلى حيث لا مالك سواه تحشرون بعد تفرقكم وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وفيه مع تذكر نعمة الحياة بيان أن المقصود منها الانتقال إلى دار الثواب وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي هو مختص بتصريفهما وأنهما يشبهان الموت والحياة. وفي قوله أَفَلا تَعْقِلُونَ توبيخ وتهديد. ثم نبه بقوله بَلْ قالُوا الآيات على أنه لا شبهة لهم في إنكار البعث إلا التشبث بحبل التقليد والاستبعاد. قال علماء المعاني: قوله لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا وارد على الأصل لأن التأكيد مذكور عقيب المؤكد وبعده المفعول الثاني. وأما في سورة النمل فسبب تقديم المفعول الثاني على الضمير وعلى المعطوف هو أنه اقتصر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 هناك على قوله تُراباً والتراب أبعد في باب الإعادة من العظام، فقدم ليدل على مزيد الاعتناء به في شأن الاستنكار. ثم رد على منكري الإعادة أو على عبدة الأوثان بقوله قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كان عندكم علم فأجيبوني وفيه استهانة بهم وتجهيل لهم بأمر الديانات حتى جوّز أن يشتبه عليهم مثل هذا المكشوف الجلي. وفي قوله أَفَلا تَذَكَّرُونَ ترغيب في التدبر وبعث على التأمل في أمر التوحيد والبعث، فإن من قدر على اختراع الأرض ومن فيها كان حقيقا بأن لا يشرك به بعض خلقه وكان قادرا على إعادة ما أفناه، وفي قوله أَفَلا تَتَّقُونَ مثل هذا الترغيب مع التخويف وكان أولى بالآية الثانية لأجل التدرج ولتعظيم السموات والعرش، ولأن تذكر واجب الوجود مقدم على اتقاء مخالفته، قال جار الله: أجرت فلانا على فلان إذا أغثته منه ومنعته يعني وهو يغيث من يشاء ممن يشاء ولا يغيث أحد منه أحدا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ بهذه الصفة غيره فأجيبوني به. ومعنى تُسْحَرُونَ تخدعون عن طاعته والخادع هو الشيطان والهوى. ثم بين بقوله بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ أنه قد بالغ في الحجاج عليهم بهذه الآيات حتى استبان بما هو الحق والصدق وَإِنَّهُمْ مع ذلك لَكاذِبُونَ حيث يدعون له الولد والشريك وينسبون إليه العجز عن الإعادة. التأويل: مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إشارة إلى استيلاء سلطان الهيبة في الحضور والغيبة بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ هي ما يكاشف لهم من شواهد الحق في السر والعلانية بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ هو ترك الملاحظة في رد الناس وقبولهم ومدحهم وذمهم وانقطاع النظر في المضار والضار عن الوسائط والأسباب يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يتوجهون إلى الله وينقطعون عما سواه وَهُمْ لَها سابِقُونَ على قدر سبق العناية وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها كلفهم أن يقولوا لا إله إلا الله وهم قادرون على ذلك، وأمرهم بقبول دعوة الأنبياء وما هم بعد بعاجزين عنه، وقد كتب في اللوح أنهم يقدرون على هذه التكاليف. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ فلا يكلفون ما ليس في وسعهم واستعدادهم حتى إذا أخذنا أَكابِرَ مُجْرِمِيها مجرميهم بعذاب فساد الاستعداد لفسدت سموات أرواحهم وأرض نفوسهم ومن فيهن من القلب والسر وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فيه أن العلماء بالله عليهم أن لا يدنسوا وجوه قلوبهم الناضرة بدنس الأطماع الفارقة. وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ أولا بعذاب الغبن حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باب عذاب الرين يحيي بنوره قلوب بعض عباده ويميت نفوسهم عن صفاتها الذميمة، أو يحيي بعض النفوس باتباع شهواتها ويميت بعض القلوب باستيلاء ظلمات الطبيعة عليها وَلَهُ اخْتِلافُ ليل البشرية ونهار الروحانية أو طول ليل الفراق وقصر نهار الوصال قالُوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 أَإِذا مِتْنا فيه أن اليأس من الوصول والوصال ليس من شيم أهل الكمال فقد تقوم قيامة العشق فيبعث القلب الميت أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ملكوت كل شيء هي جهة روحانيته وَهُوَ يُجِيرُ الأشياء بقيوميته عن الهلاك ولا مانع له ممن أراد به أن لا يجيره. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 91 الى 118] مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) القراآت: عالم بالرفع: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وعاصم غيره حفص إلا الخزاز. وقرأ رويس بالخفض إذا وصل وبالرفع إذا ابتدأ، الآخرون بالخفض لَعَلِّي أَعْمَلُ بسكون الياء: عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وابن مجاهد عن ابن ذكوان. شقاوتنا حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون شِقْوَتُنا بكسر الشين وسكون القاف في غير ألف. سِخْرِيًّا بضم السين وكذلك في صاد: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 وخلف والمفضل والخزاز عن هبيرة. الآخرون بكسرها إنهم بالكسر: حمزة وعلي والخزاز عن هبيرة. قل كم قل إن لبثتم على الأمر فيهما: حمزة وعلي وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل وافق ابن كثير في الأول. لا تُرْجَعُونَ على البناء للفاعل يعقوب وحمزة وعلي وخلف. الوقوف: عَلى بَعْضٍ ط يَصِفُونَ هـ ط لمن قرأ بالرفع إلى هو عالم ومن خفض لم يقف لأنه بدل أو وصف يُشْرِكُونَ هـ ما يُوعَدُونَ هـ لا لأن قوله «فلا» جواب للشرط وهو إما والنداء عارض الظَّالِمِينَ هـ لا لَقادِرُونَ هـ السَّيِّئَةَ ط يَصِفُونَ هـ الشَّياطِينِ هـ لا يَحْضُرُونِ هـ ارْجِعُونِ هـ لا لتعلق لعل كَلَّا ط لأنها للردع عما قبلها أي لا يرجع. وقيل: مبتدأ بها بمعنى حقا والأول أحسن قائِلُها ط يُبْعَثُونَ هـ وَلا يَتَساءَلُونَ هـ الْمُفْلِحُونَ هـ خالِدُونَ هـ كالِحُونَ هـ تُكَذِّبُونَ هـ ضالِّينَ هـ ظالِمُونَ هـ وَلا تُكَلِّمُونِ هـ الرَّاحِمِينَ هـ ج للآية والوصل أجوز لشدة اتصال المعنى وللفاء تَضْحَكُونَ هـ صَبَرُوا ط لمن قرأ أَنَّهُمْ بالكسر الْفائِزُونَ هـ سِنِينَ هـ الْعادِّينَ هـ تَعْلَمُونَ هـ لا تُرْجَعُونَ هـ الْحَقُّ هـ لا لأن ما بعده يصلح مستأنفا وحالا أي تعالى متوحدا غير مشارك إِلَّا هُوَ هـ لا لأن قوله رَبُّ الْعَرْشِ يصلح بدلا من هو وخبر مبتدأ محذوف الْكَرِيمِ ط آخَرَ لا لأن الجملة بعده صفة بِهِ لا لأن ما بعده جواب عِنْدَ رَبِّهِ ط الْكافِرُونَ هـ الرَّاحِمِينَ هـ. التفسير: لما أثبت لنفسه الإلهية بالدلائل الإلزامية في الآيات المتقدمة نفى عن نفسه الأنداد والأضداد بقوله مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ بقوله وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ وفيه ردّ على القائلين بأن الملائكة بنات الله وإبطال لأقوال اليهود والنصارى والثنوية. ثم ذكر شبه دليل التمانع بقوله إِذاً لَذَهَبَ وهو جواب لمن معه المحاجة من أهل الشرك وجواب الشرط محذوف دل عليه الكلام السابق تقديره: ولو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق لا نفرد كل واحد منهم بالخلق الذي خلقه واستبد به، لأن اجتماعهم على خلق واحد لا يتصور فإن ذلك يقتضي عجز الواحد عن ذلك الخلق، وحينئذ يكون ملك كل واحد منهم متميزا عن ملك الآخرين. وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي لغلب بعضهم على بعض كما ترون حال ملوك الدنيا من تمايز الممالك ومن التغالب، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم فلذلك ختم الآية بقوله سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إلى قوله عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات قائلا قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي أي إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة فَلا تَجْعَلْنِي قريبا لهم. وقد يجوز أن يستعيذ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 العبد بالله مما علم أنه لا يفعله إظهارا للعبودية واستكانة له ويؤيده تكرار رب مرتين. وكانوا ينكرون العذاب ويسخرون منه فأكد وقوعه بقوله وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ قيل: فيه دليل على أن القدرة تصح على المعدوم لأنه أخبر أنه قادر على تعجيل عقوبتهم ثم لم يفعل ذلك ثم أمره بالصفح عن سيئاتهم ومقابلتها بما يمكن من الإحسان حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه كان أحسن لأنها حسنة مضاعفة بإزاء سيئة. أو نقول: المكافأة حسنة ولكن العفو أحسن. عن ابن عباس هي شهادة أن لا إله إلا الله والسيئة الشرك. وعن مجاهد هي أن يسلم عليه إذا لقيه. قيل: هي منسوخة بآية السيف والأولى أن يقال: هي محكمة لأن المداراة مستحبة ما لم تؤد إلى محذور نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ مما ليس فيك من المثالب والمراد أنه أقدر على جزائهم فعليه أن يفوض أمرهم إلى الله ويدفع أذاهم بالكلام الجميل والسلام وبيان الأدلة على أحسن الوجوه. ثم أتبع هذا التعليم ما يقويه على ذلك وهو الاستعاذة بالله من همزات الشياطين. والهمز النخس ومنه «مهماز الرائض» وذلك أنهم يحثون الناس على المعاصي بأنواع الوساوس كما يحث الرائض الدابة على المشي بالمهماز وهي حديدة تكون في مؤخر خفه. عن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد استفتاح الصلاة «اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفخه ونفثه» «1» فهمزه الجنون ونفثه الشعر ونفخه الكبر. ثم أمره بالتعوّذ من أن يحضروه أصلا كما يقال: أعوذ بالله من خصومتك بل أعوذ بالله من لقائك. وعن ابن عباس أراد الحضور عند تلاوة القرآن. وعن عكرمة عند النزع والأولى العموم عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد اشتكى إليه رجل أرقا به فقال: إذا أردت النوم فقل أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون. قوله حَتَّى إِذا جاءَ قيل: متعلق بقوله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وقيل: ب يَصِفُونَ أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت وما بينهما اعتراض وتأكيد للإغضاء عنهم مستعينا بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم. والمراد بمجيء الموت أماراته التي تحقق عندها الموت وصارت المعرفة ضرورية فحينئذ يسأل الرجعة ولا ينافي هذا السؤال الرجعة عند معاينة النار كقوله وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ [الانعام: 27] والأكثرون على أنهم الكفار. وروى الضحاك عن ابن عباس أنها تشمل من لم يزك ولم يحج لقوله وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي [المنافقون: 10] وأما وجه الجمع في قوله ارْجِعُونِ مع وحدة المنادي   (1) رواه أبو داود في كتاب الطب باب 19. الترمذي في كتاب الدعوات باب 93. الموطأ في كتاب الشعر حديث 9. أحمد في مسنده (2/ 181) (4/ 57) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 فقيل: إن الجمعية راجعة إلى الفعل كأنه قال: ارجع مرات ونظيره أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق: 24] أي ألق ألق. وقيل رَبِّ للقسم والخطاب للملائكة القابضين للأرواح أي بحق الله ارجعون والأقرب أن الجمع للتعظيم كقول الشاعر: ألا فارحموني يا إله محمد وقوله: فإن شئت حرمت النساء سواكم عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى الدنيا فيقول: إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى الله. وأما الكافر فيقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت» قال جار الله: أي لعلي آتي بما تركته من الإيمان وأعمل فيه صالحا كما تقول لعلي أبني على أس تريد أؤسس أسا وأبني عليه. وقيل: أي فيما خلفت من المال والأولى العموم فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية والحقوق كأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه ويطيعوا فيما عصوا. قيل: كيف سألوا الرجعة وقد علموا صحة الدين بالضرورة ومن الدين أن لا رجعة؟ والجواب بعد تسليم أنهم عرفوا كل الدين أن الإنسان قد يتمنى شيئا مع علمه بتعذره كقول القائل «ليت الشباب يعود» والاستغاثة بجنس هذه المسألة قد تحسن. قولهم لَعَلِّي ليس المراد به الشك وإنما هو كقول المقصر «مكنوني لعلي أتدارك» مع كونه جازما بأنه سيتدارك. ويحتمل أنهم وإن كانوا جازمين بذلك إلا أن أمر المستقبل مبني على الظن والتخمين دون اليقين فلذلك أوردوا الكلام بصورة الترجي. ثم ردعهم بقوله كَلَّا أي ليس الأمر على ما توهموه من إمكان الرجعة إِنَّها كَلِمَةٌ والمراد بها طائفة من الكلام منتظم بعضها مع بعض وهي قوله ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً هُوَ قائِلُها لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة والحيرة عليه وهو قائلها وحده لإيجاب إليها ولا تسمع منه وَمِنْ وَرائِهِمْ الضمير لكل المكلفين أي أمامهم بَرْزَخٌ حائل بينهم وبين الجنة أو النار وبين الجزاء التام إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وذلك البرزخ هو مدة ما بين الموت إلى البعث، ولعل بعض الحجب من الأخلاق الذميمة يندفع في هذه المدة. وقال في الكشاف: حائل بينهم وبين الرجعة ومعناه الإقناط الكلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة. ثم وصف يوم البعث بقوله فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ قد مر معناه في أواخر «طه» . وقوله فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ليس المراد به نفي النسب لأن ذلك ثابت بالحقيقة فإذن المراد حكمه وما يتفرع عليه من التعاطف والتراحم والتواصل، فقد يكون أحد القريبين في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 الجنة والآخر في النار ويكون بكل مكلف من اشتغال نفسه ما يمنعه من الالتفات إلى أحوال نسبه. عن قتادة: لا شيء أبغض إلى الإنسان من أن يرى من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء. وأما الجمع بين قوله وَلا يَتَساءَلُونَ وبين قوله وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: 10] فظاهر لأن هذا في صفة أهل الموقف وذاك في صفة أهل الجنة. ولو سلم أن كليهما في وصف أهل الموقف فلن نسلم اتحاد المواطن والأزمنة وغيرها من الاعتبارات التي يقع فيها التساؤل كحقوق النسب ونحوها. عن النبي صلى الله عليه وسلم «ثلاثة مواطن تذهل فيها كل نفس: حين يرمي إلى كل إنسان كتابه، وعند الموازين وعلى جسر جهنم» وقد مر مثل اية الموازين في أول «الأعراف» فليرجع إلى هنالك. وقوله فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ بدل من خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ولا محل له كالمبدل فإن الصلة لا محل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف. ومعنى خسران أنفسهم امتناع انتفاعهم بها. وقال ابن عباس: خسروها بأن صارت منازلهم للمؤمنين. ومعنى تَلْفَحُ تسفع أي تضرب وتأكل لحومهم وجلودهم النار، قاله ابن عباس. وعن الزجاج أن اللفح والنفح واحد إلا أن اللفح أشد تأثيرا والكلوح أن يتقلص الشفتان عن الأسنان كالرؤوس المشوية. يروى أن عتبة الغلام مر في السوق برأس أخرج من التنور فغشي عليه ثلاثة أيام ولياليهن. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته. وقال الجوهري: الكلوح تكشر في عبوس. ثم بيّن سبحانه أنه يقال لهم حينئذ تقريعا وتوبيخا أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ قالت المعتزلة: لو كان فعل التكذيب بخلق الله تعالى لم يكن لهذا التقريع وجه وعورض بالعلم والداعي. وفسرت المعتزلة الشقاوة بسوء العاقبة التي علم الله أنهم يستحقونها لسوء أعمالهم. وتفسرها الأشاعرة بما كتب الله عليهم في الأزل من الكفر وسائر المعاصي أن يعلموها حتى يؤل حالهم إلى النار. ومعنى غلبة الشقاوة على هذا التفسير ظاهر، وأما على تفسير المعتزلة فقد قال جار الله: معناه ملكتنا وأخذت منا. وقال الجبائي: أراد طلبنا اللذات المحرمة وحرصنا على العمل القبيح ساقنا إلى هذه الشقاوة، فأطلق اسم المسبب على السبب. وليس هذا باعتذار منهم لعلمهم بأن لا عذر لهم فيه، ولكنه اعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم في سوء صنيعهم. وأجيب بأن طلب تلك اللذات لا بد أن ينتهي إلى داعية يخلقها الله فيه بدليل قوله وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ أي في علم الله وسابق تقديره. وحمله المعتزلة على الاعتراف بأنهم اختاروا الضلال قالوا: ولو كان الكفر بخلق الله لكانوا بأن يجعلوا ذلك عذرا لهم أولى. وأجيب بأن فحوى الكلام يؤل إلى هذا كما قررنا. عن ابن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 عباس: أن لهم ست دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السجدة: 12] فيجابون حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة: 13] فينادون ألفا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ [غافر: 11] فيجابون ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ [غافر: 12] فينادون ألفا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ فيجابون إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزخرف: 77] فينادون ألفا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ [إبراهيم: 44] فيجابون أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم: 44] فينادون ألفا رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً فيجابون أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ [فاطر: 37] فينادون ألفا رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فيجابون اخْسَؤُا فِيها [المؤمنون: 108] وهو آخر كلام يتكلمون به، ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب أي لا يفهمون ولا يفهمون ولهذا قال جار الله وَلا تُكَلِّمُونِ أي في رفع العذاب وليس نهيا عن الكلام فإنها ليست بدار تكليف ولكنه تنبيه على أن العذاب لا يرفع ولا يخفف. ومعنى اخْسَؤُا انزجروا صاغرين كما تنزجر الكلاب إذا طردت. يقال: خسأ الكلب وخسأ نفسه يتعدى ولا يتعدى وهو المراد في الآية. ثم عدد عليهم بعض قبائحهم في الدنيا بقوله إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي هم الصحابة. وقيل: أهل الصفة خاصة. عن الخليل وسيبويه أن السخري بالضم والكسر مصدر سخر إلا أن في ياء النسب زيادة تأكيد. وعن الكسائي والفراء أن المكسور من الهزء والمضموم من التسخير والاستعباد والمعنى اتخذتموهم هزؤا وتشاغلتم بهم ساخرين حَتَّى أَنْسَوْكُمْ بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ذِكْرِي فلم تذكروني حتى تخافوني. ثم ذكر من حال المؤمنين ما أوجب الحسرة والندامة للساخرين. فمن قرأ أَنَّهُمْ بالكسر على الاستئناف فمعناه ظاهر أي قد فازوا حيث صبروا، ومن قرأ بالفتح فعلى أنه مفعول جزيتهم أي جزيتهم فوزهم. ومن قرأ قالَ فالضمير لله أو لمن أمر بسؤالهم من الملائكة، ومن قرأ قل فالخطاب للملك أو لبعض رؤساء أهل النار. والغرض من هذا السؤال التوبيخ والتبكيت فقد كانوا لا يعدّون اللبث إلا في الدنيا ويظنون أن الفناء يدوم بعد الموت ولا إعادة، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنهم فيها خالدون سئلوا كَمْ لَبِثْتُمْ تنبيها لهم على أن ما ظنوه دائما طويلا فهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه إذ لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي ولا سيما إذا كان الأول أيام سرور والثاني أيام غم وحزن. واختلفوا في الأرض فقيل: وجه الأرض حين ما كانوا أحياء فإنهم زعموا أن لا حياة سواها، فلما أحياهم الله تعالى وعذبوا في النار سئلوا عن ذلك توبيخا. وقال آخرون: المراد جوف الأرض وهو القبر لظاهر لفظة «في» ولقوله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 [الروم: 55] وقوله عَدَدَ سِنِينَ بدل من مميزكم. وقيل: تمييز. احتج بعض من أنكر عذاب القبر بأن قوله فِي الْأَرْضِ يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض وزمان كونهم أمواتا في بطن الأرض. فلو كانوا معذبين في القبر لعلموا أن مدة مكثهم في الأرض طويلة فما كانوا يقولون لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وأجيب بأن الجواب لا بد أن يكون على حسب السؤال وإنما سئلوا عن موت لا حياة بعده إلا في الآخرة وذلك لا يكون إلا بعد عذاب القبر. ويحتمل أن يكونوا سئلوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه فلا يدخل في ذلك تقدم موت بعضهم على البعض، فصح أن يكون جوابهم لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ عند أنفسنا. وليس هذا من قبيل الكذب إذ لعلهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال فقالوا: إلا نعرف من عدد السنين إلا أنا نستقله ونحسبه يوما أو بعض يوم. وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي ليس من شأننا أن نعدّها لما نحن فيه من العذاب فاسأل من يقدر أن يلقى إليه فكره، أو اسأل الملائكة الذين يعدّون أعمال العباد ويحصون أعمالهم. وعن ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين. وقيل: أرادوا بقولهم لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه وعرفوه من داوم العذاب. وقد صدّقهم الله في ذلك حيث قال إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها بقوله لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي لو علمتم البعث والحشر لما كنتم تعدونه طويلا. ثم زاد في التوبيخ بقوله أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي عابثين أو لأجل العبث وهو الفعل الذي لا غاية له صحيحة. وجوّزوا أن يكون قوله وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ معطوفا على عَبَثاً أي للعبث ولترككم غير مرجوعين وفيه دلالة على وجوب وقوع القيامة فلولاها لم يتميز المطيع من العاصي والمحسن من المسيء. ثم نزه ذاته عن كل عيب وعبث قائلا فَتَعالَى الآية ووصف العرش بالكريم لنزول الرحمة أو الخير منه أو باعتبار من استوى عليه كما يقال «بيت كريم» إذا كان ساكنوه كراما. وقرىء الْكَرِيمِ بالرفع وهو ظاهر. ثم زيف طريقة المقلدة من أهل الشرك وقوله لا برهان له به كقوله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً [آل عمران: 151] وهو صفة جيء بها للتأكيد لا أن بعض الآلهة قد يقوم على وجوده برهان. وجوّز جار الله أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء كقول القائل: من أحسن إلى زيد لا أحق بالإحسان إليه منه فالله مثيبه. ومعنى حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أنه بلغ عقابه إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلا الله. وقرىء إِنَّهُ لا يُفْلِحُ بفتح الهمزة أي حسابه عدم فلاحه فوضع الْكافِرُونَ موضع الضمير. جعل فاتحة السورة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ وأورد في خواتيهما إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ فشتان ما بين الفريقين. وحين أثنى على المؤمنين في أثناء الكلام بأنهم يقولون رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ نبه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 في آخر السورة على أنه قول ينبغي أن يواظب المكلف عليه ففيه الانقطاع إلى الله والإعراض عمن سواه والله المستعان. التأويل: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فيه أن نفخة العناية الأزلية إذا نفخت في صور القلب قامت القيامة وانقطعت الأسباب فلا يلتفت إلى أحد من الأنساب، لا إلى أهل ولا إلى ولد لاشتغاله في طلب الحق واستغراقه في بحر المحبة، فلا يقع بينهم التساؤل عما تركوا من أسباب الدنيا ولا عن أحوال أهاليهم وأخدانهم وأوطانهم إذا فارقوها لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ في طلب الحق شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 37] عن طلب الغير فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لأنهم إذا خفت موازينهم عن طلب الحق وانقطع عليه الطريق بنوع من التعلقات ورجع القهقرى بطل استعداده في الطلب، فإن الإنسان كالبيضة المستعدة لقبول تصرف دجاجة الولاية فيه وخروج الفرخ فيها، فما لم تتصرف فيها الدجاجة يكون استعداده باقيا، فإذا تصرفت الدجاجة فيها وانقطع تصرفها عنها بإفساد البيضة فلا ينفعها التصرف بعد ذلك لفساد الاستعداد ولهذا قالت المشايخ: مرتد الطريقة شر من مرتد الشريعة. ولهذا قال فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ وأجيبوا بقوله اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ لأنه ليس من سنتنا إصلاح الاستعداد بعد إفساده إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي هم العلماء بالله النصحاء لأجله فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا فضربتم أنفسكم على سيوف هممهم العلية حَتَّى أَنْسَوْكُمْ بهممهم وبيد الرد ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ لأن قلوبكم قد ماتت وكثرة الضحك تميت القلب جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا فيه أن أهل السعادة كما ينتفعون بمعاملاتهم الصالحة مع الله ينتفعون بإنكار منكريهم، ومثله حال أهل الشقاء في الجانب الآخر وهو الاستضرار لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ أي لا يظهر عليه برهان العبادة وهو النور والضياء والبهاء والصفاء وإن تقرب إلى ذلك الذي عبده من دون الله بأنواع القربات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 (سورة النور) (مدنية حروفها 5330 كلامها 1316 آياتها 64) [سورة النور (24) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) القراآت: فرضناها بالتشديد: ابن كثير وأبو عمرو ورأفة بفتح الهمزة: ابن كثير عن ابن فليح ورفعه الباقون بالإسكان وكلاهما مصدر. وكذلك روى الخزاعي عن أصحابه، وروى ابن شنبوذ عن البزي هاهنا وفي الحديد متحركة الهمزة، وعن قنبل هاهنا بالفتح وفي الحديد بالسكون. وقرأ أبو عمر وغير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف بغير همز أربع شهادات بالرفع: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون بالنصب على إعمال المصدر فيما في حكم المصدر والتقدير فواجب شهادة أحدهم شهادات أربعا أن مخففة لعنة الله بالرفع: نافع وسهل ويعقوب والمفضل. الباقون بالتشديد والنصب والخامسة الثانية بالنصب: حفص على معنى وتشهد الشهادة الخامسة. أن مخففا غضب فعلا ماضيا اللَّهِ بالرفع: نافع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 والمفضل أن بالتخفيف غضب الله بالرفع: سهل ويعقوب. الباقون أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ بالتشديد والنصب. الوقوف: تَذَكَّرُونَ هـ جَلْدَةٍ ص الْآخِرِ هـ للعدول واعتراض الشرط مع اتفاق الجملتين الْمُؤْمِنِينَ هـ مُشْرِكَةً هـ للتفصيل بين الحالتين مع اتفاق الجملتين مُشْرِكٌ ج لاختلاف الجملتين الْمُؤْمِنِينَ هـ أَبَداً هـ الْفاسِقُونَ هـ وَأَصْلَحُوا ج للفاء وإن رَحِيمٌ هـ بِاللَّهِ ط في الموضعين لأن ما بعده جواب لما في حكم القسم الصَّادِقِينَ هـ الْكاذِبِينَ هـ الصَّادِقِينَ هـ حَكِيمٌ هـ. التفسير: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في خاتمة السورة المتقدمة بطلب المغفرة والرحمة وطلبه يستلزم مطلوبه لا محالة بدليل سل تعط، أردفه بذكر ما هو أصل كل رحمة ومنشأ كل خير فقال سُورَةٌ أي هذه سورة أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها. وقرىء بالنصب على «دونك سورة» أو «اتل سورة» أو على شريطة التفسير. وعلى هذا لا يكون لقوله أَنْزَلْناها محل من الإعراب لأنها ليست بصفة وإنما هي مفسرة للمضمر فكانت في حكمه. ومعنى إنزال الوحي قد سلف في أول البقرة. والفرض القطع والتقدير: ولا بد من تقدير مضاف لأن السورة قد دخلت في الوجود فلا معنى لفرضها فالمراد: فرضنا أحكامها التي فيها. ومن شدد فللمبالغة أو للتكثير ففي أحكام هذه السورة كثرة. ويجوز أن يرجع معنى الكثرة إلى المفروض عليهم فإنهم كل المكلفين من السلف والخلف. وأما الآيات البينات فإنها دلائل التوحيد التي يذكرها الله تعالى بعد الأحكام والحدود ويؤيده قوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فإن الأحكام والشرائع ما كانت معلومة لهم ليؤمروا بتذكرها بخلاف دلائل التوحيد فإنها كالمعلومة لظهورها فيكفي فيها التذكر. وقال أبو مسلم: هي الحدود والأحكام أيضا ولا بعد في تسميتها آيات كقول زكريا رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً [مريم: 10] سأل ربه أن يفرض عليه عملا. وقال القاضي: أراد بها الأشياء المباحة المذكورة في السورة بينها الله تعالى لأجل التذكر. فمن جملة الأحكام حكم الزنا. قال الخليل وسيبويه: رفعهما على الابتداء والخبر محذوف ولا بد من تقدير مضاف أي فيما فرض عليكم جلد الزانية والزاني، أو فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني وقال آخرون: الخبر فَاجْلِدُوا والفاء لتضمن معنى الشرط فإن الألف واللام بمعنى الموصول تقديره: التي زنت والذي زنى فاجلدوا. وقرىء بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وهو أحسن من نصب سُورَةٌ أَنْزَلْناها لأجل الأمر فإن الطلب من مظان الفعل والجلد ضرب الجلد كما يقال «رأسه» أي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 ضرب رأسه وكذلك في سائر الأعضاء بعد ثبوت السماع، وفيه إشارة إلى أن إقامة هذا الحد ينبغي أن يكون على الاعتدال بحيث لا يتجاوز الألم من الجلد إلى اللحم. فعلى الإمام أن ينصب للحدود رجلا عالما بصيرا يعقل كيف يضرب. فالرجل يجلد قائما على تجرده ليس عليه إزاره ضربا وسطا لا مبرحا ولا هينا على الأعضاء كلها إلا الوجه والفرج، والمرأة تجلد قاعدة ولا ينزع من ثيابها إلا الحشو والفرو. والصحيح أن الزنا من الكبائر ولهذا قرنه الله تعالى بالشرك وقتل النفس في قوله وَلا يَزْنُونَ [الفرقان: 68] وقد وفى فيه عقد المائة بكماله بخلاف حدّ القذف وشرب الخمر وشرع فيه الرجم الذي هو أشنع أنواع القتل، ونهى المؤمنين عن الرأفة بهما وأمر بشهود طائفة للتشهير. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأما التي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر، وأما التي في الآخرة فيوجب السخطة وسوء الحساب والخلود في النار» . واعلم أن البحث في هذه الآية يقع عن أمور أحدها عن ماهية الزنا، وثانيها عن أحكام الزنا، وثالثها في الشرائط المعتبرة في كون الزنا موجبا لتلك الأحكام، ورابعها في الطريق الذي به يعرف حصول الزنا، وخامسها عن كيفية إقامة هذا الحد الأول. قد حده علماء الشافعية بأنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا. قالوا: فيدخل فيه اللواطة لأنها مثل الزنا صورة وذلك ظاهر لحصول معنى الانفراج في الدبر أيضا، ومعنى لأنهما يشتركان في المعاني المتعلقة بالشهوة من الحرارة واللين وضيق المدخل، ولذلك لا يفرق أهل الطبائع بين المحلين. والأكثرون على أن اللواط لا يدخل تحت الزنا للعرف ولهذا، لو حلف لا يزني فلاط أو بالعكس لم يحنث، ولأن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط مع كونهم عالمين باللغة. وما روى عن أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال «أذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان» محمول على اشتراكهما في الإثم بدليل قوله أيضا «إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» وقوله «اليدان تزنيان والعينان تزنيان» «1» والقياس المذكور بعيد لأنه لا يلزم من تسمية القبل فرجا لانفراجه أن يسمى كل منفرج كالفم والعين فرجا. واعلم أن للشافعي في اللائط قولين أصحهما أن عليه حد الزنا إن كان محصنا فيرجم، وإن لم يكن محصنا فيجلد ويغرب. والثاني قتل الفاعل والمفعول. والقتل إما بجز الرقبة كالمرتد، أو بالرجم وهو قول مالك وأحمد وإسحق، أو بالهدم عليه. ويروى عن أبيّ: أو بالرمي من شاهق. ويروى عن علي رضي الله عنه وذلك أن قوم لوط عذبوا كل هذه الوجوه   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 342، 344) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 قال عز من قائل فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود: 82] وأما المفعول فإن كان صغيرا أو مجنونا أو مكروها فلا حد عليه ولا مهر لأن بضع الرجل لا يتقوّم، وإن كان مكلفا طائعا فهو كالفاعل في الأقوال وإن أتى امرأة في دبرها ولا ملك ولا نكاح فالأظهر أنه لواط وحكمه ما مر، وقيل زنا لأنه وطء أنثى فأشبه الوطء في القبل، وإذا لاط بعبده فهو كالأجنبي على الأصح. ولو أتى امرأته أو جاريته في الدبر فالأصح القطع بمنع الحد لأنها محل استمتاعه وبالجملة جميع ذلك مما ذهب إليه الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن اللائط لا يحدّ بل يعزر. حجة الشافعي خبر أبي موسى الأشعري فإنه يدل على اشتراك اللواط والزنا في الاسم والحقيقة لا أقل من اشتراكهما في اللوازم. وأيضا إنه صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عمل قوم لوط فأقتلوا الفاعل منهما والمفعول به» «1» وقال صلى الله عليه وسلم «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير حق» «2» وليس اللواط من قبيل الثاني والثالث فهو من الأول. وأيضا قاس اللواط على الزنا بجامع كون الطبع داعيا إليه فيناسب الزاجر. وفرق بأن الزنا أكثر وقوعا وكان الاحتياج فيه إلى الزاجر أشد، وبأن الزنا يقتضي فساد الأنساب دون اللواط، وألغى الفرق بوطء العجوز الشوهاء. حجة أبي حنيفة أنه وطء لا يتعلق به المهر فلا يتعلق به الحد وضعف بفقد الجامع قال: إنه لا يساوي الزنا في الحاجة إلى شرع الحد لأن اللواط لا يرغب فيه المفعول طبعا، ولأنه ليس فيه إضاعة النسب. وأجيب بأن الإنسان حريص على ما منع، فلو لم يشرع الحد شاع اللواط وأدى إلى إضاعة النسب بل إلى إفناء الأشخاص وانقطاع طريق التوالد والتناسل. وللشافعي في إتيان البهيمة أقوال: أحدها أنه كالزنا في أحكامه، وثانيها القتل مطلقا لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» «3» فقيل لابن عباس: ما شأن البهيمة؟ قال: لأنه كره أن يؤكل لحمها. وأصحها وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد والثوري أن عليه التعزير لأنه غير مشتهي طبعا. والحديث ضعيف   (1) رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 28. الترمذي في كتاب الحدود باب 24. ابن ماجة في كتاب الحدود باب 12. أحمد في مسنده (1/ 269) . (2) رواه البخاري في كتاب الديات باب 6. مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26 أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15. النسائي في كتاب التحريم باب 5، 11. الدارمي في كتاب السير باب 11. أحمد في مسنده 1/ 61، 63) . (3) رواه الترمذي في كتاب الحدود باب 23، 24. أبو داود في كتاب الحدود باب 108. ابن ماجة في كتاب الحدود باب 13. أحمد في مسنده (1/ 217، 269) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 الإسناد وبتقدير صحته معارض بما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان إلا لأكله. ولا خلاف في أن السحق وإتيان الميتة والاستمناء باليد لا يشرع فيها الا التعزير. البحث الثاني قد مر في أول سورة النساء أن حكم الزاني في أوائل الإسلام كان الحبس في البيوت في حق الثيب، والإيذاء بالقول في حق البكر، ثم نسخ بآية الزنا وبقوله صلى الله عليه وسلم «الثيب بالثيب جلد مائه ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائه وتغريب عام» «1» والخوارج أنكروا الرجم لأنه لا يتنصف وقد قال تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء: 25] ولأنه تعالى أطنب في أحكام الزنا بما لم يطنب في غيره، فلو كان الرجم مشروعا لكان أولى بالذكر، ولأن قوله الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يقتضي وجوب الجلد على كل الزناة وإيجاب الرجم على البعض يقتضي تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. وجمهور المجتهدين خالفوهم في ذلك فأجابوا عن الأول بأن الرجم حيث لم يتنصف لم يشرع في حق العبد فخصص العذاب بغير الرجم للدليل العقلي. وعن الثاني بأن الأحكام الشرعية كانت تنزل بحسب تجدد المصالح فلعل المصلحة التي اقتضت وجوب الرجم حدثت بعد نزول هذه الآيات. وعن الثالث بأن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز عندنا لأن القرآن وإن كان قاطعا في متنه إلا أن العام غير قاطع الدلالة فأمكن تخصيصه بالدليل المظنون. سلمنا إلا أن الرجم ثبت بالتواتر رواه أبوبكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وجابر والخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة. وما نقل عن علي أنه جمع بين الجلد والرجم وهو اختيار أحمد وإسحق وداود محمول على مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجلد، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان محصنا فأمر به فرجم. وقوله صلى الله عليه وسلم «الثيب بالثيب جلد مائة» «2» ورجم بالحجارة متروك العمل بما روي في قصة العسيف أنه قال: يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. ولو وجب الجلد إذ ذاك لذكره. وأن قصة ما عز رويت من جهات مختلفة وليس فيها ذكر الجلد مع الرجم وكذا قصة الغامدية. وروى الزهري بإسناده عن ابن عباس أن عمر قال: قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى وقد قرأنا «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» فرجم النبي صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده.   (1) رواه مسلم في كتاب الحدود حديث 12- 14. أبو داود في كتاب الحدود باب 23. الترمذي في كتاب الحدود باب 8. ابن ماجة في كتاب الحدود باب 7. الدارمي في كتاب الحدود باب 19. أحمد في مسنده (3/ 476) (5/ 313) . (2) المصدر السابق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 فأخبر أن الذي فرضه الله تعالى هذا الرجم ولو كان الجلد واجبا مع الرجم لذكره. قال الشافعي: يجمع بين الجلد والتغريب في حد البكر. وقال أبو حنيفة: يجلد. وأما التغريب فمفوّض إلى رأي الإمام. وقوله صلى الله عليه وسلم «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» «1» وكذا ما يروى عن الصحابة أنهم جلدوا ونفوا منسوخ أو محمول على وجه التعزير والتأديب من غير وجوب. وقال مالك: يجلد الرجل ويغرب وتجلد المرأة بلا تغريب. حجة الشافعي حديث عبادة «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» «2» وقد ورد مثله في قصة العسيف. حجة أبي حنيفة أن إيجاب التغريب يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد. بيانه أن إيجاب الجلد مرتب على الزنا بالفاء التي هي للجزاء، ومعنى الجزاء كونه كافيا في ذلك الباب منه قوله صلى الله عليه وسلم «يجزيك ولا يجزي أحدا بعدك» «3» وإيجاب شيء آخر غير الجلد يقتضي نسخ كونه كافيا ولو كان النفي مشروعا لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم توقيف الصحابة عليه عند تلاوة هذه الآية ولو فعل لاشتهر. وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأمة «إذا زنت فاجلدها فإن زنت فاجلدها فإن زنت فبعها» «4» والاستدلال به أنه لم يذكر النفي مع الجلد ونظيره ما روي أن شيخا وجد على بطن جارية، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اجلدوه مائة. فقالوا: إنه أضعف من ذلك. فقال: خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها وخلوا سبيله. لا يقال: إنه إنما لم ينفه لأنه كان عاجزا عن الحركة لأنا نقول: كان ينبغي أن يأمر له بدابة يركبها. ولا يقال: لعله كان ضعيفا عن الركوب أيضا لأنا نقول: القادر على الجماع كيف لا يقدر على الاستمساك. وأيضا الأمر بالنفي لو كان مشروعا لزم في حق العبد الإضرار بسيده في مدة غيبته، وفي حق المرأة الإضرار بزوجها، وكذا لمن يؤمر أن يكون معها من محارمها أو من النسوة الثقات مع انفتاح باب الزنا عليها في الغربة، لهذا روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في البكرين: إذا زنيا يجلدان ولا ينفيان فإن نفيهما من الفتنة. وعن ابن عمر أن امرأة زنت فجلدها ولم ينفها. وأيضا النفي نظير القتل لقوله تعالى اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ [النساء: 66] فإذا لم يشرع القتل في حد البكر وجب أن لا   (1، 2) المصدر السابق. (3) رواه البخاري في كتاب العيدين باب 5، 8، 10. مسلم في كتاب الأضاحي حديث 5، 7، 9 أبو داود في كتاب الأضاحي باب 5. (4) رواه البخاري في كتاب العتق باب 17. مسلم في كتاب الحدود حديث 31، 32. أبو داود في كتاب الحدود باب 32. الترمذي في كتاب الحدود باب 8. ابن ماجة في كتاب الحدود باب 14. الموطأ في كتاب الحدود حديث 14. أحمد في مسنده (4/ 343) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 يشرع نظيره وهو التغريب. وأجيب بأن إيجاب الجلد مفهوم مشترك بين إيجاب الجلد مع إيجاب التغريب وبين إيجابه مع نفي التغريب فلا إشعار في الآية بأحد القسمين إلا أن عدم التغريب موافق للبراءة الأصلية. فإيجابه بخبر الواحد لا يزيل إلا محض البراءة فلا يلزم نسخ القرآن به وهو قول الأدباء إن الجزاء سمي جزاء لأنه كاف في الشرط لا يصلح حجة في الأحكام. ولا استبعاد في عدم اشتهار بعض الأحكام كأكثر المخصصات والأخبار الواردة في نفي التغريب معارضة بما روى أبو علي في جامعه أنه صلى الله عليه وسلم جلد وغرّب. ولا بعد في أن يكون القادر على الزنا عاجزا عن الاستمساك على الدابة والإضرار بالسيد قد يجوز للضرورة كالعبد المرتد يقتل، وعلى هذا يغرّب نصف سنة على الأصح لأنه يقبل التنصيف. وقيل: سنة كاملة لأن التغريب للإيحاش وهذا معنى يرجع إلى الطبع فيستوي فيه الحر والعبد كمدة الإيلاء والعنة. وأما المرأة فلا تغرّب وحدها لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يحل لامرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم» «1» فإن تبرع المحرم أو نسوة ثقاة فذاك وإلا أعطي أجرتهم من مالها أو من بيت المال فيه قولان، وتنتفي التهمة حينئذ مع أن أكثر الزنا إنما يقع بالألف والمؤانسة وفراغ القلب، وفي التغريب الأغلب هو الوحشة والتعب. وأما أن النفي يشبه القتل فمسلم من بعض الوجوه لا من كلها. واعلم أن قولنا الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إما مطلق دال على الجنسين المنافيين لجنس العفيفة والعفيف أو عام يشمل كل من اتصف بهذه الفعلة الشنعاء فلا بد من تقييد أو تخصيص وهو البحث الثالث فنقول: أجمعت الأمة على أنه لا بد فيه من العقل والبلوغ فلا حد على مجنون ولا على صبي لأنهما ليسا من أهل التكليف. هذا في غير الرجم وأما في الرجم فلا بد من شروط أخر منها: الحرية بالإجماع. ولا فرق بين القن والمدبر والمكاتب والمستولدة وحر البعض، والسبب أن الحرية توسع طريق الحلال لأن الرقيق يحتاج في النكاح إلى إذن السيد. ولا يجوز له أن ينكح إلا امرأتين، وجناية من ارتكب الحرام مع اتساع طريق الحلال أغلظ. ومنها الإصابة في نكاح صحيح وقد يعبر عن هذا الشرط بشرطين: أحدهما التزويج بنكاح صحيح، والآخر الدخول. وكيفما كان فوجه الاعتبار أنه قضى الشهوة واستوفى اللذة فحقه أن يمتنع من الحرام. ويكفي في الإصابة تغيب الحشفة بلا إنزال، ولا يقدح وقوعها في حالة الحيض والإحرام وعدة الوطء بالشبهة، ولا يحصل الإحصان بالإصابة في ملك اليمين كما لا يحصل التحليل. وفي الإصابة بالشبهة وفي النكاح   (1) رواه مسلم في كتاب الحج حديث 413- 424. البخاري في كتاب التقصير باب 4. أبو داود في كتاب المناسك باب 2. الترمذي في كتاب الرضاع باب 10. ابن ماجة في كتاب المناسك باب 7. الموطأ في كتاب الاستئذان حديث 27. أحمد في مسنده (1/ 222) (2/ 13، 19) . [ ..... ] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 الفاسد قولان: أحدهما أنه يفيد الإحصان لأن الفاسد كالصحيح في العدة والنسب، وأصحهما المنع لأن الفاسد لا أثر له في إكمال طريق الحلال. وهل يشترط أن تكون الإصابة في النكاح بعد التكليف والحرية؟ الأصح عند إمام الحرمين لا، فإنه وطء يحصل به التحليل فكذا الإحصان. والأرجح عند معظم الأصحاب نعم، لأن شرط الإصابة أن تحصل بأكمل الجهات وهو النكاح الصحيح فيعتبر حصولها من كامل، وعلى هذا فهل يشترط كمال الواطئين جميعا؟ قال أبو حنيفة: نعم وهو أحد قولي الشافعي فلو كان أحدهما كاملا دون الآخر لم يصر الكامل محصنا أيضا. وقال الشافعي في أصح قوليه: لا بل لكل منهما حكم نفسه. ومنها الإسلام عند أبي حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم «من أشرك بالله فليس بمحصن» دون الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا قبلوا الجزية فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» ولحديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا. فلو حكم بشرعه فظاهر، ولو حكم بشريعة من قبله فقد صار شرعا له، ولأن زنا الكافر مثل زنا المسلم في الحاجة إلى الزاجر ولهذا قلنا: إذا أقر الذمي بالزنا أقيم عليه الحد جبرا بخلاف الشرب فإنه لا يعتقد تحريمه. ومما احتج به لأبي حنيفة أن النعمة في حق المسلم أعظم فكانت جنايته أغلظ كقوله يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] وعورض بأن الإسلام من كسب العبد. وزيادة الخدمة إن لم تكن سببا للعذر فلا أقل من أن لا تكون سببا لزيادة العقوبة. قالوا: إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام بالإجماع فكذا إحصان الرجم والجامع كمال النعمة. وأجيب بأن حد القذف لرفع العار كرامة للمقذوف والكافر لا يكون محلا للكرامة وصيانة للعرض. والجواب عن الحديث بأنا لا نسلم أن الذمي مشرك، سلمنا لكن الإحصان قد يراد به التزويج كقوله فَإِذا أُحْصِنَّ [النساء: 25] والذمي الثيب محصن بهذا التفسير فوجب رجمه لقوله صلى الله عليه وسلم «وزنا بعد إحصان» «1» وبقوله «عليهم ما على المسلمين» قال بعض أهل الظاهر: عموم قوله الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة إلا أنه ورد النص بالتنصيف في حق الأمة، فلو قسنا العبد عليها لزم تخصيص عموم الكتاب بالقياس. ومنهم من قال: الأمة إذا تزوّجت فعليها خمسون لقوله فَإِذا أُحْصِنَّ [النساء: 25] أي تزوّجن فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ [النساء: 25] فإذا لم تتزوّج فعليها المائة لعموم قوله   (1) رواه البخاري في كتاب الديات باب 6. مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 الزَّانِيَةُ واتفاق الجمهور على حذف هذين. وقال الشافعي وأبو حنيفة: الذمي يجلد للعموم ولأنه صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين فالجلد أولى. وقال مالك: لا يجلد بناء على أن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع. البحث الرابع في طريق معرفة الزنا وأنه ثلاثة: الأول أن يراه الإمام بنفسه فيجيء الخلاف في أن القاضي هل له أن يقضي بعلمه أم لا؟ رجح كلا مرجحون. وجه القضاء أنه يقضي بالظن وذلك عند شهادة شاهدين فلأن يقضي بالعلم أولى. ووجه عدم القضاء أن فيه تهمة والتهمة تمنع القضاء ولهذا لا يقضي القاضي لولده ووالده. وهذا الوجه في حدود الله تعالى أرجح لأن الحاكم فيه مأمور بالستر ولهذا قال النبي في قضية اللعان «لو كنت راجما بغير بينة لرجمتها» ولا فرق على القولين أن يحصل العلم للقاضي في زمان ولايته ومكانها أو في غيرهما. وعن أبي حنيفة أنه إن حصل له العلم فيهما قضى بعلمه وإلا فلا. الطريق الثاني الإقرار ويكفي عند الشافعي مرة واحدة. وقال أبو حنيفة: لا بد من أربع مرات في أربع مجالس. وجوّز أحمد أن يكون المجلس واحدا. حجة الشافعي قصة العسيف «فإن اعترفت فارجمها» والقياس على الإقرار بالقتل والردة مع أن الصارف عن الإقرار بالزنا قويّ وهو العار في الحال والقتل أو الألم الشديد في المآل، فالإقدام على الإقرار مع هذا الصارف لا يكون إلا عن صدق ويقين. حجة أبي حنيفة قصة ما عز وإعراضه صلى الله عليه وسلم عنه مرات حتى قال أبو بكر له بعد ما أقر ثلاث مرات: لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم والقياس على الشهادة. وأجيب بأنه لا منافاة بين القضيتين فإن الأولى محمولة على أقل المراتب، والثانية على كمالها. والفرق أن المقذوف لو أقر بالزنا مرة سقط الحد عن القاذف، ولو شهد اثنان بزناه لم يسقط. الطريق الثالث الشهادة وأجمعوا على أنه لا بد من شهود أربعة من الرجال لقوله تعالى فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء: 15] ولقوله ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ والشهادة على الإقرار بالزنا كالشهادة على الزنا في أنه لا بد من شهود أربعة. وفي قول يكفي فيه اثنان لأن الفعل مما يعسر الاطلاع عليه فلزم الاحتياط فيه باشتراط الأربعة والإقرار أمر ظاهر فيكفي فيه رجلان. البحث الخامس: أجمعت الأمة على أن المخاطب بقوله فَاجْلِدُوا هو الإمام حتى احتجوا به على وجوب نصب الإمام فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقال الشافعي: السيد يملك إقامة الحد على مملوكه وهو قول ابن مسعود وابن عمر وفاطمة وعائشة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يملك. حجة الشافعي أنه صلى الله عليه وسلم قال «أقيموا الحدود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 على ما ملكت أيمانكم» «1» وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها» «2» وحمل الأول على رفع القضية إلى الإمام حتى يقيموا عليهم الحدود، وحمل الثاني على التعزير خلاف الظاهر. وأيضا إن ولاية السيد على العبد فوق الولاية بالبيعة فكان أولى. وأيضا الإجماع على أن السيد يملك التعزير مع أنه في محل الاجتهاد فلأن يملك الحد مع التنصيص عليه أولى. حجة أبي حنيفة في قوله فَاجْلِدُوا الخطاب للأمة بالاتفاق ولم يذكر فرق بين الأحرار المحدودين وبين العبيد. وأيضا لو جاز للمولى أن يسمع شهادة الشهود على عبده بالسرقة فيقطعه، فلو رجعوا عن شهادتهم لوجب أن يتمكن من تضمين الشهود وليس له ذلك بالاتفاق لأنه ليس لأحد أن يحكم لنفسه. وأيضا المالك في محل التهمة لأنه قد يشفق على ملكه فلا يستوفي الحد. أجابت الشافعية بأن عدم ذكر الفرق لا يدل على عدم الفرق مع أن الكلام في جواز إقامة السيد الحد لا في وجوبه. فالإمام يملك حد العبد في الجملة وذلك كاف في بقاء الآية على عمومها. وعن الثاني بأن للشافعي في القطع والقتل قولين: أحدهما يجوز لما روي أن ابن عمر قطع عبدا له سرق. وثانيهما لا، وهو قول مالك أن القطع للإمام بخلاف الجلد لأن المولى يملك جنس الجلد وهو التعزير. وفي سماع المولى الشهادة أيضا وجهان: فإذا فقد الإمام فليس لآحاد الناس إقامة هذه الحدود بل ينبغي أن يعينوا واحدا من الصلحاء ليقوم بها، وفي الخارجي المتغلب خلاف. البحث السادس في كيفية إقامة الحد: إنه سبحانه قد أشار إلى أن هذا الحد يجب أن لا يكون في غاية العنف بلفظ الجلد كما مر، وإلى أنه يجب أن لا يكون في غاية الرفق بقوله وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ وذلك إما بأن يترك الحد رأسا، أو ينقص شيء منه، أو يخفف بحيث لا يحس الزاني بالألم. وفي معناه أن يفرق على الأيام كأن يضرب كل يوم سوطا أو سوطين، وإن ضرب كل يوم عشرين مثلا كان محسوبا لحصول التكليف. والأولى أن لا يفرق وأكد هذا المعنى بقوله إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قال الجبائي: فيه دلالة على أن الاشتغال بأداء الواجبات من الإيمان لأن التقدير: إن كنتم مؤمنين فلا تتركوا إقامة الحدود. وأجيب بأن الرأفة لا تحصل إلا إذا حكم الإنسان بطبعه وأن ذلك يوجب ترك   (1) رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 33 أحمد في مسنده (1/ 145) . (2) رواه البخاري في كتاب العتق باب 17. مسلم في كتاب الحدود حديث 31- 32. أبو داود في كتاب الحدود باب 32. الترمذي في كتاب الحدود باب 8. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 14. الموطأ في كتاب الحدود حديث 14. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 إقامة الحد، وحينئذ يكون منكرا للدين فلهذا يخرج من الإيمان. وفي الحديث «يؤتي بوال نقص من الحد سوط فيقال له: لم فعلت ذاك؟ فيقول: رحمة لعبادك. فيقول له: أنت أرحم بهم مني فيؤمر به إلى النار» روى أبو عثمان النهدي قال: أتي عمر برجل في حد، ثم جيء بسوط فيه شدة فقال: أريد ألين من هذا. فأتي بسوط فيه لين فقال: أريد أشد من هذا. فأتي بسوط بين السوطين. وروي أن أبا عبيدة بن الجراح أتي برجل في حد فذهب الرجل ينزع قميصه وقال: ما ينبغي لجسد هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص. فقال أبو عبيدة: لا تدعوه ينزع قميصه وضربه عليه. ولا خلاف في أن المرأة لا يجوز تجريدها بل يربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف ويلي ذلك منها امرأة. وجوّز الشافعي الضرب على الرأس لما روي أن أبا بكر قال: اضرب على الرأس فإن الشيطان فيه. وقال أبو حنيفة: حكم الرأس حكم الوجه لأن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس وفي الوجه واحد، وأما في سائر البدن فلا يجب إلا الحكومة. وأيضا إن ضرب الرأس يوجب في الأغلب ظلمة البصر ونزول الماء واختلاط العقل كالوجه فإنه أيضا عرضة للآفات وفيه الأعضاء الشريفة اللطيفة. وللشافعي أن يقول: إنما يحترم الوجه لما جاء في الحديث «إن الله تعالى خلق آدم على صورته» «1» وهذا المعنى مفقود في الرأس. ولتكن إقامة الحد في وقت اعتدال الهواء إلا إذا كان رجما فإن المقصود- وهو قتله- لا يتفاوت بذلك. ولهذا يرجم المريض أيضا في مرضه. وقيل: إن كان مرضا يرجى برؤه يؤخر كما في الجلد لأنه ربما يرجع عن إقراره في حال الرجم وقد أثر الرجم في بدنه فتعين شدة الحر والبرد مع المرض على إهلاكه، وهذا بخلاف ما ثبت بالبينة فإنه لا يسقط. وفي الجلد إن كان المرض مما لا يرجى زواله كالسل والزمانة فلا يؤخر سواء زنى في حال الصحة أو في حال المرض ولكن لا يضرب بالسياط عند الشافعي، لأن المقصود ليس موته بل يضرب بعثكال عليه مائة شمراخ كما روي أن مقعدا أصاب امرأة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا مائة شمراخ فضربوه بها ضربة واحدة. والأثكال والعثكال الغصن الذي عليه فروع خفيفة من النخل أو من غيره. وعند أبي حنيفة يضرب بالسياط. ثم إن ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك وقع به بعض الحد أو لم يقع وبه قال أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وإسحق، لأن ماعزا لما مسته الحجارة هرب فقال صلى الله عليه وسلم: هلا تركتموه. وعن الحسن وابن أبي ليلى وداود أنه لا يقبل رجوعه. ويحفر للمرأة إلى صدرها حتى لا تنكشف ويرمى إليها، ولا يحفر للرجل كما في حق ما عز إذ لو كان في   (1) رواه البخاري في كتاب الاستئذان باب 1. مسلم في كتاب البر حديث 115. أحمد في مسنده (2/ 244، 251) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 الحفرة لم يمكنه الهرب. ولما روى أبو سعيد الخدري في قصته «فما أوثقناه ولا حفرنا له» . وإذا مات الزاني في الحد يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين. ومن تغليظات حد الزنا قوله سبحانه وَلْيَشْهَدْ ظاهره أمر للوجوب إلا أن الفقهاء أجمعوا على أن حضور الجمع مستحب والمقصود إعلان إقامة الحد لما فيه من مزيد الردع، ولما فيه من دفع التهمة عمن يجلد. وفي لفظ العذاب دليل على أنه عقوبة لا استصلاح إلا أن يراد بالعذاب ما يمنع من المعاودة كالنكال وقد مر في أول البقرة في قوله وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الآية: 7] ومعنى الطائفة قد مر في التوبة. فقال النخعي ومجاهد: هي في الآية واحد. وعن عطاء وعكرمة اثنان. وعن الزهري وقتادة ثلاثة. وقال ابن عباس والشافعي: أربعة بعدد شهود الزنا. وعن الحسن عشرة لأنها أول عقد. وجوّز ابن عباس إلى أربعين رجلا من المصدقين بالله. وحضور الإمام والشهود ليس بلازم عند الشافعي ومالك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحضر رجم ما عز والغامدية. وقال أبو حنيفة: إن ثبت بالبينة وجب على الشهود أن يبدأوا بالرجم ثم الإمام ثم الناس وإن ثبت بإقراره بدأ الإمام ثم الناس. ثم ذكر شيئا من خواص الزناة فقال: الزَّانِي لا يَنْكِحُ وهو خبر في معنى النهي كقراءة عمرو بن عبد لا يَنْكِحُ بالجزم. ويجوز أن يكون خبرا محضا على معنى أن عادتهم جارية بذلك. وفي الآية أسئلة: الأول: كيف قدمت الزانية على الزاني في الآية المتقدمة وعكس الترتيب في هذه؟ والجواب أن تلك الآية مسوقة لبيان عقوبتهما على جنايتهما وكانت المرأة أصلا فيها لأنها هي التي أطمعت الرجل في ذلك. وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل هو الأصل في الرغبة والخطبة. والثاني: ما الفرق بين الجملتين في الآية؟ والجواب معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر، ومعنى الثانية صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء، ولكن للزناة وهما معنيان مختلفان لأنه لا يلزم عقلا من كون الزاني كذلك أن يكون حال الزانية منحصرة في ذلك فأخبره الله تعالى بالجملة الثانية عن هذا الانحصار. الثالث أنا نرى الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف، وأيضا المؤمن قد يحل له التزوج بالمرأة الزانية. الجواب للمفسرين فيه وجوه: أحدها وهو الأحسن قول القفال: إن اللفظ وإن كان عاما إلا أن المراد منه الأعم الأغلب، وذلك أن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا والتقحب لا يرغب غالبا في نكاح الصوالح من النساء وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله أو في مشركة، والفاسقة الخبيثة المسافحة لا يرغب في نكاحها الصلحاء في الأغلب وإنما يرغب فيها أشكالها من الفسقة أو المشركين نظير هذا الكلام قول القائل «لا يفعل الخير إلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 الرجل التقي» . وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقي. وأما المحرم على المؤمنين فصرف الرغبة بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات لانخراطهم بسبب هذا الحصر في سلك الفسقة المتسمين بالزنا. الوجه الثاني أن الألف واللام في قوله الزَّانِي وفي قوله الْمُؤْمِنِينَ للعهد. روى مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة أنه قدم المهاجرون المدينة وليست لهم أموال ولا عشائر وبها نساء يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة ولكل واحدة منهن علامة على بابها لتعرف بها وكان لا يدخل عليها إلا زان أو مشرك، فرغب فيهن ناس من فقراء المسلمين وقالوا: نتزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهن. فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية. والتقدير: أولئك الزواني لا ينكحون إلا تلك الزانيات، وتلك الزانيات لا ينكحها إلا أولئك الزواني، وحرم نكاحهن بأعيانهن على المؤمنين. الوجه الثالث أن هذا خبر في معنى النهي كما مر. وهكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام. ثم قيل: إن ذلك الحكم باق إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزوج بالعفيفة والعفيف وبالعكس. ويقال: هذا مذهب أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعائشة. ثم في هؤلاء من يسوّي بين الابتداء والدوام فيقول: كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك إذا زنت تحته لا يحل له أن يقيم عليها. ومنهم من يفصل لأن في جملة ما منع من التزوج ما لا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة. وقيل: إنه صار منسوخا إما بالإجماع- وهو قول سعيد بن المسيب- وزيف بأن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به، وإما بعموم قوله وَأَنْكِحُوا الْأَيامى [النور: 32] فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ [النساء: 3] وهو قول الجبائي. وضعف بأن ذلك العام مشروط بعدم الموانع السببية والنسبية وليكن هذا المانع أيضا من جملتها. وسئل ابن عباس عن ذلك فأجازه وشبه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك فقال: أوّله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال. الوجه الرابع قول أبي مسلم: إن النكاح محمول على الوطء وذلك إشارة إلى الزنا أي وحرم الزنا على المؤمنين. قال الزجاج: هذا التأويل فاسد من جهة أن النكاح في كتاب الله لم يرد إلا بمعنى التزويج، ومن جهة أنه يخرج الكلام عن الفائدة إذ لا معنى لقول القائل «الزاني لا يطأ إلا الزانية» حتى يكون وطؤه زنا، ولو أريد حين التزوج فالإشكال عائد لأن الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها. الحكم الثاني من أحكام السورة حد القذف والرمي قد يكون بالزنا وبغيره كالكفر والسرقة وشرب الخمر، إلا أن العلماء أجمعوا على أن المراد به في الآية هو الرمي بالزنا بالقرائن: منها تقدم ذكر الزنا، ومنها ذكر المحصنات وهن العفائف، ومنها قوله لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أي على صحة ما رموها به، ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 إلا في الزنا، والقذف بغير الزنا يكفي فيه شاهدان. وألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية وتعريض، فالصريح أن يقول: يا زانية أو زنيت أو زنى قبلك أو دبرك. والأصح أن قوله «زنى بدنك» صريح لأن الفعل لكل البدن والفرج آلة. والكناية أن يقول «يا فاسقة يا فاجرة يا خبيثة يا بنت الحرام أو امرأته لا تردّ يد لامس» فهذا لا يكون قذفا إلا أن يريده. وكذا لو قال لعربي «يا نبطي الدار واللسان» وادعت أم المقول له أنه أراد القذف فالقول قوله مع يمينه. والتعريض ليس بقذف كقوله «يا ابن الحلال» و «أما أنا فليست أمي بزانية» وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه. وقال مالك: يجب الحد فيه. وقال أحمد وإسحق: هو قذف في حال الغضب دون حال الرضا لنا أن الأصل براءة الذمة فلا يرجع عنه بالشك ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «ادرؤا الحدود بالشبهات» «1» والإيذاء الحاصل بالتصريح فوق الإيذاء الحاصل بالتعريض. حجة المخالف ما روي أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب فقال أحدهما للآخر: والله ما أرى أبي بزان ولا أمي بزانية. فاستشار عمر الناس في ذلك فقال قائل: مدح أباه وأمه. وقال آخرون قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا. فجلده عمر ثمانين. وإذا قذف شخصا واحدا مرارا فإن أراد بالكل زنية واحدة كما لو قال مرارا «زنيت بعمرو» لم يجب إلا حد واحد. ولو أنشأ الثاني بعد ما حد للأول عزر للثاني. وإن أراد زنيات مختلفة كأن قال «زنيت بزيد وزنيت بعمرو» فالأصح تداخل الحدود لأنهما حدان من جنس واحد فصار كما لو قذف زوجته مرارا يكتفي بلعان واحد. وإذا قذف جماعة بكلمات أو بكلمة واحدة كأن قال «يا ابن الزانيين» فعليه حدان لأنه قذف لكل واحد من أبويه، هذا هو الجديد من قولي الشافعي. وعند أبي حنيفة لا يجب إلا حد واحد لأن قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ معناه كل من رمى جماعة من المحصنات فاجلدوه ثمانين، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال لهلال بن أمية «أو حدّ في ظهرك» فلم يوجب عليه الا حدا واحدا مع قذفه لامرأته. ولشريك بن سحماء للقياس على من زنى مرارا أو شرب أو سرق مرارا والجامع رفع مزيد الضرر. وأجيب بأن قوله وَالَّذِينَ صيغة جمع وقوله الْمُحْصَناتِ كذلك. وإذا قوبل الجمع بالجمع يقابل الفرد بالفرد فيصير المعنى: كل من رمى محصنة فاجلدوه. وفيه أن رمي المحصنة علة الجلد فحيث وجدت وجد. ولا شك أن هذه العلة موجودة عند رمي كل واحدة من المحصنات فيترتب عليها الجلد لا محالة. وأما السنة فالإنصاف أن دلالتها على المطلوب   (1) رواه الترمذي في كتاب الحدود باب 2. بلفظ «ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 قوية، وأما القياس فالفرق أن هذا حق الآدمي وتلك حدود الله تعالى. هذا كله هو البحث عن الرمي. وأما البحث عن الرامي فنقول: لا عبرة بقذف الصبي والمجنون إلا في باب التعزير للتأديب إن كان لهما تمييز ولو لم يتفق إقامة التعزير على الصبي حتى بلغ. قال القفال: يسقط التعزير لأنه كان للزجر. والعقل زاجر قوي وإشارة الأخرس وكتابته قذف ولعان عند الشافعي قياسا على سائر الأحكام، ولأنه كاف في لحوق العار. وعند أبي حنيفة لا يصح قذفه ولعانه لضعف تأثيرهما. وإذا قذف العبد حرا فعليه أربعون جلدة قاله مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه على قانون قوله فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء: 25] وعند الشيعة ويروى عن علي رضي الله عنه أنه يجلد ثمانين أخذا بعموم الآية، ولهذا اتفقوا على دخول الكافر فيه حتى لو قذف اليهودي مسلما جلد ثمانين. ويستثنى من الرماة الأب أو الجد إذا قذف أولاده أو أحفاده فإنه لا يجب عليه الحد كما لا يجب عليه القصاص. وأما البحث عن المرمي فالمحصنات العفائف لأنهن منعن فرجهن إلا من زوجهن وهي عامة إلا أن الفقهاء اعتبروا لكونها محصنة شرائط خمسا: الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم «من أشرك بالله فليس بمحصن» والعقل والبلوغ لأن المجنون والصبي لا اهتمام لهما بدفع العار عن أنفسهما، والحرية لمثل ما قلنا، والعفة لأن الحد شرع لتكذيب القاذف فإذا كان صادقا فلا معنى للحد حتى لو زنى مرة في عنفوان شبابه ثم تاب وحسنت حاله لم يحد قاذفه بخلاف ما لو زنى في حال صغره أو جنونه ثم بلغ أو أفاق فقذفه قاذف فإنه يحد لأن فعل الصبي والمجنون لا يكون زنا. ولو زنى بعد القذف وقبل إقامة الحد على القاذف سقط الحد عن قاذفه. قاله أبو حنيفة والشافعي لأن ظهور الزنا منه خدش ظن الإحصان به وقت القذف، ودل على أنه كان متصفا به قبله كما روي أن رجلا زنى في عهد عمر فقال: والله ما زنيت إلا هذه. فقال عمر: كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة. وقال أحمد والمزني وأبو ثور: الزنا الطارئ لا يسقط الحد عن القاذف. ولفظ المحصنات لا يتناول الرجال عند جمهور العلماء إلا أنهم أجمعوا على أنه لا فرق في هذا الباب بين المحصنين والمحصنات والقذف بغير الزنا كأن يقول «يا آكل الربا» يا «شارب الخمر» يا «يهودي» يا «مجوسي» يا «فاسق» وكذا قذف غير المحصنين بالزنا لا يوجب الا التعزير، ولو كان المقذوف معروفا بما ذكره فلا تعزير أيضا. واعلم أنه سبحانه حكم على القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء بثلاثة أحكام: جلد ثمانين وبطلان الشهادة والحكم بفسقه إلى أن يتوب. فذهب جمع من الأئمة كالشافعي والليث بن سعد إلى أنه رتب على القذف مع عدم الإتيان بالشهداء الأربعة أمورا ثلاثة معطوفة بعضها على بعض بالواو وهو لا يفيد الترتيب، فوجب أن لا يكون رد الشهادة مرتبا على إقامة الحد، بل يجب أن يثبت رد الشهادة بالقذف مع عدم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 البينة سواء أقيم عليه الحد أم لا. وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه: شهادته مقبولة ما لم يحد فإذا استوفى لم تقبل شهادته. وإنما ذهب إلى هذا نظرا إلى ظاهر الترتيب مع موافقته للأصل وهو كونه مقبول الشهادة ما لم يطرأ مانع ولقوله صلى الله عليه وسلم «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف» «1» أخبر ببقاء عدالته ما لم يحدّ. أما الاستثناء في قوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فإنه لا يرجع إلى الجملة الأولى اتفاقا لأنه إذا عجز عن البينة وهو الإتيان بأربعة شهداء وجب عليه الجلد ولم يكن للإمام ولا للمقذوف أن يعفو عن القاذف لأنه خالص حق الله عز وجل، ولهذا لا يصح أن يصالح عنه بمال. هذا قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي: إذا عجز عن البينة وجب على الإمام وهو المخاطب بقوله فَاجْلِدُوهُمْ أن يأمر بجلده وإن تاب لأن القذف وحده حق الآدمي والمغلب فيه حقه، فليس للإمام أن يعفو عنه. ولا خلاف في رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة وأن المراد أنهم محكوم عليهم بالفسق. الا أن تابوا. بقي الخلاف في رجوع الاستثناء إلى الجملة المتوسطة، ومنشأ الخلاف مسألة أصولية هي أن الاستثناء بعد جمل معطوف بعضها على بعض للجميع وهو مذهب الشافعية، أو للأخيرة وهو مذهب الحنفية، ويتفرع على مذهب الشافعي أن القاذف إذا تاب وحسنت حاله قبلت شهادته فيكون الأبد مصروفا إلى مدة كونه قاذفا وهي تنتهي بالتوبة والرجوع عن القذف. ويتفرغ على مذهب أبي حنيفة أنه لم تقبل شهادته وإن تاب والأبد عنده مدة حياته. وقوله وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ جملة مستأنفة عنده لا معطوفة لأنها خبرية وما قبلها طلبية، ولو سلم أنها معطوفة فالاستثناء يرجع إليها فقط. قال صاحب الكشاف: حق المستثنى عند الشافعي أن يكون مجرورا بدلا من هم في لهم، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوبا لأنه عن موجب. قلت: حقه عند الإمامين أن يكون منصوبا لأن الاستثناء يعود عند الشافعي إلى الجملتين، ولا يمكن أن يكون الاسم الواحد معربا بإعرابين مختلفين في حالة واحدة، لكنه يجب نصبه نظرا إلى الأخيرة فتعين نصبه نظرا إلى ما قبلها أيضا، وإن جاز البدل في غير هذه المادة. هذا وقد احتجت الشافعية أيضا في قبول شهادة القاذف بعد التوبة بقوله صلى الله عليه وسلم «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» «2» وإذا كانت التوبة من الكفر والزنا والقتل مع غلظها مقبولة فلأن تقبل من القذف أولى. وأيضا إن أبا حنيفة يقبل شهادته قبل الحد فبعده وقد تاب وحسن حاله أولى. وأيضا الكافر يقذف   (1) رواه ابن ماجة في الأحكام باب 30. أحمد في مسنده (2/ 208) ولم يذكر القذف. (2) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد باب 30. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 فيتوب من الكفر فتقبل شهادته بالإجماع، فالقاذف المسلم إذا تاب من القذف كان أولى بأن تقبل شهادته لأن القذف مع الإسلام أهون حالا من القذف مع الكفر. لا يقال: المسلمون لا يعبؤون بسب الكفار لاشتهارهم بعداوتهم والطعن فيهم فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر عار حادث بخلاف ما لو قذفه مسلم. وأيضا الإيمان يجب ما قبله وبهذا لا يلزم الحد بعد التوبة من الكفر ويلزم بعد التوبة من القذف لأنا نقول: هذا الفرق ملغى في أهل الذمة لقوله صلى الله عليه وسلم «لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» واحتجت الحنفية في عدم قبول شهادته بما روى ابن عباس في قصة هلال بن أمية يجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين ولم يشترط التوبة، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدود في قذف» «1» ولم يذكر التوبة. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تجوز شهادة محدود في الإسلام» «2» والشافعية عارضوا هذه الحجج بوجوه: منها قوله صلى الله عليه وسلم «إذا علمت مثل الشمس فاشهد» «3» فإذا علم المحدود وجبت عليه الشهادة ولو لم يقبل كان عبثا. ومنها قوله نحن نحكم بالظاهر، وهاهنا قد ظهرت العفة والصلاح. ومنها أن عمر بن الخطاب ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة وهم أبو بكرة ونافع ونفيع ثم قال لهم: من أكذب نفسه قبلت شهادته. فأكذب نافع ونفيع أنفسهما وتابا فكان يقبل شهادتهما. وقد بقي في الآية مسائل. الأولى: قال الشافعي: لا فرق بين أن يجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين. وقال أبو حنيفة: إذا جاؤا متفرقين لم يثبت وعليهم حد القذف كما لو شهد على الزنا أقل من أربعة. حجة الشافعي أن الآتي بالشهداء متفرقين آت بمقتضى النص واجتماعهم أمر زائد لا إشعار به في الآية. وأيضا القياس على سائر الأحكام بل تفريقهم أولى لأنه أبعد عن التهمة والتواطؤ. وكذلك يفعل القاضي في كل حكم سواه عند الريبة. وأيضا لا يجب أن يشهدوا معا في حالة واحدة بل إذا اجتمعوا عند القاضي ويقوم واحد بعد آخر ويشهد جاز فكذا إذا اجتمعوا على بابه ويدخل واحد بعد آخر. حجة أبي حنيفة الشاهد الواحد لما شهد قذفه ولم يأت بأربعة شهداء فوجب عليه الحد فخرج عن كونه شاهدا، ولا عبرة بتسميته شاهد إذا فقد المسمى فلا خلاص عن هذا الإشكال إلا باشتراط الاجتماع، ونظيره ما روي أن المغيرة بن   (1، 2) رواه ابن ماجة في كتاب الأحكام باب 30. أحمد في مسنده (2/ 208) ولم يذكر القذف. (3) رواه البخاري في كتاب الأحكام باب 15 بلفظ «إن عرفتها فاشهد وإلا فلا تشهد» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 شعبة شهد عليه بالزنا عند عمر بن الخطاب أربعة: أبو بكرة ونافع ونفيع. وقال زياد: وكان رابعهم: رأيت رجليها على عاتقه كأذني حمار ولا أدري ما وراء ذلك. فجلد عمر الثلاثة ولم يسأل هل معهم شاهد آخر. فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف في الحد للاحتياط. الثانية: جوّز أبو حنيفة أن يكون زوج المقذوفة واحدا من الشهداء الأربعة وأباه الشافعي. الثالثة: قال الشافعي: في أحد قوليه: إذا أتي بأربعة فساق فهم قذفة يجب عليهم الحد كما يجب على القاذف الأول. وقال أبو حنيفة: لا حد عليهم ولا على القاذف لأنه أتى بأربعة من أهل الشهادة إلا أن الشرع لم يعتبر شهادتهم، فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحد عن المشهود عليه فكذلك يجب اعتبارها في نفي الحد عنهم. الرابعة: لا يكفي في الشهادة إطلاق الزنا لا بد أن يذكروا التي زنى بها وأن يذكروا الزنا مفصلا مفسرا فيقولوا: رأيناه أدخل فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة أو كالرشا في البئر، ولا بد مع ذلك من الوصف بالتحريم. ولو أقر على نفسه بالزنا فهل يشترط التفسير والبيان؟ فيه وجهان: نعم كالشهود لا كالقذف. الخامسة: قالوا: أشد الحدود ضرب الزنا ثم ضرب الخمر ثم القذف لأن سبب عقوبته يحتمل الصدق والكذب. إلا أنه عوقب صيانة للأعراض. السادسة: حد القذف يورث عند مالك والشافعي بناء على أنه حق الآدمي. وقد قال صلى الله عليه وسلم «من ترك حقا فلورثته» «1» والأصح أنه يرثه جميع الورثة. وفي قول سوى الزوج والزوجة لأن الزوجية ترفع بالموت، ولأن لحوق العار بها أقل. وعلى هذا القول اعترض أبو حنيفة بأنه لو كان موروثا لكان للزوج والزوجة فيه نصيب. السابعة: إذا قذف إنسان إنسانا بين يدي الحاكم أو قذف امرأته برجل والرجل غائب فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلانا قد قذفك وثبت لك حد القذف عليه كما لو ثبت له حق على آخر وهو لا يعلمه يلزمه إعلامه، وبهذا المعنى بعث النبي صلى الله عليه وسلم أنيسا ليخبرها بأن فلانا قذفها بابنه ولم يبعثه ليتفحص عن زناها.   (1) رواه البخاري في كتاب الكفالة باب 5. مسلم في كتاب الفرائض حديث 14، 17. أبو داود في كتاب الفرائض باب 8. الترمذي في كتاب الجنائز باب 69. النسائي في كتاب الجنائز باب 67. أحمد في مسنده (2/ 290) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 قال الشافعي: وليس للإمام إذا رمى رجل بالزنا أن يبعث إليه فيسأله عن ذلك لأن الله تعالى قال وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات: 22] وأراد به إذا لم يكن القاذف معينا كأن قال رجل بين يدي الحاكم: الناس يقولون إن فلانا زنى. فلا يبعث الحاكم إليه فيسأله. الثامنة: قال الشافعي: توبة القاذف إكذابه نفسه. وفسره الأصطخري بأن يقول: كذبت فيما قلت فلا أعود إلى مثله. وقال أبو إسحق: لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقا فيكون قوله كذبت كذبا والكذب معصية والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى بل يقول: القذف باطل وندمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه. ولا بد من مضيّ مدة عليه في حسن الحال وهو المراد بقوله وَأَصْلَحُوا وقدّروا تلك المدة بسنة لأن مرور الفصول الأربعة كلها له تأثير في الطباع. وأن الشارع جعل السنة معتبرة في الزكاة والجزية وغيرهما. أما قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ففيه دليل على أن القذف من جملة الكبائر، وأن الفاسق اسم من يستحق العقاب لأنه لو كان مشتقا من فعله لكانت التوبة لا تمنع من دوامه كما لا تمنع من وصفه بأنه ضارب، اللهم إلا أن يقال: إنما لا يطلق عليه هذا الاسم بعد التوبة للتعظيم كما لا يقال لأكابر الصحابة كافر لكفر سبق. قالت الأشاعرة: في قوله فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دلالة على أن قبول التوبة لا يجب عليه وإلا لم يفد المدح. الحكم الثالث: اللعان وسببه قذف الزوجات خاصة. القذف أمر محظور في نفسه إلا إذا عرض ما يباح أو يجب به. وتفضيل ذلك أنه إن رآها الزوج بعينه تزني، أو أقرت هي على نفسها ووقع في قلبه صدقها، أو سمع ممن يثق بقوله، أو استفاض بين الناس أن فلانا يزني بفلانة وقد رآه الزوج يخرج من بيتها، أو رآه معها في بيت، أبيح له القذف لتأكد التهمة. ويجوز أن يمسكها أو يستر عليها لما روي أن رجلا قال: يا رسول الله إن لي امرأة لا تردّ يد لامس. قال: طلقها. قال: إني أحبها. قال: فأمسكها أما إذا سمعه ممن لا يوثق بقوله، أو استفاض ولكن لم يره الزوج معها أو بالعكس لم يحل له قذفها لأنه ربما دخل لخوف أو سرقة أو لطلب فجور وأبت المرأة هذا كله إذا لم يكن ثمة ولد يريد نفيه، فإن كان ثمة ولد فإن تيقن أنه ليس منه بأن لم يكن وطئها أو وطئها لكنها أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت الوطء أو لأكثر من أربع سنين يجب عليه نفيه باللعان لأنه ممنوع من استلحاق نسب الغير كما هو ممنوع من نفي نسبه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته. وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الأشهاد من الأولين والآخرين» «1» وإن احتمل أن يكون الولد منه بأن   (1) رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 29. الدارمي في كتاب النكاح باب 42. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الوطء ولأقل من أربع سنين، فإن لم يكن استبرأها بحيضة أو استبرأها وأتت به لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء لم يحل له القذف والنفي، وإن اتهمها بالزنا وإن استبرأها وأتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الاستبراء يباح له القذف والنفي، والأولى أن لا يفعل لأنها قد ترى الدم على الحبل. وإن أتت امرأته بولد لا يشبهه كأن كانا أبيضين وأتت به أسود فإن لم يتهمها بالزنا فليس له نفيه لما روى أبو هريرة أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن امرأتي ولدت غلاما أسود فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما لونها؟ قال: حمر. قال: فهل فيها أورق؟ قال: نعم قال: فكيف ذاك؟ قال: نزعه عرق. قال: فلعل هذا نزعه عرق. وإن كان يتهمها بزنا أو برجل فأتت بولد يشبهه فهل يباح نفيه؟ فيه وجهان: أما سبب نزول الآية فقد قال ابن عباس: لما نزلت الآية المتقدمة قال عاصم بن عدي الأنصاري: إذا دخل منا رجل بيته ووجد رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال: وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب، وإن سكت سكت على غيظ، اللهم افتح. وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر، وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس، فأتى عويمر عاصما وقال: رأيت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمعة الأخرى فقال: يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي. أخبرني عويمر أنه رأى شريكا على بطن امرأته، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم أبناء عم عاصم. فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا وقال لعويمر: اتق الله في زوجتك وابنة عمك ولا تقذفها. فقال: يا رسول الله أقسم بالله أني رأيت شريكا على بطنها وأني ما قربتها منذ أربعة أشهر وأنها حبلى من غيري. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت. فقالت: يا رسول الله إن عويمرا رجل غيور وإنه رأى شريكا يطيل التردد ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال فأنزل الله سبحانه هذه الآيات. وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ إلى آخرها. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نودي بالصلاة جامعة فصلى العصر ثم قال لعويمر: قم وقل أشهد بالله أن خولة لزانية وإني لمن الصادقين. ثم قال في الثانية قل أشهد بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين. ثم قال في الثالثة: قل أشهد بالله أنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين. ثم قال في الرابعة: قل أشهد بالله إنها زانية وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين. ثم قال في الخامسة: قل لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قاله. ثم قال: اقعد. وقال لخولة: قومي فقامت. وقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي عويمرا لمن الكاذبين. وقالت في الثانية: أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 لمن الكاذبين. وقالت في الثالثة: أشهد بالله إني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين. وفي الرابعة: أشهد بالله إنه ما رآني على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين. وفي الخامسة: غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله. ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما. وعن ابن عباس أيضا في رواية الكلبي أن عاصما رجع إلى أهله فوجد شريكا على بطن امرأته فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث كما تقدم. وفي رواية عكرمة عن ابن عباس: لما نزلت آية القذف قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: ولو وجدت رجلا على بطنها فإني إن جئت بأربعة شهداء يكون قد قضى حاجته وذهب. فقال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ قالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور. فقال سعد: يا رسول الله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكني عجبت منه. فقال صلى الله عليه وسلم: فإن الله أبى لي ذلك فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم فقال: يا رسول الله إني وجدت مع امرأتي رجلا رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أخبرتك به، والله يعلم أني لصادق وما قلت إلا حقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما البينة وإما إقامة الحد عليك. فاجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد. فبيناهم كذلك إذ نزل الوحي فقال: يا هلال أبشر فقد جعل الله لك فرجا وأمر بالملاعنة وفرق بينهما وقال: أبصروها فإن جاءت به أصهب أحمش الساقين أي دقيقهما فهو لهلال، وإن جاءت به أورق جعدا خدلج الساقين. أي ضخمهما فهو لصاحبه. فجاءت به خدلج الساقين فقال صلى الله عليه وسلم: لولا الإيمان لكان لي ولها شأن. قال عكرمة: لقد رأيته بعد ذلك أمير مصر من الأمصار لا يدري من أبوه. واعلم أن الفرق بين قذف غير الزوجة وبين قذف الزوجة هو أن المخلص من الحد في الأول إقرار المقذوف بالزنا أو بينة تقوم على زناه، وفي الثانية المخلص أحد الأمرين أو اللعان. وسبب شرع اللعان هو أنه لا مضرة على الزوج في زنا الأجنبي والأولى له ستره، وأما في زنا الزوجة فيلحقه العار والشنار والنسب الفاسد فلا يمكنه الصبر عليه وتوقيفه على البينة كالمتعذر. وأيضا الغالب أن الرجل لا يقصد رمي زوجته إلا عن حقيقة، فنفس الرمي دليل على صدقه إلا أن الشرع أراد كمال شهادة الحال بقرينة الإيمان كما أن شهادة المرأة حين ضعفت أكدت بزيادة العدد فمن هنا قال كثير من العلماء: إن حد قاذف الزوجة كان هو الجلد وإن الله نسخه باللعان. ولنذكر هاهنا مسائل: الأولى: قال الشافعي: إذا نكل الزوج عن اللعان لزمه الحد للقذف، فإذا لاعن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 ونكلت عن اللعان لزمها حد الزنا. وقال أبو حنيفة: إذا نكل الزوج يحبس حتى يلاعن وكذا المرأة. حجة الشافعي إذا لم يأت بالمخلص وهو الملاعنة وجب الرجوع إلى مقتضى آية القذف وهو الحد. وأيضا قوله وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ ليست اللام فيه للجنس لأنه لا يجب عليها جميع أنواع العذاب، ولأن الآية تصير إذ ذاك مجملة فهو للعهد ولا معهود في الآية إلا حد القذف، ولقوله صلى الله عليه وسلم لخولة الرجم أهون عليك من غضب الله. وللمرأة أن تقول: إن كان الرجل صادقا فحدّوني وإن كان كاذبا فخلوني فما بالي والحبس وليس حبسي في كتاب الله ولا سنة رسوله. حجة أبي حنيفة أن النكول ليس بصريح في الإقرار فلا يجوز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا وغيره. الثانية: الجمهور على أنه إذا قال «يا زانية» وجب اللعان لعموم قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ وقال مالك: لا يلاعن إلا أن يقول: رأيتك تزني وينفي حملا بها أو ولدا منها. الثالثة: قال الشافعي: من صح رميه صح لعانه فلا يشترط إلا التكليف، ويجري اللعان بين الذميين والمحدودين والرقيقين. وذهب أبو حنيفة إلى أن الزوج ينبغي أن يكون مسلما حرا عاقلا بالغا غير محدود في القذف، والمرأة ينبغي أن تكون بهذه الصفة مع العفة. فإذا كان الزوج عبدا أو محدودا في قذف والمرأة محصنة حدّ كما في قذف الأجنبيات. دليل الشافعي عموم قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ والإجماع. على أنه يصح لعان الفاسق والأعمى وإن لم يكونا من أهل الشهادة، فكذا القول في غيرهما، والجامع هو الحاجة إلى دفع العار. دليل أبي حنيفة حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي: من النساء من ليس بينهن وبين أزواجهن ملاعنة اليهودية والنصرانية تحت المسلم والحرّة تحت المملوك والمملوكة تحت الحر. وأيضا اللعان بين الزوجات قائم مقام الحد في الأجنبيات فلا يجب اللعان على من لا يجب عليه الحد لو قذفها أجنبي. وأيضا اللعان شهادة لقوله تعالى فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ وقد جاء مثله في أحاديث اللعان. وإذا كان شهادة وجب أن لا يقبل من المحدود في القذف ولا من العبد والكافر. أجاب الشافعي بأن اللعان يمين مؤكدة بلفظ الشهادة أو يمين فيها شائبة الشهادات فلا يشترط في الملاعن إلا أهلية لليمين، ومما يدل على أنه يمين قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية: احلف بالله الذي لا إله إلا هو إنك صادق. وقوله: لولا الإيمان لكان لي ولها شأن. وأيضا لو كان شهادة لكان حظ المرأة ثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل، ولم يجز لعان الفاسق والأعمى لأنهما ليسا من أهل الشهادة. لا يقال: الفاسق والفاسقة قد يتوبان لأنا نقول: العبد أيضا قد يعتق، بل العبد إذا عتق تقبل شهادته في الحال، والفاسق إذا تاب لا تقبل شهادته إلا بعد الاختبار. ثم ألزم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 الشافعي أبا حنيفة بأن شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض مقبولة فينبغي أن يجوز اللعان بين الذمي والذمية. ثم قال الشافعي بعد ذلك: وتختلف الحدود لمن وقعت له، ومعناه أن الزوج إن لم يلاعن ينصف الحد عليه برقه، وإن لاعن ولم تلاعن اختلف حدها بإحصانها وحريتها ورقها. الرابعة: اختلف المجتهدون في نتائج اللعان، فعن عثمان البتي أنه لا يحصل به الفرقة أصلا لأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقا في قذفه وهذا لا يوجب تحريما كما لو قامت البينة عليها. وأيضا إن تلاعنهما في بيتهما لا يوجب الافتراق فكذا عند الحاكم. وأيضا إنه قائم مقام الشهود في الأجنبيات فلا يكون له تأثير إلا في إسقاط الحد. وأيضا إذا أكذب الزوج نفسه ثم حدّ لا يوجب الفرقة فكذا اللعان. وأما تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين في قصة العجلاني فذلك لأن الزوج كان طلقها ثلاثا قبل اللعان. وعن أبي حنيفة وأصحابه إلّا زفر، أن الحاكم يفرق بينهما لما روى سهل بن سعد: مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم يجتمعان أبدا، ولما في قصة عويمر كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثا، فلو وقعت الفرقة باللعان لم يمكن إمساكها. وقال مالك والليث وزفر: إذا فرغا من اللعان وقعت الفرقة بينهما وإن لم يفرق الحاكم، لأنهما لو تراضيا على دوام النكاح لم يخليا فدل ذلك على وقوع الفرقة بينهما. وقال الشافعي: إذا فرغ الزوج وحده من اللعان حصل بذلك خمس نتائج: درء الحد عنه، ونفي الولد، والفرقة، والتحريم المؤبد، ووجوب الحد عليها. ولا تأثير للعان الزوجة إلا في دفع العذاب عن نفسها، وما روي أنه صلى الله عليه وسلم فرق بينهما محمول على أنه أخبر عن وقوع الفرقة بينهما. وزعم أبوبكر الرازي أن قول الشافعي خلاف الآية، لأنه لو وقعت الفرقة بلعان الزوج لاعنت المرأة وهي أجنبية، ولكنه تعالى أوجب اللعان بين الزوجين، وأيضا اللعان شهادة فلا يثبت حكمها إلا عند الحاكم كسائر الشهادات. وأيضا اللعان تستحق به المرأة نفسها كما يستحق المدعي ما ادعاه بالبينة فيتوقف على حكم الحاكم. وأيضا اللعان لا إشعار فيه بالتحريم فهو كما لو قامت البينة على زناها فلا بد من إحداث التفريق إما من قبل الزوج أو من قبل الحاكم. ولقائل أن يقول: سميا زوجين باعتبار ما كان كالعبد على من عتق، ولا نسلم أن اللعان شهادة محضة. ومما يؤكد قول الشافعي تنصيص الله سبحانه على ذلك بقوله وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ ففيه دلالة على أن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج إلا درء العذاب. وأيضا أن لعان الزوج مستقل بنفي الولد لأن الاعتبار في الإلحاق بقوله لا بقولها، ألا ترى أنها في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 لعانها تلحق الولد به ونحن ننفيه عنه، وإذا انتفى الولد عنه بمجرد لعانه وجب أن يكون الفراش زائلا لقوله «الولد للفراش» . الخامسة: مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف والثوري وإسحق، أن المتلاعنين لا يجتمعان أبدا وهو قول علي وابن مسعود. ولما روي الزهري من حديث سهل بن سعد، ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد اللعان لا سبيل لك عليها. ولم يقل حتى تكذب نفسك ولو كان إلا كذاب غاية لهذه الحرمة، وأنه إذا أكذب نفسه وحدّ زال تحريم العقد وحلت له بنكاح جديد لذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 23] وقد يحتج لأبي حنيفة بعموم قوله فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] وقوله وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: 24] . السادسة: اتفق أهل العلم على أن الولد ينتفي من الزوج باللعان. وخالف بعضهم مستدلا بقوله صلى الله عليه وسلم «الولد للفراش» وزيف بأن الأخبار الدالة على أن الولد ينتفي باللعان كالمتواترة فلا يعارضها الواحد بل يجب تخصيصه بها. السابعة: لو أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق بها الحكم عند الشافعي وهو ظاهر وعن أبي حنيفة أن للأكثر حكم الكل إذا حكم به الحاكم. الثامنة: كيفية اللعان كالصريحة في الآية وأن الحديث قد زادها بيانا كما مر. وقد عد الشافعي ومن سننها أن يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة، وتقام المرأة حتى تشهد والرجل قاعد، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء إلى اللعنة ويقول له القاضي أو صاحب المجلس: اتق الله فإنها موجبة. وهكذا يقال للمرأة إذا انتهت إلى الغضب. ومما يستحب في اللعان ولا يجب على الأصح، التغليظ بالزمان. وهو ما بعد صلاة العصر ولا سيما عصر يوم الجمعة، وبالمكان وذلك بمكة بين الركن والمقام، وبالمدينة بين المنبر والمدفن، وفي سائر البلاد عند المنبر في المسجد الجامع أيضا وهو المقصورة، وفي بيت المقدس في المسجد الأقصى عند الصخرة، ولليهود في الكنيسة، وللنصارى في البيعة، وللمجوس في بيت نارهم، وإذا لم يكون له دين ففي مساجدنا إلا في المسجد الحرام. ولا بد من حضور الحاكم سواء كان مدار اللعان على اليمين أو على الشهادة، ولا بد من حضور جمع من الأعيان أقلهم أربعة. التاسعة: قال جار الله: إنما خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله تغليظا عليها لأنها أصل الفجور ومنبعه بخلابتها وإطماعها ولذلك كانت متقدمة في آية الجلد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 العاشرة: في فوائد متعلقة بالآية منها: إبطال الجمهور وقول الخوارج إن الزنا والقذف كفر، وذلك أن الرامي إن صدق فهي زانية وإن كذب فهو قاذف، فلا بد من كفر أحدهما والردة توجب الفرقة من غير لعان. ومنها إبطال قول من زعم أن الزنا يوجب فساد النكاح لأن رمي الزوج إياها اعتراف منه بزناها بل بفساد النكاح على قول هذا القائل فتحصل الفرقة بلا لعان. ومنها أن المعتزلة قالوا: المتلاعنان يستحقان اللعن أو الغضب الموجبين للعقاب الأبدي المضاد للثواب وذلك يدل على خلود الفساق في النار. أجابت الأشاعرة بأن كونه مغضوبا عليه بفسقه لا ينافي كونه مرضيا عنه بجهة إيمانه فلا بد أن يحصل له بعد العقاب ثواب. ثم أخبر عن كمال رأفته بقوله وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي فيما بين من هذه الأحكام وفيما أمهل وأبقى ومكن من التوبة. وجواب «لولا» محذوف أي لهلكتم أو فضحتم أو لكان ما كان من أنواع المفاسد. وإنما حسن حذفه ليذهب الوهم كل مذهب فيكون أبلغ في البيان فرب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به. التأويل: النفس الزانية المستسلمة لتصرفات الشيطان والدنيا فيها، والروح الزاني بتصرفه في الدنيا وشهواتها المنهية عنها فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ من الجوع وترك الشهوات والمرادات، ومن حملهما على المخالفات. ولعل السر في تخصيص هذا العدد هو أن ساعات اليوم بليلته أربع وعشرون منها: أربع ساعات لأجل النوم إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [المزمل: 20] والباقية يجب فيها مراقبة الحواس الخمس وتأديبهن بآداب الشرع والعقل، فيكون المجموع مائة تأديبة يحصل نتائجها وكمالها للنفس والروح والله تعالى أعلم. وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما ولتكن هذه التزكية والتأديبات بمحضر شيخ واصل كامل يحفظه من طرفي الإفراط والتفريط الزَّانِي لا يَنْكِحُ فيه أن الطبع يسرق والجنس إلى الجنس يميل، فأهل الفساد لا ترغب إلا في صحبة أمثالهم من أهل الفساد كما أن أرباب السداد لا تطمح إلا إلى صحبة أمثالهم من أرباب السداد. وَحُرِّمَ ذلِكَ الذي قلنا من اختلاط الأشرار عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أي الأرواح الذين ينسبون إلى نقصان النفوس المستعدات للكمالات ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أي لم يكن خواص العناصر الأربعة ظاهرة على صفحات أحوالهن كما مر تقريره في أول النساء في قوله فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء: 15] ولم تبلغ الملكات الذميمة منهن مرتبتها. الرابعة كالكاتب يكتب بالفعل فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً مر وهم بالخلوة أربعين يوما وأربعين ليلة حتى يظهر لهم كمال حال النفوس في الموافقة لهم ولا تقبلوا لهم بعد ذلك شهادة عليهن، وأولئك هم الذين يريدون أن يخرجوا عن طاعة الله بقدر نسبة النقصان إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 النفوس المستعدة. وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وهن القوالب المزدوجة بالأرواح وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ لأنه لا يطلع على أحوال القالب إلا الروح فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ هي الأسنان الأربعة التي فيها تحصل التربية والاستكمال. وَالْخامِسَةُ وهي حالة حلول الأجل اللعنة والغضب والعذاب الأبدي وما تولد منهما من الصفات الذميمة ينسبها الروح إلى ثالث هو الشيطان، وينسبها القالب إلى الروح الذي يدبره ويتصرف فيه. والافتراق الذي يحصل بينهما ليس بالصورة بل بالمعنى لأن الروح يميل إلى العالم العلوي والقالب إلى العالم السفلي لعدم الموافقة بينهما وهو سبحانه أعلم. [سورة النور (24) : الآيات 11 الى 26] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) القراآت: كبره بضم الكاف: يعقوب. إِذْ سَمِعْتُمُوهُ وبابه مدغما: أبو عمرو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 وعلي وهشام وحمزة غير خلف ورجاء والعجلي إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بالإظهار وتشديد التاء: البزي وابن فليح ولا يتأل من التألي: يزيد ما زَكى بالتشديد والإمالة: روح وقرأ قتيبة ممالة مخففة. يوم يشهد على التذكير: حمزة وعلي وخلف. والباقون بتاء التأنيث. الوقوف: عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ط شَرًّا لَكُمْ ط خَيْرٌ لَكُمْ ط مِنَ الْإِثْمِ ج لنوع عدول من إجمال حكم الكل إلى بيان حكم البعض مع اتفاق الجملتين عَظِيمٌ هـ خَيْراً لا للعطف مُبِينٌ هـ شُهَداءَ ج للشرط معنى مع الفاء الْكاذِبُونَ هـ عَظِيمٌ ج لاحتمال أن يكون «إذ» ظرف قوله لَمَسَّكُمْ أو أَفَضْتُمْ واحتمال كونه منصوبا باذكر وبهذا قد قيل: الوصل ألزم لأن قوله سُبْحانَكَ من جملة مفعول قُلْتُمْ عَظِيمٌ هـ مُؤْمِنِينَ هـ ج لاتفاق الجملتين مع تكرار اسم الله دون الاكتفاء بالضمير وأنها آية الْآياتِ ط حَكِيمٌ هـ أَلِيمٌ هـ لا لتعلق الظرف وَالْآخِرَةِ ط لا تَعْلَمُونَ هـ رَحِيمٌ هـ خُطُواتِ الشَّيْطانِ ط وَالْمُنْكَرِ ط أَبَداً لا لتعلق لكن مَنْ يَشاءُ ط عَلِيمٌ هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ط والوصل أولى للعطف وَلْيَصْفَحُوا ط لَكُمْ ط رَحِيمٌ هـ وَالْآخِرَةِ ص عَظِيمٌ هـ لا لتعلق الظرف يَعْمَلُونَ هـ الْمُبِينُ هـ لِلْخَبِيثاتِ ج للعطف مع التضاد لِلطَّيِّباتِ هـ ج لاتحاد المعنى مع فقدان العاطف يَقُولُونَ ط كَرِيمٌ هـ. التفسير: إنه سبحانه لما ذكر من أحكام القذف ما ذكر أتبعها حديث إفك عائشة الصدّيقة وما قذفها به أهل النفاق. روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص وكلهم رووا عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج اسمها خرج بها معه فأقرع بيننا في غزوة. قال الزهري: هي غزوة المريسيع. وذكره البخاري في غزوة بني المصطلق من خزاعة. قال: وهي غزوة المريسيع أيضا. فخرج اسمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف وقرب من المدينة نزل منزلا ثم أذن بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني وأقبلت إلى رحلي لمست صدري فإذا عقد لي من حزع أظفار قد انقطع، فرجعت والتمست عقدي وحبسني طلبه. وأقبل الرهط الذين كانوا يحملون فحملوا هودجي وهم يحسبون أني فيه لخفتي فإني كنت جارية حديثة السن وذهبوا بالبعير، فلما رجعت إلى مكاني وليس به أحد جلست وقلت: يعودون في طلبي فنمت. وقد كان صفوان بن المعطل يمكث في المعسكر يتتبع أمتعة الناس فيحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب منهم شيء، فلما رآني عرفني وقال: ما خلفك عن الناس؟ فأخبرته الخبر فنزل وتنحى حتى ركبت، ثم قاد البعير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 وافتقدني الناس حين نزلوا وخاض الناس في ذكري. فبيناهم في ذلك هجمت عليهم فتكلم القوم فيّ وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ومكثت شهرا أشتكي ولا يرقأ لي دمع أقول كما يقول العبد الصالح أبو يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف: 18] إلى أن نزل فيّ إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ إلى آخر الآيات. وفي الحديث طول هذا حاصل سبب النزول. وأما التفسير فالإفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء. وقيل: هو البهتان. والعصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين. والتركيب يدل على الاجتماع ومنه العصابة. قال المفسرون: هم عبد الله بن أبي رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح ابن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم. ومعنى مِنْكُمْ أنهم كانوا من جملة من حكم لهم بالإيمان ظاهرا. أما الخطاب في قوله لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ فالصحيح أنه لمن ساءه ذلك من المؤمنين وخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعائشة وصفوان. ومعنى كونه خيرا لهم أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم على قدر عظم البلاء، وأنه نزلت فيه بضع عشرة آية فيها تعظيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية له وتنزيه لأم المؤمنين وتطهير لأهل البيت وتهويل للطاعنين فيهم إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية والآداب العقلية. وقيل: الخطاب لعائشة وحدها والجمع لتعظيمها. وقيل: الخطاب للقاذفين وبيان الخيرية صرفهم عن الاستمرار على حديث الإفك إلى التوبة عن ذلك، ولعل في هذا الذكر عقوبة معجلة لهم فيكون في هذا القول الكفارة. وضعف هذا القول بأنه لا يناسب تسلية الرسول والمؤمنين ولا يطابق قوله لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي يصيب كل خائض في حديث الإفك ما يصيبه من عقاب ما اكتسب من إثم الخوض. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ أي معظم الإفك وهو في قول الضحاك حسان ومسطح ولهذا جلدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع امرأة من قريش، والأشهر أنه عبد الله رأس النفاق. ويحكى أن صفوان مر بهودجها وهو في ملأ من قومه فقال: من هذه؟ فقالوا: عائشة. فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها. ويروى أن عائشة ذكرت حسانا وقالت: أرجو له الجنة. فقيل: أليس هو الذي تولى كبره؟ فقالت: إذا سمعت شعره في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم رجوت له الجنة. وفي رواية أخرى قالت: وأي عذاب أشد من العمى. ثم علم أدبا حسنا في مثل هذه الواقعة فقال لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ فصل بين «لولا» التحضيضية وبين فعلها بالظرف لأنه يتسع في الظرف ما لا يتسع في غيره تنزيلا للظرف منزلة المظروف نفسه، ولأن الممكنات لا تنفك عن الظروف. والفائدة فيه أن يعلم أن ظن الخير كان يجب عليهم أول ما سمعوه بالإفك، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 ومثله وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ [النور: 16] ثم لا يخفى أن أصل المعنى أن يقال: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم هذا إفك. ومعنى بأنفسكم بالذين منكم من المؤمنين والمؤمنات، فعدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، ولينبه لفظ الإيمان على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدّق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا عاتب بل يقول بملء فيه بناء على ظن الخير مصرحا ببراءة ساحته هذا إِفْكٌ مُبِينٌ وذلك أن المؤمن معه من العقل والذين ما يهديه إلى الأصلح ويؤخره عن الأقبح، ولم يوجد هذا الداعي والصارف معارض بتساويهما كما قيل: كلام العدى ضرب من الهذيان. فوجب أن لا يلتفت المؤمن إلى قول الطاعن في حق أخيه ويبقى على حسن ظنه به وهذا أدب حسن قل العامل به، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يزيد فيه. روي أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: أما ترين ما يقال؟ فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله سوءا؟ قال: لا. قلت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعائشة خير مني وصفوان خير منك. وفي الآية دلالة على قول أبي حنيفة أن المسلمين عدول بعضهم على بعض ما لم يظهر منهم ريبة لأنا مأمورون بحسن الظن وذلك يوجب قبول الشهادة. ومن هنا قال أيضا: إذا باع درهما ودينارا بدرهمين ودينارين إنا نخالف بينهما لأنا قد أمرنا بظن الخير فوجب حمله على ما يجوز. ومثله إذا باع سيفا محلى فيه مائة درهم بمائتي درهم نجعل المائة بالمائة والفضل بالسيف. وإذا وجدنا امرأة أجنبية مع رجل فاعترفا بالتزويج تصدقهما حملا لعقود المسلمين وتصرفاتهم على الجواز والصحة. وزعم مالك أنهما يحدان إن لم يقيما بينة على النكاح. وقيل: إن الآية مختصة بعائشة لأن كونها زوجة النبي كالدليل القاطع على أن الذي قيل فيها إفك صريح. قال العلماء: يجوز أن تكون زوجة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط، ولا يجوز أن تكون فاجرة لأن الأنبياء معصومون عن المنفرات البتة فإن حصول المنفر معه ينافي بعثته لكن الكفر غير منفر للكفرة. قال: وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات. قيل: في تفسيره الكشخان الذي تحبب امرأته الرجال إلى نفسها. ويقال: كشخنته أي قلت له يا كشخان. ثم بالغ في زجرهم عن حديث الإفك بقوله لَوْلا جاؤُ وهي أيضا تحضيضية والمراد التفصيل بين الرمي الصادق والكاذب بثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفائها ولكن هذا العدد وكل فرد منه منتف في حق عائشة فهم في حكم الله وشريعته كاذبون. وهذا القدر كاف في إلزام أولئك الطاعنين وإلا فهم في نفس الأمر بالنسبة إلى هذه الواقعة كاذبون كما مر تقريره آنفا. ثم زاد في التهديد والزجر بقوله وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ هي «لولا» الامتناعية. قال جمهور المفسرين: لولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في هذه الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، وأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. وعن مقاتل أن في الآية تقديما وتأخيرا والمعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بالحلم عنكم والحكم عليكم بالتوبة لَمَسَّكُمْ فِيما اندفعتم فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ في الدنيا والآخرة معا. وتلقي الإفك أخذه من أفواه القالة وقوله، والأصل تتلقونه بتاءين وقد قرىء به. كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى طار وانتشر. وفي زيادة قوله بِأَفْواهِكُمْ إشارة إلى أنه قول لا وجود له إلا في العبارة ولا حقيقة لمؤداه في الواقع. والقذف كبيرة من الكبائر كما سبق لا سيما قذف زوجة النبي وخاصة نبينا صلى الله عليه وسلم فلهذا قال وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ عن بعضهم أنه جزع عند الموت فقيل له فقال: أخاف ذنبا لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم. وفي النصائح الكبار لا تقولن لشيء من سيئاتك حقير فلعله عند الله نخلة وهو عندك نقير. وصفهم في الآية بارتكاب ثلاثة آثام: تلقي الإفك والتكلم بما لا حقيقة له ولا علم به واستهانة عظيمة من العظائم، وفيه أن عظم المعصية لا يتعلق بظن فاعله بل جهله بعظمه ربما يصير مؤكدا لعظمه. وفيه أن الواجب على المكلف أن يستعظم الإقدام على كل محرم إذ لا يأمن أن يكون عند الله من الكبائر. ثم علمهم أدبا آخر ومعنى ما يَكُونُ لَنا لا ينبغي ولا يصح لنا. ومعنى سُبْحانَكَ تنزيه الله من أن تكون زوجة نبينا الذي هو أحب خلقه إليه فاجرة، أو تنزيهه من أن يرضى بقذف هؤلاء المقربين ولا يعاقبهم، أو هو للتعجب من عظم الأمر وذلك أنه يسبح الله عند رؤية كل أمر عجيب من صنائعه فكثر حتى استعمل في كل متعجب منه. والفرق بين هذه الآية وبين قوله لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ هو أن تلك تميل إلى العموم وهذه إلى الخصوص فكأنه بين أن هذا القذف خاصة مما ليس لهم أن يتفوهوا به لما فيه من إيذاء نبيه وإيذاء زوجته التي هي حبيبته يَعِظُكُمُ اللَّهُ بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب كراهة أَنْ تَعُودُوا أو في شأن أن تعودوا لِمِثْلِهِ أَبَداً أي مدة حياتكم. ولا دلالة للمعتزلة في قوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ على أن ترك القذف من الإيمان لاحتمال أنه للتهيج والانزجار وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ أي لانتفاعكم الْآياتِ الدالات على علمه وحكمته وما ينبغي أن يتمسك المكلف به في أبواب صلاح معاشه ومعاده وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ هما صفتان مختلفتان عند المعتزلة ثانيتهما أخص من الأولى، وعند الأشاعرة الثانية للتأكيد المحض. والمراد أنه يجب قبول تكاليفه وبياناته لأنه عالم بما أمر وبما يستحقه كل مأمور، وليس في تكليفه عيب ولا عبث. ومن كان هذه صفته وجب طاعته ليثيب ولا يعاقب. استدلت المعتزلة بالآية في أنه يريد الإيمان من الكل وإلا لم يكن واعظا ولا مبينا آياته لانتفاعهم ولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 حكيما لا يفعل القبائح. ولا جواب للأشاعرة إلا أنه يشاء ما يشاء ولا اعتراض عليه. ثم بين بقوله إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أن أهل الإفك يشاركهم في عذاب الدارين من رضي بقولهم، وأنهم كما هم مؤاخذون بما أظهروه فهم معاقبون على ما أضمروه من محبة إشاعة الفاحشة والفحشاء في المؤمنين، لأنها تدل على الدغل والنفاق وعدم سلامة القلب. والفاحشة والفحشاء ما أفرط قبحه، وشيوعها انتشارها وظهورها بحيث يطلع عليها كل أحد وخصوص السبب لا يقتضي خصوص الحكم، فهذا الوعيد شامل لكل من أراد بواحد من المؤمنين أو المؤمنات شيئا من المضار والأذيات. وبعضهم حمل الفاحشة على الزنا وخصص من يحب شيوع الفاحشة بعبد الله بن أبي. وخصص الذين آمنوا بعائشة وصفوان، ولا يخفى ما فيه من ضيق العطن إلا أن يساعده نقل صحيح. وعذاب الدنيا الحد واللعن والذم وما على أهل النفاق من صنوف البلاء، ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي وحسانا ومسطحا، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف وكف بصره. وعذاب الآخرة في القبر وفي القيامة هو النار. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأعرف قوما يضربون صدورهم ضربا يسمعه أهل النار وهم الهمازون اللمازون الذين يلتمسون عورات المسلمين ويهتكون ستورهم ويشيعون عليهم من الفواحش ما ليس فيهم» وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» «1» من الخير وأما قوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ففي نهاية حسن الموقع لأن الأعمال القلبية محبة الشر أو الخير لا يطلع عليها أحد كما هي إلا الله سبحانه. وإنما نعرف نحن شيئا منها بالقرائن والإمارات وفيه زجر عظيم لمن لا يجتهد في أن يكون قلبه سليما من النفاق والغل، وحصول هذا الغل في القلب غير العزم على الذنب فإن الأول ملكة والثاني حال، ولا يلزم من ترتب العقاب على الملكات ترتبه على الأحوال فافهم. قال أبو حنيفة: المغتابة بالفجور لا تستنطق لأن استنطاقها إشاعة للفاحشة وإنها ممنوع عنها. وقالت المعتزلة: في الآية دليل على أنه تعالى غير خالق للكفر ولا مريد وإلا كان ممن يحب أن تشيع الفاحشة. ولقائل أن يقول: قياس الغائب على الشاهد فاسد. ثم كرر المنة بترك المعاجلة بالعقاب والتمكين من التلافي وبالغ فيها بذكر الرؤوف والرحيم. وجواب «لولا» محذوف على نسق ما مر. وقيل: جوابه ما يدل على ذلك في قوله ما زَكى مِنْكُمْ وهو بعيد. عن ابن عباس أن الخطاب لحسان ومسطح وحمنة والأقرب العموم. ثم نهى عن اتباع   (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 71، 72. البخاري في كتاب الإيمان باب 7. الترمذي في كتاب القيامة باب 59. النسائي في كتاب الإيمان باب 19. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 آثار الشيطان وسلوك مسالكه والاقتداء به في الإصغاء إلى الإفك وإشاعة الفحشاء وارتكاب ما تنكره العقول وتأباه. وقوله فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ من وضع السبب مقام المسبب والمراد ضل. قالت الأشاعرة: في قوله ما زَكى بالتشديد والضمير لله وكذا في قوله وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي دلالة على أن الزكاء وهو الطهارة من دنس الآثام لا يحصل إلا بالله، وهو دليل على أنه خالق الأفعال والآثار. وحمله المعتزلة على منح الألطاف أو على الحكم بالطهارة، وضعف بأنه خلاف الظاهر وبأنه يجب انتهاء الكل إليه، وبأن قوله مَنْ يَشاءُ ينافي قولكم إن خلق الألطاف واجب عليه. ثم علم أدبا آخر جميلا بقوله وَلا يَأْتَلِ وهو افتعل من الألية أي لا يحلف على عدم الإحسان، وحرف النفي يحذف من جواب القسم كثيرا فهي كقراءة من قرأ ولا يتأل وقيل: هو من قولهم «ما ألوت جهدا» إذا لم يدخر من الاجتهاد شيئا أي لا يقصر في الإحسان إلى المستحقين. قالوا: نزلت في شأن مسطح وكان ابن خالة أبي بكر الصديق فقيرا من فقراء المهاجرين، وكان أبوبكر ينفق عليه. فلما فرط منه ما فرط آلى أن لا ينفق عليه فنزلت فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر، فلما وصل إلى قوله أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ قال أبو بكر: بلى أحب أن يغفر الله لي فعفا عن مسطح ورجع إلى الإنفاق عليه وقال: والله لا أنزعها أبدا. قال الإمام فخر الدين الرازي: هذه الآية تدل على أفضلية أبي بكر الصديق من وجوه، وذلك أن الفضل المذكور في الآية لا يراد به السعة في المال والإلزام التكرار فهو الفضل في الدين ولكنه مطلق غير مقيد فثبت له الفضل على الإطلاق. تركنا العمل به في حق النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق فيبقى في الغير معمولا به. وأيضا ذكره الله تعالى في الآية بلفظ الجمع وإنه مشعر بالتعظيم. وأيضا قد قيل: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند فهذا الظلم من مسطح كان في غاية العظم وقد أمره الله تعالى بالصفح عنه، وامتثل هو فكان فيه نهاية جهاد النفس فيكون ثوابه على حسب ذلك. وأيضا في تسميته أولى الفضل والسعة شرف تام فكأنه قيل له: أنت أفضل من أن تقابل إنسانا بسوء وأنت أوسع قلبا من أن تقيم للدنيا وزنا فلا يليق بفضلك وسعة قلبك أن يقطع برك عمن أساء إليك. وأيضا أمره الله تعالى بالعفو والصفح وقال لنبيه فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [المائدة: 13] فهو من هذه الجهة ثاني اثنين له في الأخلاق. وأيضا علق المغفرة بالعفو وقد حصل العفو فتحصل المغفرة البتة في الحال وفي الاستقبال لقوله أَنْ يَغْفِرَ فهو للاستقبال فيكون كما قال لنبيه لِيَغْفِرَ لَكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] وفيه دليل على حقية خلافته وإلا كان عاصيا والعاصي في النار. وليس النهي في قوله وَلا يَأْتَلِ نهي زجر عن المعصية ولكنه ندب إلى الأولى والأفضل وهو العفو. عن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل أخلاق المسلمين العفو وعنه صلى الله عليه وسلم «لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه» واعلم أن العلماء أجمعوا على أن مسطحا كان مذنبا لأنه أتى بالقذف أو رضي به على الروايتين عن ابن عباس، ولهذا حده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأجمعوا أيضا على أنه من البدريين وقد ورد فيهم الخبر الصحيح «لعل الله نظر إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «1» فكيف الجمع بين الأمرين؟ أجابوا أنه ليس المراد من قوله «اعملوا ما شئتم» أنهم خارجون عن حد التكليف وإنما المراد اعملوا من النوافل ما شئتم قليلا أو كثيرا فقد أعطيتكم الدرجات العاليات في الجنة، أو أراد حسن حالهم في العاقبة أنهم يوافون بالطاعة فكأنه قال: قد غفرت لكم لعلمي بأنكم تموتون على التوبة والإنابة. قالت الأشاعرة: في وصف مسطح ومدحه بكونه من المهاجرين دليل على أن ثواب كونه مهاجرا لم ينحبط بإقدامه على القذف فيكون القول بالمحابطة باطلا. استدل جمهور الفقهاء بالآية في قول من فسر الائتلاء بالحلف على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة وإنما يجوز إذا جعلت داعية للخير لا صارفة عنه. ثم قالوا: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فينبغي له أن يأتي بالذي هو خير ثم يكفر عن يمينه كما جاء في الحديث ولقوله تعالى وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [المائدة: 89] وهو عام في جانب الخير وفي غيره. ومثله ما ورد في قصة أيوب وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ [ص: 44] ولو كان الحنث كفارة لم يؤمر بضرب الضغث عليها. وقال بعض العلماء: إنه يأتي بالذي هو خير وذلك كفارته لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر «من حلف عليّ يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير وذلك كفارته» «2» ولأنه تعالى أمر أبا بكر في هذه الآية بالحنث ولم يوجب عليه كفارة. وأجيب بأن معنى الكفارة في الحديث تكفير الذنب لا الكفارة الشرعية التي هي إحدى الخصال، وإنما ذهبنا إلى هذا ليكون مطابقا للحديث الآخر «من حلف عليّ يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو   (1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 60 باب 1. أبو داود في كتاب السنة باب 8. الترمذي في كتاب تفسير سورة 60 باب 1. (2) رواه البخاري في كتاب الخمس باب 15. مسلم في كتاب الإيمان حديث 7، 9. النسائي في كتاب الأيمان باب 15، 16. ابن ماجة في كتاب الكفارات باب 7، 8. الدارمي في كتاب النذور باب 9. أحمد في مسنده (2/ 185) (3/ 76) (4/ 256) . [ ..... ] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 خير وليكفر عن يمينه» وأما هذه الآية فإنما لم يذكر فيها الكفارة لأنها معلومة من آية المائدة. قوله إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ قد مر تفسير المحصنة. وأما الغافلات فهن السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر بحسب الغريزة أو لقلة التجارب، وقد يعين على ذلك صغر السن وغير ذلك من الأحوال. قال الأصوليون: خصوص السبب لا يمنع العموم فيدخل في الآية قذفة عائشة وقذفة غيرها، وخصصه بعض المفسرين فمنهم من قال: المراد عائشة وحدها والجمع للتعظيم. ومنهم من قال: عائشة مع سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من قال: هي أم المؤمنين فجمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة المشاكلة لها في الإحصان والغفلة والإيمان. وذكروا في سبب التخصيص أن قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وأما القذف المذكور في هذه الآية فوعيده مطلق من غير استثناء. وأجيب بأنه طوى ذكر التوبة في هذه الآية لكونها معلومة. وقد يحتج للمخصص بما روي عن ابن عباس أنه كان بالبصرة يوم عرفة فسئل عن تفسير هذه الآية فقال: من أذنب ذنبا ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة. ومنهم من قال: نزلت الآية في مشركي مكة حين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، وكانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا: إنما خرجت لتفجر. أما شهادة الجوارح فلا إشكال فيها عند الأشاعرة لأنهم يقولون: البنية ليست شرطا في الحياة فيجوز أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علما وقدرة وكلاما. وقالت المعتزلة: المتكلم هو فاعل الكلام فيكون الكلام المضاف إلى الجوارح هو في الحقيقة من الله تعالى. ويجوز أن يبني الله هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ويلجئها إلى أن تشهد على الإنسان وتخبر عن أعماله. ومعنى دِينَهُمُ الْحَقَّ الجزاء المستحق. وقال في الكشاف: معنى قوله هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ العادل الظاهر العدل. وقال غيره: سمي حقا لأنه تحق عبادته أو لأنه الموجود بالحقيقة وما سواه فوجوده مستعار زائل. والمبين ذو البيان الصحيح أو المظهر للموجودات. فالحاصل أنه واجب الوجود لذاته مفيد الوجود لغيره. ثم ختم الآيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة وهي قوله الْخَبِيثاتُ يعني الكلمات التي تخبث مواردها ويستقذرها من يخاطب بها ويمجها سمعه ككلمات أهل الإفك، ويجوز أن يراد بالخبيثات مضمون الآيات الواردة في وعيد القذفة لأن مضمونها ذم ولعن وهو يستكره طبعا وإن كان نفس الكلمة التي هي من قبل الله سبحانه طيبا. وعلى الوجهين يراد بالخبيثين الرجال والنساء جميعا إلا أنه غلب الرجال. والحاصل أن الخبيثات من القول تقال أو تعد للخبيثين من الرجال والنساء، والخبيثون من الصنفين معرضون للخبيثات من القول وكذلك الطيبات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 والطيبون أُولئِكَ الطيبون مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يقول الخبيثون من خبيثات الكلم. قال جار الله: هو كلام جار مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب، وجوز بقرينة الحال أن يكون أُولئِكَ إشارة إلى أهل البيت عليهم السلام وأنهم مبرؤون مما يقول أهل الإفك. وفي الآية قول آخر وهو أن يراد بالخبيثات النساء الخبائث، وبالخبيثين الرجال الذين هم أشكال لهن فيكون أول الآية نظير قوله الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً وكذلك الكلام في أهل الطيب ولا أطيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون أزواجه مثله فلذلك أخبر عن حالهن بقوله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وقد مر تفسير الرزق الكريم في «الحج» نظيره قوله في الأحزاب وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً [الآية: 31] وفي الآية دلالة على أن عائشة من أهله الجنة. وقال بعض الشيعة: هذا الوعد مشروط باجتناب الكبائر وقد فعلت عائشة من البغي يوم الجمل ما فعلت، والصحيح عند العلماء إنها رجعت عن ذلك الاجتهاد وتابت. عن عائشة: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر النبي أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري، ولقد توفي وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفته الملائكة في بيتي، وإن الوحي لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإني لابنة خليفته وصدّيقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيبة عند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما. وعن بعضهم: برأ الله أربعة بأربعة: برأ يوسف بلسان الشاهد وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها [يوسف: 26] وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها إلى عبد الله، وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المتلو على وجه الدهر مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات، فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة سيد الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين. التأويل: إذا حصل لأهل الله مسألة إلى غيره قيض الله له ما يرده إليه، وأن النبي عليه السلام لما قيل له: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة فساكنها وقال: يا عائشة حبك في قلبي كالعقدة. وقالت عائشة: إني أحبك وأحب قربك فالله تعالى حل عقدة الحب عن قلبه لحديث الإفك ورد قلب عائشة إلى حضرته حتى قالت حين ظهرت براءة ساحتها «بحمد الله لا بحمدك» . وقيل: الملامة مفتاح باب حبس الوجود بها يذوب الوجود ذوبان الثلج بالشمس يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ شهادة الأعضاء في القيامة مؤجلة وبالحقيقة هي في الدنيا معجلة كقوله تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ [البقرة: 273] من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار وقال الشاعر: عيناك قد حكتا مبيتك ... كيف كنت وكيف كانا ولرب عين قد أرتك ... مبيت صاحبها عيانا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 وإذا كانت الإمارة في الدنيا ظاهرة فهي في القيامة أولى فاللسان يشهد بالإقرار بقراءة القرآن، واليد تشهد بأخذ المصحف، والرجل تشهد بالمشي إلى المسجد، والعين تشهد بالبكاء، والأذن تشهد باستماع كلام الله. وعند الحكماء تظهر أنوار الملكات الحميدة على النفس من البدن وبالعكس كما تتعاكس أنوار المرايا المتقابلة، ويعلمون أهل الوصول والوصال أن الله هو الحق المبين لا شيء في الوجود غيره لا في الدنيا ولا في الآخرة، وحينئذ يحق أن يقال: الْخَبِيثاتُ وهن الملوثات بلوث الوجود المجازي لِلْخَبِيثِينَ وهم أمثالهن وَالطَّيِّباتُ من لوث الحدوث لِلطَّيِّبِينَ وهم أشكالهن ولا طيب إلا الله وحده [سورة النور (24) : الآيات 27 الى 34] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) القراآت: وليضربن بكسر اللام على الأصل: عياش جُيُوبِهِنَّ بضم الجيم: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب وخلف وهشام وعاصم غير الأعشى والبزي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 والعواس من طريق الهاشمي. وفي رواية خلف عن حمزة بإشمام الجيم الضم ثم يشير إلى الكسر وبضم الياء. الآخرون: بالكسر الخالص. غير بالنصب على الاستثناء أو الحال: ابن عامر ويزيد وأبوبكر وحماد. الباقون: بالكسر على الوصف أيه المؤمنون بضم الهاء في الحالين: ابن عامر. وقرأ أبو عمرو وعلي وابن كثير بألف في الوقف. الباقون بفتح الهاء بغير ألف في الوقف وبألف في الوصل. الوقوف: أَهْلِها ط تَذَكَّرُونَ هـ يُؤْذَنَ لَكُمْ ج للشرط مع العطف أَزْكى لَكُمْ ط عَلِيمٌ هـ مَتاعٌ لَكُمْ ط تَكْتُمُونَ هـ فُرُوجَهُمْ ط لَهُمْ ط بِما يَصْنَعُونَ هـ جُيُوبِهِنَّ صل عَوْراتِ النِّساءِ ص زِينَتَهُنَّ ط تُفْلِحُونَ هـ وَإِمائِكُمْ ط فَضْلِهِ ط عَلِيمٌ هـ فَضْلِهِ ط خَيْراً ق قد قيل: والوصل أوجه للعطف. آتاكُمْ ط للعدول إلى حكم آخر الدنيا ط رَحِيمٌ هـ لِلْمُتَّقِينَ هـ. التفسير: الحكم الرابع الاستئذان: لما كانت الخلوة طريقا إلى التهمة ولذلك وجد أهل الإفك سبيلا إلى إفكهم شرع أن لا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان. وفي الآية أسئلة: الأول الاستئناس هو الأنس الحاصل بعد المجانسة قال الله تعالى وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ [الأحزاب: 53] ولا يكون ذلك في الأغلب إلا بعد الدخول والسلام، فلم عكس هذا الترتيب في الآية؟ جوابه بعد تسليم أن الواو للترتيب، هو أن الاستئناس طلب الأنس وأنه مقدم على السلام. وقال جار الله: هو من باب الكفاية والإرداف لأن الأنس الذي هو خلاف الوحشة يردف الإذن فوضع موضع الإذن كأنه قيل: حتى يؤذن لكم. أو هو استفعال من آنس إذا أبصر، فالمراد حتى تستكشفوا الحال ويبين هل يراد دخولكم أم لا. أو هو من الإنس بالكسر وهو أن يتعرف هل ثمّ إنسان لأنه لا معنى للسلام ما لم يعلم أفي البيت إنسان أم لا. وعن ابن عباس وسعيد بن جبير: إنما هو «حتى تستأذنوا» فأخطأ الكاتب ولا يخفى ضعف هذه الرواية لأنها توجب الطعن في المتواتر وتفتح باب القدح في القرآن كله نعوذ بالله منه. الثاني: ما الحكمة في شرع الاستئذان؟ الجواب: كيلا يطلع الداخل على عورات، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه، ولئلا يوقف على الأحوال التي تخفيها الناس في العادة، ولأنه تصرف في ملك الغير فلا بد أن يكون برضاه وإلا أشبه الغصب والتغلب ولذلك قال سبحانه ذلِكُمْ يعني الاستئذان والتسليم خير لكم من تحية الجاهلية والدمور أي الدخول من غير إذن. قال صلى الله عليه وسلم «من سبقت عينه استئذانه فقد دمر» واشتقاقه من الدمار وهو الهلاك كأن صاحبه دامر لعظم ما ارتكب لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي أنزل عليكم. أو قيل لكم: هذا إرادة أن تتعظوا أو تعملوا به. الثالث: كيف يكون الاستئذان؟ جوابه: استأذن رجل على رسول الله فقال: ألج. فقال: لامرأة يقال لها روضة: قومي إلى هذا فعلميه فإنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 لا يحسن أن يستأذن قولي له يقول «السلام عليكم أدخل» فسمع الرجل فقالها فقال: ادخل. ويؤيده قراءة عبد الله حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته: حييتم صباحا وحييتم مساء ثم يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد فمنع الله تعالى عن ذلك وعلم الأدب الأحسن. وعن مجاهد حتى تستأنسوا هو التنحنح ونحوه. وقال عكرمة: هو التسبيح والتكبير وقرع الباب بعنف والتصبيح بصاحب الدار منهي عنه وكذا كل ما يؤدي إلى الكراهية وينبىء عن الثقل. الرابع: كم عدد الاستئذان؟ الجواب روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الاستئذان ثلاث بالأولى يستنصتون والثانية يستصلحون والثالثة يأذنون أو يردون» ومثله عن أبي موسى الأشعري وقصته مع عمر مشهورة في ذلك. وعن قتادة الاستئذان ثلاثة: الأول يسمع الحي. الثاني ليتهيأ. والثالث إن شاؤا أذنوا وإن شاؤا ردوا. وينبغي أن يكون بين المرات فاصلة وإلا كان الكل في حكم واحد. الخامس: كيف يقف على الباب؟ جوابه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكنه يقف من ركنه الأيمن أو الأيسر، فإن كان للباب ستر كانت الكراهية أخف. السادس: قوله حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا يدل على أنه يجوز الدخول بعد الاستئذان والتسليم وإن لم يكن ثمة إذن أو من يأذن، لأن «حتى» للغاية والحكم بعد الغاية يكون خلاف ما قبلها جوابه. سلمنا المخالفة لكن لا نسلم المناقضة، وذلك أنه قبل الاستئذان لا يجوز الدخول مطلقا وبعده فيه تفصيل، وهو أنه إن لم يجد فيها أحدا من الآذنين مطلقا أو من يعتبر إذنه شرعا فليس له الدخول وذلك قوله فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً أي على الإطلاق أو ممن له الإذن فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ أي حتى تجدوا من يأذن لكم أو من يعتبر إذنه، وإن وجد فيها من له الإذن فإن أذن دخل وإن لم يأذن وقال ارجع رجع وهو قوله وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى أي الرجوع أطيب لكم وأطهر لما فيه من سلامة الصدر والبعد من الريبة. وفي قوله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ نوع زجر للمكلف فعليه أن يحتاط كيف يدخل ولأي غرض يدخل وكيف يخرج. وهل يقوم غير الإذن مقام الإذن؟ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رسول الرجل إلى الرجل إذنه» وفي رواية أخرى «إذا دعى أحدكم فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن» وقيل: إن من قد جرت العادة له بإباحة الدخول فهو غير محتاج إلى الاستئذان. والجمهور على أن إذن الصبي والعبد والمرأة معتبر وكذلك في الهدايا لأجل الضرورة. وهل يعتبر الاستئذان على المحارم؟ روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أستأذن على أمي؟ قال: نعم. قال: إنها ليس لها خادم غيري أستأذن عليها كلما دخلت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 عليها. قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا. قال: فأستأذن. قال العلماء: إن كان المنع من الهجوم على الغير لأجل أنه لا يراه منكشف الأعضاء فتستثنى منه الزوجة وملك اليمين، وإن كان لأجل أنه لا يراه مشغولا بما يكره الاطلاع عليه فالمنع عام إلا إذا عرض ما يبيح هتك الستر كحريق أو هجوم سارق أو ظهور منكر يجب إنكاره. التاسع: ما حكم من اطلع على دار غيره بغير إذنه؟ الجواب: قال الشافعي: لو فقأ عينه فهي هدر وتمسك بما روى سهل بن سعد أنه اطلع رجل في حجرة من حجر النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي مدرى يحك بها رأسه فقال: لو علمت أنك تنظر إلي لطعنت بها في عينك، إنما الاستئذان من النظر. وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤا عينه فقد هدرت عينه» «1» قال أبو بكر الرازي: هذا الخبر مردود لوروده على خلاف الأصول، فلا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه ضامنا وعليه القصاص إن كان عامدا، ومعلوم أن الداخل قد اطلع وزاد على الاطلاع. فمعنى الحديث لو صح أنه من اطلع في دار قوم ونظر إلى حرمهم ونسائهم ثم منع فلم يمتنع فذهبت عينه في حال الممانعة فهي هدر، وأجيب بالفرق فإنه إذا علم القوم دخوله عليهم احترزوا عنه وتستروا فأما إذا نظر على حين غفلة منهم اطلع على ما لا يراد الاطلاع عليه فلا يبعد في حكمة الشرع أن يبالغ هاهنا في الزجر حسما لمادة هذه المفسدة. جميع هذه الأحكام فيما إذا كانت الدار مسكونة فإن لم تكن مسكونة فذلك قوله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الآية. وللمفسرين فيه أقوال: الأول: قول محمد بن الحنفية أنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرجال والسلع والبيع والشراء. يروى أن أبا بكر قال: يا رسول الله، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلا بإذن فنزلت. وقيل: هي الخربات يتبرز فيها والمتاع التبرز. وقيل: الأسواق. والأولى العموم. وإنما لم يحتج إلى الإذن دفعا للحرج، ولأنها مأذون في دخولها من جهة العرف. ثم ختم الآية بوعيد مثل ما تقدم الحكم الخامس، غض البصر وحفظ الفرج عما لا يحل. وتخصيص المؤمنين بهذا التكليف عند من لا يجعل الكفار مكلفين بفروع الإسلام ظاهر، وأما عند من يجعلهم مكلفين بالفروع أيضا فالتخصيص للتشريف، أو نزل فقدان مقدمة التكليف منزلة فقدان التكليف وإن كان حالهم في الحقيقة كحال المؤمنين في استحقاق العقاب على تركها. قال أكثر النحويين:   (1) رواه مسلم في كتاب الآداب حديث 43- 44. أبو داود في كتاب الآداب باب 127. النسائي في كتاب القسامة باب 48. الدارمي في كتاب الديات باب 23. أحمد في مسنده (2/ 243) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 «من» للتبعيض والمراد غض شيء من البصر لأن غض كله كالمعتذر بخلاف حفظ الفرج فإنه ممكن على الإطلاق. وجوز الأخفش أن تكون «من» مزيدة. وقيل: صلة للغض أي ينقصوا من نظرهم. يقال: غضضت من فلان إذا انقضت من قدره. فالنظر إذا لم يكن من عمله فهو معفو موضوع عنه. وإعراب قوله يَغُضُّوا كما مر في سورة إبراهيم في قوله قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا [الآية: 31] قال الفقهاء: العورات على أربعة أقسام: عورة الرجل مع الرجل، وعورة المرأة مع المرأة، وعورة المرأة مع الرجل، وبالعكس. أما الرجل مع الرجل فيجوز أن ينظر إلى جميع بدنه إلا إلى عورته، وعورته ما بين السرة والركبة، والسرة والركبة ليستا بعورة. وعند أبي حنيفة: الركبة عورة. قال مالك: الفخذ ليست بعورة وهو خلاف ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي: لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي وميت. فإن كان في نظره إلى وجه الرجل أو سائر بدنه شهوة أو خوف فتنة بأن كان أمرد لا يحل النظر إليه. ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل وإن كان واحد منهما في جانب الفراش لرواية أبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد» «1» ويكره المعانقة وتقبيل الوجه. إلا لولده شفقة. وتستحب المصافحة والمرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل فلها النظر إلى جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة، ولا يجوز عند خوف الفتنة، ولا تجوز المضاجعة أيضا لما مر في الحديث. والأصح أن الذمية لا يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة لأنها أجنبية في الدين والله تعالى يقول أَوْ نِسائِهِنَّ أما عورة المرأة مع الرجل فإن كانت أجنبية حرة فجميع بدنها عورة لا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى إخراج الكف للأخذ والإعطاء. ويعني بالكف ظهرها وبطنها إلى الكوعين. وقيل: ظهر الكف عورة. وفي هذا المقام تفصيل: قال العلماء: لا يجوز أن يعمد النظر إلى وجه الأجنبية بغير غرض فإن وقع بصره عليها بغتة غض بصره لقوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ولقوله صلى الله عليه وسلم «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» «2» فإن كان هناك غرض ولا شهوة ولا فتنة فذاك والغرض أمور منها: أن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفها. روى أبو هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا. ومنها إذا أراد شراء جارية فله   (1) رواه مسلم في كتاب الحيض حديث 74. الترمذي في الكتاب الأدب باب 38. (2) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 43. الترمذي في كتاب الأدب باب 28. الدارمي في كتاب الرقاق باب 3. أحمد في مسنده (5/ 351، 353) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها. ومنها أنه عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملا حتى يعرفها عند الحاجة. ومنها أنه ينظر إليها عند تحمل الشهادة ولا ينظر إلى الوجه لأن المعرفة تحصل به. ومنها يجوز للطبيب الأمين أن ينظر إلى بدن الأجنبية للمعالجة كما يجوز للخاتن أن ينظر إلى فرج المختون لأنه محل ضرورة. وكما يجوز أن ينظر إلى فرج الزانيين لتحمل الشهادة، وإلى فرجها لتحمل شهادة الولادة إذا لم تكن نسوة، وإلى ثدي المرضعة لتحمل الشهادة على الرضاع. فإن كان هناك شهوة وفتنة فالنظر محظور قال صلى الله عليه وسلم «العينان تزنيان» «1» وقيل: مكتوب في التوراة: النظر يزرع الشهوة في القلب ورب شهوة أورثت حزنا طويلا. ويستثنى منه ما لو وقعت في حرق أو غرق فله أن ينظر إلى بدنها ليخلصها. وإن كانت الأجنبية أمة فالأصح أن عورتها ما بين السرة والركبة لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يشتري الأمة «لا بأس أن ينظر إليها إلا إلى العورة وعورتها ما بين معقد إزارها إلى ركبتها» وقيل: إلا ما تبدي المهنة فيخرج منه أن رأسها وعنقها وساعديها وساقيها ونحرها وصدرها ليس بعورة، وفي ظهرها وبطنها وما فوق ساعديها الخلاف. وحكم المكاتبة والمدبرة والمستولدة ومن بعضها رقيق حكم الأمة ولا يجوز لمسها ولا لها مسه لأن اللمس أقوى من النظر بدليل أن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطر. وقال أبو حنيفة: يجوز أن يمس من الأمة ما يحل النظر إليه، وأما إن كانت المرأة ذات محرم بنسب أو رضاع أو صهرية فعورتها ما بين السرة والركبة كعورة الرجل. وعند أبي حنيفة: عورتها ما لا يبدو عند المهنة، فإن كانت مستمتعا له كالزوجة والأمة التي يحل له الاستمتاع بها جاز له أن ينظر إلى جميع بدنها غير أنه يكره أن ينظر إلى الفرج، وكذا إلى فرج نفسه لما روي أنه يورث الطمس. وقيل: لا يجوز النظر إلى فرجها، فإن كانت الأمة مجوسية أو مرتدة أو وثنية أو مشتركة بينه وبين غيره أو مزوجة أو مكاتبة فهي كالأجنبية. روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا زوج أحدكم جاريته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة» «2» وأما عورة الرجل مع المرأة فإن كان أجنبيا منها فعورته معها ما بين السرة والركبة. وقيل: جميع بدنه إلا الوجه والكفين كهي معه. والأصح هو الأول لأن بدن المرأة في نفسه عورة بدليل أنه لا يصح صلاتها مكشوفة البدن، وبدن الرجل بخلافه. ولا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة ولا تكرير النظر إلى وجهه لما روي عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 342، 344) . (2) رواه أبو داود في كتاب اللباس باب 34. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 فقال صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه. فقالت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا؟ فقال: أعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ وإن كان محرما لها فعورته معها ما بين السرة والركبة، وإن كان زوجها أو سيدها الذي يحل له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها. ولا يجوز للرجل أن يجلس عاريا في بيت خال وله ما يستر عورته لأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: الله أحق أن يستحي منه. وعنه «إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله» «1» ولما كان النظر بريد الزنا ورائد الفجور أمر بغض الأبصار أولا ثم بحفظ الفروج عن الزنا والفجور ثانيا. وعن أبي العالية أن كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلّا هذا فإنه أراد الاستثناء وأن لا ينظر إلى الفروج أحد، وعلى هذا ففائدة التخصيص بعد التعميم أن يعلم أن أمر الفرج أضيق. وحين خص الخطاب في أول الآية بالمؤمنين ذكر أن ذلك الذي أمر به من غض البصر وحفظ الفرج أزكى لهم لأنهم يتطهرون بذلك من دنس الآثام، ويستحقون الثناء والمدح، وهذا لا يليق بالكافر. وفي قوله إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ولا ثاني له في القرآن إشارة إلى وجوب الحذر في كل حركة وسكون. وتفسير قوله وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ يعلم من التفصيل المتقدم. أما قوله وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ فمن الأحكام التي تختص بالنساء في الأغلب. وقد يحرم على الرجل إبداء زينته للنساء الأجنبيات إذا كان هناك فتنة. قال أكثر المفسرين: الزينة هاهنا أريد بها أمور ثلاثة: أحدها الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة في حاجبيها والحمرة في خديها والحناء في كفيها وقدميها. وثانيها الحلي كالخاتم والسوار والخلخال والدملج والقلائد والإكليل والوشاح والقرط. وثالثها الثياب. وقال: آخرون: الزينة اسم يقع على محاسن الخلق التي خلقها الله تعالى وعلى ما يتزين به الإنسان من فضل لباس أو حلي وغير ذلك. يدل على ذلك أن كثيرا من النساء يتفردن بخلقهن عن سائر ما يعدّ زينة. وفي قوله وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ إشارة إلى ذلك وكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقهن فأوجب سترها بالخمار. قال القفال: بناء على هذا القول معنى قوله إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها إلا ما يظهره الإنسان على العادة الجارية وذلك في النساء الحرائر الوجه والكفان، وفي الإماء كل ما يبدو عند المهنة. وفي صوتها خلاف، الأصح أنه ليس بعورة لأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يروين الأخبار للرجال. وأما الذين   (1) رواه الترمذي في كتاب الأدب باب 42. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 حملوا الزينة على ما عدا الخلقة فذهبوا إلى أنه تعالى إنما حرم النظر إليها حال اتصالها ببدن المرأة لأجل المبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة إلا ما ظهر من هذه الزينة كالثياب مطلقا إذا لم تصف البدن لرقتها، وكالحمرة والوسمة في الوجه، وكالخضاب والخواتيم في اليدين، وما سوى ذلك يحرم النظر إليه. ولهذا قال وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ والخمر جمع الخمار وهي كالمقنعة. قال المفسرون: إن نساء الجاهلية كن يسدلن خمرهن من خلفهن وكانت جيوبهن من قدام واسعة فكان ينكشف نحورهن وقلائدهن، فأمر أن يضربن مقانعهن على الجيوب لتستتر بذلك أعناقهن ونحورهن وما حواليها من شعر وزينة. وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء شبيه الإلصاق. وعن عائشة: ما رأيت نساء خيرا من نساء الأنصار، لما نزلت هذه الآية قامت كل واحدة منهن إلى مرطها فصدعت منه صدعة فاختمرن فأصبحن كأن على رؤوسهن الغربان. ثم بين أن الزينة الخفية يحل إبداؤها لاثنتي عشرة فرقة: الأولى بعولتهن أي أزواجهن والتاء لتأكيد الجمع كصقورة. الثانية: آباؤهن وإن علوا من جهة الأب والأم. الثالثة: آباء بعولتهن وإن علوا. الرابعة: أبناؤهن وإن سفلوا الخامسة: أبناء بعولتهن وإن سفلوا أيضا. السادسة: إخوانهن سواء كانوا من الأب أو من الأم أو منهما. السابعة: بنو إخوانهن. الثامنة: بنو أخواتهن وحكم أولاد الأولاد حكم الأولاد فيهما. وهؤلاء كلهم محارم وترك من المحارم العم والخال، فعن الحسن البصري أنهما كسائر المحارم في جواز النظر. وقد يذكر البعض لينبه على الجملة ولهذا لم يذكر المحارم من الرضاع في هذه الآية، وكذا في سورة الأحزاب قال لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ [الآية: 55] إلى آخر الآية. ولم يذكر البعولة ولا أبناءهم. وقال الشعبي: إنما لم يذكرهما الله تعالى لئلا يصفها العم عند ابنه والخال عند ابنه، وذلك أن العم والخال يفارقان سائر المحارم في أوان أبناءهما ليسوا من المحارم، فإذا رآها الأب فربما وصفها لابنه وليس بمحرم ومعرفة الوصف قريب من النظر، وهذا أيضا من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط في التستر. وإنما أبيح إبداء الزينة الخفية لهؤلاء المذكورين لاحتياجهن إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولا سيما في الأسفار للنزول والركوب. وأيضا لقلة وقوع الفتنة من جهاتهم لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب الأقارب. التاسعة: قوله أَوْ نِسائِهِنَّ فذهب أكثر السلف إلى أن المراد أهل أديانهن ومن هنا قال ابن عباس: ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها. وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات. وقال آخرون: والعمل عليه إن المراد جميع النساء وقول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 السلف محمول على الأولى والأحب. العاشرة: قوله أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وظاهر الآية يشمل العبيد والإماء ويؤيده ما روى أنس أنه صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك، وعن عائشة أنها قالت لذكوان: إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر. وعنها أنها كانت تمشط والعبد ينظر إليها. وقال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب: إن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته وهو قول أبي حنيفة إذ ليس ملكها للعبد كملكه للأمة فلا خلاف أنها لا تستبيح بملك العبد شيئا من التمتع منه كما يملك الرجل من الأمة. وتحريم تزوج العبد لمولاته عارض غير مؤبد كمن عنده أربع نسوة لا يجوز له التزوج بغيرهن، فلما لم تكن هذه الحرمة مؤبدة كان العبد بمنزلة سائر الأجانب خصيا كان العبد أو فحلا. وأورد على هذا القول لزوم التكرار ضرورة أن الإماء من حملة نسائهن. وأجيب بأنه أراد بالنساء الحرائر كما أراد بالرجال الأحرار في قوله شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ [البقرة: 282] الحادية عشرة قوله أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ وهي الحاجة وهم البله. وأهل العنة الذين لا يعرفون شيئا من أمور النساء إنما يتبعون الناس ليصيبوا من فضل طعامهم أو شيوخ صلحاء لا حاجة بهم إلى النساء لعفة أو عنانة. عن زينب بنت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها مخنث فأقبل على أخي أم سلمة وقال: يا عبد الله إن فتح الله لكم الطائف أدلك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان عنى عكن بطنها. فقال صلى الله عليه وسلم: لا يدخلن عليكم هذا. فأباح النبي صلى الله عليه وسلم دخول المخنث عليهن حين ظن أنه من غير أولي الإربة، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء وأوصافهن علم أنه من أولي الإربة فحجبه. الثانية عشر قوله أَوِ الطِّفْلِ وهو جنس يقع على الواحد والجمع وهو المراد هاهنا. قال ابن قتيبة معنى لَمْ يَظْهَرُوا لم يطلعوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ والعورة سوأة الإنسان وكل ما يستحيا منه. وقال الفراء والزجاج: هو من قولهم «ظهر على كذا» إذا قوي عليه أي لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء. فعلى الأول يجب الاحتجاب ممن ظهر فيه داعية الحكاية، وعلى الثاني إنما يجب الاحتجاب من المراهق الذي ظهرت فيه مبادي الشهوة، قال الحسن: هؤلاء الفرق وإن اشتركوا في جواز رؤية الزينة الظاهرة فهم على أقسام ثلاثة: فأولهم الزوج وله حرمة ليست لغيره يحل له كل شيء منها، والثاني الأب والابن والأخ والجد وأبو الزوج وكل محرم من الرضاع أو النسب كل يحل لهم أن ينظروا إلى الشعر والصدر والساقين والذراع وأشباه ذلك. والثالث التابعون غير أولي الإربة، وكذا المملوك لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 بأس أن تقوم المرأة الشابة بين يدي هؤلاء في درع وخمار صفيق بغير ملحفة، ولا يحل لهؤلاء أن يروا منها شعرا ولا بشرا ولا يصح للشابة أن تقوم بين يدي الغريب حتى تلبس الجلباب. فهذا ضبط هذه المراتب ثم علمهن أدبا آخر جميلا بقوله وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ قال ابن عباس: كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال. وقيل: كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى ليعلم أنها ذات خلخالين. وفي النهي عن إظهار صوت الحلي بعد نهيهن عن إظهار الحلي مبالغة فوق مبالغة ليعلم أن كل ما يجر إلى الفتنة يجب الاحتراز عنه، فإن الرجل الذي تغلب عليه الشهوة إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعيا له إلى مشاهدتهن، ومنه يعلم وجوب إخفاء صوتهن إذا لم يؤمن الفتنة ولهذا كرهوا أذان النساء. ثم ختم الآية بالأمر بالدوام على التوبة والاستغفار لأن الإنسان خلق ضعيفا لا يكاد يقدر على رعاية الأوامر والنواهي كما يجب. قال العلماء: إن من أذنب ذنبا ثم تاب عنه لزمه كلما ذكر أن يجدد عنه التوبة لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه إلى أن يلقى ربه عز وجل. وعن ابن عباس: أراد توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة. قال جار الله: من قرأ أيه المؤمنون بضم الهاء فوجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها. الحكم السادس: النكاح وذلك أنه حين أمر بغض الأبصار وحفظ الفروج أرشد بعد ذلك إلى طريق الحل فيما تدعو إليه الشهوة. وأصل الأيامى أيايم فقلب الواحد أيم بتشديد الياء، ويشمل الرجل والمرأة. قال النضر بن شميل: الأيم في كلام العرب كل ذكر لا أنثى معه وكل أنثى لا ذكر معها وهو قول ابن عباس في رواية الضحاك يقول: زوّجوا أياماكم بعضهم من بعض. وقد آم وآمت وتأيما إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين. قال: فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت أفتى منكم أتأيم. وظاهر الأمر الوجوب إلا أن الجمهور حملوه على الندب لأنه لو كان واجبا لشاع في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وانتشر، ولو انتشر لنقل لعموم الحاجة إليه. وقد ورد في الأخبار التصريح بكونه سنة كقوله صلى الله عليه وسلم «النكاح سنتي» «1» وكقوله صلى الله عليه وسلم «من أحب فطرتي فليستسن بسنتي وهي النكاح» وقد أجمعوا على أن الأيم الثيب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه. واتفقوا على أن السيد لا يجبر على تزويج عبده أو أمته. نعم قد يجب في بعض الصور كما إذا التمست التزويج من الولي فعليه الإجابة إذا كان الخاطب كفؤا. استدل الشافعي بعموم الآية على جواز تزويج البكر البالغة   (1) رواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب 1. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 بدون رضاها واعترض أبوبكر الرازي بأن الأيامى شامل للرجال والنساء وحين لزم في الرجال تزويجهم بإذنهم فكذا في النساء ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال «البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها» «1» وأجيب بأن تخصيص النص لا يقدح في كونه حجة في الباقي. والفرق أن الأيم من الرجال يتولى أمر نفسه فلا يجب على الولي تعهده بخلاف المرأة فإن احتياجها إلى من يصلح أمرها أظهر، على أنا لا نسلم أن لفظ الأيامى عند الإطلاق يتناول الرجال، وفي تخصيص الآية بخبر الواحد أيضا نزاع. واستدل أبو حنيفة بعموم الآية أيضا على أن العم والأخ يليان تزويج الثيب الصغيرة ونوقش فيه. قال الشافعي: من تاقت نفسه إلى النكاح استحب له أن ينكح إذا وجد أهبة النكاح وإلا فليكسر شهوته بالصوم لما روى عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فإن الصوم له وجاء» «2» والذي لا تتوق نفسه إلى النكاح لكبر أو مرض أو عجز أو كان غير قادر على النفقة يكره له أن ينكح لأنه يلتزم ما لا يمكنه القيام بحقه، وإن لم يكن به عجز وكان قادرا على القيام بحقه لم يكره له أن ينكح لكن الأفضل أن يتخلى لعبادة الله تعالى. وقال أبو حنيفة: النكاح أفضل. حجة الشافعي أنه تعالى مدح يحيى بقوله وَسَيِّداً وَحَصُوراً [آل عمران: 39] والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم «أفضل أعمالكم الصلاة» «3» وقال «أفضل أعمال أمتي قراءة القرآن» وقال «أحب المباحات إلى الله تعالى النكاح» والمباح ما استوى طرفاه، والمندوب ما ترجح فعله ولو كان النكاح عبادة لم يصح من الكافر. والنكاح فيه شهوة النفس والعبادة فيها مشقة النفس والإقبال على الله تعالى فأين أحدهما من الآخر! ولو كان النكاح مساويا للنوافل في الثواب لم تكن النوافل مشروعة لأن الطريق المؤدي إلى المطلوب مع بقاء اللذة وعدم التعب أولى بالسلوك، وإن كان الاشتغال بالنكاح أولى من النافلة لأنه سبب لبقاء الأشخاص ونظام العالم. فالاشتغال بالزراعة أيضا أولى من النافلة للعلة المذكورة. وقد وقع   (1) رواه البخاري في كتاب الحيل باب 11. أبو داود في كتاب النكاح باب 23- 25. الترمذي في كتاب النكاح باب 18. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 11. الدارمي في كتاب النكاح باب 13. أحمد في مسنده (1/ 219، 261) (2/ 229، 250) . (2) رواه البخاري في كتاب الصوم باب 10. مسلم في كتاب النكاح حديث 1. النسائي في كتاب الصيام باب 43. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 1. الدارمي في كتاب النكاح باب 2. أحمد في مسنده (1/ 57) . (3) رواه ابن ماجة في كتاب الطهارة باب 4. الدارمي في كتاب الوضوء باب 2. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 36. أحمد في مسنده (5/ 277، 280) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 الإجماع على أن واجب العبادة مقدم على واجب النكاح، فكذا مندوبها على مندوبه لاتحاد السبب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة فقد حلت لهم العزبة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال» وعنه صلى الله عليه وسلم «يأتي على الناس زمان لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة» حجة أبي حنيفة أن النكاح يتضمن صون النفس من ضرر الزنا ودفع الضرر أهم من جلب النفع. وأيضا النكاح يتضمن العدل. وقد ورد في الحديث «لعدل ساعة خير من عبادة ستين سنة» وقال صلى الله عليه وسلم «النكاح سنتي» «1» وقال في الصلاة «إنها خير موضوع فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقلل» ثم إن الأيامى جمع مستغرق لكنهم أجمعوا على أنه لا بد من شروط ذكرنا بعضها في سورة النساء في قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: 24] ومعنى مِنْكُمْ أي من حرائركم قاله كثير من المفسرين لأن حكم العبيد والإماء يعقب ذلك. ومنهم من قال: أراد من يكون تحت ولاية المأمور من الولد والقريب. ومنهم من قال: الإضافة لا تفيد الحرية والإسلام. ثم أمر السادة أن يزوجوا أرقاءهم الصالحين. واتفقوا على أنه للإباحة والترغيب لأن في تزويج العبد التزام مؤنة زوجته وتعطل خدمته واستفادة المهر وسقوط النفقة في تزويج الأمة ليس قبوله بلازم على السيد أيضا، وتخصيص الصالحين بالذكر عناية من الله بحالهم ليتحصن دينهم ويتحفظ عليهم صلاحهم. وأيضا الصالحون من الأرقاء هم الذين يشفق عليهم مواليهم ويهتمون بشأنهم حتى ينزلوهم منزلة الأولاد. ويجوز أن يراد بالصلاح القيام بحقوق النكاح، ومن جملة ذلك أن لا يكون في غاية الصغر بحيث لا يحتاج إلى النكاح. وإذن السيد لهم أن يزوجوا أنفسهم ينوب عن تزويج السيد. أما قوله إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ فالأصح أن هذا ليس وعدا من الله تعالى بإغناء من يتزوج حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف، فرب غني يفقره النكاح ولكن المعنى لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم ففي فضل الله ما يغنيهم والمال غاد ورائح. على أن مثل هذا الوعد قد جاء مشروطا بالمشيئة في قوله وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ [التوبة: 28] فالمطلق محمول على المقيد. وقيل: أراد بالغنى نفس العفاف بتملك البضع الذي يغنيه عن الوقوع في الزنا. وعن طائفة من الصحابة أن هذا وعد. وعن أبي بكر قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى. وعن ابن عباس: التمسوا الرزق بالنكاح. وشكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحاجة فقال: عليك بالباءة. وقد يستدل بالآية على أن العبد والأمة يملكان وإلا لم   (1) رواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب 1. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 يتصور فقرهما وغناهما. والمفسرون قالوا: الضمير عائد إلى الأحرار خاصة وهم الأيامى، وإن فسر الغني بالعفاف فلا بد في رجوعه إلى الكل وَاللَّهُ واسِعٌ إفضاله ولكنه عَلِيمٌ يبسط الرزق كما يريد وعلى ما ينبغي. وفيه إشارة إلى قيد المشيئة في الوعد المذكور. ثم ذكر حال العاجزين عن القيام بمؤن النكاح بقوله وَلْيَسْتَعْفِفِ أي ليطلب العفة من نفسه والمضاف محذوف أي لا يجدون استطاعة نكاح ولا يقدرون عليه، أو النكاح يراد به ما ينكح بوساطته وهو المال ولا محذوف. وفي قوله حَتَّى يُغْنِيَهُمُ نوع تأميل للمستعففين. وفيه أن فضله من أهل الصلاح والعفاف قريب. الحكم السابع: المكاتبة: وحين رغب السادة في تزويج الصالحين من العبيد والإماء أرشدهم إلى الطريق الذي به ينخرط العبيد في سلك الأحرار مع عدم الإضرار بالسادة فقال وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ ومحله إما رفع والخبر فَكاتِبُوهُمْ والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وإما نصب بفعل مضمر تفسيره فَكاتِبُوهُمْ والفاء للإيذان بتلازم ما قبلها وما بعدها كقوله وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة، والتركيب يدل على الضم والجمع لما فيه من ضم النجوم بعضها إلى بعض. وقال الأزهري: هو من الكتابة ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت المال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت عليّ العتق، وقيل: سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل واجبا عند الشافعي وندبا عند أبي حنيفة كما يجيء. والأجل يستدعي الكتابة لقوله إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة: 282] قال محي السنة: الكتابة أن تقول لمملوكك كاتبتك على كذا ويسمى ما لا يؤديه في نجمين أو أكثر ويعين عدد النجوم، وما يؤدى في كل نجم ويقول: إذا أديت ذلك المال فأنت حر وينوي ذلك بقلبه. ويقول العبد: قبلت وفي هذا الضبط أبحاث: الأول قال الشافعي: إن لم يقل بلسانه إذا أديت ذلك المال فأنت حر ولم ينور بقلبه ذلك لم يعتق لأن الكتابة ليست عقد معاوضة محضة، فإن ما في يد العبد فهو ملك السيد والإنسان لا يمكنه بيع ملكه بعين ملكه. فقوله «كاتبتك» كناية في العتق فلا بد فيه من لفظ العتق ونيته. وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر: لا حاجة إلى ذلك لإطلاق قوله فَكاتِبُوهُمْ وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع. الثاني: لا تجوز الكتابة عند الشافعي إلا مؤجلة لأن العبد لا يتصور له ملك يؤديه في الحال. وجوز أبو حنيفة الحلول لإطلاق الآية، ولأنه يجوز العتق على مال في الحال بالاتفاق، فالكتابة أيضا مثله. الثالث: قال الشافعي: لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين. روي ذلك عن علي عليه السلام وعمر وعثمان وابن عمر. وذلك أنه عقد إرفاق ومن تمام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 الإرفاق التنجيم. وجوز أبو حنيفة على نجم واحد لإطلاق الآية وللقياس على سائر العقود. الرابع: جوز أبو حنيفة كتابة الصبي قال: ويقبل عنه المولى. وذهب الشافعي إلى أنه يجب أن يكون عاقلا بالغا لأنه تعالى قال وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ والصبي لا يتصور منه الطلب. الخامس: جوز أبو حنيفة أن يكاتب الصبي بإذن الولي وشرط الشافعي كونه مكلفا مطلقا، لأن قوله فَكاتِبُوهُمْ خطاب فلا يتناول إلا العاقل هذا وللمفسرين خلاف في أن قوله فَكاتِبُوهُمْ أمر إيجاب أو استحباب، فقال قائلون ومنهم عمرو بن دينار وعطاء وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى وجوب الكتابة إذا طلبها المملوك بقيمته أو بأكثر وعلم السيد فيه خيرا، ولو كان بدون قيمته لم يلزمه وأكدوه بما روي في سبب النزول أنه كان لحويطب بن عبد العزى مملوك يقال له الصبيح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى فنزلت. ويروى أن عمر أمر إنسانا بأن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين، فأبى فضربه بالدرة ولم ينكر أحد من الصحابة عليه. وذهب أكثر العلماء منهم ابن عباس والحسن والشعبي ومالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري إلى أنه ندب لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب من قلبه» ولأن طلب الكتابة كطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة فلا تجب الإجابة، وهذه طريقة المعاوضات أجمع. قال العلماء: إذا أدى مال الكتابة عتق وكان ولاؤه لمولاه لأنه جاد عليه بالكسب الذي هو في الأصل له، ومن هنا يكسب مولاه الثواب. أما قوله إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قال عطاء: الخير هو المال كقوله إِنْ تَرَكَ خَيْراً [البقرة: 180] قال: بلغني ذلك عن ابن عباس. وضعف بأنه لا يقال في فلان مال وإنما يقال له أو عنده مال، وبأن العبد لا مال له بل المال لسيده، وعن ابن سيرين: أراد إذا صلى. وعن النخعي: وفاء وصدقا. وقال الحسن: صلاحا في الدين. والأقرب أنه شيء يتعلق بالكتابة هكذا فسره الشافعي بالأمانة والقوة على الكسب. ويروى مثله مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أن مقصود الكتابة لا يحصل إلا بالكسب ثم بالأمانة كيلا يضيع ما يكسبه. واختلفوا أيضا في المخاطب بقوله وَآتُوهُمْ فعن الحسن والنخعي وابن عباس في رواية عطاء وهو مذهب أبي حنيفة، أنهم المسلمون والمراد أعطوهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال، ولا بعد في كون المخاطب في أحد المعطوفين غير الآخر ولا في كون أحد الأمرين للاستحباب والآخر للإيجاب. والسهم الذي يأخذه المكاتب له صدقة ولسيده عوض كما قاله صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة «هو لها صدقة ولنا هدية» «1» وعن كثير من الصحابة   (1) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 61، 62. مسلم في كتاب الزكاة حديث 170- 172. أبو داود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 وهو مذهب الشافعي أن المخاطب هو الموالي والأمر أمر إيجاب فيجب عليهم أن يبذلوا للمكاتبين شيئا من أموالهم، أو يحطوا عنهم جزءا من مال الكتابة. ثم اختلفوا في قدره فعن علي عليه السلام أنه كان يحط الربع ومثله ما روى عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن أنه كاتب غلاما له فترك ربع مكاتبته وعن ابن عمر أنه كاتب عبدا له بخمسة وثلاثين ألفا ووضع عنه خمسة آلاف وهو السبع. والأكثرون على أنه غير مقدر ويحصل الامتثال بأقل متمول. عن ابن عباس: يضع له من كتابته شيئا. وعن عمر أنه كاتب عبدا له يكنى أبا أمية وهو أول عبد كوتب في الإسلام، فأتاه بأول نجم فدفعه إليه عمرو وقال: استعن به على مكاتبتك. فقال: لو أخرته إلى آخر نجم، فقال: أخاف أن لا أدرك ذلك، وهذا الحط عند الأولين على وجه الندب فلا يجبر المولى عليه وأكدوه بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم قال «أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلّا عشر أواق فهو عبد» «1» فلو كان الحط واجبا لأسقط عنه بقدره، ومثله المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وأيضا لو كان الحط واجبا فإن كان معلوما لزم عتقه إذا بقي ذلك القدر وليس ذلك بالاتفاق، ولو كان مجهولا لكان ما بقي وهو مال الكتابة مجهولا فلا تصح الكتابة. وأيضا أمر بالإيتاء من مال الله الذي أتاهم ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه يصدر العجز عنه فلا يستحق ذلك المال هذا الوصف فصح أن هذا أمر من الله تعالى بذلك للناس، أولهم وللسادة أن يعينوا المكاتب على كتابته بما يمكنهم. قال صلى الله عليه وسلم «من أعان مكاتبا في فك رقبته أظله الله في ظل عرشه» . الحكم الثامن: المنع من إكراه الإماء على الزنا: كان لعبد الله بن أبيّ رأس النفاق ست جوار: معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة، يكرههن على البغاء- أي الزنا- فشكت ثنتان منهن معاذة ومسيكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحد الإكراه قد مر في سورة النحل في قوله إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: 106] والنص وإن كان مختصا بالإماء إلا أنهم أجمعوا على أن حال الحرائر أيضا كذلك. والسؤال المشهور في الآية هو أن المعلق بكلمة أن على الشيء يفهم منه عدمه عند عدم ذلك الشيء فتدل الآية على جواز الإكراه على الزنا عند عدم إرادة التحصن. والجواب   في كتاب الزكاة باب 30. النسائي في كتاب الزكاة باب 99. ابن ماجة في كتاب الطلاق باب 29. الدارمي في كتاب الطلاق باب 15. الموطأ في كتاب الطلاق حديث 25. أحمد في مسنده (1/ 281، 361) . (1) رواه أبو داود في كتاب العتاق باب 1. ابن ماجة في كتاب العتق باب 3. أحمد في مسنده (2/ 178، 184) . [ ..... ] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 بعد تسليم أن مفهوم الخطاب حجة هو أن الإكراه مع عدم إرادة التحصن والتعفف مما لا يجتمعان، فهذا المفهوم قد خرج عن كونه دليلا لامتناعه في ذاته. وقد يقال: إن غالب الحال أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب كما مر في قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النساء: 101] وقيل: «إن» بمعنى «إذ» لأن سبب النزول وارد على ذلك. قال جار الله: أوثرت كلمة «أن» على «إذ» إيذانا بأن المساعيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من قبيل الشاذ والنادر. وللآية مفهوم آخر وهو أن للسادة إكراههن على النكاح وليس لها أن تمتنع على السيد إذا زوجها. وعَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا كسبهن وأولادهن وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ لهم على الإطلاق أو بشرط التوبة على أصل الأشاعرة والمعتزلة، أو غفور لهن لأن الإكراه قد لا يكون على حد المعتبر في الشرع من التخويف الشديد فتكون آثمة حينئذ. وحين فرغ من الأحكام وصف القرآن بصفات ثلاث: الأولى الآيات المبينات أي الموضحات أو الواضحات في معاني الحدود والأحكام وغيرها ولا سيما الآيات التي ثبتت في هذه السورة. الثانية كونه مثلا من الذين خلوا أي قصة عجيبة من قصصهم فإن العجب في قصة عائشة ليس بأقل من العجب في قصة يوسف ومريم وما اتهما به. وعن الضحاك أنه أراد بالمثل شبه ما ذكر في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود. وعن مقاتل: أراد شبيه ما حل بهم من العقاب إذا عصوا. الثالثة كونه موعظة ينتفع بها المتقون خاصة. التأويل: لا تدخلوا بيوت عالم القرار التي هي غير بيوتكم من دار القرار حتى تتعرفوا أحوالها وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها سلام توديع ومتاركة فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فإن صرتم بحيث فتنتم عن حظوظ الدنيا وشهواتها فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم بالتصرف فيها بالحق للحق وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] فَارْجِعُوا ثم أشار إلى أن التصرف في الدنيا لأجل البلاغ وبحسب الضرورة جائز إذا لم تكن النفس تطمئن إليها فقال لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الآية. ثم أمر بغض بصر النفس عن مشتهيات الدنيا، وبصر القلب عن رؤية الأعمال ونعيم الآخرة، بصر السر عن الدرجات والقربات، وبصر الروح عن الالتفات إلى ما سوى الله، وبصر الهمة عن العلل بأن لا يرى نفسه أهلا لشهود الحق تنزيها له وإجلالا، ولهذا أمر بحفظ فرج الباطن عن تصرفات الكونين فيه. ثم أمر النساء بمثل ما أمر به الرجال تنبيها على أن النساء بالصورة قد يكن رجالا في المعنى. ثم نهى عن إظهار ما زين الله به سرائرهم وأحوالهم إلا ما ظهر على صفحات أحوالهم من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 غير تكلف منهم. ثم أباح لهم إظهار بعض الأسرار إلى شيوخهن أو إخوانهن في الدين والحال، أو المريدين الذين هم تحت تربيتهم وتصرفهم بمنزلة النساء والمماليك ومن لا خبر عندهم من عالم المعنى كالبله والأطفال، ففيه نفثة مصدور من غير ضرب. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. فتوبة المبتدئ من الحرام وتوبة المتوسط من الحلال وتوبة المنتهي مما سوى الله وَأَنْكِحُوا الْأَيامى فيه أمر بطلب شيخ كامل يودع في رحم القلب من صلب الولاية نطفة استعداد قبول الفيض الأعلى وهو الولادة الثانية المستدعية للولوج في ملكوت السماء والأرض، وقد أشار إلى إفاضة هذا الاستعداد بقوله إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَلْيَسْتَعْفِفِ ليحفظ الذين لا يجدون شيخا في الحال أرحام قلوبهم عن تصرفات الدنيا والهوى والشيطان حتى يدلهم الله على شيخ كامل كما دل موسى على الخضر عليه السلام، أو يخصهم بجذبة اللَّهُ يَجْتَبِي [الشورى: 13] وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ فيه أن المريد إذا طلب الخلاص عن قيد الرياضة لزم إجابته إن علم فيه الصلاح ووجب أن يؤتى بعض ما خص الله الشيخ به من المواهب وَلا تُكْرِهُوا فيه أن النفس إذا لم تكن مائلة إلى التصرف في الدنيا وإن كان بالحق لم تكره عليه فإن أصحاب الخلوة غير أرباب الجلوة. [سورة النور (24) : الآيات 35 الى 50] اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 القراآت: نور السماوات على الفعل: يزيد من طريق ابن أبي عبلة وابن مشيا كَمِشْكاةٍ ممالة: أبو عمرو عن الكسائي درئ بكسرتين وبالهمز: أبو عمرو وعلي والمفضل مثله بضم الدال: حمزة وأبوبكر وحماد والخزاز. الباقون بضم الدال وتشديد الياء توقد بضم التاء وفتح القاف: حمزة وعلي وخلف وأبو بكر وحماد مثله ولكن بياء الغيبة على أن الضمير للمصباح: ابن عامر ونافع وحفص وأبو زيد عن المفضل. الباقون وجبلة توقد بالفتحات وتشديد القاف يسبح بفتح الباء: ابن عامر وأبوبكر وحماد: سحاب ظلمات على الإضافة: البزي سَحابٌ بالتنوين ظلمات بالكسر على أنه نصب على الحال: القواس وابن فليح. الباقون بالرفع والتنوين فيهما. ينزل من الإنزال: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب يذهب من الإذهاب يزيد على أن الباء زائدة خالق كل شىء على الإضافة: حمزة وعلي وخلف. الآخرون خَلَقَ على لفظ الماضي كُلَّ منصوبا. الوقوف: وَالْأَرْضِ ط مِصْباحٌ ط زُجاجَةٍ ط غَرْبِيَّةٍ ط لأن ما بعدها صفة شجرة نارٌ ط نُورُ ط يَشاءُ ط لِلنَّاسِ ط عَلِيمٌ هـ لا بناء على أن الظرف يتعلق بما قبله وهو كَمِشْكاةٍ أي مثل مشكاة في بعض بيوت الله عز وجل والأولى تعلقه ب يُسَبِّحُ وفيها تكرار كقولك زيد في الدار جالس فيها أو بمحذوف وهو سبحوا اسمه لا لأن ما بعده صفة بيوت أو لأن الظرف يتعلق ب يُسَبِّحُ وَالْآصالِ ط لمن قرأ يُسَبِّحُ بفتح الباء كأنه قيل: من يسبح؟ فقيل: رِجالٌ أي يسبحه رجال. ومن قرأ بالكسر لم يقف لأنه فاعل الفعل الظاهر رِجالٌ لا لأن ما بعده صفة الزَّكاةِ لا لأن ما بعده أيضا صفة وَالْأَبْصارُ هـ لا لتعلق اللام. أبو حاتم يقف ويجعل اللام لام القسم على تقدير ليجزين قال: فلما سقطت النون انكسرت اللام. مِنْ فَضْلِهِ ط حِسابٍ هـ ماءً ط حِسابَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 ط الْحِسابِ هـ لا للعطف سَحابٌ ط لمن قرأ ظُلُماتٌ بالرفع ولم يجعلها بدلا فَوْقَ بَعْضٍ ط يَراها ط مِنْ نُورٍ هـ صَافَّاتٍ ط وَتَسْبِيحَهُ ط يَفْعَلُونَ هـ وَالْأَرْضِ ج فصلا بين الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين الْمَصِيرُ هـ مِنْ خِلالِهِ ج لما قلنا عَنْ مَنْ يَشاءُ ط بِالْأَبْصارِ هـ ط وَالنَّهارَ ط الْأَبْصارِ ج مِنْ ماءٍ ج للفاء مع التفصيل بَطْنِهِ ج رِجْلَيْنِ ج لمثل ما قلنا أَرْبَعٍ ط ما يَشاءُ ط قَدِيرٌ هـ مُبَيِّناتٍ ط مُسْتَقِيمٍ هـ ذلِكَ ط بِالْمُؤْمِنِينَ هـ مُعْرِضُونَ هـ مُذْعِنِينَ هـ ط وَرَسُولُهُ ط الظَّالِمُونَ هـ. التفسير: أنه سبحانه لما بين من الأحكام ما بين أردفها على عادة القرآن بالإلهيات وقدم لذلك مثلين أحدهما في أن دلائل الإيمان في غاية الظهور، والثاني أن أديان الكفر في نهاية الظلمة. أما الأول فهو قوله اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ واعلم أن النور في اللغة موضوع لهذه الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على ما يحاذيها من الأجرام، لا شك أنه لا يمكن أن يكون إلها لأنه إن كان عرضا فظاهر، وإن كان جسما فكذلك للدليل الدال على أن إله العالم ليس بجسم ولا جسماني ولا زائل ولا منتقل إلى غير ذلك من أمارات الحدوث والافتقار، وعند ذلك ذكر العلماء في تأويل الآية وجوها: الأول وهو قول ابن عباس والأكثرين، أن المضاف محذوف أي هو ذو نور السموات والأرض لأنه قال مَثَلُ نُورِهِ ويَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ والمضاف مغاير للمضاف إليه. فنظير الآية قولك «زيد كرم وجود» للمبالغة. الثاني أن معناه منور السموات كقراءة من قرأ نُورُ بالتشديد وعلى القولين ما المراد بالنور؟ فالأكثرون على أنه الهداية والحق كما قال في آخر الآية يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ شبهه بالنور في ظهوره وبيانه. وأضافه إلى السموات والأرض للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السموات والأرض، أو على حذف المضاف أي نور أهل السموات والأرض وقيل: نور السماء بالملائكة وبالأجرام النيرة والأرض بها وبالأنبياء والعلماء وهو مروي عن أبيّ بن كعب والحسن وأبي العالية. وقيل: هو تدبيره إياهما بحكمة كاملة كما يوصف الرئيس المدبر بأنه نور البلد إذا كان يدبر أمورهم تدبيرا حسنا، فهو لهم كالنور الذي يهتدى به في المضايق والمزالق. وهذا القول اختيار الأصم والزجاج. وقيل: هو نظمه إياهما على النهج الأحسن والوجه الأصلح. وقد يعبر بالنور عن النظام. يقال: ما أرى لهذه الأمور نورا. الثالث: ما ذهب إليه الحكماء الأولون الإشراقيون وإليه ميل الشيخ الإمام حجة الإسلام محمد الغزالي على ما قرره في رسالته المسماة بمشكاة الأنوار: أن الله تعالى نور في الحقيقة بل لا نور، إلا هو بيانه أن للإنسان بصرا يدرك به النور المحسوس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 الواقع من الأجرام النيرة على ظواهر الأجسام الكثيفة، وبصيرة هي القوة العاقلة. ولا شك أن البصيرة أقوى من البصر لأن القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها ولا تدرك آلتها وهي العين، وأما القوة العاقلة فإنها تدرك نفسها وتدرك إدراكها وتدرك آلتها في الإدراك وهي القلب أو الدماغ، والإدراك الحسي غير منتج لأنه لا يصير سببا لإحساس آخر، والإدراك العقلي يصير سببا لإدراكات أخر حتى تجتمع علوم جمة، والحس يضطرب بكثرة ورود المحسوسات عليه حتى إنه لا يسمع الصوت الضعيف مثلا بعد سماع الصوت الشديد، والعقل يزداد بهاؤه ونورانيته بكثرة توارد العلوم وتعاونها، والقوة الحسية تضعف بضعف البدن، والقوة العقلية تقوى بعد الأربعين حتى استدل بذلك على بقائها بعد خراب البدن، والقوة الحسية لا تدرك من القرب القريب ولا من البعد البعيد، والعقلية لا يختلف حالها في القرب والبعد فيدرك ما فوق العرش إلى ما تحت الثرى في لحظة واحدة، بل يدرك ذات الله وصفاته مع أنه منزه عن القرب والبعد والجهة، والحس لا يدرك من الأشياء إلا ظواهرها، والعقل يغوص في حقائق الأشياء وفي أجزائها وجزئياتها وفي ذاتياتها وعرضياتها، فيوحد الكثير تارة بانتزاع صورة كلية من الجزئيات، ويكثر الواحد أخرى بالتجنيس والتنويع والتصنيف وغير ذلك من التقسيمات التي لا تكاد تتناهى. وإدراك العقل قد يكون مقدما على وجود الشيء ويسمى العلم العقلي، وإدراك الحس تابع لوجود الشيء وإذا كان الروح الباصر نورا فالبصيرة التي هي أشرف منها أولى بأن تكون نورا، وكما أن نور المبصر يحتاج في إدراكه إلى معين من الخارج هو الشمس أو السراج مثلا، فنور البصيرة أيضا يحتاج في إدراكه إلى مرشد هو النبي أو القرآن فلذلك سمي القرآن نورا وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا [التغابن: 8] والنبي نورا وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 46] فروح النبي في عالم الأرواح كالشمس في عالم الأجسام. ثم إن الأنوار النبوية القدسية مقتبسة من أنوار أخرى فوقها لقوله عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم: 5] قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ [النحل: 102] فكل الأنوار تنتهي إلى ما لا نور أنور منه ولا أجل وأشرف وهو الله سبحانه. والكلام المجمل في هذا المقام هو الذي قد سلف تحقيقه مرارا وهو أن الكمالات أنوار والملكات الذميمة ظلمات. وأيضا الوجود نور والعدم ظلمة، فإن نظرنا إلى الكمال فكل كمال ينتهي إلى الله سبحانه ولا كمال فوق كماله، فهو نور الأنوار. وإن نظرنا إلى الوجود نفسه فلا ريب أن الممكن وجوده مستفاد من غيره إلى أن ينتهي إلى واجب الوجود لذاته وهو نور الأنوار، فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره، واحتجب عنهم بإشراق نوره، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم «إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 وفي بعض الروايات سبعمائة وفي بعضها سبعون ألفا. قال العلماء: الحجب ثلاثة أقسام: حجب ظلمانية محضة، وحجب ممزوجة من نور وظلمة، وحجب نورانية صرفة، أما المحجوبون بالأول فهم الذين بلغوا في الاشتغال بالعلائق البدنية إلى حيث لا يلتفت خاطرهم إلى الاستدلال بالمصنوعات على الصانع. وأما المحجوبون بالثاني فهم الذين اعتقدوا في الممكنات أنها غنية عن المؤثر، فنفس تصور الاستغناء عن الغير نور لأنه من صفات الله تعالى، ولكن اعتقاد حصوله لمن لا يليق به ظلمة فهذا حجاب ممزوج من نور وظلمة، وأما المحجوبون بالثالث فهم الذين استغرقوا في بحار صفات الله وأفعاله فاحتجبوا بالصفات عن الذات، فعرف من هذا التقرير أن الحجب لا تكاد تتناهى حيث لا نهاية للمكنات ولا انحصار للسلوب والإضافات، ولكن الحديث ورد على ما هو المتعارف في باب التكثير. ولنرجع إلى التفسير قال الفراء: المشكاة الكوة في الجدار غير النافذة وهذا القول أصح عند أئمة اللغة وهي من لغة العرب ومنه المشكاة للزق الصغير. وقيل: هي بلغة الحبشة، وعن ابن عباس وأبي موسى الأشعري أن المشكاة هي القائم الذي في وسط القنديل الذي يدخل فيه الفتيلة وهو قول مجاهد والقرطبي، ومثله قول الزجاج هي قصبة القنديل من الزجاجة التي يوضع فيها الفتيلة. وقال الضحاك: هي الحلقة التي يتعلق بها القنديل والمصباح السراج الضخم الثاقب وأصله من الضوء ومنه الصبح والدريّ فمن قرأ بضم الدال وتشديد الياء منسوب إلى الدر أي أبيض متلألىء، ومن قرأ بالهمز مضموم الدال كمرّيق أو مكسورها كسكيت، فمعناه أنه يدرأ الظلام بضوئه. وقال أبو عبيد: إن ضممت الدال وجب أن لا تهمز لأنه ليس في كلام العرب «فعيل» . ومن همزه من القراء فإنما أراد «فعول» على سبوح فاستثقل فرد بعضه إلى الكسر. والدراري من الكواكب هي المشاهير كالمشتري والزهرة والمريخ وما يضاهيها من الثوابت التي هي في العظم الأول. ومعنى مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ أن ابتداء ثقوبه من شجرة مباركة كثيرة المنافع وهي الزيتون. عن النبي صلى الله عليه وسلم «عليكم بهذه الشجرة زيت الزيتون فتداووا به فإنها مصحة من الباسور» «1» وقيل: سميت مباركة لأنها تنبت في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، أو بارك فيها سبعون نبيا منهم إبراهيم عليه السلام فقوله زَيْتُونَةٍ بدل من شَجَرَةٍ ومعنى لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أن منبتها في أكثر الشام وزيتونها أجود الزيتون والشام قريب من وسط العمارة ليس على   (1) رواه أحمد في مسنده (4/ 369، 372) بلفظ «أن يتداووا ... بالعود الهندي والزيت» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 الطرف الشرقي من الربع المسكون ولا على الطرف الغربي منه، وعن الحسن أراد شجرة الزيتون في الجنة إذ لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية أو غربية. وضعف بأن المثل إنما يضرب بما يشاهد وإنهم ما شاهدوا شجرة الجنة، وقيل: أراد أنها شجرة ملفوفة بالأشجار أو بأوراقها فلا تصيبها الشمس في مشرق ولا مغرب. وزيف بأن الغرض هو صفاء الزيت ولا يحصل إلا بكمال النضج وذلك يتوقف عادة على وصول أثر الشمس إلى الشجرة، وعن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وهو اختيار الفراء والزجاج: المراد أنها ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط، بل تصيبها بالغداة والعشي جميعا لأنها في موضع مكشوف، فيكون فيه دليل على كمال النضج الموجب لصفاء الزيت. ومنهم من قال: لا في مضحى ولا في مقنأة وهي المكان الذي لا تطلع عليه الشمس ولكن الظل والشمس يتعاقبان عليها وذلك أجود لكمال الثمرة، قال صلى الله عليه وسلم «لا خير في شجرة في مقنأة ولا نبات في مقنأة ولا خير في مضحى.» ثم وصف الزيت بالصفاء والبريق وأنه لتلألئه يكاد يضيء من غير نار، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء. فهذا ما يتعلق بحل الألفاظ على ظاهر التفسير، أما ما يتعلق بالمعنى فنقول: إن جمهور المتكلمين ذهبوا إلى أنه تعالى شبه الهداية وهي الآيات البينات في الظهور والجلاء، بالمشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية، وفي الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء. وإنما اختار هذا التشبيه دون أن يقول إنها كالشمس في الظهور والوضوح لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل، وهذا المقصود لا يحصل من ضرب المثل بالشمس لأنها إذا طلعت لم تبق ظلمة أصلا. والأمور التي اعتبرها الله سبحانه في هذا المثال منها كون المصباح في المشكاة وذلك ليكون أجمع للنور وأعون لتكاثف الأشعة وأصون له عن تعرض الرياح. زعم بعضهم أن في الكلام قلبا والمراد كمصباح في مشكاة والصحيح أنه لا حاجة إليه لأن هذا تشبيه مركب، ولهذا قال جار الله: أراد صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة كصفة مشكاة، ومنها كون المصباح في زجاجة صافية، فإن تعاكس الأنوار من جوانب الزجاجة يزيد المصباح نورا. ومنها كون المصباح متقدا بدهن الزيت فليس في الأدهان ما يدانيه في اللمعان والتطويس. ومنها كون الزيت من شجرة بارزة للشمس فإن ذلك يدل على كمال نضج الثمرة ونهاية صفاء ذهنها. وأما الإمام الغزالي رضي الله عنه فإنه يقول: المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت عبارة عن المراتب الخمس الإنسانية. فأولها القوة الحساسة التي هي أصل الروح الحيواني وتوجد للصبي بل لكل حيوان، وأوفق مثال لها من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 عالم الأجسام المشكاة لأن تلك القوى تخرج من عدة ثقب كالعينين والأذنين والمنخرين والفم. وثانيها القوة الخيالية التي تحفظ ما يورده الحواس مخزونا عندها لتعرضه على القوة العقلية التي فوقها عند الحاجة إليه، وأنت لا تجد شيئا في عالم الأجسام يشبه الخيال سوى الزجاجة فإنها في الأصل جوهر كثيف ولكن صفي ورقق حتى صار بحيث لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه، ثم يحفظه عن الانطفاء بالرياح العاصفة. كذلك الخيال من طينة العالم السفلي الكثيف بدليل أن الشيء المتخيل ذو قدر وشكل وحدّ، ولكنه إذا صفي وهذب صار موازيا للمعاني العقلية ومؤديا لأنوارها، ولذلك يستدل المعبر بالصور الخيالية على المعاني كما يستدل بالشمس على الملك، وبالقمر على الوزير، وبمن يختم فروج الناس وأفواههم على أنه مؤذن يؤذن في رمضان قبل الصبح. وثالثها القوة العقلية القوية على إدراك الماهيات الكلية والمعارف اليقينية ولا يخفى وجه تمثيله بالمصباح كما مر في تسمية النبي سراجا. وحين كان الحس كالمقدمة للخيال وهي كالمقدمة للعقل قيل: إن المشكاة كالظرف للزجاجة التي هي كالظرف للمصباح. ورابعها القوة الفكرية القوية على التقسيمات والاستنتاجات فمثالها مثال الشجرة المثمرة، وإذا كانت ثمرتها مادة ازدياد أنوار المعارف فبالحري أن لا تشبه إلا بشجرة الزيتون، لأن لب ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصباح وله من سائر الأدهان خاصية زيادة الإشراق وقلة الدخان. وإذا كانت الماشية تسمى مباركة لكثرة درها ونسلها فالذي لا تتناهي ثمرته إلى حد محدود أولى أن يسمى مباركا. وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة مجردة عن لواحق الأجسام ناسب أن يقال لها لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ وخامسها القوة القدسية النبوية التي يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ. وأما الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا فإنه نزل الأمثلة الخمسة على مراتب إدراكات النفس الإنسانية المشهورة. فالمشكاة هي العقل الهيولاني وهو الاستعداد المحض، والزجاجة هي العقل بالملكة وهي قوة النفس حين حصل لها البديهيات وأمكن لها بواسطتها الترقي إلى النظريات والانتقال إلى الكسبيات. ثم إن كان الانتقال ضعيفا فهي الشجرة وتسمى فكرا وإن كان قويا فهي الزيت ويسمى حدسا، وإن كان في النهاية القصوى سميت قوة قدسية وهي التي يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ ثم إذا حصل لها المعارف والعلوم المكتسبة بالفعل بحيث تقدر على ملاحظتها متى شاءت من غير تجشم كسب جديد فهو المصباح ويسمى عقلا بالفعل، وغايته أن تكون المعقولات حاضرة عندها متمثلة لها كأنها تشاهدها وهي نور على نور ويسمى عقلا مستفادا. أما الأول فلأن الملكة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 نور ومشاهدة تلك الملكة نور آخر، وأما الثاني فلأن ذلك غاية الاستفادة ونهاية التحصيل. وزعم الشيخ أبو علي أن المخرج من العقل الهيولاني إلى الملكة ثم منها إلى العقل التام هو العقل الفعال مدبر ما تحت كرة القمر عند الحكماء، وعبر عنه في الآية بالنار. وعن مقاتل أنه قال مَثَلُ نُورِهِ أي مثل نور الإيمان في قلب محمد كمشكاة فيها مصباح فالمشكاة نظير صلب عبد الله، والزجاجة نظير جسد محمد، والشجرة النبوة والرسالة. وقيل: المشكاة نظير إبراهيم عليه السلام، والزجاجة نظير إسماعيل والمصباح نظير جسد محمد وعن أبي بن كعب أنه قرأ مثل نور من آمن به ورأيت في كتب الشيعة عن علي رضي الله عنه مرفوعا للقمر وجهان يضيء بهما أهل السموات والأرضين وعلى الوجهين مكتوب أتدرون ما كتابته؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: على وجه السموات اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وعلى وجه الأرض محمد وعلي نور الأرضين. وقيل: المشكاة صدر محمد صلى الله عليه وسلم والزجاجة قلبه، والمصباح ما في قلبه من الدين، والشجرة إبراهيم عليه السلام، ويُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ كقوله وفَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [آل عمران: 95] ومعنى لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أن إبراهيم لم يكن يصلي قبل المشرق كالنصارى ولا قبل المغرب كاليهود بل كان يصلي قبل الكعبة وهي ما بين المشرق والمغرب ومعنى يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ أن نور محمد يكاد يتبين للناس قبل أن يتكلم قاله كعب. وقال الضحاك: يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي ومن هنا قال عبد الله بن رواحة: لو لم يكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر وقال يحيى بن سلام: قلب المؤمن نوريّ يعرف الحق قبل أن يتبين لموافقته له وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» وقيل: يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم به ولهذا يزداد نورا على نور. قال أبي بن كعب: المؤمن بين أربع خلال: إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل. فهو في سائر الناس كالرجل الحي الذي يمشي بين أموات يتقلب في خمس من النور: كلامه نور، وعلمه نور ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة. قال الربيع: سألت أبا العالية عن مدخله ومخرجه فقال: سره وعلانيته. قالت الأشاعرة في قوله يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ إشارة إلى أن هذه الدلائل مع وضوحها لا تكفي ولا تنفع ما لم يخلق الله الإيمان فيه، وقالت المعتزلة: أراد يهدي الله لطريق الجنة، أو أراد بقوله مَنْ يَشاءُ الذين بلغهم حد التكليف والهدى محمول على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 زيادات الألطاف التي هي ضد الخذلان ولهذا قال في الكشاف: معناه يوفق. لإصابة الحق من نظر وتدبر معنى الإنصاف، وجانب جانب المراء والاعتساف، ولم يكن كالأعمى الذي يستوي عنده جنح الليل الدامس وضحوة النهار الشامس وأكدوا ذلك بقوله وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ يعني النبي والمكلفين من أمته قالوا: إنما ذكره في معرض الإنعام ولو كان الكل بخلق الله تعالى لما تمكنوا من الانتفاع بالمثل فلا يكون نعمة. ثم زاد التأكيد بقوله وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ففيه تحذير لمن لا يتفكر ولا يعتبر ولا يستدل ولا ينظر. قوله فِي بُيُوتٍ اعترض أبو مسلم على قول من قال إنه يتعلق ب كَمِشْكاةٍ وب توقد لأن كون المشكاة في بعض بيوت الله لا تزيد المصباح إنارة وإضاءة. وأيضا الموصوف واحد فلا يكون إلا في مكان واحد وقوله فِي بُيُوتٍ أمكنة متعددة ولا يصح أن يكون شيء واحد في أمكنة متعددة في حالة واحدة، وكذا لو جعل فِي بُيُوتٍ صفة مِصْباحٌ وزُجاجَةٍ أو كَوْكَبٌ وأجيب بأن هذه صفة موضحة لا مميزة وذلك أن المشكاة تكون غالبا في بيوت العبادة أو المشكاة التي فيها مصباح إذا كانت في مثل هذه البيوت الرفيعة كانت أعظم وأكثر ضخامة فيكون في باب التمثيل أدخل. وعن الثاني أنه أريد بالمشكاة النوع لا الواحد كما لو قيل: «الذي يصلح لخدمتي رجل» يرجع إلى علم وكفاية وقناعة يلتزم بيته فإنه يراد به النوع لا الواحد. وذهب أبو مسلم إلى أنه راجع إلى قوله وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا أي الأنبياء والمؤمنين الذين مضوا وكانوا ملازمين لبيوت العبادة. واعترض عليه بتفكك النظم إذ ذاك وبأن الذين خلوا هم المكذبون. والأكثرون على أن البيوت هي المساجد، والإذن الأمر، والرفع التعظيم أو البناء. وعن عكرمة هي البيوت كلها، ومعنى الرفع البناء وذكر اسم الله عام في كل ذكر. وعن ابن عباس أن يتلي فيها كتابه. وقيل: لا يتكلم فيها بما لا ينبغي. والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به. وقيل: الصلوات الخمس وقيل: صلاتا الصبح والعصر وكانتا واجبتين فقط في أول الإسلام فزيد فيهما. وعن ابن عباس: إن صلاة الضحى لفي كتاب الله وتلا هذه الآية. والأولى العموم. قيل: خص الرجال بالذكر لأنهم من أهل الجماعات دون النساء. ويحتمل أن يقال: لأنهم أصل والنساء تبع. واختلفوا في لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ فقيل: نفي الإلهاء لأنه تجارة ولا بيع كقوله: ولا ترى الضب فيها ينجحر وقيل: أثبت التجارة والبيع وبين أنهم مع ذلك لا يشغلهم شيء عن ذكر الله وهذا قول الأكثرين. وعن الحسن أما والله إن كانوا ليتجرون ولكن إذا جاءت فرائض الله لم يلههم عنها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 شيء. وما الفرق بين التجارة والبيع؟ قيل: الأول عام لأن صناعة التاجر قد يقع فيها البيع وقد يقع فيها الشراء، وخص البيع لأن الربح فيه يقين وفي الشراء مظنون، فالبيع أدخل في الإلهاء. وقيل: أراد بالتجارة الشراء، إطلاقا لاسم الجنس على النوع. وقال الفراء: التجارة لأهل الجلب يقال: تجر فلان في كذا إذا جلبه من غير بلده. وذكر الله دعاؤه والثناء عليه بما هو أهله وقيل: هو الصلاة. ومن هنا قال ابن عباس: أراد بإقام الصلاة إتمامها لمواقيتها، وبإيتاء الزكاة طاعة الله والإخلاص له. والتاء في فَأَقامَهُ عوض من العين الساقطة للإعلال، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت. ثم حكى أن هؤلاء الرجال مع ما ذكر من الطاعة والإخلاص موصوفون بالوجل والخوف من أهوال يوم القيامة. وتقلب القلوب اضطرابها من الهول والفزع، وتقلب الأبصار شخوصها، أو المراد تقلب أحوالهما فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعا عليها، وتدرك الأبصار بعد أن كانت عمياء عن النظر والاعتبار وكأنهم انقلبوا من الشك والغفلة إلى اليقين والمعاينة. وقال الضحاك: إن القلوب تزول عن أماكنها فتبلغ الحناجر والأبصار تصير زرقا. وقال الجبائي: يحتمل أن يراد تقلبها على جمر جهنم أو تغير ماهياتها بسبب ما ينالها من العذاب فتكون مرة بهيئة ما أنضج بالنار، ومرة بهيئة ما أحرق، وقيل: إن القلوب تتقلب في ذلك اليوم من طمع النجاة إلى الخوف من الهلاك، والأبصار تتقلب من أيّ ناحية يؤخذ بهم أم من ناحية اليمين أم من ناحية الشمال ومن أي جهة يعطون كتابهم أمن قبل الأيمان أم من قبل الشمائل. قوله لِيَجْزِيَهُمُ متعلق بما قبله لفظا أو معنى أي يسبحون ويخافون أو يفعلون هذه القربات ليجزيهم الله أحسن جزاء أعمالهم وهو الواحد يعشر إلى سبعمائة وأكثر. وقيل: أراد بالأحسن الحسنات أجمع وهي الطاعات فرضها ونفلها. قال مقاتل: إنما ذكر الأحسن تنبيها على أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفرها لهم وقال القاضي: أراد بذلك أن تكون الطاعات منهم مكفرة لمعاصيهم فيصح أن الله تعالى يجزيهم بأحسن الأعمال. وهذا مبني على مذهبه في الإحباط والموازنة. ومعنى وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ كقوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] وقوله وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ قد مر تفسيره في «البقرة» . وحين بين حال المؤمن أنه يكون في الدنيا في النور بسببه يكون متمسكا بالعمل الصالح وفي الآخرة يفوز بالنعيم المقيم والثواب العظيم، أتبعه بيان أن الكافر يكون في الدنيا في أنواع الظلمات وفي الآخرة في أصناف الحسرات، وضرب لكل من حاليه مثلا، أما المثل الدال على خيبته في الآخرة فذلك قوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ قال الأزهري: هو ما يتراءى للعين وقت الضحى الأكبر في الفلوات شبها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 بالماء الجاري كأنه يسرب على وجه الأرض أي يذهب. وأما الآل فهو ما يتراءى في أول النهار. وظاهر كلام الخليل أنه لم يفرق بينهما. والقيعة بمعنى القاع وهو المستوي من الأرض. وقال الفراء: هي جمع قاع كجيرة في جار. والظمآن الشديد العطش، ووجه التشبيه أن الكافر يأتي ببعض أعمال البر ويعتقد ثوابا عليه فإذا وافى عرصة القيامة ولم يجد الثواب بل وجد العقاب عظمت حسرته وتناهى غمه وحيرته فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى ما يحييه ويبقيه، فإذا شاهد السراب تعلق قلبه به رجاء للحياة، فإذا جاءه ولم يجد شيئا عظم غمه وطال حزنه، قال مجاهد: السراب عمل الكافر وإتيانه إياه موته وفراقه الدنيا. وهاهنا سؤال وهو أنه كيف قال جاءَهُ فأثبت أنه شيء لأن العدم لا يتصور المجيء إليه ثم قال لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً فنفى كونه شيئا؟ والجواب أراد شيئا نافعا كما يقال «فلان ما عمل شيئا» وإن كان قد اجتهد. أو المراد جاء موضع السراب فلم يجد هناك شيئا وأراد أنه تخيل أولا ضبابا وهباء شبه الماء وذلك بإعانة من شعاع الشمس فإذا قرب منه رق وانتثر وصار هواء وهذا قول الحكماء. قوله وَوَجَدَ اللَّهَ أي وجد عقاب الله أو زبانية الله يأخذونه فيصلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق خلاف ما يتصور من الراحة والنعيم، قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام. وأما المثل الآخر فهو قوله أَوْ كَظُلُماتٍ وقد يقال معنى أو أنه شبه أعمالهم الحسنة بالسراب والقبيحة بالظلمات، أو الأول لأعمالهم الظاهرة والثاني لعقائدهم الفاسدة واللجيّ العميق الكثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر، والظلمات ظلمة البحر وظلمة الأمواج وظلمة السحاب. وكذا الكافر له ظلمة الاعتقاد وظلمة القول وظلمة العمل قاله الحسن. وعن ابن عباس قلبه وبصره وسمعه. وقيل: قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم. والظاهر أن الجمع للتكثير، وأن أنواع الضلالات والأباطيل اجتمعت فيه. والضمير في أَخْرَجَ للواقع في الظلمات يدل عليه قرينة الحال. ومعنى لَمْ يَكَدْ يَراها لم يقرب أن يراها، ونفي القرب من الرؤية أبلغ من نفي الرؤية نفسها وقد مر هذا البحث في البقرة في قوله وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71] قالت الأشاعرة في قوله وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً دلالة على أن الهداية بتخليق الله تعالى وبجعله. وحمله المعتزلة على منح الألطاف وقد مر أمثال ذلك مرارا. ولما وصف أنوار المؤمنين وظلمات الكافرين صرح بدلائل التوحيد فقال مستفهما على سبيل التقرير أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ وقد مر مثله في سورة «سبحان» . والخطاب لكل من له أهلية النظر أو للرسول وقد علمه من جهة الاستدلال. ومعنى صَافَّاتٍ أنهن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 يصففن أجنحتهن في الهواء والضمير في علم لكل أو لله عز وجل. وعلى الأول فالضمير في صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ إما لكل أو لله. والمعنى كل مسبح قد علم صلاته التي تليق بحاله أو صلاة الله التي كلفه إياها، وعلى الثاني فالضمير فيهما لكل والصلاة بمعنى الدعاء ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها، والاستقصاء في حكاياتهن مذكور في خواص الحيوانات ولا سيما في كتاب عجائب المخلوقات. ثم بين أن المبدأ منه والمعاد إليه فقال وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ الآية. ثم ذكر دليلا آخر من الآثار العلوية قائلا أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً أي يسوقه بالرياح ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي بين أجزائه أي يجمع قطع السحاب فيجعلها سحابا واحدا متراكما سادا للأفق فَتَرَى الْوَدْقَ المطر أو القطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ من فتوقه ومخارجه جمع خلل كجبال في جبل قوله مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض على أن قوله مِنْ جِبالٍ مفعول يُنَزِّلُ والثالثة للبيان أو الأوليان للبيان والثالثة للتبعيض، ومعناه أنه ينزل بعض البرد من السماء من جبال فيها وقد مر في أول البقرة في قوله أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [البقرة: 19] معنى البرد وأنه بخار يجمد بعد ما استحال قطرات ماء. قال عامة المفسرين: إن في السماء جبالا من برد خلقها الله فيها كما خلق في الأرض جبالا من حجر. وقال أهل المعنى: السماء هاهنا هو الغيم المرتفع على رؤوس الناس، والمراد بالجبال الكثرة كما يقال «فلان يملك جبالا من ذهب» ثم بين بقوله فَيُصِيبُ بِهِ إلى آخر الآية. أنه يقسم رحمته بين خلقه ويقبضها ويبسطها كيف يشاء، أو يهلك بالبرد من يشاء أن يعذبه به ويعصم منه من يشاء أن يعصمه، ويريهم ضياء البرق في السحاب بحيث يكاد يخطف أبصارهم ليعتبروا ويحذروا، أو يعاقب بين الليل والنهار ويخالف بينهما في الطول والقصر وفي كل ذلك معتبر لذوي الأبصار، والذين يترقون من المصنوع إلى الصانع ويستدلون بالمحسوس على الغائب منتقلين من ظلمة التقليد إلى نور البرهان. ثم ذكر دليلا ثالثا من عجائب خلق الحيوان فقال وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ قال علماء المعاني: التنكير في ماءٍ للتنويع أي خلق كل دابة من نوع من الماء مختص بتلك الدابة، أو خلق الكل من ماء مخصوص وهو النطفة. وعلى التقديرين الوحدة نوعية إلا أن شموله على التقدير الثاني أكثر. وإنما عرّف في قوله وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: 30] لأنه قصد هناك معنى آخر وهو أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء. وعن القفال أن قوله مِنْ ماءٍ صفة دَابَّةٍ لا صلة خلق. والمعنى أن كل دابة متولدة من ماء فهي مخلوقة لله تعالى واحترز بها عن الاعتراض الذي ذكرناه في سورة الأنبياء وهو أن بعض الأحياء لم يخلقهم الله من الماء وقيل: نزل الغالب منزلة الكل أو أراد بالدابة من يدب على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 وجه الأرض ومسكنهم هناك وكل منها إما متولد من النطفة وإما بحيث لا يعيش إلا بالماء. ثم بين أن أصلهم وإن كان واحدا إلا أن خلقتهم مختلفة فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وقدم هذا القسم لغرابته ومنهم كذا ومنهم كذا، وفي ضمير العقلاء وإطلاق لفظة من تغليب للعقلاء. وسمى الزحف على البطن مشيا على سبيل المشاكلة أو الاستعارة نظيره قوله «فلان لا يتمشى له أمر» وقد يوجد من الدواب ذوات أرجل أزيد من أربع كالعناكب والعقارب والرتيلاوات بل مثل الحيوان الذي له أربع وأربعون رجلا المسمى «دخال الأذن» . وإنما لم يذكرها سبحانه لأنها نادرة بالنسبة إلى سائرهن. ومن العقلاء من زعم أن أمثال هذه الدواب إنما يعتمد وقت المشي على أربع فقط. وقيل: إن في قوله تعالى يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ تنبيها على سائر الأقسام، ولا ريب أن اختلاف الحيوانات لا يكاد ينحصر، إلا أنا نذكر طرفا من ذلك تذكيرا لعجائب قدرة الله في خلقه فنقول: الاختلاف بين الحيوانات إما في جوهر العضو كالفرس له ذنب دون الإنسان وإن كانت أجزاء الذنب من العظم والعصب واللحم والجلد والشعر حاصلة في غير هذا العضو كالسلحفاة فله صدف يحيط به ليس للإنسان، وكذا السمك فله فلوس والقنفذ له شوك، وإما في كيفية العضو كاختلاف الألوان والأشكال والصلابة واللين، وإما في الوضع كما أن يدي الفيل أقرب إلى الصدر من يدي الفرس، وإما في الانفعال كما أن عين الخطاف لا تتحير في الضوء وعين الخفاش تتحير، وإما في سائر الأحوال وذلك أن من الحيوانات بريا وبحريا أو بريا فقط أو بحريا فقط، ومن البحري ما يعتمد في السباحة على جناحه كالسمك، ومنها ما يعتمد فيها على أرجله كالضفادع، وكل من البري والبحري له أماكن مختلفة من البر والبحر. فمنها ما له مأوى معلوم كالروابي أو الحفر أو الشقوق أو الحجرة في البر أو كالقعر أو الشط أو الصخر أو الطين في البحر، ومنها ما مأواه كيف اتفق إلا أن يلد فيقيم للحضانة. ومن الحيوانات طيارة فمنها ما يسبح في الهواء فقط، ومنها ما يسبح على وجه الماء أيضا، وكل طائر فإنه يمشي على رجلين وقد يصعب عليه المشي كالخطاف الكبير الأسود وكالخفاش، ومنها ما جناحه جلد أو غشاء. وقد يكون عديم الرجل كضرب من الحيات بالحبشة يطير، ومنها ما يختار الاجتماع كالكراكي ومنها ما يؤثر التفرد كالعقاب. وكثير من الجوارح التي تنازع على الطعم، ومنها ما يتعايش زوجا كالقطا والإنسان من الحيوان الذي لا يمكنه أن يعيش وحده، ويضاهيه النحل والنمل إلا أن النمل لا رئيس لها. ومنها آكل لحم، ومنها لاقط حب، ومنها آكل عشب وزهر، ومنه النحل، ومن الحيوان ما هو إنسيّ كالإنسان، وما هو إنسيّ بالمولد كالهرة والغرانيق، أو بالقهر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 كالفهد. ومنه ما لا يأنس كالنمر أو يبطىء استئناسه كالأسد. ومن الحيوان ما لا صوت له ومنه ما له صوت، وكل مصوت فإنه يصير عند الاغتلام وحركة شهوة الجماع أشد تصويتا حتى الإنسان. ومنه ما له شبق يسفد كل وقت كالديك، ومنه عفيف له وقت معين، ومنه ولود ومنه بيوض، وكل ولود أذون، وكل صموخ بيوض سوى الخفاش. ومنه هادىء الطبع قليل الغضب كالبقر، ومنه شديد الجهل حال الغضب كالخنزير البري ومنه حليم حمول كالإبل، ومنه محتال مكار كالثعلب، ومنه غضوب سفيه إلا أنه قلق متردد كالكلب، ومنه شديد الكيس مستأنس كالقرد والفيل، ومنه حسود تياه كالطاوس، ومنه شديد الحفظ كالجمل والحمار لا ينسى الطريق الذي رآه. وفي قوله إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إشارة إلى أن اختصاص كل حيوان بهذه الخواص وبأمثالها لا يكون إلا عن فاعل مختار قدير قهار. وحين فرغ من إثبات هذه الدلائل أراد أن يبين أحوال المكلفين وأن فيهم منافقين فقدم لذلك مقدمة وهي قوله لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وإنما فقد العاطف هاهنا بخلاف قوله وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا [النور: 34] لأن المقصود هناك هو ما سبق من التكاليف والمواعظ، والغرض هاهنا توطئة مقدمة لما يجيء عقيبه من حال أهل النفاق والوفاق. وقوله وَما أُولئِكَ إشارة إلى الفريق المتولي. وإنما قال بِالْمُؤْمِنِينَ معرّفا لأنه أراد أنهم ليسوا بالذين عرفت صحة إيمانهم لثباتهم واستقامتهم. ويحتمل أن يكون أُولئِكَ إشارة إلى جميع القائلين آمنا وأطعنا وحينئذ يكون قوله ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ حكما على بعض دفعا للإلزام والنقض، فإن الحكم الكلي قلما يخلو عن منع ولمثل هذا قال في الآية الثانية إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ والحاصل أنه حكم أولا على بعضهم بالتولي ثم صرح آخرا بأن الإيمان منتف عن جميعهم. ويجوز أن يراد بالفريق المتولي رؤساء النفاق. وقيل: أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين. قال جار الله: معنى إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كقولك «أعجبني زيد وكرمه» . أما سبب نزول الآية. فعن مقاتل أنها في بشر من المنافقين كما سبق في سورة النساء في قوله يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [النساء: 60] وعن الضحاك: نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض فتقاسما فدفع إلى علي منها ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة. فقال المغيرة: بعني أرضك فباعها منه وتقابضا. فقيل للمغيرة: أخذت سبخة لا ينالها الماء. فقال لعلي: اقبض أرضك فأبى ودعا المغيرة إلى محاكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المغيرة: أما محمد فلست آتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف عليّ. قوله يَأْتُوا إِلَيْهِ الجار صلة اتى فإنه قد يعدّى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 بإلى. قال جار الله: والأحسن أن يتصل بمذعنين ليفيد الاختصاص أي لا يتحاكمون إذا عرفوا أن الحق لهم إلا إلى الرسول مسرعين في طاعته. ثم قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين أو مرتابين في أمر نبوته أو خائفين الحيف في قضائه، وهذه الأمور وإن كانت متلازمة إلا أنها متغايرة في الاعتبار فصحت القسمة. ثم بين بقوله بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أنهم لا يخافون حيفه لأنهم عارفون أمانته ولكن الظلم مركوز في جبلتهم وأنهم لا يستطيعون الظلم في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك يأبون المحاكمة إليه إذا كان الحق عليهم. التأويل: للآية تأويلان: أحدهما من عالم الآفاق والآخر من عالم الأنفس. أما الأول فالمشكاة عالم الأجسام، والزجاجة العرش، والمصباح الكرسي، والشجرة شجرة الملكوت وهي باطن عالم الأجسام، وهي غير راقية إلى شرق الأزل والقدم ولا إلى غرب الفناء والعدم، بل هي مخلوقة للأبد لا يعتريها الفناء يَكادُ زَيْتُها وهو عالم الأرواح يُضِيءُ أي يظهر من العدم إلى عالم الصورة المتولدة بالازدواج عالم الغيب والشهادة وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ونور القدرة الالهية وذلك لقرب طبيعتها من الوجود نُورٌ عَلى نُورٍ فالأول نور الصفة الرحمانية والثاني نور العرش فهو كقوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] وفي قوله يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ إشارة إلى أن فيض نور الرحمانية ينقسم على كل من يريد الله تعالى إيجاده من العرش إلى ما تحت الثرى. وأما التأويل الثاني: فالمشكاة الجسد، والزجاجة القلب، والمصباح السر، والشجرة شجرة الروحانية التي خلقت للبقاء كما مر، والزيت الروح الإنساني القابل لنور العرفان قبولا في غاية القرب، والنار نار التجلي والهداية في الأزل فإذا انضم إلى نور العقل صار نورا على نور، وإذا تنور مصباح سر من يشاء بنور القدم تنور زجاجة القلب ومشكاة الجسد، وتخرج أشعتها من روزنة الحواس فتستضيء أرض البشرية كما قال وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [الزمر: 69] وهو مقام «كنت له سمعا وبصرا» الحديث: فِي بُيُوتٍ هي القلوب أَذِنَ اللَّهُ أمر وأراد أَنْ تُرْفَعَ درجاتها من بين سائر الأرواح والنفوس إلى أن تسع الله كما قال «وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن» يروى أنه أوحى إلى داود عليه السلام «فرغ لي بيتا أسكن فيه» فقال: رب أنت منزه عن البيوت. فقال: فرغ لي قلبك. ولن يتأتى هذا الرفع إلا بوساطة ذكر الله فلهذا قال وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ هي الفوز بدرجات الجنات كما قال هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ [الصف: 10] وَلا بَيْعٌ هو بيع الدنيا بالجنة كقوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى إلى قوله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ [التوبة: 111] وفيه أن الرجولية لا تتحقق إلا إذا لم يلتفت إلى الدنيا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 ولا إلى الآخرة فيكون بحيث لا يتصرف فيه ما سوى الله، وحينئذ يصلي صلاة الوصال ويفيض على المستعدين زكاة حصول نصاب الكمال يَخافُونَ يَوْماً هو يوم الفراق تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ والبصائر لأنها بيد الله يقلبها كيف يشاء أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ هو حب الدنيا يَغْشاهُ مَوْجٌ الرياء مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ هو حب الجاه وطلب الرياسة مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ الشرك الخفي إِذا أَخْرَجَ يد سعيه واجتهاده لَمْ يَكَدْ يَراها يرى طريق خلاصة وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً أي لم يصبه رشاش النور الالهي في الأزل يُزْجِي سحب المعاصي المتفرقة إلى أن تتراكم فترى. والودق هو مطر التوبة يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ كما خرج من سحاب وعصى آدم مطر ثم اجتباه ربه. ينزل من سماء القلب مِنْ جِبالٍ من قساوة فِيها مِنْ بَرَدٍ هو برد القهر يُقَلِّبُ اللَّهُ ليل المعصية لمن يشاء إلى نهار الطاعة وبالعكس لأولي الأبصار أصحاب البصائر الذين يشاهدون آثار لطفه وقهره في مرآة التقليب وَاللَّهُ خَلَقَ كل ذي روح مِنْ ماءٍ هو روح محمد صلى الله عليه وسلم كما قال «أول ما خلق الله روحي» فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي أن تكون سيرته تحصيل مشتهيات بطنه وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ أي يضيع عمره في مشتهيات الفرج لأن الحيوان إذا قصد الوقاع يعتمد على رجلين وإن كان من ذوات الأربع وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ هم أصحاب المناصب يركبون الدواب البتة أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ انحراف في الفطرة أَمِ ارْتابُوا بتشكيك أهل البدع والأهواء أَمْ يَخافُونَ الحيف حين أمروا بترك اللذات العاجلة لأجل الخيرات الباقية وَإِلَيْهِ مَآبِ. [سورة النور (24) : الآيات 51 الى 64] إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 القراآت: ويتقه بكسر القاف واختلاس الهاء: يزيد وقالون ويعقوب غير زيد. وأبو عمرو طريق الهاشمي. بكسر القاف وسكون الهاء على أنها للسكت: أبو عمرو غير عباس وخلاد ورجاء ويحيى وحماد وهبيرة من طريق الخراز وابن مجاهد عن ابن ذكوان. بإسكان القاف وكسر الهاء: حفص غير الخراز ووجهه أنه شبه «تقه» بكتف فخفف، وعلى هذا فالهاء ضمير فإن تحريك هاء السكت ضعيف. الباقون ويتقهى بالإشباع فَإِنْ تَوَلَّوْا بإظهار النون وتشديد التاء: البزي وابن فليح كما استخلف مجهولا: أبو بكر وعمار وليبدلنهم خفيفا: ابن كثير وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد لا يحسبن على الغيبة: ابن عامر وحمزة ثلاث عورات بالنصب: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 والمفضل. الآخرون بالرفع لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ بإسكان الضاد وتشديد الشين: شجاع وأبو شعيب وحمله على الإخفاء أولى منه على الإدغام. يرجعون مبنيا للفاعل: عباس ويعقوب. الوقوف: وَأَطَعْنا ط الْمُفْلِحُونَ هـ الْفائِزُونَ هـ لَيَخْرُجُنَ ط لا تُقْسِمُوا ج لحق المحذوف مع اتحاد المقول مَعْرُوفَةٌ ط تَعْمَلُونَ هـ الرَّسُولَ ج للشرط مع الفاء ما حُمِّلْتُمْ ط تَهْتَدُوا ط الْمُبِينُ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ص أَمْناً ط بناء على أن ما بعده مستأنف شَيْئاً ط الْفاسِقُونَ هـ تُرْحَمُونَ ط فِي الْأَرْضِ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول النَّارُ ط الْمَصِيرُ هـ مَرَّاتٍ ط أي متى كذا وكذا الْعِشاءِ قف عند من قرأ ثَلاثُ عَوْراتٍ بالرفع أي هو ثلاث لَكُمْ ط بَعْدَهُنَّ ط أي هو طوافون عَلى بَعْضٍ ص الْآياتِ ط حَكِيمٌ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ط آياتِهِ ط حَكِيمٌ هـ ط بِزِينَةٍ ط لَهُنَّ ط عَلِيمٌ هـ صَدِيقِكُمْ ط أَشْتاتاً ط بناء على أن ما بعده استئناف حكم طَيِّبَةً ط للعدول من المخاطبة إلى الغيبة تَعْقِلُونَ هـ يَسْتَأْذِنُوهُ هـ وَرَسُولِهِ ط للشرط مع الفاء لَهُمُ اللَّهَ ط رَحِيمٌ هـ بَعْضاً ط لو إذا ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب أَلِيمٌ هـ وَالْأَرْضِ ط عَلَيْهِ ط فصلا بين حال وحال مع العدول من المخاطبة إلى الغيبة بِما عَمِلُوا هـ عَلِيمٌ هـ. التفسير: لما حكى سيرة المنافقين وما قالوه وفعلوه، أتبعه ذكر ما كان يجب أن يفعلوه وما يجب أن يسلكه المؤمنون من طريق الأخلاق. وعن الحسن أنه قرأ قول المؤمنين بالرفع والقراءة المشهورة وهي النصب أقوى. قال جار الله: لأن أولى الاسمين بكونه اسما أوغلهما في التعريف وأَنْ يَقُولُوا أوغل لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين. قلت: وذلك لاحتمال كون الإضافة فيه لفظية وأَنْ يَقُولُوا يشبه المضمر كما بينا في الأنعام في قوله ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الآية: 23] فلا سبيل إلى تنكيره. ومعنى كانَ صح واستقام أي لا ينبغي أن يكون قولهم إلا السمع والطاعة. عن ابن عباس وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ في فرائضه وَرَسُولَهُ في سننه وَيَخْشَ اللَّهَ على ما مضى من ذنوبه وَيَتَّقْهِ فيما يستقبل من عمره فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ وهذه آية جامعة لأسباب الفوز وفقنا الله تعالى للعمل بها. ثم حكى عن المنافقين أنهم يريدون أن يؤكدوا أساس الإيمان بالأيمان الكاذبة. قال مقاتل: من حلف بالله فقد اجتهد في اليمين وكانوا يقولون: والله إن أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، فنهوا عن هذه الأقسام لما علم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 من نفاقهم وشقاقهم وإضمارهم الغدر والخديعة وإلا فمن حلف على فعل البر لا يجوز أن ينهى عنه. وقوله طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ مبتدأ محذوف الخبر أي طاعة معلومة لا شك فيها ولا نفاق أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة، أو خبر محذوف المبتدأ أي أمركم الذي يطلب منكم طاعة معروفة لا ارتياب فيها كطاعة الخلص من المؤمنين، أو طاعتكم طاعة معروفة بأنها بالقول دون الفعل. ثم صرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب لمزيد التبكيت والعتاب. ومعنى فَإِنْ تَوَلَّوْا فإن تتولوا فحذف إحدى التاءين. وما حمل الرسول هو أداء الرسالة، وما حمل على الأمة هو الطاعة والانقياد، والبلاغ المبين كون التبليغ مقرونا بالآيات والمعجزات أو كونه واقعا على سبيل المجاهرة لا المداهنة. وهاهنا شبه إضمار والتقدير: بلغ أيها الرسول وأطيعوه أيها المؤمنون فقد وعد الله الذين آمنوا منكم أي جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح. وفي الوعد معنى القسم لأن وعد الله محقق الوقوع ولذلك قال في جوابه لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ أو القسم محذوف أي أقسم ليجعلنكم خلفاء في الأرض كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة. وَلَيُمَكِّنَنَّ لأجلهم الدين المرتضى وهو دين الإسلام. وتمكين الدين تثبيته وإشادة قواعده، كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه فسئموا وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تغبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل في الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديدة، فأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب وورثوا ملك الأكاسرة وخزائنهم، وهذا إخبار بالغيب فيكون معجزا. ومحل يَعْبُدُونَنِي نصب على الحال أي وعدهم ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم أو هو استئناف كأن قائلا قال: ما لهم يستخلفون ويؤمنون؟ فقال: يَعْبُدُونَنِي وعلى الوجهين فقوله لا يُشْرِكُونَ بدل من يَعْبُدُونَنِي أو بيان لها. وفيه دليل على أن المقصود من الكل هو عبادة الله تعالى والإخلاص له. وَمَنْ كَفَرَ بهذه النعم الجسام وهي الاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف بعد حصول ذلك أو بعد ما ذكر فَأُولئِكَ هُمُ الكاملون في الفسق. قال أهل السنة: في الآية دلالة على إمامة الخلفاء الراشدين لأن قوله مِنْكُمْ للتبعيض وذلك البعض يجب أن يكون من الحاضرين في وقت الخطاب، ومعلوم أن الأئمة الأربعة كانوا من أهل الإيمان والعمل الصالح، وكانوا حاضرين وقتئذ وقد حصل لهم الاستخلاف والفتوح، فوجب أن يكونوا مرادين من الآية. واعترض بأن قوله مِنْكُمْ لم لا يجوز أن يكون للبيان، ولم لا يجوز أن يراد بالاستخلاف في الأرض هو إمكان التصرف والتوطن فيها كما في حق بني إسرائيل؟ سلمنا لكن لم لا يجوز أن يراد به خلافة علي عليه السلام؟ والجمع للتعظيم أو يراد هو وأولاده الأحد عشر بعده؟ وقيل: إن في قوله وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ إشارة إلى الخلفاء المتغلبين بعد الراشدين يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم «الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 تصير ملكا عضوضا» وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ معطوف على أَطِيعُوا وليس ببدع أن يقع بين المعطوفين فاصلة وإن طالت، وكررت طاعة الرسول للتأكيد. من قرأ لا يحسبن على الغيبة فمفعولاه مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي لا يحسبن الكفرة أحدا يعجز الله في الأرض حتى يطيعوهم في مثل ذلك، وفاعله ضمير النبي، أو المفعول الأول محذوف لأنه هو الفاعل بعينه أي لا يحسبن الكفار أنفسهم معجزين والمراد بهم الذين أقسموا أو عام قوله وَمَأْواهُمُ قال جار الله: هو معطوف على ما تقدم معنى كأنه قيل: الذين كفروا لا يفوتون الله عز وجل ومأواهم النار. وحين ذكر من دلائل التوحيد وأحوال المكلفين ما ذكر تنشيطا للأذهان وترغيبا فيما هو الغرض الأصلي من التكاليف وهو العرفان، عاد إلى ما انجر منه الكلام وهو الحكم العام في باب الاستئذان فذكره هاهنا على وجه أخصر فقال لِيَسْتَأْذِنْكُمُ قال القاضي: هذا الخطاب للرجال ظاهرا ولكنه من باب التغليب فيدخل فيه النساء. وقال الإمام فخر الدين الرازي: يثبت للنساء بقياس جلي لأنهن في باب حفظ العورة أشد حالا من الرجال. وظاهر قوله الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يشمل البالغين والصغار، فالأمر للبالغين على الحقيقة وللصغار على وجه البيان والتأديب كما يؤمرون بالصلاة لسبع، أو هو تكليف لنا لما فيه من المصلحة لنا ولهم بعد البلوغ كقولك للرجل «ليخفك أهلك وولدك» فظاهره الأمر لهم وحقيقة الأمر له بفعل ما يخافون عنده. وعن ابن عباس أن المراد الصغار وليس للكبار أن ينظروا إلى مالكيهم إلا إلى ما يجوز للحر أن ينظر إليه. ثم إنه هل يشمل الإماء؟ فعن ابن عمر ومجاهد لا، وعن غيرهما نعم، لأن الإنسان كما يكره إطلاع الذكور على أحواله فقد يكره أيضا إطلاع الإناث عليها. عن ابن عباس: آية لا يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن وإني لآمر جارتي أن تستأذن عليّ أراد امرأته، وكان ابن عباس ينام بين جاريتين. ومن العلماء من قال: هذا الأمر للاستحباب. ومنهم من قال للوجوب. ومن هؤلاء من قال: إنه ناسخ لقوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا لأن ذلك يدل على أن الاستئذان واجب في كل حال، وهذا يدل على وجوبه في الأوقات الثلاثة فقط، ومنع لزوم النسخ بأن الأولى في المكلفين وهذه في غير المكلفين قالوا: الذين ملكت أيمانكم يشمل البالغين. قلنا: لو سلم فلا نسخ أيضا لأن قوله غَيْرَ بُيُوتِكُمْ لا يشمل العبيد لأن الإضافة توجب الاختصاص والملكية، والعبد لا يملك شيئا فلا يملك البيت أمر المماليك والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار وهذا معنى قوله مِنْكُمْ أن يستأذنوا ثلاث مرات في اليوم والليلة. إحداها قبل صلاة الفجر لأنه وقت القيام من المضاجع ووقت استبدال ثياب اليقظة بثياب النوم، وثانيتها عند الظهيرة وهو نصف النهار عند اشتداد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 الحر وظهوره فحينئذ يضع الناس ثيابهم غالبا، وثالثها بعد صلاة العشاء يعني الآخرة لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم. ثم بين حكمة الاستئذان في هذه الأوقات فقال ثَلاثُ عَوْراتٍ فمن قرأ ثَلاثَ بالرفع فظاهر كما مر في الوقوف، ومن قرأ بالنصب فقد قال في الكشاف: إنه بدل من ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي أوقات ثلاث عورات قلت: هذا بناء على أن قوله ثَلاثَ مَرَّاتٍ ظرف ويجوز أن يكون ثَلاثَ مَرَّاتٍ مصدرا بمعنى ثلاثة استئذانات، ويكون ثَلاثُ عَوْراتٍ تفسيرا وبيانا للأوقات الثلاثة لأنها منصوبة تقديرا. وأصل العورة الخلل ومنه الأعور المختل العين، وأعور الفارس إذا بدا منه موضع خلل للضرب، وأعور المكان إذا خيف فيه القطع. قال جار الله: إذا رفعت ثَلاثُ عَوْراتٍ فمحل هذه الجملة الرفع على الوصف أي هن ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان، وإذا نصبت لم يكن له محل وكان كلاما مقررا للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة. ثم بين وجع العذر بقوله طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ وهم الذين يكثرون الدخول والخروج والتردد يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المداخلة والمخالطة للاستخدام ونحوه. وارتفع بَعْضُكُمْ بالإبتداء وخبره عَلى بَعْضٍ أو بالفاعلية أي بعضكم طائف، أو يطوف بعضكم على بعض يدل على المحذوف طوّافون. وفي الآية دلالة على وجوب اعتبار العلل في الأحكام ما أمكن. يروى أن مدلج بن عمرو وكان غلاما أنصاريا أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة إلى عمر ليدعوه، فدخل عليه وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر: لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلا بإذن. ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية. ثم بين حكم الأطفال والأحرار بعد البلوغ وهو أن لا يكون لهم الدخول إلا بإذن في جميع الأوقات. ومعنى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الذين بلغوا الحلم من قبلهم وهم الرجال الذين ذكروا من قبلهم في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً الآية. ومتى يحكم ببلوغ الطفل؟ اتفقوا على أنه إذا احتلم كان بالغا وأما إذا لم يحتلم فعند عامة العلماء وعليه الشافعي أنه إذا بلغ خمس عشرة سنة فهو بالغ حكما لما روي أن ابن عمر عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فلم يجزه وكان له أقل من خمس عشرة سنة، وعرض عليه يوم الخندق وكان ابن خمس عشرة سنة فأجازه. وعن بعض السلف ويروى عن علي عليه السلام أيضا أنه كان يعتبر القامة ويقدر بخمسة الأشبار وعليه يحمل قول الفرزدق: ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... فسما وأدرك خمسة الأشبار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 وإنبات العانة غير معتبر إلا في حق الأطفال الكفار وقد مر في أول سورة النساء. وإنما ختم هذه الآية بقوله كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وقبلها وبعدها لَكُمْ آياتِهِ لأنهما يشتملان على علامات يمكن الوقوف عليها وهي في الأولى الأوقات الثلاثة، وفي الآخرة مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ إلى آخرها ومثلهما في قوله يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ [النور: 17] يعني حد الزانيين وحد القاذف. وأما بلوغ الأطفال فلم يذكر لها علامات يمكن الوقوف عليها بل تفرد سبحانه بعلم ذلك فخصها بالإضافة إلى نفسه. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمصالح العباد حَكِيمٌ في أوامره ونواهيه. ثم بين حكم النساء اللواتي خرجن عن محل الفتنة والتهمة فقال والْقَواعِدُ وهي جمع «قاعد» بغير هاء كالحائض والطالق، وقد زعم صاحب الكشاف أنها جمع قاعدة بالهاء وفيه نظر لأنه من أوصاف النساء الخاصة بهن، سميت بذلك لقعودها عن الحيض والولد لكبرها ولذلك أكد بقوله اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً أي لا يطمعن فيه لعدم من يرغب فيهن وليست من القعود بمعنى الجلوس حتى يحتاج إلى الفرق بين المذكر والمؤنث، ولا شبهة أنه لا يحل لهن وضع كل ثيابهن لما فيه من كشف كل عورة فلذلك قال المفسرون: المراد بالثياب هاهنا الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار. وعن ابن عباس أنه قرأ أن يضعن جلابيبهن وعن السدي عن شيوخه يضعن خمرهن عن رؤوسهن، خصهن الله تعالى بذلك لأن التهمة مرتفعة عنهن وقد بلغن هذا المبلغ، فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهن وضع شيء من الثياب الظاهرة. وإنما أبيح وضع الثياب حال كونهن غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي غير مظهرات شيئا من الزين الخفية المذكورة في قوله وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أو غير قاصدات بالوضع التبرج ولكن التخفف إذا احتجن إليه. وحقيقة التبرج تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه من قولهم «سفينة بارج لا غطاء عليها» . والبرج سعة العين يرى بياضها محيطا بسوادها لا يغيب منه شيء. واختص التبرج في الاستعمال بتكشف المرأة للرجال. وحين ذكر الجائز عقبه بالمستحب تنبيها على اختيار الأفضل في كل باب فقال وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وذلك أنهن في الجملة مظنة شهوة وفتنة وإن عرض عارض الكبر والنحول فلكل ساقطة لاقطة. وسئل بعض الظرفاء المذكورين عن حكمة تستر النساء فقال: لأنهن محل فتنة وشهوة فقيل: فعلى هذا كان ينبغي أن لا يحسن تكليف العجائز بالتستر فأجاب بأنه كان يلزم إذ ذاك مصيبتان: أحداهما عدم رؤية الحسان، والثانية لزوم رؤية القباح. ثم ختم السورة بسائر الصور التي يعتبر فيها الإذن فقال لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ نفى الحرج عن الأصناف الثلاثة ذوي العاهات ثم قال وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا فذهب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 ابن زيد إلى أن المراد نفي الحرج عنهم في القعود عن الجهاد، ثم عطف على ذلك أنه لا حرج عليكم أن تأكلوا من البيوت المذكورة. ووجه صحة العطف التقاء الطائفتين في أن كل واحدة منهما منفي عنها الحرج. قال جار الله: مثال هذا أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في رمضان وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر فقلت: ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر. وقال آخرون: كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي الآفات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها، فخالج قلوب الكل ريبة خوفا من أن يكون أكلا بغير حق لقوله تعالى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 188] فقيل: لهم ليس على هؤلاء الضعفاء ولا على أنفسكم يعني عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين حرج في ذلك. قال قتادة: كانت الأنصار في أنفسها قزازة وكانت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا. والقزازة احتراز مع القزة وهي مدح، والكزازة ذم. وروى الزهري عن سعيد بن المسيب وغيره أن المسلمين كانوا يخرجون إلى الغزو ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ويدفعون إليهم المفاتيح ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم، فكانوا يتحرجون كما يحكى عن الحرث بن عمرو أنه خرج غازيا وخلف مالك بن زيد في ماله وبيته، فلما رجع رآه مجهودا فقال: ما أصابك؟ قال: لم يكن عندي شيء ولم يحل لي أن آكل من مالك. فقيل: ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا عنه، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت. قال الأكثرون: كان هؤلاء الضعفاء يتوقون مجالسة الناس ومواكلتهم فيقول الأعمى: إني لا أرى شيئا فربما آخذ الأجود وأترك الرديء، والأعرج يفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه فيضيق على جليسه، والمريض لا يخلو من رائحة أو غيرها من أسباب الكراهة. وأيضا كان المؤمنون يقولون الأعمى لا يبصر الطعام الجيد ولا يأكله، والأعرج لا يتمكن من الجلوس فلا يقدر على الأكل مما ينبغي، والمريض لا يتأتى له أن يأكل كما يأكل الأصحاء فقيل: ليس على هؤلاء ولا عليكم في المؤاكلة حرج. ثم إنه تعالى عدد من مواضع الأكل أحد عشر موضعا: الأول قوله مِنْ بُيُوتِكُمْ وفيه سؤال: وهو أنه أيّ فائدة في إباحة أكل الإنسان طعامه من بيته؟ والجواب أراد من بيوت أزواجكم وعيالكم لأن بيت المرأة بيت الزوج قاله الفراء. وقال ابن قتيبة: أراد بيوت أولادهم ولهذا لم يذكر الأولاد في جملة الأقارب وإن الولد أقرب الأقربين لأنه بعض الرجل وحكمه حكم نفسه، وفي الحديث «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه» «1»   (1) رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 77. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 وباقي البيوت لا إشكال فيها إلى البيت العاشر وهو قوله أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ وفيه وجوه: أحدها قال ابن عباس وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته وملك المفاتيح كونها في يده وحفظه. وثانيها قال الضحاك: يريد الزمنى الذين يخلفون الغزاة. وثالثها قيل: أراد بيوت المماليك لأن مال العبد لمولاه. الحادي عشر قوله أَوْ صَدِيقِكُمْ ومعناه أو بيوت أصدقائكم والصديق يكون واحدا وجمعا كالعدو. وعن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك وقال: هكذا وجدناهم يريد أكابر الصحابة. وعن جعفر الصادق بن محمد عليه السلام: من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الإنس والثقة والانبساط بمنزلة النفس والأب والأخ والابن. قال العلماء: إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح، وربما سمج الاستئذان وثقل كمن قدم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل منه. احتج أبو يوسف بالآية على أنه لا قطع على من سرق من ذي رحم محرم وذلك أنه تعالى أباح الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذن فلا يكون ماله محرزا منهم، وأورد عليه أن لا يقطع إذا سرق من صديقه. فأجاب بأن السارق لا يكون صديقا للمسروق منه. واعلم أن ظاهر الآية دل على أن إباحة الأكل من هذه المواضع لا تتوقف على الاستئذان. فعن قتادة أن الأكل مباح ولكن لا يجمل. وجمهور العلماء أنكروا ذلك فقيل: كان ذلك مباحا في صدر الإسلام ثم نسخ ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» ومما يدل على هذا النسخ قوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: 53] وقال أبو مسلم: هذا في الأقارب الكفرة. وفي هذه الآية إباحة ما حظر وفي قوله لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] وقيل: إن هؤلاء القوم كانت تطيب أنفسهم بأكل من يدخل عليهم والعادة كالإذن في ذلك فلا جرم خصهم الله بالذكر لأن هذه العادة في الأغلب توجد فيهم ولذلك ضم إليهم الصديق. وإذا علمنا أن الإباحة إنما حصلت في هذه الصورة لأجل حصول الرضا، فلا حاجة إلى القول بالنسخ. وحين نفى الحرج عنهم في نفس الأكل أراد أن ينفي الحرج عنهم في كيفية الأكل فقال لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا وانتصب قوله جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً على الحال أي مجتمعين أو متفرقين. والأشتات جمع شت وهو نعت وقيل مصدر وصف به. ثم أجمع أكثر المفسرين ومنهم ابن عباس على أنها نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة كانوا يتحرّجون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 عن الانفراد في الطعام، فربما قعد الرجل منتظرا نهاره إلى الليل فإن لم يجد من يؤاكله أكل. وقال عكرمة وأبو صالح: نزلت في قوم من الأنصار لا يأكلون إلا مع ضيفهم. وقال الكلبي: كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاما عزلوا للأعمى طعاما على حدة، وكذلك الزمن والمريض فبين الله لهم أن ذلك غير واجب. وقال آخرون: كانوا يأكلون فرادى خوفا من أن يحصل عند الجمعية ما ينفر أو يؤذى فرفع الله الحرج. ثم علمهم أدبا جميلا قائلا فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً أي من البيوت المذكورة لتأكلوا فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ابدءوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة وانتصب تَحِيَّةً ب فَسَلِّمُوا نحو «قعدت جلوسا» . ومعنى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أنها ثابتة من عنده مشروعة من لدنه، أو أراد أن التحية طلب حياة للمخاطب من عند الله وكذا التسليم طلب السلامة له من عنده. ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق وتضعيف الثواب. عن أنس قال: كنت واقفا على رأس النبي صلى الله عليه وسلم أصب الماء على يديه فرفع رأسه فقال: ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها؟ قلت: بلى بأبي وأمي يا رسول الله. قال: متى لقيت من أمتي أحدا فسلم عليه يطل عمرك، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصلّ صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوّابين. قال العلماء: إن لم يكن في البيت أحد فليقل «السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» ومن صور الإذن قوله سبحانه إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الآية. والمقصود أن يبين عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ وهو الذي يجمع له الناس. فلما كان الأمر سبب الجمع وصف به مجازا. قال مجاهد: هو أمر الحرب ونحوه من الأمور التي يعم ضررها ونفعها. وقال الضحاك: هو الجمعة والأعياد وكل شيء تكون فيه الخطبة. وذلك أنه لا بد في الخطوب الجليلة من ذوي رأي وقوة يستعان بهم وبآرائهم وتجاربهم في كفايتها، فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال مما يشق على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ويشعب عليه رأيه. قال الجبائي: في الآية دلالة على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم ولولا ذلك لحاز أن يكونوا كاملي الإيمان وإن تركوا الاستئذان. وأجيب بأن ترك الاستئذان من أهل النفاق لا نزاع أنه كفر لأنهم تركوه استخفافا. قال جار الله: ومما يدل على عظم هذه الجناية أنه جعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه فيأذن لهم ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله، ومع ذلك صدر الجملة بإنما وأوقع المؤمنين مبتدأ مخبرا عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين. ثم عقبه بمزيد توكيد وتشديد حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فجعل الاستئذان كالمصدق الصحة الإيمان بالله والرسول وفيه تعريض بحال المنافقين وتسللهم لواذا. وفي قوله لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ دليل على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 أن أمر الاستئذان مضيق لا يجوز ارتكابه في كل شأن. وفي قوله فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ دلالة على أنه تعالى فوّض بعض أمر الدين إلى اجتهاد الرسول ورأيه. وزعم قتادة أنها منسوخة بقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] وفي قوله وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ وجهان: أحدهما أن هذا الاستغفار لأجل أنهم تركوا الأولى والأفضل وهو أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه، والآخر أنه جبرا لهم على تمسكهم بإذن الله تعالى في الاستئذان. ثم حثهم على طاعة رسوله بقوله لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ أي لا تقيسوا دعاءه إياكم لخطب جليل على دعاء بعضكم بعضا ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي، وذلك أن أمره فرض لازم وأمر غيره ليس بفرض، وإنما هو أدب مستحن رعايته مع الأئمة والمتقدمين. هذا ما عليه الأكثرون منهم المبرد والقفال، وعن سعيد بن جبير: لا تنادوه باسمه ولا تقولوا «يا محمد» ولكن «يا نبي الله ويا رسول الله» مع التوقير والتعظيم والصوت المنخفض. وقيل: أراد احذروا دعاء الرسول ربه عليكم إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره. والتسلل الانسلال والذهاب على سبيل التدرج، واللواذ الملاوذة وهو أن يكون هذا بذاك وذاك بهذا. وانتصابه على الحال والحاصل أنهم يتسللون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة وهو استتار بعضهم ببعض. وقيل: كان يلوذ من لم يؤذن له بالذي أذن له فينطلق معه. قال مقاتل: هذا في الخطبة. وقال مجاهد: في صف القتال. وقال ابن قتيبة: نزلت في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن. ومعنى قَدْ يَعْلَمُ يكثر العلم والمبالغة فيه كما مر في «البقرة» في قوله قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ [البقرة: 144] يقال: خالفته عن القتال أي جبنت عنه وأقدم هو وخالفته إلى القتال أي أقدمت، وجبن هو الفتنة المحنة في الدنيا كالقتل أو الزلازل، وسائر الأهوال والعذاب الأليم هو عذاب النار. وعن جعفر بن محمد عليه السلام: الفتنة أن يسلط عليهم سلطان جائر. وقال الأصوليون: في الآية دلالة على أن ظاهر الأمر للوجوب لأن تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر فإن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه والموافقة ضد المخالفة، فإذا أخل بمقتضاه كان مخالفا والمخالف مستحق للعقاب بالآية، ولا نعني بالوجوب إلا هذا. واعترض عليه بأن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه على الوجه الذي يقتضيه الأمر، فإن الأمر لو اقتضاه على سبيل الندب وأنت تأتي على سبيل الوجوب كان ذلك مخالفة الأمر. ومنع من أن المندوب مأمور به فإن هذا أول المسألة، والظاهر أن الضمير في أمره للرسول ولو كان لله لم يضر لأنه لا فرق بين أمر الله وأمر رسوله، وأمر الرسول متناول عند بعضهم للقول والفعل والطريقة كما يقال «أمر فلان مستقيم» وعلى هذا فكل ما فعله الرسول فإنه يكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 واجبا علينا. ثم بين كمال قدرته وعمله بقوله أَلا إِنَّ لِلَّهِ إلخ. تأكيد الوجوب الحذر. قال جار الله: الخطاب والغيبة في قوله ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ كلاهما للمنافقين على طريقة الالتفات إذ الأول عام والثاني لأهل النفاق. وأقول: يحتمل أن يكون كلاهما عاما للمنافقين. والفاء في قوله فَيُنَبِّئُهُمْ لتلازم ما قبلها وما بعدها كقولك وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] . التأويل: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما يدعوانه إلى الحضرة بترك ما سوى الله ويخشى الانقطاع عن الله ويثق به عما سواه فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ بالوصول والوصال وصالا بلا انفصال وزوال لئن أمرتهم بالخروج عن غير الله طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ بالفعل دون القول لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ليخرجن ما في استعدادهم من خلافة الله في أرض البشرية من القوة إلى الفعل. وَلَيُمَكِّنَنَّ كل صنف حمل الأمانة المودعة فيه على اختلاف مراتبهم وطبقاتهم، فمنهم حفاظ لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم وللقرآن، ومنهم علماء الأصول، ومنهم علماء الفروع، ومنهم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق وأرباب السلوك الكاملون المكملون، وإنهم خلفاء الله على الحقيقة وأقطاب العالم وأوتاد الأرض وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ من الشرك الخفي أَمْناً يَعْبُدُونَنِي بالإخلاص لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً من مطالب الدنيا والآخرة لِيَسْتَأْذِنْكُمُ المريدون الذين هم تحت تصرفكم وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا أوان الشيخوخة ثَلاثَ مَرَّاتٍ في المبادي وفي أوساط السلوك وفي نهاية أمرهم، فإذا صلحت أحوالهم في هذه الأوقات صلح سائرها في الأغلب والله المستعان. وَالْقَواعِدُ فيه إشارة إلى أن المريد إذا صار بحيث أمن منه إفشاء الأسرار وما استودع فيه من متولدات الأحوال، فلا ضير عليه أن لا يبالغ في التستر والإخفاء من الأغيار والكتمان خير له لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ قال الشيخ المحقق نجم الدين المعروف بداية رضى الله عنه: فيه إشارة إلى أن من لا يبصر إلا بالله ولا يمشي إلا بالله ولا يعلم إلا بالله فإنهم مخصوصون بالتكون بكينونة الله كما قال «كنت له سمعا» الحديث. فإنهم مستعدون لقبول الفيض الإلهي وهم السابقون المقربون فلا حرج في الشرع على من يكون مستعدا لهذا الكمال، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. وفي قوله وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ إلخ إشارة إلى أنه لا حرج على أرباب النفوس على أن يكون مأكلهم من بيوتهم أو بيوت أبناء جنسهم وهي الجنات ومراتبها كما قال فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ [الزخرف: 71] وفي قوله أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ إشارة إلى أن درجات الجنة مساكن أهل المكاسب كما أن مقامات أهل القرب عند مليك مقتدر منازل أهل المواهب. قوله أَوْ صَدِيقِكُمْ فيه أن درج الجنان ينالها المرء ببركة جليسه الصالح، وقد ينعكس نور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 ولاية الشيخ على مرآة قلب المريد الصادق فينال به مرتبة لم يكن يصل إليها بمجرد أعماله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فيه أنه لا حرج على أهل الجنة أن تكون مآكلهم من درجة واحدة أو من درجات شتى. فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً أي بلغتم منزلا من المنازل فَسَلِّمُوا أي استسلموا لأحكام الربوبية بمزيد العبودية حتى ترتقوا منها إلى منازل أعلى وأطيب إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ فيه أن المريد الصادق ينبغي أن لا يتنفس إلا بإذن شيخه فإن الشيخ في قومه كالنبي في أمته أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ من المال أو الجاه أو قبول الخلق أو التزويج أو السفر بإذن الشيخ أو التردد على أبواب الملوك ونحو ذلك، وما العصمة إلا من واهبها وهو المستعان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 (سورة الفرقان) (مكية غير آية نزلت بطائف أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ حروفها 3780 كلمها 872 آياتها 77) [سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 القراآت: جنة نأكل بالنون: حمزة وعلي وخلف. الباقون بالياء التحتانية ويجعل لك بالرفع: ابن عامر وأبوبكر وحماد والمفضل وابن كثير. الباقون بالجزم وذلك أن الشرط إذا وقع ماضيا جاز في جزائه الرفع والجزم يَحْشُرُهُمْ فَيَقُولُ كلاهما بالياء: ابن كثير ويزيد وسهل ويعقوب وعباس وحفص، وقرأ ابن عامر بالنون فيهما. الباقون بالنون في الأول وبالياء في الثاني أن يتخذ على البناء للمفعول: زيد ويزيد بِما تَقُولُونَ بتاء الخطاب: يعقوب وعباس وحفص والسرنديبي عن قنبل. تَسْتَطِيعُونَ على الخطاب: حفص غير الخزاز. الوقوف: نَذِيراً هـ لا بناء على أن ما بعده بدل من الَّذِي نَزَّلَ والتعليل من تمام الصلة، ولو قدر رفعه أو نصبه على المدح جاز الوقف. تَقْدِيراً هـ وَلا نُشُوراً هـ آخَرُونَ ج لأجل الفاء مع اختلاف القائل أو لاحتمال أن يكون فَقَدْ جاؤُ من قول الكفار أي جاء محمد ومن أعانه بظلم وزور وَزُوراً هـ ج للاحتمال المذكور أو لعطف المتفقتين مع عوارض وطول الكلام وَأَصِيلًا هـ وَالْأَرْضِ ط رَحِيماً هـ الْأَسْواقِ ط نَذِيراً هـ مِنْها ط مَسْحُوراً هـ سَبِيلًا هـ الْأَنْهارُ ط لمن جعل رفع يجعل على الاستئناف قُصُوراً هـ سَعِيراً هـ لاحتمال كون ما بعده صفة أو استئنافا وَزَفِيراً هـ ثُبُوراً الأول هـ ط كَثِيراً هـ الْمُتَّقُونَ ط لانتهاء الاستفهام مَصِيراً هـ خالِدِينَ ط مَسْؤُلًا هـ السَّبِيلَ هـ الذِّكْرَ ج لجواز أن يكون المراد وقد كانوا ولجواز أن يراد وصاروا فيتصل بقوله بُوراً هـ تَقُولُونَ هـ إلا لمن قرأ تَسْتَطِيعُونَ بتاء الخطاب نَصْراً ج هـ للشرط مع العطف كَبِيراً هـ فِي الْأَسْواقِ ط فِتْنَةً ط أَتَصْبِرُونَ ج لاحتمال كون الواو للحال بَصِيراً هـ. التفسير: إنه سبحانه تكلم في هذه السورة أولا في التوحيد لأنه أقدم وأهم، ثم في النبوة لأنها الواسطة، ثم في المعاد وسيختم السورة بصفات العباد المخلصين الموقنين فما أشرف هذه المطالب وما أحسن هذا الترتيب. ومعنى تَبارَكَ كثر خيره وزاد أو تعالى عن أوصاف الممكنات وقد مر في قوله تعالى فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14] وفي وصفه نفسه بتنزيل الفرقان الفارق بين الحق والباطل أو المفرق في الإنزال بعد قوله تَبارَكَ دليل على أن كل البركة والخير إنما هو في القرآن، وكانت هذه الصفة معلومة بدلائل الإعجاز فلذلك صح إيقاعها صلة للذي. والضمير في لِيَكُونَ لعبده أو للفرقان كقوله إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ والعالمون يشمل الخلائق كلهم إلا أن الإجماع دل على خروج الملائكة وما عدا الثقلين فبقي أن يكون مبعوثا إلى الجن والإنس إلى آخر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 مدة التكليف. والنذير المنذر أو الإنذار كالنكير. قالت المعتزلة: لو لم يرد الإيمان من الكل لم يكن الرسول نذيرا للكل. وعورض بنحو قوله وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ [الأعراف: 179] والإنذار الموجب للخوف لا ينافي وصفه تعالى بالبركة والخير لأن النظر على السعادات الأخروية التي تحصل بالإنذار على فوات بعض اللذات العاجلة. ثم وصف ذاته بصفاته الأربع أولها الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وفيه تنبيه على افتقار الكل إليه في الوجود وفي توابعه من البقاء وغيره. الثانية وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وفيه رد النصارى واليهود الثالثة وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وفيه رد على سائر المشركين من الثنوية والوثنية وأرباب الشرك الخفي أيضا، ولكنه صرح بهذا الأخير في الصفة الرابعة وهي قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً قال جار الله: المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثا مراعى فيه التقدير والتسوية والتهيئة لما يصلح له، أو المراد بالخلق الإيجاد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق وهو ما فيه من معنى التقدير لئلا يلزم التكرار فكأنه قيل: أوجد كل شيء فقدره في إيجاده لم يوجده متفاوتا، أو أحدثه فقدره للبقاء إلى أمد معلوم. وعندي أن الكلام محمول على القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس أي قدره في الأزل تقديرا فخلفه في وقته موافقا لذلك التقدير. والبحث فيه بين المعتزلة والأشاعرة كما مر في قوله اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] ثم صرح بتزييف مذاهب عبدة الأوثان قائلا وَاتَّخَذُوا الآية. وحاصله أن إله العالم يجب أن يكون أقدر الأشياء وأشرفها لا أعجزها وأخسها وهو الجماد بل الملائكة والمسيح لأنه لا قدرة لهم على الإيجاد والتصرف في شيء إلا بإذن الله، فتكون الآية ردا على الكل. وإنما قال في هذه السورة مِنْ دُونِهِ لتقدم الذكر مفردا وفي مريم ويس مِنْ دُونِ اللَّهِ [يس: 74 ومريم: 48] لأن ما قبلهما بلفظ الجمع تعظيما فلن يكن بد من التصريح. وحين فرغ من بيان التوحيد ونفي الأنداد شرع في شبهات منكري النبوة والأجوبة عنها. فالشبهة الأولى قولهم إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ أرادوا أنه كذب في نفسه أو أرادوا أنه كذب في إضافته إلى الله تعالى. وقوله وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ نظير قوله تعالى إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي [النحل: 103] وقد مر ما قيل في سبب نزوله في النحل فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً أي أتوهما فانتصب بوقوع المجيء عليه. وعن الزجاج أنه انتصب بنزع الخافض أي أتوا بالظلم والزور. فالظلم هو أنهم نسبوا هذا الفعل الشنيع وهو الافتراء على الله. إلى من هو عندهم في غاية الأمانة والصدق، والزور وهو انحرافهم عن جادة العدل والإنصاف، فلو أنصفوا من أنفسهم لعلموا أن العربي لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 يتلقن من العجمي كلاما عربيا أعجز بفصاحته دهماءهم، ولو استعان محمد في ذلك بغيره لأمكنهم أيضا أن يستعينوا بغيرهم. قال أبو مسلم: الظلم تكذيبهم الرسول والزور كذبهم عليه. الشبهة الثانية قولهم أنه أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أحاديث سطرها المتقدمون كأخبار الأعاجم اكْتَتَبَها لنفسه كقولك «استكب الماء» أي سكبه لنفسه وأخذه وقد يظن أن في الكلام قلبا لأنه يقال «أمليت عليه فهو يكتتبها» وأجيب بأن المعنى أراد اكتتابها فهي تقرأ عليه أو كتبت له وهو أمي فهي تملى أي تلقى عليه من كتابه يتحفظها، لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب. قال الضحاك: ما يملى عليه بكرة يقرأ عليكم عشية، وما يملى عليه عشية يقرأ عليكم بكرة، وقال جار الله بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي دائما أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس وحين يأوون إلى مساكنهم. فأجاب عن هذه الشبهة بقوله قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ الآية. والمعنى أن العالم بكل سر هو الذي يقدر على الإتيان بمثل هذا الكتاب لفصاحة مبانيه وبلاغة معانيه وبراءته من التناقض والاختلاف واشتماله على الغيوب وعلى مصالح العباد في المعاش والمعاد. قال أبو مسلم: أراد أنه يعلم كل سر خفي ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد والنفاق فهو يجازيكم عليه، ولأجل هذا الوعيد ختم الآية بذكر المغفرة والرحمة فإنه لا يوصف بهما إلا القادر على العقوبة. وقيل: هو تنبيه على أنهم استحقوا بمكابرتهم العذاب العاجل ولكنه صرفه عنهم برحمته وغفرانه. الشبهة الثالثة قولهم على سبيل الاستهانة وتصغير الشأن ما لِهذَا الزاعم أنه رسول أي ما باله يَأْكُلُ الطَّعامَ كما نأكل ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد. زعموا أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش، ثم نزلوا عن هذا المقام فطلبوا أن يكون إنسانا معه ملك يعضده ويساعده في باب الإنذار، ثم نزلوا فاقترحوا أن يكون مستظهرا بكنز يلقى إليه من السماء حتى لا يحتاج إلى تحصيل المعاش، ثم نزلوا فقالوا: لا أقل من أن يكون كواحد من الدهاقين له بستان ينتفع هو أو ننتفع نحن بذلك على اختلاف القراءتين. وانتصب فَيَكُونَ لأنه جواب «لولا» بمعنى «هلا» وحكمه حكم الاستفهام ومحل أُنْزِلَ الرفع كما يقول: لولا ينزل ولهذا عطف عليه يلقى ويكون مرفوعين وَقالَ الظَّالِمُونَ من وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوا، وهم كفار قريش النضر بن الحرث وأمثاله. والمسحور المغلوب على عقله، والأمثال الأقوال النادرة، والاقتراحات الغريبة المذكورة فبقوا متحيرين لا يجدون قولا يستقرون عليه، أو فضلوا عن الحق ولا يجدون طريقا إليه. وقد مر مثل هذه الآية في أواسط سورة بني إسرائيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 وحين حكى شبههم ومطاعنهم مدح نفسه بما يلجمهم ويفحمهم وهو قوله تَبارَكَ أي تكاثر خبر الَّذِي إِنْ شاءَ وهب لك في الدنيا خيرا مما قالوا: ثم فسر ذلك الخير بقوله جَنَّاتٍ عن ابن عباس: خيرا من ذلك أي مما عيروك بفقده الجنة الواحدة. وعنه في رواية عكرمة خيرا من المشي في الأسواق لابتغاء المعاش. وفي قوله إِنْ شاءَ دليل على أنه لا حق لأحد من العباد عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة وأن حصول الخيرات معلق بمحض مشيئته وعنايته. وقيل: «إن» بمعنى «إذ» أي قد جعلنا لك في الآخرة وبنينا لك قصورا. والقصر المسكن الرفيع فيحتمل أن يكون لكل جنة قصر وأن تكون القصور مجموعة والجنات مجموعة. وقال مجاهد: إن شاء جعل لك في الآخرة جنات وفي الدنيا قصورا. عن طاوس عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وجبرائيل عنده قال جبرائيل: هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك. فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء الملك وسلم وقال: إن الله يخيرك بين أن يعطيك مفاتيح كل شيء ولم يعطها أحدا قبلك ولا يعطيها أحدا بعدك من غير أن ينقصك مما ادخر لك شيئا. فقال صلى الله عليه وسلم: بل يجمعها لي في الآخرة فنزلت هذه الآية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: عرض عليّ جبرائيل عليه السلام بطحاء مكة ذهبا فقلت: بل شبعة وثلاث جوعات. وفي رواية أشبع يوما وأجوع ثلاثا فأحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت. قوله بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ عطف على ما حكى عنهم يقول: بل أتوا بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة فلهذا لا ينتفعون بالدلائل ولا يتأملون فيها إذ لا يرجون ثوابا ولا عقابا. ويجوز أن يراد ليس ما تعلقوا به شبهة عالية في نفس المسألة بل إنما حملهم على ذلك تكذيبهم بالساعة استثقالا للاستعداد لها. وَأَعْتَدْنا جعلناها عدة ومعدة لهم. وقد يستدل به على أن النار مخلوقة ويحتمل أن يقال: هو كقوله وَنادى [الأعراف: 48] وَسِيقَ [الزمر: 73] قالت الأشاعرة: البنية ليست شرطا في الحياة وتوابعها فأجروا قوله إِذا رَأَتْهُمْ على ظاهره وقالوا: لا امتناع في كون النار حية رائية مغتاظة على الكفار. والمعتزلة أوّلوا فقالوا: معنى رأتهم ظهرت لهم من قولهم «دورهم تتراءى وتتناظر» كأن بعضها يرى بعضا على سبيل المجاز. والمعنى إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد سمعوا صوت غليانها، وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر. وقال الجبائي: ذكر النار وأراد خزنتها والمراد إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضبا على الكفار وشهوة للانتقام منهم. قيل: التغيظ عبارة عن شدة الغضب وذلك لا يكون مسموعا فكيف قال الله سبحانه سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وأجيب بأن المراد سماع ما يدل على الغيظ وهو الصوت أي سمعوا لها صوتا يشبه صوت المتغيظ. قاله الزجاج وقال قطرب: علموا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا كما قال الشاعر: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 متقلدا سيفا ورمحا يروى أن جهنم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا ترعد فرائصه حتى إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم يجثو على ركبتيه ويقول: نفسي نفسي. وحين وصف حال الكفار إذا كانوا بالبعد من جهنم وصف حالهم عند ما يلقون فيها. عن ابن عباس أنه يضيق عليهم المكان كما يضيق الزج على الرمح. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط. قال الكلبي: الأسفلون يرفعهم اللهب والأعلون يخفضهم الداخلون فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة. وقال جار الله: الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض. وجاء في الأحاديث «إن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا» . وقال الصوفية: المكان الضيق قلب الكافر في صدره كقوله يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام: 125] ثم إن أهل جهنم مع ما هم فيه يكونون مقرنين في السلاسل والأصفاد وقد مر في آخر سورة إبراهيم. والثبور الهلاك ودعاؤه النداء بوا ثبوراه أي يقال يا ثبور فهذا أوانك وهاهنا إضمار أي يقال لهم لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً إذ هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يكن ثمة قول. ومعنى وادعوا ثبورا كبيرا أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا إنما هو ثبور كثير. إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها فلا غاية لهلاكهم، أو لأنهم يجدون بسبب ذلك القول خفة فإن المعذب إذا صاح وبكى وجد بسببه راحة. قال الكلبي: نزل هذا كله في أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبهات. ثم وبخهم بقوله قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي وعدوها فحذف الرابط للعلم به وليس هذا الاستفهام كقول القائل «السكر أحلى أم الصبر» ولكن الغرض منه التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالا فتمرد وأبى واستكبر فضربه ضربا وجيعا ويقول على سبيل التوبيخ: هذا أطيب أم ذاك؟ والإضافة في جنة الخلد للتوضيح والتأكيد لا للتمييز فإن الجنة معلوم أن نعيمها لا ينقطع. قالت الأشاعرة: في قوله وُعِدَ دلالة على أن الجنة إنما تستحق بحسب الوعد والفضل لا لأجل العمل. وقالت المعتزلة: في قوله الْمُتَّقُونَ إشارة إلى أن الجنة لا تنال إلا بالتقوى ولذلك أكد بقوله على سبيل التخصيص بسبب تقديم الجار كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً أجابت الأشاعرة بأن كونه جزاء ثبت في الأزل ولا عمل هناك. قالت المعتزلة: لا غفران لصاحب الكبيرة لأن الجنة جاءت جزاء للمتقين خاصة فلا يعطى حقهم غيرهم. أجابت الأشاعرة بأنه لم لا يجوز أن يرضى المتقون بإدخال الله أهل العفو الجنة؟ قال جار الله: ذكر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 المصير مع ذكر الجزاء مدحا للثواب ومكانه كقوله نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف: 31] وفي قوله لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ دلالة على أن حصول المرادات بأسرها لا تكون إلا في الجنة، وأما في الدنيا فالراحات فيها مخلوطة بالجراحات. والضمير في كانَ ل ما يَشاؤُنَ واستدلت المعتزلة بقوله عَلى رَبِّكَ أن ذلك واجب على الله حتى إنه لو لم يفعل استحق الذم. وأجيب بأنه واجب بحكم الوعد لقوله وَعْداً مَسْؤُلًا كأن المكلفين سألوا بلسان الحال من حيث تحملوا المشقة الشديدة في طاعته، أو سألوه حقيقة بقولهم رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمران: 194] أو سألته الملائكة في قولهم رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ [غافر: 8] أو من حقه أن يسأل ويطلب لأنه حق واجب بحكم الاستحقاق أو بحسب الموعد على المؤمنين. قوله يوم نحشرهم رجوع إلى قوله وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً وظاهر قوله وَما يَعْبُدُونَ أنها الأصنام وظاهر قوله أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ أنه من عبد من العقلاء كالملائكة والمسيح فلأجل هذا اختلفوا فحمله قوم ومنهم الكلبي على الأوثان ثم قالوا: لا يبعد أن يخلق الله تعالى فيها الحياة والنور والنطق، أو أراد أنهم تكلموا بلسان الحال. وقال الأكثرون: إنه عام للأصنام وللمعبودين العقلاء نظيره قوله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: 40] ثم قالوا: إن لفظة «ما» قد تستعمل في العقلاء، أو أريد به الوصف كأنه قيل: ومعبوديهم كما إذا أردت السؤال عن صفة زيد فتقول: «ما زيد» تريد أطويل أم قصير. والسائل الله وحده أو الملائكة بإذنه. وإنما قال أنتم وهم ولم يقل «أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل» ، لأن السؤال وقع عمن تولى فعل الإضلال لا عن نفس الإضلال. وفائدة هذا السؤال من علام الغيوب أن يجيب المعبودون بما أجابوا به حتى يحصل لعبدتهم الإلزام والتوبيخ كما قال لعيسى أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة: 116] وكان القياس أن يقال: ضلوا عن السبيل إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق والأصل هداه إلى الطريق أو للطريق. قالُوا سُبْحانَكَ تعجبا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه وأنطقوا ب سُبْحانَكَ ليدلوا على أنهم المسبحون المقدسون الموسومون بذلك فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده؟ أو قصدوا به تنزيهه عن الأنداد وأن يكون له ملك أو نبي أو غيرهما ندا، أو قصدوا تنزيهه من أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إيذاء من كان بريئا من الجرم بل إنما سألهم تقريعا للكفار وتوبيخا لهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 من قرأ أَنْ نَتَّخِذَ بفتح النون فظاهر وهو متعد إلى واحد والأصل أن نتخذ أولياء من دونك فزيدت «من» لتأكيد معنى النفي. ومن قرأ بضم النون فهو متعد إلى اثنين: الأول ضمير نحن، والثاني من أولياء. ولا تكون «من» زائدة لأنها لا تزاد في المفعول الثاني تقول: ما اتخذت من أحد وليا ولا تقول ما اتخذت أحدا من ولي ف «من» للتبعيض أي لا نتخذ بعض أولياء أو تنكير أولياء من حيث إنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام، والمعنى إنا لا نصلح لذلك فكيف ندعوهم إلى عبادتنا. وفي تفسير الآية على القراءة الأولى وجوه: الأول أن المعنى إذا كنا لا نرى أن نتخذ من دونك وليا فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك؟ الثاني: ما كان يصح لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما تولاهم الكفار. قال تعالى فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ [النساء: 76] يريد الكفرة عن أبي مسلم: الثالث تقدير مضاف محذوف أي ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء أي لما علمنا أنك لا ترضى بهذا ما فعلنا. أو قالت الملائكة: أنا وهم عبيد ولا ينبغي لعبيدك أن يدعوا من دون إذنك وليا. الرابع قالت الأصنام: لا يصح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا ادّعاء أنا من المعبودين. وفي الآية دلالة على أنه لا تجوز الولاية والعداوة إلا بإذن الله، والولاية المبنية على ميل النفس وشهوة الطبع مذمومة شرعا. والذِّكْرَ ذكر الله والإيمان به أو القرآن والشرائع أو ما فيه حسن ذكرهم في الدنيا والآخرة. قالت المعتزلة: في قوله وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ إلخ. دليل بيّن على أن الله عز وجل لا يضل عباده على الحقيقة وإلا كان جواب العبيد أن يقولوا: بل أنت أضللتهم لا أن يقولوا بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وعلى آبائهم تفضل جواد كريم، فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر ونسيان الذكر. فالحاصل أنهم ضلوا بأنفسهم لا بإضلالنا. وقالت الأشاعرة: بل فيه دلالة على أن الله تعالى هو المضل حقيقة كأنهم قالوا: إلهنا أنت الذي أعطيتهم جميع مطالبهم في الدنيا حتى استغرقوا في بحر الشهوات وأعرضوا عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك فإن هي إلا فتنتك. أما قوله وَكانُوا قَوْماً بُوراً فالأكثرون على أن البور جمع بائر من البوار الهلاك كعائذ وعوذ وحائل وحول. وحكى الأخفش أنه اسم جمع يقال «رجل بور» أي فاسد هالك لا خير فيه «وامرأة بور» و «قوم بور» كما يقال «أنت بشر» و «أنتم بشر» . قالت المعتزلة: صاروا إلى الهلاك بسبب اختيارهم الضلال. وقالت الأشاعرة: أراد أنهم كانوا في اللوح المحفوظ من جملة الهالكين ولو قيل: إنه فعل بالكافر ما صار معه بحيث لا يمكنه ترك الكفر صح القول بالقدر أيضا. قوله فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ التفات لأجل الإلزام والفاء فيه تدل على شرط مقدر كأنه قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 إن زعمتم أنهم آلهتكم فقد كذبوكم بقولكم إنهم آلهة. أو بقولهم سبحانك ما كان ينبغي لنا على اختلاف قراءتي الخطاب والغيبة. قال جار الله: الباء في الأول كقوله بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ والجار والمجرور بدل من كاف الخطاب كأنه قيل: فقد كذبوا بما تقولون. وفي الثاني كقولك «كتبت بالقلم» . فَما تَسْتَطِيعُونَ أنتم يا كفار أو فما يستطيع آلهتكم على القراءتين صرف العذاب عنكم. وقيل: الصرف التوبة لأنها تصرف العاصي عن فعله. وقيل: الحيلة من قولهم «إنه ليتصرف» أي يحتال. ثم ذكر وعيد كل ظالم بقوله وَمَنْ يَظْلِمْ الآية. فاستدلت المعتزلة به على وعيد الفاسق وخلوده وذلك أن الفسق ظلم لقوله وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11] والإنصاف أنه لا دلالة في الآية على مطلوبهم لأن «من» ليست من صيغ العموم عند بعضهم، ولئن سلم فلعل المراد الأكثر أو أقوام بأعيانهم لقوله مِنْكُمْ ولئن سلم فلعله مشروط بعدم العفو كما أنه مشروط عند المعتزلة بعدم التوبة، ولو سلم الجميع فإذاقة العذاب لا تدل على الخلود. ثم بين بقوله وَما أَرْسَلْنا الآية. أنه لا وجه لقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام لأن هذه عادة مستمرة من الله في كل رسله. قال الزجاج: الجملة بعد «إلا» صفة لموصوف محذوف والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين. وإنما حذف لأن في قوله مِنَ الْمُرْسَلِينَ دليلا عليه نظيره وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] أي وما منا أحد. وقال الفراء: المحذوف هو الموصول والتقدير: إلا من انهم. وقال ابن الأنباري: المحذوف هو الواو بعد إلا فتكون الجملة حالا كقوله وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر: 4] قوله وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً قال الكلبي والفراء والزجاج: إن هذا في رؤساء المشركين كأبي جهل وغيره وفي فقراء الصحابة كأنه إذا رأى الشريف الوضيع وقد أسلم قبله أنف أن يسلم فأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه دليله قوله تعالى لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11] وعن ابن عباس والحسن أنه في أصحاب البلاء والعافية يقول أحدهم: لم لم أجعل مثله في الخلق والخلق والعلم والعقل والرزق والأجل وغير ذلك يؤيده ما روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم «ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وويل للشديد من الضعيف وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة وقرأ هذا الآية» وقال آخرون: إنه احتجاج عليهم في اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة مع مساواته إياهم في البشرية وصفاتها فابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وبمناصبتهم لهم العداوة وأنواع الأذى، وابتلى المرسل إليهم بالتكليف وبذل النفس والمال وصيرورتهم تابعين خادمين بعد أن كانوا متبوعين مخدومين. قالت الأشاعرة: في هذا الجعل إشارة إلى مذهبنا في القدر. وقال الجبائي: هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 الجعل بمعنى التعريف كما يقال فيمن بين أن فلانا لص إنه جعله لصا. قال في الكشاف: موقع أَتَصْبِرُونَ بعد ذكر الفتنة موقع أيكم بعد الابتلاء في قوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] قلت: أراد أن كلا من الابتلاء والفتنة يستدعي التمييز فيحسن الاستفهام بعده أي يفتنكم ليظهر أنكم تصبرون على البلاء أم لا، ولعل الأظهر أن الاستفهام غير متعلق بالفتنة وإنما هو مستأنف للوعيد كقوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 91] ويؤيده قوله وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً عالما بمن صبر ومن لا يصبر فيجازي كلا منهم بحسب ذلك. وقيل: في الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما عيروه به من الفقر فقد جعل الأغنياء فتنة للفقراء. وقيل: جعلناك فتنة لهم حين بعثناك فقيرا لتكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله، ولو كنت غنيا صاحب كنز كما اقترحوا لم يظهر الطائع من المخلص. وقالت الصوفية: أتصبرون يا معشر الأنبياء على ما يقولون ويا معشر الأمم عما يقولون والله أعلم. تم الجزء الثامن عشر، ويليه الجزء التاسع عشر وأوله: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء التاسع عشر من أجزاء القرآن الكريم [سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 50] وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 القراآت: تشقق بتخفيف الشين على حذف تاء التفعل وكذلك في سورة «ق» : عاصم وحمزة وعلي وخلف وأبو عمرو. والآخرون بالتشديد للإدغام. وننزل من الإنزال الملائكة بالنصب: ابن كثير. الباقون وينزل ماضيا مجهولا من التنزيل الْمَلائِكَةُ بالرفع. يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ بفتح ياء المتكلم: أبو عمرو قَوْمِي اتَّخَذُوا بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. وَثَمُودَ بغير تنوين في الحالين: حمزة وسهل ويعقوب وحفص. الآخرون بالتنوين للمشاكلة، أو بتأويل الحي لا القبيلة، أو لأنه اسم الأب الأكبر. الريح على التوحيد: ابن كثير بُشْراً مذكور في «الأعراف» . ميتا بالتشديد: يزيد ونسقيه بفتح النون: المفضل والبرجمي الباقون بضمها. الوقوف: رَبَّنا ط كَبِيراً هـ ط مَحْجُوراً هـ مَنْثُوراً هـ مَقِيلًا هـ تَنْزِيلًا هـ لِلرَّحْمنِ ط عَسِيراً هـ سَبِيلًا هـ خَلِيلًا هـ إِذْ جاءَنِي ط لأن ما بعده من أخبار الله تعالى ظاهرا، ويحتمل أن يكون من تتمة حكاية كلام الظالم. خَذُولًا هـ مَهْجُوراً هـ الْمُجْرِمِينَ هـ ط وَنَصِيراً هـ واحِدَةً ج على تقدير فرقنا إنزاله كذلك أي كما ترى لنثبت وإن وصلت وقفت على كَذلِكَ والتقدير جملة واحدة كذلك الكتاب المنزل وهو التوراة، ثم أضمرت فعلا أي فرقناه لنثبت. تَرْتِيلًا هـ تَفْسِيراً هـ ط لأن ما بعده مبتدأ جَهَنَّمَ لا لأن ما بعده خبر سَبِيلًا هـ وَزِيراً هـ ج للآية ولفاء العطف بِآياتِنا ط للفاء الفصيحة أي فذهبا وبلغا فعصوهما فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً هـ ط لأن قَوْمَ نُوحٍ منصوب بمحذوف أي وأغرقنا قوم نوح أغرقناهم آيَةً ط لأن ما بعده مستأنف أَلِيماً ج للآية ولاحتمال عطف عاداً على الضمير في جَعَلْناهُمْ واحتمال انتصابه بمحذوف أي وأهلكنا عادا كَثِيراً هـ الْأَمْثالَ ز فصلا بين الأمرين المعظمين مع عطف الجملتين المتفقتين تَتْبِيراً هـ السَّوْءِ ط يَرَوْنَها لا للعطف مع الإضراب. نُشُوراً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 هـ هُزُواً ط لحق المحذوف أي يقولون أهذا الذي رَسُولًا هـ عَلَيْها ط لانتهاء مقولهم سَبِيلًا هـ هَواهُ ط وَكِيلًا هـ لا للعطف يَعْقِلُونَ هـ ج لابتداء النفي سَبِيلًا هـ الظِّلَّ ج لانتهاء الاستفهام إلى الشرط مع اتحاد المقصود ساكِناً ج للعدول مع العطف دَلِيلًا هـ يَسِيراً هـ نُشُوراً هـ رَحْمَتِهِ ج للعدول طَهُوراً هـ ج لتعلق اللام كَثِيراً هـ لِيَذَّكَّرُوا ز والوصل أولى للفاء كُفُوراً هـ. التفسير: هذه شبهة رابعة لمنكري النبوّة وإنهم في قول الكلبي أبو جهل والوليد وأضرابهما، وتقريرها أن الحكيم لا بد أن يختار في مقصده طريقا يكون أسهل إفضاء إليه، ولا شك أن إنزال الملائكة ليشهدوا على صدق محمد أعون على المطلوب، فلو كان محمد صادقا لكان مؤيدا بإنزال الملائكة الشاهدين بصدقه. قال الفراء: معنى لا يَرْجُونَ لا يخافون، والرجاء في لغة تهامة الخوف، وقال غيره: الرجاء على أصله وهو الأمل إلا أن الخوف يلزمه في هذه الصورة فإن من لا يرجو الجزاء والمعاد لا يخاف العقاب أيضا. واللقاء الوصول لا بمعنى المكان والجهة فإنه تعالى منزه عن ذلك بل بمعنى الرؤية عند الأشاعرة، أو على إرادة الجزاء والحساب عند المعتزلة، وقد مر في أوائل البقرة في قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: 46] ولعل تفسيره بلقاء الجزاء أنسب في هذا المقام لئلا يناقض قوله: أَوْ نَرى رَبَّنا أي جهرة وعيانا فيأمرنا بتصديقه واتباعه اللهم إلا أن يراد: إن الذين لا يرجون رؤيتنا في الآخرة اقترحوا رؤيتنا في الدنيا. قال جار الله: لا يخلو إما أن يكونوا عالمين بأن الله عز وجل لا يرسل الملائكة إلى غير الأنبياء وإنه تعالى لا يصح أن يرى وإنما علقوا إيمانهم بما لا يكون، وإما أن لا يكونوا عالمين بذلك وإنما أرادوا التعنت باقتراح آيات سوى الآيات التي نزلت وقامت بها الحجة عليهم كما فعل قوم موسى حين قالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] . ثم إنه سبحانه أجاب عن شبهتهم بقوله: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه. ثم نسبهم إلى الإفراط في الظلم بقوله وَعَتَوْا ثم وصف العتوّ بالكبر. قال جار الله: اللام جواب قسم محذوف وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية وفيها معنى التعجب كأنه قال: ما أشد استكبارهم وما أكبر عتوّهم! وقال في التفسير الكبير: تحرير هذا الجواب من وجوه أحدها: أن القرآن لما ظهر كونه معجزا فقد تمت دلالة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم فبعد ذلك لا يكون اقتراح أمثال هذه الآيات إلا محض الاستكبار والاستنكار. وثانيها أن نزول الملائكة لو حصل لكان أيضا من جملة المعجزات، ولا يدل على الصدق لخصوص كونه بنزول الملك بل لعموم كونه معجزا فيكون قبول ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 وردّ الآخر ترجيحا لأحد المثلين من غير مرجح. وثالثها أنهم بتقدير رؤية الرب وتصديقه لرسوله لا يستفيدون علما أزيد من تصديق المعجزات، لا فرق بين أن يقول النبي اللهم إن كنت صادقا فأحي هذا الميت فيحييه، وبين أن يقول إن كنت صادقا فصدّقني فتعيين أحد الطرفين محض العناد. ورابعها أن العبد ليس له أن يعترض على فعل مولاه إما بحكم المالكية عند الأشعري أو بحكم المصلحة عند المعتزلي. وخامسها أن السائل الملح المعاند الذي لا يرضى بما ينعم عليه مذموم وإظهار المعجز من جملة الأيادي الجسيمة فرد إحداها واقتراح الأخرى ليس من الأدب في شيء. وسادسها لعل المراد أني لو علمت بأنهم ليسوا مستكبرين عاتين لأعطيتهم مطلوبهم لكني علمت إنهم إنما سألوا لأجل المكابرة والعناد فلا جرم لا أعطيهم. وسابعها لعلهم عرفوا من أهل الكتاب أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وأنه لا ينزل الملائكة على عوام الخلق، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك فهم مستكبرون ساخرون. واستدلت الأشاعرة بقوله: لا يَرْجُونَ لِقاءَنا على أن رؤية الله مرجوّة. واستدلت المعتزلة بقوله لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا وَعَتَوْا أن اقتراح الرؤية مستنكر ولا يخفى ضعف الاستدلالين. وانتصب يَوْمَ يَرَوْنَ بإضمار «اذكر» فيكون لا بُشْرى مستأنفا أو بما دل عليه لا بُشْرى أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى بالجنة وبرؤية الحق. يَوْمَئِذٍ للتكرير وقوله لِلْمُجْرِمِينَ ظاهر في موضع الضمير أو عام فيتناول هؤلاء لعمومه، ولأجل هذا العموم استدلت المعتزلة به على القطع بوعيد كل مجرم وإن كان من أهل القبلة، وحمل الأشاعرة الجرم على الكفر. أما قوله: حِجْراً مَحْجُوراً فإنها كلمة يتلفظ بها عند لقاء عدوّ أو هجوم نازلة، يضعونها موضع الاستعاذة يقول الرجل للرجل: تفعل كذا؟ فيقول: حجرا. وقد ذكره سيبويه في باب المصادر التي ترك إظهار فعلها نحو «معاذ الله وعمرك الله ومعناه منعا» أي أسأل الله أن يمنع ذلك منعا كما أن المستعيذ طالب من الله عز وجل أن يمنع المكروه. ووصفه بالمحجور للتأكيد كما يقال «شعر شاعر وجد جده» . والأكثرون على أن القائلين هم الكفار إذا رأوا الملائكة عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون فيقولون ما كانوا يقولونه عند نزول كل شدّة. وقيل: هم الملائكة ومعناه حراما محرّما أي جعل الله الجنة والغفران أو البشرى حراما عليكم. يروى أن الكفار إذا خرجوا من قبورهم قالت الحفظة لهم: حجرا محجورا. وقال الكلبي: الملائكة على أبواب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين: حجرا محجورا. وقال عطية: إذا كان يوم القيامة تأتي الملائكة المؤمنين بالبشرى فإذا رأى الكفار ذلك قالوا لهم: بشرونا فيقولون: حجرا محجورا. ثم أخبر عن وعيد آخر لهم وذلك أنهم كانوا يعملون أعمالا لها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 صورة الخير من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف وأمثالها مع عدم ابتنائها على أساس الإيمان، فمثلت حالهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى أشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها بحيث لم يترك منها أثرا وإلا فلا قدوم ولا ما يشبه القدوم، ولتنزهه سبحانه عن الجسمية وصفاتها. قال أهل المعاني: القادم إلى الشيء قاصد له فالقصد هو المؤثر في القدوم فأطلق اسم المسبب على السبب مجازا. وقيل: أراد قدوم الملائكة بأمره إلى موضع الحساب في الآخرة. والهباء ما يخرج من الكوة مع ضوء الشمس شبيه بالغبار. وقال مقاتل: إنه الغبار الذي يسطع من حوافر الدواب وفي أمثالهم أقل من الهباء شبه عملهم بالهباء في قلته وحقارته. وأكد المعنى بوصف الهباء بالتناثر لأنك تراه منتظما مع الضوء حتى إذا حركته الريح تناثر وذهب كل مذهب. والمراد: جعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر ولام الهباء واو بدليل الهبوة بمعناه. ثم ميز حال الأبرار عن حال الفجار بقوله: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ ووجه صحة التفضيل ما بين في قوله: قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ أو التفاوت بين المنزلتين إنما يرجع إلى الموضع والموضع من حيث إنه موضع لا شر فيه، أو هو على سبيل الفرض أي لو كان لهم مستقر كان مستقر أهل الجنة خيرا منه. والمستقر مكان الاستقرار والمقيل المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والاستمتاع بمغازلتهنّ وملامستهنّ كحال المترفين في الدنيا، ولا نوم في الجنة وإنما سمى مكان دعتهم واسترواحهم إلى الحور مقيلا على طريق التشبيه، وفي اختيار لفظ الأحسن دون أن يقول «خير مقيلا» رمزا إلى التحسنات الحاصلة في مقيلهم من حسن الوجوه وملاحة الصور وغير ذلك. قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. وعن سعيد بن جبير: إن الله تعالى إذا أخذ في فصل القضاء قضى بينهم كقدر ما بين صلاة الغداة إلى نصف النهار فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. وقال مقاتل: يخفف الحساب على أهل الجنة حتى يكون بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا ثم يقيلون من يومهم ذلك في الجنة. وحاصل الآية أن أصحاب الجنة من المكان في أطيب مكان ومن الزمان في أحسن زمان. ثم أراد أن يصف أهوال يوم القيامة فقال وَيَوْمَ تَشَقَّقُ أي واذكر يوم تتفتح السماء بسبب غمام يخرج منها وفي الغمام الملائكة فينزلون وفي أيديهم صحائف أعمال العباد. قال الفراء: الباء بمعنى «عن» لأن السماء لا تتشقق بالغمام بل عن الغمام كما يقال: انشقت الأرض عن النبات أي ارتفع التراب عنه عند طلوعه، وقال القاضي: لا يمتنع أن يجعل الله تعالى الغمام بحيث يشقق السماء باعتماده عليها. عن مقاتل: تشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وكذلك تتشقق سماء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 سماء، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش، ثم ينزل الرب تعالى. قال العلماء: هذا نزول الحكم والقضاء لا نزول الذات. وأما نزول الملائكة مع كثرتهم وصغر حجم الأرض بالقياس إلى السماء فقالوا: لا يبعد أن يوسع الله الأرض عرضا وطولا بحيث تسع كل هؤلاء. ومن المفسرين من قال: الملائكة يكونون في الغمام وهو سترة بين السماء والأرض، والله تعالى فوق أهل القيامة. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: تتشقق كل سماء وينزل سكانها فيحيطون بالعالم ويصيرون سبع صفوف حول العالم. والظاهر أن اللام في الغمام للجنس. ومنهم من قال: هي للعهد والمعهود قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وقيل: هو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة كما كان لبني إسرائيل في التيه. ومعنى تَنْزِيلًا توكيد للنزول ودلالة على إسراعهم فيه. قال الزجاج الْحَقُّ صفة الملك أي الملك الثابت الذي لا يزول لِلرَّحْمنِ يومئذ ونظيره مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] ويجوز أن يكون يومئذ تكريرا لقوله وَيَوْمَ تَشَقَّقُ وإعرابهما واحد. والفائدة في تخصيص ذلك اليوم أن يعلم أنه لا مالك فيه سواه لا بالصورة ولا في الحقيقة فيخضع له الملوك وتعنو له الوجوه وتذل رقاب الجبابرة. قالت الأشاعرة: هاهنا لو وجب على الله يومئذ الثواب لاستحق الذم بتركه وكان خائفا أن لا يفعل فلم يكن له الملك على الإطلاق. وأيضا لو كان العبد مالكا للثواب لم يكن الله تعالى مالكا مطلقا بل يكون عبدا ضعيفا لا يقدر على أن لا يؤدي ما عليه من العوض، أو فقيرا محتاجا إلى أن يدفع الذم عن نفسه بأداء ما عليه؟ وكان ذلك اليوم يوما عسيرا على الكافرين لا على المؤمنين. واللام في الظَّالِمُ ظاهر الاستغراق والشمول أو للجنس. وعن ابن عباس أنه للعهد وذلك أن الآية نزلت في عقبة بن أبي معيط وكان يكثر مجالسة الرسول صلى الله عليه وسلم فاتخذ ضيافة ودعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأكل من طعامه حتى يأتي بالشهادتين ففعل، وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه وقال: صبأت يا عقبة؟ قال: لا ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له، والشهادة ليست في نفسي. فقال: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه ولم تبزق في وجهه. فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فقتل يوم بدر أمر عليا رضي الله عنه بقتله. وفي روايات الشيعة أن الظالم هو رجل بعينه وأن المسلمين غيروا اسمه وكتموه وجعلوا فلانا بدلا من اسمه وذكروا فاضلين من الصحابة وفيه بعد، لأن تغيير القرآن كفر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 والعض على اليدين كناية عن الغيظ والحسرة لأنه من لوازم الغيظ والتحسر غالبا ونظيره «سقط في يده وأكل من بنانه» وأمثال ذلك. وقال الضحاك: يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت فلا يزال كذلك كلما أكلها نبتت. قال جار الله: تمنى أن لو صحب الرسول وسلك معه طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم تتشعب به طرق الضلالة والهوى، أو أراد أني كنت ضالا لم يكن لي سبيل قط فليتني حصلت لنفسي في صحبة الرسول سبيلا. وفلان كناية عن الإعلام كما أن الهن كناية عن الأجناس، فإن أريد بالظالم عقبة فالمعنى ليتني لم أتخذ أبيا خليلا فكنى عن اسمه، وإن أريد به الجنس فكل من اتخذ من المضلين خليلا كان لخليله اسم علم فجعله كناية عنه. قلت: زعم بعض أئمة اللغة أنه لم يثبت استعمال فلان في الفصيح إلا حكاية. لا يقال: جاءني فلان ولكن يقال: قال زيد جاءني فلان. لأنه اسم اللفظ الذي هو علم لا اسم مدلول العلم ولذلك جاء في كلام الله تعالى: يقول يا ليتني إلخ. والذكر ذكر الله والقرآن أو موعظة الرسول أو نطقه بشهادة الحق وعزمه على الإسلام والشيطان إشارة إلى خليله الذي أضله كما يضله الشيطان، ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة. أو إشارة إلى إبليس وأنه هو الذي حمله على أن صار خليلا لذلك المضل وخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ثم خذله، أو أراد الجنس فيدخل فيه كل من تشيطن من الجن والإنس. ثم إن الكفار لما أكثروا من الاعتراضات الفاسدة ووجوه التعنت ضاق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وشكاهم إلى الله عز وجل وقال يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي يعني قريشا اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً أي تركوه وصدّوا عنه وعن الإيمان به. وعن أبي مسلم أن المراد: وقال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. روي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم «من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفا لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه» . وقيل: هو من هجر إذا هذى. والجار محذوف أي جعلوه مهجورا فيه. وعلى هذا فله معنيان: أحدهما أنهم زعموا أنه كلام لا فائدة فيه. والثاني أنهم كانوا إذا سمعوه لغوا فيه. وجوز الكشاف أن يكون المهجور مصدرا بمعنى الهجر كالميسور والمجلود أي اتخذوه هجرا. سؤال: هذا النداء بمنزلة قول نوح رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نوح: 5] فكيف صارت شكاية نوح سببا لحلول العذاب بأمته ولم تصر شكاية نبينا صلى الله عليه وسلم سببا لذلك؟ الجواب أن الكلام بالتمام، وكان من تمام كلام نوح رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] ولم يكن كلام رسولنا إلا مجرد الشكاية ولم يقتض الدعاء عليهم وذلك من غاية شفقته على الأمة وإن بلغ إيذاؤهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 إياه الغاية «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت» «1» هذا مع أنه سبحانه سلاه وعزاه وأمره بالصبر على أذاهم حين قال وَكَذلِكَ جَعَلْنا بين ذلك أن له أسوة بسائر الأنبياء فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبروا، وتمام البحث فيه قد سلف في الأنعام في قوله وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: 112] وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً إلى مصالح الدين والدنيا أو إلى طريق قهرهم والانتصار منهم ونصيرا لك على أعدائك. ثم حكى عنهم شبهة خامسة وهي قولهم: هلا نزل عليه القرآن حال كونه جملة واحدة أي مجتمعا. ومعنى التنزيل هاهنا التعدية فقط لقرينة قوله جُمْلَةً خلاف ما تقرر في أكثر المواضع من إرادة التكثير المفيد للتدريج كما مر في قوله نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران: 3] والقائلون قريش أو اليهود فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله لِنُثَبِّتَ إلخ. وتقريره من وجوه أحدها: أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئا كاتبا بخلاف موسى وداود وعيسى فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ فأنزله الله عليه منجما في عشرين سنة. وعن ابن جريج: في ثلاث وعشرين ليكون أقرب إلى الضبط وأبعد عن النسيان والسهو. وثانيها أن الاعتماد على الحفظ أقرب إلى التحصيل من الاعتماد على الكتابة والحفظ لا بد فيه من التدرج. وثالثها إن نزول الشرائع متدرجة أسهل على المكلف منها دفعة. ورابعها أن نزول جبريل ساعة فساعة مما يقوي قلبه ويعينه على تحمل أعباء النبوّة والرسالة. وخامسها أن نزوله مفرّقا يوجب وقوع التحدي على أبعاض القرآن وأجزائه ونزوله جملة يقتضي وقوع التحدي على مجموعه، ولا ريب في أن الأول أدخل في الإعجاز. وسادسها أن نزوله بحسب الوقائع والحوادث أوفق في باب التكاليف والاستبصار وأدل على الأخبار عن الحوادث في أوقاتها. وسابعها أن في تجديد منصب السفارة في كل حين مزيد شرف لجبريل. وللترتيل معان منها: أنه قدره آية بعد آية ودفعة عقيب دفعة. ومنها التأني في القراءة ومعنى وَرَتَّلْناهُ أمرنا بترتيل قراءته ومنه حديث عائشة في قراءته: لا يسرد كسردكم. هذا لو أراد السامع أن يعدّ حروفها لعدها وهو مأخوذ من ترتيل الأسنان أي تفليجها. يقال: ثغر مرتل ويشبه بنور الأقحوان في تفليجه. ومنها أنه نزله في مدد متباعدة الأطراف جملتها عشرون سنة ولم يفرقه في مدد متقاربة. ثم ذكر أنهم محجوبون في كل أوان بقوله:   (1) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 34. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 11. أحمد في مسنده (3/ 120) بلفظ «ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ... » . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أي بسؤال عجيب من أسئلتهم الباطلة الذي كأنه مثل في البطلان إلا ونحن نأتي بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ومؤدى من سؤالهم. قال جار الله: لما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا: تفسير الكلام كيت وكيت كما قيل: معناه كذا وكذا. ووجه آخر وهو أن يراد وَلا يَأْتُونَكَ بحال وصفة عجيبة يقولون هلا كانت صفته وحاله أن ينزل معه ملك أو يلقى إليه كنز أو ينزل عليه القرآن جملة إلا أعطيناك نحن ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا وما هو أحسن بيانا لما بعثت به، ومن جملة ذلك تنزيل القرآن مفرقا منجما فإن ذلك أدخل في الإعجاز كما مر، ثم أوعد هؤلاء الجهلة بأنهم شر مكانا من أهل الجنة والبحث عنه نظير ما مر في صفة أهل الجنة خير مستقرا. قال جار الله: كأنه قيل لهم: إن الذي يحملكم على هذه الأسئلة هو أنكم تضللون سبيله صلى الله عليه وسلم وتحتقرون مكانه ومنزلته، ولو نظرتم بعين الإنصاف وأنتم من المسحوبين على وجوهكم إلى جهنم لعلمتم أن مكانكم شر من مكانه وسبيلكم أضل من سبيله. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث: ثلث على الدواب وثلث على وجوههم وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا» . ثم ذكر طرفا من قصص الأولين على عادة افتنانه في الكلام تنشيطا للأذهان وتسلية لنبيه كأنه قال: لست يا محمد بأول من أرسلناه فكذب وآتيناه الآيات فردّ بل آتينا موسى التوراة وقويناه بأخيه ومع ذلك كذب ورد. ومعنى الوزير تقدم في «طه» . والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضا. ولاشتراكهما في النبوة قيل لهما اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إن حملناه على تكذيب آيات الإلهية فظاهر، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة فاللفظ ماض والمعنى على الاستقبال على عادة إخبار الله تعالى. ويجوز أن يراد إلى القوم الذين آل حالهم إلى أن كذبوا فدمرناهم، وعلى هذا فلا حذف. والتدمير الإهلاك وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ بأن كذبوه وكذبوا من قبله من الرسل صريحا كأنهم لم يروا بعثة الرسل أصلا كالبراهمة، أو لأن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب كلهم أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ أي إغراقهم وقصتهم لِلنَّاسِ آيَةً محل اعتبار وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ وهم قوم نوح أو لكل من سلك سبيلهم في التكذيب. وقصة عاد وثمود مذكورة مرارا، وأما الرس فعن أبي عبيدة أنه البئر غير المطوية، والقوم كانوا من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش، بعث الله عز وجل إليهم شعيبا فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، فبيناهم حول الرس انهارت بهم فخسف بهم وبديارهم. وقيل: الرس قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود. وقيل: هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان ابتلاهم الله بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 الطير سميت بذلك لطول عنقها، وكانت تسكن جبلهم وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة. ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا. وقيل: هم أصحاب الأخدود والرس عند العرب الدفن يقال: رس الميت: إذا دفن وغيب في الحفيرة. وقيل: الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار وستجيء القصة في سورة يس. وعن علي رضي الله عنه أنهم قوم يعبدون شجرة الصنوبر رسوا نبيهم في الأرض. وقيل: هم قوم كانت لهم قرى على شاطىء نهر يقال له الرس من بلاد المشرق، فبعث الله تعالى إليهم نبيا من ولد يهوذا بن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زمانا ثم حفروا بئرا فرسوه فيها وقالوا: نرجو أن يرضى عنا إلهنا، وكان عامة قومهم يسمعون أنين نبيهم يقول: إلهي وسيدي ترى ضيق مكاني وشدة كربي وضعف قلبي فعجل قبض روحي حتى مات، فأرسل الله تعالى ريحا عاصفة شديدة الحمرة وصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت متوقدا وأظلتهم سحابة سوداء فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص. وروى ابن جرير بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا عبد أسود، ثم عدوا على الرسول فحفروا له بئرا فألقوه فيها ثم أطبقوا عليه حجرا ضخما، فكان ذلك العبد يحتطب فيتشري له طعاما وشرابا ويرفع الصخرة ويدليه إليه وكان كذلك ما شاء الله فاحتطب يوما فلما أراد أن يحملها وجد نوما فاضطجع فضرب الله على آذانه سبع سنين. ثم انتبه وتمطى وتحول لشقه الآخر فنام سبع سنين، ثم هب فاحتمل حزمته وظن أنه نام ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته فاشترى طعاما وشرابا وذهب إلى الحفرة فلم يجد أحدا، وكان قومه استخرجوه فآمنوا به وصدقوه وذلك النبي يسألهم عن الأسود فيقولون: لا ندري حاله حتى قبض الله تعالى النبي وقبض ذلك الأسود فقال صلى الله عليه وسلم: إن ذلك الأسود أول من يدخل الجنة. قلت هذه الرواية إن صحت فلا مدخل لها في المقصود فإن المقام يقتضي أن يكون قوما كذبوا نبيهم فأهلكوا لأجل ذلك. أما قوله وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ فالمشار إليه ما ذكر من الأمم وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك ومثله قول الحاسب «فذلك كذا» أي فما ذكر من الأعداد مجموعها كذا وَكُلًّا من الأمم والقرون ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ بينا له القصص العجيبة ليعتبروا ويتعظوا وَكُلًّا تَبَّرْنا أهلكنا أشنع الإهلاك حين لم ينجع فيهم ضرب المثل. والتتبير التفتيت والتكسير. وكُلًّا الأول منصوب بما دل عليه ضربنا له الأمثال وهو أنذرنا أو حذرنا كُلًّا الثاني منصوب ب تَبَّرْنا لأنه ليس بمشتغل عنه بضميره. والضمير في وَلَقَدْ أَتَوْا لقريش، والقرية سدوم من قرى قوم لوط وكانت خمسا، ومطر السوء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 الحجارة. أَفَلَمْ يَكُونُوا في مرات مرورهم على تلك القرية في متاجرهم إلى الشام يَرَوْنَها بَلْ كانُوا قوما كفروا بالبعث لا يتوقعون نشورا وعاقبة فمن ثم لم ينظروا إلى آثار عذاب الله نظر عبرة وادكار. وَمن جملة كفرهم وعنادهم أنهم إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا محل هزؤ. ثم فسر ذلك الاستهزاء بأنهم يقولون مشيرين إليه على سبيل الاستحقار. هذا الذي بعثه الله حال كونه رسولا بزعمه. ويجوز أن يكون تسميته رسولا استهزاء آخر من حيث إنه تسليم وإقرار في معرض الجحود والإنكار. وفي هذا جهل عظيم لأنهم إن استحقروا صورته فإنه أحسنهم خلقا وأعدلهم مزاجا مع أنه لم يكن يدعي التميز بالصورة، وإن استهزؤا بالمعنى فبه قد وقع التحدي بظهور المعجز عليه وقامت الحجة عليهم فهم أحق بالاستهزاء منه حين أصروا على الباطل بعد وضوح البرهان على الحق، ولقد شهد عليهم بمضمون هذا التقرير ابن أخت خالتهم إذ قالوا إِنْ كادَ هي مخففة من الثقيلة واللام في لَيُضِلُّنا هي الفارقة كأنهم سلموا أنه لقوة العقل وسطوع الحجة شارف أن يغلبهم على دينهم ويقلبهم عن طريقتهم لولا فرط لجاجهم وصبرهم على عبادة آلهتهم. أطلقوا المقاربة أوّلا ثم قيدوها بلو لا الامتناعية ثانيا، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم بذل قصارى مجهوده في دعوتهم حتى شارفوا على الإيمان بزعمهم. وحين وصفوه بالإضلال والمضل لا بد أن يكون ضالا في نفسه فكأنهم وصفوه بالضلال فلا جرم أوعدهم الله على ذلك بقوله وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إلى آخر الآية. وإنما يرون العذاب عند كشف الغطاء عن بصر البصيرة. ثم بين إنه لا تمسك لهم فيما ذهبوا إليه سوى التقليد واتباع هوى النفس فقال معجبا لرسوله: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قدم المفعول الثاني للعناية كما تقول: علمت منطلقا زيدا. ثم نفى أن يكون هو حافظا عليهم كقوله: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام: 107] لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 22] قال الكلبي: نسختها آية القتال. عن سعيد بن جبير: كان الرجل يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخد آخر. ثم أضرب عن ذمهم باتخاذ الهوى إلها إلى نوع آخر أشنع في الظاهر قائلا: أم يحسب وهي منقطعة ومعناه «بل» أيحسب وخص أكثرهم بالذكر إما لصون الكلام عن المنع على عادة الفصحاء العقلاء، وإما لأن منهم من كان يعرف الحق إلا أن حب الرياسة يحمله على الخلاف. وإنما نفى عنهم السماع والعقل لانتفاء فائدتهما وأثرهما. وباقي الآية تفسيرها مذكور في آخر الأعراف في قوله أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأنعام: 179] قال جار الله: جعلوا أضل من الأنعام لأنها تنقاد لأربابها التي تعلفها وتعرف المحسن من المسيء وتجذب المنافع وتجتنب المضارّ وتهتدي للمراعي والمشارب، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، ولا يطلبون أعظم المنافع وهو الثواب، ولا يتقون أشد المضارّ وهو العقاب، ولا يهتدون للحق الذي هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 المرتع الهنيّ والمشرب الرويّ، قلت: ويحسن أيضا أن يذكر في وجه التفضيل أن جهل الأنعام بسيط غير مضر وجهل هؤلاء مركب مضر. ومنهم من قال: إن الأنعام تسبح لله تعالى بخلاف الكفار. ثم ذكر طرفا من دلائل التوحيد مع ما فيها من عظيم الأنعام فأولها الاستدلال من أحوال الظل والرؤية إما بمعنى البصر فالمراد: ألم تر إلى صنع ربك أو ألم تر إلى الظل كيف مده ربك. وإما بمعنى العلم وهو ظاهر وذلك أن الظل متغير ولكل متغير موجد وصانع. والخطاب لكل من له أهلية النظر والاستدلال. وللكلام في تفسير الآية مجال إلا أن ملخص الأقوال فيه اثنان: الأول أن الظل أمر متوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة كالكيفيات الحاصلة داخل السقوف الكاملة وأفنية الجدران وهو أعدل الأحوال، لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس والضوء الكامل لقوّته يبهر الحس البصري ويؤذي بالتسخين، ولذلك وصف الجنة به في قوله: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة: 30] ثم إن الناظر في الظل إلى الجسم الملون كأنه لا يشاهد شيئا سوى الجسم واللون، فإذا طلعت الشمس ووقع ضوءها على الجسم زال ظله فيظهر للعقول أنه كيفية زائدة على ما شاهده أوّلا. فمعنى الآية: ألم تر إلى عجيب صنع ربك كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ أي جعله ممتدا منبسطا على الأجسام. وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً لاصقا بكل مظل. ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ على وجوده دَلِيلًا فلولا الشمس ووقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجودا، لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها: ثُمَّ قَبَضْناهُ أي أزلنا الظل لا دفعة بل يسيرا فإنه كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الإظلال في جانب المغرب شيئا بعد شيء، وفي القبض على هذا الوجه منافع جمة. الثاني أنه سبحانه لما خلق السماء والأرض ألقت السماء ظلها على الأرض ممدودا منبسطا، ولو شاء لجعله ساكنا مستقرا على تلك الحالة، ثم خلق الشمس وجعلها دليلا على ذلك الظل، لأن الظل يتبعها كما يتبع الدليل في الطريق من حيث إنه يزيد بها وينقص ويمتد ويتقلص، ثم لقبض الظل معنيان: أحدهما: انتهاء الإظلال إلى غاية ما من النقصان بالتدريج، وثانيهما قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام النيرة. وقوله إِلَيْنا يؤكد هذا المعنى الثاني فيكون قوله يَسِيراً كما قال ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: 44] الاستدلال الثاني من أحوال الليل والنهار شبه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر، والسبات الراحة قاله أبو مسلم. وذلك أن النوم سبب الراحة ومنه يوم السبت لما جرت به العادة من الاستراحة فيه عند طائفة، وعلى هذا فالنشور بمعنى الانتشار والحركة. قال جار الله: السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة، وعلى هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 فالنشور بمعنى البعث وتكون الآية نظير قوله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام: 60] عن لقمان أنه قال لابنه: يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر. الاستدلال الثالث قوله وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر وقد مر تفسيره في «الأعراف» وأنه لم قال هاهنا أَرْسَلَ بلفظ الماضي وهناك يُرْسِلُ أما قوله وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً فهو علم بين الفقهاء في الاستدلال به على طهارة الماء في نفسه وعلى مطهريته لغيره حتى فسر الطهور بعضهم- ومنهم أحمد بن يحيى- بأنه الذي يكون طاهرا في نفسه مطهرا لغيره. واعترض عليهم صاحب الكشاف بأن الذي قالوه إن كان شرحا لبلاغته في الطهارة كان سديدا وإلا فليس «فعول» من «التفعيل» في شيء وأقول: إن الزمخشري سلم أن الطهور في العربية على وجهين: صفة كقولك «ماء طهور» أي طاهر، واسم غير صفة ومعناه ما يتطهر به كالوضوء والوقود بفتح الواو فيهما لما يتوضأ به وتوقد به النار، وعلى هذا فالنزاع مدفوع لأن الماء مما يتطهر به هو كونه مطهرا لغيره فكأنه سبحانه قال: وأنزلنا من السماء ماء هو آلة للطهارة ويلزمه أن يكون طاهرا في نفسه. ومما يؤكد هذا التفسير أنه تعالى ذكره في معرض الأنعام فوجب حمله على الوصف الأكمل، ولا يخفى أن المطهر أكمل من الطاهر نظيره وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: 11] . ولا ضير أن نذكر بعض أحكام المياه المستنبطة من الآية فنقول: هاهنا نظران: الأول أن عين الماء هو طهور أم لا؟ مذهب الأصم والأوزاعي أنه يجوز الوضوء بجميع المائعات، وقال أبو حنيفة: يجوز الوضوء بنبيذ التمر في السفر وتجوز إزالة النجاسة بجميع المائعات المزيلة لأعيان النجاسات. وقال الشافعي وغيره من الأئمة: إن الطهورية مختصة بالماء لما مر في أول المائدة من إيجاب التيمم عند عدم الماء ولو شارك الماء مائع آخر لما أمر بالتيمم إلا بعد إعوازه أيضا ودليله في الخبث قوله صلى الله عليه وسلم «ثم اغسليه بالماء» . النظر الثاني في الماء وفيه بحثان: الأول في الماء المستعمل وإنه طاهر عند الشافعي وليس بمطهر في قوله الجديد. أما الأول فلإطلاق الآية وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً والأصل بقاؤه وللحديث «خلق الماء طهورا» ولأن السلف كانوا لا يحترزون عن تقاطر ماء الوضوء على ثيابهم وأبدانهم، ولأنه ماء طاهر لقي جسما طاهرا فأشبه ما إذا لاقى حجارة. وأما الثاني فلقوله صلى الله عليه وسلم «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» «1» ولو بقي الماء كما كان طاهرا مطهرا   (1) رواه مسلم في كتاب الطهارة حديث 97. النسائي في كتاب الطهارة باب 38. ابن ماجة في كتاب الطهارة باب 109. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 لما كان للمنع منه معنى، وكانت الصحابة لا يعتنون بحفظه ليستعملوه ثانيا ولو كان طهورا لحفظوا ما يغنيهم عن التيمم. وقال مالك والسدي: إنه طاهر مطهر لإطلاق الآية والحديث، والأصل بقاء صفته على ما كان عليه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح رأسه بفضل ما في يده. وعن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل فرأى لمعة في جسده لم يصبها الماء فأخذ شعرة عليها بلل فأمرها على تلك اللمعة، ولقياس ما انفصل من العضو على ما لم ينفصل منه. وقال أبو حنيفة: إنه نجس قياسا للنجاسة الحكمية على النجاسة الحقيقية. والمراد باستعمال الماء في المسألة تأدى عبادة الطهارة به أو انتقال المنع إليه فيه وجهان لأصحاب الشافعي، ويتفرع عليه أن المستعمل في الكرة الثانية والثالثة وفي تجديد الوضوء والأغسال المسنونة ليس بطهور على الأول طهور على الثاني. والماء المستعمل في الحدث لا يجوز استعماله في الخبث على الأصح لأنه مائع لا يرفع الحدث فلا يزيل الخبث كسائر المائعات. البحث الثاني الماء المتغير إن تغير بنفسه لطول المكث جاز الوضوء به لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ من بئر بضاعة، وكان ماؤها كأنه نقاعة الحناء. وإن تغير بغيره ولم يتصل به كما لو وقع بقرب الماء جيفة فأنتن الماء فهو أيضا مطهر، وإن اتصل به وكان طاهرا ولم يخالطه كما لو تغير بدهن أو عود أو كافور صلب فهو أيضا مطهر، وإن خالطه فإن لم يمكن صون الماء عنه كالمتغير بالتراب والحمأة والورق المتناثر والطحلب فلا بأس بذلك دفعا للحرج، وكذا لو جرى الماء في طريقه على معدن زرنيخ أو نورة أو كحل وإن أمكن بأن يكون الماء مستغنيا عن جنس ذلك الخليط فإن كان التغير قليلا بحيث لا يضاف الماء إليه أو لا يستحدث اسما جديدا جاز التوضؤ به وإلا فلا خلافا لأبي حنيفة. حجة الشافعي أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، فذلك الوضوء إن كان بالماء المتغير وجب أن لا يجوز إلا به وليس كذلك بالاتفاق بماء غير متغير وهو المطلوب. ولقائل أن يقول: إن هذا إشارة إلى كيفية الوضوء لا إلى كيفية الماء، والمراد أنه تعالى لا يقبل الصلاة بما دون ذلك، وأما الكمال فلا كلام فيه. قال: وأيضا إذا اختلط ماء الورد بالماء فتوضأ الإنسان به يحتمل أن ينغسل بعض الأعضاء بماء الورد لا بالماء فيكون الحدث يقينا والطهر مشكوكا فيه والشك لا يرفع اليقين، وهذا بخلاف ما إذا كان قليلا لا يظهر أثره فإنه كالمعدوم. وأيضا الوضوء تعبد لا يعقل معناه ولهذا لو توضأ بماء الورد لم يصح وضوءه، ولو توضأ بالماء الكدر والمتعفن صح وضوءه وما لا يعقل معناه وجب الاعتماد فيه على مورد النص. حجة أبي حنيفة إطلاق الآية وقوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] وقوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً [النساء: 43] وهذا الشخص غسل ووجد الماء ولأنه صلى الله عليه وسلم أباح الوضوء بسؤر الهرة وسؤر الحائض وإن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 خالطهما شيء من لعابهما، ولأنه لا خلاف في جواز الوضوء بماء السيول وإن تغير لونها إلى ألوان ما تمر عليها في الصحاري من الحشائش وغيرها. هذا كله إذا كان الخليط طاهرا، فإن كان نجسا فمذهب الحسن البصري والنخعي ومالك وداود وإليه الغزالي في الإحياء أن الماء لا ينجس ما لم يتغير بالنجاسة، سواء كان الماء كثيرا أو قليلا. ومذهب أبي حنيفة أن الماء ينجس باستعماله في البدن لأداء عبادة. وتيقن مخالطة النجاسة أو غلبتها على الظن سواء تغير أحد أوصافه الثلاثة أو لم يتغير. قال أبو بكر الرازي: ولا يختلف على هذا الحد ماء البحر وماء البئر والغدير والراكد والجاري لأن ماء البحر لو وقعت فيه نجاسة لم يجز استعمال الماء الذي فيه النجاسة وكذلك الماء الجاري. قال: وأما اعتبار أصحابنا للغدير الذي إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر فإنما هو كلام في وجه يغلب على الظن عدم بلوغ النجاسة الواقعة في أحد طرفيه إلى الطرف الآخر، وليس كلاما في أن بعض المياه الذي فيه النجاسة قد يجوز استعماله وبعضها لا يجوز استعماله. ومن الناس من فرق بين القليل والكثير ثم اختلفوا في حد الكثير: فعن عبد الله بن عمر: إذا كان الماء أربعين قلة لم ينجسه شيء وقال سعيد بن جبير: الماء الراكد لا ينجسه شيء إذا كان قدر ثلاث قلال. وقال الشافعي: إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه. وقد ينصر من المذاهب قول مالك لوجوه منها: قوله وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ترك العمل به في الماء الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه لظهور النجاسة فيه، ولقوله «خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» «1» فبقي ما عداه على الأصل. ومنها قوله تعالى: فَاغْسِلُوا والمتوضئ بهذا الماء قد غسل أعضاءه ولا سيما إذا كانت النجاسة مستهلكة فيه لا يظهر عليه آثارها وخواصها من الطعم أو اللون أو الريح. ومنها أن عمر توضأ من جرة نصرانية مع أن نجاسة أوانيهم غالبة على الظن، فدل ذلك على أنه لم يعول إلا على عدم التغير. ومنها أن تقدير الماء بمقدار معلوم لو كان معتبرا كالقلتين عند الشافعي وعشر في عشر عند أبي حنيفة، لكان أولى المواضع بذلك مكة والمدينة لأنه لا تكثر المياه هنالك لا الجارية ولا الراكدة، ولم ينقل أنهم خاضوا في تقدير المياه ولا أنهم سألوا عن كيفية حفظها، وكانت أوانيهم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات، وكانوا لا يمنعون الهرة من شرب الماء وقد أصغى لها الإناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا يرون أنها تأكل الفأرة، ولم يكن في بلادهم حياض تكرع   (1) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 67. بلفظ «لا بأس بالماء ما لم يغيره طعم أو ريح» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 السنانير فيها. ومنها أن الشافعي نص على أن غسالة النجاسة طاهرة إذا لم تتغير بنجس، وأي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورود عليها أو بورودها عليه، وأي معنى لقول القائل: إن قوة الورود تدفع النجاسة مع أن قوة الورود لم تمنع المخالطة؟ ومنها أنهم كانوا يستنجون على أطراف المياه الجارية القليلة. وقال الشافعي: إذا وقع بول في ماء جار ولم يتغير جاز الوضوء به. وأيّ فرق بين الجاري والراكد؟ والتعويل على قوة الماء بسبب الجريان ليس أولى من التعويل على عدم التغير. ومنها أنه لو وقعت نجاسة في قلتين فكل كوز يؤخذ منه فهو طاهر عنده، ومعلوم أن البول ينتشر فيه وهو قليل فأي فرق بينه إذا وقع ذلك البول في ذلك القدر من الماء ابتداء وبينه إذا وصل إليه عند اتصال غيره به؟. ومنها أن الحمامات لم تزل في الأعصار الخالية يتوضأ منها المتقشفون مع علمهم بأن الأيدي والأواني الطاهرة والنجسة كانت تتوارد عليها، ولو كان التقدير بالقلتين وغير ذلك معتبرا لاشتهر وتواتر. ومنها أن النصوص في التقدير متخالفة أما تقدير أبي حنيفة بالعشر في العشر فمجرد تحكم، وأما تقدير الشافعي بالقلتين بناء على قوله صلى الله عليه وسلم «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا» «1» فضعيف. لأن راويه مجهول، فإن الشافعي لما روى هذا الخبر قال: أخبرني رجل. فيكون الحديث مرسلا والمرسل عنده ليس بحجة. سلمناه ولكن القلة مجهولة فإنها تصلح للكوز وللجرة ولكل ما يقل باليد وهي أيضا اسم لهامة الرجل ولقلة الجبل. سلمنا لكن في متن الخبر اضطراب، فقد روي «إذا بلغ الماء قلتين» «2» وروي «إذا بلغ قلة» وروي «أربعين» «وإذا بلغ كرين» سلمنا صحة المتن لكنه متروك الظاهر لأن قوله «لم يحمل خبثا» لا يمكن إجراؤه على ظاهره، فإن الخبث إذا ورد عليه فقد حمله. سلمنا إجراءه على الظاهر لكن الخبث لغوي وشرعي وحمله على اللغوي لكونه حقيقة أولى، فمعنى الحديث أن لا يصير مستقذرا طبعا. ونحن نقول: بموجبه لكن لم قلتم: إنه لا ينجس شرعا؟ سلمنا أن المراد هو الخبث الشرعي لكن لم لا يجوز أن يكون معنى قوله «لم يحمل خبثا» أنه يضعف عن حمله أي يتأثر به؟ أجاب بعض الشافعية عن هذه المنوع بأن كثيرا من المحدثين عينوا اسم الراوي في حديث القلتين، فإن يحيى بن معين قال: إنه جيد الإسناد. فقيل له: إن ابن علية وقفه على ابن عمر. فقال: إن كان ابن علية وقفه فحماد بن سلمة رفعه. وقوله «القلة مجهولة» غير مسلم لأن ابن جريج قال في روايته: بقلال هجر. ثم قال: وقد شاهدت   (1، 2) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 33. الترمذي في كتاب الطهارة باب 50. النسائي في كتاب الطهارة باب 43. ابن ماجة في كتاب الطهارة باب 75. الدارمي في كتاب الوضوء باب 55. أحمد في مسنده (2/ 23، 27) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 قلال هجر وكانت القلة تسع قربتين وشيئا. وإذا كانت هذه الرواية معتبرة فقط لم يكن في متن الحديث اضطراب، وحمل الخبث على الشرعي أولى لأن المسألة شرعية وتفسير عدم حمل الخبث بالتأثر تعسف لأنه صح في بعض الروايات «إذا كان الماء قلتين لم ينجس» «1» ولأنه لا يبقى لذكر القلتين حينئذ فائدة لأن ما دون القلتين أيضا بتلك المثابة، وزيف بأنه بعد التصحيح يوجب تخصيص عموم الكتاب والسنة الظاهرة البعيدة عن الاحتمال بمثل هذا الخبر المجمل. حجة من حكم بنجاسة الماء الذي خالطه نجاسة كيف كانت قوله تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف: 157] وقوله إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ [النحل: 115] وقال في الخمر رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [المائدة: 90] حرم هذه الأشياء مطلقا ولم يفرق بين حال انفرادها وحال اختلاطها بالماء، فوجب تحريم استعمال كل ماء تيقنا فيه جزءا من النجاسة. وأيضا الدلائل التي ذكرتموها مبيحة ودلائلنا حاظرة والحاظر غالب على المبيح بدليل أن الجارية المشتركة لا يحل لواحد منهما وطؤها وأيضا قال صلى الله عليه وسلم «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من جنابة» «2» أطلق من غير فرق بين القليل والكثير. أجاب مالك بأنه لا نزاع في تحريم استعمال النجاسات، لكن الكلام في أنه متى ما لم يتغير فليس للنجاسة أثر لأنها انقلبت عن صفتها فكأنها معدومة والنهي عن البول في الماء لتنفر الطبع أو للتنزيه لا للتحريم. واعلم أنه سبحانه بين في سورة الأنفال أن من غاية إنزال الماء من السماء تطهير المكلفين به حين قال: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: 11] ففي وصفه هاهنا بكونه طهورا إشارة إلى ذلك. ثم رتب على الإنزال غايتين أخريين. أولاهما تتعلق بالنبات، والثانية بالحيوان الأعجم فالناطق. وفي هذا الترتيب تنبيه على أن الكائنات تبتدئ في الرجوع من الأخس إلى الأشرف، وفيه أن الغرض من الكل هو نوع الإنسان مع أن حياة الأناسي بحياة أرضهم وأنعامهم. قال مَيْتاً مع قوله بَلْدَةً بالتأنيث لأن «فيعلا» غير جار على الفعل فكأنه اسم جامد وصف به، أو بتأويل البلد والمكان. والأناسيّ جمع أنسي أو جمع إنسان على أن أصله أناسين فقلبت النون ياء. و «فعيل» قد يستوي فيه الواحد   (1) المصدر السابق. (2) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 68. مسلم في كتاب الطهارة حديث 95، 96. الترمذي في كتاب الطهارة باب 51. النسائي في كتاب الطهارة باب 45. الدارمي في كتاب الوضوء باب 45. أحمد في مسنده (2/ 259، 265) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 والجمع فلهذا لم يقل وأناسي كثيرين ومثله وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً. أسئلة أوردها جار الله مع أجوبتها: الأول: أن إنزال الماء موصوفا بالطهارة وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة الإحياء والسقي كما تقول: حملني الأمير على فرس جواد لأصيد به الوحش. الجواب لما كان سقي الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصفه بالطهور إكراما لهم وتتميما للمنة عليهم وإشارة إلى أن من حق استعمال الماء في الباطن والظاهر أن يكون طاهرا غير مخالط لشيء من القاذورات. قلت: قد قررنا فائدة هذا الوصف بوجه آخر آنفا. السؤال الثاني: لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان المنتفع بالماء؟ الجواب لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام، ولأنها قنية الإنسان وعامة منافعه متعلقة بها فسقيها إنعام عليه. الثالث: ما معنى تنكير الأنعام والأناسي ووصفهم بالكثرة؟ الجواب لأن بعض الأنعام والأناسي الذين هم بقرب الأودية والأنهار العظام لا يحتاجون إلى ماء السماء احتياجا بينا، ولمثل هذا نكر البلدة في قوله بَلْدَةً مَيْتاً قوله سبحانه وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ الأكثرون على أن الضمير عائد إلى ما ذكر من الدلائل أي كررنا أحوال الإظلال وذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر في القرآن وفي سائر الكتب السماوية ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا، فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها. وقال آخرون: إنه يرجع إلى أقرب المذكورات وهو المطر أي صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتباينة من وابل وطل وغير ذلك فأبوا إلا كفورا وأن يقولوا: مطرنا بنوء كذا استقلالا. فإن جعلوا الأنواء كالوسائط والأمارات فلا بأس. والنوء سقوط نجم من المنازل الثمانية والعشرين للقمر في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه وهو نجم آخر في المشرق يقابله من ساعته في كل ليلة إلى ثلاثة عشر يوما وهو أكثر، أو إلى أربعة عشر وهو أقل. والعرب تضيف الأمطار والحر والبرد إلى الساقط منها أو إلى الطالع. فإذا مضت مدة النوء ولم يحدث شيء من مطر وغيره يقال: خوى نجم كذا أي سقط ولم يكن عنده أثر علوي. عن ابن عباس: ما من عام أقل مطرا من عام ولكن الله عز وجل قسم ذلك بين عباده على ما يشاء وتلا هذه الآية. ويؤيد هذا التفسير تنكير البلدة والأنعام والأناسي. قال الجبائي: في قوله لِيَذَّكَّرُوا دليل على أنه تعالى أراد من الكل التذكر والإيمان. وفي قوله فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ دلالة على أن المكلف له قدرة على الفعل والترك إذ لا يقال للزمن مثلا إنه أبى أن يسعى. وقال الكعبي: الضمير في بَيْنَهُمْ لكل الناس فيكون الأكثر داخلا في ذلك العام إذ لا يجوز أن يقال: أنزلناه على قريش ليؤمنوا فأبى أكثر بني تميم إلا كفورا. وعند هذا يظهر أنه أراد من جميع المكلفين أن يؤمنوا ويعتبروا ومعارضة الأشاعرة معلومة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 التأويل: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ سماء القلب عن غمام البشرية وهو يوم سعادة الطالبين الصادقين، ونزل ملائكة الصفات الروحانية الْمُلْكُ الحقيقي يَوْمَئِذٍ لِلرَّحْمنِ إذ لم يبق غيره ورجع الكل إليه وذلك مقام الوحدة والفناء في الله والبقاء به: وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً إذ لم يبق من صفات النفوس الكافرة وحظوظها أثر ولا عين: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ نفسه وهو المشرك شركا ظاهرا أو خفيا عَلى يَدَيْهِ والآية حكمها عام في كل متحابين اجتمعا على معصية الله تعالى. وعن مالك بن دينار: إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل كل الخبيص مع الفجار. لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ بأن نخلق قلبك بقلب القرآن وكان بذر التوحيد أوقع في قلب النبي صلى الله عليه وسلم في سر أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] وكان يتربى بما أنزل عليه بل على قلبه منجما، فلما أورق كان ورقه الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 1] فلما أزهر كان زهره فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10] فلما أثمر كانت ثمرته فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19] يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ لأن توجههم إلى أسفل سافلي الطبيعة فيحشرون منكوسين إلى جهنم البعد عن الحضرة أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ فيه أن نبينا صلى الله عليه وسلم رآه وقد قال لموسى لَنْ تَرانِي [الأعراف: 143] وذلك لبقاء أنانيته كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ عالم الأجسام وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً في كتم العدم ثُمَّ جَعَلْنَا شمس عالم الأرواح على وجود ذلك الظل دليلا بأن كانت محركة لها إلى غاياتها المخلوقة هي لأجلها، فعرف من ذلك أنه لولا الأرواح لم تخلق الأجساد ولم تتكون بالأجسام. وفي قوله: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا إشارة إلى أن كل مركب فإنه سيحل إلى بسائطه إذا حصل على كماله الأخير. وبوجه آخر الظل ما سوى نور الأنوار يستدل به على صانعه الذي هو شمس عالم الوجود وهذا شأن الذاهبين من غيره إليه. وفي قوله ثُمَّ جَعَلْنَا إشارة إلى مرتبة أعلى من ذلك وهي الاستدلال به على غيره كقوله: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] وهذه مرتبة الصديقين. وقوله ثُمَّ قَبَضْناهُ كقوله كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ [القصص: 88] أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ وبوجه آخر الظل هو حجاب الذهول والغفلة والشمس شمس التجلي المعروفة من أفق العناية عند صباح الهداية: وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ دائما لا يزول وإنما يستدل على الذهول بالعرفان. وفي قوله: ثُمَّ قَبَضْناهُ إشارة إلى أن الكشف التام يحصل بالتدريج عند انقضاء مدة التكليف. ثم بين حكمة الإظلال بقوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ليلة البشرية لِباساً كيلا تحترقوا بدوام شمس تجلي الربوبية، وجعل ليوم الغفلة راحة بعد سطوة التجلي، وجعل نهار العرفان نشورا أي حياة بنور الربوبية وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رياح الإشراق على قلوب الأحباب فتزعجها عن المساكنات عند الستر فلا تستقر إلا بالكشف والتجلي وَأَنْزَلْنا من سماء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 الكرم ماءً حياة العرفان الذي يطهر قلوب المشتاقين عن الجنوح إلى المساكنات وما يتداخلها في بعض الأوقات من الغفلات لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً القلوب الميتة عن نور الله بنور الله وَنُسْقِيَهُ من جملة مخلوقاتنا من هو على طبع الأنعام لغلبة الصفات الحيوانية عليه فيسقي زرع إيمانه بماء الرحمة والذكر كما قال صلى الله عليه وسلم «لا إله إلا الله تنبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقلة» ونسقيه من الأنس من سكن إلى رياض الأنس يفطمه به عن مراضع الإنسانية إلى المشارب الروحانية، ويطهره عن وصمة الملاحظات ويذيقه طعم المكاشفات. وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ الذي هو ماء حياة القلوب بينهم لِيَذَّكَّرُوا به أيام جوار الحق وأوطانهم الحقيقية فَأَبى أَكْثَرُ الناسين تلك المعاهدة والمشاهدة إِلَّا كُفُوراً بنعمة القرآن وما عرفوا قدرها والله المستعان وإليه المآب. [سورة الفرقان (25) : الآيات 51 الى 77] وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 القراآت: ملح بفتح الميم وكسر اللام كحذر أو لأنه مقصور مالح وكذلك في «فاطر» : قتيبة يأمرنا على الغيبة: حمزة وعلي سرجا بضمتين: حمزة وعلي وخلف. أَنْ يَذَّكَّرَ من الذكر: حمزة وخلف. يَقْتُرُوا بضم التاء: حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى المفضل، وبضم الياء وكسر التاء من الإقتار: أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل. الباقون بفتح الياء وكسر التاء. يُضاعَفْ وَيَخْلُدْ بالرفع فيهما من المضاعفة ومن الخلود: أبو بكر وحماد مثله، ولكن يخلد مجهولا من الإخلاد: المفضل يضاعف بالتشديد والرفع وَيَخْلُدْ بالرفع من الخلود: ابن عامر مثله ولكن بالجزم فيهما: ابن كثير ويعقوب وزيد. الآخرون كالأول ولكن بالجزم فيهما. فيهي بإشباع الكسرة: ابن كثير وحفص: يبدل من الإبدال: البرجمي وذريتنا على التوحيد: أبو عمرو وعلي وخلف وعاصم والمفضل: وَيُلَقَّوْنَ بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف من اللقاء: حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل. الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من باب التفعيل. الوقوف: نَذِيراً هـ والوصل أولى للفاء كَبِيراً هـ أُجاجٌ ج لعطف الجملتين المتفقتين مع العارض مَحْجُوراً هـ وَصِهْراً هـ قَدِيراً هـ وَلا يَضُرُّهُمْ ط ظَهِيراً هـ وَنَذِيراً هـ سَبِيلًا هـ بِحَمْدِهِ ط خَبِيراً هـ ج لأن الذي يصلح صفة للحي والوقف على العرش على تقدير هو الرحمن إذ لا وقف عليه أيضا بناء على أن الرَّحْمنُ بدل من المستتر في اسْتَوى ويصلح أن يكون الَّذِي مبتدأ والرَّحْمنُ خبره خَبِيراً هـ وَمَا الرَّحْمنُ هـ قد قيل: ولا وجه له لأن الكل مقول قالوا نُفُوراً هـ سجدة مُنِيراً هـ شُكُوراً هـ سَلاماً هـ وَقِياماً هـ جَهَنَّمَ ق قد قيل: والوصل أولى لاتحاد القائل غَراماً هـ كذلك وَمُقاماً هـ قَواماً هـ وَلا يَزْنُونَ ج للشرط مع واو العطف أَثاماً هـ لمن قرأ يُضاعَفْ بالرفع على الاستئناف دون الجزم على إبدال الجملة من الجملة لتقارب معنييهما مُهاناً هـ لا وقد يوقف على جعل إلا بمعنى «لكن» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 والوصل أولى لأن «لكن» تقتضي الوصل أيضا حَسَناتٍ ط رَحِيماً هـ مَتاباً هـ الزُّورَ هـ لا كِراماً هـ وَعُمْياناً هـ إِماماً هـ وَسَلاماً هـ لا لاتصال الحال فِيها ط وَمُقاماً هـ دُعاؤُكُمْ ج لاختلاف الجملتين لِزاماً هـ. التفسير: إنه سبحانه لما قرر سيرة القوم من كفران النعمة وإيذاء النبي أراد تهييج نبيه على استمرار الدعوة. وفي الآية لطف ممزوج بنوع تأديب وإرشاد وفحواه ولو شئنا لخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى، وبعثنا في كل قرية نبيا، ولكن خصصناك برسالة الثقلين إجلالا وتعظيما، فقابل هذا التفضل بالتشدد في الدين ففي أول الآية بيان كمال الاقتدار وأنه لا حاجة به إلى نبي محمدا كان أو غيره، ولكن في مفهوم «لو» دلالة على أنه لم يفعل ذلك بل خصه بهذا المنصب الشريف لكمال العناية به وبأمته، فعليه أن يترك طاعة الكافرين فيما يريدونه عليه مما يوافق أهواءهم. النهي كقولك للمتحرك «لا تسكن» لا كقولك للساكن «لا تسكن» فإنه صلى الله عليه وسلم لم يترك طاعة الله طرفة عين. ثم بالغ في النهي بأن أمره بضدّه قائلا وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي بالقرآن أو بترك طاعتهم أو بسبب كونك نذير القرى كلها لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لم يكن على كل نذير إلا مجاهدة قريته. وحين اقتصر على نذير واحد لكل القرى وهو محمد صلى الله عليه وسلم فلا جرم اجتمع عليه تلك المجاهدات كلها فكبر جهاده وعظم وصار جامعا لكل مجاهدة، ثم ذكر دليلا رابعا على التوحيد فقال وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي خلاهما وأرسلهما متجاورين متلاصقين. يقال: مرجت الدابة أي خليتها لترعى. وسمى الماءين الكثيرين بحرين. والفرات البليغ العذوبة، والتركيب يدل على كسره العطش بخلاف الأجاج وهو الملح فإنه يدل على الشدة والتوهج. وقوله هذا إشارة إلى ما ارتسم في الذهن بعد ذكر البحرين والبرزخ الحائل الذي جعل الله بينهما من قدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج وَحِجْراً مَحْجُوراً كلمة يقولها المتعوّذ كما قلنا في السورة كأن كل واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه ويقول له هذا القول، ونظيره في سورة الرحمن بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ [الرحمن: 20] فانتفاء البغي ثمة كالتعوّذ هاهنا وكل منهما مجاز في غاية الحسن. سؤال: لا وجود للبحر العذب فكيف ذكره الله تعالى؟ والجواب من وجهين: أحدهما أن في البحار مواضع فيها مياه عذبة يعرفها الملاحون يحمل منها الماء إلى حين الوصول إلى الموضع الآخر. وثانيهما لعل المراد من البحر العذب الأودية العظام كالنيل والفرات وجيحون، ومن البحر الأجاج البحار المشهورة، والبرزخ بينهما الحائل من الأرض ووجه الاستدلال على هذا الوجه أن يقال: العذوبة والملوحة إن كانتا بسبب طبيعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 الأرض أو الماء فلا بد من الاستواء وإلا فلا بد من قادر مختار يخص كل واحد من الماءين بصفة مخصوصة. الاستدلال الخامس: من أحوال خلقة الإنسان والماء إما العنصر كقوله: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أو النطفة. ومعنى فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أنه قسم البشر قسمين ذوي نسب وذوات صهر، والأول الذكور الذين ينسب إليهم فيقال: فلان وفلانة بنت فلان ومنه أخذ الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد والثاني الإناث التي يصاهر بهن ونحوه قوله عز من قائل فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [القيامة: 39] والأصهار أهل بيت المرأة عن الخليل. قال: ومن العرب من يجعل الصهر من الأحماء والأختان. يقال: صاهرت إليهم إذا تزوّجت فيهم. وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً حين خلق من ماء واحد صنفين مختلفين بل أشخاصا متباينة لا تكاد تنحصر. ثم عاد إلى تهجين سيرة عبدة الأوثان فقال وَيَعْبُدُونَ الآية. يروى أنها نزلت في أبي جهل المراد بالكافر والأولى حمله على العموم. والظهير المظاهر أي المعاون أي هذا الجنس يظاهر الشيطان على ربه بالشرك والعداوة. والمظاهرة على الرب هي المظاهرة على رسوله أو على دينه، ويجوز أن يكون الظهير جمعا كقوله: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] والمعنى أن بعض الكفرة مظاهر لبعض على إطفاء نور دين الله جل وعلا. وقال أبو مسلم: هو من قولهم «ظهر فلان بحاجتي» . إذا نبذها وراء ظهره. والمراد أن الكافر وكفره هين على ربه غير ملتفت إليه. قوله: وَما أَرْسَلْناكَ إلى قوله سَبِيلًا وجه تعلقه بما قبله أن الكفار يطلبون العون على الله وعلى رسوله ولا أجهل ممن استفرغ جهده في إيذاء من يبذل وسعه في إصلاح مهماته دينا ودنيا حتى يبشرهم على الطاعة وينذرهم على المعصية ولا يسألهم على ذلك أجرا إلا أن يشاؤا التقرب بالإنفاق في الجهاد وغيره فيتخذوا به سبيلا إلى رحمة ربهم ونيل ثوابه. ومعنى الاستثناء عن الأجر والتقدير إلا فعل من شاء هو معنى قولك لمن سعيت له في تحصيل مال ما أطلب منك ثوابا على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه، فيكون في تسمية حفظ المال ثوابا. فائدتان: إحداهما قلع شبهة الطمع في شيء من الثواب، والثانية إظهار الشفقة وأنه إن حفظ ماله رضي الساعي به كما يرضى المثاب بالثواب هذا ما قاله جار الله. وقال القاضي: معناه لا أسألكم أجرا لنفسي وأسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم بالإيمان والطاعة. ولما بين أن الكفار متظاهرون على إيذائه وأمره أن لا يطلب منهم أجرا البتة أمره بأن يتوكل عليه في دفع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 المضارّ وجلب المنافع ويتمسك بقاعدة التنزيه والتحميد. وفي وصفه ذاته بالحي الذي لا يموت إشارة إلى أن الذي يوثق به في المصالح يجب أن يكون موصوفا بهذه الصفة وليس إلا الله وحده. وعن بعض السلف أنه قرأها فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق وإلا صار ضائعا إذا مات ذلك المخلوق. ثم ختم الآية بما لا مزيد عليه في الوعيد أي لا يحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مجازاتهم. ومعنى كفى به أي حسبك وهذه كلمة يراد بها المبالغة كقولك «كفى بالعلم جمالا وكفى بالأدب مالا» . ثم زاد لعلمه وقدرته مبالغة وبيانا فقال: الَّذِي خَلَقَ إلخ. وقد سبق تفسيره في «الأعراف» وأما قوله فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ففيه وجوه. قال الكلبي: الضمير في بِهِ يعود إلى ما ذكر من خلق السماء والأرض والاستواء على العرش. والباء من صلة الخبير قدمت لرعاية الفاصلة وذلك الخبير هو الله عز وجل لأن كيفية ذلك الخلق والاستواء لا يعلمها إلا الله سبحانه. وعن ابن عباس أن ذلك الخبير هو جبرائيل. وقال الأخفش والزجاج: الباء بمعنى «عن» فسأل به مثل «اهتم به» واشتغل به وسأل عنه كقولك «بحث عنه وفتش عنه» . قال تعالى سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج: 1] . وقال ابن جرير: الباء زائدة والمعنى فاسأله حال كونه عالما بكل شيء. وجوز جار الله أن تكون الباء تجريدية كقولك «رأيت به أسدا» أي برؤيته. والمراد فاسأل بسؤاله خبيرا أي إن سألته وجدته عالما به. وقيل: الباء للقسم ولعل الوجه الأول أقرب إلى المراد نظيره وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14] . ثم أخبر عن قوم أنهم قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ والواو عاطفة وقعت في كلام فحكي كما هو فاحتمل أنهم جهلوا الله سبحانه، واحتمل أنهم عرفوه لكن جحدوه، واحتمل أنهم عرفوه بغير هذا الاسم فلهذا سألوا عنه، ومن هنا ذهب بعضهم إلى تفسير آخر لقوله فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً وهو أن الرحمن اسم من أسماء الله تعالى مذكور في الكتب المتقدمة ولم يكونوا يعرفونه فقيل: فاسأل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب حتى يعرف من ينكره وكانوا يقولون: ما نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة يعنون مسيلمة. قال القاضي: والأقرب أن المراد إنكارهم لله لا للاسم لأن هذه اللفظة عربية وهم يعلمون أنها تفيد المبالغة في «الأنعام» . ثم إن قلنا: إنهم كانوا منكرين لله فالسؤال عن الحقيقة كقول فرعون وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 23] وإن قلنا: إنهم كانوا مقرين لكنهم جهلوا أنه تعالى سمي بهذا الاسم فالسؤال عن الاسم. ومعنى لِما تَأْمُرُنا للذي تأمرنا بمعنى تأمرنا بسجوده مثل «أمرتك الخير» فاتسع أولا ثم حذف ثانيا. ويجوز أن تكون «ما» مصدرية أي لأمرك لنا ومن قرأ على الغيبة فالضمير لمحمد أو للمسمى بالرحمن كأنهم قالوا هذا القول فيما بينهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 والضمير في زادَهُمْ للمقول وهو اسجدوا للرحمن أي وزادهم أمره نُفُوراً ومن حقه أن يكون باعثا على الفعل والقبول. قال الضحاك: لما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين، فمعنى الآية وزادهم سجودهم نفورا. ومن السنة أن يقول الساجد والقارئ إذا بلغ هذا الموضع زادنا الله خضوعا ما زاد للأعداء نفورا. ثم ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود للرحمن فقال تَبارَكَ إلخ. فالبروج هي الأقسام الاثنا عشر للفلك وأساميها مشهورة: الحمل والثور والجوزاء إلخ. شبهت بالقصور العالية. واشتقاق البروج لظهوره والسراج الشمس. ومن جمع أراد الشمس والكواكب الكبار والخلفة للهيئة من الخلافة يريد الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كل واحد منهما الآخر أي جعلهما ذوي خلفة يعقب هذا ذاك وذاك هذا ومثله قوله وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [البقرة: 164] في أحد تفاسيره. وعن ابن عباس جعل كل واحد منهما يخلف صاحبه فيما يحتاج أن يعمل، فمن فاته شيء من وظائف العبادة في أحدهما قضاه في الآخر. وعن مجاهد وقتادة والكسائي يقال لكل مختلفين «هما خلفتان» فالمعنى أن أحدهما أسود والآخر أبيض أو هذا طويل وهذا قصير. ثم بين أن هذه النعمة سبب للتذكر لمن أراد ذلك أو للشكر لمن أراده. أما التذكر فلدلالة الانتقال والتغير على الناقل والمغير، وأما الشكر فلأن الليل سبب الراحة والسكون والنهار سبب لسهولة التصرف في المعايش. قال بعضهم: معنى «أو» الفاصلة أنه إن كان كافرا تذكر وإن كان مؤمنا شكر. وقيل: أراد ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين من فاته في أحدهما ورده من العبادة قام به في الآخر. والشكور مصدر كالكفور. ثم أراد أن يختم السورة بوصف عباده المخلصين فقال وَعِبادُ الرَّحْمنِ وهو مبتدأ خبره في آخر السورة أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ أو خبره الَّذِينَ يَمْشُونَ والإضافة إلى الرحمن للتخصيص والتشريف. وقرىء وَعِبادُ جمع عابد وصف سيرتهم مع الخلق بالنهار أوّلا، ثم وصف معاملتهم مع الحق بالليل ثانيا، ثم قسم الوصف الأول إلى نوعين: أحدهما ترك الإيذاء وهو المراد بقوله الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً مصدر وضع للمبالغة موضع الحال أو الصفة للمشي بمعنى هينين أو مشيا هينا والمعنى أنهم يمشون بسكينة ووقار وتواضع لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا، ولذلك كره بعضهم الركوب في الأسواق والمشي في الأسواق دون الركوب سيرة المرسلين قال عز من قائل وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: 20] وثانيهما تحمل الإيذاء وإليه الإشارة بقوله وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ يعني السفهاء وقليلي الأدب قالُوا سَلاماً يعني سلام توديع ومتاركة كسلام إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين قال لأبيه سَلامٌ عَلَيْكَ [مريم: 47] ولا نسخ في الآية على ما زعم الكلبي وأبو العالية من أنها نسخت بآية القتال، فإن الإغضاء عن السفهاء وترك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 مقابلتهم بسوء الأدب مستحسن عقلا وشرعا، والبيتوتة هي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم، وصفهم بإحياء الليل أو أكثره. وقوله لِرَبِّهِمْ إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده أي يبيتون لله على أقدامهم ويفرشون خدودهم ويعفرون جباههم. وقيل: من قرأ شيئا من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجدا وقائما. وقيل: هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء قاله ابن عباس. ثم وصفهم بأنهم يقولون في سجودهم وقيامهم رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا الآية. وقال الحسن: خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل خوفا من عذاب جهنم. وقوله: غَراماً أي هلاكا وخسرانا ملحا لازما ومنه الغريم لإلحاحه وإلزامه، وفلان مغرم بالنساء إذا كان مولعا بهن. وسأل ابن عباس نافع بن الأزرق عن الغرام فقال: هو الموجع. وعن محمد بن كعب في غَراماً إنه سأل الكفار عن نعمه فما أدّوها إليه فأغرمهم فأدخلهم النار. وساءَتْ إما بمعنى أحزنت وفيها ضمير اسم إن ومستقر حال أو تمييز، وإما بمعنى بئست وفيها ضمير مبهم يفسره مُسْتَقَرًّا والمخصوص بالذم وهو الرابط أيضا محذوف أي ساءت مستقرا ومقاما هي. والظاهر أن الجملتين من قول الداعين. وجوز جار الله أن يكون من كلام الله، والتعليلان يصح أن يكونا متداخلين بأن يكون قوله إِنَّها ساءَتْ تعليلا لقوله إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً وأن يكونا مترادفين كل منهما تعليل لقوله: رَبَّنَا اصْرِفْ قال المتكلمون: التعليل الأول إشارة إلى أن عقاب أهل النار مضرة خالصة، والتعليل الثاني إشارة إلى كونها دائمة وقد يفرق بين المستقر والمقام بأن المستقر للعصاة من أهل الإيمان والمقام للكفار الذين لا خلاص لهم منها. ثم وصفهم بالتوسط في الإنفاق والقتر. والإقتار التضييق نقيض الإسراف، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ولا يلبسون ثيابا للجمال والزينة، ولكن ما يسد جوعتهم ويستر عورتهم ويكنهم من الحر والقر. عن عمر: كفى شرها أن لا يشتهي رجل شيئا إلا اشتراه فأكله. ثم بالغ في نسبة إنفاقهم إلى الاعتدال بقوله وَكانَ أي الإنفاق بَيْنَ ذلِكَ قَواماً والمنصوبان يجوز أن يكونا خبرين وأن يكون الظرف خبرا وقَواماً حالا مؤكدة. وقال في الكشاف: يجوز أن يجعل بين ذلك لغوا وقواما مستقرا. ولعل معناه أنه يقوم مقام لفظ المستقر إذا كان متعلقا به في قولك الإنفاق بين ذلك. وقد ذكر مثله في أول «الشعراء» في قوله إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ [الشعراء: 15] والقوام العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء. وقرىء بكسر القاف وهو ما يقام به الحاجة لا يفضل ولا ينقص. وأجاز الفراء أن يكون بَيْنَ ذلِكَ اسم كانَ على أنه مبني لإضافته إلى غير متمكن كما يقال: كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 دون هذا كافيا يريد أقل من ذلك، فيكون المعنى وكان الوسط بين ذلك قواما. وضعفه في الكشاف بأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة. وأقول: إذا أريد بالقوام حاق الوسط وبقوله بَيْنَ ذلِكَ أعم منه لم يلزم التكرار. وعن ابن مسعود قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك. فأنزل الله عز وجل تصديقه وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ إلى قوله وَلا يَزْنُونَ قال جار الله: نفى هذه الأمور الشنيعة عن الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين تعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم كأنه قيل: والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه. وقيل: إن الموصوف بالصفات المذكورة قد يرتكب هذه الأمور تدينا فبين الله تعالى أن المكلف لا يصير بتلك الخلال وحدها من عباد الرحمن حتى ينضاف إلى ذلك كونه مجانبا لهذه الكبائر، والقتل بغير حق يشمل الوأد وغيره كما مر في سبب النزول وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي المذكور فترك المأمورات أو ارتكب المنهيات. والأثام جزاء الإثم بوزن الوبال والنكال ومعناهما. وقيل: هو الإثم والمضاف محذوف أي يلق جزاء الإثم، وقرأ ابن مسعود أياما بتشديد الياء التحتانية يعني أيام الشدة. ومعنى مضاعفة العذاب لمن ارتكب مخالفة المذكورات أن يعذب على الشرك وعلى المعاصي الأخر جميعا. هذا عند من يرى تعذيب الكفار بفروع الشرائع، والمخالف يدعي أن المشار إليه بقوله ذلِكَ هو قوله وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ قال القاضي: قوله وَيَخْلُدْ فِيهِ أي في ذلك التضعيف أو المضعف ففيه دليل على أن حال الزيادة كحال الأصل في الدوام فيكون عقاب المعصية دائما، وإذا كان كذلك في حق الكافر لزم أن يكون كذلك في حق المؤمن. وأجيب بأن الشيئين قد يكون كل واحد منهما قبيحا ويكون الجمع بينهما أقبح فلا يلزم أن يكون للانفراد حكم الاجتماع. وفي قوله وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إشارة إلى أن العقاب هو المضرة الخالصة الدائمة المقرونة بالإذلال والإهانة كما أن الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال والتعظيم. وقوله إِلَّا مَنْ تابَ لا يفهم منه إلا أن التائب لا يضاعف له العذاب ولا يلزم منه أن يكون مثابا فلذلك قال: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة أن هذا التبديل إنما يكون في الدنيا فيبدلهم بالشرك إيمانا، وبقتل المسلمين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصانا، يبشرهم الله تعالى بأنه يوفقهم لهذه الأعمال الصالحة إذا تابوا وآمنوا وعملوا سائر الأعمال الصالحة. وإنما أفرد التوبة والإيمان بالذكر أوّلا لعلو شأنهما. وقال الزجاج: السيئة بعينها لا تصير حسنة ولكن السيئة تمحى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 بالتوبة، وتكتب الحسنة مع التوبة، والكافر يحبط الله عمله ويثبت عليه السيئات. وذهب سعيد بن المسيب ومكحول إلى ظاهر الآية وهو أنه تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة، وأكدوا هذا الظاهر بما روي عن أبي هريرة مرفوعا «ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات» . وقال القاضي والقفال: إنه تعالى يبدل بالعقاب الثواب فذكر السبب وأراد المسبب. ثم عمم الحكم فذكر أن جميع الذنوب بمنزلة الخصال المذكورة أي ومن يترك المعاصي كلها ويندم عليها وأتى بالعمل الصالح فإنه بذلك تائب إلى الله عز وجل متابا مرضيا مكفرا للخطايا. ويجوز أن ترجع الفائدة إلى تخصيص اسم الله أي فإنه تائب متابا إلى الله الذي هو المفيض لكل الخيرات يعرف حق التائبين ويفعل بهم ما يليق بكرمه، ويحتمل أن ترجع الفائدة إلى تنكير متابا. والمتاب المرجع أي يرجع إلى الله مرجعا حسنا أي مرجع، وقيل: هو وعد للتائبين المخلصين فيما مضى بأنه سيوفقهم للتوبة في المستقبل. ثم وصفهم بأنهم لا يشهدون الزور. فإن كان من الشهادة فالمضاف محذوف أي لا يشهدون شهادة الزور، وإن كان من الشهود الحضور فللمفسرين أقوال: فعن قتادة: هي مجالس الباطل. وعن أبي حنيفة: اللهو والغناء. وعن مجاهد: أعياد المشركين. وعن ابن عباس: هي المجالس التي يقال فيها الزور والكذب على الله تعالى وعلى رسوله. والتحقيق أنه يدخل فيه حضور كل موضع يجري فيه ما لا ينبغي كمحاضر الكذابين ومجالس الخطائين وكالنظارة إلى ما لم تسوغه الشريعة، لأن الحضور والنظر إلى تلك المجالس دليل الإهانة وبعث لفاعله عليه لا زجر له عنه. وفي مواعظ عيسى بن مريم «إياكم ومجالسة الخطائين» وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ وهو كل ما ينبغي أن يلغي ويطرح مَرُّوا كِراماً مكرمين أنفسهم عن الخوض فيه مع المشتغلين به. وأصل الكلمة من قولهم «ناقة كريمة» إذا كانت لا تبالي بما يحلب منها للغزارة، فاستعير للصفح عن الذنب. ويقال: تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عن ذلك. وقيل: إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا. وقيل: إذا ذكروا النكاح كفوا عنه. قال جار الله: قوله لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها ليس نفيا للخرور ولكنه إثبات له ونفي للصمم والعمى كما تقول: لا يلقاني زيد مسلما هو نفي للسلام لا للقاء. والمراد أنهم إذا ذكروا بآيات الله أي وعظوا بها ونبهوا حرصوا على استماعها بآذان واعية وعيون باكية لا كالمنافقين الذين يظهرون الحرص الشديد على استماعها وهم كالصم والعميان لا يعونها ولا يبصرون ما فيها فهم متساقطون عليها غير منتفعين بها. قوله مِنْ أَزْواجِنا «من» للبيان وتسمى في علم البيان تجريدية كأنه قيل: هب لنا قرة أعين، ثم فسرت القرة بالأزواج والذرية كقولهم «رأيت منك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 أسدا» أي أنت أسد. ويجوز أن تكون ابتدائية على معنى هب لنا من جهتهم ما تقر به عيوننا لا في الأمور الدنيوية من الجاه والمال والجمال بل في الأمور الأخروية من الطاعة والصلاح. عن محمد بن كعب: ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله. وعن ابن عباس: هو الولد إذا رآه يكتب الفقه. وقيل: سألوا أن يلحق الله عز وجل بهم أولادهم وأزواجهم في الجنة ليتم لهم سرورهم. وتنكير أعين إما لأنه أراد أعينا مخصوصة هي أعين المتقين ولهذا اختير جمع القلة لأن أعين المتقين قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] وإما لأجل تنكير القرة فإن المضاف لا سبيل إلى تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه أي هب لنا منهم سرورا وفرحا. قال الزجاج: يقال أقر الله عينك أي صادف فؤادك ما يحبه. وقال المفضل: في قرة العين ثلاثة أقوال أحدها: برد دمعها لأنه دليل السرور والضحك كما أن حره دليل الحزن والغم. والثاني قرتها أن تكون مع فراغ الخاطر وذهاب الحزن. والثالث حصول الرضا. وقوله إِماماً في معنى الجمع اكتفى به لدلالته على الجنس ولعدم اللبس كما قال: يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر: 67] أو أريد كل واحد منا أو اجعلنا إماما واحدا لاتحاد كلمتنا، أو هو جمع آمّ كصائم وصيام وصاحب وصحاب. وقيل: في الآية دلالة على أن الرياسة يجب أن تطلب ويرغب فيها والأقرب أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ويقتدى بهم. ومن هنا فسره القفال بأن المراد اجعلنا حجة للمتقين. قالت الاشاعرة: الإمامة في الدين لا تكون إلا بالعلم والعمل فدل ذلك على أن العلم والعمل بل جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. وقالت المعتزلة: إنهم سألوا من الألطاف ما بها يختارون أفعال الخير إلى أن يصيروا أئمة. وأجيب بأن تلك الألطاف مفعولة لا محالة فيكون سؤالها عبثا. ثم بين جزاء عبادة العباد بقوله أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ أي الغرفات وهي العلاليّ في الجنة فوحد اكتفاء بالجنس. وقيل: الغرفة اسم للجنة. وقوله بِما صَبَرُوا أي بصبرهم على الطاعات وعن الشهوات أو على أذى الكفار وضر الفقر وغير ذلك ولهذا أطلق إطلاقا ليشمل كل مصبور عليه. ثم بين بقوله وَيُلَقَّوْنَ أن تلك المنافع مقرونة بالتعظيم والتحية والدعاء بالتعمير، والسلام دعاء بالسلامة من الآفات وهما من الملائكة أو من الله أو من بعضهم لبعض. ثم ذكر أنه غني عن طاعة الكل وأنه إنما كلفهم لينتفعوا بذلك. قال الخليل: ما أعبأ بفلان أي ما أصنع به كأنه يستقله ويستحقره ويدعي أن وجوده وعدمه سواء. وقال الزجاج: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي يريد أيّ وزن يكون لكم عنده؟ والعبء الثقل، و «ما» استفهامية أو نافية، والدعاء إما مضاف إلى المفعول أي لولا دعاؤه إياكم إلى الدين والطاعة، وإما إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 الفاعل أي لولا إيمانكم أو لولا عبادتكم أو لولا دعاؤكم إياه في الشدائد كقوله فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ [العنكبوت: 65] أو لولا شكركم له على إحسانه كقوله ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ [النساء: 147] أو ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهة، أو ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم أو تستغفروني فأغفر لكم. قوله: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أي إذا أعلمتكم أني لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي. فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً وهو عقاب الآخرة نظيره قول الملك لمن استعصى عليه: إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني فقد عصيت فسوف ترى عقوبتي. والخطاب لجنس الإنس وإذا وجد في جنسهم التكذيب فقد صح الخطاب، والأوجه أن يترك اسم «كان» غير منطوق به ليذهب الوهم كل مذهب من أنواع الإيعاد. وقيل: يكون العقاب لزاما. وعن مجاهد: هو القتل يوم بدر وقد لوزم إذ ذاك بين القتلى لزاما والله تعالى أعلم. التأويل: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فيه كمال القدرة وإن أمر النبوة ليس يتعلق بالقربات والمزاجات بل بمحض المشيئة الأزلية. ويروى أن موسى عليه السلام سئم الرسالة وتبرم في بعض الأيام فأوحى الله تعالى: في ليلة واحدة إلى ألف من بني إسرائيل فأصبحوا أنبياء، فضاق قلب موسى وغار وقال: يا رب إني لا أطيق ذلك. فقبض الله أرواحهم في ذلك اليوم. وفيه كمال الحكمة فإن العزة في القلة ومنه تظهر فائدة الخاتمة وعموم رسالته، وفيه تأديب الخواص وعصمتهم عن رؤية الأعمال. فلا تطع كفار النفس وسائر القوى البدنية وَجاهِدْهُمْ بهذا الخلاق جِهاداً كَبِيراً لا تواسيهم بالرخص ولكن يحملهم على العزائم وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ بحر الروح وبحر النفس هذا عَذْبٌ فُراتٌ من الأخلاق الحميدة الربانية وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ من الصفات الذميمة الحيوانية. والبرزخ هو القلب. وفائدة مرج الأجاج هو احتياج الإنسان إلى الأخلاق الذميمة لدفع المضرات الدنيوية والأخروية في مقامها. وحرام على الروح أن تكون منشأ الأخلاق الذميمة، وعلى النفس أن تكون معدن الأخلاق الحميدة فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أهل النسب هم الذين صحت نسبتهم إلى عالم الأمر وهو قوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: 72] وأهل الصهر هم الذين بقوا في عالم الخلق واختلطوا بالصفات البشرية من الحرص والشهوة والغضب، وأشار إلى هذا الصنف بقوله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [يونس: 18] الآية وكان كافر النفس على ربه ظهيرا في إظهار صفة قهره لأنه مظهرها وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً لأهل النسب وَنَذِيراً لأهل الصهر إلا من شاء إلا أجر من شاء أن يتوسل إلى الرب بطاعته إياي وبخدمته لي. ومن هاهنا قال المشايخ: يصل المريد بالطاعة إلى الجنة وبتعظيم الشيخ وإجلاله إلى الله. وَتَوَكَّلْ أصل التوكل أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 يعلم العبد أن الحادثات بأسرها مستندة إلى تكوين الله وتخليقه وهذا القدر من أصول الإيمان وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 23] وما زاد على هذا القدر من سكون القلب وزوال الانزعاج والاضطراب فإنه مقام أرباب الأحوال وأصحاب الكمال. وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي بما حمد به نفسه كقوله «أنت كما أثنيت على نفسك» «1» والقديم لا يليق به إلا الحمد القديم وَزادَهُمْ نُفُوراً لأن الرحمن أقبل عليهم بقهره ولو كان أقبل عليهم بلطفه لخضعوا واستكانوا. تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ في سماء القلوب بروج المنازل والمقامات وهي اثنا عشر: التوبة والزهد والخوف والرجاء والتوكل والصبر والشكر واليقين والإخلاص والتسليم والتفويض والرضا وهي منازل الأحوال السيارة شمس التجلي وقمر المشاهدة وزهرة الشوق ومشتري المحبة وعطارد الكشوف ومريخ الفناء وزحل البقاء. وهو الذي جعل ليل السر ونهار التجلي خلفة رعاية لحقوق القلب وحظوظ النفس، إن أراد أن يتعظ عند السر أو أراد شكورا عند التجلي وَعِبادُ الرَّحْمنِ دون الشيطان والدنيا والهوى والنفس يمشون في أرض الوجود عند السير إلى الله هونا لئلا يتأذى بإثارة غبار صفات بشريتهم أحد وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ وهم كل ما سوى الله من الدنيا والآخرة وما فيهما من اللذة والنعيم قالُوا سَلاماً سلام مودّع وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ لا لحظ أنفسهم في الرواح ساجدون وفي الصباح واجدون. وأحسن الأشياء ظاهر بالسجود وباطن في الوجود مزين، ومع هذه الأحوال والمقامات يقفون في موقف الاعتذار والتذلل قائلين رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ القطيعة والبعد إذا أفنوا وجودهم في ذات الله وصفاته لم يبالغوا في الرياضة إلى حد تلف البدن وَلَمْ يَقْتُرُوا في بذل الوجود بالركون إلى الشهوات لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ بأن لا يرفعوا حوائجهم إلى الأغيار، ولا يشوبون أعمالهم بالرياء والسمعة ولا يحبون مع الله غيره وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها بكثرة المجاهدة إلا بسطوات تجلي صفات الحق في مثل هذا القتل حياة أبدية وَلا يَزْنُونَ بالتصرف في عجوز الدنيا بغير إذن الله يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ وهو عذاب النيران وعذاب الحرمان عن نعيم الجنان ومن قرب الرحمن إِلَّا مَنْ تابَ من عبادة الدنيا وهوى النفس. وَآمَنَ بكرامات الأولياء ومقامات الأصفياء وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً هو الإعراض عن غير الله وهو الإكسير الأعظم الذي لو طرح ذرة منه على ملء الأرض سيئة يبدلها إبريز الحسنات. وَمَنْ تابَ   (1) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 222. أبو داود في كتاب الصلاة باب 148. النسائي في كتاب قيام الليل باب 51. الترمذي في كتاب الدعوات باب 75. ابن ماجة في كتاب الدعاء باب 3. الموطأ في كتاب مسّ القرآن حديث 31. أحمد في مسنده (1/ 96، 118) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 رجع عن إنانيته إلى هوية الحق وَعَمِلَ صالِحاً بالدوام على هذه الحالة فَإِنَّهُ يَتُوبُ يرجع إِلَى اللَّهِ مَتاباً لا مزيد عليه وهو جذبة ارْجِعِي [الفجر: 28] وحينئذ لا يشهد الزور أي لا يساكن غير الحق. وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ وهو ما سوى الحق لا يلتفت إليه. وإذا ذكر بآيات ربه تأمل فيها حق التأمل ودعا الله بأن يهب له من ازدواج الروح والجسد ومتولداتهما من القلب والنفس وملكات الأعمال الصالحة ما تقر به عين القلب وعين السر وعين الروح أي يتنور بنورها، ويصير إذ ذاك مقتدى للمتقين لمتقي الجسد من مخالفات الشريعة، ولمتقي النفس من الأوصاف الذميمة، ولمتقي الروح عما سوى الله، فيجزى الغرفة في مقام العندية بما صبر في البداية على التكاليف الشرعية، وفي الوسط على تبديل الأخلاق الحميدة بالذميمة، وفي النهاية بإفناء الوجود. ثم أخبر عن استغنائه عن وجود الخلق وعدمهم لولا دعاؤهم إياه بلسان الحاجة في حس العدم، أو لولا دعاؤه إياهم في الأزل بلسان القدرة فَقَدْ كَذَّبْتُمْ حين ادعيتم الغنى عن الصانع فَسَوْفَ يَكُونُ خسران السعادة الأبدية لازما لكم أعاذنا الله منه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 (سورة الشعراء) (مكية إلا قوله والشعراء إلى آخرها حروفها 4542 كلمها 1299 آياتها مائتان وسبع وعشرون) [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 68] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 القراآت: طسم وما بعده بالإمالة: حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد. وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب، وقرأ حمزة ويزيد مظهرة النون عند الميم إِنِّي أَخافُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ويضيق ولا ينطلق بالنصب فيهما: يعقوب. أَرْجِهْ مثل ما في «الأعراف» اين لنا بالمد وبالياء. يزيد وأبو عمرو وزيد وقالون. وقرأ ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد بهمزة ثم ياء، وعن قنبل إِنَّ لَنا على الخبر. الباقون بهمزتين. هشام يدخل بينهما مدة. آمَنْتُمْ بالمد: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وسهل ويعقوب آمَنْتُمْ على الخير: حفص غير الخزاز. الآخرون أأمنتم بهمزتين. بِعِبادِي إِنَّكُمْ بفتح الياء: نافع وأبو جعفر حاذِرُونَ بالألف: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. الباقون بغير الألف فَأَتْبَعُوهُمْ بالتشديد: زيد عن يعقوب. الباقون بقطع الهمزة وسكون التاء تراءى الجمعان بكسر الراء والهمزة في الوصل: حمزة ونصير وهبيرة في طريق الخزاز. واختلفوا في الوقف فعن الكسائي بكسر الراء والهمزة على وزن «تريعى» وفي رواية أخرى عنه «ترائى» أي تراعى، والمشهور عنه «ترأ» بكسر الراء وفتح الهمزة، وأما حمزة فإنه يقف «ترى» بترك الهمزة وكسر الراء ويمد ويشير إلى موضع الهمزة وهو المصدر. وأما هبيرة فإنه يقف «تريا» بكسر الراء ويشير إلى فتح الهمزة. الباقون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 يقفون «تراءى» على وزن «تراعى» مَعِي رَبِّي بفتح الياء: حفص. الوقوف: طسم هـ الْمُبِينِ هـ مُؤْمِنِينَ هـ خاضِعِينَ هـ مُعْرِضِينَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ كَرِيمٍ هـ لَآيَةً ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ الظَّالِمِينَ هـ لا للابدال أو البيان تسجيلا عليهم بالظلم فِرْعَوْنَ ط للعدول عن الأمر إلى الاستفهام يَتَّقُونَ هـ يُكَذِّبُونِ هـ لمن قرأ وَيَضِيقُ بالرفع على الاستئناف هارُونَ ط يَقْتُلُونِ هـ قالَ كَلَّا لا للعطف معنى لا لفظا مُسْتَمِعُونَ هْ عالَمِينَ هـ لا لتعلق «أن» بَنِي إِسْرائِيلَ ط سِنِينَ هـ الْكافِرِينَ هـ الضَّالِّينَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ إِسْرائِيلَ ط الْعالَمِينَ هـ وَما بَيْنَهُمَا ط لأن جواب الشرط محذوف أي إن كنتم موقنين فلا تكذبوني مُوقِنِينَ هـ تَسْتَمِعُونَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ لَمَجْنُونٌ هـ وَما بَيْنَهُما ط تَعْقِلُونَ هـ الْمَسْجُونِينَ هـ مُبِينٍ هـ الصَّادِقِينَ هـ مُبِينٌ هـ ج للآية مع العطف لِلنَّاظِرِينَ هـ عَلِيمٌ هـ لا لأن ما بعده صفة بِسِحْرِهِ ق قد قيل: بناء على أن ما بعده قول الملأ لفرعون والجمع للتعظيم، والأصح أنه من تتمة قول فرعون. تَأْمُرُونَ هـ حاشِرِينَ هـ لا لأن ما يتلوه جواب. عَلِيمٍ هـ مَعْلُومٍ هـ لا للعطف مُجْتَمِعُونَ لا لاتصال المعنى الْغالِبِينَ هـ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ هـ مُلْقُونَ هـ الْغالِبُونَ هـ ما يَأْفِكُونَ هـ للآية وللدلالة على إسراعهم في السجود ساجِدِينَ هـ الْعالَمِينَ هـ وَهارُونَ ط لَكُمْ هـ لَكُمْ هـ للابتداء بأن مع اتحاد القول السِّحْرَ ط للفاء ولام الابتداء فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ هـ لتقدير القسم أَجْمَعِينَ هـ لا ضَيْرَ ط توقية لحق «إن» وإلا فالأصل هو الوصل لأن ما بعده هو القول في الحقيقة كما في «الأعراف» مُنْقَلِبُونَ هـ ج للآية مع اتحاد المقول الْمُؤْمِنِينَ هـ مُتَّبَعُونَ هـ حاشِرِينَ هـ للآية مع أن التقدير بأن هؤلاء قَلِيلُونَ هـ لَغائِظُونَ هـ حاذِرُونَ هـ ط لابتداء الخبر من الله وَعُيُونٍ هـ لا كَرِيمٍ هـ لا لتعلق الكاف كَذلِكَ ط أي كما وعدنا بني إسرائيل إيراثها ثم أخبر عن وقوع الموعود لبني إسرائيل مُشْرِقِينَ هـ لَمُدْرَكُونَ هـ ووجه الوصل الإسراع في تداركهم عن خوف الإدراك كَلَّا ج لاحتمال أن يكون للردع وأن يكون بمعنى حقا سَيَهْدِينِ هـ الْبَحْرَ ط لأجل الفاء الفصيحة أي فضرب فانفلق الْعَظِيمِ هـ الْآخَرِينَ هـ أَجْمَعِينَ هـ الْآخَرِينَ هـ الآية ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ. التفسير: قال جار الله: معنى طسم إن آيات هذا المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين وقد مر مثله في أول «يوسف» . والبخع الإهلاك وقد مر في أول «الكهف» . عزاه وعرفه أن غمه وحزنه لا ينفع كما أن وجود الكتاب على بيانه ووضوحه لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 ينفع. ثم بين أنه قادر على تنزيل آية ملجئة إلى الإيمان ولكن المشيئة والحكمة تقتضيان بناء الأمر على صورة الاختبار. قال صاحب الكشاف: وجه عطف فَظَلَّتْ على نُنَزِّلْ كما قيل في قوله فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقون: 10] كأنه قيل: أنزلنا فظلت. وأقول: الظاهر أن الفاء في فَظَلَّتْ للسببية بدليل عدم المستتر فيه كما في نُنَزِّلْ. ووجه العدول إلى الماضي كما قيل في وَنادى [الأعراف: 48] وَسِيقَ [الزمر: 73] وجه مجيء خاضِعِينَ خبرا عن الأعناق إذ الأعناق تكون مقحما لبيان موضع الخضوع. وأصل الكلام: فظلوا لها خاضعين أي حين وصفت الأعناق بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل خاضِعِينَ كقوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] وقيل: أعناقهم رؤساؤهم كما يقال لهم الرؤوس والصدور. وقيل: أراد جماعاتهم. يقال: جاءنا عنق من الناس لفوج منهم. عن ابن عباس: نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية. قال: ستكون لنا عليهم الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوان بعد عزة. ومعنى ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ قد مر في سورة الأنبياء. نبه سبحانه بذلك على أنه مع اقتداره على أن يجعلهم ملجئين إلى الإيمان حكيم يأتيهم بالقرآن حالا بعد حال رعاية لقاعدة التكليف. ثم ذكر أنه تعالى لا يحدد لهم توجيه موعظة وتذكير إلا جددوا ما هو نقيض المقصود، وذلك النقيض هو الإعراض والتكذيب والاستهزاء وهذا ترتيب في غاية الحسن كأنه قيل حين أعرضوا عن الذكر: فقد كذبوا به وحين كذبوا به فقد خف عندهم قدره حتى صار عرضة للاستهزاء. وهذه درجات من أخذ في الشقاء فإنه يعرض أوّلا، ثم يصرح بالتكذيب ثانيا، ثم يبلغ في التكذيب والإنكار إلى حيث يستهزىء. وفي قوله فَسَيَأْتِيهِمْ وعيد لهم بعذاب بدر أو يوم القيامة وقد مر مثله في أول «الأنعام» . ثم بين أنه مع حكمته في إنزال القرآن حالا بعد حال رحيم يظهر من الدلائل الحسية ما يكفي للمتأمل في باب النظر والاستدلال. والزوج الصنف والكريم نعت لكل ما يرضى ويحمد في بابه منه «وجه كريم» إذا رضي في حسنه وجماله، و «كتاب كريم» مرضي في مبانيه، «ونبات كريم» مرضي فيما يتعلق به من المنافع، فما من نبت إلا وفيه نفع وفائدة من جهة وإن كانت فيه مضرة من جهة أخرى. ويحتمل أن يراد بالكريم النافع منه وتكون المضارّ مسلوبة عنه. قال جار الله: معنى الجمع بين «كم» و «كل» دون أن يقول «كم أنبتنا فيها من زوج كريم» هو أن «كلا» قد دل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، و «كم» دل على أن هذا محيط مفرط الكثرة. قلت: فالحاصل أن خلق النوع يصدق بخلق فرد واحد منه كما يصدق بخلق أفراد كثيرة. فقوله كُلِّ زَوْجٍ إشارة إلى خلق كل نوع من أنواع النبات، وقوله كَمْ أَنْبَتْنا إشارة إلى كثرة أفراد كل نوع منه وفيه تنبيه على كمال القدرة ونهاية الجود والرحمة ولهذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 ختم الكلام بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ الإنبات أو في كل واحد من تلك الأزواج لَآيَةً على الإبداء والإعادة وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ لأن الله تعالى طبع على قلوبهم وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فمن عزته قدر على عقوبتهم ومن رحمته بين لهم الدلائل ليتفكروا ويعتبروا، والرحمة إذا صدرت عن القدرة كانت أعظم موقعا. واعلم أنه سبحانه كرر بعض الآيات في هذه السورة لأجل التأكيد و «التقرير» فمن ذلك أنه كرر قوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إلى قوله الرَّحِيمُ في ثمانية مواضع: أولها في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية في قصة موسى، ثم إبراهيم، ثم نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم لوط، ثم شعيب. ومن ذلك قوله أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ وهو مذكور في خمسة مواضع: في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. ومن ذلك أنه كرر فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ في قصة نوح وهود وصالح وليس في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 109] لذكرها في مواضع من غير هذه السورة. وليس في قصة موسى لأنه رباه فرعون حيث قال أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً ولا في قصة إبراهيم لأن أباه في المخاطبين حيث يقول: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ [الأنبياء: 52] وهو قد ربّاه فاستحيا موسى وإبراهيم أن يقولا وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وإن كانا منزهين من طلب الأجر. ثم إنه تعالى أعاد في هذه السورة قصص الأنبياء المشهورين مع أممهم اعتبارا لهذه الأمة، وبدأ بقصة موسى لما فيها من غرائب الأحوال وعجائب الأمور. والنداء المسموع عند الأشعري هو الكلام القديم الذي لا يشبه الحروف والأصوات، وعند المعتزلة وإليه ميل أبي منصور الماتريدي أنه من جنس الحروف والأصوات وأنه وقع على وجه علم به موسى أنه من قبل الله تعالى وقد عرفه أنه سيظهر عليه المعجزات إذا طولب بذلك. قال جار الله: قوله أَلا يَتَّقُونَ كلام مستأنف فيه تعجيب لموسى من حالهم الشنعاء في قلة خوفهم وكثرة ظلمهم، أو هو حال أدخلت عليه همزة الإنكار. ثم إن موسى خاف أن يكذب عند أداء الرسالة فاستظهر بهارون. وفي قراءة النصب خاف التكذيب المستتبع لضيق الصدر المستلزم لاحتباس اللسان عن الجريان في الكلام، ولعله أراد بهذه الحبسة عقدة في لسانه قبل إجابة دعوته أو بقية يروى أنها بقيت بعد الإجابة كما مر في «طه» . ومعنى فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أرسل إليه جبريل واجعله نبيا يصدقني في أمري فاختصر الكلام اختصارا. ثم ذكر أن لهم عليه ذنبا فسمى جزاء الذنب ذنبا، أو المضاف محذوف أي تبعة ذنب وهو قود قتل القبطي كما سيجيء تفصيله في سورة القصص. فيمكن أن يقتل قبل أداء الرسالة فلا يتمكن من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 المقصود، وهذا قد جوزه الكعبي وغيره من البغداديين. وقال الأكثرون: الأقرب من حال الأنبياء أنهم يعلمون إذا حملهم الله تعالى الرسالة أنه يمكنهم من أدائها فلا معنى للخوف من القتل قبل الأداء. نعم لو خاف بعد الأداء جاز وذلك لما جبل عليه طبع الإنسان من التنفر عن القتل فيسأل الله الأمان من ذلك وقد جمع الله له بقوله كَلَّا الكلاءة وبقوله فَاذْهَبا استنباء أخيه كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت وهارون ومَعَكُمْ ومُسْتَمِعُونَ خبران لأن أو الخبر مُسْتَمِعُونَ ومَعَكُمْ متعلق به. ولا يخفى ما في المعية من المجاز لأن المصاحبة من صفات الأجسام، فالمراد معية النصرة والمعونة، وأما الاستماع فمجاز أيضا وإن كان إطلاق السمع على الله حقيقة لأن الاستماع جار مجرى الإصغاء ولا بد فيه من الجارحة. فحاصل الآية إنا لكما ولعدوّ كما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجري بينكما وبينه. وإنما وحد الرسول في قوله نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ لأنه أراد كل واحد أو أراد الرسول بمعنى المصدر أي ذو رسالة رب العالمين. يقال: أرسلتهم برسول أي برسالة أو جعلا لاتفاقهما واتحاد مطلبهما كرسول واحد. وهاهنا إضمار دل عليه سياق الكلام أي فأتيا فرعون فقالا له ذلك. يروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب: إن هاهنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين. فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه. فأديا إليه الرسالة فعرف أنه موسى فعند ذلك قال أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً أي صبيا وذلك لقرب عهده من الولادة. قيل: مكث فيهم ثلاثين سنة من أول عمره. وقيل: وكز القبطي وهو ابن اثنتي عشرة سنة ففر منهم. والفعلة الوكزة عدد عليه نعمه، ثم وبخه بقتل نفس منهم وسماه كافرا لنعمه بسبب ذلك. وجوز جار الله أن يراد وأنت إذ ذاك ممن يكفر بالساعة فيكون قد افترى على موسى أو جهل أمره لأنه كان يعايشهم بالتقية. وإنما قلنا إنه افتراء أو جهل لأن الكفر غير جائز على الأنبياء ولو قبل النبوة، ويجوز أن يراد أنه من الكافرين بفرعون وإلهيته أو بآلهة كانوا يعبدونها. قال تعالى: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: 127] ثم إن موسى ما أنكر تربيته ولكن أنكر الكفر فلم ينسب نفسه إلا إلى الضلال وأراد به الذهاب عن الصواب، أو أراد النسيان أو الخطأ وعدم التدبر في أدبار الأمور. ثم ذكر موهبة ربه في حقه حين فر من فرعون وملئه المؤتمرين بقتله. والحكم العلم بالتوحيد وكمال العقل والرأي، ولا تدخل فيه النبوة ظاهرا لئلا يلزم شبه التكرار بقوله: وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ قال جار الله وَتِلْكَ إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدري ما هي إلا بعد أن فسرت بقوله أَنْ عَبَّدْتَ نظيره قوله وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ [الحجر: 66] والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ كأنه أبى أن يسمي نعمته إلا نقمة لأن تعبيدهم أي تذليلهم واتخاذهم عبيدا وقصدهم. بذبح أبنائهم صار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 هو السبب في حصوله عنده وفي تربيته فلهذا قال الزجاج: «أن» مع ما بعده في موضع نصب أي إنما صارت نعمة عليّ لأن عبدت بني إسرائيل إذ لو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم ومن هنا قال جار الله: إن قول موسى فعلتها إذن جواب لقول فرعون وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ وجزاء له كأن فرعون قال: جازيت نعمتي بما فعلت. فقال موسى: فعلتها مجازيا لك وإن نعمتك جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. وقال الحسن: أراد أنك استعبدتهم وأخذت أموالهم ومنها أنفقت عليّ فلا نعمة لك بالتربية على أن التربية كانت من قبل أمي وعشيرتي ولم يكن منك إلا أنك لم تقتلني. وقيل: أراد أنك كنت تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في الإطعام والكسوة. واعلم أن للعلماء خلافا في نعمة الكافر فقيل: إنها لا تستحق الشكر لأن الكافر يستحق الإهانة بكفره فلو استحق الشكر لإنعامه لزم الجمع بين الإهانة والتعظيم في حق شخص واحد في وقت واحد. وقيل: لا يبطل بالكفر إلا الثواب والمدح الذي يستحقه على الإيمان، وفي الآية نوع دلالة على كل من القولين. ثم إن موسى حين أدى رسالته من قوله نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ وقد سبق مرارا أن كفره احتمل أن يكون كفر عناد وأن يكون كفر جهالة، والذي يختص بالمقام هو أن ما يطلب به حقيقة الشيء وماهيته، وهذا هو الذي قصده فرعون بسؤاله ولم يعرف أن الماهية لا تطلق على ذاته تعالى إذ لا أجزاء لها حدية ولا تقديرية ولا بأي وجه فرض ضرورة انتهاء الكل إليه واستغنائه عن الكل من كل الوجوه، فلا يصح أن يسأل عنه بما هو ولا بكيف هو ولا بأي شيء هو ولا بهل هو، غاية ذلك أن ينبه على وجوده الذي هو أظهر الأشياء بلوازمه وآثاره على وجه يعم الكل كما يقال: إنه رب السموات والأرض وما بينهما، أو بأخص من ذلك بأن يقال مثلا: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ وهو الاستدلال بالأنفس أو يقال رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما من الجهات المفروضة على السماء من لدن طلوع الكواكب إلى غروبها وبالعكس وهو الاستدلال بالآفاق. وقد راعى في الجواب الأول طريقة اللطف فختم بقوله إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وجلائه. وخاشنهم في الأخير بقوله إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ حين نسبوه إلى الجنون بعد أن تهكموا به بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ حين نسبوه إلى الجنون بعد أن تهكموا به بقوله إِنَّ رَسُولَكُمُ ويمكن أن يراد بقوله وَما بَيْنَهُما ثانيا ما بين المشرق والمغرب من المخلوقات فيكون الفرق بين هذا الاستدلال وبين الأول أن الأول هو الاستدلال بالإمكان على طريقة الحكيم، والثاني هو الاستدلال بالحدوث على طريقة المتكلمين، والأول أقرب إلى اليقين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 فلهذا قال إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ والثاني أقرب إلى الحس فلهذا قال إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ولما انجر الكلام إلى حد العناد والمخاشنة هدده فرعون بقوله: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ وهذا أبلغ من أن لو قال: «لأسجننك» والمعنى لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجوني وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه يطرحه في هوة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فردا لا يبصر فيها ولا يسمع، وحينئذ عدل موسى إلى الحجة الأصلية في الباب وهو ادعاء المعجز المنبئ عن صدقه فقال أَوَلَوْ جِئْتُكَ أي أتفعل فيّ ذلك ولو جئتك بشيء أي جائيا بالمعجزة. وفي قوله إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ إن سلم أنه قاله جدا لا هزلا وجدالا دلالة على ما ركز في العقول من أن دعوى الرسالة إن اقترنت بظهور المعجزة على يده تحقق صدقها. وقد شنع في الكشاف هاهنا أن في أهل القبلة من خفي عليهم ما لم يخف على فرعون حتى جوزوا القبيح عليه سبحانه ولزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات. وفي التخطئة سهو من وجهين: أحدهما: أنه لا قبيح عند الأشاعرة عقلا. والثاني أنه على تقدير التسليم لا يلزم تجويز كل قبيح وهذا من ذلك للزوم الاشتباه. وباقي القصة سبق نظيرها في «الأعراف» فلنقتصر في التفسير على ما يختص بالسورة. قوله قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ قال في الكشاف: الظرف في محل النصب على الحال. وأقول: الأصوب أن يجعل نعتا للملأ أي الأشراف حوله على طريقة قوله: ولقد أمرّ على اللئيم يسبني قوله لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ اليوم يوم الزينة وميقاته وقت الضحى كما مر في «طه» . قوله هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ استبطاء لهم في الاجتماع وحث عليه كقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق إذا أراد أن يحثه على الانطلاق. قوله لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ لم يكن غرضهم اتباع السحرة في دينهم وإنما غرضهم الأصلي أن لا تتبعوا موسى، فساقوا الكلام مساق المجاز لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى. قوله بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ هي من أيمان الجاهلية ولا يصح الحلف في الإسلام إلا بالله تعالى وبصفاته كما مر في «البقرة» و «المائدة» . وقوله فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ لم يسم فاعله وهو الله تعالى في الحقيقة حين ألقى داعية الإيمان في قلوبهم ويجوز أن ينسب إلى ما عاينوا من المعجزات الباهرة ولك أن لا تقدر فاعلا أي خروا. قوله لا ضَيْرَ أي لا ضير علينا فيما يتوعدنا به من القتل. قوله إِنَّا نَطْمَعُ الطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين كقول إبراهيم وَالَّذِي أَطْمَعُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 أَنْ يَغْفِرَ لِي ويحتمل الظن بناء على أن المرء لا يعلم ما يختاره أو يؤل إليه عند الوفاة. ومعنى أَنْ كُنَّا لأن كنا وكانوا أوّل طائفة مؤمنين من أهل زمانهم أو من قوم فرعون أو من أهل المشهد. قوله: إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ تعليل للإسراء أي بنيت تدبير أمركم على أن تتقدموا لو يتبعكم فرعون وجنوده إلى أن يغشاهم من اليم ما يغشاهم. قوله: لَشِرْذِمَةٌ هي الطائفة القليلة. ثم وصفهم بالقلة واختار جمع السلامة ليدل على أن كل حزب منهم في غاية القلة، وذلك بالنسبة إلى عسكره وإلا فهم كثير في أنفسهم. يروى أن فرعون أرسل في أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور مع كل ملك ألف وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت على مقدّمته سبعمائة ألف كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة، وكان قوم موسى إذ ذاك ستمائة ألف وسبعين ألفا. ويجوز أن يريد بالقلة الذلة والحقارة لا قلة العدد. قوله: وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ معناه أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم ولكنهم يفعلون أفعالا لغيظنا كأخذ الحلي وادّعاء الاستقلال والاستخلاص عن ذل الاستخدام ونحن قوم مجموعون كلمة وائتلافا، ومن عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور. فالحذر المتيقظ وهو يفيد الثبات والحاذر الذي يجدد حذره. وقيل: هو تام السلاح لأنه فعل ذلك حذرا واحتياطا لنفسه، وكل هذه المعاذير لأجل أن لا يظن به العجز وخلاف ما ادّعاه من القهر والتسلط. وقرىء حادرون بالدال غير المعجمة، والحادر السمين القوي أراد أنهم أقوياء أشدّاء. فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ أي بساتينهم التي فيها عيون الماء وَكُنُوزٍ الذهب والفضة. قال مجاهد: سماها كنوزا لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله تعالى. والمقام الكريم المنازل الحسنة والمجالس البهية. وقال الضحاك: المنابر. وقيل: السرر في الحجال. كَذلِكَ يحتمل النصب أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا، والجر على الوصف أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك، وعلى هذا فيوقف على كَرِيمٍ. فَأَتْبَعُوهُمْ أي فلحقوهم. ومن قرأ بالتشديد فظاهر. والإشراق الدخول في وقت الشروق فلما تراءى الجمعان أي رأى قوم موسى قوم فرعون وحصل كل من الفريقين بمرأى للآخر قالَ أَصْحابُ مُوسى خوفا وفزعا إِنَّا لَمُدْرَكُونَ لملحقون. قال موسى تثبيتا لهم وردعا عماهم عليه من الجزع والفزع كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي بالنصرة والمعونة سَيَهْدِينِ سبيل النجاة والخلاص كما وعدني. ثم بين أنه كيف هداه بقوله فَأَوْحَيْنا الآية. ومعنى فَانْفَلَقَ فضرب فانفلق فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ أي كل جزء متفرق منفلق منه كَالطَّوْدِ وهو الجبل العظيم ومع ذلك وصفه بالعظيم وَأَزْلَفْنا ثَمَّ أي قربنا حيث انفلق البحر الْآخَرِينَ وهم قوم فرعون والمقرب منه بنو إسرائيل أو قوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 فرعون أيضا أي أدنينا بعضهم من بعض وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد، ويجوز أن يراد قدمناهم إلى البحر. وقرىء وأزلقنا بالقاف أي أزللنا أقدامهم حسا بأن لم يكن لهم البحر يبسا كما كان لبني إسرائيل، أو عقلا أي أذهبنا عزهم. والبحر بحر القلزم أو بحر من وراء مصر يقال له أساف. قالت الأشاعرة: إنه تعالى أضاف الإزلاف إلى نفسه مع أن اجتماعهم في طلب موسى كفر. أجاب الجبائي بأن قوم فرعون تبعوا بني إسرائيل وبنو إسرائيل إنما فعلوا ذلك بأمر الله تعالى، فلما كان مسيرهم بتدبير الله وهؤلاء تبعوهم أضافه إلى نفسه توسعا، وهذا كما يتعب أحدنا في طلب غلام له فيجوز أن يقول: أتعبني الغلام لما حدث ذلك عند فعله. أو المراد أزلفناهم إلى الموت والأجل. وقال الكعبي: أراد أنه جمع تفرقهم كيلا يصلوا إلى موسى وقومه، أو أراد أنه حلم عنهم وترك لهم البحر يابسا حتى طمعوا في دخوله. واعترض بأن كل ذلك لا بد أن يكون له أثر في استجلاب داعية قوم فرعون إلى الذهاب خلفهم فيعود المحذور. إِنَّ فِي ذلِكَ الذي حدث في البحر من إنجاء البعض وإغراق البعض أو في ذلك الذي ذكر من القصة بطولها الْآيَةَ عجيبة للمتدبر المتفكر في الأمور الإلهية وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ حين سألوا بعد النجاة أن يجعل لهم موسى إلها غير الله، واتخذوا العجل، واقترحوا اقتراحات خارجة عن قانون الأدب. ويحتمل أن يعود الضمير إلى هذه الأمة بدليل وَاتْلُ عَلَيْهِمْ [الشعراء: 69] وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يغتم بتكذيب قومه بعد ظهور المعجزات ونزول الآيات. التأويل: الطاء طوله في كمال عظمته، والسين سلامته عن كل عيب ونقص، والميم مجده الذي لا نهاية له. أو الطاء طهارة قلب نبيه عن تعلقات الكونين، والسين سيادته على الأنبياء والمرسلين، والميم مشاهدته جمال رب العالمين. أو الطاء طيران الطائرين بالله، والسين سير السائرين إلى الله، والميم مشي الماشين لله الذين يمشون على الأرض هونا. إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ من سماء قلوبهم آيَةً من واردات الحق فَظَلَّتْ أعناق نفوسهم لَها خاضِعِينَ فَسَيَأْتِيهِمْ بعد مفارقة الأرواح الأجساد أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ لظهور نتائج معاملاتهم الخبيثة على أرواحهم أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى أرض قلوب العارفين كَمْ أَنْبَتْنا فِيها من أشجار أصناف الإيمان والتوكل واليقين والإخلاص وسائر الأخلاق الكريمة وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ لأن جناب الحق لعزته يجل عن أن يكون شرعة لكل وارد وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يوجد بالسعي الرَّحِيمُ حين أدرك أولياءه بجذبات العناية كما أدرك موسى حين ناداه من الشجرة، وذلك لأنه جعله مظهر لطفه كما أنه جعل فرعون مظهر قهره فصار من العتوّ والاستكبار في غاية الكمال. ويعلم منه أن الإنسان له استعداد في مظهرية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 صفة القهر ليس لإبليس فلذلك عاند إبليس آدم وقال أنا خير منه وعاند فرعون الرب وقال أنا ربكم الأعلى. وأن له استعدادا في مظهرية صفة اللطف ليس للملك ولهذا صار الإنسان مسجودا للملائكة. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ فيه أن موسى القلب مرسل إلى فرعون النفس لئلا تستعبد الصفات الروحانية فإن لفرعون النفس في البداية استيلاء على موسى القلب والصفات الروحانية فاستعملهم في قضاء حوائجه وتحصيل مقاصده فعرفه فرعون النفس وقال أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً فإن موسى القلب كان في حجر فرعون النفس إلى أن بلغ أوان الحلم وهي خمس عشرة سنة، فقتل قبطي الشهوة حين كفر بإله الهوى وكان قبل القتل ضالا عن حضرة الربوبية فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ إلى الله لما خفت أن تقطعوا عليّ الطريق إلى الله. رب سموات القلوب وأرض البشرية وما بينهما من المنازل قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ من صفات النفس أَلا تَسْتَمِعُونَ قالَ موسى القلب لتعارفه بربه رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ يعني الآباء العلوية الروحانية. وفي قوله إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ إشارة إلى كمال ضدية القلب والنفس فما يصدر عن القلب تعده النفس من الجنون وبالعكس. رَبُّ مشرق الروح من أفق البدن وَرَبُّ مغربه فيه وَما بَيْنَهُمَا من مدة التعلق وقد مر نظيره في محاجة إبراهيم في «البقرة» لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ في سجن حب الدنيا فإن القلب إذا توجه إلى الله فلا استيلاء للنفس عليه إلا بشبكة حب الجاه والرياسة فإنها آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين. فقال موسى القلب: لا تقدر على أن تسجنني فإن معي عصا الذكر واليد المنزوعة عما سوى الله. وباقي التأويل قد سبق قوله: فَأَخْرَجْناهُمْ أي مِنْ جَنَّاتٍ صفات الأوصاف الروحانية وَعُيُونٍ الحكمة وَكُنُوزٍ المعارف وَمَقامٍ كَرِيمٍ في حضرة أكرم الأكرمين وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ فيه أن النفس إذا فنيت ورث القلب منها صفاتها وبقوتها تصير إلى مقامات لم يمكنه الوصول إليها بقوة صفاته، ولو مات القلب ورثت النفس منه صفاته وبقوتها تتنزل إلى دركات لم يمكنها الوصول إليها بمجرد صفاتها فَأَتْبَعُوهُمْ أي لحق أوصاف النفس أوصاف القلب عند إشراق شمس الروح فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ فيه أن كل صفة من أوصاف الروح كجبل عظيم في العبور عنه وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أي قربنا صفات النفس بتبعية صفات القلب إلى بحر الروح. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ من الأوصاف في بحر الروح بالوصول إلى الحضرة ثُمَّ أَغْرَقْنَا أوصاف النفس في بحر الروحانية فإن الوصول إلى الحضرة من خواص القلب وغاية سير النفس هو الاستغراق في بحر الروحانية إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لأرباب العرفان وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بهذه المنازل فإنه لا يصير إليها إلا الشاذ من المجذوبين بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] جعلنا الله من المستعدين لها والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 122] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) القراآت: لِي إِلَّا وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ بفتح الياء فيهما: أبو جعفر ونافع وأَجْرِيَ إِلَّا بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص: وأتباعك على أنه جمع تابع أو تبع: يعقوب أَنَا إِلَّا بالمد: أبو نشيط عن قالون مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بفتح ياء المتكلم: حفص وورش. الوقوف: إِبْراهِيمَ م لئلا يوهم أن «إذ» ظرف اتْلُ وإنما هو منصوب باذكر ما تَعْبُدُونَ هـ عاكِفِينَ هـ تَدْعُونَ هـ يَضُرُّونَ هـ يَفْعَلُونَ هـ تَعْبُدُونَ هـ لا لأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 الضمير بعده توكيد الْأَقْدَمُونَ هـ والوصل أولى للفاء الْعالَمِينَ هـ لا لأن الَّذِي صفة الرب يَهْدِينِ هـ لا يَشْفِينِ هـ وَيَسْقِينِ هـ يُحْيِينِ هـ لا الدِّينِ هـ بِالصَّالِحِينَ هـ لا الْآخِرِينَ هـ لا النَّعِيمِ هـ لا الضَّالِّينَ هـ لا يُبْعَثُونَ هـ وَلا بَنُونَ هـ لا سَلِيمٍ هـ ط بناء على أن ما بعده إلى آخر أحوال الجنة والنار هو من كلام الله تعالى وهو الظاهر. وقيل: هو من تتمة كلام إبراهيم الْعالَمِينَ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ شافِعِينَ هـ حَمِيمٍ هـ ط الْمُؤْمِنِينَ هـ لَآيَةً ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ الْمُرْسَلِينَ ج لأن «إذ» تصلح ظرفا للتكذيب مفعولا لا ذكر تَتَّقُونَ ج هـ لأن ما بعده من تمام المقول أَمِينٌ هـ لا للفاء وَأَطِيعُونِ ج هـ مِنْ أَجْرٍ ج الْعالَمِينَ ج هـ وَأَطِيعُونِ هـ لا الْأَرْذَلُونَ هـ ط يَعْمَلُونَ ج هـ لأن ما بعده من تمام المقول تَشْعُرُونَ هـ لذلك الْمُؤْمِنِينَ ج هـ مُبِينٌ هـ الْمَرْجُومِينَ هـ ط كَذَّبُونِ هـ ج الْمُؤْمِنِينَ هـ الْمَشْحُونِ ج هـ الْباقِينَ هـ لَآيَةً ط مُؤْمِنِينَ هـ ط الرَّحِيمُ هـ. التفسير: القصة الثانية قصة إبراهيم عليه السلام وكان يعلم أنهم عبدة أصنام ولكنه سألهم للإلزام والتبكيت. ومثله أهل المعاني بأن يقول أحد للتاجر: ما مالك؟ وهو يعلم أن ماله الرقيق ثم يقول له الرقيق: جمال وليس بمال. وإنما قال في سورة الصافات ماذا تَعْبُدُونَ [الصافات: 85] بزيادة «ذا» لأنه أراد هناك مزيد التوبيخ ولذلك بني الكلام على الزيادة ثم أردفه بقوله أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصافات: 86] وحين صرح هنالك بالتوبيخ لم يجيبوه وهاهنا ظنوا أنه يريد الاستفهام حقيقة فأجابوه ولكنهم بسطوا الكلام بسطا ولم يقتصروا على أَصْناماً بل زادوا ناصبه وعقبوه بقولهم فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ إظهارا للابتهاج والافتخار. قال في الكشاف: وإنما قالوا فَنَظَلُّ لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل. قلت: وهذا مبني على النقل الصحيح والظن به حسن. قال: لا بد في يَسْمَعُونَكُمْ من تقدير حذف المضاف معناه هل يسمعون دعاءكم؟ قلت: ويحتمل أن يكون المحذوف مفعولا ثانيا أي هل يسمعونكم تدعون إذ تدعون وهو حكاية حال ماضية لأن «إذ» للمضي ومعناه استحضار الأحوال الماضية التي كانوا يدعونها فيها. وحين تمسكوا في الجواب بطريقة التقليد قائلين على سبيل الإضراب بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ نبههم إبراهيم بقوله أَفَرَأَيْتُمْ على أن الباطل لا يتغير بأن يكون قديما أو حديثا ولا بأن يكون في مرتكبيه كثرة أو قلة، وصرح بأن معبوديه أعداء لقوله تعالى كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 82] أو لأن الذي يغري على عبادتها هو الشيطان وهو أعدى عدو للإنسان. وإنما لم يقل عدوّ لكم لأنه أراد تصوير المسألة في نفسه ليكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 أدل على النصح وأقرب إلى القبول كأنه قال: إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدوّ. ويحكى عن الشافعي أن رجلا واجهه بشيء فقال: لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب. وقوله إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ استثناء منقطع أي لكن رب العالمين حبيب لي. ثم وصف لهم الرب بأنه الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أي خلق بدني على كماله الممكن له ثم يهدين في الاستقبال إلى ضروب مصالح الدين والدنيا كامتصاص الدم في البطن والثدي بعد الولادة نظيره ما مر في «طه» الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] . ثم نبه بقوله وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أن الذي يتعلق به قوام البدن من الاغتذاء بالطعام والإساغة بالشراب هو من جملة إنعام الله تعالى لأنه خلق هناك قوى جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة وغيرها، ولولاها لما تم أمر الانتفاع بالغذاء بل نفس الغذاء من جملة نعمه الشاملة، ثم قال وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وذلك أن البدن ليس دائما على النهج الطبيعي بحيث تصدر عنه الأفعال الموضوع هو لها سليمة فاسترداد الصحة بعد زوالها ليس إلا بإذن الله وبما خلق لكل داء دواء وإنما لم يقل أمرضني لأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بإسراف الإنسان في المطعم والمشرب. وأيضا الصحة تحتاج إلى سبب قاهر يقسر الأخلاط والقوى على النسبة المطلوبة، أما المرض فإنه بسبب تنافر الأخلاط وطلب كل منها مركزه الأصلي. وأيضا فيه رعاية الأدب في مقام المدح وتعداد النعم وإنما لم يراع هذه النكتة في قوله وَالَّذِي يُمِيتُنِي لأن الإماتة ليست بضر كالمرض. إما بعدم الإحساس وقتئذ، وإما لأنها مقدمة الوصول إلى عالم الخير والراحة. وإنما زاد لفظة «هو» في الإطعام والشفاء لأنهما قد ينسبان إلى الإنسان فيقال: زيد يطعم وعمرو يداوي. فأكد إعلاما بأن ذلك في الحقيقة من الله، واما الإماتة والإحياء فلا يدعيهما مدع فأطلق. ثم أشار إلى ما بعد الإحياء من المجازاة بقوله وَالَّذِي أَطْمَعُ فحمل الأشاعرة الطمع على مجرد الظن والرجاء بناء على أنه لا يجب لأحد على الله شيء. وحمله المعتزلة على اليقين تارة وعلى هضم النفس والتواضع وتعليم الأمة أخرى، كما أنه أضاف الخطيئة إلى نفسه لمثل ذلك. وقد تحمل الخطيئة على المعاريض المنسوبة إليه من قوله إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء: 63] وقوله لسارة «هي أختي» وإنما علق المغفرة بيوم الدين لأن أثرها يتبين يومئذ وهو في الدنيا خفي. قال بعضهم: فائدة زيادة «لي» هي أن يعلم أن المغفرة فائدتها تعود إليه والله سبحانه لا يستفيد بذلك كمالا لم يكن له. والمراد: أطمع أن يغفر لي لمجرد عبوديتي له واحتياجي إليه لا بواسطة شفيع كما قال لجبرائيل: أما إليك فلا. وحين قدم الثناء شرع في الدعاء تعليما لأمته إذا أرادوا مسألة فقال رَبِّ هَبْ لِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 حُكْماً وهو إشارة إلى كمال القوة النظرية وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وهو إشارة إلى كمال القوة العملية. ولقد أجابه حيث قال وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وقيل: الحكم النبوة إذ النبي ذو حكمة وذو حكم. بين عباد الله تعالى وزيف بأنه كان حاصلا فكيف يطلبه؟ والظاهر أنه أراد بالحكم النسب الذهنية المطابقة للخارجية أعني العلوم النظرية كما بينا. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على مسألة خلق الأعمال، إنه طلب العلم من الله فلولا أن العلم بخلقه وإلا كان السؤال عبثا. وحمله المعتزلة على منح الألطاف. قيل: الحكم المطلوب بالدعاء إن كان هو العلم بغير الله لزم أن يكون سائلا لما يشغله عن الله وهو باطل، وإن كان العلم بالله بقدر ما هو شرط صحة الإيمان لزم طلب ما هو حاصل لأدنى المؤمنين فضلا عن إبراهيم، فإذن هو العلم الزائد على ما هو ضروري في الإيمان وهو الوقوف على حقيقة الذات والصفات، ثم لا يكشف المقال عنها غير الخيال وبه يصير المؤمن من الواصلين إلى العين دون السامعين إلى الأثر. ثم طلب الذكر الجميل بقوله وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ والإضافة فيه كقوله قَدَمَ صِدْقٍ [يونس: 2] وقال ابن عباس: وقد أعطاه الله ذلك لقوله وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ [الصافات: 78] ولهذا اتفق أهل الأديان قاطبة على حبه وادعاء متابعته. ومدح الكافر ليس مقصودا لذاته من حيث هو كافر وإنما المقصود أن يكون ممدوح كل إنسان ومحمودا بكل لسان. وفائدة الثناء على الشخص بعد وفاته هو انصراف الهمم إلى ما به يحصل له عند الله زلفى وقد يصير ذلك المدح داعيا للمادح أو لمن يسمعه إلى اكتساب مثل تلك الفضائل. وقيل: سأل ربه أن يجعل من ذريته في آخر الزمان من يكون داعيا إلى ملته وهو محمد صلى الله عليه وسلم. ثم سأل ما هو غاية كل سعادة فقال وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وقد مر معنى هذه الوراثة في قوله وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها [الأعراف: 43] وكذلك في سورة مريم تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا [مريم: 63] ثم طلب السعادة الحقيقية لأشد الناس التصاقا به وهو أبوه قائلا وَاغْفِرْ لِأَبِي وقد سبق في آخر التوبة وفي «مريم» ما يتعلق به من المباحث. وهاهنا سؤال: وهو أنه متى حصلت الجنة بدعائه امتنع حصول الخزي فكيف قال بعده وَلا تُخْزِنِي وأيضا قال تعالى إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ [النحل: 27] وما كان نصيب الكافر كيف يستجير منه المعصوم؟ أجاب عنه في التفسير الكبير كما أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فكذلك. درجات الأبرار دركات المقربين، وخزي كل واحد ما يليق بحاله فكأنه سأل الشركة أوّلا ثم الخصوصية ثانيا. وأقول: يحتمل أن يكون هذا الدعاء من تتمة دعائه لأبيه أي لا تخزني ولا تفضحني بسبب تعذيب أبي يوم يبعث الضالون أو العباد كلهم، ومثل هذا الضمير مما يعلم عوده بالقرينة. ويجوز أن يكون سأل الجنة بشرط التعظيم والإجلال، ويجوز أن يكون أخر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 هذا الدعاء لما يعقبه من حديث يوم القيامة وأهوالها وأحوالها فأراد أن لا ينقطع نظم الكلام. وفي قوله إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إشارة إلى ما وصفه الله به في قوله تعالى وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات: 84] وفي هذا الاستثناء وجوه منها: أنه منقطع والمضاف محذوف أي إلا حال من أتى الله بقلب سليم والمراد بالحال سلامة القلب والمعنى: أن المال والبنين لا ينفعان وإنما ينفع سلامة القلب عن الأمراض الروحانية كالجهل وسائر الأخلاق الذميمة، ويندرج في سلامة القلب سلامة سائر الجوارح لأنه رئيسها. ولا شك أن المال والبنين ليسا من جنس سلامة القلب فيكون الاستثناء منقطعا. ومنها أنه متصل وذلك على وجهين: أحدهما لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه. وثانيهما أن يجعل من باب قولهم: تحية بينهم ضرب وجيع والمضاف المحذوف الحال أو السلامة نظيره أن يقال لك: هل لزيد مال وبنون؟ فتقول: ماله وبنوه سلامة قلبه تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك. ومنها أن يكون الموصول مفعولا لينفع والاستثناء مفرغ أي لا ينفع مال ولا بنون أحدا إلا رجلا سلم قلبه مع ماله وبنيه حيث أنفقه في طاعة الله وما قصر في باب تأديبهم وإرشادهم، أو سلم قلبه من فتنة المال والبنين فلم يكفر ولم يعص. وقد يفسر السليم بالذائب من خشية الله تعالى. وحين انجرّ الكلام إلى ذكر يوم القيامة وصف الله تعالى أو إبراهيم أحواله وأهواله فقال وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ قال المفسرون: الجنة تقرب من موقف السعداء ليكون لهم فرجا معجلا، وتجعل النار بارزة مكشوفة للأشقياء ليزدادوا غما وحسرة، ولمثل هذا اليوم وبخهم بقوله أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ يعني الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله هل ينفعونكم بنصرتهم لكم أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنهم وآلهتهم وقود النار وذلك قوله فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ أي الآلهة وَالْغاوُونَ الذين عبدوهم قال جار الله: الكبكبة تكرير الكب جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقى في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها أعاذنا الله منها. والمراد بجنود إبليس شياطينهم أو متبعوه من عصاة الجن والإنس. قالُوا يعني الغاوين وجنود إبليس وَهُمْ يعني والحال أن الأصنام وعبدتهم فِيها يَخْتَصِمُونَ قال أكثر المفسرين: يجوز أن ينطق الله الأصنام بحيث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 يصح منها التخاصم. وقيل: إن هذا التخاطب بين العصاة والشياطين إذ سووهم برب العالمين. والمراد بالمجرمين على التفسيرين الرؤساء والكبراء. وعن السدي: الأولون الذين سنوا الشرك. وعن ابن جريج: إبليس وقابيل لأنه سن القتل وأنواع المعاصي: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ خالص يهمه ما يهمنا وفيه نفي الشفعاء والصديق رأسا أو نفي للذين كانوا عدّوهم شفعاء وأصدقاء من الأصنام والرؤساء، أو نفي للانتفاع بهم قصدوا بنفيهم ما يتعلق بهم من الفائدة، فكل عديم النفع حكمه حكم المعدوم. قال جار الله: إنما جمع الشافع ووحد الصديق لكثرة الشفعاء لأجل الخشية عادة، ولكن الصديق الصادق أعز من الكبريت الأحمر حتى زعم بعض الحكماء أنه اسم لا معنى له. وجوز أن يكون الصديق في معنى الجمع والكرة الرجعة إلى الدنيا «ولو» في معنى التمني. وقوله فَنَكُونَ جواب التمني أو عطف في المعنى على كَرَّةً أي ليت لنا كرة فإن نكون، وعلى هذا جاز أن تكون «لو» على أصل الشرط والجواب محذوف وهو لفعلنا كيت وكيت. ثم بين أن فيما كره من قصة إبراهيم عليه السلام لآية لمن يريد أن يستدل بذلك وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين. القصة الثالثة قصة نوح. ولا ريب أن نبأه عظيم فقد كان يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ومع ذلك لم يزد قومه إلا التكذيب. والقوم مؤنث بدليل قوله كَذَّبَتْ وكان أمينا فيهم مشهورا كمحمد صلى الله عليه وسلم في قريش. وكرر قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ تأكيدا وتقريرا في النفوس مع أنه علق كل واحد بسبب وهو الأمانة في الأول وقطع الطمع في الثاني نظيره قول الرجل لغيره: ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيرا؟ ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيرا؟ وقدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته لأن تقوى الله علة طاعته. قوله وَما عِلْمِي يريد أيّ شيء علمي ومعناه انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم لله عز وجل واطلاعه على باطنهم ومكنون ضميرهم كأنهم طعنوا في إيمانهم أيضا فذكر أن حسابهم على الله وأنه لم يبعث إلا للنذارة. ويجوز أن يكون فسر لهم الرذالة بما هو الرذالة عنده من سوء الأعمال وفساد العقائد فبنى جوابه على ذلك وقال: ما علمي إلا اعتبار الظاهر والله يتولى السرائر. وفي قوله لَوْ تَشْعُرُونَ إشارة إلى أنهم لا يصدقون بالحساب والجزاء، وفيه إنكار أن يسمى المؤمن رذلا وإن كان أفقر الناس وأوضعهم فالغني غني الدين والنسب نسب التقوى. رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ليس إخبارا لأنه علام الغيوب وإنما هو تمهيد مقدمة لطلب الفتح والحكومة. والفلك المشحون المملوء من كل زوجين اثنين مع نوح وأهله. التأويل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ القلب إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ وهو الروح وما يتولد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 منه نَعْبُدُ أَصْناماً وهو ما سوى الله فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ إلا أن أدركتنا العناية فنعرض عنها: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا وهم الأرواح والآباء العلوية كذلك يتعلق بعضهم ببعض فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إن تعلقت فصرت محجوبا بهم عن الله خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ إلى حضرته ويُطْعِمُنِي من طعام العبودية الذي يعيش القلوب، ويسقيني من شراب طهور التجلي وَإِذا مَرِضْتُ بتعلقات الكونين فَهُوَ يَشْفِينِ بالجذبة الإلهية وَالَّذِي يُمِيتُنِي عن أوصاف البشرية ثُمَّ يُحْيِينِ بأوصاف الروحانية ويميتني عن أوصاف الروحانية ثم يحيين بالأوصاف الربانية ثم يميتني عن أنانيتي ثم يحيين بهويته وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يستر ظلمة خطيئة وجودي بطلوع شمس نهار الدين رَبِّ هَبْ لِي من ربوبيتك حُكْماً على بذل وجودي في هويتك وَأَلْحِقْنِي بالذين صلحوا لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة. وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ من النفس وصفاتها ليعرضوا عما سوى الله وَاغْفِرْ لِأَبِي الروح إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ حين رد من العالم العلوي إلى السفلي من قولهم «ضل الماء في اللبن» وَلا تُخْزِنِي بتعلقات الكونين قالَ نوح القلب وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني أراذل الجسد والأعضاء لأنهم عملة عالم الشهادة وأنا من عملة عالم الغيب إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي فيما يعملون من الأعمال الحيوانية لحاجة ضرورية يعفو عنها والشهوة حيوانية يؤاخذهم بها لَوْ تَشْعُرُونَ الفرق بينهما قالُوا أي النفس وصفاتها لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ القلب عما تدعونا إليه على خلاف إرادتنا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ بأحجار الوساوس والهواجس فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي في فلك الشريعة المملوء بالأوامر والنواهي والحكم والمواعظ والأسرار والحقائق ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ بطوفان استيلاء الأخلاق الذميمة وآفات الدنيا الدنية، وباقي القصص إشارات إلى رسول القلب المسلم من الله وقومه النفس وصفاتها وإليه المرجع والمآب لما قررناه. [سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 175] كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 القراآت: أَوَعَظْتَ مدغما: عباس ونصير خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بفتح الخاء وسكون اللام: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد وعليّ كَذَّبَتْ ثَمُودُ مثل بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود: 95] فارِهِينَ بالألف: ابن عامر وعاصم وحمزة وعليّ وخلف. الوقوف: الْمُرْسَلِينَ هـ تَتَّقُونَ هـ أَمِينٌ هـ وَأَطِيعُونِ هـ أَجْرٍ هـ الْعالَمِينَ هـ تَعْبَثُونَ هـ لا تَخْلُدُونَ هـ ج جَبَّارِينَ هـ وَأَطِيعُونِ هـ ج تَعْلَمُونَ هـ ج وَبَنِينَ هـ لا وَعُيُونٍ هـ ج عَظِيمٍ هـ ط الْواعِظِينَ هـ لا للاحتراز عن الابتداء بمقولهم الْأَوَّلِينَ هـ لا لذلك بِمُعَذَّبِينَ هـ ج فَأَهْلَكْناهُمْ ط لَآيَةً ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ ط تَتَّقُونَ هـ أَمِينٌ هـ لا وَأَطِيعُونِ هـ أَجْرٍ هـ الْعالَمِينَ هـ آمِنِينَ هـ لا لتعلق الظرف وَعُيُونٍ هـ لا هَضِيمٌ هـ فارِهِينَ هـ ج للآية مع العطف وَأَطِيعُونِ هـ ج لذلك الْمُسْرِفِينَ هـ لا لأن الَّذِينَ صفتهم وَلا يُصْلِحُونَ هـ الْمُسَحَّرِينَ هـ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول مِثْلُنا ز مِنَ الصَّادِقِينَ هـ مَعْلُومٍ هـ ج عَظِيمٍ هـ نادِمِينَ هـ لا الْعَذابُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 ط لَآيَةً ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ لا أَلا تَتَّقُونَ هـ ج أَمِينٌ هـ لا وَأَطِيعُونِ هـ ج أَجْرٍ ج الْعالَمِينَ هـ ط مِنَ الْعالَمِينَ هـ لا للعطف مِنْ أَزْواجِكُمْ هـ عادُونَ ط الْمُخْرَجِينَ هـ الْقالِينَ هـ يَعْمَلُونَ هـ أَجْمَعِينَ هـ الْغابِرِينَ هـ الْآخَرِينَ هـ ج مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ هـ لَآيَةً ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ. التفسير: القصة الرابعة قصة هود ولنذكر من تفسيرها ما هو غير مكرر. الريع بالكسر وقرىء بالفتح المكان المرتفع ومنه الغلة لارتفاعها. والآية العلم وفي هذا البناء وجوه: فعن ابن عباس أنهم كانوا يبنون بكل موضع مرتفع علما يعبثون فيه بمن يمر بالطريق إلى هود. وقيل: كانوا يبنون ذلك ليعرف به فخرهم وغناهم فنهوا عنه ونسبوا إلى العبث وقيل: كانوا يقتنون الحمام قاله مجاهد. والمصانع مآخذ الماء. وقيل: القصور المشيدة والحصون. ومعنى لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ترجون الخلود في الدنيا أو ظلما وعلوا فوصفوا بكونهم إذ ذاك جبارين. وقيل: الجبار الذي يقتل ويضرب على الغضب. وعن الحسن: أراد أنهم يبادرون العذاب من غير تفكر في العواقب. والحاصل أن اتخاذ الأبنية الرفيعة يدل على حب العلوّ، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء، والبطش الشديد يدل على حب التفرد بالعلوّ فكأنهم أحبوا العلوّ وبقاء العلوّ والتفرد بالعلوّ وكل هذه لمن له الصفات الإلهية لا العبدية. ثم بالغ في تنبيههم على نعم الله حيث أجملها بقوله وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ إيقاظا لهم عن سنة الغفلة مستشهدا بعلمهم ثم فصلها بقوله أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ عليها تدور معايشكم وَبَنِينَ بهم يتم أمر حفظها والقيام بها وَجَنَّاتٍ يحصل بها التفكه والتنزه وَعُيُونٍ بمائها يكمل النماء. ثم ختم الكلام بتخويفهم تنبيها على أنه كما قدر أن يتفضل عليهم بهذه النعم الجسام فهو قادر على العذاب فيكون فيه مزيد حث على التقوى وكمال تنفر عن العصيان. ثم شرع في حكاية جواب القوم وأنهم قالوا: إن وعظه وعدم وعظه بالنسبة إليهم سيان. وإنما لم يقل «أوعظت أم لم تعظ» مع كونه أخصر لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أو لم تكن من مباشريه وذويه رأسا وهذا أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه. من قرأ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بفتح الخاء فمعناه أن هذا إلا اختلاق الأولين وأكاذيبهم، أو ما هذا إلا خلق الأقدمين نحيا ونموت ولا بعث ولا جزاء. والقراءة الأخرى معناها لسنا نحن إلا على دين الأولين من آبائنا، أو ليس ما نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة جارية لا خرق لها، أو ما هذا الذي جئت به من تلفيق الأكاذيب. إلا عادة مستمرة من المتنبين. ثم أكدوا إنكارهم المعاد بقولهم وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فأظهروا بذلك جلادتهم وقوة نفوسهم فأخبر الله تعالى عن إهلاكهم وقد سبقت كيفية ذلك مرارا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 القصة الخامسة قصة صالح. قال جار الله: الهمزة في أَتُتْرَكُونَ يجوز أن تكون للإنكار أي لا تتركون مخلدين في الأمن والراحة ولكل نعمة زوال، ويجوز أن تكون للتقرير أي قد تركتم في أسباب الأمن والفراغ، أجمل أولا بقوله فِي ما هاهُنا أي في الذي استقر في هذا المكان من النعيم، ثم فسره بقوله فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وذكر النخل بعد ذكر الجنات إما تخصيص للجنات بغير النخل، وإما تخصيص للنخل بالذكر تنبيها على فضله ومزيته. وطلع النخلة ما يبدو منها كنصل السيف وقد مر في «الأنعام» . والهضيم اللطيف الضامر من قولهم «كشح هضيم» أراد أنه وهب لهم أجود النخل وألطفه كالبرني مثلا. وقيل: وصف نخيلهم بالحمل الكثير فإنه إذا كثر الحمل هضم أي لطف. وقيل: الهضيم اللين النضيج كأنه قال: ونخل قد أرطب ثمره. والفراهة الكيس والنشاط ومنه «خيل فرهة» وفارِهِينَ حال من الناحتين. قال علماء المعاني: جعل الأمر مطاعا مجاز حكمي وإنما المطاع بالحقيقة هو الآمر. وفي قوله وَلا يُصْلِحُونَ إشارة إلى أن إفسادهم في الأرض غير مقترن بالإصلاح رأسا. والمسحر الذي سحر كثيرا حتى غلب على عقله. وقيل: هو من السحر الرئة. أرادوا أنه بشر ذو سحر وهو ضعيف لأنه يلزم التكرار بقوله: ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا إلا أن يقال: إنه بيان. والشرب النصيب من الماء كالسقي للحظ من السقي. وقرىء بالضم عن قتادة إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله ولهم شرب يوم لا تشرب فيه الماء. سؤال: لم أخذهم العذاب وقد ندموا والندم توبة؟ جوابه كان ندمهم ندم خوف من العقاب العاجل أو ندموا ندم توبة في غير أوانها وذلك عند عيان العذاب. وقيل: ندموا على ترك عقر ولدها وفيه بعد. واللام في العذاب إشارة إلى عذاب يوم عظيم. القصة السادسة: قصة لوط: أنكر على قومه إتيانهم الذكور من الناس لا الإناث على كثرتهن، أو أنكر عليهم كونهم مختصين من العالمين بهذه الفاحشة. فقوله: مِنَ الْعالَمِينَ يعود على الأول إلى المأتي، وعلى الثاني إلى الآتي. والعالمون على هذا كل ما ينكح من الحيوان ولا شيء من الحيوان يرتكب هذه الفعلة إلا الإنسان. قوله مِنْ أَزْواجِكُمْ إما بيان لما خلق وإما للتبعيض فيراد بما خلق العضو المباح منهن فلعلهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم. والعادي المتجاوز الحد في ظلم أي بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ في جميع المعاصي وهذه واحدة منها، أو بل أنتم قوم أحقاء بأن تنسبوا إلى العدوان حيث فعلتم هذه الجريمة العظيمة. قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عن نهينا لَتَكُونَنَّ من جملة من أخرجناه من بلدنا ولعلهم كانوا يطردون من خالف أراد أنه كامل في قلاهم عصبية للدين، أو أنه معدود في زمرة مبغضيهم كما تقول: فلان من العلماء. فيكون أبلغ من قولك «هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 عالم» . ثم طلب النجاة من عقوبة عملهم أو سأل العصمة عن مثل عملهم ولقد عصمهم الله إِلَّا عَجُوزاً رضيت بفعلهم وأعانت على ذلك وكانت من أهله بحق الزواج وإن لم تشاركهم في الإيمان. ومعنى فِي الْغابِرِينَ إلا عجوزا مقدرا غبورها أي بقاؤها في الهلاك. واللام في الْمُنْذَرِينَ للجنس لتصلح الفاء علة فعل الذم والمخصوص محذوف أي ساء مطر جنس المنذرين مطر أولئك المعهودين والله أعلم. [سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 227] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 القراآت: ليكة بلام مفتوحة بعدها ياء ساكنة وبفتح التاء على أنها ممتنعة من الصرف للعلمية والتأنيث، وكذلك في «صاد» : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر. الآخرون الْأَيْكَةِ معروفا مجرورا. كِسَفاً بفتح السين: حفص غير الخزاز. الآخرون بسكونها رَبِّي أَعْلَمُ بفتح الياء: نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ونَزَلَ بِهِ مخففا الرُّوحُ الْأَمِينُ مرفوعين: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص وأبو زيد عن المفضل وزيد عن يعقوب. الباقون نزل مشددا الرُّوحُ الْأَمِينُ منصوبين أولم تكن بتاء التأنيث آية بالرفع: ابن عامر. الباقون بالياء التحتانية. آيَةً بالنصب: فتوكل بالفاء: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون بالواو مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ بتشديد التاء وكذلك تنزل البزي وابن فليح يتبعهم بالتخفيف: نافع وادي بالياء في الوقف: يعقوب والسرنديبي عن قنبل وقرأ قتيبة بالإمالة. الوقوف: الْمُرْسَلِينَ ج هـ تَتَّقُونَ هـ أَمِينٌ هـ لا وَأَطِيعُونِ هـ ج أَجْرٍ ج الْعالَمِينَ هـ ط الْمُخْسِرِينَ ج هـ الْمُسْتَقِيمِ ج هـ مُفْسِدِينَ ج هـ الْأَوَّلِينَ هـ ط الْمُسَحَّرِينَ هـ لا الْكاذِبِينَ هـ ج نصف آي القرآن الصَّادِقِينَ هـ ط تَعْمَلُونَ هـ الظُّلَّةِ ط عَظِيمٍ هـ لَآيَةً ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ الْعالَمِينَ هـ الْأَمِينُ هـ لا الْمُنْذِرِينَ هـ لا مُبِينٍ هـ الْأَوَّلِينَ هـ إِسْرائِيلَ ط هـ الْأَعْجَمِينَ هـ لا مُؤْمِنِينَ هـ ط الْمُجْرِمِينَ هـ ط بناء على أن لا يُؤْمِنُونَ مستأنف للبيان ولو جعل حالا فلا وقف الْأَلِيمَ هـ لا لا يَشْعُرُونَ هـ لا مُنْظَرُونَ هـ ط يَسْتَعْجِلُونَ هـ سِنِينَ هـ لا للعطف يُوعَدُونَ هـ لا لأن قوله ما أَغْنى جملة نفي أو استفهام قامت مقام الشرط يُمَتَّعُونَ هـ ط مُنْذِرُونَ هـ وقد يوقف عليها بناء على أن ذِكْرى ليس بمفعول له والمراد ذكرناهم والوقف على ذِكْرى جائز ظالِمِينَ هـ الشَّياطِينُ هـ يَسْتَطِيعُونَ هـ ط لَمَعْزُولُونَ هـ ط الْمُعَذَّبِينَ ج هـ الْأَقْرَبِينَ ج هـ للعطف الْمُؤْمِنِينَ هـ تَعْمَلُونَ هـ ج الرَّحِيمِ هـ لا تَقُومُ هـ لا السَّاجِدِينَ هـ الْعَلِيمُ هـ الشَّياطِينُ هـ ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار أَثِيمٍ ج هـ بناء على أن يُلْقُونَ حال من ضمير الشَّياطِينُ أي تنزل ملقين السمع أو صفة ل كُلِّ أَفَّاكٍ وإن جعل مستأنفا كأن قائلا قال: لم تنزل؟ فقيل: يفعلون كيت وكيت فلك الوقف. كاذِبُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 هـ ط الْغاوُونَ هـ ط يَهِيمُونَ هـ لا لا يَفْعَلُونَ هـ ظُلِمُوا ط يَنْقَلِبُونَ هـ. التفسير: القصة السابعة قصة شعيب وأنه كان أخا مدين دون أصحاب الأيكة ولهذا لم يقل «أخوهم شعيب» . يروى أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف وكان شجرهم الدوم وهي التي حملها المقل. قال في الكشاف: قرىء أصحاب ليكة بتخفيف الهمزة وبالجر على الإضافة وهو الوجه، ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة اسم بلد فتوهم قاد إليه خط المصحف في هذه السورة وفي سورة ص، ثم اعترض عليه بأن ليكة اسم لا يعرف. قلت: إنه لا يلزم من عدم العلم بالشيء عدم ذلك الشيء، والظن بالمتواتر يجب أن يكون أحسن من ذلك. أمرهم شعيب بإيفاء الكيل ونهاهم عن الإخسار وهو التطفيف وأن يجعل الشخص خاسرا فكأنه أمره بالإيفاء مرتين توكيدا ثم زاد في البيان بقوله. وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وقد مر في سورة سبحان. قال في الكشاف: إن كان من القسط وهو العدل وجعلت السين مكررة فوزنه «فعلاس» وإلا فهو رباعي. قلت: إن كان مكررا فوزنه «فعلال» أيضا. وقوله وَلا تَبْخَسُوا تأكيدا آخر وقد سبق في «هود» . والجبلة الخليقة حذرهم الله الذي تفضل عليهم بخلقهم وخلق من تقدمهم ممن لولا خلقهم لما كانوا مخلوقين. قال في الكشاف: الفرق بين إدخال الواو هاهنا في قوله وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ وبين تركها في قصة ثمود هو أنه قصد هاهنا معنيان منافيان عندهم للرسالة: كونه مسحرا وكونه بشرا وهناك جعل المعنى الثاني مقررا للأول. قلت: الفرق بين والإشكال في تخصيص كل من القصتين بما خصت به، ولعل السبب فيه هو أن صالحا قلل في الخطاب فقللوا في الجواب، وأكثر شعيب في الخطاب ولهذا قيل له خطيب الأنبياء فأكثروا في الجواب. «وإن» في قولهم وَإِنْ نَظُنُّكَ هي المخففة من الثقيلة عملت في ضمير شأن مقدر. واللام في قوله لَمِنَ الْكاذِبِينَ هي الفارقة. والكسف بالسكون والحركة جمع كسفة وهي القطعة وقد مر في سبحان في اقتراحات قريش. والمعنى إن كنت صادقا في دعوة النبوة فادع الله أن يسقط علينا قطع السماء. وإنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه فأرادوا بذلك إظهار كذبه فحلم عنهم شعيب ولم يدع عليهم بل فوض الأمر إلى الله بقوله: رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ يروى أن شعيبا بعث إلى أمتين: أصحاب مدين وأصحاب الأيكة. فأهلكت مدين بصيحة جبرائيل، وأهلكت أصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة وذلك إنه حبس عنهم الريح سبعا وسلط عليهم الحرّ فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظل ولا ماء ولا شراب، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى الصحراء فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 وحين سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه القصص المؤكدة بالمكررات المختتمة بالمقررات عاد إلى مخاطبته قائلا وَإِنَّهُ أي وإن الذي نزل عليك من الأخبار لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ أي منزله. والباء في نَزَلَ بِهِ على القراءتين للتعدية ولكنها في قراءة التشديد تقتضي مفعولا آخر هو الروح أي جعل الله تعالى الروح الأمين نازلا به على قلبك محفوظا مفهوما لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون قوله بِلِسانٍ متعلقا ب نَزَلَ أي نزله بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ لتنذر به فإنه لو نزله بالأعجمي لقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه. ومن هذا الوجه ينشأ فائدة أخرى لقوله عَلى قَلْبِكَ أي نزلناه بحيث تفهمه ولو كان أعجميا لكان نازلا على سمعك دون قلبك. والظاهر من نقل أئمة اللغة أن القلب والفؤاد مترادفان. ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن بعضهم أن القلب هو العلقة السوداء في جوف الفؤاد وذكر كلاما طويلا في أن محل العقل هو القلب دون الدماغ وهو المخاطب في الحقيقة فلهذا قال نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ونحن قد تركناه لقلة تعلقه بالمقام ولضعف دلائله مع مخالفته لما عليه معظم أرباب المعقول. قوله وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ يعني أن ذكر القرآن مثبت في الكتب السماوية للأمم المتقدمة، وإن معاني القرآن في تلك الزبر. وقد يحتج به لأبي حنيفة في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة. وقيل: الضمير فيه وفي أَنْ يَعْلَمَهُ للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه حجة ثابتة على نبوته قد شهد بها علماء بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره من الذين أسلموا منهم واعترفوا أن نعته وصفته في كتبهم مذكور، وكان مشركوا قريش يذهبون إلى اليهود يتعرفون منهم هذا الخبر. من قرأ يَكُنْ بالتذكير وآيَةً بالنصب على الخبر والاسم أَنْ يَعْلَمَهُ فظاهر، ومن قرأ تكن بالتأنيث وآيَةً بالرفع على الاسم والخبر أَنْ يَعْلَمَهُ فقيل: ليست بقوية لوقوع النكرة اسما والمعرفة خبرا. ويمكن أن يجاب بأن الفعل المضارع مع أن ليس من المعارف الصريحة، وقد توجه هذه القراءة بتقدير ضمير القصة في تكن وجملته آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ ولَهُمْ لغوا أو لَهُمْ آيَةً وأَنْ يَعْلَمَهُ بدل من آية. قال جار الله: إنما كتب علموء بالواو على لغة من يميل الألف إلى الواو ولذلك كتبت الصلاة والزكوة بالواو. ثم أكد بقوله وَلَوْ نَزَّلْناهُ ما مر من آية لو نزله بالأعجمي فقرأه عليهم بعض الأعجمين لم يؤمنوا به لأنهم لم يكونوا يفهمونه. وقال جار الله: معناه ولو نزلناه على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية فضلا أن يقدر على نظم مثله فقرأه عليهم هكذا فصيحا معجزا متحدّى به لكفروا به كما كفروا ولتمحلوا لجحودهم عذرا ولسموه سحرا. ثم قال كَذلِكَ أي مثل هذا السلك سَلَكْناهُ في قلوبهم وقررناه فيها فعلى أيّ وجه دبر أمرهم فلا سبيل إلى تغييرهم عما هم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 عليه من الإنكار والإصرار، وقد سبق مثل هذه الآية في أول «الحجر» . والحاصل أنهم لا يزالون على التكذيب حتى يعاينوا الوعيد، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن اليأس إحدى الراحتين. قال في الكشاف: ليس الفاء في قوله فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَيَقُولُوا لأجل ترادف العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة، وإنما المعنى ترتيبها في الشدة كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب فما هو أشد منها وهو لحوقه بهم مفاجأة. فما هو أشد منه وهو سؤالهم النظرة. نظيره قولك: إن أسأت مقتك الصالحون فمقتك الله، لا تريد الترتيب في الوجود ولكن في الشدة. قلت: هذا معنى صحيح ولكن لا مانع من إرادة الترتيب والتعذيب في الوجود يظهر بالتأمل إن شاء الله العزيز. ثم نكرهم بقوله أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ وفيه إنكار وتهكم أي كيف يستعجل العذاب من لا طاقة له به حتى استمهل بعد أن كان من العمر في مهلة؟ وجوز في الكشاف أن يكون يَسْتَعْجِلُونَ حكاية حال ماضية يوبخون بها عند استنظارهم، أو يكون متصلا بما بعده وذلك أنهم اعتقدوا العذاب غير كائن فلذلك استعجلوه وظنوا أنهم يمتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن، فأنكر الله عليهم استعجالهم الصادر عن الأشر والبطر والاستهزاء والاتكال على طول الأمل. ثم قال: هب أن الأمر كما ظنوه من التمتع والتعمير فإذا لحقهم الوعيد أو الأجل أو القيامة هل ينفعهم ذلك؟. عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له: عظني فتلا عليه هذه الآية فقال له ميمون: لقد وعظت فأبلغت. ثم بين أنه ما أهلك قرية إلا بعد إلزام الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم، وعلى هذا يكون ذِكْرى متعلقة ب أَهْلَكْنا مفعولا له. ويجوز أن يكون مفعولا مطلقا ل أَنْذِرْ بمعنى التذكرة فإن أَنْذِرْ وذكر متقاربان، أو حالا من الضمير في مُنْذِرُونَ أو مفعولا له متعلقا به أي ينذرونهم ذوي تذكرة أو لأجل الموعظة والتذكير، أو التقدير: هذه ذكرى فالجملة اعتراض. ويجوز أن يكون صفة ل مُنْذِرُونَ على حذف المضاف أي ذوو ذكرى، أو جعلوا ذكرى لبلوغهم في التذكرة أقصى غاياتها. والبحث عن وجود الواو وعدمه في مثل هذا التركيب قد مر في أول الحجر في قوله وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر: 4] إلا أنا نذكر هاهنا سبب تخصيص تلك الآية بالواو وهذه بعدم الواو فنقول: لا ريب أن الواو تفيد مزيد الربط والاجتماع في الحال وفي الوصف إن جوزتا: فسواء قدرنا الجملتين أعني قوله وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر: 4] وقوله لَها مُنْذِرُونَ حالا أو وصفا فالمقام يقتضي ورود النسق على ما ورد، وذلك أن قوله وَلَها كِتابٌ صفة لازمة للقرية فإن الكتب في اللوح وصف أزلي فناسب أن يكون في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 اللفظ ما يدل على اللزوم واللصوق وهو الواو، ثم زيد في التأكيد بقوله مَعْلُومٌ وبقوله ما تَسْبِقُ وهذا بخلاف قوله لَها مُنْذِرُونَ فإنها صفة حادثة فأطلقت وجود صدر الجملة عن الواو لذلك والله أعلم. ثم إنه لما احتج على صدق محمد صلى الله عليه وسلم بكون القرآن معجزا منزلا من رب العالمين مشتملا على معاني كتب الأولين وكان الكفار يقولون إنه من إلقاء الجن كحال الكهنة أراد أن يزيل شبهتهم بقوله: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ التنزل بالوحي وَما يَسْتَطِيعُونَ. ثم بين عدم اقتدارهم بقوله إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ أي عن سماع كلام أهل السماء لَمَعْزُولُونَ وذلك بواسطة رجم الشهب كما أخبر عنه الصادق والمعجزات يتساند بعضها ببعض، ولو فرض أنهم غير مرجومين بالشهب فالعقل يدل على أن الاهتمام بشأن الصديق أقوى منه بشأن العدو، وكان محمد صلى الله عليه وسلم يلعن الشياطين ويأمر الناس بلعنهم فلو كان الغيب بإلقاء الشياطين لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم ذلك. وحين أثبت حقية القرآن أمر نبيه بجوامع مكارم الأخلاق ومحاسن العادات قائلا فَلا تَدْعُ والمراد أمته كما مر في نظائره من قوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ [البقرة: 120] وغير ذلك وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ فيه أن الاهتمام بشأن من هو أقرب إلى المرء أولى. وفيه أنه يجب أن لا يأخذه في باب التبليغ ما يأخذ القريب للقرب من المساهلة ولين الجانب. يروى أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت الآية صعد الصفا فنادى الأقرب فالأقرب فخذا فخذا وقال: يا بني عبد المطلب يا بني هاشم يا بني عبد مناف يا عباس عم النبي يا صفية عمة رسول الله، إني لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من المال ما شئتم. وروي أنه جمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا، الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس على رجل شاة، فأكلوا وشربوا حتى شبعوا ثم أنذرهم فقال: يا بني عبد المطلب لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قوله وَاخْفِضْ جَناحَكَ قد مر تفسيره في آخر «الحجر» وفي «سبحان» وزاد هاهنا لِمَنِ اتَّبَعَكَ كيلا يذهب الوهم إلى أن خفض الجناح وهو التواضع ولين الجانب مختص بالمؤمنين من عشيرته. وإنما لم يقتصر على قوله لِمَنِ اتَّبَعَكَ لأن كثيرا منهم كانوا يتبعونه للقرابة والنسب لا للدين. وقال في الكشاف: سبب الجمع بين اللفظين هو أنه سماهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك، أو أراد بالمؤمنين المصدّقين بالألسنة فزاد قوله لِمَنِ اتَّبَعَكَ ليخرج من صدّق باللسان دون الجنان، أو صدق بهما ولم يتبعه في العمل. وحين أمره بالتواضع لأهل الإخلاص في الإيمان أمره بالتبرئة من أرباب العصيان. فاستدل الجبائي به على أن الله تعالى أيضا بريء من عملهم فكيف يكون فاعلا له؟! وأجيب بأنه إن أراد ببراءة الله أنه ما أمر بها فمسلم، وإن أراد أنه لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 يريدها فممنوع لانتهاء جميع الحوادث إلى إرادته ضرورة قوله وَتَوَكَّلْ معطوف على قوله فَلا تَدْعُ أو على قوله فَقُلْ أمره بتفويض الأمر في دفع أعاديه إلى العزيز الذي يقهر من ناوأ أولياءه الرحيم الذي لا يخذل من ينصر دينه. قال بعض العلماء: المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما فيه معصية الله عز وجل، ولو وقع في محنة واستعان في دفعها ببعض المخلوقين لم يخرج من حد المتوكلين، ثم عدد مواجب الرحمة وهي رؤيته قيامه وتقلبه في الساجدين أي في المصلين. وللمفسرين فيه وجوه منها: ما روي أنه حين نسخ فرض التهجد طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه حرصا عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات فوجدها كبيوت الزنابير ذكرا وتلاوة. فالمراد بتقلبه في الساجدين تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه ليطلع عليهم كيف يعملون لآخرتهم. ومنها أن المراد تصرفه فما بين المؤمنين به بالقيام والركوع والسجود والقعود. ويروى عن مقاتل أنه استدل به على وجود فضل صلاة الجماعة في القرآن. ومنها أنه إشارة إلى ما جاء في الحديث «أتموا الركوع والسجود فو الله إني لأراكم من خلف ظهري» فالتقلب تقلب بصره فيمن يصلي خلفه. وقيل: أراد أنه لا يخفى علينا كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين. وقد احتج بالآية علماء الشيعة على مذهبهم أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم لا يكونون كفارا. قالوا: أراد تقلب روحه من ساجد إلى ساجد كما في الحديث المعتمد عليه عندهم «لم أزل أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» وناقشهم أهل السنة في التأويل المذكور وفي صحة الحديث. والأصوب عندي أن لا نشتغل بمنع أمثال هذه الدعوى ونسرح إلى بقعة الإمكان على أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول. ثم أكد قوله وما تنزلت به الشياطين بقوله هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ قال في الكشاف: تقديره أعلى من تنزل؟ ليكون الاستفهام في صدر الكلام كقولك: أعلى زيد مررت؟ قلت: هذا تكلف بارد لأن الاستفهام في «من» ضمني لا يصرح به قط. والأفاك الكثير الإفك، والأثيم مبالغة آثم وهم الكهنة والمتنبئة كسطيح ومسيلمة وأمثالهما. والضمير في يُلْقُونَ عائد إلى الشياطين كانوا قبل الرجم بالشهب يختطفون بعض الغيوب من الملأ الأعلى بإلقاء السَّمْعَ أي بالإصغاء ثم يرجعون به إلى أوليائهم وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ لأنهم يخلطون الحق المسموع بكلامهم الباطل كما جاء في الحديث «الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة» . والقر الصب. وقيل: السمع بمعنى المسموع أي يلقي الشياطين إلى أوليائهم ما يسمعونه من الملائكة. ويحتمل أن يكون الضمير في: يُلْقُونَ للأفاكين والسمع الأذن أو المسموع أي يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 وحيهم، أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس. وإنما لم يقل «وكلهم كاذبون» لأن الكذوب قد يصدق فيصدق عليه أنه صادق في الجملة لأن هذه عبارة الفصحاء لا يحكمون حكما كليا ما لم تدع إليه ضرورة. والحاصل أنهم كانوا يقيسون حال النبي صلى الله عليه وسلم على حال الكهنة فقيل لهم: إن الأغلب على الكهنة الكذب ولم يظهر من أحوال محمد صلى الله عليه وسلم إلا الصدق، فكيف يكون كاهنا؟ ثم بين ما يعرف منه أن النبي ليس بشاعر كما أنه ليس بكاهن فقال وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قيل: أي الشياطين. والأظهر أنهم الذين يروون أشعارهم وكان شعراء قريش مثل عبد الله بن الزبعري وأمية بن أبي الصلت يهجون النبي صلى الله عليه وسلم ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أهاجيهم فنزلت. ثم بين غوايتهم بقوله أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وهو تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول يمدحون إنسانا معينا تارة ويذمونه أخرى غالين في كلا الطرفين مستعملين التخيل في كل ما يرومونه. وذكر من قبائح خصالهم أَنَّهُمْ يَقُولُونَ عند الطلب والدعاوي ما لا يَفْعَلُونَ ولعمري إنها خصلة شنعاء تدل على الدناءة واللؤم. قالوا وما فعلوا وأين هم ... من معشر فعلوا وما قلوا وعن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله: فبتن بجانبيّ مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختام فقال: وجب عليك الحد. قال: قد درأ الله عني الحد يا أمير المؤمنين وتلا الآية. ثم استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين أغلب أحوالهم الذكر والفكر فيما لا بأس به من المواعظ والنصائح، ومدح الحق وذويه، ويكون هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم مثل عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن زهير كانوا ينافحون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: اهجهم فو الذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل. وكان يقول لحسان: هاجهم وروح القدس معك. والحاصل أن النظر في الشعر إلى المعنى لا على مجرد النظم والروي. فإن كان المعنى صحيحا مطابقا للحق والصدق فلا بأس بإدخاله في سلك النظم والقافية بل لعل النظم يروجه ويهيج الطبع على قبوله وهو الذي عناه صلى الله عليه وسلم «إن من الشعر لحكما» «1» . وإن كان المعنى فاسدا والغرض غير صحيح فهو   (1) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 90. أبو داود في كتاب الأدب باب 87. الترمذي في كتاب الأدب باب 69. ابن ماجة في كتاب الأدب باب 41. الدارمي في كتاب الاستئذان باب 68. أحمد في مسنده (3/ 456) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 الذي توجه الذم إليه. وللانتصار حد معلوم وهو أن لا يزيد على الجواب لقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] وقال صلى الله عليه وسلم «المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يتعدى المظلوم» «1» ثم ختم السورة بآية جامعة للوعيد كله فقال وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا خصصه بعضهم بالشعراء إذا خرجوا عن حد الإنصاف، ومالوا إلى الجور والاعتساف، ولعله عام يتناول لكل من ظلم نفسه بالإعراض عن تدبر ما في هذه السورة بل القرآن كله. وقوله أَيَّ مُنْقَلَبٍ صفة لمصدر محذوف والعامل يَنْقَلِبُونَ أي ينقلبون في الدركات السفلى انقلابا أيّ منقلب ولا يعمل فيه سَيَعْلَمُ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وعن ابن عباس أنه قرأه بالفاء والتاء والمراد سيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات وهو النجاة. التأويل: ولو نزلناه على بعض الأعجميين فيه إظهار القدرة من وجهين: الأول جعل الأعجمي بحيث يقرأ العربي عليهم كقول القائل: أمسيت كرديا وأصبحت عربيا. والثاني أن أهل الإنكار لا يصيرون أهل الإقرار ولو أتاهم مثل هذا الإعجاز البين، وذلك لأن الله كذلك يسلكه في قلوبهم فيأتيهم عذاب البعد والطرد في الدنيا بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ لأنهم نيام فإذا ماتوا انتبهوا فيقولون هل نحن منظرون. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ لأنهم خلقوا من النار والقرآن نور قديم فلا يكون للنار المخلوقة قوة حمل النور القديم، ولهذا تستغيث النار من نور المؤمن وتقول: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي. فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ لأن كل من طلب مع الله شيئا آخر حتى الجنة فله عذاب البعد والحرمان من الله. وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ فيه أن النسب نسب النفوس فإن أكل المرء يشبعه ولا يشبع ولده. إلا إذا أكل الطعام كما أكل والده وهذا معنى المتابعة. إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ لم يقل «إني بريء منكم» لأن المراد لا تبرأ منهم وقل لهم قولا جميلا بالنصح والموعظة الحسنة حتى يرجعوا ببركة دعوتك إلى القول الحق، أو ينالوا الجنة بواسطة شفاعتك. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ بأن خلق روح كل ساجد من روحك. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ في الأزل مقالتك «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» لأن أرواحهم خلقت من روحك الْعَلِيمُ باستحقاقك لهذه الكرامة الله تعالى حسبي.   (1) رواه مسلم في كتاب البر حديث 69. أبو داود في كتاب الأدب باب 39. الترمذي في كتاب البر باب 51. أحمد في مسنده (2/ 235، 488) (4/ 162) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 (سورة النمل) (مكية حروفها أربعة آلاف وستمائة وتسعة وتسعون كلمها ألف ومائة وتسعة آياتها ثلاث وتسعون) [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) القراآت: إِنِّي آنَسْتُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. بِشِهابٍ منونا على أن قبسا وهو بمعنى مقبوس بدل أو صفة: عاصم وحمزة وعلي وخلف ورويس. الباقون بالإضافة مَنْ فِي النَّارِ ممالة: عليّ غير ليث وأبي حمدون وحمدويه وحمزة وفي رواية ابن سعدان والنجاري عن ورش وأبو عمرو غير إبراهيم بن حماد وكذلك في «القصص» . الوقوف: طس هـ مُبِينٍ هـ لا بناء على أن هُدىً حال والعامل معنى الإشارة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 في تِلْكَ أو هو مرفوع بدلا من ال آياتُ أو خبرا بعد خبر وإن كان التقدير هي هدى به فلك الوقف لِلْمُؤْمِنِينَ هـ لا لأن الَّذِينَ صفتهم يُوقِنُونَ هـ يَعْمَهُونَ هـ ط تنصيصا على أن أُوْلئِكَ مبتدأ مستأنف. الْأَخْسَرُونَ هـ عَلِيمٍ هـ ناراً هـ تَصْطَلُونَ حَوْلَها ط الْعالَمِينَ هـ الْحَكِيمُ هـ لا لعطف الجملتين الداخلتين تحت النداء عَصاكَ ط للعدول عن بيان حال الخطاب إلى ذكر حال المخاطب مع حذف أي فألقاها فحييت وَلَمْ يُعَقِّبْ ط لابتداء النداء الْمُرْسَلُونَ هـ لا لأن «إلّا» إن كان بمعنى «لكن» فالاستدراك يوجب الوصل أيضا. رَحِيمٌ هـ وَقَوْمِهِ ط فاسِقِينَ هـ مُبِينٌ ج هـ للآية والعطف وَعُلُوًّا ط لاختلاف الجملتين وتعظيم الأمر بالاعتبار بعد حذف أي فأغرقناهم الْمُفْسِدِينَ هـ. التفسير: تلك الآيات التي تضمنتها هذه السورة آيات القرآن الذي علم أنه منزل مبارك مصدق لما بين يديه وكتاب مبين. فإن أريد به اللوح فآياته أنه أثبت فيه كل كائن، وإن أريد به السورة أو القرآن فالغرض تفخيم شأنهما من قبل التنكير. فآياتهما أن إعجازهما ظاهر مكشوف وفيهما من العلوم والحكم ما لا يخفى، ولأن الواو لا تفيد الترتيب فلا حكمة ظاهرة في عكس الترتيب بين ما هاهنا وبين ما في أول «الحجر» . ومعنى كون الآيات هدى وبشرى أنها تزيد في إيمانهم وتبشرهم بالثواب. قال جار الله: يحتمل أن يكون قوله وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ من تتمة الموصول إلا أن الأوجه أن يكون جملة مستقلة ابتدائية شبيهة بالمعترضة بدليل تكرير المبتدأ الذي هو هم فكأنه قيل: وما يؤمن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة هو الذي يسهل عليهم متاعب التكاليف. وأقول: إنه وصفهم بالإيمان ليكون إشارة إلى معرفتهم المبتدأ، ثم وصفهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهما الطاعة بالنفس والمال، وهذه إشارة إلى وسط. ثم وصفهم بمعرفة المعاد فلا أحسن من هذا النسق. وفيه أن المهتدي بالقرآن حقيقة هو الذي يكون موقنا بأحوال المعاد لا شاكا فيها، آتيا بالطاعات للاحتياط قائلا: إن كنت مصيبا فيها فقد نلت السعادة وإن كنت مخطئا فلم تفتني إلا لذات يسيرة زائلة. ثم أورد وعيد المنكرين للمعاد وإسناد تزيين الأعمال إلى الله ظاهر على قول الأشاعرة، وأما المعتزلة فتأولوه بوجوه منها: أنه استعارة فكأنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق وجعلوا ذلك التمتع ذريعة إلى اتباع الشهوات وإيثار اللذات فقد زين لهم بذلك أعمالهم. ومنها أنه مجاز حكمي وهو الذي يصححه بعض الملابسات. ولا ريب أن إمهال الشيطان وتخليته حتى زين لهم أعمالهم كما قال وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل: 24] ملابسة ظاهرة للتزيين. ومنها أنه أراد زينا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 لهم أمر الدين ولا يلزمهم أن يتمسكوا به وذلك بأن بينا لهم حسنه وما لهم فيه من الثواب فَهُمْ يَعْمَهُونَ يعدلون ويتحيرون عما زينا لهم قاله الحسن لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ أي القتل والأسر كيوم بدر. ثم مهد مقدمة لما سيذكر في السورة من الأخبار العجيبة فقال وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ لتؤتاه وتلقنه من عند أيّ حكيم وأيّ عليم. وإِذْ قالَ منصوب ب عَلِيمٍ أو باذكر كأنه قيل: خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى العجيبة الشأن. والخبر خبر الطريق لأنه كان قد ضله. وفي قوله سَآتِيكُمْ مع قوله في «طه» و «القصص» لَعَلِّي آتِيكُمْ [طه: 10] دليل على أنه كان قوي الرجاء إلا أنه كان يجوّز النقيض، وعد أهله بأنه يأتيهم بأحد الأمرين وإن أبطأ لبعد المسافة أو غيره. قالوا: في «أو» دليل على أنه جزم بوجدان أحد الأمرين ثقة بعناية الله تعالى أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده والاصطلاء بالنار الاستدفاء بها والاجتماع عليها وإنما خصت هذه السورة بقوله فَلَمَّا جاءَها وقد قال في «طه» و «القصص» فَلَمَّا أَتاها [طه: 11] نُودِيَ لأنه كرر لفظ آتِيكُمْ هاهنا بخلاف السورتين فاحترز من تكرار ما يقاربه في الاشتقاق مرة أخرى. وأَنْ مفسرة لأن النداء فيه معنى القول لا مخففة من الثقيلة بدليل فقدان «قد» في فعلها. قال جار الله: معنى بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ بورك من في مكان النار، ومن حول مكانها، ومكانها البقعة التي حصلت النار فيها كما قال في القصص نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ [القصص: 30] وسبب البركة حدوث أمر ديني فيها وهو تكليم الله إياه وإظهار المعجزات عليه. وقيل: معنى بورك تبارك، والنار بمعنى النور أي تبارك من في النار وهو الله سبحانه مروي عن ابن عباس. وعن قتادة والزجاج أن من في النار هو نور الله، ومن حولها الملائكة. وقال الجبائي: ناداه بكلام سمعه من الشجرة في البقعة المباركة وهي الشام فكانت الشجرة محلا للكلام والمتكلم هو الله بأن خلقه فيها، ثم إن الشجرة كانت في النار ومن حولها الملائكة. وقيل: من في النار هو موسى لقربه منها، ومن حولها الملائكة. وفي الابتداء بهذا الخطاب عند مجيء موسى بشارة له بأنه قد قضي أمر عظيم تنتشر منه البركة في أرض الشام. وفي قوله وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ تنزيه له عما لا يليق بذاته من الحدوث والحلول ونحوهما مما هو من خواص المحدثات، وتنبيه على أن الكائن من جلائل الأمور التي لا يقدر عليها إلا رب العالمين. والهاء في إِنَّهُ إما للشأن وإما راجع إلى ما دل عليه سياق الكلام أي أن المتكلم أَنَا وعلى هذا فالله مع وصفيه بيان لانا وفيه تلويح إلى ما أراد إظهاره عليه، يريد أنا القادر القوي على إظهار الخوارق الحكيم الذي لا يفعل جزافا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 ولا عبثا. وقوله وَأَلْقِ عَصاكَ معطوف على بُورِكَ وكلاهما تفسير ل نُودِيَ والمعنى: قيل له بورك وألق: ومعنى لَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع يقال: عقب المقاتل إذا كر بعد الفر. وإنما اقتصر هاهنا على قوله لا تَخَفْ ولم يضف إليه أقبل كما في «القصص» لأنه أراد أن يبني عليه قوله إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ وسبب نفي الخوف عن الرسل مشاهدة مزيد فضل الله وعنايته في حقهم. ثم استثنى من ظلم منهم بترك ما هو أولى به، وقد مر بحث عصمة الأنبياء في أول «البقرة» . وفي الآية لطائف وإشارات منها: أنه أشار بقوله إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إلى أن موسى قد جعل رسولا. ومنها أنه أشار بقوله إِلَّا مَنْ ظَلَمَ إلى ما وجد من موسى في حق القبطي، وبقوله ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ أي توبة بعد ذنب إلى قول موسى رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص: 16] وقرىء «ألا» بحرف التنبيه. ومنها أنه أشار بقوله ثُمَّ بَدَّلَ معطوفا على ظَلَمَ إلى أن النبي المرسل بدّل النية ولم يصر على فعله وإلا كان هذا العطف مقطوعا عن الكلام ضائعا، فإنه إذا ظلم ولم يبدل كان خائفا أيضا. ومنها أنه أشار بقوله فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ إلى أن الخوف وإن لحق المستثنى إلا أنه منفي عنه أيضا بسبب غفرانه ورحمته، فنفي الخوف ثابت على كل حال فهذا الاستثناء قريب من تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله: هو البدر إلا أنه البحر زاخر وكقوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وهذه اللطائف مما سمح بها الخاطر أوان الكتابة أرجو أن تكون صوابا إن شاء العزيز. قوله وَأَدْخِلْ يَدَكَ وفي «القصص» اسْلُكْ يَدَكَ [القصص: 32] موافقة لأضمم ولأن المبالغة في أَدْخِلْ أكثر منها في اسْلُكْ لأن سلك لازم ومتعد. وهناك قال فَذانِكَ بُرْهانانِ [القصص: 32] وهاهنا قال فِي تِسْعِ آياتٍ وكان أبلغ في العدد فناسب الأبلغ في اللفظ. قال النحويون: متعلق الجار محذوف مستأنف أي أذهب في تسع آيات. أو المراد وأدخل يدك في تسع أي في جملتهن وعدادهن، اذهب إلى فرعون. وتفسير التسع قد مر في آخر «سبحان» وإنما قال هاهنا إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ دون أن يقول وَمَلَائِهِ [الآية: 32] كما في القصص لأن الملأ أشراف القوم وقد وصفهم هاهنا بقوله فَلَمَّا جاءَتْهُمْ إلى قوله ظُلْماً وَعُلُوًّا فلم يناسب أن يطلق عليهم لفظ ينبىء عن المدح. ومعنى مُبْصِرَةً ظاهرة بينة كأنها تبصر بطباق العين فتهدي، ويجوز أن يكون الإبصار مجازا باعتبار إبصار صاحبها وهو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 كل ذي عقل أو فرعون وقومه. والواو في وَاسْتَيْقَنَتْها للحال وقد مضمرة وفي زيادة أَنْفُسُهُمْ إشارة إلى أنهم أظهروا خلاف ما أبطنوا والاستيقان أبلغ من الإيقان. وقوله ظُلْماً وَعُلُوًّا أي كبرا وترفعا مفعول لأجلهما. وقرىء مُبْصِرَةً بفتح الميم نحو «مبخلة» قرأها علي بن الحسين وقتادة والله أعلم. التأويل: طا طلب الطالبين، وسين سلامة قلوبهم من تعلقات غير الله، تلك دلالات القرآن وشواهد أنواره وَكِتابٍ مُبِينٍ فيه بيان كيفية السلوك ولذلك قال هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ بالوصول إلى الله الذين يستقيمون في المعارج لحقائق الصلوات ويؤتون الزكاة أموالهم وأحوالهم بالإضافة على المستحقين زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ الدنيوية النفسانية فَهُمْ يَعْمَهُونَ لعمي قلوبهم عن رؤية الآخرة ونعيمها، ولا يكون في عالم الآخرة أعمى إلا كان أصم وأبكم ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «حبك للشيء يعمي ويصم» «1» فبحب الدنيا عميت عين القلب وصمت أذنه وصار أبكم عن العلم اللدني والنطق به، وهو سوء العذاب، وهو الموجب لخسران الدارين مع خسران المولى، وإنما يكون خسران الدارين ممدوحا إذا ربح المولى. وجد أبو زيد في البادية قحفا مكتوبا عليه خسر الدنيا والآخرة فبكى وقبله وقال: هذا رأس صوفي. وحين أخبر عن مقامات المؤمنين ودركات الكافرين أخبر عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ لا من عند جبريل بل مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ تجلى لقلبك بحكمة القرآن عَلِيمٍ يعلم حيث يجعل رسالته. ثم ضرب مثالا لذلك وهو أن موسى القلب لما كشف له أنوار شواهد الحق في ليلة الهوى وظلمة الطبيعة قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ وهم النفس وصفاتها إِنِّي آنَسْتُ ناراً بوادي أيمن السر لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ بتلك النار عن جمود الطبيعة فَلَمَّا جاءَها على قدمي الشوق وصدق الطلب نُودِيَ من الشجرة الروحانية أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي نار المحبة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة وَمَنْ حَوْلَها كالفراش يريد أن يقع فيها وَأَلْقِ عن يد همتك كل ما تعتمد عليه سوى فضل الله فإنه جان في الحقيقة وَلَّى مُدْبِراً هاربا إلى الله وَلَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع إلى غيره فلذلك نودي ب لا تَخَفْ فإن القلوب الملهمة الموصلة إليها الهدايا والتحف والألطاف لا تخاف سوى الله إلّا من ظلم نفسه بالرجوع إلى الغير وَأَدْخِلْ يد همتك في جيب قناعتك تَخْرُجْ بَيْضاءَ نقية من لوث الدارين فِي تِسْعِ آياتٍ من أسباب هلاك النفس وصفاتها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الذين أفسدوا الاستعداد الفطري والله أعلم.   (1) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب 116. أحمد في مسنده (5/ 194) (6/ 450) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 44] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 القراآت: وادِ النَّمْلِ ممالة: عباس وقتيبة. وقرأ يعقوب وعلي والسرنديبي عن قنبل بالياء في الوقف. لا يَحْطِمَنَّكُمْ بالنون الخفيفة: عباس ورويس. أَوْزِعْنِي بفتح الياء: ابن كثير وكذلك في «الأحقاف» ما لِيَ لا بفتح ياء المتكلم: ابن كثير وعلي وعاصم لَيَأْتِيَنِّي بنون الوقاية بعد الثقيلة: ابن كثير. فَمَكَثَ بفتح الكاف: عاصم وسهل ويعقوب غير رويس. الآخرون بضمها مِنْ سَبَإٍ بفتح الهمزة لامتناع الصرف: البزي وأبو عمرو وعن قنبل بهمزة ساكنة. وفي رواية أخرى عنه وعن ابن فليح وزمعة بغير همز. الباقون بهمزة منونة مكسورة، وكذلك في سورة سبأ. أَلَّا يَسْجُدُوا مخففا: يزيد وعلي ورويس. الآخرون بالتشديد. وقال ابن مجاهد: إذا وقفوا على أَلَّا وقفوا على «ألا يا» والابتداء اسجدوا تُخْفُونَ وتُعْلِنُونَ بتاء الخطاب فيهما: علي وحفص والباقون على الغيبة فَأَلْقِهْ بسكون الهاء: حمزة وعاصم غير المفضل وأبو عمرو غير عباس، وقرأ باختلاس حركة الهاء: يزيد وقالون ويعقوب غير زيد وأبو عمرو من طريق الهاشمي عن اليزيدي الباقون بالإشباع إِنِّي أُلْقِيَ بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع أتمدونني بالياء في الحالين: ابن كثير وسهل وافق به أبو جعفر ونافع وأبو عمرو في الوصل اتمدوني بتشديد النون وبالياء في الحالين: حمزة ويعقوب. الآخرون بإظهار النونين وحذف الياء أتاني الله بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن فليح وحفص. فمن فتح الياء فالوقف بالياء لا غير، من حذف الياء فإنه يقف بغير الياء إلا سهلا ويعقوب فإنهما يقفان بالياء. وقرأ علي آتانِيَ اللَّهُ بالإمالة أَنَا آتِيكَ بالإمالة وكذلك ما بعده: حمزة في رواية خلف وابن سعدان والعجلي وأبي عمرو وخلف لنفسه فلما رأيه بكسر الراء: نصير لِيَبْلُوَنِي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع. اقَيْها وبابه بالهمز: ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل والأحسن تركها. قال في الكشاف: من همز فوجهه أنه سمع سؤقا فأجرى عليه الواحد. الوقوف: عِلْماً ج للعدول عن بيان إيتاء الفضل ابتداء إلى ذكر قول المنعم عليهما شكرا ووفاء الْمُؤْمِنِينَ هـ شَيْءٍ ط الْمُبِينُ هـ يُوزَعُونَ هـ النَّمْلِ لا لأن ما بعده جواب «إذا» مَساكِنَكُمْ ج لانقطاع النظم لنهي الغائب مع اتحاد القائل وَجُنُودُهُ لا لأن الواو للحال لا يَشْعُرُونَ هـ الصَّالِحِينَ هـ الْهُدْهُدَ ز على معنى بل أكان من الغائبين على معنى التهديد والأصح أن «أم» متصل بمعنى الاستفهام في ما لِيَ أي أنا لا أراه أو هو غائب الْغائِبِينَ هـ مُبِينٍ هـ يَقِينٍ هـ عَظِيمٌ هـ لا يَهْتَدُونَ هـ لا ومن خفف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 أَلَّا وقف مطلقا تُعْلِنُونَ هـ الْعَظِيمِ هـ سجدة الْكاذِبِينَ هـ يَرْجِعُونَ هـ كَرِيمٌ هـ الرَّحِيمِ هـ لا لتعلق «أن» مُسْلِمِينَ هـ أَمْرِي ج لانقطاع النظم مع اتحاد القائل تَشْهَدُونِ هـ تَأْمُرِينَ هـ أَذِلَّةً ج لأن قوله وَكَذلِكَ يحتمل أن يكون من تتمة قولها أو هو تصديق من الله لما قالت يَفْعَلُونَ هـ الْمُرْسَلُونَ هـ بِمالٍ ز لانتهاء الاستفهام مع فاء التعقيب وبيان الاستغناء على التعجيل آتاكُمْ ج لاختلاف الجملتين على أن «بل» ترجح جانب الوقف تَفْرَحُونَ هـ صاغِرُونَ هـ مُسْلِمِينَ هـ مَقامِكَ ج للابتداء بإن مع اتحاد القائل أَمِينٌ هـ طَرْفُكَ ط للعدول أَمْ أَكْفُرُ هـ لِنَفْسِهِ ج كَرِيمٌ هـ لا يَهْتَدُونَ هـ عَرْشُكِ ط هُوَ ج لاحتمال أن يكون ما بعده من كلامها أو من كلام سليمان مُسْلِمِينَ هـ مِنْ دُونِ اللَّهِ ط كافِرِينَ هـ صَّرْحَ ج اقَيْها طوارِيرَ هْ عالَمِينَ هـ. التفسير: لما فرغ من قصة موسى شرع في قصة ثانية وهي قصة داود وابنه سليمان. والتنوين في عِلْماً إما للنوع أي طائفة من العلم أو للتعظيم أي علما غزيرا. قال علماء المعاني: الواو في وَقالا للعطف على محذوف لأن هذا مقام الفاء كقولك: أعطيته فشكر. فالتقدير: ولقد آتيناهما علما فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة والفضيلة فيه وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ وبيانه أن الشكر باللسان إنما يحسن إذا كان مسبوقا بعمل القلب وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية، وبعمل الجوارح وهو الاشتغال بالطاعات فكأنه قال: ولقد آتيناهما علما فعملا به قلبا وقالبا وَقالا باللسان الْحَمْدُ لِلَّهِ قلت: لقائل أن يقول: الأصل عدم الإضمار وقوله هذا مقام الفاء ممنوع، وإنما يكون كذلك إذا أريد التعقيب والتسبيب فإن كان المراد مجرد الإخبار عما فعل بهما وعما فعلا فالواو كقولك «أعطيته وشكر» . وقوله عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ يجوز أن يكون واردا على سبيل التواضع وإن كانا مفضلين على جميع أهل زمانهما. ويجوز أن يكون واردا على الحقيقة بالنسبة إلى زمانهما أو بالنسبة إلى سائر الأزمنة وهذا أظهر. وإنما وصف العباد بالمؤمنين لئلا يظن أن سبب الفضيلة هو مجرد الإيمان ولكن ما يزيد عليه من الاستغراق في بحر العبودية والعرفان. وفي الاية دليل على شرف العلم وأن العالم يجب أن يتلقى علمه بشكر الله تعالى قلبا وقالبا وما التوفيق إلا منه. قوله وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ عن الحسن أنه المال لأن النبوة عطية مبتدأة، وزيف بأن المال أيضا عطية مبتدأة ولذلك يرث الولد إذا كان مؤمنا ولا يرث إذا كان كافرا أو قاتلا. وما المانع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام بها عند موته كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته. والظاهر أنه أراد وراثة النبوة والملك معا دليله قوله تشهيرا لنعمة الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 ودعاء للناس إلى تصديق المعجزة يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ والمنطق يشمل كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف مفيدا وغير مفيد، ومنه قولهم «نطقت الحمامة» . قال المفسرون: إنه تعالى جعل الطير في أيامه مما له عقل وليس كذلك حال الطيور في أيامنا وإن كان فيها ما ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها. يحكى أنه مر على بلبل في شجرة فقال لأصحابه: إنه يقول: إني أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفا أي التراب. وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول: ليت الخلق لم يخلقوا. وصاح طاوس فقال: يقول: كما تدين تدان. وأخبر أن الهدهد يقول: استغفروا الله يا مذنبون. والخطاف يقول: قدموا خيرا تجدوه. والرخمة تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه. والقمريّ يقول: سبحان ربي الأعلى. والقطاة تقول: من سكت سلم. والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه. والديك يقول: اذكروا الله يا غافلون. والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول: في البعد من الناس أنس. ومعنى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بعض كل شيء. وقال في الكشاف: أراد كثرة ما أوتي كما تقول «فلان يقصده كل أحد» تريد كثرة قاصديه. وإنما قال عُلِّمْنا وَأُوتِينا لأنه أراد نفسه وأباه، ويجوز أن يريد نفسه فقط لا على طريق التكبر بل على عادة الملوك يعظمون أنفسهم لمصلحة التهييب. وقوله إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ قول وارد على سبيل الشكر والتحدث بالنعم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» «1» أي أقول هذا شكرا لا فخرا. يروى أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة فرسخ. خمسة وعشرون للجن ومثله للإنس ومثله للطير ومثله للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فتقعد الأنبياء عليهم السلام على كراسيّ الذهب والعلماء على كراسيّ الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر، وإنه كان يقول مع ذلك: لتسبيحة واحدة يقبلها الله خير مما أوتي آل داود. ومعنى يُوزَعُونَ يحبسون. قيل: كانوا يمنعون من يتقدم من عسكره ليكون مسيره مع جنوده على ترتيب، ومنه يعلم أنه كان في كل قبيل منها وازع يكون له تسلط على الباقين يكفهم ويصرفهم. ومعنى أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قطعوه وبلغوا آخره من قولهم «أتى على الشيء» إذا أنفذه   (1) رواه أبو داود في كتاب السنّة باب 13. ابن ماجة في كتاب الزهد باب 37. أحمد في مسنده (1/ 5) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي. ويجوز أن يقصد إتيانهم من فوق لأن الريح كانت تحملهم في الهواء فلذلك عدي ب «على» عن قتادة أنه دخل الكوفة فاجتمع عليه الناس فقال: سلوا عما شئتم وكان أبو حنيفة حاضرا وهو غلام حدث فقال: سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكرا أم أنثى؟ فسألوه فأفحم فقال أبو حنيفة: كانت أنثى لقوله تعالى قالَتْ نَمْلَةٌ ولو كان ذكرا لم تجز التاء لأن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فلا بد من التمييز بالعلامة. وحين عبر عن تفاهم النمل بلفظ التقاول جعل خطابهم خطاب أولي العقل فحكى أنها قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ أما جواب للأمر وإما نهي بدلا من الأمر أي لا تكونوا بحيث يحطمكم أي يكسركم سليمان وجنوده على طريقة «لا أرينك هاهنا» . وفي قوله سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ دون أن يقول جنود سليمان مبالغة أخرى كما تقول: أعجبني زيد وكرمه. وفي الآية دلالة على أن من يسير في الطريق لا يلزمه التحرز وإنما يلزم من في الطريق التحرز. وفي قوله وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ تنبيه على وجود الجزم بعصمة الأنبياء كأنها عرفت أن النبي لعصمته لا يقع منه قتل هذه الحيوانات إلا على سبيل السهو. وعن بعضهم أنها خافت على قومها أن يقعوا في كفران نعمة الله تعالى إذا رأوا جلالة سليمان، وهذا معنى الحطم فلذلك أمرتهم بدخول المساكن. وفيه تنبيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محذورة. قيل: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً أي شارعا في الضحك آخذا فيه ولكن لم يبلغ حدّ القهقهة وكمال الضحك. وما روي أنه صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه فعلى وجه المبالغة في الضحك النبوي. وإنما أضحكه من قولها شفقتها على قومها وسروره بما آتاه الله من إدراك الهمس واشتهاره بالتحرز والتقوى ولذلك مال إلى الدعاء قائلا: رَبِّ أَوْزِعْنِي قال جار الله: حقيقته اجعلني أزع شكر نعمتك عندي وأربطه لا ينفلت عني فلا أزال شاكرا لك. وإنما أدرج ذكر الوالدين لأن النعمة على الولد نعمة عليهما وبالعكس. ثم طلب أن يضيف لواحق نعمه إلى سوابقها ولا سيما النعم الدينية فقال: وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ثم دعا أن يجعله في الآخرة من زمرة الصالحين لأن ذلك غاية كل مقصود. يروى أن النملة أحست بصوت الجنود ولم تعلم أنها في الهواء فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهن، ثم دعا بالدعوة. القصة الثالثة قصة بلقيس وما جرى بينها وبين سليمان وذلك بدلالة الهدهد، يروى أن سليمان حين تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج مع حشمه فأتى الحرم ومكث به أياما يقرب كل يوم خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة. ثم عزم على السير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 إلى اليمن فخرج من مكة صباحا فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضا أعجبته بهجتها إلا أنهم لم يجدوا الماء فطلب الهدهد لأنه يرى الماء من تحت الأرض. وعن وهب أنه أخل بالنوبة التي كانت تنوبه فلذلك تفقده. وقيل: إنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عفريت الطير- وهو النسر- فسأله عنه فلم يجد عنده علمه. ثم قال لسيد الطير- وهو العقاب- عليّ به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فأقسم عليها بالله لتتركنه فتركته. وقالت: إن نبي الله قد حلف ليعذبنك قال: وما استثنى؟ قالت: بلى قال: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بعذر واضح. فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعا له، فلما دنا منه أخذ سليمان برأسه فمده إليه فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل فارتعد سليمان وعفا عنه ثم سأله عما لقي في غيبته. وفي تفقد الهدهد إشارة إلى أن الملوك يجب عليهم التيقظ وعدم الغفلة عن أصغر رعيتهم. وأرجع إلى التفسير. قوله ما لِيَ لا أَرَى استبعاد منه أنه لا يراه وهو حاضر في الجند كأن ساترا ستره ثم لاح له أنه غائب فقال أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ وقد مر في الوقوف قوله لَأُعَذِّبَنَّهُ لا شك أن تعذيبه إنما يكون بما يحتمله حاله. فقيل: أراد أن ينتف ريشه ويشمسه وكان هذا عذابه للطير. وقيل: كان يطلي بالقطران ويشمس. وقيل: هو أن يلقيه للنمل لتأكله. وقيل: إيداعه القفص. وقيل: التفريق بينه وبين إلفه. وقيل: أراد لألزمنه صحبة الأضداد كما قيل: أضيق السجون مجالسة الأضداد. وقيل: لألزمنه خدمة أقرانه. ولعل تعذيب الهدهد وذبحه في عصره جائز لمصلحة السياسة كما أباح لنا ذبح كل مأكول لحمه لمصلحة التغذي. وحاصل القسم يرجع إلى قوله ليكونن أحد هذه الأمور الثلاثة: التعذيب أو الذبح أو الإتيان بعذر بين وحجة واضحة. ويحتمل أن يكون قد عرف إتيانه بالعذر بطريق الوحي فلذلك أدرجه في سلك ما هو قادر على فعله فأقسم عليه. ثم أخبر الله سبحانه أنه أتى بسلطان مبين وذلك قوله فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ أي غير زمان بعيد فَقالَ مخاطبا لسليمان أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ قالوا: فيه إبطال قول من زعم أن إمام الزمان لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه. وفيه دليل على شرف العلم وأن صاحبه له أن يكافح به من هو أعلى حالا منه. والإحاطة بالشيء علما هو أن يعلمه من جميع جهاته. وقوله مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ من جملة صنائع البديع على أن النبأ خبر له شأن فذكره في هذا الموضع دون أن يقول «من سبا بخبر» حسن على حسن. وسبأ اسم للقبيلة فلا ينصرف أو اسم للحي أو الأب الأكبر فينصرف، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ثم سميت مدينة مأرب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث. ويحتمل أن يراد بسبأ المدينة أو القوم. ثم شرع في النبأ وهو قوله إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 واسمها بلقيس بنت شراحيل ملك اليمن كابرا عن كابر إلى تبع الأول، ولم يكن له ولد غيرها فورثت الملك وكانت هي وقومها مجوسا عبدة الشمس. والضمير في تَمْلِكُهُمْ يعود إلى سبأ إن أريد به القوم وإلى الأهل المحذوف إن أريد به المدينة. وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي بعض كل ما يتعلق بالدنيا من الأسباب. وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ كأنه استعظم لها ذلك مع صغر حالها إلى حال سليمان، أو استعظمه في نفسه لأنه لم يكن لسليمان مثله مع علو شأنه، وقد يتفق لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله لمن فوقه في الملك، وقد يطلع بعض الأصاغر على مسألة لم يطلع عليها أحد كما اطلع الهدهد على حال بلقيس دون سليمان. ووصف عرش الله بالعظم إنما هو بالإضافة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض. يحكى من عظم شأنه أنه كان مكعبا ثلاثين في ثلاثين أو ثمانين وكان من ذهب وفضة مكللا بأنواع الجواهر وكذا قوائمه، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق، قال بعض المعتزلة: في قوله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ دليل على أن المزين للكفر والمعاصي هو الشيطان. وأجيب بأن قول الهدهد لا يصلح للحجة والتحقيق فيه قد مر ولا يبعد أن يلهم الله الهدهد وجوب معرفته والإنكار على من يعبد غيره خصوصا في زمن سليمان عليه السلام. قوله أَلَّا يَسْجُدُوا من قرأ بالتشديد على أن الجار محذوف فإن كان متعلقا بالصد فالتقدير صدهم لأن أَلَّا يَسْجُدُوا وإن كان متعلقا ب لا يَهْتَدُونَ ف أَلَّا مزيدة أي لا يهتدون إلى أن يسجدوا. ومن قرأ بالتخفيف فقوله أَلَّا حرف تنبيه ويا حرف النداء والمنادى محذوف والتقدير: ألا يا قوم اسجدوا كقوله: ألا يا أسلمي يا دارميّ على البلى ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر قال الزجاج: السجدة في الآية على قراءة التخفيف دون التشديد. والحق عدم الفرق لأن الذم على الترك كالأمر بالسجود في الاقتضاء. والخبء مصدر بمعنى المخبوء وهو النبات والمطر وغيرهما مما خبأه الله عز وجل من غيوبه، ومن جملة ذلك اطلاع الكواكب من أفق الشرق بعد اختفائها في أفق الغرب، ومنها الأقضية والأحكام والوحي والإلهام، ومنها إنزال الملك وكل أثر علوي. وفي تخصيص وصف الله تعالى في هذا المقام بإخراج الخبء إشارة إلى ما عهده الهدهد من قدرة الله تعالى في إخراج الماء من الأرض، ألهمه هذا التخصيص كما ألهمه تلك المعرفة. ولما انجر كلام الهدهد إلى هذه الغاية قالَ سليمان سَنَنْظُرُ أي نتأمل في صفحات حالك أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ وهذا أبلغ من أن لو قال له الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 «كذبت» لأنه إذا كان معروفا بالكذب كان متهما في كل ما أخبر به. ثم ذكر كيفية النظر في أمره فقال اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ لم يقل إليها لأنه كان قد قال وَجَدْتُها وَقَوْمَها فكأن سليمان قال: فألقه إلى الذين هذا دينهم اهتماما فيه بأمر الدين. ولمثل هذا قال في الكتاب أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ومعنى ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه تسمع ما يقولون يَرْجِعُونَ من رجع القول كقوله يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ [سبأ: 31] يروى أنها كانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها، فدخل من كوة وطرح الكتاب على حجرها وهي مستلقية نائمة. وقيل: نقرها فانتبهت فزعة. وقيل: أتاها والجنود حواليها من فوق والناس ينظرون حتى رفعت رأسها فألقى الكتاب في حجرها. وقيل: كان في البيت كوة تقع الشمس فيها كل يوم فإذا نظرت إليها سجدت فجاء الهدهد فسد تلك الكوة بجناحيه، فلما رأت ذلك قامت إليه فألقى الكتاب إليها. وهاهنا إضمار أي فذهب فألقى ثم توارى ثم كأن سائلا سأل فماذا قالت بلقيس؟ فقيل قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ مصدر بالتسمية أو حسن مضمونه أو هو من عند ملك كريم أو هو مختوم. يروى أنه طبع الكتاب بالمسك وختمه بخاتمه وقال صلى الله عليه وسلم «كرم الكتاب ختمه» . وعن ابن المقفع: من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به. ثم إن سائلا كأنه قال لها ممن الكتاب وما هو؟ فقالت إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ كيت وكيت. سؤال: لم قدم سليمان اسمه على اسم الله؟ والجواب أنها لما وجدت الكتاب على وسادتها ولم يكن لأحد إليها طريق ورأت الهدهد علمت أنه من سليمان وحين فتحت الكتاب رأت التسمية، ولذلك قالت ما قالت، أو لعل سليمان كتب على عنوان الكتاب إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ فقرأت عنوانه أوّلا ثم أخبرت بما في الكتاب. أو لعل سليمان قصد بذلك أنها لو شتمت لأجل كفرها حصل الشتم لسليمان لا لله تعالى. و «أن» في أَنْ لا تَعْلُوا مفسرة لما ألقي إليها أي لا تتكبروا كما تفعل الملوك. يروى أن نسخة الكتاب: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: السلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين. وكان كتب الأنبياء عليهم السلام جملا وأنه مع وجازته مشتمل على تمام المقصود لأن قوله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مشتمل على إثبات الصانع وصفاته، والباقي نهي عن الترفع والتكبر وأمر بالانقياد للتكاليف، كل ذلك بعد إظهار المعجز برسالة الهدهد. قوله قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ استئناف آخر وهكذا إلى تمام القصة. ومعنى أَفْتُونِي أشيروا عليّ بما يحدث لكم من الرأي. والفتوى الجواب في الحادثة وأصلها من الفتاء في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 السن وقطع الأمر فصله والقضاء فيه، أرادت بذلك استعطافهم وتطييب نفوسهم واستطلاع آرائهم، فأجابوا بأنهم أصحاب القوى الجسدانية والخارجية، ولهم النجدة والبلاء في الحرب، ومع ذلك فوضوا الأمر إليها فما أحسن هذا الأدب. ويحتمل أن يراد نحن من أبناء الحرب لا من أرباب الرأي والمشورة وإنما الرأي إليك، وحيث كان يلوح من وصفهم أنفسهم بالشجاعة والعلم بأمور الحرب أنهم مائلون إلى المحاربة، أرادت أن تنبههم إلى الأمر الأصوب وهو الميل إلى الصلح فلذلك قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وذلك إذا أرادوا قهرها والتسلط عليها ابتداء وإلا فالإفساد غير لازم، بل لعل الإصلاح ألزم إذا سلكت سبيل العدل والإنصاف فليس للظلمة في الآية حجة. ومفعول مُرْسِلَةٌ محذوف أي مرسلة رسلا مع هدية وهي اسم المهدي كالعطية اسم المعطي. وإنما رأت الإهداء أوّلا لأن الهدية سبب استمالة القلوب. قال صلى الله عليه وسلم «تهادوا تحابوا» قال في الكشاف: روي أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن الأساور والأطواق والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج مرصعة اللجم والسروج بالجواهر، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت، وحقا فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب: وبعثت رجلين من أشراف قومها- المنذر بن عمرو وآخر ذا رأي وعقل- وقالت: إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري وثقب الدرة ثقبا مستويا وسلك في الخرزة خيطا. ثم قالت: للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك، وإن رأيته بشا لطيفا فهو نبي. فأقبل الهدهد فأخبر سليمان فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان وعن يساره على اللبنات، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين وعن اليسار، ثم قعد على سريره والكراسي من جانبيه، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ والأنس كذلك، والوحش والطير كذلك. فلما دنا القوم ونظروا بهتوا ورأوا الدواب على اللبنات فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم بوجه طلق وقال: ما وراءكم؟ وقال: أين الحق؟ وأخبرهم بما فيه. ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة فجعل رزقها في الشجر، وأخذت دودة بيضاء الخيط فأدخلته في الجزعة، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الاخرى ثم تضرب به وجهها، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه، ثم رد الهدية وذلك قوله على سبيل الإنكار أتمدونني بمال ثم قال على سبيل الإعلام وتعليل الإنكار فَما آتانِيَ اللَّهُ من الكمالات والقربات والدرجات خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ ثم أضرب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه وهو أنهم لا يعرفون الفرح إلا في أن يهدي إليهم حظ من الدنيا، فعلى هذا تكون الهدية مضافة إلى المهدي إليه. والمعنى بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ هذه التي أهديتموها تَفْرَحُونَ فرح افتخار على الملوك. ويحتمل أن يكون الكلام عبارة عن الرد كأنه قال: بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها ثم قال للرسول أو للهدهد معه كتاب آخر ارْجِعْ إِلَيْهِمْ ومعنى لا قِبَلَ لا طاقة ولا مقابلة. والذل أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك، والصغار أن يقعوا مع ذلك في أسر واستعباد يروى أنه لما رجعت إليها الرسل عرفت أن سليمان نبي وليس لهم به طاقة، فشخصت إليه في أثني عشر ألف قيل. مع كل قيل ألوف. وأمرت عند خروجها أن يجعل عرشها في آخر سبعة أبيات في آخر قصر من قصور سبعة، وغلقت الأبواب ووكلت به حرسا فلعل سليمن أوحي إليه ذلك فأراد أن يريها بعض ما خصه الله به من المعجزات فلذلك قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها وعن قتادة: أراد أن يأخذه قبل أن تسلم لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها. وقيل: أراد بذلك اختبار عقلها كما يجيء. وقيل: أراد أن يعرف تجملها ومقدار مملكتها قبل وصولها إليه. والعفريت من الرجال الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه، ومن الشياطين الخبيث المارد، ووزنه «فعليت» . قالوا: كان اسمه ذكوان. وآتِيكَ بِهِ في الموضعين يجوز أن يكون فعلا مضارعا وأن يكون اسم فاعل. ومعنى. أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ إما على ظاهره وهو أن يقوم فيقعد، وإما أن يكون المقام هو المجلس ولا بد فيه من عادة معلومة حتى يصح أن يؤقت به. وعلى هذا فقيل: المراد مجلس الحكم. وقيل: مقدار فراغه من الخطبة. وقيل: إلى انتصاف النهار. وَإِنِّي عَلَيْهِ أي على حمله لَقَوِيٌّ أَمِينٌ آتي به على حاله لا أتصرف فيه بشيء. واختلفوا في الذي عنده علم من الكتاب فقيل: هو الخضر عليه السلام. وقيل: جبرائيل. وقيل: ملك أيد الله به سليمان. وقيل: آصف بن برخيا وزيره أو كاتبه. وقيل: هو سليمان نفسه استبطأ العفريت فقال له: أنا أريك ما هو أسرع مما تقول. وقد يرجح هذا القول بوجوه منها: أن الشخص المشار إليه بالذي يجب أن يكون معلوما للمخاطب وليس سوى سليمان، ولو سلم أن آصف أيضا كان كذلك فسليمان أولى بإحضار العرش في تلك اللمحة والإلزام تفضيل آصف عليه من هذا الوجه. ومنها قول سليمان. هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ويمكن أن يقال: الضمير راجع إلى استقرار العرش عنده، ولو سلم رجوعه إلى الإتيان بالعرش فلا يخفى أن كمال حال التابع والخادم من جملة كمالات المتبوع والمخدوم، ولا يلزم من أن يأمر الإنسان غيره بشيء أن يكون الآمر عاجزا عن الإتيان بذلك الشيء. واختلفوا أيضا في الكتاب فقيل: هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 اللوح. وقيل: الكتاب المنزل الذي فيه الوحي والشرائع. وقيل: كتاب سليمان أو كتاب بعض الأنبياء. وما ذلك العلم؟ قيل: نوع من العلم لا يعرف الآن. والأكثرون على أنه العلم باسم الله الأعظم وقد مر في تفسير البسملة كثير مما قيل فيه. ومما وقفت عليه بعد ذلك أن غالب بن قطان مكث عشرين سنة يسأل الله الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى فأري في منامه ثلاث ليال متواليات: قل يا غالب يا فارج الهم يا كاشف الغم يا صادق الوعد يا موفيا بالعهد يا منجز الوعد يا حي يا لا إله إلا أنت صل اللهم على محمد وآل محمد وسلم. والطرف تحريك الأجفان عند النظر فوضع موضع النظر فإذا فتحت العين توهمت أن نور العين يمتد إلى المرئي وإذا غمضت توهمت أن ذلك النور قد ارتدّ، فمعنى الآية أنك ترسل طرفك إلى شيء فقبل أن ترده أبصرت العرش بين يديك. يروى أن آصف قال له: مدّ عينك حتى ينتهي طرفك فمدّ عينه فنظر نحو اليمن ودعا آصف فغاص العرش في مكانه ثم ظهر عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله قبل أن يرتدّ طرفه. ومن استبعد هذا في قدرة الله فليتأمل في الحركات السماوية على ما يشهد به علم الهيئة حتى يزول استبعاده. وقال مجاهد: هو تمثيل لاستقصار مدة الإتيان به كما تقول لصاحبك: افعل هذا في لحظة أو لمحة. وحين عرف سليمان نعمة الله في شأنه وأن ذلك صورة الابتلاء بين أن شكر الشاكر إنما يعود إلى نفس الشاكر لأنه يرتبط به العتيد ويطلب المزيد كما قيل: الشكر قيد للنعمة الموجودة وصيد للنعمة المفقودة. وروي في الكشاف عن بعضهم أن كفران النعمة بوار وقلما أقشعت نافرة فرجعت في نصابها، فاستدع شاردها بالشكر واستدم راهنها بكرم الجوار. قوله «أقشعت نافرة» أي ذهبت في حال نفارها وراهنها أي ثابتها. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن عبادة كل عابد فضلا عن شكر شاكر كَرِيمٌ لا يقطع إمداد نعمه عنه لعله يتوب ويصلح حاله. زعم المفسرون أن الجن كرهوا أن يتزوّجها سليمان فتفضي إليه بإسرارهم لأنها كانت بنت جنية، أو خافوا أن يولد له منها ولد تجمع له فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد فقالوا له: إن في عقلها شيئا وهي شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش وذلك قوله نَكِّرُوا لَها عَرْشَها أي اجعلوه متنكرا متغيرا عن هيئته وشكله كما يتنكر الرجل لغيره لئلا يعرفه. قالوا: وسعوه وجعلوا مقدمه مؤخره وأعلاه أسفله. وقوله نَنْظُرْ بالجزم جواب للأمر وقرىء بالرفع على الاستئناف. أَتَهْتَدِي لمعرفة العرش أو للجواب الصائب إذا سئلت عنه أو للدين والإيمان بنبوة سليمان إذا رأت تلك الخوارق. وقوله أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ أبلغ من أن لو قال «أم لا تهتدي» كما مر في قوله أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 أَهكَذا أي مثل ذا عَرْشُكِ لئلا يكون شبه تلقين فقالت كَأَنَّهُ هُوَ ولم تقل: هو هو مع أنها عرفته ليكون دليلا على وفور عقلها حيث لم تقطع في المحتمل وتوقفت في مقام التوقف. أما قوله وَأُوتِينَا الْعِلْمَ فمعطوف على مقدر كأنهم قالوا عند قولها كأنه هو قد أصابت في جوابها وطابقت المفصل وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله وصحة نبوة سليمان بهذه الخوارق. وَأُوتِينَا نحن الْعِلْمَ بالله وبقدرته قبل علمها ولم نزل على دين الإسلام وَصَدَّها عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس وكونها بين ظهراني الكفرة. والغرض تلقي نعمة الله بالشكر على سابقة الإسلام. وقيل: هو موصول بكلام بلقيس. والمعنى وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة أو الحالة وذلك عند وفدة المنذر. ثم قال سبحانه وَصَدَّها قبل ذلك عما دخلت فيه ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وقيل: الجار محذوف أي وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد، واختبر ساقها بأن أمر أن يبني على طريقها قصر من زجاج أبيض فأجرى من تحته الماء وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره، ووضع سريره في آخر فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس. ثم يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ أي القصر أو صحن الدارلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً أي ماء غامرا كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها لتخوض في الماء فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما إلا أنها شعراء، فصرف سليمان بصره وناداهانَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ أي مملس نْ قَوارِيرَ هذا عند من يقول: تزوجها وأقرها على ملكها وأمر الجن فبنوا له همدان وكان يزورها في الشهر مرّة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له. قالوا: كون ساقها شعراء هو السبب في اتخاذ النورة، أمر به الشياطين فاتخذوها. وقال آخرون: المقصود من الصرح تهويل المجلس، وحصل كشف الساق على سبيل التبع. عن ابن عباس: لما أسلمت قال لها: اختاري من أزوّجكه؟ فقالت: مثلي لا ينكح الرجال مع سلطان. فقال: النكاح من الإسلام. فقالت: إن كان كذلك فزوّجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن ولم يزل بها ملكاالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي أي بالكفر في الزمن السالف أو بسوء ظني بسليمان إذ حسبت أنه يغرقني في الماء. وهذا التفسير أنسب بما قبله ولعل في قولهاعَ سُلَيْمانَ أي مصاحبة له إشارة إلى إسلامها تبع لإسلام سليمان وأنها تريد أن تكون معه في الدارين جميعا والله أعلم. التأويل: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ الروح وَسُلَيْمانَ القلب عِلْماً لدنيا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ وهم الأعضاء والجوارح المستعملة في العبودية. وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ لأن كل إلهام وفيض يصدر من الحضرة الإلهية يكون عبوره على داود الروح إلا أنه للطافته لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 يحفظها وإنما يحفظها القلب لكثافته، ولذلك كان سليمان أقضى من داود. قوله مَنْطِقَ الطَّيْرِ يعني الرموز والإشارات التي يحفظها بلسان الحال أرباب الأحوال الطائرين في سماء سناء الفناء. وقيل: أراد الخواطر الملكية الروحانية. قوله مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ أي من الصفات الشيطانية والإنسانية والملكية فَهُمْ يُوزَعُونَ على طبيعتهم بالشريعة وادي النمل هوى النفس الحريصة على الدنيا وشهواتها قالَتْ نَمْلَةٌ هي النفس اللوامة يا أيها النمل هي الصفات النفسانية ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ محالكم المختلفة وهي الحواس الخمس وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنهم على الحق وأنتم على الباطل لأن الشمس لاحس عندها من نورها ولا من الظلمة التي تزيلها نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بتسخير جنودي لي وعلى والديّ وهما الروح والجسد. أنعم على الروح بإفاضة الفيوض، وعلى الجسد باستعماله في أركان الشريعة. وفي قوله بِنَبَإٍ يَقِينٍ إشارة الى أن من أدب المخبر أن لا يخبر إلا عن يقين وبصيرة ولا سيما عند الملوك. وفي قول سليمان سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ إشارة إلى أن خبر الواحد وإن زعم اليقين لا يعوّل عليه إلا بأمارات أخر. كِتابٌ كَرِيمٌ كأنها عرفت أنها بكرامته تهتدي إلى حضرة الكريم: إن ملوك الصفات الربانية إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً الشخص الإنساني أَفْسَدُوها بإفساد الطبيعة الحيوانية وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها وهم النفس الأمارة وصفاتها أَذِلَّةً بسطوات التجلي وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ مع الأنبياء والأولياء. وفي قوله أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها إشارة إلى أن سليمان كان واقفا على أن في قومه من هو أهل لهذه الكرامة وكرامات الأولياء من قوة إعجاز الأنبياءيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فيه دليل على أن سليمان أراد أن ينكحها وإلا لم يجوّز النظر إلى ساقيها. أَسْلَمْتُ نفسي للنكاح عَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ وفي الله. تأويل آخر: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ هم أهل العشق الطيارة في فضاء سماء القدس وجوّ عالم الإنس. والهدهد الرجل العلمي الذي عول على فكره وإعمال قريحته في استنباط خبايا الأسرار وكوامن الأستار. عَذاباً شَدِيداً بالرياضة والمجاهدة. أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ بسكين مخالفات الإرادة. سبأ مدينة الاختلاط والإنس بالإنس والمرأة الدنيا وبهجتها، وعرشها العظيم حب الجاه والمناصب يسجدون لشمس عالم الطبيعة وهو الهوى، والهدية عرض الدنيا وزينتها، والإتيان بالعرش قبل إتيانهم هو إخراج حب الجاه من الباطن حتى تنقاد الأعضاء والجوارح بالكلية لاشتغال العبودية. آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الجاه. والعفريت الرياضة الشديدة والذي عنده علم من الكتاب هو الجذبة التي توازي عمل الثقلين، وتنكير العرش تغيير حب الجاه للهوى بحبه للحق، والقصر قصر التصرف في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 الدنيا للحق بالحق، وكشف الساق كناية عن اشتداد الأمر عليه، والقوارير عبارة عن رؤية بواطن الأمور مع الاشتغال بظواهرها، وهذه من جملة منطق الطير يفهم إن شاء العزيز وحده والله أعلم. تم الجزء التاسع عشر، ويليه الجزء العشرون وأوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء العشرون من أجزاء القرآن الكريم [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 66] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 القراآت: لتنبيه على الجمع المخاطب وهكذا لتقولن: حمزة وعلي وخلف. الباقون بالنون فيهما على التكلم مهلك بفتح الميم واللام: أبوبكر غير البرجمي وحماد والمفضل. وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام. الباقون بضم الميم وفتح اللام والكل يحتمل المصدر والمكان والزمان أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وأن الناس بالفتح فيهما: عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ورويس أَإِنَّكُمْ مذكور في «الأنعام» يُشْرِكُونَ بياء الغيبة: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم أَإِلهٌ مثل أَإِنَّكُمْ الريح على التوحيد: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف يذكرون بياء الغيبة: أبو عمرو وهشام. الآخرون بتاء الخطاب بل أدرك بقطع الهمزة وسكون الدال: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد المفضل بل ادّرك بهمزة موصولة ودال مشددة: الشموني. الباقون مثله ولكن بألف بعد الدال. الوقوف: يَخْتَصِمُونَ هـ الْحَسَنَةِ ج لابتداء استفهام آخر مع اتحاد القائل. تُرْحَمُونَ هـ مَعَكَ ط تُفْتَنُونَ هـ وَلا يُصْلِحُونَ هـ لَصادِقُونَ هـ لا يَشْعُرُونَ هـ مَكْرِهِمْ ط لمن قرأ. «إنا» بكسر الألف على الاستئناف. أَجْمَعِينَ هـ ظَلَمُوا ط يَعْلَمُونَ هـ يَتَّقُونَ هـ تُبْصِرُونَ هـ النِّساءِ ط تَجْهَلُونَ هـ قَرْيَتِكُمْ ج لاحتمال تقدير لام التعليل يَتَطَهَّرُونَ هـ إِلَّا امْرَأَتَهُ ز لاحتمال أن ما بعده مستأنف والأظهر أنه حال تقديره استثناء امرأته مقدرة في الْغابِرِينَ هـ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ هـ اصْطَفى ط يُشْرِكُونَ هـ ط لأن ما بعده استفهام مستأنف و «أم» منقطعة تقديره بل أمن خلق السموات خير أمّا يشركون وكذلك نظائره ماءً ج للعدول مع اتحاد المقول بَهْجَةٍ ط ولاحتمال الحال أي وقد رد خَيْراً ط الْقِتالُ ط عَزِيزاً هـ ج للآية والعطف فَرِيقاً هـ ج لاحتمال أن يكون ما بعده استئنافا أو حالا تَطَؤُها ط قَدِيراً هـ جَمِيلًا هـ عَظِيماً هـ ضِعْفَيْنِ ط يَسِيراً هـ مرتين لا لأن التقدير وقد أعتدنا كَرِيماً هـ مَعْرُوفاً ج للعطف وَرَسُولِهِ ط تَطْهِيراً هـ لوقوع العوارض بين المعطوفين وَالْحِكْمَةَ ط خَبِيراً هـ عَظِيماً هـ مِنْ أَمْرِهِمْ ط مُبِيناً هـ النَّاسِ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال تَخْشاهُ ط مِنْهُنَّ وَطَراً ط مَفْعُولًا هـ لَهُ ط مِنْ قَبْلُ لا مَقْدُوراً هـ لا بناء على أن الَّذِينَ وصف أو بدل إِلَّا اللَّهَ ط حَسِيباً هـ النَّبِيِّينَ ط عَلِيماً هـ. التفسير: القصة الرابعة قصة ثمود، والفريقان المؤمن والكافر. وقيل: صالح وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد. والاختصام قول كل فريق الحق معي، وفيه دليل على أن الجدال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 في باب الدين حق. ومعنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة أنه تعالى قد مكنهم من التوصل إلى رحمة الله وثوابه فعدلوا إلى استعجال عذابه. وقال جار الله: خاطبهم صالح على حسب اعتقادهم وذلك أنهم قدروا في أنفسهم إن التوبة مقبولة عند رؤية العذاب فقالوا: متى وقعت العقوبة تبنا حينئذ، فالسيئة العقوبة، والحسنة التوبة، و «لولا» للتحضيض أي هلا تستغفرون قبل عيان عذابه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بأن يكشف العذاب عنكم. والحاصل أن التوبة يجب أن تقدم على رؤية العذاب ولا يجوز أن تؤخر، وفيه تنبيه على خطئهم وتجهيل لهم قالُوا اطَّيَّرْنا أي تشاء منا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ وكانوا قد قحطوا قالَ طائِرُكُمْ أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عِنْدَ اللَّهِ وهو قضاؤه وقدره أو أراد عملكم مكتوب عنده ومنه ينزل بكم العذاب. ومعنى التطير والطائر قد مر في «الأعراف» وفي «سبحان» . ثم جزم بنزول العذاب بقوله بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي تعذبون أو تختبرون أو يفتنكم الشيطان بوسوسة الطيرة. ثم حكى سوء معاملتهم مع نبيهم بقوله وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ يعنى منزلهم المسمى بالحجر وكان بين المدينة والشام تِسْعَةُ رَهْطٍ لم يجمع المميز لأن الرهط في معنى الجمع وهو من الثلاثة إلى العشرة، أو من السبعة إلى العشرة. والتقاسم التحالف فإن كان أمرا فظاهر وإن كان خبرا فمحله نصب بإضمار «قد» أي قالوا متقاسمين. والتبييت العزم على إهلاك العدوّ ليلا. وأشير على الإسكندر بالبيات فقال: ليس من آيين الملوك استراق الظفر. قال في الكشاف: كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين. ثم قالوا لولاة دمه: ما شهدنا مهلك أهله فإذا ذكروا أحدهما كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما. قلت: إنما ارتكب هذا التكلف لأنه استقبح أن يأتي العاقل بالخبر على خلاف المخبر عنه. يروى أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا: زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فخرجوا إلى الشعب مبادرين وقالوا: إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فهذا مكرهم، فبعث الله صخرة فطبقت عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم، وعذب الله كلا في مكانه ونجى صالحا ومن معه وهذا مكر الله. وقيل: جاؤا بالليل شاهري سيوفهم وقد أرسل الله الملائكة فدمغوهم بالحجارة يرون الحجارة ولا يرون راميا. من قرأ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ بالفتح فمرفوع المحل بدلا من العاقبة أو خبرا لمحذوف أي هي تدميرهم، أو منصوب على أنه خبر «كان» أي كان عاقبة مكرهم الدمار، أو مجرور تقديره: لأنا وجوز في الكشاف على هذا التقدير أن يكون منصوبا بنزع الخافض. وانتصب خاوِيَةً على الحال والعامل معنى الإشارة في تلك. وإنما قال في هذه السورة وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا موافقة لما بعده فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ وَأَمْطَرْنا وكله على «أفعل» . وقال في «حم السجدة» وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ [فصلت: 18] موافقة لما قبله وما بعده وزينا وقيضنا والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 القصة الخامسة قصة لوط وَانتصب لُوطاً بإضمار «اذكر» أو بما دل عليه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا و «إذ» بدل على الأول بمعنى مجرد الوقت ظرف على الثاني، ويبصرون إما من بصر الحاسة فكأنهم كانوا معلنين بتلك المعصية في ناديهم، أو أراد ترون آثار العصاة قبلكم، أو من بصر القلب والمراد تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا بمثلها، وعلى هذا فمعنى قوله بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أنكم تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك، أو أراد جهلهم بالعاقبة، أو أراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها. أو الخطاب في قوله تَجْهَلُونَ تغليب ولو قرىء بياء الغيبة نظرا إلى الموصوف وهو قوم لجاز من حيث العربية، وباقي القصة مذكور في «الأعراف» قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ قيل: هو خطاب للوط عليه السلام أن يحمد الله على هلاك كفار قومه ويسلم على من اصطفاه بالعصمة من الذنوب وبالنجاة من العذاب. وقيل: أمر لنبينا صلى الله عليه وسلم بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم وبالتسليم على الأنبياء وأشياعهم الناجين، والأكثرون على أنه خطاب مستأنف لأنه صلى الله عليه وسلم كان كالمخالف لمن تقدمه من الأنبياء من حيث إن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه، فأمره الله سبحانه بأن يشكر ربه على هذه النعمة ويسلم على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة. ثم شرع في الدلالة على الوحدانية والرد على عبدة الأوثان، وفيه توقيف على أدب حسن وبعث على التيمن بالحمد والصلاة قبل الشروع في كل كلام يعتد به، ولذا توارثه العلماء خلفا عن سلف فافتتحوا بهما أمام كل كتاب وخطبة، وعند التكلم بكل أمر له شأن. قال جار الله: معنى الاستفهام «وأم» المتصلة في قوله آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ إلزام وتبكيت وتهكم بحالهم وتنبيه على الخطأ المفرط والجهل المفرط فمن المعلوم أنه لا خير فيما أشركوه أصلا حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه. قلت: يحمل أن يكون هذا من قبيل الكلام المنصف. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال: بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم. ثم عدل عن الاستفهام بذكر الذات إلى الاستفهام بذكر الصفات مبتدئا بما هو أبين الحسيات فقال: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وإنما قال هاهنا وَأَنْزَلَ لَكُمْ واقتصر في إبراهيم على قوله وَأَنْزَلَ [إبراهيم: 32] لأن لفظة لَكُمْ وردت هناك بالآخرة، وليس قوله ما كانَ لَكُمْ مغنيا عن ذكره لأنه نفي لا يفيد معنى الأول. ومعنى الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله فَأَنْبَتْنا تأكيد معنى اختصاص الإنبات بذاته لأن الإنسان قد يتوهم أن له مدخلا في ذلك من حيث الغرس والسقي. والحدائق جمع حديقة البستان عليه حائط من الإحداق والإحاطة. والبهجة الحسن والنضارة لأن الناظر يبتهج به. وإنما لم يقل ذوات بهجة على الجمع لأن المعنى جماعة حدائق كما يقال: النساء ذهبت. ومعنى أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أغيره يقرن به ويجعل شريكا له. قال في الكشاف: قوله بَلْ هُمْ بعد الخطاب أبلغ في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 تخطئة رأيهم. قلت: إنما تعين الغيبة هاهنا لأن الخطاب في قوله ما كانَ لَكُمْ إنما هو لجميع الناس أي ما صح وما ينبغي للإنسان أن يتأتى منه الإنبات. ولو قال بعد ذلك بل أنتم لزم أن يكون كل الناس مشركين وليس كذلك. وقوله يَعْدِلُونَ من العدل أو من العدول أي يعدلون به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد. ثم شرع في الاستدلال بأحوال الأرض وما عليها. والقرار المستقر أي دحاها وسواها بحيث يمكن الاستقرار عليها. والحاجز البرزخ كما في «الفرقان» . ثم استدل بحاجة الإنسان إليه على العموم. والمضطر الذي عراه ضر من فقر أو مرض فألجأه إلى التضرع إلى الله سبحانه، وإنه افتعال من الضر. وعن ابن عباس: هو المجهود. وعن السدي: الذي لا حول له ولا قوة. وقيل: هو المذنب ودعاؤه استغفاره. والمضطر اسم جنس يصلح للكل وللبعض فلا يلزم من الآية إجابة جميع المضطرين، نعم يلزم الإجابة بشرائط الدعاء كما مر في «البقرة» وفي ادعوني وقوله وَيَكْشِفُ السُّوءَ كالبيان لقوله يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ والخلافة في الأرض إما بتوارث السكنى وإما بالملك والتسلط وقد مر في آخر «الأنعام» . وقوله قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ معناه تذكرون تذكرا قليلا، ويجوز أن يراد بالقلة العدم. ثم استدل لحاجة الناس وخصوصا الهداية في البر والبحر بالعلامات وبالنجوم، ثم استدل بأحوال المبدأ والمعاد وما بينهما وذلك أنهم كانوا معترفين بالإبداء ودلالة الإبداء على الإعادة دلالة ظاهرة فكأنهم كانوا مقرين بالإعادة أيضا، فاحتج عليهم بذلك لذلك. والرزق من السماء الماء ومن الأرض النبات. واعلم أن الله سبحانه ذكر قوله أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ في خمس آيات على التوالي وختم الأولى بقوله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ثم بقوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ثم بقوله قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ثم بقوله تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ والسر فيه أن أول الذنوب العدول عن الحق، ثم لم يعلموا ولو علموا ما عدلوا، ثم لم يتذكروا فيعلموا بالنظر والاستدلال فأشركوا من غير حجة وبرهان. قل لهم يا محمد: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين أن مع الله إلها آخر. وحين بين اختصاصه بكمال القدرة أراد أن يبين اختصاصه بعلم الغيب. قال في الكشاف: هذا على لغة بني تميم يرفعون المستثنى المنقطع على البدل إذا كان المبدل منه مرفوعا يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار كأن أحدا لم يذكر كقوله: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس والمعنى إن كان الله ممن في السموات والأرض فهم يعلمون الغيب كما أن معنى البيت إن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس بتا للقول بخلوها عن الأنيس. قلت: لقائل أن يقول: إن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 استثناء نقيض المقدم غير منتج فلا يلزم من استحالة كون الله سبحانه في كل مكان ممن في السموات والأرض أنهم لا يعلمون الغيب، ولا من امتناع كون اليعافير أنيسا القطع بخلوّ البلدة عن الأنيس. وقال غيره: إن الاستثناء متصل لأن الله سبحانه في كل مكان بالعلم فيصح الرفع عند الحجازيين أيضا. وزيفه في الكشاف بأن كونه في السموات والأرض بالعلم مجاز، وكون الخلق فيهن حقيقة من حيث حصول ذواتهم في تلك الأحياز، ولا يصح أن يريد المتكلم بلفظ واحد حقيقة ومجازا معا. وأجيب بأنا نحمل كون الخلق فيهن على المعنى المجازي أيضا لأنهم أيضا عالمون بتلك الأماكن لا أقل من العلم الإجمالي. وضعفه في الكشاف بأن فيه إيهام تسوية بين الله وبين العبد في العلم وهو خروج عن الأدب. ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: بئس خطيب القوم أنت. لمن قال: ومن يعصهما فقد غوى. والحق أن وقوع اللفظ على الواجب وعلى الممكن بمعنى واحد لا بد أن يكون بالتشكيك إذ هو في الواجب أدل وأولى لا محالة، فهذا الوهم مدفوع عند العاقل ولا يلزم منه سوء الأدب، ولهذا جاز إطلاق العالم والرحيم والكريم ونحوهما على الواجب وعلى الممكن معا من غير محذور شرعي ولا عقلي، وليس هذا كالجمع بين الضميرين إذا كان يمكن للقائل أن يفرق بينهما فيزداد الكلام جزالة وفخامة. عن عائشة: من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وعن بعضهم: أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحدا لئلا يأمن الخلق مكره. قال المفسرون: سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة فنزلت. وأيان بمعنى متى. إلا أنه لا يسأل به إلا عن أمر ذي بال وهو «فعال» من آن يئين فلو سمي به لانصرف، وحين ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب ولا يشعرون البعث الكائن ووقته بين أن عندهم عجزا آخر أبلغ منه وهو أنهم ينكرون الأمر الكائن مع أن عندهم أسباب معرفته فقال بَلِ ادَّارَكَ أي تدارك. ومن قرأ بغير الألف فهو «افتعل» من الدرك أي تتابع واستحكم. ومعنى أدرك بقطع الهمزة انتهى وتكامل علمهم في الآخرة أي في شأنها ومعناها، ويمكن أن يكون وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكما بهم كما يقول لأجهل الناس: ما أعلمك. وإذا لم يعرفوا نفس البعث يقينا فلأن لا يعرفوا وقته أولى. ويحتمل أن تكون أدرك بمعنى انتهى وفني من قولهم «أدركت الثمرة» لأن تلك غايتها التي عندها تعدم. وقد فسره الحسن باضمحل علمهم وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك، وصفهم أوّلا بأنهم لا يشعرون وقت البعث ثم أضرب عن ذلك قائلا إنهم لا يعلمون القيامة فضلا عن وقتها ثم إن عدم العلم قد يكون مع الغفلة الكلية فأضرب عن ذلك قائلا إنهم ليسوا غافلين بالكلية ولكنهم في شك ومرية، ثم إن الشك قد يكون بسبب عدم الدليل فأضرب عن ذلك قائلا إنهم عمون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 عن إدراك الدليل مع وضوحه، وقد جعل الآخرة مبدأ أعمالهم ومنشأه فلهذا عداه بمن دون «عن» والضمائر تعود إلى من في السموات والأرض. وذلك أن المشركين كانوا في جملتهم فنسب فعلهم إلى الجميع كما يقال: بنو فلان فعلوا. وإنما فعله ناس منهم قاله في الكشاف. قلت: قد تقدّم ذكر المشركين في قوله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ وغيره فلا حاجة إلى هذا التكلف ولو لم يتقدّم جاز للقرينة. التأويل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا صالح القلب بالإلهام الرباني إلى صفات القلب وهو الفريق المؤمن، وإلى النفس وصفاتها وهو الفريق الكافر. والسيئة طلب الشهوات واللذات الفانية، والحسنة طلب السعادات الباقية. وكان في مدينة القالب الإنساني تِسْعَةُ رَهْطٍ هم خواص العناصر الأربعة والحواس الخمس يُفْسِدُونَ في أرض القلب بإفساد الاستعداد الفطري تَقاسَمُوا بالموافقة على السعي في إهلاك القلب وصفاته وأن يقولوا لوليه وهو الحق سبحانه. ما أهلكناهم وما حضرنا مع النفس الأمّارة حين قصدت هلاكهم وَمَكَرُوا مَكْراً في هلاك القلب بالهواجس النفسانية والوساوس الشيطانية وَمَكَرْنا مَكْراً بتوارد الواردات الربانية وتجلي صفات الجمال والجلال وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أن صلاحهم في هلاكهم. فمن قتلته فأنا ديته فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أنا أفنينا خواص التسعة وآفاتها وأفنينا قومهم أجمعين وهم النفس وصفاتها فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ وهي القالب والأعضاء التي هي مساكن الحواس خالية عن الحواس المهلكة والآفات الغالبة بِما ظَلَمُوا أي وضعوا من نتائج خواص العناصر وآفات الحواس في غير موضعها وهو القلب، وكان موضعها النفس بأمر الشارع لا بالطبع لصلاح القالب وبقائه وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وهم القلب وصفاته من شر النفس وصفاتها. ولوط الروح إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ وهم القلب والسر والعقل عند تبدل أوصافهم بمجاورة النفس أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وهي كل ما زلت به أقدامهم عن الصراط المستقيم وأماراتها في الظاهر إتيان المناهي على وفق الطبع، وفي الباطن حب الدنيا وشهواتها وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ تميزون الخير من الشر. وإتيان الرجال دون النساء عبارة عن صرف الاستعداد فيما يبعد عن الحق لا فيما يقرب منه فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ وهم القلب المريض بتعلق حب الدنيا والسر المكدر بكدورات الرياء والنفاق والعقل المشوب بآفة الوهم والخيال أَخْرِجُوا الصفات الروحانية من قرية الشخص الإنساني إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ من لوث الدنيا وشهواتها فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ وهم السر والعقل وصفاتهما من عذاب تعلق الدنيا إِلَّا امْرَأَتَهُ وهي النفس الأمارة بالسوء وَأَمْطَرْنا على النفس وصفاتها مطرا بترك الشهوات فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي صعب فإن الفطام من المألوفات شديد وهذه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 حالة مستدعية للحمد والشكر فلهذا قال قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ من تعلقات الكونين وآفات الوجود المجازي عَلى عِبادِهِ أَمَّنْ خَلَقَ سموات القلوب وأرض النفوس وأنزل من سماء القلب ماء نظر الرحمة فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ من العلوم والمعاني والأسرار أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ من الهوى أَمَّنْ جَعَلَ أرض النفس قَراراً في الجسد وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً من دواعي البشرية وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ من القوى والحواس وَجَعَلَ بَيْنَ بحر الروح وبحر النفس حاجِزاً القلب فإن في اختلاطهما فساد حالهما أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ كما زعمت الطبائعية أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ في العدم بلسان الحال وَيَجْعَلُكُمْ مستعدين لخلافته في الأرض أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ كما يزعم أرباب الحلول والاتحاد أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ بر البشرية وبحر الروحانية وإن كانت الروحانية نورانية بالنسبة إلى ظلمة البشرية والمراد يهديكم بإخراجكم من ظلمات البشرية إلى نور الروحانية، ومن ظلمات خلقته الروحانية إلى نور الربوبية وذلك حين يرسل رياح العناية بين يدي سحاب الهداية أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ كما يقول المنجمون: مطرنا بنوء كذا. وكما يقوله قاصروا النظر: هدانا الشيخ والمعلم إلى كذا أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بالوجود المجازي ثُمَّ يُعِيدُهُ بالوجود الحقيقي إلى عالم الوحدة وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ من سماء الربوبية لتربية الأرواح ومن أرض بشرية الأشباح أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ كائنا من كان دليله أنه لا يعلم الغيب إلا هو ومن جملته علم قيام الساعة والله أعلم. [سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 93] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 القراآت: أيذا أينا بياء مكسورة بعد همزة مفتوحة: ابن كثير ويعقوب غير زيد. مثله ولكن بالمد: أبو عمرو وزيد أيذا بهمزة مفتوحة ثم ياء مكسورة إِنَّا بكسر الهمزة وبعدها نون مشددة: سهل إِذا من غير همزة الاستفهام آينا بهمزة ممدودة بعدها ياء مكسورة: يزيد وقالون، مثله ولكن من غير مد: نافع غير قالون أَإِذا بهمزتين مفتوحة ثم مكسورة إِنَّا بهمزة مكسورة بعدها نون مشددة: علي وابن عامر هشام يدخل بينهما مدة أَإِذا أَإِنَّا بهمزتين مفتوحة ثم مكسورة فيهما: حمزة وخلف وعاصم. ولا يسمع بفتح الياء التحتانية الصُّمَّ بالرفع: ابن كثير وعباس وكذلك في «الروم» . الآخرون بضم التاء الفوقانية وكسر الميم ونصب الصمّ وما أنت تهدي على أنه فعل العمى بالنصب وكذلك في «الروم» حمزة. الباقون بِهادِي على أنه اسم فاعل العمى بالجر أتوه مقصورا على أنه فعل ماض: حمزة وخلف وحفص والمفضل. الآخرون بالمد على أنه اسم فاعل بما يفعلون على الغيبة: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحماد والأعشى والبرجمي والحلواني عن هشام. فَزَعٍ بالتنوين: عاصم وحمزة وعلي وخلف يَوْمَئِذٍ بفتح الميم: حمزة وأبو جعفر ونافع، الباقون بكسرها تَعْمَلُونَ بتاء الخطاب: أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب وحفص. الوقوف: لَمُخْرَجُونَ هـ مِنْ قَبْلُ لا تحرزا عن الابتداء بمقول الكفار الْأَوَّلِينَ هـ الْمُجْرِمِينَ هـ يَمْكُرُونَ هـ صادِقِينَ هـ تَسْتَعْجِلُونَ هـ لا يَشْكُرُونَ هـ وَما يُعْلِنُونَ هـ مُبِينٍ هـ يَخْتَلِفُونَ هـ لِلْمُؤْمِنِينَ هـ بِحُكْمِهِ ج تعظيما للابتداء بالصفتين مع اتفاق الجملتين الْعَلِيمُ هـ ج للآية واختلاف الجملتين وللفاء واتصال المعنى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 أي إذا كان الحكم لله فأسرع التوكل عَلَى اللَّهِ ط الْمُبِينِ هـ مُدْبِرِينَ هـ ضَلالَتِهِمْ ط مُسْلِمُونَ هـ تُكَلِّمُهُمْ ج لمن قرأ بكسر الألف فإنه يحتمل أن يكون الكسر للابتداء ولكونها بعد التكليم لأنه في معنى القول، ومن فتح فلا وقف إذ التقدير تكلمهم بأن لا يُوقِنُونَ هـ يُوزَعُونَ هـ تَعْمَلُونَ هـ لا يَنْطِقُونَ هـ مُبْصِراً ط يُؤْمِنُونَ هـ مَنْ شاءَ اللَّهُ ط داخِرِينَ هـ السَّحابِ ط كُلَّ شَيْءٍ ط تَفْعَلُونَ هـ خَيْرٌ مِنْها لا لأن ما بعده من تتمة الجزاء آمِنُونَ هـ لا لعطف جملتي الشرط فِي النَّارِ هـ تَعْمَلُونَ هـ شَيْءٍ ز للعارض وطول الكلام مع العطف الْمُسْلِمِينَ هـ لا للعطف الْقُرْآنَ ج لِنَفْسِهِ ج الْمُنْذِرِينَ هـ فَتَعْرِفُونَها ط تَعْمَلُونَ هـ. التفسير: لما ذكر أن المشركين في شك من أمر البعث عمون عن النظر في دلائله أراد أن يبين عامة شبهتهم وهي مجرد استبعاد إحياء الأموات بعد صيرورتهم ترابا عند الحس. قال النحويون: العامل في «إذا» ما دل عليه أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ وهو نخرج والمراد الإخراج من الأرض أو من حال الفناء إلى حال الحياة. وإنما ذهبوا إلى هذا التكلف بناء على أن ما بعد همزة الاستفهام وكذا ما بعد «أن» واللام لا يعمل فيما قبلها لأن هذه الأشياء تقتضي صدر الكلام، وتكرير حرف الاستفهام في «إذا» و «أن» جميعا إنكار على إنكار. والضمير في «أنا» لهم ولآبائهم جميعا وقد مر في سورة المؤمنين تفسير قوله لَقَدْ وُعِدْنا وبيان المتشابه فليدّكر. ثم أوعدهم على عدم قبول قول الأنبياء بالنظر في حال الأمم السالفة المكذبة. ولم تؤنث «كان» لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي، أو لأن المراد كيف كان عاقبة أمرهم. والمراد بالمجرمين الكافرون لأن الكفر جرم مخصوص وفيه تنبيه على قبح موقع الجرم أياما كان فعلى المؤمن أن يتخوّف عاقبتها ويترك الجرائم كلها كيلا يشارك الكفرة في هذا الاسم الشنيع. ومعنى قوله وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ الآية. قد مر في آخر «النحل» . وفي هذه الآي تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان يناله من قومه. ثم إنهم استعجلوا العذاب الموعود على سبيل السخرية فأمره أن يقول لهم عَسى أَنْ يَكُونَ وهذه على قاعدة وعد الملوك ووعيدهم يعنون بذلك القطع بوقوع ذلك الأمر مع إظهار الوقار والوثوق بما يتكلمون. وإن كان على سبيل الرجاء والطمع ولمثل هذا قال رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي دون أن يقول «ردف لكم الذي» . واللام زائدة للتأكيد كالباء في وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ [البقرة: 195] أو أريد أزف لكم ودنا لكم بتضمن فعل يتعدى باللام ومعناه تبعكم ولحقكم. وقال بعضهم: المقتضي للعذاب والمؤثر فيه حاصل في الدنيا إلا أن الشعور به غير حاصل كما للسكران أو النائم، فتمام العذاب إنما يحصل بعد الموت وإن كان طرف منه حاصلا في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 الدنيا فلهذا ذكر البعض. ثم ذكر أنه متفضل عليهم بتأخير العقوبة في الدنيا ولكنهم لا يشكرون هذه النعمة فيستعجلون وقوع العقاب بجهلهم، وفيه دليل على أن نعمة الله تعم الكافر والمؤمن. ثم بين أنه مطلع على ما في صدورهم مما يخفون كالقصود والدواعي وعلى ما يظهرون من أفعال الجوارح وغيرها، ولعل الغرض أنه يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم وهو معاقبهم على ذلك. ثم أكد ذلك بأن المغيبات كلها ثابتة في اللوح المحفوظ، والعاقبة إما مصدر كالعافية، وإما اسم غير صفة كالذبيحة والربيئة، وإما صفة والتاء للمبالغة كالراوية في قولهم «ويل للشاعر من راوية السوء» كأنه قيل: وما من شيء شديد الغيبوبة إلا وهو مثبت في الكتاب الظاهر المبين لمن ينظر فيه من الملائكة. ثم بين لدفع شبه القوم إعجاز القرآن المطابق قصصه لما في التوراة والإنجيل مع كونه صلى الله عليه وسلم أميا، والمطابق غرضه لما هو الحق في نفس الأمر، وقد حرفه بنوا إسرائيل وجهه كاختلافهم في شأن المسيح في كثير من الشرائع والأحكام، وذكر أنه هدى ورحمة لمن آمن منهم وأنصف أو منهم ومن غيرهم. ثم ذكر أن من لم ينصف منهم فالله يقضي بينهم بحكمه أي بما يحكم به وهو عدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكما وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغالب فيما يريد الْعَلِيمُ بما يحكم وبمن يحكم لهم أو عليهم. ثم أمره بالتوكل وقلة المبالاة بأعداء الدين وعلل ذلك بأمرين: أحدهما أنه على الحق الأبلج وفيه أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بنصرة الله، وثانيهما قوله إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى لأنه إذا علم أن حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الموتى أو كحال الصم الذين لا يسمعون ولا يفهمون والعمي الذين لا يبصرون ولا يهتدون، صار ذلك سببا قويا في إظهار مخالفتهم وعدم الاعتداد بهم. وقوله إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ تأكيد لأن الأصم إذا توجه إلى الداعي لم يرج منه سماع فكيف إذا ولى مدبرا وهداه عن الضلالة كقولك «سقاه عن العمية» . ثم بين أن إسماعه لا يجدي إلا على الذين علم الله أنهم يصدقون بآياته فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي مخلصون منقادون لأمر الله بالكلية. ثم هدد المكلفين بذكر طرف من أشراط الساعة وما بعدها فقال وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ أي دنا وشارف أن يحصل مؤاده ومفهومه عَلَيْهِمْ وهو ما وعدوا به من قيام الساعة والعذاب أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ وهي الجساسة. وقد تكلم علماء الحديث فيها من وجوه: أحدها في مقدار جسمها. فقيل: إن طولها ستون ذراعا. وقيل: إن رأسها يبلغ السحاب. وعن أبي هريرة: ما بين قرنيها فرسخ للراكب. وثانيها في كيفية خلقتها فروي لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان. وعن ابن جريج في وصفها رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 أيل وعنق نعامة وصدر أسد ولون نمر وخاصرة هر وذنب كبش وخف بعير وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعا. وثالثها في كيفية خروجها عن علي رضي الله عنه أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها. وعن الحسن: لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام. ورابعها مكان خروجها، سئل النبي صلى الله عليه وسلم من أين تخرج الدابة؟ فقال: من أعظم المساجد حرمة على الله يعني المسجد الحرام. وقيل: تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية. وخامسها في عدد خروجها روي أنها تخرج ثلاث مرات تخرج بأقصى اليمن ثم تكمن ثم تخرج بالبادية، ثم تكمن دهرا طويلا فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد، فقوم يهربون وقوم يقفون نظارة. وسادسها فيما يصدر عنها من الآثار والعجائب فظاهر الآية أنها تكلم الناس، وفحوى الكلام أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ قال جار الله: معناه أن الناس كانوا لا يوقنون بخروجي لأن خروجها من الآيات. ومن قرأ (إن) مكسورة فقولها حكاية قول الله فلذلك قالت بِآياتِنا أو المعنى بآيات ربنا فحذف المضاف أو سبب الإضافة اختصاصها بالله كما يقول بعض خاصة الملك: خيلنا وبلادنا. وإنما هي خيل مولاه وبلاده. عن السدي: تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام. وعن ابن عمر: تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ثم تستقبل المشرق ثم الشام ثم اليمن فتفعل مثل ذلك. روي بينا عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون وإذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسعى فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فتضرب المؤمن في مسجده أو فيما بين عينيه بعصا موسى فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه ويكتب بين عينيه «مؤمن» وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه ويكتب بين عينيه «كافر» . وروي أنها تقول لهم: يا فلان أنت من أهل الجنة ويا فلان أنت من أهل النار. وقيل: تكلمهم من الكلم على معنى التبكيت والمراد به الجرح وهو الوسم بالعصا والخاتم. ثم ذكر طرفا مجملا من أهوال يوم القيامة قائلا وَيَوْمَ أي واذكر يوم نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً أي جماعة كثيرة مِمَّنْ يُكَذِّبُ هذه للتبيين والأولى للتبعيض وقوله بِآياتِنا يحتمل معجزات جميع الرسل أو القرآن خاصة. وقد مر معنى قوله فَهُمْ يُوزَعُونَ في وصف جنود سليمان أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار. وعن ابن عباس: الفوج أبو جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة، وكذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار. والواو في قوله وَلَمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 تُحِيطُوا للحال كأنه قيل: أكذبتم بآياتي بادي الرأي من غير الوقوف على حقيقتها وأنها جديرة بالتصديق أو بالتكذيب. ويجوز أن تكون الواو للعطف والمعنى أجحدتموها ومع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتفهمها، فقد يجحد المكتوب إليه كون الكتاب من عند من كتبه ومع ذلك لا يدع تفهم مضمونه وأن يحيط بمعانيه. قال جار الله: أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ للتبكيت لا غير لأنهم لم يعملوا إلا التكذيب ولم يشتهر من حالهم إلا ذلك. وجوّز أن يراد ما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب أم ماذا كنتم تعملون من غير ذلك كأنكم لم تخلقوا إلا لأجله. وقال غيره: أراد لما لم يشتغلوا بذلك العمل المهم وهو التصديق فأيّ شيء يعملونه بعد ذلك؟ لأن كل عمل سواه فكأنه ليس بعمل. قال المفسرون: يخاطبون بهذا قبل كبهم في النار ثم يكبون فيها وذلك قوله وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي العذاب الموعود يغشاهم بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار. ثم بعد أن خوّفهم بأهوال القيامة وأحوالها ذكر ما يصلح أن يكون دليلا على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوّة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال أَلَمْ يَرَوْا الآية. ووجه دلالته على التوحيد أن التقليب من النور إلى الظلمة وبالعكس لا يتم إلا بقدرة قاهرة، ودلالته على الحشر أن النوم يشبه الموت والانتباه يشبه الحياة، ودلالته على النبوّة أن كل هذا لمنافع المكلفين وفي بعثة الرسل إلى الخلق أيضا منافع جمة، فما المانع لمفيض الخيرات من إيصال بعض المنافع دون البعض، أو من رعاية بعض المصالح دون البعض؟ ووصف النهار بالإبصار إنما هو باعتبار صاحبه وقد مر في «يونس» . والتقابل مراعى في الآية من حيث المعنى كأنه قيل: ليسكنوا فيه وليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب. ثم عاد إلى ذكر علامة أخرى للقيامة فقال وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وقد تقدم تفسيره في «طه» و «المؤمنين» . وقوله فَفَزِعَ كقوله وَنادى [الأعراف: 48] وَسِيقَ [الزمر: 73] والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قال أهل التفسير: إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة. وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل. وقيل: هم الشهداء. وعن الضحاك: الحور وخزنة النار وحملة العرش. وعن جابر أن منهم موسى لأنه صعق مرة. قال أهل البرهان: إنما قال في هذه السورة فَفَزِعَ موافقة لقوله وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وفي «الزمر» قال فَصَعِقَ [الزمر: 68] لأن معناه فمات وقد سبق إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] . ومعنى داخِرِينَ صاغرين أذلاء. وقيل: معنى الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية. وجوّز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له. قال أهل المناظرة: إن الأجسام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت والكيفية ظن الناظر أنها واقفة مع أنها تمر مرا حثيثا، فأخبر الله سبحانه أن حال الجبال يوم القيامة كذلك تجمع فتسير كما تسير الريح السحاب، فإذا نظر الناظر حسبها جامدة أي واقفة في مكان واحد. وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ قال جار الله صُنْعَ اللَّهِ من المصادر المؤكدة كقوله «وعد الله» إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ل يَوْمَ يُنْفَخُ والمعنى يوم ينفخ في الصور فكان كيت وكيت، أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين صنع الله، فجعل الإثابة والمعاقبة من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على وجه الحكمة والصواب. قلت: لا يبعد أن يكون الناصب ل يَوْمَ يُنْفَخُ هو «اذكر» مقدرا، ويكون صُنْعَ اللَّهِ مصدرا مؤكدا لنفسه أي صنع تسيير الجبال ومرها صنع الله. قال القاضي عبد الجبار: في قوله أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ دلالة على أن القبائح ليست من خلقه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة ولكن الإجماع مانع منه. وأجيب بأن الآية مخصوصة بغير الأعراض فإن الأعراض لا يمكن وصفها بالإتقان وهو الإحكام لأنه من أوصاف المركبات. قلت: ولو سلم وصف الأعراض بالإتقان فوصف كل الأعراض به ممنوع فما من عام إلا وقد خص، ولو سلم فالإجماع المذكور لعله ممنوع يؤيده قوله إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ وإذا كان خبيرا بكل أفعال العباد على كل نحو يصدر عنهم وخلاف معلومه يمتنع أن يقع فقد صحت معارضة الأشعري، وعلى مذهب الحكيم وقاعدته صدور الشر القليل من الحكيم لأجل الخير الكثير لا ينافي الإتقان والله أعلم. ثم فصل أعمال العباد وجزاءها بقوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها إلى آخر الآيتين. وبيان الخيرية بالأضعاف وبأن العمل منقض والثواب دائم، وبأن فعل السيد بينه وبين فعل العبد بون بعيد على أن الأكل والشرب إنما هو جزاء الأعمال البدنية، وأما الأعمال القلبية من المعرفة والإخلاص فلا جزاء لها سوى الالتذاذ بلقاء الله والاستغراق في بحار الجمال والجلال جعلنا الله أهلا لذلك. وقيل: المراد فله خير حاصل منها. وعن ابن عباس: أن الحسنة كلمة الشهادة التي هي أعلى درجات الإيمان. واعترض عليه بأنه يلزم منه أن لا يعاقب مسلم. وأجيب بأنه يكفي في الخيرية أن لا يكون عقابه مخلدا. ثم وعد المحسنين أمرا آخر وهو قوله وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وآمن يعدّى بالجار وبنفسه. والتنوين في فزع في إحدى القراءتين إما للنوع وهو فزع نوع العقاب فإن فزع الهيبة والجلال يلحق كل مكلف وهو الذي أثبته في قوله فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وإما للتعظيم أي من فزع شديد لا يكتنهه الواصف وهو خوف النار آمنون. وأما حال العصاة فأن تكب في النار فعبر عن الجملة بالوجه لأنه أشرف أو لأنهم يلقون في الجحيم منكوسين. وقوله هَلْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 تُجْزَوْنَ الخطاب فيه إما على طريقة الالتفات وإما على سبيل الحكاية بإضمار القول أي يقال لهم عند الكب هذا القول. ثم ختم السورة بخلاصة ما أمر به رسوله وذلك أشياء منها: عبادة الرب سبحانه. ثم وصف الرب بأمرين احترازا من أرباب أهل الشرك أولهما كونه ربا لما هو أقرب في نظر قريش وهو بلدة مكة حرسها الله. وفيه نوع منة عليهم كقوله حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] وثانيهما عام وهو قوله وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ومنها أمره بالإسلام وهو الإذعان الكلي لأوامر الله بجميع أعضائه وجوارحه. ومنها أمره بتلاوة القرآن أي بتلوّه أي أتباعه وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما أمر به أتم قيام حتى خوطب بقوله ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 2] ثم لما بين سيرته ذكر أن نفع الاهتداء ووبال الضلال لا يعود إلا إلى المكلف أو عليه وليس على الرسول إلا البلاغ والإنذار. ثم جعل ختم الخاتمة الأمر بالحمد كما هو صفة أهل الجنة وبعد أمره بالحمد على نعمة النبوة والرسالة هدّد أعداءه بما سيريهم في الآخرة من الآيات الملجئة إلى الإقرار وذلك حين لا ينفعهم الإيمان. قاله الحسن. وعن الكلبي: هي الدخان وانشقاق القمر وما حل بهم من العقوبات في الدنيا. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ولكنه من وراء جزاء العاملين. التأويل: قُلْ سِيرُوا في أرض البشرية فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ لأن خواص نفوسهم أنموذج من جهنم كما أن خواص أهل القلوب أنموذج من الجنة وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ لأنه خمر طينة آدم بيديه أربعين صباحا ونفخ فيه من روحه فهو مطلع على قالبه وعلى قلبه ولهذا قال وَما مِنْ غائِبَةٍ من الخواص في سماء القلب وأرض القالب إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وهو علم الله تعالى أن هذا القرآن يقص لأن كل كتاب كان مشتملا على شرح مقام ذلك النبي ولم يكن لنبي مقام في القرب مثل نبينا، فلا جرم لم يكن في كتبهم من الحقائق مثل ما في القرآن ولهذا قال إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي بين هذه الأمة وبين أمة كل نبي بحكمه أي بحكمته بأن يبلغ متابعي كل نبي إلى مقام نبيهم ويبلغ متابعي نبينا صلى الله عليه وسلم إلى مقام المحبة. فاتبعوني يحببكم الله وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لعزته لا يهدي كل مثمن إلى مقام حبيبه الْعَلِيمُ بمن يستحق هذا المقام. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ في دعوة الخلق إلى الله وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ وذلك بعد البلوغ ومضى زمان الرعي في مراتع البهيمية أَخْرَجْنا لَهُمْ من تحت أرض البشرية دَابَّةً تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ وهي النفس الناطقة فإنها إلى الآن كانت موصوفة بصفة الصمم والبكم بتبعية النفس الأمارة التي لا توقن هي وصفاتها بالدلائل. وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ من كلامه وهي صفات الروح والقلب وذلك بعد التصفية والمداومة على الذكر والفكر، حتى إذا رجعوا إلى الحضرة قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بعد أن كنتم مصدقيها عند خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] وهذا خطاب فيه استبطاء وعتاب وقع قول يحبهم عليه بدل ما ظلموا فهم لا ينطقون كقوله «من عرف الله كل لسانه» أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً جعلنا ليل البشرية سببا لاستجمام القلب ونهار الروحانية بتجلي شمس الربوبية مبصرا يبصر به الحق من الباطل. وَيَوْمَ يُنْفَخُ إسرافيل المحبة في صور القلب فَفَزِعَ من في سموات الروح من الصفات الروحانية ومن في أرض البشرية من الصفات النفسانية إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ من أهل البقاء الذين أحيوا بحياته وأفاقوا بعد صعقة الفناء وهي النفخة الأولى في بداية تأثير العناية للهداية وإلقاء المحبة التي تظهر القيامة في شخص المحب. وفزع الصفات هيجانها للطلب بتهييج أنوار المحبة إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وهو الخفي وهي لطيفة في الروح بالقوة وإنما تصير بالفعل عند طلوع شموع الشواهد وآثار التجلي فلا يصيبه الفزع بالنفخة الأولى ولا تدركه الصعقة بالنفخة الثانية وَتَرَى جبال الأشخاص جامِدَةً على حالها وَهِيَ تَمُرُّ بالسير في الصفات وتبديل الأخلاق مَرَّ السَّحابِ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ وهي القلب والرب هو الله كما أن رب بلدة القالب هو النفس الأمارة وأنه تعالى حرم بلدة القلب على الشيطان كما قال يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس: 5] دون أن يقول «في قلوب الناس» سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها فيه إذا لم ير الآيات لم يمكن عرفانها اللهم اجعلنا من العارفين واكشف عنا غطاءنا بحق محمد وآله صلى الله وسلم عليهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 (سورة القصص) (مكية سوى آية نزلت بجحفة إِنَّ الَّذِي فَرَضَ إلخ حروفها 5800 كلمها 1441 آياتها 88) [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 21] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 القراآت: ويرى بفتح الياء وإمالة الراء فرعون وهامان وجنودهما مرفوعات: حمزة وعلي وخلف وهكذا قرؤا قوله وحزنا بضم الحاء وسكون الزاي الباقون بفتحها. الوقوف: طسم كوفي. الْمُبِينِ هـ يُؤْمِنُونَ هـ نِساءَهُمْ ط الْمُفْسِدِينَ هـ الْوارِثِينَ هـ لا للعطف يَحْذَرُونَ هـ أَرْضِعِيهِ ج للفاء مع احتمال الابتداء بإذا الشرطية وَلا تَحْزَنِي ج للابتداء بإن مع أن التقدير فإنا. مِنَ الْمُرْسَلِينَ هـ وَحَزَناً ط خاطِئِينَ هـ وَلَكَ ط لا تَقْتُلُوهُ ق والوجه الوصل لأن الرجاء بعده تعليل للنهي. لا يَشْعُرُونَ هـ فارِغاً ط الْمُؤْمِنِينَ هـ قُصِّيهِ ز بناء على أن التقدير فتبعته فبصرت لا يَشْعُرُونَ هـ لا بناء على أن الواو للحال أي وقد حرمنا وقوله فَقالَتْ عطف على قوله فَبَصُرَتْ والحال معترض ناصِحُونَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ وَعِلْماً هـ الْمُحْسِنِينَ هـ يَقْتَتِلانِ لا لأن ما بعده صفة الرجلين ظاهرا ولكن مع إضمار أي يقال لهما هذا من شيعته وهذا من عدوّه، وليس ببعيد أن يكون مستأنفا من عَدُوِّهِ الأول ج لأن ما يتلوه معطوف على قوله فوجد مع اعتراض عارض من عَدُوِّهِ الثاني لا للعطف عليه مع عدم اتحاد القائل الشَّيْطانِ ط مُبِينٌ هـ فَغَفَرَ لَهُ ط الرَّحِيمُ هـ لِلْمُجْرِمِينَ هـ يَسْتَصْرِخُهُ ط مُبِينٌ ط لَهُما لا لأن ما بعده جواب «لما» بِالْأَمْسِ ط للابتداء بالنفي والوصل أوجه لاتحاد القائل الْمُصْلِحِينَ هـ يَسْعى ز لعدم العاطف مع اتحاد القول مِنَ النَّاصِحِينَ هـ يَتَرَقَّبُ ز لما قلنا في يَسْعى الظَّالِمِينَ هـ. التفسير: فاتحة هذه السورة كفاتحة سورة الشعراء. نَتْلُوا عَلَيْكَ على لسان جبرائيل مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ أي طرفا من خبرهما متلبسا بِالْحَقِّ أو محقين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء. ثم شرع في تفصيل هذا المجمل وفي تفسيره كأن سائلا سأل: وكيف كان نبؤهما؟ فقال مستأنفا إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ أي طغى وتكبر في أرض مملكته وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً فرقا يشيعونه على ما يريد ويطيعونه أو جعلهم أصنافا في استخدامه فمن بان وحارث وغير ذلك، أو فرقا مختلفة بينهم عداوة ليكونوا له أطوع وهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 بنو إسرائيل والقبط. وقوله يَسْتَضْعِفُ حال من الضمير في جَعَلَ أو صفة شِيَعاً أو مستأنف. ويُذَبِّحُ بدل منه. وقوله إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ بيان أن القتل من فعل أهل الفساد لا غير لأن الكهنة إن صدقوا فلا فائدة في القتل، وإن كذبوا فلا وجه للقتل اللهم إلا أن يقال: إن النجوم دلت على أنه يولد ولد لو لم يقتل لصار كذا وكذا، وضعفه ظاهر لأن المقدر كائن البتة وَنُرِيدُ حكاية حال ماضية معطوفة على قوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فهذه أيضا تفسير للنبأ. وجوز أن يكون حالا من الضمير في يَسْتَضْعِفُ أي يستضعفهم هو ونحن نريد أن نمنّ عليهم في المآل، فجعلت إرادة الوقوع كالوقوع. وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً مقدمين في أمور الدين والدنيا. وعن ابن عباس: قادة يقتدى بهم في الخير. وعن مجاهد: دعاة إلى الخير وعن قتادة: ولاة أي ملوكا. ومعنى الوراثة والتمكين في أرض مصر والشام هو أن يرثوا ملك فرعون وينفذ فيه أمرهم، والذي كانوا يحذرون منه هو ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم. يروى أنه ذبح في طلب موسى تسعون ألف وليد. قال ابن عباس: إن أم موسى لما قربت ولادتها أرسلت إلى قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بالحبالى وكانت مصافية لأم موسى وقالت لها: قد نزل بي ما نزل ولينفعني حبك، فعالجتها فلما وقع على الأرض هالها نور بين عينيه، وارتعش كل مفصل منها ودخل حبه قلبها، ثم قالت: ما جئتك إلا لأخبر فرعون ولكن وجدت لابنك هذا حبا شديدا فاحفظيه. فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها نفر من بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل على أم موسى فقالت أخته: يا أماه هذا الحرس فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور لم تعقل ما تصنع لما طاش من عقلها. فدخلوا فإذا التنور مسجور وإذا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقالوا: لم دخلت القابلة عليك؟ قالت: إنها حبيبة لي دخلت للزيارة. فخرجوا من عندها ورجع إليها عقلها فقالت: يا أخت موسى أين الصبي؟ فقالت: لا أدري سمعت بكاءه في التنور، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما. فلما ألح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها أن يذبح فألهمها الله تعالى أن تتخذ له تابوتا ثم تقذف التابوت في النيل. فجاءت إلى النجار وأمرته بنجر تابوت طوله خمسة أشبار في عرض خمسة فعلم النجار بذلك فجاء إلى موكل بذبح الأبناء فاعتقل لسانه فرجع ثم عاد مرات فعلم أنه من الله فأقبل على النجر. وقيل: لما فرغ من صنعة التابوت ثم أتى فرعون يخبره فبعث معه من يأخذه فطمس الله على عينيه وقلبه بألم فلم يعرف الطريق، وأيقن أنه من الله وأنه هو المولود الذي يخافه فرعون فآمن في الوقت وهو مؤمن آل فرعون. وانطلقت أم موسى وألقته في النيل، وكانت لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى أبيها، وكان بها برص شديد وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها فقالوا: يا أيها الملك لا تبرأ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 هذه إلا من قبل البحر يوجد منه شبيه الإنس فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك في يوم كذا من شهر كذا حين تشرق الشمس. فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون في مجلس له على شفير النيل ومع آسية زوجته، وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على الشاطئ إذ أقبل النيل بتابوت تضربه الأرياح والأمواج وتعلق بشجرة فقال فرعون: ائتوني به، فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه، فنظرت آسية فرأت نورا في جوف التابوت لم يره غيرها فعالجته ففتحته فإذا هو صبي صغير في مهده يمص إبهامه لبنا، وإذا نور بين عينيه فألقى الله محبته في قلوب القوم، وعمدت ابنة فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت وضمته إلى صدرها. فقال الأعزة من قوم فرعون: إنا نظن أن هذا هو الذي تحذر منه، فهمّ فرعون بقتله فاستوهبته امرأة فرعون وتبنته فترك قتله. قال علماء البيان: اللام في قوله لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا لام العاقبة وأصلها التعليل إلا أنه وارد هنا على سبيل المجاز استعيرت لما يشبه التعليل من حيث إن العداوة والحزن كان نتيجة التقاطهم كما أن الإكرام مثلا نتيجة المجيء في قولك «جئتك لتكرمني» وبعبارة أخرى، إن مقصود الشيء والغرض منه هو الذي يؤل إليه أمره فاستعملوه هذه اللام فيما يؤل إليه الأمر على سبيل التشبيه وإن لم يكن غرضا. ومعنى كونهم خاطئين هو أنهم أخطؤا في التدبير حيث ربوا عدوّهم في حجرهم أو أنهم أذنبوا وأجرموا، وكان عاقبة ذلك أن يجعل الله في تربيتهم من على يديه هلاكهم. قال النحويون قُرَّتُ عَيْنٍ خبر مبتدأ محذوف أي هو قرة عين ولا يقوى أن يجعل مبتدأ ولا تَقْتُلُوهُ خبرا لأن الطلب لا يقع خبرا إلا بتأويل، ولو نصب لكان أقوى لأن الطلب من مظان النصب. روي في حديث أن آسية حين قالت قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ قال فرعون: لك لا لي، ولو قال هو قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها. ثم إنها رأت فيه مخايل اليمن ودلائل النفع وتوسمت فيه أمارات النجابة فقالت عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً فإنه أهل للتبني وذلك لما عاينت من النور وارتضاع الإبهام وبرء البرصاء. قال في الكشاف وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حال من آل فرعون. وقوله إِنَّ فِرْعَوْنَ الآية. جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم والتقدير: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا. وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه. قلت: لا يبعد أن تكون الجملة حالا من فاعل قالَتْ أي قالت كذا وكذا في حال عدم شعورهم بالمئال وهو أن هلاكهم على يده وبسببه. وقال الكلبي: أي لا يشعرون بنو إسرائيل وأهل مصر أنا التقطناه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 قوله سبحانه وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً قال الحسن: أي فارغا من كل هم إلا من هم موسى. وقال أبو مسلم: فراغ الفؤاد هو الخوف والإشفاق كقوله وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [إبراهيم: 43] أي جوف لا عقول فيها وذلك أنها حين سمعت بوقوعه عند فرعون طار عقلها جزعا ودهشا. وقال محمد بن إسحاق والحسن في رواية: أي فارغا من الوحي الذي أوحينا إليها وذلك قولنا فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي الغرق وسائر المخاوف وَلا تَحْزَنِي والخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع، والحزن غم يلحقه لواقع فنهيت عنهما جميعا، فجاءها الشيطان وقال لها: كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجر فتوليت إهلاكه. ولما أتاها خبر موسى أنه وقع إلى يد فرعون أنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها. وقال أبو عبيدة: فارغا من الخوف فالله تعالى يقول لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها وهل يربط إلا على قلب الجازع المحزون؟ أما من فسر الفراغ بحصول الخوف فعنده معنى قوله إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ هو أنها كادت تحدث بأن الذي وجدتموه ابني قاله ابن عباس. وفي رواية عكرمة كادت تقول وابناه من شدة وجدها به، وذلك حين رأت الموج يرفع ويضع. وقال الكلبي: ذلك حين سمعت الناس يقولون إنه ابن فرعون. ثم قال لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها بإلهام الصبر كما يربط على الشيء المتفلت ليستقر ويطمئن لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدّقين بوعد الله وهو قوله إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ. وأما من فسره بعدم الخوف فالمعنى عنده أنها صارت مبتهجة مسرورة حين سمعت أن فرعون تبناه وعطف عليه، وأن الشأن أنها قاربت أن تظهر أنه ولدها لولا أن ألهمناها الصبر لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لتبني فرعون وتعطفه. والأول أظهر بدليل قوله وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ أي اقتفي أثره وانظري أين وقع وإلى من صار، وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها مريم فَبَصُرَتْ بِهِ أي أبصرته عَنْ جُنُبٍ عن بعد أي نظرت إليه مزورّة متجانفة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بحالها وغرضها. والتحريم هاهنا لا يمكن حمله على النهي والتعبد ظاهرا فلذلك قيل: إنه مستعار للمنع لأن من حرم عليه شيء فقد منعه. وكان لا يقبل ثدي مرضع إما لأنه تعالى منع حاجته إلى اللبن وأحدث فيه نفار الطبع عن لبن سائر النساء، وإما لأنه أحدث في ألبانهن من الطعم ما ينفر عنه طبعه. وعن الضحاك: أن أمه أرضعته ثلاثة أشهر فعرف ريحها. والْمَراضِعَ جمع مرضعة وهي المرأة التي تصلح للإرضاع، أو جمع مرضع وهو الثدي، أو الرضاع، فالأول مكان والثاني مصدر ومِنْ قَبْلُ أي من قبل قصصها أثره، أو من قبل أن رددناه إلى أمه، أو من قبل ولادته في حكمنا وقضائنا. روي أنها لما قالت وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ قال هامان: إنها لتعرفه وتعرف أهله، فقالت: إنما أردت وهم للملك ناصحون. والنصح إخلاص العمل من شائبة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 الفساد. والمراد أنهم يضمنون رضاعه والقيام بمصالحه ولا يمنعون ما ينفعه في تربيته وغذائه. فانطلقت إلى أمها بأمرهم فجاءت بها والصبي يعلله فرعون شفقة عليه وهو يبكي يطلب الرضاع، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها. فقال لها فرعون: ومن أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ قالت: إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها وعين أجرها. قال في الكشاف: إنما أخذت الأجر على إرضاع ولدها لأنه مال حربي استطابته على وجه الاستباحة. قلت: ولعل ذلك لدفع التهمة فإن مال الحربي لم يكن مستطابا بدليل قوله وأحلت لي الغنائم قالوا: كانت عالمة بأن الله تعالى سينجز وعده ولكن ليس الخبر كالعيان فلهذا قال سبحانه وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أكثر الناس لا يَعْلَمُونَ حقية وعده في ذلك العهد وبعده لإعراضهم عن النظر في آيات الله. وقال الضحاك ومقاتل: يعني أهل مصر لا يعلمون أن الله وعد رده إليها. قلت: ويؤيد هذا القول أنه اقتصر على الضمير دون أن يقول «ولكن أكثر الناس» كما قال في سورة يوسف وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21] وقيل: هذا تعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى فجزعت وأصبح فؤادها فارغا، وعلى هذا يحتمل أن يكون قوله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ من جملة ما يعلمها أي ولتعلم حقية وعد الله وهذا الاستدراك. وجوز في الكشاف أن يتعلق الاستدراك بقوله وَلِتَعْلَمَ المقصود أن الرد به إنما كان لهذا الغرض الديني وهو العلم بصدق وعد الله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن هذا هو الغرض الأصلي الذي ما سواه تبع له من قرة العين وذهاب الحزن. ثم بين سبحانه كمال عنايته في حقه كما بين في قصة يوسف قائلا: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وزاد هاهنا قوله وَاسْتَوى فقيل: بلوغ الأشد والاستواء بمعنى واحد. والأصح أنهما متغايران. والأشد عبارة عن البلوغ، والاستواء إشارة إلى كمال الخلقة. وعن ابن عباس: الأشد ما بين الثمانية عشر إلى ثلاثين، والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين. وهو عند الأطباء سن الوقوف. فلعل يوسف أعطى النبوة في سن النمو وأعطى موسى إياها في سن الوقوف. والعلم التوراة، والحكم السنة، وحكمة الأنبياء سنتهم- قيل: ليس في الآية دلالة على أن هذه النبوة كانت قبل قتل القبطي أو بعده لأن الواو في قوله وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ لا تفيد الترتيب. قلت: يشبه أن يستدل على أن النبوة كانت بعد قتل القبطي بأنها كانت بعد تزوجه بنت شعيب، والتزوج كان بعد فراره منهم إلى مدين كما قرره تعالى في هذه السورة. وقد أجمل ذلك في الشعراء حيث قال حكاية عن موسى فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً [الشعراء: 21] وعلى هذا يمكن أن يراد بالواو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 الترتيب ويكون المعنى: آتيناه سيرة الحكماء والعلماء قبل البعث فكان لا يفعل فعلا يستجهل فيه. أما المدينة فالجمهور على أنها القرية التي كان يسكنها فرعون عن فرسخين من مصر. وقال الضحاك: هي عين شمس. وقيل: هي مصر. وحين غفلتهم بين العشاءين أو وقت القائلة أو يوم عيد اشتغلوا فيه باللهو. وقيل: أراد غفلتهم عن ذكر موسى وأمره، وذلك أنه حين ضرب رأس فرعون بالعصا ونتف لحيته في الصغر أمر فرعون بقتله فجيء بجمر فأخذه في فيه فقال فرعون لا أقتله ولكن أخرجوه عن الدار والبلد فأخرج ولم يدخل عليهم حتى كبر والقوم نسوا ذكره. قاله السدي. وقيل: إن الغفلة لموسى من أهلها وذلك أنه لما بلغ أشده وآتاه الله الرشد علم أن فرعون وقومه على الباطل فكان يتكلم بالحق ويعيب دينهم وينكر عليهم، فأخافوه فلا يدخل قرية إلا على تغفل وتستر. قال الزجاج: قوله هذا وَهذا وهما غائبان على جهة الحكاية أي وجد فيها رجلين يقتتلان إذا نظر الناظر إليهما قال: هذا من شيعته وهذا من عدوه. عن مقاتل: أن الرجلين كانا كافرين إلا أن أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط. واحتج عليه بأن موسى قال له إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ والمشهور أن الذي من شيعته كان مسلما كأنه قال ممن شايعه على دينه. وإنما وصفه بالغي لأنه كان سبب قتل رجل وهو يقاتل آخر على أن بني إسرائيل فيهم غلظة الطباع فيمكن أن ينسبوا إلى الغواية بذلك الاعتبار، ألا ترى أنهم قالوا بعد مشاهدة الآيات: اجعل لنا إلها. يروى أن القبطي أراد أن يتسخر الإسرائيلي في حمل الحطب إلى مطبخ فرعون. وقيل: إن الإسرائيلي هو السامري فَاسْتَغاثَهُ سأله أن يخلصه منه فَوَكَزَهُ أي دفعه بأطراف الأصابع أو بجمع الكف فَقَضى عَلَيْهِ أي أماته وقتله. الطاعنون في عصمة الأنبياء قالوا: إن كان القبطي مستحق القتل فلم قال هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ وقال رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وإن لم يكن مستحق القتل كان قتله معصية وذنبا؟ وأيضا قوله هذا مِنْ عَدُوِّهِ يدل على أنه كان كافرا حربيا وكان دمه مباحا والاستغفار من القتل المباح غير جائز. وأجيب أنا نختار أنه للكفرة كان مباح الدم إلا أن الأولى تأخير قتله إلى زمان آخر. فقوله هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ معناه إقدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان، أو هذا إشارة إلى عمل المقتول وهو كونه مخالفا الله، أو هو إشارة إلى المقتول يعني أنه من جند الشيطان وحزبه، والاستغفار من ترك الأولى سنة المرسلين، أو أراد أني ظلمت نفسي حيث قتلت هذا الكافر ولو عرف ذلك فرعون لقتلني به فَاغْفِرْ لِي فاستره على هذا كله. إذا سلم أنه كان نبيا في ذلك الوقت وفيه ما فيه قالت المعتزلة: في قوله هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ دليل على أن المعاصي ليست بخلق الله. ولقائل أن يقول: الشيطان من خلق الله فضلا عما يصدر عن الشيطان على أن المشار إليه يحتمل أن يكون شيئا آخر كما قررنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 قوله بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ قيل: أراد به القوة وأنه لن يستعملها إلا في مظاهرة أولياء الله وعلى هذا يكون ما أقدم عليه من إعانة الإسرائيلي على القبطي طاعة، إذ لو كانت معصية لصار حاصل الكلام بما أنعمت عليّ بقبول توبتي فإني أكون مواظبا على مثل تلك المعصية. وقال القفال: الباء للقسم كأنه أقسم بما أنعم الله عليه من المغفرة أن لا يظاهر مجرما. وأراد بمعاونة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون، وإما مظاهرة من تؤدي مظاهرته إلى ترك الأولى. وقال الكسائي والفراء: إنه خبر ومعناه الدعاء كأنه قال: فلا تجعلني ظهيرا والفاء للدلالة على تلازم ما قبلها وما بعدها. وفي الآية دلالة على عدم جواز إعانة الظلمة والفسقة حتى بري القلم وليق الدواة. عن ابن عباس: أنه لم يستثن أي لم يقل. فلن أكون إن شاء الله فابتلي به مرة أخرى. وفي هذه الرواية نوع ضعف فإنه ترك الإعانة في المرة الثانية، ولئن صحت فلعله أراد أنه جرت صورة تلك القضية عليه إلا أن الله عصمه، وبعد موت القبطي من الوكز فَأَصْبَحَ موسى من غد ذلك اليوم خائِفاً يَتَرَقَّبُ الأخبار وما يقال فيه فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ يطلب نصرته بصياح وصراخ فنسبه موسى لذلك إلى الغواية، فإن كثرة المخاصمة على وجه يؤدّي إلى الاستنصار خلاف طريقة الرشد. فغويّ بمعنى غاو. وجوز بعض أهل اللغة أن يكون بمعنى مغو لأنه أوقع موسى فيما أوقع ثم طلب منه مثل ذلك وهو نوع من الإغواء. قال بعضهم: لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غويّ ورأى فيه الغضب ظن لما هم بالبطش أنه يريده فقال أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ وزعموا أنه لم يعرف قتله بالأمس إلا هو وصار ذلك سببا لظهور القتل ومزيد الخوف. وقال آخرون: بل هو قول القبطي وقد كان عرف القضية من الإسرائيلي وهذا القول أظهر لأن قوله إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ لا يليق إلا أن يكون قولا للكافر. قال جار الله: الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن. وقيل: هو العظيم الذي لا يتواضع لأمر الله عز وجل. وحين وقعت هذه الواقعة انتشر الحديث في المدينة وهموا بقتل موسى فأخبره بذلك رجل وهو قوله وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ أي من أبعد مسافاتها إليه. وقوله يَسْعى صفة أخرى لرجل أو حال لأنه قد تخصص بالوصف، وإن جعل الظرف صلة لجاء حتى يكون المجيء من هنالك تعين أن يكون يسعى وصفا. قال العلماء: الأظهر في هذه السورة أن يكون الظرف وصفا وفي «يس» أن يكون صلة، ولذلك خصت بالتقدم ويؤيده ما جاء في التفسير أنه كان يعبد الله في جبل، فلما سمع خبر الرسل سعى مستعجلا. والائتمار التشاور لأن كل واحد من المتشاورين يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمره ومعنى يَأْتَمِرُونَ بِكَ يتشاورون بسببك. وقوله لَكَ مِنَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 النَّاصِحِينَ كقوله فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف: 20] وقد مر أن الجار في مثل هذه الصورة بيان لا صلة. فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ المكروه من جهتهم وأن يلحق به قالَ ملتجئا إلى الله رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وفيه دليل على أن قتله القبطي لم يكن ذنبا وإلا لم يكونوا ظالمين بطلب القصاص. التأويل: إِنَّ فِرْعَوْنَ النفس الأمارة استولى على من في الأرض الإنسانية وَجَعَلَ أَهْلَها وهم الروح والسر والعقل أصنافا في الاستخدام لاستيفاء الشهوات يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً وهم صفات القلب، الأبناء الصفات الحميدة المتولدة من ازدواج الروح والقلب، والنساء الصفات الذميمة المتولدة من ازدواج النفس والبدن إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ للاستعداد الفطري. وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ النفس وَهامانَ الهوى وَجُنُودَهُما من الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية. أُمِّ مُوسى السر لأن القلب تولد من ازدواج الروح والسر أَنْ أَرْضِعِيهِ من لبن الروحانية فقد حرم عليه مراضع الحيوانية أو الدنيوية. فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ في الدنيا في تابوت القالب وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي من القلوب المحدّثين كما قال بعضهم: حدثني قلبي عن ربي فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ وهم صفات النفس والقوى البشرية من الجاذبة والماسكة والهاضمة وغيرها فإنها أسباب لتربية الطفل لِيَكُونَ لَهُمْ في العاقبة عَدُوًّا يجادلهم بطريق الرياضات والمخالفات. وَحَزَناً بترك الشهوات واللذات وبالدعوة إلى ما لا يلائم هواهم من طاعة الله. وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ النفس وهي الجثة لا تقتلوا القلب بسيف الشهوات والانهماك في أسباب اللذات الحسيات. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا بأن ينجينا من النار. قال أهل التحقيق: لما كان اعتقاد الجثة في تربية موسى القلب أنه يكون قرة عينها وولدها فلا جرم نفعها الله بالنجاة ورفع الدرجات، وحين لم يكن لفرعون النفس في حقه هذا الاعتقاد بل كان يتوقع الهلاك منه كان هلاكه على يده بسيف الصدق وسم الذكر. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنه لو لم يوفق لإهلاكهم لكان هلاكه على أيديهم. فُؤادُ أُمِّ مُوسى هو سر السر، أخت موسى القلب هو العقل. ودخل مدينة القالب عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها وهم الصفات النفسانية فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ صفتين. إحداهما من صفات القلب والأخرى من صفات النفس. وفي قوله هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إشارة إلى أن قتل كافر صفات النفس بالجهاد معها إن لم يكن بأمر الحق وعلى سبيل المتابعة لم يعتدّ به فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا بأن جاهدوا كفار صفات النفس بالطبع والهوى لا بالشرع كالفلاسفة والبراهمة إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ لأنك تنازع ذا سلطان قويّ قبل أوانه وهو فرعون النفس. وَجاءَ رَجُلٌ هو العقل مِنْ أَقْصَى مدينة الإنسانية أي من أعلى مرتبة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 الروحانية يَسْعى في طلب نجاة موسى القلب فأخرج من مدينة البشرية إلى صحراء الروحانية خائِفاً من سطوات فرعون النفس يَتَرَقَّبُ مكايدهم. [سورة القصص (28) : الآيات 22 الى 42] وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 القراآت: رَبِّي أَنْ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ويصدر بفتح الياء وضم الدال: ابن عامر ويزيد وأبو عمرو وأبو أيوب. الآخرون بضم الياء وكسر الدال إِنِّي أُرِيدُ سَتَجِدُنِي إِنْ بفتح ياء المتكلم فيهما: أبو جعفر ونافع إِنِّي آنَسْتُ إِنِّي أَنَا اللَّهُ وإِنِّي أَخافُ بفتح ياء المتكلم في الكل: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وو لعلي آتيكم بفتح الياء: هم وابن عامر جَذْوَةٍ بفتح الجيم: عاصم وبضمها حمزة وخلف. الباقون بكسرها. مِنَ الرَّهْبِ بفتح الراء وسكون الهاء: حفص، وبفتحهما أبو عمرو وسهل ويعقوب وأبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون بضم الراء وسكون الهاء فَذانِكَ بتشديد النون: ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو مَعِي بالفتح: حفص ردا بغير همز: أبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون بضم الراء وهمزة في الوقف يُصَدِّقُنِي بالرفع: حمزة وعاصم يُكَذِّبُونِ بالياء في الحالين: يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل قال موسى بغير واو: ابن كثير رَبِّي أَعْلَمُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ومن يكون على التذكير: حمزة وعلي وخلف والمفضل لا يرجعون بفتح الياء وكسر الجيم: نافع ويعقوب وعلي وخلف. الوقوف: السَّبِيلِ هـ يَسْقُونَ هـ لأنه رأس آية عند الأكثرين مع عطف المتفقتين تَذُودانِ ج لعدم العاطف وطول الكلام مع اتحاد الفاعل خَطْبُكُما ط الرِّعاءُ ز لأن ما بعده منقطع لفظا ومعنى كأنه قال: فلم خرجتما فقالتا تعريضا بالاستقامة وأبونا شيخ كَبِيرٌ ط فَقِيرٌ هـ عَلَى اسْتِحْياءٍ ز لعدم العاطف مع اتحاد القائل، ومن وقف على تَمْشِي ويجعل على استحياء حالا مقدما أي قالت مستحيية فلا وجه له في الوقف لَنا ط لأن جواب «لما» منتظر وقبله حذف أي فذهب معها فلما جاءه فكأن الفاء لاستئناف القصص لأن قال جواب «لما» . لا تَخَفْ ز لأن قوله نَجَوْتَ غير متصل به نظما وليفصل بين البشارتين أي لا تخف ضيما وقد نجوت من ظلم فرعون الظَّالِمِينَ هـ اسْتَأْجِرْهُ ج للابتداء بأن مع اتحاد القول واحتمال التعليل الْأَمِينُ هـ حِجَجٍ ج للشرط مع الفاء عِنْدِكَ ج لابتداء النفي مع الواو عَلَيْكَ ج الصَّالِحِينَ هـ وَبَيْنَكَ ج لابتداء الشرط عَلَيَّ ط وَكِيلٌ هـ ناراً هـ لعدم العاطف وطول الكلام مع اتحاد القائل تَصْطَلُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ لا عَصاكَ ط لحق الحذف أي فألقاها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 فحييت فلما رآها وَلَمْ يُعَقِّبْ ط لا تَخَفْ ج لمثل ما مر أي لا تخف بأس العصا إنك أمنت بها بأس فرعون الْآمِنِينَ هـ سُوءٍ ز لعطف الجملتين المتفقتين مع طول الكلام هـ وَمَلَائِهِ ط فاسِقِينَ هـ يَقْتُلُونِ هـ يُصَدِّقُنِي ز للابتداء بأن مع اتحاد القول واحتمال التعليل يُكَذِّبُونِ هـ بِآياتِنا ج أي لا يصلون إليكما بسبب آياتنا وعلى إِلَيْكُما أوجه أي أنتم الغالبون بآياتنا الْغالِبُونَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ الدَّارِ ط الظَّالِمُونَ هـ غَيْرِي ج لتنويع الكلام إِلى إِلهِ مُوسى لا لأن ما بعده مقوله أيضا الْكاذِبِينَ هـ لا يُرْجَعُونَ هـ فِي الْيَمِّ ج للابتداء بأمر الاعتبار واختلاف الجملتين مع فاء التعقيب الظَّالِمِينَ هـ إِلَى النَّارِ ج لعطف الجملتين المختلفتين لا يُنْصَرُونَ هـ لَعْنَةً ط لمثل ذلك الْمَقْبُوحِينَ هـ. التفسير: ذهب بعض المفسرين إلى أن موسى خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى وأخذ يمشي من غير معرفة طريق فأوصله الله إلى مدين. وقد يؤيد هذا التفسير ما روي عن ابن عباس أنه خرج وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه، ويحتمل أن يكون معنى قول ابن عباس أنه لما خرج قصد مدين لأنه وقع في نفسه أن بينه وبينهم قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم وهو كان من بني إسرائيل لكن لم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى. أما أنه قصد مدين فلقوله سبحانه وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ أي قصد نحو هذه القرية ولم تكن في سلطان فرعون وبينها وبين مصر مسيرة ثمان. وأما أنه اعتمد على فضل الله فلقوله. عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي وسطه وجادّته نظيره قول جده إبراهيم عليه السلام إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] وكذا الخلف الصدق يقتدي بالسلف الصالح فيهتدي. قال السدي: لما أخذ في المسير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى من الفرح فقال: لا تفعل واتبعني فاتبعه نحو مدين. عن ابن جريج أنه خرج بغير زاد ولا ظهر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر. وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وكان بئرا فيما روي وورود الماء مجيئه والوصول إليه ضدّ الصدور. وَجَدَ عَلَيْهِ أي على شفيره ومستقاه أُمَّةً مِنَ النَّاسِ جماعة كثيرة العدد أصنافا يَسْقُونَ مواشيهم وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ أي في مكان أسفل من مكانهم امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ أي تدفعان وتطردان أغنامهما لأن على الماء من هو أقوى منهما فلم يتمكنا من السقي، وكانتا تكرهان المزاحمة على الماء واختلاط أغنامهما بأغنامهم أو اختلاطهما بالرجال. وقيل: تذودان الناس عن غنمهما. وقيل: تذودان عن وجوههما نظر الناظر. وبالجملة حذف مفعول تَذُودانِ لأن الغرض تقرير الذود لا المذود. وكذا في يَسْقُونَ ولا نَسْقِي المقصود هو ذكر السقي لا المسقي، وكذا في قراءة من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 قرأ حَتَّى يُصْدِرَ من الإصدار أي حتى يصدر الرعاء مواشيهم الغرض بيان الإصدار. قالَ ما خَطْبُكُما هو مصدر بمعنى المفعول أي ما مخطو بكما من الذياد قالَتا لا نَسْقِي الآية. سألهما عن سبب الذود فذكرتا أنا ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا وما لنا رجل يقوم بذلك. وَأَبُونا شَيْخٌ قد أضعفه الكبر فلا يصلح للقيام به، وهذه الضرورة هي التي سوغت لنبي الله شعيب أن رضي لابنتيه بسقي الماشية على أن الأمر في نفسه ليس بمحظور، ولعل العرب وخصوصا أهل البدو منهم لا يعدّونه قادحا للمروءة. وزعم بعضهم أن أباهما هو ثيرون ابن أخي شعيب وشعيب مات بعد ما عمي وهو اختيار أبي عبيد ينميه إلى ابن عباس. وعن الحسن أنه رجل مسلم قبل الدين من شعيب. أما قوله فَسَقى لَهُما فمعناه فسقى غنمهما لأجلهما وفيه قولان: أحدهما أنه سأل القوم فسمحوا وكان لهم دلو يجتمع عليها أربعون رجلا فيخرجونها من البئر فاستقى موسى بها وحده وصب الماء في الحوض ودعا بالبركة، ثم قرب غنمهما فشربت حتى رويت ثم سرحهما مع غنمهما. والثاني أنه عمد إلى البئر وعليها صخرة لا يقلها إلا سبعة رجال أو عشرة أو أربعون أو مائة- أقوال- فأقلها وحده وسقى أغنامهما، كل ذلك في شمس وحر. ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ظل شجرة فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ذهب أكثر المفسرين الظاهريين ومنهم ابن عباس إلى أنه طلب من الله طعاما يأكله. وعدي فَقِيرٌ باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب. وعن الضحاك أنه مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاما إلا بقل الأرض وإن خضرته تتراءى في بطنه من الهزال، وفيه دليل على أنه نزع الدلو وأقل الصخرة بقوة ربانية. وقال بعض أهل التحقيق: أراد إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدين، وذلك أنه كان عند فرعون في ملك وثروة فأظهر الرضا بهذا الذل شكرا لله. يروى أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي وذلك قوله سبحانه فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قيل: من جملة حيائها أنها قد استترت بكم درعها ثم قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ عن عطاء بن السائب أنه حين قال رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ رفع صوته بدعائه ليسمعهما فلذلك قيل له لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا وضعفت الرواية بأن هذا نوع من الدناءة وضعف اليقين بالله فلا يليق بالنبي. وقد روي أنها حين قالت: ليجزيك كره ذلك. ولما قدم إليه الطعام امتنع وقال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ على المعروف ثمنا حتى قال شعيب هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 سؤال: كيف ساغ لموسى أن يعمل بقول امرأة وأن يمشي معها وهي أجنبية؟ الجواب: العمل بقول الواحد حرا أو عبدا ذكرا كان أو أنثى سائغ في الأخبار، والمشي مع الأجنبية لا بأس به في حال الاضطرار مع التورع والعفاف، ويؤيده ما روي أن موسى تبعها فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق. قال الضحاك: لما دخل عليه قال له: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا موسى بن عمران بن يصهر ابن قاهث بن لاوى بن يعقوب. وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي المقصوص من لدن ولادته إلى قتل القبطيّ وفراره خوفا من فرعون وملئه ف قالَ له شعيب لا تَخَفْ من فرعون أو ضيما نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فلا سلطان لفرعون بأرضنا قالَتْ إِحْداهُما وهي كبراهما اسمها صفراء وكانت الصغرى صفيراء يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قال النحويون: جعل القوي الأمين اسما لكونه معرفة صريحة أولى من جعل «أفعل» التفضيل المضاف اسما لكونه قريبا من المعرفة، ولكن كمال العناية صار سببا للتقديم. وورود الفعل وهو اسْتَأْجَرْتَ بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف. وقال المحققون: إن قولها هذا كلام حكيم جامع لا مزيد عليه لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان أعني الكفاية والأمانة اللتين هما ثمرتا الكياسة والديانة في الذي يقوم بأمرك، فقد حصل مرادك وكمل فراغك. عن ابن عباس أن شعيبا أحفظته الغيرة فقال: وما علمك بقوّته وأمانته؟ فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو وأنه صوّب رأسه أي خفضه حين بلغته رسالته، وأنه أمرها بالمشي خلفه فلذلك قال أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ وليس هذا عقدا حتى تلزم الجهالة في المعقود عليها ولكنه حكاية عزم وتقرير وعد ولو كان عقدا لقال أنكحتك ابنتي فلانة. وفي قوله هاتَيْنِ دليل على أنه كانت له غيرهما. قال أهل اللغة: تَأْجُرَنِي من أجرته إذا كنت له أجيرا فيكون ثَمانِيَ حجج ظرفه أو من أجرته كذا إذا أثبته إياه فيكون الثماني مفعولا به ثانيا ومعناه رعية ثماني حجج فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً أي عمل عشر حجج فَمِنْ عِنْدِكَ أي فإتمامه من عندك لا من عندي إذ هو تفضل منك وتبرع وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ الزام أتم الأجلين أو بالتكاليف الشاقة في مدة الرعي، وإنما أعامل معك معاملة الأنبياء يأخذون بالأسمح- بالحاء لا بالجيم- قال أهل الاشتقاق: حقيقة قولهم شققت عليه وشق عليه الأمر أنه إذا صعب الأمر فكأنه شق عليه ظنه باثنين يقول تارة أطيقه وتارة لا أطيقه. ثم أكد وعد المسامحة بقوله سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ عموما أو في باب حسن المعاملة. وقوله إِنْ شاءَ اللَّهُ أدب جميل كقول إسماعيل سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102] أي على الذبح. وفيه أن الاعتماد في جميع الأمور على معونة الله والأمر موكول إلى مشيئته. استدل الفقهاء بالآية على أن العمل قد يكون مهرا كالمال، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 وعلى أن إلحاق الزيادة بالثمن والمثمن جائز، وعلى أن عقد النكاح لا يفسده الشروط التي لا يوجبها العقد. ويمكن أن يقال: إنه شرع من قبلنا فلا يلزمنا. وجوّز في الكشاف أن يكون استأجره لرعية ثماني سنين بمبلغ معلوم ووفاه إياه ثم أنكحه ابنته. وجعل قوله عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي عبارة عما جرى بينهما قالَ موسى ذلِكَ الذي شارطتني عليه قائم بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ و «ما» مؤكدة لإبهام أيّ زائدة في شيوعها فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي لا يعتدي عليّ في طلب الزيادة فإن قضيت الثماني فلا أطالب بالزيادة وإن قضيت العشر باختياري فلم أطالب بالزيادة أيضا. وقيل: أراد أيهما قضيت فلا أكون متعديا. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تزوّج كبراهما وقيل صغراهما ولا خلاف في أنه قضى أوفى الأجلين. قال القاضي في قوله فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ دليل على أنه لم يزد على العشرة وفيه نظر لأنه لا يفهم من هذا التركيب إلا أن الإيناس حاصل على عقيب مجموع الأمرين، ولا يدل على أن ذلك حصل عقيب أحدهما وهو قضاء الأجل ويؤيده ما روي عن مجاهد أنه بعد العشر المشروط مكث عشر سنين أخر. قال أهل اللغة: الجذوة بحركات الجم العود الغليظ كانت في رأسه نار أو لم تكن، وشاطىء الوادي جانبه، و «من» الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية أي أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة، فالثانية بدل من الأولى بدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ، ووصفت البقعة بالمباركة لأن فيها ابتداء الرسالة والتكليم. احتجت المعتزلة على مذهبهم أن الله تعالى يتكلم بكلام يخلقه في جسم بقوله مِنَ الشَّجَرَةِ وقال أهل السنة: مما وراء النهر إن الكلام القديم القائم بذات الله غير مسموع والمسموع من الشجرة وهو الصوت والحرف دال على كلام الله. وذهب الأشعري إلى أن الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت يمكن أن يكون مسموعا كما أن الذات التي ليست بجسم ولا عرض يمكن أن تكون مرئية. روي أن شعيبا كانت عنده عصيّ الأنبياء فقال لموسى بالليل: ادخل البيت فخذ عصا من تلك العصيّ فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ولم تزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب فمسها وكان مكفوفا فشعر بها فقال: غيرها، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له شأنا. وعن الكلبي: الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج ومنها كانت عصاه، ولما أصبح قال له شعيب: إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك وإن كان الكلأ هناك أكثر لأن فيها تنينا أخشاه عليك وعلى الغنم. فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على منعها فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد أقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى موسى دامية فارتاح لذلك. وحين رجع إلى شعيب مس الغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 اللبن فأخبره موسى ففرح وعلم أن لموسى والعصا شأنا. قيل: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو فإن موسى ذهب ليقتبس النار فكلمه الملك الجبار وقد مر في النمل تفسير قوله فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ إلى قوله مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [الآية: 10] أما قوله وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فذكر جار الله له معنيين: أحدهما حقيقة وهو أنه لما قلب الله العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له: إن اتقاءك بيدك فيه نقصان قدرك عند الأعداء فإن ألقيتها، فكما تنقلب حية فادخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران: اجتناب النقص وإظهار معجزة أخرى. وثانيهما مجاز وهو أن يراد بضم الجناح التجلد وضبط النفس حتى لا يضطرب فيكون استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف أرخى جناحيه وإلا ضمهما. ومعنى مِنَ الرَّهْبِ من أجل الخوف. والفرق بين هذه العبارة وبين قوله اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أن الغرض هناك خروج اليد بيضاء وهاهنا الغرض إخفاء الخوف أو أراد بالجناح المضموم هاهنا اليد اليمنى وبالجناح المضموم إليه في قوله وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ اليد اليسرى، وقيل: إن الرهب هو الكم بلغة حمير وزيفه النقاد. من قرأ فَذانِكَ بالتخفيف فمثنى ذاك، ومن قرأ بالتشديد فمثنى ذلك وأصله ذان لك قلبت اللام نونا وأدغمت. وسميت الحجة برهانا لبياضها وإنارتها من قولهم «امرأة برهرهة» أي بيضاء، والعين واللام مكررتان. والدليل على زيادة النون قولهم «أبره الرجل» إذا جاء بالبرهان ونظيره «السلطان» من السليط الزيت، لإنارتها. وظاهر الكلام يقتضي أنه تعالى أمره بذلك قبل لقاء فرعون، والسر فيه أن يكون على بصيرة من أمره عند لقاء المعاند اللجوج. وزعم القاضي أنه في حال أداء الرسالة لأن المعجز إنما يظهر ليستدل المرسل إليه على الرسالة ولا يخفى ضعف هذا الكلام لأن الحكمة في الإظهار لا تنحصر في الاستدلال بل لعل هناك أنواعا أخر من الحكم والمقاصد قد ذكرنا واحدا منها. ومما يؤكد أن هذا الكلام قد جرى ولم يكن هناك أحد غير موسى قوله معتذرا رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً الآية. والردء اسم ما يعان به من ردأته أي أعنته فعل بمعنى مفعول به ويُصَدِّقُنِي بالرفع صفة وبالجزم جواب كما مر في قوله وَلِيًّا يَرِثُنِي [مريم: 6] والمراد بتصديق أخيه أن يذب ويجادل عنه لا أن يقول: صدقت فإن هذا القدر لا يفتقر إلى البيان والفصاحة لأن سحبان وباقلا يستويان فيه. ويجوز أن يكون الضمير في يُصَدِّقُنِي لفرعون. وجوّز جار الله أن يكون من الإسناد المجازي بناء على أن يصدق مسند إلى هارون وهو ببيانه وبلاغته سبب تصديق فرعون يؤيده قوله إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قال الجبائي: إنما سأل موسى أن يرسل هارون بأمر الله تعالى ولم يكن ليسأل ما لا يأمن أن يجاب أو لا يكون حكمة. ولقائل أن يقول: لعله سأله مشروطا على معنى إن اقتضت الحكمة ذلك كما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 يقول الداعي في دعائه. وقال السدي: علم أن الاثنين أقوى من الواحد فلهذا سأل اعترض القاضي بأن هذا من حيث العادة وأما من حيث الدلالة فلا فرق بين معجزة ومعجزتين، لأن المبعوث إليه في أيهما نظر علم وإن لم ينظر فالحال واحدة. هذا إذا كانت طريقة الدلالة بين المعجزتين واحدة، فأما إذا اختلف وأمكن في إحداهما من إزالة الشبهة ما لا يمكن في الأخرى فغير ممتنع أن يقال: إنهما بمجموعهما أقوى من واحدة كما قال السدي، لكن ذلك لا يتأتى في موسى وهارون لأن معجزتهما كانت واحدة. قال جار الله معنى سَنَشُدُّ عَضُدَكَ سنقوّيك بأخيك إما لأن اليد تشتد بشدة العضد وجملة البدن يقوى على مزاولة الأمور بشدة اليد، وإما لأن الرجل واشتداده بالأخ شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد. والسلطان التسلط والغلبة والحجة الواضحة. وقوله بِآياتِنا إما متعلق بمقدر أي اذهبا بآياتنا، أو متعلق بظاهر وهو نَجْعَلُ أو فَلا يَصِلُونَ. ويجوز أن يكون بيانا ل الْغالِبُونَ كأنه قيل: بماذا نغلب؟ فقيل: بآياتنا. وامتنع أن تكون صلة ل الْغالِبُونَ لتقدمه، ويجوز أن تكون قسما جوابه فَلا يَصِلُونَ مقدما عليه مثله. ويجوز أن يكون من لغو القسم الذي لا جواب له كقولك «زيد وأبيك منطلق» والمراد الغلبة بالحجة والبرهان في الحال أو بالدولة والمملكة في المآل، وصلب السحرة بعد تسليم ثبوته لا يقدح في قوله وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ لأن الدولة الباقية أعلى شأنا وسِحْرٌ مُفْتَرىً أي سحر تعمله أنت ثم تنسبه إلى الله فهو كذب من هذا الوجه، أو سحر ظاهر افتراؤه لا سحر يخفى افتراؤه، أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر فإن كل سحر ففاعله يوهم خلافه فهو المفترى. ومعنى ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ قد مر في سورة المؤمنين. قال جار الله فِي آبائِنَا حال عن هذا أي كائنا في زمانهم وأيامهم قلت: لا مانع من أن يكون الظرف لغوا ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك وقد سمعوا بنحوه، أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته، أو أرادوا أن الكهان لم يخبروا بمجيء ما جاء به موسى. وكل هذه المقالات لا تصدر إلا عن المحجوج اللجوج الذي قصارى أمره التمسك بحبل التقليد. من قرأ قالَ مُوسى بغير واو فعلى طريقة السؤال والجواب. ووجه قراءة الأكثرين أنهم قالوا ذلك وَقالَ مُوسى هذا ليوازن العاقل الناظر بين القولين فيتبين له الغث من السمين. وقوله رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ إفحام للخصم المعاند إذ لا سبيل إلى دفاعه بالحجة أي يعلم أني محق وأنهم مبطلون. وقوله وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ يعني العاقبة الحميدة كأن المذمومة غير معتدّ بها ضم طريقة الوعيد إلى الإفحام المذكور. وقيل: معناه ربي أعلم بالأنبياء السالفة فهو جواب لقولهم ما سَمِعْنا بِهذا وقال جار الله: رَبِّي أَعْلَمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 بحال من أهله للفلاح حيث جعله نبيا ووعده حسنى العقبى، ولو كان كاذبا كما يزعمون لم يؤهله لذلك لأنه لا يفلح عنده الظالمون، واعلم أن فرعون كان من عادته عند ظهور حجة لموسى أن يتعلق في دفع تلك الحجة بشبهة يروّجها على أغمار قومه فذكر هاهنا أمرين: الأوّل قوله ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فكأنه استدل بعدم الدليل على عدم المدلول وهو خطأ من جهة أن الدليل على المدلول وهو وجود الصانع أكثر من أن يحصى، ومن جهة أن عدم الدليل لا يستلزم عدم المدلول. وأما قوله غَيْرِي فقد تكلف له بعضهم أنه لم يرد به أنه خالق السموات والأرض وما فيهما فإن امتناع ذلك بديهي، وإنما أراد به نفي الصانع والاقتصار على الطبائع وأنه لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره. الثاني قوله فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ وقد تكلفوا له هاهنا أيضا فقيل: إنه يبعد من العاقل أن يروم صعود السماء بآلة، ولكنه أراد أنه لا سبيل إلى إثبات الصانع من حيث العقل كما مر، ولا من حيث الحس فإن الإحساس به يتوقف على الصعود وهو متعذر، وإلا فابن يا هامان مثل هذا البناء وإنما قال ذلك تهكما. فبمجموع هذه الأشياء قرر أنه لا دليل على الصانع، ثم رتب النتيجة عليه وهو قوله وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ يحتمل أن يريد لأعلمه من الكاذبين. والأكثرون من المفسرين على أنه بنى مثل هذا البناء جهلا منه أو تلبيسا على ملئه حيث صادفهم أغبى الناس وأخلاهم من الفطن. يروى أن هامان جمع العمال حتّى اجتمع منهم خمسون ألف بناء سوى الأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير فشيدوه حتى بلغ مبلغا لا يقدر الباني أن يقوم عليه، فبعث الله جبريل عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع، وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، ووقعت قطعة في البحر، وقطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا قد هلك. وروي في القصة أن فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشابة نحو السماء فأراد الله أن يفتنهم فردّت إليه وهي ملطوخة بالدم فقال: قد قتلت إله موسى، فعند ذلك بعث الله جبرائيل لهدمه. قال أهل البيان: إن صح حديث ردّ النشابة ملطوخة فقد تهكم به بالفعل كما ثبت التهكم بالقول في غير موضع. وإنما قال فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ ولم يقل: اطبخ لي الآجر. لأن هذه العبارة أحسن، ولأن فيه تعليم الصنعة، وقد كان أوّل من عمل الآجر فرعون. عن عمر أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر قال: ما علمت أن أحدا بنى الآجر غير فرعون. والطلوع والاطلاع الصعود يقال: طلع الجبل واطلع. وفي قوله سبحانه وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ يعني أرض مصر بِغَيْرِ الْحَقِّ إشارة إلى أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى كما جاء في الحديث القدسي «الكبرياء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 ردائي والعظمة إزاري» فهو كقوله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة: 61] وفي قوله وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ دليل على أنهم كانوا منكري البعث كالطبائعيين. وفي قوله فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ دلالة على علو شأنه تعالى وعظمة سلطانه وإشارة إلى استحقار فرعون وجنوده وعدده وإن كانوا أكثر من رمال الدهناء كأنه شبههم بحصيات أخذهن أحد في كفه فطرحهن في البحر. استدلت الأشاعرة بقوله وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أن خالق الشر وجاعل الكفر هو الله سبحانه. وقالت المعتزلة: معنى الجعل التسمية والحكم بذلك كما يقال: جعله بخيلا وفاسقا إذا حكم بالبخل والفسق عليه وسماه بالبخيل والفاسق، أو أراد خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى كانوا أئمة الكفر داعين إلى النار أي إلى موجباتها من الكفر والمعاصي. وقال أبو مسلم: معنى الإمامة التقدم وذلك أنه تعالى عجل لهم العذاب فصاروا متقدمين لمن وراءهم من الكفرة إلى النار. وقال بعضهم: أراد بالإمامة أنهم بلغوا في ذلك الباب أقصى النهايات حتى استحقوا أن يقتدى بهم. ثم بين بقوله وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ أن عقاب الآخرة سينزل بهم على وجه لا يمكن التخلص منه. وقال في الكشاف: أراد وخذلناهم في الدنيا ويوم القيامة هم مخذولون كما قال وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أي طردا وإبعادا عن الرحمة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أي من المطرودين المبعدين. وقال الليث: قبحه الله قبحا بالفتح وقبحا بالضم أي نحاه عن كل خير. وقال ابن عباس: من المشهورين بسواد الوجه وزرقة العين. وعن بعضهم أنه تعالى يقبح صورهم ويقبح عليهم عملهم فيجمع لهم بين الفضيحتين. التأويل: وحين توجه تلقاء مدين عالم الروحانية وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً من أوصاف الروح يَسْقُونَ مواشي أخلاقهم من ماء فيض الإلهي. وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ السر والخفي ابنتا شعيب الروح يمنعان من استقاء ماء الفيض الإلهي. قال الشيخ الإمام الرباني نجم الدين المعروف بداية: وذلك لأن لمعان أنوار الفيض يرد على الروح في البداية بالتدريج فينشأ منه الخفي، وهو لطيفة ربانية مودعة في الروح بالقوة فلا يحصل بالفعل إلا بعد غلبة الواردات الربانية ليكون واسطة بين الحضرة والروح في قبول تجليات صفات الربوبية والفيوض الإلهية، فيكون في هذه المدة بمعزل عن الاستقاء. وكذا السر وهو لطيفة روحانية متوسطة بين القلب والروح قابلة لفيض الروح، مؤدية إلى القلب وهو أيضا بمعزل عن استقاء ماء فيض الروح عند اشتغال القلب بمعالجات النفس وإصلاح القالب إلى حين توجه موسى القلب إلى مدين عالم الروحانية وذلك قولهما لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وهم صفات الروح ويصرفوا مواشيهم وهي الصفات الإنسانية عن ماء الفيض الإلهي، فإذا صدروا استقينا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 مواشينا من الأوصاف والأخلاق من أفضلة مواشيهم في حوض القوى وَأَبُونا وهو شعيب الروح لا يقدر على سقيه من الأوصاف الإنسانية إلا بالأجر والوسائط، وإنا لا نطيق أن نسقي لضعف حالنا، فسقي موسى القلب مواشيهما بقوّة استفادها من الجسد وقوّة استفادها من الروح لأنه متوسط بين العالمين ولهذا سمي قلبا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ إلى العناية فطلب الفيض الإلهي بلا واسطة وهكذا ينبغي أن يكون السالك لا يقنع بما وجد من المعارف أبدا. فَجاءَتْهُ إِحْداهُما فيه أن القلب يحتاج في الوصول إلى حضرة شعيب الروح أن يستمد من الخفي أو السر. لا تَخَفْ نجوث فيه أن القلب إذا وصل إلى مقام الروح نجا من ظلمات النفس وصفاتها إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ من النفس والجسد الْقَوِيُّ الْأَمِينُ لأن القلب استفاد القوّة من الجسد والأمانة من الروح ثَمانِيَ حِجَجٍ فيه أن الروح في تبليغ القلب إلى مقام الخفي يحتاج إلى تسييره في مقامات صفاته الثمانية المخصوصة به في خلافة الحق وهي: الحياة والإرادة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والبقاء. وتمام ذلك إلى العشرة راجع إلى خصوصيته وهما المحبة والأنس مع الله أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ في التخلق بأخلاقك اليمانية وفي المحبة والأنس مع الله فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي ليس لك أن تمنعني العبور عن المحبة لأنك من خصوصيتك بالخلافة مجبول على تلك الصفات الثمانية. وأما المحبة والأنس مع الله فصفتان مخصوصتان بالحضرة. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ولهذا كل إنسان من المؤمن والكافر فإنه مجبول على تلك الأوصاف وليس من زمرة يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] إلا مؤمن موحد. فلما اتصف موسى القلب بالأوصاف الثمانية وغلبت عليه محبة الله واستأنس به وصار بجميع صفاته متوجها إلى حضرة القدس آنَسَ من طور الحضرة نار نور الألوهية. وفي قوله لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إشارة إلى أن السالك لا بد له من تجريد الظاهر عن الأهل والمال وتفريد الباطن عن تعلقات الكونين. نور يبدو وإذا بدا استمكن شمس طلعت ومن رآها آمن. وفي قوله لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ إشارة إلى أن الأوصاف الإنسانية جامدة من برودة الطبيعة لا تتسخن إلا بجذوة نار المحبة بل بنار الجذبة الإلهية مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ وهو السر في بقعة البدن من شجرة وجود الإنسان مِنَ الرَّهْبِ أي رهبة من فوات وصال الحضرة وَأَخِي هارُونُ هو العقل فمن خصوصيته تصديق الناطق بالحق قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً لأن النفس خلقت من أسفل عالم الملكوت ومنكسة، والقلب خلق وسط عالم الملكوت متوجها إلى الحضرة فلهذا ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: 11] وما صدقت النفس ما رأت فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي في طبائع الكواكب فإنها آباء النفس وأمهاتها العناصر والطبائع منكوسة إلى عالم السفل لا يعرفون مقام الوحدة فلا يعرفون بالتوحيد. فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ الشيطان عَلَى الطِّينِ البشرية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 بنفخ الوساوس والغرور فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً من المقدمات الخيالية والوهمية فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أغرقوا في ماء شهوات الدنيا ويم هممها فأدخلوا نار الحسرة والندامة. [سورة القصص (28) : الآيات 43 الى 70] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 القراآت: سِحْرانِ عاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون ساحران تظاهرا بالتخفيف اتفاقا تجبى إليه بتاء التأنيث: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب. الباقون على التذكير يعقلون بياء الغيبة، شجاع واليزيدي الباقون بتاء الخطاب إلا أبا عمرو فإنه مخير ثُمَّ هُوَ بسكون الهاء، علي والحواني عن قالون تَبَرَّأْنا مثل أَنْشَأْنا. الوقوف: يَتَذَكَّرُونَ هـ الشَّاهِدِينَ هـ لا للاستدراك الْعُمُرُ ج لاختلاف الجملتين مع العطف آياتِنا ج لما مر مُرْسِلِينَ هـ يَتَذَكَّرُونَ هـ الْمُؤْمِنِينَ هـ ما أُوتِيَ مُوسى ط مِنْ قَبْلُ ج للفصل بين الخبر والطلب مع اتحاد القائل تَظاهَرا ج للتعجب من عنادهم كافِرُونَ هـ صادِقِينَ هـ أَهْواءَهُمْ ط مِنَ اللَّهِ ط الظَّالِمِينَ هـ يَتَذَكَّرُونَ هـ لأن الَّذِينَ مبتدأ يُؤْمِنُونَ هـ مُسْلِمِينَ هـ يُنْفِقُونَ هـ أَعْمالُكُمْ ط لابتداء الكلام مع اتحاد المقول عَلَيْكُمْ ط لذلك الْجاهِلِينَ هـ مَنْ يَشاءُ ط لعطف الجملتين المتفقتين بِالْمُهْتَدِينَ هـ أَرْضِنا ط لا يَعْلَمُونَ هـ مَعِيشَتَها ج للفصل بين الاستفهام والإخبار مع فاء التعقيب قَلِيلًا ط الْوارِثِينَ هـ آياتِنا ج للعدول مع اتفاق الجملتين ظالِمُونَ هـ وَزِينَتُها ج فصلا بين المعنيين المتضادّين وَأَبْقى ط تَعْقِلُونَ هـ الْمُحْضَرِينَ هـ تَزْعُمُونَ هـ أَغْوَيْنا ج غَوَيْنا ج لعدم العاطف مع اتحاد القائل إِلَيْكَ ج لما قلنا مع زيادة النفي المقتضى للفصل يَعْبُدُونَ هـ الْعَذابَ ج لجواز تعلق «لو» بمحذوف أي لو اهتدوا لما لقوا ما لقوا، ويجوز تعلقها ب يَهْتَدُونَ والوقف على لَهُمْ أي لو كانوا يهتدون لرأوا العذاب بقلوبهم يَهْتَدُونَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ لا يَتَساءَلُونَ هـ الْمُفْلِحِينَ هـ وَيَخْتارُ ز وقد يوصل على معنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة وفيه بعد الْخِيَرَةُ هـ يُشْرِكُونَ هـ يُعْلِنُونَ هـ إِلَّا هُوَ ط وَالْآخِرَةِ ز لعطف الجمل تُرْجَعُونَ هـ. التفسير: إنه سبحانه بعد تتميم قصة موسى أراد أن يبين إعجاز نبينا صلى الله عليه وسلم فذكر أوّلا أنه أعطى موسى الكتاب بعد إهلاك فرعون وقومه حال كون الكتاب أنوارا للقلوب وإرشادا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 لأهل الضلال وسببا لنيل الرحمة إرادة أن يتذكروا، ويجوز أن يعود ترجي التذكر إلى موسى. ثم أجمل عظائم أحوال موسى وبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك فقال وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ أي بجانب المكان الواقع في شق الغرب وهو ناحية الشام التي فيها قضى إلى موسى أمر الوحي والاستنباء. وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ على ذلك فقد يكون الشخص حاضرا ولا يكون شاهدا ولا مشاهدا. قال ابن عباس: التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت فما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى. ثم قال وَلكِنَّا أَنْشَأْنا بعد عهد موسى إلى عهدك قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فاندرست العلوم والشرائع ووجب إرسالك إلى آخرهم قرنا وهو القرن الذي أنت فيه، فأرسلناك وعرّفناك أحوال الأنبياء. وحاصل الآية أنه ذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب والغرض بيان إعجازه كأنه قال: إن في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله، دلالة ظاهرة على نبوّتك. ثم فصل ما أجمل فذكر أوّل أمر موسى وبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك وهو قوله وَما كُنْتَ ثاوِياً مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وهم شعيب والمؤمنون به تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا قال مقاتل: أي لم تشهد أهل مدين وأنت تقرأ على أهل مكة خبرهم، ولكنا أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولولا ذلك ما علمتها. وقال الضحاك: يقول يا محمد: إنك لم تكن رسولا إلى أهل مدين تتلو عليهم الكتاب وإنما الرسول غيرك وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ في كل زمان رسولا فأرسلنا إلى أهل مدين شعيبا وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء. ثم ذكر أوسط أمر موسى وأشرف أحواله وبين أنه لم يكن هناك فقال وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا الأظهر أنه يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه. وعن بعض المفسرين أنه أراد قوله وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها إلى قوله الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 156] وقال ابن عباس: إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم يا أمة محمد أجيبكم قبل أن تدعوني وأعطيكم قبل أن تسألوني وأغفر لكم قبل أن تستغفروني. قال: وإنما قال الله تعالى ذلك حين اختار موسى سبعين رجلا لميقات ربه. وقال وهب: لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال: يا رب أرنيهم. قال: إنك لن تدركهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم. قال: بلى يا رب. فقال: يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم فقال سبحانه: أجبتكم قبل أن تدعوني الحديث كما ذكر ابن عباس. وروى سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا قال: «كتب الله كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ثم وضعه على العرش ثم نادى يا أمة محمد: إن رحمتي سبقت غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أدخله الجنة» «1» . قوله وَلكِنْ رَحْمَةً أي ولكنا علمناك رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ثم فسر الرحمة بقوله لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ أي في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهو خمسمائة وخمسون سنة. وقيل: كانت حجة الأنبياء قائمة عليهم ولكنه ما بعث إليهم من يجدد تلك الحجة عليهم، فبعثه الله تعالى تقريرا لتلك التكاليف وإزالة لتلك الفترة. قوله وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ هي امتناعية وجوابها محذوف. والفاء في قوله فَيَقُولُوا للعطف على أن تصيبهم. وقوله لَوْلا أَرْسَلْتَ هي تحضيضية. والفاء في فَنَتَّبِعَ جواب «لولا» ، وذلك أن التحضيض في حكم الأمر لأن كلا منهما بعث على الفعل. والمعنى: ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا على ما قدّموا من الشرك والمعاصي هلا أرسلت إلينا رسولا محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم. والحاصل أن إرسال الرسول لأجل إزالة هذا العذر. قال أصحاب البيان: القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول أدخلت عليها «لولا» وجيء بالقول معطوفا عليها بفاء السببية تنبيها على أنهم لو لم يعاقبوا على كفرهم ولم يعاينوا العذاب لم يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا، فالسبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان، وفي هذا بيان استحكام كفرهم وتصميمهم. قال الجبائي: في الآية دلالة على وجوب اللطف وإلا لم يكن لهم أن يقولوا لولا أرسلت. وقال الكعبي: فيه دليل على أنه تعالى يقبل حجة العباد فلا يكون فعل العبد بخلق الله وإلا لكان للكافر أعظم حجة على الله تعالى. وقال القاضي: فيه إبطال الجبر لأن اتباع الآيات لو كان موقوفا على خلق الله فأيّ فائدة في قولهم هذا. ومعارضة الأشاعرة بالعلم والداعي معلومة. ثم بين أنهم قبل البعثة يتعلقون بشبهة وبعد البعثة يتعلقون بأخرى فلا مقصود لهم إلا العناد فقال فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ أي الرسول المصدّق بالكتاب المعجز قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من الكتاب المنزل جملة ومن سائر المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وفلق البحر، فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله أَوَلَمْ يَكْفُرُوا وفيه وجوه: أحدها أن اليهود أمروا قريشا أن يسألوا محمدا مثل ما أوتي موسى فقال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا هؤلاء اليهود الذين اقترحوا هذا السؤال بموسى مع تلك الآيات الباهرة. والذين أوردوا هذا الاقتراح يهود مكة، والذين كفروا بموسى من قبل أو بما أوتي موسى من قبل هم الذين كانوا   (1) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 381، 433) . إلى قوله «سبقت غضبي» . [ ..... ] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 في زمن موسى إلا أنه تعالى جعلهم كالشيء الواحد لتجانسهم في الكفر والعنت. وقال الكلبي: إن مشركي مكة بعثوا رهطا إلى يهود المدينة يسألهم عن محمد وشأنه فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته، فلما رجع الرهط إليهم فأخبروهم بقول اليهود قالوا: إنه كان ساحرا كما أن محمدا ساحر فقال الله تعالى في حقهم أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ. وقال الحسن: قد كان للعرب أصل في أيام موسى فالتقدير: أولم يكفر آباؤهم بأن قالوا في موسى وهارون ساحران تظاهرا أي تعاونا. وقال قتادة: أولم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد عليه السلام ف قالوا ساحران والأظهر أن كفار مكة وقريش كانوا منكرين لجميع النبوات. ثم إنهم طلبوا من محمد معجزات موسى فقال الله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل؟ فعلم أنه لا غرض لهم في هذا الاقتراح إلا التعنت. من قرأ ساحران بالألف فظاهر، وأما من قرأ سِحْرانِ فإما بمعنى ذوي سحر أو على جعلهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر، أو على إرادة نوعين من السحر، أو على أن المراد هو القرآن والتوراة. وضعفه أبو عبيدة بأن المظاهرة بالناس وأفعالهم أشبه منها بالكتب. وأجيب بأن الكتابين لما كان كل واحد منهما يقوّي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا كما يقال تظاهرت الأخبار. وفي تكرار قالُوا وجهان: أحدهما قالوا ساحران مرة وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ من موسى ومحمد أو بكل من الكتابين كافِرُونَ مرة. وثانيهما أن يكون قوله وَقالُوا معطوفا على أَوَلَمْ يَكْفُرُوا ثم عجزهم بقوله قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أي مما أنزل على موسى ومما أنزل عليّ. قال ابن عباس فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ معناه فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج. وقال مقاتل: فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما. وهذا أشبه بالآية، وهذا الشرط شرط يدل بالأمر المتحقق لصحته وإلا فالظاهر أن لو قيل فإذا لم يستجيبوا. ويجوز أن يقصد بحرف الشك التهكم. وإنما لم يقل «فإن لم يأتوا» لأن قوله فَأْتُوا أمر والأمر دعاء إلى الفعل فناسب الاستجابة والتقدير: فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فاعلم أنهم صاروا محجوجين ولم يبق لهم شيء إلا اتباع الهوى. وفي قوله وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ حال كونه بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إشارة إلى فساد طريقة التقليد. استدلت الأشاعرة بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الذين وضعوا الهوى مكان الهدى على أن هداية الله تعالى خاصة بالمؤمن. وقالت المعتزلة: الألطاف منها ما يحسن فعلها مطلقا ومنها ما لا يحسن إلا بعد الإيمان وإليه الإشارة بقوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: 17] والآية محمولة على القسم الثاني دون الأول وإلا كان عدم الهداية عذرا لهم. ثم أجاب عن قولهم هلا أوتي محمد كتابه دفعة واحدة بقوله وَلَقَدْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 وَصَّلْنا أي أنزلنا عليهم القرآن إنزالا متصلا بعضه في أثر بعض ليكون ذلك أقرب إلى التذكر والتذكير والتنبيه فإنهم يطلعون في كل يوم على فائدة زائدة وحكمة جديدة. ويجوز أن يراد بتوصيل القول جعل بيان على إثر بيان والمعنى أن القرآن أتاهم متتابعا متواصلا ووعدا ووعيدا وقصصا وعبرا إلى غير ذلك من معاني القرآن إرادة أن يتعظوا فيفلحوا. ويحتمل أن يكون المراد: بينا الدلالة على كون هذا القرآن معجزا مرة بعد أخرى. وحين أقام الدلالة على النبوة أكد ذلك بقوله الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ قال قتادة: إنها نزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة حقة يتمسكون بها، فلما بعث الله محمدا آمنوا به من جملتهم سلمان وعبد الله بن سلام. وقال مقاتل: نزلت في أربعين من مسلمي أهل الإنجيل اثنان وثلاثون جاؤا مع جعفر من أرض الحبشة في السفينة، وثمانية جاؤا من الشام. وعن رفاعة بن قرظة: نزلت في عشرة أنا أحدهم. والتحقيق أن كل من حصل في حقه هذه الصفة يكون داخلا في الآية لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم حكى عنهم ما يدل على تأكد إيمانهم وقوله إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا تعليل للإيمان به لأن كونه حقا من الله يوجب الإيمان به. وقوله إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ بيان لقولهم آمنا به لأن إيمانهم احتمل أن يكون قريب العهد وأن يكون بعيده فأخبروا أن إيمانهم به متقادم، وذلك لما وجدوا في كتب الأنبياء من البشارة بمقدمه فأذعنوا له وتلقوه بالقبول كما هو شأن كل مسلم، ومعنى مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل وجوده ونزوله. وفي قوله يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ أقوال بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن أو بصبرهم على أذى المشركين وعلى أذى أهل الكتاب، أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وعلى الإيمان به بعد نزوله وهذا أقرب، لأنه لما بين أنهم آمنوا بعد البعثة وبين أنهم كانوا مؤمنين به قبل البعث ثم أثبت لهم الأجر مرتين وجب أن ينصرف إلى ذلك. وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ وهي الطاعة السَّيِّئَةَ وهي المعاصي المتقدمة أي يدفعون بالحلم الأذى. يروى أنهم لما أسلموا لعنهم أبو جهل فسكتوا عنه. وقال السدي: عاب اليهود عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول: سلام عليكم. مدحهم بالإيمان ثم بالطاعات البدنية ومكارم الأخلاق، ثم بالطاعات المالية وهو الإنفاق مما رزقهم، ثم بالتحمل والتواضع. وإنما يجب أن يقوله الحليم في معارضة السفيه وهو قوله وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ وهو كل ما ينبغي أن يلقى ويترك أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لأهل ذلك اللغو لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ سلام توديع ومتاركة لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نطلب مخالطتهم وعشرتهم ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم وهذا خلق مندوب إليه ولو بعد الأمر بالقتال فلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 نسخ. ثم ذكر أن الهداية إنما تتعلق بمشيئة الله. قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب وذلك أنه قال عند موته: يا معشر بني هاشم أطيعوا محمدا وصدّقوه تفلحوا وترشدوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال: فما تريد يا ابن أخي؟ قال: أريد منك كلمة واحدة أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله. قال: قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جبن عند الموت. وقد مر مثل هذا النقل في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام: 26] . واعلم أنه لا منافاة بين هذه الآية وبين قوله وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] لأن الذي نفاه هداية التوفيق وشرح الصدر والتي أثبتها هداية الدعوة والبيان، وبحث الأشاعرة والمعتزلة هاهنا معلوم. وحيث بين أن وضوح الدلائل لا يكفي ما لم ينضم إليه هداية الله سبحانه حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بالدنيا وذلك أنهم قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا يروى أن الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا لنعلم أن الذي تقوله حق ولكن يمنعنا من ذلك أن تسلبنا العرب بسرعة أي يجتمعون على محاربتنا ويخرجوننا، فأجاب الله سبحانه عن شبهتهم بقوله أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يروى أن العرب كانوا يشتغلون بالنهب والغارة خارج الحرم وما كانوا يتعرضون البتة لسكان الحرم وقد زاد الله حرمته بقوله وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: 97] وبين مزيته بقوله يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ قالوا: الكل هاهنا بمعنى الأكثر. قلت: يحتمل أن يكون على أصله. وانتصب رِزْقاً على أنه مصدر لأن يُجْبى بمعنى يرزق، أو على أنه مفعول لأجله. وإن جعلته بمعنى مرزوق كان حالا من الثمرات لتخصصها بالإضافة. وحاصل الجواب أنه لما جعل الحرم آمنا وأكثر فيه الرزق حال كونهم معرضين عن عبادة الله تعالى مقبلين على عبادة الأوثان، فبقاء هذه الحالة مع الإيمان أولى. ولا يخفى أن التخطف على تقدير وقوعه لا يصلح عذرا لعدم الإيمان، فإن درجة الشهادة أعلى وأجل، ومضرة التخطف أهون من العقاب الدائم إلا أنه تعالى احتج عليهم بما هو معلوم من عادة العرب وهو أنهم كانوا لا يتعرضون لقطان الحرم والأمر البين للحس أولى بأن يفحم به الخصم فلذلك قدمه الله تعالى. وفي الآية دلالة على صحة المحاجة. لإزالة شبهة المبطلين. قالت الأشاعرة: الأرزاق إنما تصل إليهم على أيدي الناس وقد أضاف الرزق إلى نفسه فدل ذلك على أن أفعال العباد مستندة إلى الله. ومن تأمل في الآية علم أن العبد يجب أن لا يخاف ولا يرجو إلا من الله. ثم أجاب عن شبهتهم بحديث آخر مخلوط بالوعيد. وانتصب مَعِيشَتَها بنزع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 الخافض كقوله وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] أو على أنه ظرف مكان مجازا كأن النظر استقر في المعيشة، أو على حذف المضاف أي بطرت أيام معيشتها كخفوق النجم، أو بتضمين بطرت معنى كفرت وعطلت، والبطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله فيه. ومعنى إِلَّا قَلِيلًا قال ابن عباس: أي لم يسكنها إلا المسافر ومارّ الطريق يوما أو ساعة. ويجوز أن يكون شؤم معاصيهم بقي في ديارهم فكل من سكنها من أعقابهم لم يسكن إلا قليلا. وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ كقوله وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 180] لأنه الباقي بعد فناء خلقه. ثم كان لسائل أن يقول: ما بال الكفرة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم لم يهلكوا مع تماديهم في الغي؟ فقال وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها أي في القرية التي هي قصبتها وأصلها وغيرها من توابعها وأعمالها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا بوحي وتبليغ وذلك لتأكيد الحجة وقطع المعذرة. قال في الكشاف: يحتمل أن يراد وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أم القرى- يعني مكة- رسولا وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء. وكان لقائل أن يقول: ما بال الكفار بعد مبعث محمد لم يهلكهم الله مع تكذيبهم وجحودهم فقال وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ بالشرك وأهل مكة ليسوا كذلك فمنهم من قد آمن ومنهم من سيؤمن ومنهم من يخرج من نسله من يؤمن. ثم أجاب عن شبهتهم بجواب ثالث وذلك أن حاصل شبهتهم أن قالوا: تركنا الدين لأجل الدنيا. فبين تعالى بقوله وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ الآية. أن ذلك خطأ عظيم لأن ما عند الله خير وأبقى لأنه أكثر وأدوم. ونبه على جهلهم بقوله أَفَلا تَعْقِلُونَ ويرحم الله الشافعي حيث قال: إذا أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى، لأن أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير. نظير الآية قوله صلى الله عليه وسلم «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» «1» . قال البرهان: إنما السورة «وما أوتيتم» الواو وفي الشورى فَما أُوتِيتُمْ [الآية: 36] بالفاء لأنه لم يتعلق بما قبله هاهنا كثير تعلق، وقد تعلق في الشورى بما قبلها أشد تعلق، ولأنه عقب ما لهم من المخافة ما أوتوه من الأمنة والفاء حرف التعقيب والواو والمجرد العطف. وإنما زاد في هذه السورة وَزِينَتُها. لأن المراد هاهنا جميع أعراض الدنيا من الضرورات ومن الزين، فالمتاع ما لا غنى عنه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن والمنكوح، والزينة وغيرها كالثياب الفاخرة والمراكب الرائعة والدور المشيدة. وأما في «الشورى» فلم يقصد الاستيعاب بل ما هو   (1) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 25. ابن ماجة في كتاب الزهد باب 31. أحمد في مسنده (4/ 124) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 مطلوبهم في تلك الحالة من النجاة والأمن في الحياة فلم يحتج إلى ذكر الزينة. ثم زاد البيان المذكور تأكيدا بقوله أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ لأن وعد الله يترتب عليه الإنجاز البتة وصاحبه يلقى الموعود لا محالة. وتقدير الكلام: أبعد التفاوت المذكور بين ما عند الله وبين متاع الحياة الدنيا يسوّي بين أهل الجنة وبين أبناء الدنيا؟ ومعنى «ثم» في قوله ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تراخي حال الإحضار عن حال التمتع، لا تراخي وقته عن وقته. وتخصيص لفظ الْمُحْضَرِينَ بالذين أحضروا للعذاب أمر عرف من القرآن. قال الله تعالى لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات: 57] فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات: 127] ويمكن أن يقال: إن في اللفظ إشعارا به لأن الإحضار مشعر بالتكليف والإلزام وذلك لا يليق بمجالس اللذة والأنس وإنما يليق بمواضع الإكراه والوحشة. قيل: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل. وقيل: في علي وحمزة وأبي جهل. وقيل: في عمار بن ياسر والوليد بن المغيرة. ثم ذكر من وصف القيامة قائلا وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي فاذكر ذلك اليوم. ومعنى الاستفهام في أَيْنَ التوبيخ والتهكم. ومفعولا تَزْعُمُونَ محذوفان تقديره تزعمونهم شركائي. قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي وجب وثبت وهو مفهوم لأملأن جهنم وهم الشياطين ورؤساء الكفر. وهؤُلاءِ مبتدأ والَّذِينَ أَغْوَيْنا صفته والعائد إلى الموصول محذوف والخبر أَغْوَيْناهُمْ والتقدير: هؤلاء الذين أغويناهم أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا. قال أهل السنة: أرادوا كما أن فوقنا مغوين أغوونا بقسر وإلجاء فنحن أيضا أغويناهم بالوسوسة والتسويل وبكل ما أمكن حتى غووا. وقالت المعتزلة: يعنون أنا ما غوينا إلا باختيارنا فكذلك هم ما غووا إلا باختيارهم وإن إغواءنا ما ألجأهم إلى الغواية بل كانوا مختارين في الإقدام على تلك العقائد والأعمال فيكون كما حكي عن الشيطان وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: 22] ثم قالوا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم ومن عقائدهم وأعمالهم ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ إنما كانوا يعبدون هؤلاء أهواءهم الفاسدة. وإخلاء الجملتين من العاطف لكونهما مقررتين لمعنى الجملة الأولى. وحين حكى التوبيخ المذكور ثم ما يقوله الشياطين أو أئمة الكفر اعتذارا ذكر ما يشبه الشماتة بهم من استغاثتهم آلهتهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم وهو قوله: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ زعم جم غفير من المفسرين أن جواب «لو» محذوف. فقال الضحاك ومقاتل: يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة ولعلموا أن العذاب حق، أو لو كانوا يهتدون بوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب. وقيل: أراد ورأوا العذاب لو كانوا يبصرون شيئا ولكنهم صاروا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 مبهوتين بحيث لا يبصرون شيئا فلا جرم ما رأوه. وقيل: الضمير للأصنام أي كانوا أحياء مهتدين لشاهدوا العذاب. وقيل: «لو» للتمني أي تمنوا لو كانوا مهتدين. ثم بكتهم بالاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل. ومعنى فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ أن أخبار المرسلين والمرسل إليهم صارت كالعمى عليهم جميعا لا يهتدون إليهم فهم لا يتساءلون كما يسأل بعض الناس بعضا في المشكلات لأنهم متساوية الأقدام في العجز عن الجواب، وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك اليوم يتلعثمون في الجواب عن مثل هذا السؤال كما قال سبحانه يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا [المائدة: 109] فما ظنك بضلال أممهم؟! قال القاضي: الآية تدل على بطلان قول المجبرة، لأن فعلهم لو كان خلقا من الله تعالى وجب وقوعه بالقدرة والإرادة ولما عميت عليهم الأنباء ولقالوا: إنما كذبنا الرسل من جهة خلقك فينا تكذيبهم ومن جهة القدرة الموجبة لذلك. وكذا القول فيما تقدّم لأن الشيطان كان له أن يقول: إنما أغويت لخلقك فيّ الغواية، وإنما قبل من دعوته لمثل ذلك لتكون الحجة لهم على الله قوية والعذر ظاهرا. وعارضته الأشاعرة بالعلم والداعي. والذي اعتمد عليه القاضي في دفع هذا المشكل المعضل في كتبه الكلامية قوله خطأ قول من يقول إنه يمكن وخطأ قول من يقول إنه لا يمكن فالواجب السكوت. وزيفه الأشعري بأن الكافر لو أورد هذا السؤال على ربه لما كان لربه عنه جواب إلا السكوت فتكون حجة الكافر قوية وعذره ظاهرا. ولقائل أن يقول: السكوت عن جواب الكافر جواب كما قيل: جواب الأحمق السكوت. وحين فرغ من توبيخ الكفار وتهديدهم أتبعه ذكر التائبين وأنهم من المفلحين. و «عسى» من الكريم تحقيق أو الترجي عائد إلى التائب. ثم إن القوم كانوا يذكرون شبهة أخرى وهي قولهم لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] فأجاب الله تعالى عنها بقوله وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ لأنه المالك المطلق المنزه عن النفع والضر فله أن يخص من شاء بما شاء. وعلى مذهب المعتزلة هو حكيم فلا يفعل إلا الحكمة والخير. وقوله ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ بيان لقوله وَيَخْتارُ والخيرة من التخير كالطيرة من التطير في أنه اسم مستعمل بمعنى المصدر وهو التخير وهو بمعنى المتخير كقولهم «محمد خيرة الله من خلقه» . وقد مر في الوقف أن بعضهم يقف على ما يَشاءُ ثم يقول وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ قال أبو القاسم الأنصاري: يعلم من هذا متعلق المعتزلة في إيجاب الصلاح والأصلح عليه، وأي صلاح في تكليف من علم أنه لا يؤمن بالله ولو لم يكلفه لاستحق الجنة والنعيم من فضل الله. فإن قيل: إنما كلفه ليستوجب على الله ما هو الأفضل لأن المستحق أفضل من المتفضل به قلنا: إذا علم أن ذلك الأفضل لا يحصل فتوريطه للعقاب الأبدي لا يكون رعاية للمصلحة. ثم قولهم «المستحق خير من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 المتفضل به» ممنوع لأن ذلك التفاوت إنما يحصل في حق من يستنكف من تفضله، أما الذي حصل ذاته وصفاته بإحسانه فكيف يستنكف من تفضله؟ قلت: لقائل أن يقول: مجرد الاستبعاد لا يصلح للمنع على أن لذة الأجر يستحيل أن تحصل بدون الأجر. ثم نزه نفسه بقوله سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ والغرض أن الخلق والاختيار والإعزاز والإذلال والإهانة والإجلال كلها مفوض وجوبها إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة. ثم أكد ذلك بقوله وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ من عداوة نبيه وَما يُعْلِنُونَ من مطاوعتهم فيه. ويحتمل أن يكون عاما يشمل السرائر والظواهر كلها وهو المستأثر بالإلهية. ولا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير لما قبله لَهُ الْحَمْدُ فِي الدار الْأُولى على نعمه الفائضة على البر والفاجر وَفي الدار الْآخِرَةِ كقولهم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: 34] وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] والتحميد هناك على وجه اللذة لا التكليف. قال أهل السنة: الثواب يستحق عند المعتزلة فلا يستحق الحمد بفعله من أهل الجنة، وأما أهل النار فلم ينعم عليهم حتى يستحق الحمد منهم. والجواب ما ذكرناه أن تحميدهم يجري مجرى التنفس. قال القاضي: إنه يستحق الحمد من أهل النار أيضا بما فعل بهم في الدنيا من التمكين والتيسير والألطاف وسائر النعم، وأنهم بإساءتهم لا يخرج ما أنعم الله به عليه من أن يوجب الشكر. وقال في التفسير الكبير: فيه نظر، لأن أهل الآخرة مضطرون إلى معرفة الحق فإذا علموا أن التوبة واجبة القبول وأن الشكر مما يوجب الثواب فلا بد أن يتوبوا ويشتغلوا بالشكر ليستحقوا الثواب ويتخلصوا من العقاب. ولقائل أن يقول: لا يلزم من وجوب قبول التوبة واستحقاق الجزاء على العمل في دار التكاليف أن يكون الأمر كذلك في غير دار التكاليف. ثم بين بقوله وَلَهُ الْحُكْمُ أن القضاء بين العباد مختص به فلولا حكمه لما نفذ على العبد حكم سيده، ولا على الزوجة حكم زوجها، ولا على الابن حكم أبيه، ولا على الرعية حكم سلطانهم، ولا على الأمة حكم رسولهم وإلى محل حكمه وقضائه يرجع كل عبيده وإمائه. التأويل: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى القلب مقام القرب والوحي والمكالمة وكشف العلوم بعد هلاك فرعون النفس وصفاتها لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ إذ كانوا في عالم الأرواح مستمعين خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] وَما كُنْتَ في غرب العدم بل كنت في شرق الوجود في عالم الأرواح إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى أمر اتخاذ العهد منه أن يؤمن بك كقوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمران: 81] وما كنت في عالم الشهادة وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً في عالم الشهادة فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فاحتجوا بالنفس وصفاتها ونسوا تلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 العهود والمواثيق وَما كُنْتَ مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ كشعيب وموسى، إذ أخذت منهما الميثاق أن يؤمنا بك وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ للرسل الذين أخذنا الميثاق منهم. ولولا أن تصيبهم التقدير، ولولا أن مقتضى العناية الأزلية في حق هذه الأمة ودفع حجتهم علينا فإنا ناديناهم وهم في العدم فأسمعناهم نداءنا ولم نوفقهم للإجابة فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ يعني محمدا. وفيه أن له رتبة أن يقول أنا الحق لفنائه عن نفسه بالكلية وبقائه بربه وكل من سواه فليس له أن يقول ذلك إلا بطريق المتابعة لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ لو لم يكونوا محتجبين بكفرهم عن رؤية كماله لقالوا: لولا أوتي مثل ما أوتي محمد من مقام المحبة ومقام لي مع الله وقت بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما يعني الكتاب المشتمل على العلم اللدني فإنه أهدى إلى الحضرة من الكتب الموقوفة على السماع والمطالعة، ومن لم تكن له هذه الرتبة فإنه محجوب عن الحضرة بهوى نفسه كما قال فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ حقيقة الْكِتابَ في عالم الأرواح مِنْ قَبْلِهِ نزوله في عالم الأشباح هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ في عالم الصورة ولهذا قالوا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ولذلك قال يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ أي في العالمين بِما صَبَرُوا على مخالفات الهوى وموافقات الشرع وَيَدْرَؤُنَ بالأعمال الصالحات ظلمة المعاصي، أو بحسنة الذكر صدأ حب الدنيا عن مرآة القلوب، أو بحسنة نفي ما سوى الله شرك الوجود المجازي وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ من الوجود المجازي يُنْفِقُونَ في طلب الوجود الحقيقي: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ وهو طلب ما سوى الله أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا في طلب الوجود الحقيقي وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ في طلب الفاني إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وذلك أن للقلب بابين: أحدهما إلى النفس والجسد وهو مفتوح أبدا، والآخر إلى الروح والحضرة وهو مغلوق لا يفتحه إلا الفتاح الذي بيده كل مفتاح كما قال أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24] وقال: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: 1] وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ الذين أصابهم رشاش النور وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ بجذبات الألوهية من أرض الأنانية أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً في مقام الهوية يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ حقائق كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً من العلوم اللدنية وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذوق العلم اللدني لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا أي لم تسكن في قرى القلوب الفاسد استعدادها إِلَّا قَلِيلًا من نور الإسلام بعبور الخواطر الروحانية في الأحايين وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ بأن رجع نور الإسلام إلى الحضرة بعد فساد الاستعداد حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها أي روحها لأن القلب من متولدات الروح رَسُولًا من وارد نفحات الحق الوعد الحسن للعوام الجنة، وللخواص الرؤية وللأخص الوصول والوصال كما أوحى إلى عيسى «تجوّع ترنى تجرد تصل إلي» أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا راعوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 طريقة الأدب ولم يقولوا كما أغويتنا مثل ما قال إبليس فَبِما أَغْوَيْتَنِي [الأعراف: 16] أي أَغْوَيْناهُمْ بتقديرك كَما غَوَيْنا بقضائك وهذا من خصوصية تكريم بني آدم بحفظ البعداء طريقة الأدب كما يحفظها أهل القرب على بساط الكرامة وَرَأَوُا الْعَذابَ يعني لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ لرأوا عذاب الفطام عن المألوفات والشهوات والله أعلم بالخفيات. [سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 88] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 القراآت: عِنْدِي أَوَلَمْ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن فليح وأبو عمرو وخزاعي عن أصحابه وابن مجاهد وأبو عون والسرندي عن قنبل. الباقون بالإسكان وَيْكَأَنَّ وَيْكَأَنَّهُ الوقف على الياء: أبو عمرو ويعقوب ويك الوقف على الكاف ووَيْكَأَنَّهُ موصولة: روى السوسي عن السرندي وهو مذهب حمزة. الباقون كلاهما موصولان لَخَسَفَ على البناء للفاعل: سهل ويعقوب وحفص رَبِّي أَعْلَمُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. الوقوف: بِضِياءٍ ط تَسْمَعُونَ هـ فِيهِ ط تُبْصِرُونَ هـ تَشْكُرُونَ هـ تَزْعُمُونَ هـ يَفْتَرُونَ هـ عَلَيْهِمْ ص لأن الواو للحال أي وقد آتيناه مع طول الكلام الْقُوَّةِ ط بناء على أن التقدير و «أذكر» إذ قال: وقال في الكشاف: إنه متعلق ب لَتَنُوأُ فلا وقف الْفَرِحِينَ هـ فِي الْأَرْضِ ط الْمُفْسِدِينَ هـ عِنْدِي ط جَمْعاً ط الْمُجْرِمُونَ هـ فِي زِينَتِهِ ط لعدم العاطف واختلاف القائل. قارُونُ لا لأن ما بعده تعليل التمني ولو ابتدأنا لحكمنا بأنه ذو حظ عَظِيمٍ هـ صالِحاً ج لأن ما بعده احتمل أن يكون ابتداء إخبار من الله، واحتمل أن يكون من قول أهل العلم الصَّابِرُونَ هـ مِنْ دُونِ اللَّهِ ق قد قيل: لتفصيل الاعتبار المُنْتَصِرِينَ هـ وَيَقْدِرُ ج للابتداء بلولا مع اتحاد المقول لَخَسَفَ بِنا ط الْكافِرُونَ هـ وَلا فَساداً ط لِلْمُتَّقِينَ هـ مِنْها ج لعطف جملة الشرط يَعْمَلُونَ هـ مَعادٍ ط مُبِينٍ هـ لِلْكافِرِينَ هـ ز للآية مع العطف الْمُشْرِكِينَ هـ للآية وخلو المعطوف عن نون التأكيد التي دخلت المعطوف عليه مع اتفاق الجملتين آخرا احترازا من إيهام كون ما بعده صفة آخَرَ هـ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ط وَجْهَهُ ط تُرْجَعُونَ هـ. التفسير: لما بين سبحانه حقيقة آلهيته واستحقاقه للحمد المطلق وأن مرجع الكل إلى حكمته وقضائه، أتبعه بعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه أحد سواه وهو تبديل ظلام الليل بضياء النهار وبالعكس. والمعنى: أخبروني من يقدر على هذا؟ والسرمد الدائم المتصل من السرد، والميم زائدة، وانتصابه على أنه مفعول ثان لجعل أو على الحال، وإلى متعلق بجعل أو ب سَرْمَداً، ومنافع الليل والنهار والاستدلال بهما على كمال قدرة الله تعالى قد تقدمت مرارا. قال جار الله: وإنما لم يقل بنهار تتصرفون فيه كما قيل: بِلَيْلٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 تَسْكُنُونَ فِيهِ لأن الضياء وهو ضوء الشمس تتعلق به المنافع المتكاثرة وليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة ومن ثمّ قرن بالضياء أَفَلا تَسْمَعُونَ لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل أَفَلا تُبْصِرُونَ لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه. قال الكلبي: أَفَلا تَسْمَعُونَ معناه أفلا تطيعون من يفعل ذلك. وقوله أَفَلا تُبْصِرُونَ معناه أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال. وقال أهل البرهان: قدم الليل على النهار لأن ذهاب الليل بطلوع الشمس أكثر فائدة من ذهاب النهار بدخول الليل. وإنما ختم الآية الأولى بقوله أَفَلا تَسْمَعُونَ بناء على الليل، وختم الأخرى بقوله أَفَلا تُبْصِرُونَ بناء على النهار والنهار مبصر وآية النهار مبصرة. ثم بين أن من رحمته زواجه بين الليل والنهار لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار ولإرادة الشكر على النعمتين جميعا. وفي الآية طريقة اللف ثقة بفهم السامع وذلك لأن السكون بالنهار وإن كان ممكنا وكذا الابتغاء من فضل الله بالليل إلا أن الأليق بكل واحد منهما ما ذكره فلهذا خصه به. وفي تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء دليل على أنه لا شيء أسخط عند الله من الإشراك به، ويعلم منه أنه لا شيء أجلب لرضاه من الشهادة بوحدانيته. وفحوى الخطاب: أين الذين ادّعيتم إلهيتهم لتخلصكم أو أين الذين قلتم إنها تقربكم إلى الله زلفى وقد علموا أن لا إله إلا الله؟ فيكون ذلك زيادة في غمهم. ومعنى وَنَزَعْنا وأخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً قال بعضهم: هو نبيهم لأن الأنبياء يشهدون أنهم بلغوا أمتهم الدلائل وبلغوا في إيضاحها كل غاية ليعلم أن التقصير منهم فيكون ذلك زيادة في غمهم أيضا. وقال آخرون: بل هم الشهداء الذين يشهدون على الناس في كل زمان، ويدخل في جملتهم الأنبياء وهذا أقرب، لأنه تعالى عم كل جماعة بأن ينزع منهم الشهيد فيدخل فيه أزمنة الفترات والأزمنة التي بعد محمد صلى الله عليه وسلم. فَقُلْنا للأمة هاتُوا بُرْهانَكُمْ فيما كنتم عليه من الشرك وخلاف الرسول فَعَلِمُوا حينئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ورسوله وغاب عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الباطل والزور. ثم عقب حديث أهل الضلال بقصة قارون. وهو اسم أعجمي ولهذا لم ينصرف بعد العلمية ولو كان «فاعولا» من قرن لانصرف. والظاهر أنه كان ممن آمن بموسى، هذا ظاهر نص القرآن ولا يبعد أيضا حمله على القرابة. قال الكلبي: إنه كان ابن عم موسى. وقيل: كان موسى ابن أخيه وكان يسمى المنوّر لحسن صورته، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة إلا أنه نافق كما نافق السامري. وقال: إذا كانت النبوّة لموسى والذبح والقربان إلى هارون فما لي؟ وفي قوله فَبَغى عَلَيْهِمْ وجوه أحدها: أن بغيه استخفافه بالفقراء. وثانيها أنه ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم. وقال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 القفال: معناه طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده. وقال الضحاك: طغى عليهم واستطال فلم يوافقهم في أمر. ابن عباس: تجبر وتكبر عليهم ومثله عن شهر بن حوشب قال: بغيه أنه زاد عليهم في الثياب شبرا فهذا يعود إلى التكبر. الكلبي: بغيه حسده وذلك أنه لما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرسالة له والوزارة لهارون، وكان القربان إلى موسى فجعله إلى هارون فوجد قارون في نفسه حسدهما فقال لموسى: الأمر لكما ولست على شيء إلى متى اصبر؟ قال موسى: هكذا حكم الله. قال: والله لا أصدقك حتى تأتي بآية، فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يأتي كل واحد بعصا فألقى مجموع العصيّ في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها فأصبحوا فإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال قارون: ما هو بأعجب مما تصنع من السحر. واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ سأل الكلبي: ألستم تقولون إن الله لا يعطي الحرام فكيف أضاف إيتاء مال قارون إلى نفسه؟ فأجاب بأنه لا حجة في أن ماله حرام لجواز أنه ظفر بكنز لبعض الملوك الخالية، وكان الظفر عندهم طريق التملك، أو لعله وصل إليه بالإرث من جهات، أو بالكسب من جهة المضاربات وغيرها. والمفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهو ما يفتح به الباب، أو جمع مفتح بالفتح وهو الخزانة. فمن الناس من طعن في القول الأول لأن مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ، ولو أنا قدرنا بلدة مملوأة من الذهب لكفاها أعداد قليلة من المفاتيح ولهذا قال أبو رزين: يكفي للكوفة مفتاح واحد. وأيضا الكنوز هي الأموال المدفونة في الأرض ولا يتصوّر لها مفتاح. أجاب الناصرون للقول الأول وهو اختيار ابن عباس والحسن: أن المال إذا كان من جنس العروض لا من جنس النقود جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد. وأيضا ما روي أن مفاتيحه كانت من جلود الإبل وكل مفتاح إصبع ولكل خزانة مفتاح، وكان إذا ركب حملت المفاتيح ستون بغلا غير مذكور في القرآن. فالصواب أن يفسر قوله لَتَنُوأُ أي تنهض مثقلا بأن تلك الخزائن يعسر ضبطها ومعرفتها على أهل القوّة في الحساب، وقريب منه قول أبي مسلم: إن المراد من المفاتح العلم والإحاطة كقوله وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام: 59] والمراد أن حفظها والاطلاع عليها يثقل على العصبة أولي القوّة والمتانة في الرأي. وظاهر الكنوز وإن كان من جهة العرف هو المال المدفون إلا أنه قد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق. وأيضا لا استبعاد في أن يكون موضع المال المدفون بيتا تحت الأرض له غلق ومفتاح معه. ولا تَفْرَحْ كقوله وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الحديد: 23] وذلك أنه لا يفرح بالدنيا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 إلا من اطمأن ورضي بها. قال ابن عباس: كان حبه ذلك شركا لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله تعالى. وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ من المال والثروة الدَّارَ الْآخِرَةَ يعني أسباب حصول سعاداتها من أصناف الخيرات والمبرات الواجبة والمندوبة فإن ذلك هو نصيب المؤمن من الدنيا دون الذي يأكل ويشرب، وإلى هذا أشار بقوله وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ويحتمل أن يراد به اللذات المباحة. وحين أمروه بالإحسان المالي أمروه بالإحسان مطلقا ويدخل فيه الإحسان بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن الغيبة والحضور. وفي قوله كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ إشارة إلى قوله تعالى لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7] وإلى ما قال الحكماء: المكافأة في الطبيعة واجبة. والْفَسادَ فِي الْأَرْضِ المنهي عنه هو ما كان عليه من الظلم والبغي. وهذا القائل موسى عليه السلام أو مؤمنو قومه وهو ظاهر اللفظ. وكيف كان فقد جمع في هذه الألفاظ من الوعظ ما لو قبل لم يكن عليه مزيد لكنه أبى أن يقبل بل تلقى النصح بكفران النعمة قائلا إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي قال قتادة ومقاتل والكلبي: كان قارون أقرأ بني إسرائيل للتوراة فقال: إنما أوتيته لفضل علمي واستحقاقي لذلك. وقال سعيد بن المسيب والضحاك: إن موسى أنزل عليه الكيمياء من السماء فعلم قارون ثلث العلم ويوشع ثلثه وطالوت ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا. وقيل: أراد علمه بوجوه المكاسب والتجارات. وقيل: أراد إن الله أعطاني ذلك على علم له تعالى بحالي وباستئهالي لذلك. وقوله عِنْدِي الأمر كذلك أي في اعتقادي وفي ظني فأجابه الله تعالى بقوله أَوَلَمْ يَعْلَمْ الآية. قال علماء المعاني: يجوز أن يكون المعنى بالاستفهام إثباتا لعلمه لأنه قد قرأ في التوراة أخبار الأمم السالفة والقرون الخالية وحفظها من موسى وغيره فكأنه قيل: إنه قد علم ذلك فلم اغتر بكثرة ماله وأعوانه؟ ويجوز أن يراد به نفي العلم لأنه لما تحدّى بكونه من أهل العلم حيث قال عَلى عِلْمٍ عِنْدِي وبخه الله تعالى أنه لم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهلكى. ووجه اتصال قوله وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ بما قبله أنه تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة إلى أن يسألهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه عالم بكل المعلومات. وقال أبو مسلم: أراد أنهم لا يسألون سؤال استيقان وإنما يسألون سؤال تقريع ومحاسبة فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ عن الحسن: في الحمرة والصفرة. وقيل: خرج على بغلة شهباء عليه ثوب أحمر أرجواني، وعلى البغلة سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه. وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والثياب الفاخرة. وقيل: في تسعين ألفا عليهم الثياب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 الصفر. قال الراغبون في الحياة العاجلة يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ والحظ الجد والبخت. عن قتادة: كانوا مسلمين تمنوا ذلك رغبة في الإنفاق في سبيل الخير. وقال آخرون: كانوا كفارا وقد مر في سورة النساء تحقيق الغبطة والحسد في قوله وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النساء: 22] وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بأحوال الدنيا وأنها عند الآخرة كلا شيء وَيْلَكُمْ وأصله الدعاء بالهلاك إلا أنه قد يستعمل في الردع والزجر بطريق النصح والإشفاق، والضمير في قوله وَلا يُلَقَّاها عائد إلى الكلمة المذكورة وهي قوله ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً أو إلى الصواب بمعنى المثوبة. أو بتأويل الجنة، أو إلى السيرة والطريقة أي لا يلزم هذه السيرة إِلَّا الصَّابِرُونَ على الطاعات وعن الشهوات وعلى ما قسم الله وحكم به من الغنى وضده، وظاهر حال قارون ينبىء عن أنه كان ذا أشر وبطر واستخفاف بحقوق الله واستهانة بنبيه وكتابه، فلا جرم خسف الله به وبداره الأرض. إلا أن المفسرين فصلوا فقالوا: كان يؤذي نبي الله موسى وهو يداريه للقرابة التي كانت بينهما حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، فحسبه فاستكثر فشحت به نفسه فجمع بني إسرائيل وقال: إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا: أنت كبيرنا فأمر بما شئت. فقال: ائتوا إلى فلانة البغي حتى ترميه بنفسها في جمع بني إسرائيل فجعل لها ألف دينار أو طستا مملوءا من ذهب. فلما كان يوم عيد قام موسى فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه، وإن أحصن رجمناه. فقال قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا. قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة. فأحضرت فناشدها موسى بالذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فتداركها الله فقالت: كذبوا بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي فخر موسى ساجدا يبكي وقال: يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك. فقال: يا بني إسرائيل إن الله قد بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه، ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعا غير رجلين. ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب، ثم قال: خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط. ثم قال: خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى ويناشدونه بالله والرحم وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه. ثم قال: خذيهم فانطبقت عليهم. فأوحى الله إلى موسى ما أفظك! استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم أما وعزتي لو إياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا. قلت: لعل استغاثته كانت مقرونة بالتوبة وإلا فالعتاب بعيد. ثم إن بني إسرائيل أصبحوا يتناجون بينهم إنما دعا موسى على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 قارون ليستفيد داره وكنوزه، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله. ومعنى مِنَ المُنْتَصِرِينَ من المنتقمين من موسى، أو من الممتنعين من عذاب الله وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ أي منزلته من الدنيا وأسبابها بِالْأَمْسِ أي بالزمان المتقدم يَقُولُونَ راغبين في طاعة الله والرضا بقضائه وقسمته وَيْكَأَنَّ اللَّهَ من قرأ وي مفصولة عن كأن وهو مذهب الخليل وسيبويه فهي كلمة تنبيه على الخطأ وتندم كأنهم تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وتندموا ثم قالوا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح نظير هذا الاستعمال قول الشاعر: ويكأن من يكن له نشب يح ... بب ومن يفتقر يعيش عيش ضر وعند الكوفيين: ويك بمعنى ويلك أي ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون. حكى هذا القول قطرب عن يونس، وجوّز جار الله أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى وي واللام مقدر قبل أن لبيان المقول لأجله هذا القول والتعليل أي لأنه لا يفلح الكفار كان ذلك الخسف. قال في الكشاف قوله تِلْكَ تعظيم للدار الآخرة وتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت ذكرها وبلغك وصفها. قلت: يحتمل أن يكون للتبعيد حقيقة. وفي قوله لا يُرِيدُونَ دون أن يقول «يتركون» زجر عظيم ووعظ بليغ كقوله وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [هود: 113] حيث علق الوعيد بالركون عن علي أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحته. ومن الناس من رد العلو إلى فرعون والفساد إلى قارون لقوله تعالى إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [القصص: 4] وقال في قصة قارون وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ وضعف هذا التخصيص بيّن لقوله في خاتمة الآية وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ الآية، قد مر تفسير مثله في آخر «الأنعام» وفي آخر «النمل» . وقوله فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ من وضع الظاهر موضع المضمر إذ كان يكفي أن يقال «فلا تجزون» إلا أنه أراد فضل تهجين لحالهم بإسناد عمل السيئات إليهم مكررا، وفي ذلك لطف للسامعين في زيادة تبغيض السيئة إلى قلوبهم. ثم أراد أن يسلي رسوله في خاتمة السورة فقال إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ وأي معاد فتنكير المعاد للتعظيم وأنه ليس لغيره من البشر مثله يعني أن الذي حملك صعوبة تكليف التبليغ وما يتصل به لمثيبك عليها ثوابا لا يحيط به الوصف. وقيل: أراد عوده إلى مكة يوم الفتح، ووجه التنكير ظاهر لأن مكة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 يومئذ كانت معادا له شأن لغلبة المسلمين وظهور عز الإسلام وأهله وذل أهل الشرك وحزبه والسورة مكية. فقيل: وعده وهو بمكة في أذى من أهلها أنه مهاجر بالنبي منها ويعيده إليها في ظفر ودولة. وقيل: نزلت عليه هذه الآية حين بلغ الجحفة في مهاجره وقد اشتاق إلى وطنه. وفي الآية إخبار عن الغيب وقد وقع كما أخبر فيكون فيه إعجاز دال على نبوّته. وحين وعد رسوله الردّ إلى المعاد المعتبر قال قُلْ لأهل الشرك رَبِّي أَعْلَمُ يعني نفسه وإياهم بما يستحقه كل من الفريقين في معاده، ولا يخفى أن هذا كلام منصف واثق بصدقه وحقيته. ثم ذكر رسوله ما أنعم به عليه فقال وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً قال أهل العربية: هذا الاستثناء محمول على المعنى كأنه قيل: وما ألقى إليك الكتاب إلا لأجل الرحمة، أو «إلا» بمعنى «لكن» أي ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك. ثم نهاه عن اتباع أهواء أهل الشرك وقد مرّ مرارا أن مثل هذا النهي من باب التهييج له ولأمته. ثم إن مرجع الكل إليه فقال كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم أي يعدم كل شيء سواه، والوجه يعبر به عن الذات، ومنهم من فسر الهلاك بخروجه عن كونه منتفعا به منفعته الخاصة به إما بالإماتة أو بتفريق الأجزاء كما يقال «هلك الثوب وهلك المتاع» وقال أهل التحقيق: معنى الهلاك كونه في حيز الإمكان غير مستحق للوجود ولا للعدم من عند ذاته، وإن سميت المعدوم شيئا فممتنع الوجود أحق كل شيء بأن يسمى هالكا. استدلت المعتزلة بالآية على أن الجنة والنار غير مخلوقتين لأنهما لو كانتا مخلوقتين لعرض لهما الفناء بحكم الآية، وهذا يناقض قوله أُكُلُها دائِمٌ [الرعد: 35] وعورض بقوله أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] وأُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [آل عمران: 131] ويحتمل أن يقال الكل بمعنى الأكثر ومن هناك قال الضحاك: كل شيء هالك إلا الله والعرش والجنة والنار. وقيل: إلا العلماء فإن علمهم باق. ويمكن أن يقال إن زمان فناء الجنة لما كان قليلا بالنسبة إلى زمان بقائها فلا جرم أطلق لفظ الدوام عليه ومن فسر الهلاك بالإمكان فلا إشكال والله أعلم. التأويل: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ ليل الفراق عند استيلاء ظلمة البشرية سَرْمَداً مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ نهار الوصل والتجلي قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ نهار الوصل بطلوع شمس التجلي سَرْمَداً مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ سر تسكنون فيه عن وعثاء سطوة التجلي وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ليل السر ونهار التجلي فإن العاشق لو دام في التجلي كاد يستهلك وجوده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول «إنه ليغان على قلبي» وقال لعائشة: كلميني يا حميراء. وذلك لتخرجه من سطوات شمس التجلي إلى سر ظل البشرية ليستريح من التعب والنصب. وليس هذا السر من قبيل الحجاب وإنما هو من جملة الرحمة واللطف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 نظيره الشمس في عالم الصورة فإنها في خط الاستواء تحرق، وفي الآفاق الرحوية لا تؤثر، وفي الآفاق الحملية يعتدل الحر والبرد فتكثر العمارة وتسهل ويعيش الحيوان وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من أرباب النفوس شَهِيداً هو القلب الحاضر فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ وهو حقيقة التوحيد التي لا تحصل بالفعل إلا بجذبة خطاب الحق فعلموا بتلك البراهين القاطعة أن الحق لله إِنَّ قارُونَ النفس كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى القلب لأن الله تعالى جعل النفس تبعا للقلب وجعل سعادتها في متابعته وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ المودعة في صفاتها قد أهلك من قبله من القرون كإبليس فإنه أكثر علما وطاعة فِي زِينَتِهِ هي التي زين حبها للناس من النساء والبنين وغير ذلك قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وهم صفات النفس. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وهم صفات الروح فَخَسَفْنا بِهِ الأرض دركات السفل وَبِدارِهِ وهي قالبه أرض جهنم يتغلغل فيها إلى يوم القيامة بل إلى الأبد نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ كما قال في بعض الكتب المنزلة: عبدي أنا ملك حي لا أموت أبدا، أطعني أجعلك ملكا حيا لا تموت أبدا. عبدي أنا ملك إذا قلت لشيء كن فيكون، أطعني أجعلك ملكا إذا قلت لشيء كن فيكون. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «عنوان كتاب الله إلى عباده المؤمنين من الملك الحي الذي لا يموت إلى الملك الحي الذي لا يموت» إِنَّ الَّذِي فَرَضَ أي أوجب عليك التخلق بخلق القرآن لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ هو مقام الفناء في الله والبقاء به قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وهو بذل الوجود المجازي في الوجود الحقيقي إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي إلا أنا ألقينا الكتاب إليك إلقاء الإكسير على النحاس فتخلقت بخلق القرآن والله المستعان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 (سورة العنكبوت) (وهي مكية حروفها 4595 كلمها 1981 آياتها 69 آية) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) الوقوف: الم كوفي. لا يُفْتَنُونَ هـ الْكاذِبِينَ هـ يَسْبِقُونا ط يَحْكُمُونَ هـ ج لَآتٍ ط الْعَلِيمُ هـ لِنَفْسِهِ ط الْعالَمِينَ هـ يَعْمَلُونَ هـ حُسْناً ط فَلا تُطِعْهُما ط تَعْمَلُونَ هـ الصَّالِحِينَ هـ كَعَذابِ اللَّهِ ط مَعَكُمْ ط الْعالَمِينَ هـ الْمُنافِقِينَ هـ خَطاياكُمْ ط شَيْءٍ ط لَكاذِبُونَ هـ مَعَ أَثْقالِهِمْ ط فصلا بين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين. يَفْتَرُونَ هـ عاماً ط لحق الحذف أي فلم يؤمنوا فأخذهم الطُّوفانُ ط ظالِمُونَ هـ لِلْعالَمِينَ هـ. التفسير: إنه سبحانه لما قال في خواتيم السور المتقدمة إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: 85] أي إلى مكة ظاهرا ظافرا، وكان في ذلك الرد من احتمال مشاق الحوادث ما كان قال بعده الم أَحَسِبَ النَّاسُ إلى قوله وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ بالجهاد أو نقول: لما أمر بالدعاء إلى الدين القويم في قوله وَادْعُ إِلى رَبِّكَ [القصص: 87] وكان دونه من المتاعب وأعباء الرسالة ما لا يخفى، بدأ السورة بما يهوّن على النفس بعض ذلك. وأيضا لما بين أن كل هالك له رجوع إليه، ردّ على منكري الحشر بأن الأمر ليس على ما حسبوه ولكنهم يكلفون في دار الدنيا ثم يرجعون إلى مقام الجزء والحساب. قال أهل البرهان: وقوع الاستفهام بعد «ألم» يدل على استقلالها وانقطاعها عما بعدها في هذه السورة وفي غيرها من السور. وفي تصدير السورة بأمثال هذه الحروف تنبيه للمخاطب وإيقاظ له من سنة الغفلة كما يقدم لذلك كلام له معنى مفهوم كقول القائل: اسمع وكن لي. ولا يقدم إلا إذا كان في الحديث شأن وبالخطاب اهتمام، ولهذا ورد بعد هذه الحروف ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن الذي لا يخفى غناؤه والاهتمام بشأنه كقوله الم ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 1] الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آل عمران: 1] المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الأعراف: 1] يس وَالْقُرْآنِ [يس: 1] ص وَالْقُرْآنِ [ص: 1] الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ [السجدة: 1] إلا ثلاث سور كهيعص [مريم: 1] الم أَحَسِبَ النَّاسُ الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم: 1] ولا يخفى أن ما بعد حروف التهجي فيها من الأمور العظام التي يحق أن ينبه عليها بيانه في هذه السورة أن القرآن ثقله وعبؤه بما فيه من التكاليف، وبيانه في سورة مريم ظاهر، لأن خلق الولد فيما بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر معجز. وكذا الإخبار عن غلبة الروم قبل وقوعها. ومعنى الآية راجع إلى أن الناس لا يتركون بمجرد التلفظ بكلمة الإيمان بل يؤمرون بأنواع التكاليف. واختلفوا في سبب نزولها فقيل: نزلت في عمار بن ياسر والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وكانوا يعذبون بمكة. وقيل: نزلت في أقوام هاجروا وتبعهم الكفار فاستشهد بعضهم ونجا الباقون. وقيل: في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب وهو أول قتيل من المسلمين، رماه عامر بن الحضرمي يوم بدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة. قال جار الله: مفعولا الحسبان الترك وعلته والتقدير: أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا. قال: والترك بمعنى التصيير. فقوله وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ حال سدّ مسدّ ثاني مفعوليه. وقال آخرون: تقديره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 أحسبوا أنفسهم متروكة غير مفتونين لأن قالوا آمنا وأقول: إن من خواص «أن» مع الفعل و «أن» مع جزأيه سدّها مسدّ مفعولي أفعال القلوب، والحكم بأن الترك هاهنا بمعنى التصيير غير لازم يؤيد ما ذكرنا من المعنيين قوله سبحانه في موضع آخر أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا [التوبة: 16] والفتنة الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان وكل ما يحب ويستلذ، ومن ملاقاة الأعداء والمصابرة على أذاهم وسائر ما تكرهه النفس. والتحقيق أن المقصود من خلق البشر هو العبادة الخالصة لله. فإذا قال باللسان: آمنت فقد ادعى طاعة الله بالجنان فلا بدّ له من شهود وهو الإتيان بالأركان، وإذا حصل الشهود فلا بد له من مزك وهو بذل النفس والمال في سبيل الرحمن. فمعنى الآية: أحسبوا أن يقبل منهم دعواهم بلا شهود وشهود بلا مزك؟ أو المراد أحسبوا أن يتركوا في أول المقامات لا بل ينقلون إلى أعلى الدرجات وهو مقام الإخلاص والقربات؟ ثم مثل حال هؤلاء بحال السلف منهم قائلا وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أراد كذلك فعل الله بمن قبلهم لم يتركهم بمجرد قولهم «آمنا» ، بل أمرهم بالطاعات وزجرهم عن المنهيات. وقوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ كقوله وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ [الآية: 140] وقد مر تحقيقه في «آل عمران» . والحاصل أن التجدد يرجع إلى المعلوم لا إلى العالم ولا إلى العلم، وذلك لأن الأول زماني دون الأخيرين. وأما عبارات المفسرين فقال مقاتل: فليرين الله وليظهرن الله. وقيل: فليميزن، وجوز جار الله أن يكون وعدا ووعيدا كأنه قال: وليبينن الذين صدقوا وليعاقبن الكاذبين. قال الإمام فخر الدين الرازي: في وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أول إيجاب التكليف وعن قوم مستديمي الكفر مستمرين عليه، فقال في حق الأوّلين الَّذِينَ صَدَقُوا بصيغة الفعل المنبئ عن التجدد، وقال في حق الآخرين وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ بالصيغة المنبئة عن الثبات. وإنما قال يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة: 119] بلفظ اسم الفاعل لأن الصدق يومئذ قد يرسخ في قلوب المؤمنين بخلاف أوائل الإسلام. ثم بين بقوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ إلخ. أن من كلف بشيء ولم يمتثل عذب في الحال وإلا يعذب في الاستقبال نظيره قوله ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا [الأنفال: 59] والحاصل أن الإمهال لا يوجب الإهمال، والتعجيل في جزاء الأعمال إنما يوجد ممن يخاف الفوت لولا الاستعجال. ومعنى الإضراب أن هذا الحسبان أشنع من الحسبان الأول، لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه ولهذا ختم الآية بقوله ساءَ ما يَحْكُمُونَ والمخصوص محذوف و «ما» موصولة أو مبهمة والتقدير: بئس الذي يحكمون حكمهم هذا، وبئس حكما يحكمونه حكمهم هذا. وفي الآية إبطال قول من ذهب إلى أن التكاليف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 إرشادات وإلا يعاد عليها ترغيب وترهيب ولا يوجب من الله تعذيب. واعلم أن أصول الدين ثلاثة: معرفة المبدأ وأشار إليه بقوله آمَنَّا، ومعرفة الوسط وهو إرسال الرسل. وإيضاح السبل وإليه أشار بقوله وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ومعرفة المعاد إما للأشقياء وهو قوله الم أَحَسِبَ الآية وإما للسعداء وهو قوله مَنْ كانَ يَرْجُوا أي يأمل لِقاءَ جزاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ فإن أراد بالأجل الموت ففيه إشارة إلى بقاء النفس بعد فراق البدن، فلولا البقاء لما حصل اللقاء كقولك: من كان يرجو الخير فإن السلطان واصل. فإنه لا يفهم منه إلا إيصال الخير بوصوله. ومثله: من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب. إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة. ويحتمل أن يراد بالأجل الوقت المضروب للحشر. وقيل: يرجو بمعنى يخاف من قول الهذلي: إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوال العباد صدقوا أم كذبوا الْعَلِيمُ بنياتهم وطوياتهم وبسائر أعمالهم فيجازيهم بالمسموع ما لا أذن سمعت، وبالمرئي ما لا عين رأت وبالنيات ما لا خطر على قلب بشر. ثم بين بقوله وَمَنْ جاهَدَ الآية. أن فائدة التكاليف والمجاهدات إنما ترجع إلى المكلف والله غني عن كل ذلك. قال المتكلمون من الأشاعرة: في الآية دلالة على أن رعاية الأصلح لا تجب على الله وإلا كان مستكملا بذلك، وأن أفعاله لا تعلل بغرض لأن ذلك خلاف الغني، وأنه ليس في مكان وإلا لزم افتقاره، وأنه ليست قادريته بقدرة ولا عالميته بعلم لأن القدرة والعلم غيره فيلزم افتقاره. ويمكن أن يجاب عن الأول بأن وجوب صدور الأصلح عنه لمقتضى الحكمة لا يوجب الاستكمال. وعن الثاني بأن استتباع الفائدة لا يوجب افتقار المفيد. وعن الثالث أن استصحاب المكان غير الافتقار إليه. وعن الرابع أن العالم هو ما يغاير ذات الله مع صفاته. وفي الآية بشارة من وجه وإنذار من وجه آخر، وذلك أن الاستغناء عن الكل يوجب غناه عن تعذيب كل فاجر كما أنه يمكن أن يهلك كل صالح ولا شيء عليه إلا أنه رجح جانب البشارة بقوله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية وقد مر مرارا أن الإيمان في الشرع عبارة عن التصديق بجميع ما قال الله تعالى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصيلا فيما علم وإجمالا فيما لم يعلم، والعمل الصالح هو الذي ندب الله ورسوله إليه، والفاسد ما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه. وعند المعتزلة الأمر والنهي مترتب على الحسن والقبح. ثم العمل الصالح باق لأنه في مقابلة الفاسد والفاسد هو الهالك التالف. يقال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 فسد الزرع إذا خرج عن حد الانتفاع. ولكن العمل عرض لا يبقى بنفسه ولا بالعامل لأن كل شيء هالك إلا وجهه، فبقاؤه إنما يتصور إذا كان لوجه الله. ومنه يعلم أن النية شرط في الأعمال الصالحة وهي كونها لله تعالى. وخالف زفر في نية الصوم وأبو حنيفة في نية الوضوء، وقد مر. ثم إنه تعالى ذكر في مقابلة الإيمان والعمل الصالح أمرين: تكفير السيئات والجزاء بالأحسن. فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان، والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح، ومنه يعلم أن الإيمان يقتضي عدم الخلود في النار لأن الذي كفر سيئاته يدخل الجنة لا محالة، فالجزاء الأحسن يكون غير الجنة وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولا يبعد أن يكون هو الرؤية عند من يقول بها. وهاهنا بحث وهو أن قوله لَنُكَفِّرَنَّ يستدعي وجود السيئات حتى تكفر، فالمراد بالذين آمنوا وعملوا إما قوم مسلمون مذنبون، وإما قوم مشركون آمنوا فحط الإيمان ما قبله. أو يقال: إن وعد الجميع بأشياء لا يستدعي وعد كل واحد بكل واحد من تلك الأشياء، نظيره قول الملك لقوم: إذا أطعتموني أكرم آباءكم وأحترم أبناءكم. وهذا لا يقتضي أن يكرم آباء من توفي أبوه ويحترم ابن من لم يولد له ابن، ولكن مفهومه أنه يكرم آباء من له أب ويحترم ابن من له ابن. أو يقال: ما من مكلف إلا وله سيئة حتى الأنبياء، فإن ترك الأولى بالنسبة إليهم سيئة بل حسنات الأبرار سيئات المقربين. وحين بين حسن التكاليف ووقوعها وذكر ثواب من حقق التكاليف أصولها وفروعها أشار بقوله وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ الآية إلى أنه لا دافع لهذه السيرة ولا مانع لهذه الطريقة فإن الإنسان إذا انقاد لأحد ينبغي أن ينقاد لأبويه، ومع هذا لو أمروه بالمعصية لا يجوز اتباعهم فكيف غيرهم؟ ومنه يعلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ومعنى وَصَّيْنَا أمرنا كما مر في قوله وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ [البقرة: 132] وقوله بِوالِدَيْهِ أي بتعهدهما ورعاية حقوقهما، وعلى هذا ينتصب حُسْناً بمضمر يدل عليه ما قبله أي أولهما حسنا أو افعل بهما حسنا كأنه قال: قلنا له ذلك وقلنا له وَإِنْ جاهَداكَ إلى آخره فلو وقف على قوله بِوالِدَيْهِ حسن ويجوز أن يراد وصيناه بإيتاء والديه حسنا وقلنا له وَإِنْ جاهَداكَ وقوله ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ كقوله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً [الأنعام: 81] أي لا معلوم ليتعلق العلم به. وإذا كان التقليد في الإيمان قبيحا فكيف يكون حال التقليد في الكفر. وعلى وجوب ترك طاعة الوالدين إذا أرادا ولدهما على الإشراك دليل عقلي، وذلك أن طاعتهما وجبت بأمر الله فإذا نفيا طاعة الله في الإشراك به فقد أبطلا طاعة الله مطلقا، ويلزم منه عدم لزوم طاعة الوالدين بأمر الله، وكل ما يفضي وجوده إلى عدمه فهو باطل. فطاعة الوالدين في اتخاذ الشرك بالله من الممتنعات. وفي قوله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ترغيب في رعاية حقوق الوالدين وترهيب عن عقوقهما وإن كانا كافرين إلا في الدعاء إلى الشرك. وفيه أن المجازي للمؤمن والمشرك إذا كان هو الله وحده فلا ينبغي أن يعق الوالدين لأجل كفرهما. وفي قوله فَأُنَبِّئُكُمْ دليل على أنه سبحانه عالم بالخفيات لا يعزب عنه شيء. يروى أن سعد بن أبي وقاص الزهري حين أسلم قالت أمه وهي حمنة بنت أبي سفيان: يا سعد بلغني أنك قد صبأت، فو الله لا يظلني سقف بيت وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد. وكان أحب ولدها إليها فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فنزلت هذه الآية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعدا أن يداريها ويرضيها بالإحسان. ثم أكد جزاء من آمن وعمل صالحا بتكرير قوله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي في زمرتهم وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] قال الحكماء: أي في المجردين الذين لا كون لهم ولا فساد فيدخل فيه العلويات عندهم. ثم بين حال أهل النفاق بعد تقرير حال أهل الكفر والوفاق فقال وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ يعني أنا والمؤمنون حقا آمنا ادّعى أن إيمانه كإيمانهم فأخبر أن إيمانه لا تحقيق له بدليل قوله فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أي في سبيله ودينه جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ قال جار الله: أي جعل فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر، وهذا على التوهم أو كما يجب أن يكون عذاب الله صارفا وهذا في الواقع. وقيل: جزعوا من عذاب الناس كما جزعوا من عذاب الله. وبالجملة معناه أنهم جعلوا فتنة الناس مع ضعفها وانقطاعها كعذاب الله الأليم الدائم حتى تردّدوا في الأمر وقالوا: ان آمنا نتعرض للتأذي من الناس، وذلك أنهم كانوا يمسهم أذى من الكفار، وإن تركنا الإيمان نتعرض لما توعدنا به محمد فاختاروا الاحتراز عن التعرض العاجل ونافقوا. وإنما قال فِتْنَةَ النَّاسِ ولم يقل «عذاب الناس» لأن فعل العبد ابتلاء من الله. وليس في الآية منع من إظهار كلمة الكفر إكراها، وإنما المنع من إظهارها مع مواطأة القلب التي كانوا عليها. ومما يؤكد تذبذبهم قوله وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ ويلزمه الغنيمة غالبا لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ يعني دأب المنافق أنه إذا رأى اليد للكافر أظهر ما أضمر من الكفر، وإن كان النصر للمؤمن أضمر ما أضمر وأظهر المعية وادّعى التبعية. وفي تخصيص اسم الرب بالمقام إشارة إلى أن التوبة والرحمة هي التي أوجبت النصر. ثم أخبر أنه سبحانه أعلم بما في صدور العالمين منهم بما في صدورهم، لأنه خبير بما بأنفسهم كما هي وهم لا يعرفون نفوسهم كما هي، فالتلبيس لا يفيد المنافق بالنسبة إلى الله شيئا لأنه لا يجوز عليه الالتباس دليله قوله وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ وفيه وعد للمؤمنين ووعيد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 للمنافقين. اعتبر أمر القلب هاهنا وهو في المؤمن التصديق، وفي المنافق النفاق، واعتبر في أول السورة أمر اللسان وهو في الكافر الكذب لأنه يقول: الله غير موجود، أو الله أكثر من واحد. وفي المؤمن الصدق لأنه يقول: الله واحد. وحين بين أحوال الفرق الثلاثة وذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بالفتنة، وبين أن عذاب الله فوقها وكان للكافر أن يقول للمؤمن لم تصبر في الذل على الإيذاء ولم لا تدفع الذل والعذاب عن نفسك بموافقتنا، وكان جواب المؤمن أن يقول خوفا من عذاب الله خطيئة مذهبكم فقالوا: لا خطيئة فيه، وإن كان فيه خطيئة فعلينا، أشار إلى جميع ذلك قوله وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أرادوا وليجتمع هذان الأمران في الحصول أن تتبعوا طريقتنا وأن نحمل خطاياكم، نظيره «ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء» وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب ولكنه حكاية قول صناديد قريش. كانوا يقولون لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم فإن عسى كان جزاء ومعاد فإنا نتحمل عنكم الإثم. وترى نظيره في الإسلام يشجع أحدهم أخاه على ارتكاب بعض المآثم فيقول: افعل هذا وإثمه عليّ، وكم من مغرور بمثل هذا الضمان. ثم أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يحملون شيئا من خطاياهم، ولا ريب أن هذا مخالف لما زعموا من أنهم يحملون أوزارهم فلهذا حكم الله عليهم بأنهم كاذبون. ويجوز أن يكونوا كاذبين لأنهم وعدوا وفي قلوبهم نية الخلف. ولا حاجة في توجيه تسميتهم كاذبين إلى التشبيه الذي ذكره في الكشاف. أما الجمع بين قوله وَما هُمْ بِحامِلِينَ وبين قوله وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ فهو أن النفي راجع إلى الحمل الذي يخفف عن صاحبه بسببه، والإثبات يرجع إلى أنهم يحملون وزر الإضلال ووزر الضلال مع أن أتباعهم حاملون وزر الضلال كما قال عليه الصلاة والسلام «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء» «1» قال وَلَيُسْئَلُنَّ سؤال تقريع يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من أنه لا حشر، وعلى تقدير وجوده يحملون خطايا التابعين. ثم أجمل قصة نوح ومن بعده تصديقا لقوله في أول السورة وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وفيه تثبيت للنبي عليه الصلاة والسلام كأنه قيل له: إن نوحا لبث ألف سنة تقريبا يدعو قومه ولم يؤمن منهم إلا قليل، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك، وفيه تحذير لكفار قريش فإن أولئك الكفار ما نجوا من العذاب مع تلك الأعمار الطوال، فهؤلاء كيف يسلمون أم كيف يغترون؟   (1) رواه مسلم في كتاب العلم حديث 15. النسائي في كتاب الزكاة باب 64. أحمد في مسنده (4/ 357، 359) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 سؤال: ما الفائدة في قوله أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً دون أن يقول: تسعمائة وخمسين. الجواب: لأن العبارة الثانية تحتمل التجويز والتقريب. فإن من قال: عاش فلان ألف سنة يمكن أن يتوهم أنه يدعي ذلك تقريبا لا تحقيقا. فإذا قال: إلا شهرا أو إلا سنة، زال ذلك الوهم. وأيضا المقصود تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الألف الذي هو عقد معتبر أوصل إلى هذا الغرض. وإنما جاء بالمميز في المستثنى مخالفا لما في المستثنى منه تجنبا من التكرار الخالي عن الفائدة وتوسعة في الكلام. قال بعض الأطباء: العمر الطبيعي للإنسان مائة وعشرون سنة. فاعترضوا عليهم بعمر نوح عليه السلام وغيره، وذلك أن المفسرين قالوا: عمر نوح ألفا وخمسين سنة بعث على رأس أربعين، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستين. وعن وهب أنه عاش ألفا وأربعمائة سنة. ويمكن أن يقال: إنهم أرادوا بالطبيعي ما كان أكثريا في أعصارهم. ولا ينافي هذا كون بعض الأعمار زائدا على هذا القدر بطريق خرق العادة على أن العادة قد تختلف باختلاف الأعصار والأدوار، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» ! «1» والطوفان ما عم كل المكان بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام ليل. وفي قوله وَهُمْ ظالِمُونَ دليل على أن العذاب أخذهم وهم مصرون على الظلم ولو كانوا قد تركوه لما أهلكهم. والضمير في قوله وَجَعَلْناها إما للحادثة أو للقصة أو للسفينة. وأعاجيب هذه القصة وأحوال السفينة وأهوالها قد تقدّمت مرارا ولا ريب أنها آيات يجب أن يستدل بها على موجدها. التأويل: أقسم بفردانيته وبآلائه ونعمائه أنه مهما يكون من العبد التقرب إليه بأصناف العبودية يكون منه التقرب إلى العبد بألطاف الربوبية يؤكده قوله أَحَسِبَ النَّاسُ أي الناسون من أهل البطالة أَنْ يُتْرَكُوا بمجرد الدعوى ولا يطالبون بالبلوى، فالمحبة والمحنة توأمان وبالامتحان يكرم الرجل أو يهان، فمن زاد قدر معناه زاد قدر بلواه. فالبلاء للنفوس لإخراجها عن أوطان الكسل وتصريفها في حسن العمل، والبلاء على القلوب لتصفيتها من شين الرين لقبول نقوش الغيب، والبلاء على الأرواح لتجردها بالبوائق عن العلائق، والبلاء على الأسرار في اعتكافها في مشاهدة الكشف بالصبر على آثار التجلي إلى أن تصير مستهلكة فيه بإفنائه، وإن أشدّ الفتن حفظ وجود التوحيد لئلا يجري عليه نكر في أوقات غلبات شواهد الحق فيظن أنه هو الحق لا يدري أنه من الحق ولا يقال: إنه الحق وعزيز من يهتدي إلى ذلك أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فيه أن موجبات عمل السيئات سواد مرآة   (1) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب 23. ابن ماجة في كتاب الزهد باب 27. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 القلوب بصدأ الحسبان ورين الكفران ليتوهموا أَنْ يَسْبِقُونا بالعدوان عن طريق سنتنا في الانتقام من أهل الحال والإجرام. ساءَ ما يَحْكُمُونَ بالنجاة عن الدركات باتباع الشهوات هيهات هيهات. مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ فإن من رجى عمره في رجاء لقائنا فهو الذي نبيح له النظر إلى جمالنا وَهُوَ السَّمِيعُ لأنين المشتاقين العليم بطويات الصادقين. ومن جاهد بالسعي في طلبنا فإنما يجاهد لنفسه لأنها بالتخلية عن الأخلاق الذميمة وبالتحلية بالصفات الحميدة تخلص عن الأمارية وتستأهل للمطمئنية فتستحق لجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] والذين آمنت قلوبهم بمحبتنا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ببذل الوجود في طلب جودنا لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سيئات وجودهم المجازي وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ وجودا حقيقيا أحسن منه وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي فيه إشارة إلى أن المريد إذا تمسك بذيل شيخ كامل وتوجه إلى الحضرة بعزيمة من عزائم الرجال فإن منعه الوالدان عن ذلك فعليه أن لا يطيعهما لأنه سبب ولادته في عالم الأرواح وهما سبب ولادته في عالم الأشباح كما قال عيسى عليه السلام: لن يلج ملكوت السموات والأرض من لم يولد مرتين. فهو أحق برعاية الحقوق منهما. جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ فيه أن المؤمن من كف الأذى، والولي من يتحمل من الخلق الأذى ولا تترشح عنه الشكوى من البلوى كالأرض يلقى عليها كل قبيح فينبت منها كل مليح. والمنافق إذا لم يكن في حماية خشية الله يفترسه خوف الخلق إذا أوذي في الله. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه أن كافر النفس وصفاته يقولون بلسان الطبيعة الإنسانية لموسى القلب والسر والروح وصفاتهم اتَّبِعُوا سَبِيلَنا في طلب الشهوات الحيوانية وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي ندفع عنكم ضرر ما يرجع إليكم في متابعة شهوات الدنيا وطيباتها وَما هُمْ بِحامِلِينَ شيئا مِنْ خَطاياهُمْ وهو العمى والصمم والبكم وسائر الصفات النفسانية، ولكن يحملون أثقالهم هذه الأوقات مع الآفات التي تختص بها والله أعلم بالصواب. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 41] وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 القراآت: أولم تروا بتاء الخطاب: حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل النشاءة بفتح الشين بعدها ألف ممدودة حيث كان: ابن كثير وأبو عمرو مودة بالرفع بَيْنِكُمْ بالجر على الإضافة: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي وأبو زيد عن المفضل مودة بالرفع بينكم بالفتح: الشموني والبرجمي. مَوَدَّةَ بالنصب بَيْنِكُمْ على الإضافة: حمزة وحفص. الباقون: مَوَدَّةَ بالنصب بَيْنِكُمْ بالفتح رَبِّي إِنَّهُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو إِنَّكُمْ بهمز واحد أينكم بهمزة بعدها ياء: ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب. زيد: مثله. بزيادة مدّة في الثانية: يزيد وقالون كلاهما مثل هذه الثانية أبو عمرو. والأولى بهمزة واحدة الثانية بهمزتين: ابن عامر وحفص هشام يدخل بينهما مدّة. الباقون بهمزتين فيهما أإنكم كنظائره. لَنُنَجِّيَنَّهُ بسكون النون من الإنجاء: يعقوب وحمزة وعلي وخلف سِيءَ بِهِمْ كما ذكر في «هود» ومُنَجُّوكَ من الإنجاء: ابن كثير ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل منزلون بالتشديد: ابن عامر وثَمُودَ غير مصروف في الحالين: حمزة وحفص وسهل ويعقوب. الوقوف: وَاتَّقُوهُ ط تَعْلَمُونَ هـ إِفْكاً ط وَاشْكُرُوا لَهُ ط تُرْجَعُونَ هـ مِنْ قَبْلِكُمْ ج للعطف مع الاختلاف بالإثبات والنفي الْمُبِينُ هـ يُعِيدُهُ ط يَسِيرٌ هـ الْآخِرَةَ ط قَدِيرٌ هـ ج لأن ما بعده يصلح وصفا واستئنافا مَنْ يَشاءُ ط لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتفاق الجملتين تُقْلَبُونَ هـ السَّماءِ ز فصلا بين الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين نَصِيرٍ هـ أَلِيمٌ هـ النَّارِ ط يُؤْمِنُونَ هـ أَوْثاناً ج لمن قرأ مَوَدَّةَ بالرفع الدُّنْيا ج لاختلاف الجملتين والفصل بين تباين الدارين بَعْضاً ط لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقصود مِنْ ناصِرِينَ هـ قيل: لا وقف لتعلق الفاء لُوطٌ م لأن قوله وَقالَ فاعله إبراهيم ولو وصل لأوهم اتحاد الفاعل رَبِّي ط الْحَكِيمُ هـ الدُّنْيا ج للابتداء بأن مع واو العطف الصَّالِحِينَ هـ الْفاحِشَةَ ز لأن ما بعده يصلح مستأنفا أو حالا أو وصفا الْعالَمِينَ هـ الْمُنْكَرَ ط لانتهاء الخطاب لابتداء الجواب الصَّادِقِينَ هـ الْمُفْسِدِينَ هـ بِالْبُشْرى لا لأن قالُوا جواب «لما» الْقَرْيَةِ ج للابتداء بأن مع احتمال التعليل. ظالِمِينَ هـ وقد يوصل دلالة على تدارك إبراهيم لُوطاً ط بِمَنْ فِيها ج لأن لام التوكيد تقتضي قسما أي والله لننجينه مع تمام المقصود في التنجية إِلَّا امْرَأَتَهُ ج لأن ما بعده يصلح مستأنفا في النظم ولكنه حال المرأة لأن المستثنى مشبه بالمفعول أي يستثنى امرأته كائنة من الغابرين وَلا تَحْزَنْ ط فصلا بين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 البشارتين وتوفيرا للفرح الْغابِرِينَ هـ يَفْسُقُونَ هـ يَعْقِلُونَ هـ شُعَيْباً لا لتعلق الفاء مُفْسِدِينَ هـ جاثِمِينَ هـ لأن عاداً يحتمل أن يكون منصوبا ب فَأَخَذَتْهُمُ أو بمحذوف أي واذكر وهذا أوجه لأن قوله وَقَدْ تَبَيَّنَ حال ولا يحسن أن يكون عامله فَأَخَذَتْهُمُ والأوجه انتصابه بمحذوف وهو «أذكر» أو أهلكنا. مَساكِنِهِمْ ط لأن التقدير مقدرين وعامله فأخذتهم مُسْتَبْصِرِينَ هـ ج للعطف وَهامانَ يحتمل عندي الوقف وقيل: لا بناء على أن قوله وَلَقَدْ جاءَهُمْ حال عامله فَأَخَذَتْهُمُ. سابِقِينَ هـ لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتفاق الجملتين بِذَنْبِهِ ط وكذلك حاصِباً ط أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ط خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ط وأَغْرَقْنا ط لعطف الجمل والوقف أوجه تفصيلا لأنواع النقم وإمهالا لفرصة الاعتبار يَظْلِمُونَ هـ الْعَنْكَبُوتِ ج لأن ما بعده يصلح وصفا واستئنافا بَيْتاً ط الْعَنْكَبُوتِ ج لأن وهن بيت العنكبوت معلق يَعْلَمُونَ هـ. التفسير: قوله وَإِبْراهِيمَ منصوب بمضمر وهو «اذكر» . وقوله إِذْ قالَ بدل منه بدل الاشتمال لأن الأحيان تشتمل على ما فيها أي اذكر وقت قوله لقومه، وجوز أن يكون معطوفا على نُوحاً فأورد عليه أن الإرسال قبل الدعوة فكيف يكون وقت الدعوة ظرفا للإرسال؟ وأجيب بأن الإرسال أمر ممتد إلى أوان الدعوة أو المراد أرسلناه حين كان صالحا لأن يقول لقومه اعبدوا الله خصوه بالعبادة واتقوا مخالفته. ذلِكُمْ الإخلاص والتقوى خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أما العبادة فلأنها غاية الخضوع فلا تصلح إلا لمن هو في غاية الكمال فضلا عن الجماد، وأما اتقاء خلافه فلأن من قدر على إهلاك الماضين فهو قادر على إهلاك الباقين وتعذيبهم إذا عصوه، فالعاقل من يحذر خلاف القادر. ثم بين بقوله إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً أن الذي يعبدونه في غاية الخسة لأنه صنم لا روح له، ولا ظلم أشنع من وضع الأخس موضع الأشرف. وبين بقوله وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً أن الذين يزعمون أنها شفعاؤهم عند الله كذب وزور، ثم ذكرهم أنهم لا يقدرون على نفع ولا على إيصال رزق أيّ رزق كان. ثم أشار بقوله فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ إلى أن هذه الهبة والرزق الموعود في قوله وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] يجب أن يطلب من الله فقط، وإذا كان الرزق منه فالشكر يجب أن يكون له. ثم بين بقوله إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أن المعاقب والمثيب هو وحده فلا رهبة إلا منه ولا رغبة إلا فيه. ثم إن قوله وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ إلى قوله فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إن كان اعتراضا خطابا لكفار قريش فظاهر، وإن كان تتمة قول إبراهيم فالأمم المتقدمة عليه إما قوم نوح وقوم إدريس وقوم شيث وقوم آدم، وإما قوم نوح وحده. وعبر عن أمته بالأمم لأنه عاش ألف سنة وأكثر فمضت عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 القرون، وكان كل قرن يوصون من بعدهم من الأبناء أن يكذبوا نوحا. والبلاغ ذكر المسائل والإبانة وإقامة البرهان عليه، وفيه دليل على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وإلا لم يكن البلاغ مبينا. وحين بين التوحيد والرسالة شرع في بيان المعاد فإن هذه الأصول الثلاثة لا تكاد تنفصل في الذكر الإلهي فقال أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم يعلموا بالبرهان النير القائم مقام الرؤية كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثم يعيده. أما إبداء الخلق المطلق فلأن المخلوق لا بد له من خالق أوّل تنتهي إليه سلسلة المخلوقات، وأما خلق الإنسان بل كيفيته فإنه كالمشاهد المحسوس فإنا نرى النطفة وقعت في الرحم فدارت عليها الأطوار حتى حصلت خلقا آخر. وأما الإعادة فلأنها أهون في القياس العقلي ولهذا ختم الآية بقوله إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وحين أشار إلى العلم الحدسي الحاصل من غير طلب أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أو حكى إبراهيم قول ربه له قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي إن لم يحصل لكم الحدس المذكور فسيروا في أقطار الأرض وتفكروا في كيفية تكوّن المواليد الثلاثة: المعادن والنبات والحيوان. حتى يفضى بكم النظر إلى العيان فالآية الأولى إشارة إلى ما هو كالمركوز في الأذهان ولهذا قال بطريق الاستفهام أَوَلَمْ يَرَوْا الآية الثانية أمر بالنظر المؤدي إلى العلم والإيقان على تقدير عدم حضور ذلك البيان والعيان. وإنما قال أوّلا كَيْفَ يُبْدِئُ بلفظ المستقبل وثانيا كَيْفَ بَدَأَ بلفظ الماضي، لأن العلم الحدسي حاصل في كل حال، وأما العلم الاستقرائي فلا يفيد اليقين إلا فيما شاهد وتتبع فكأنه قيل: إن لم يحصل لكم العلم بأن الله في كل حال موصوف بالإبداء والإعادة فانظروا في أصناف المخلوقات حتى تعرفوا أنه كيف بدأها ثم تستدلوا من ذلك على أنه ينشئها النشأة الثانية، فهذا عطف على المعنى كأنه قال: وانظروا كيف بدأ هذا. وتكلف جار الله فقال: هو معطوف على جملة قوله أَوَلَمْ يَرَوْا كما قال قوله ثُمَّ يُعِيدُهُ إخبار على حياله وليس بمعطوف على يُبْدِئُ ثم في إقامة اسم الله مقام الضمير في قوله ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ إشارة إلى أنه لا يقدر على هذه النشأة إلا المعبود الكامل الذات المتصف بالعلم والحياة وبسائر نعوت الجلال. وحين ذكر دلائل الأنفس والآفاق صرح بالنتيجة الكلية فقال إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإبداء والإعادة قَدِيرٌ وكذا على التكليف والجزاء تقريره قوله يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ يقال: قلب فلان في مكانه إذا أردى. وفي الآية لطائف منها: أنه قدم التعذيب على الرحمة مع قوله «سبقت رحمتي غضبي» «1» لأن الآية مسوقة لتهديد المكذبين ومع ذلك لم يخل الكلام عن ذكر الرحمة وإنه يؤكد قوله «سبقت رحمتي غضبي» «2» ومنها أنه لم يقل يعذب   (1، 2) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15، 22، 28. مسلم في كتاب التوبة حديث 14- 16. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 الكافر ويرحم المؤمن إظهارا للهيبة الإلهية. ومنها أنه قال أوّلا إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ثم أعاده هاهنا لأن التعذيب والرحمة قد يكونان عاجلين وكأنه قال: وإن تأخر ثوابكم وعقابكم فإن إلينا إيابكم وعلينا حسابكم وعندنا يدّخر لكم ذلك فلا تظنوا فواته يؤكده قوله وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وفيه أن الانقلاب إليه لا منه، وذلك أن الإعجاز إما بالهرب وإما مع الثبات وقد نفى الأول بقوله وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي لو هبطتم إلى موضع السمك في الماء أو صعدتم إلى محل السماك في السماء لم تخرجوا من قبضة قدرة الله. وقدّم الأرض على السماء لأن السماء أبعد وأفسح أي إن هربتم من حكمه وقضائه في الأرض الفسيحة أو في السماء التي هي أفسح منها وأبعد فإنكم لا تفوتون الله، والمراد لا تعجزونه كيفما هبطتم في أعماق الأرض أو علوتم إلى البروج المشيدة الذاهبة في السماء كقوله وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78] أو أراد لا تعجزون بلاءه الظاهر في الأرض أو النازل من السماء. وجوّز بعضهم أن يراد وما أنتم بمعجزين من في الأرض ولا في السماء بحذف الموصول، واقتصر في الشورى على قوله وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ [العنكبوت: 22] لأنه خطاب للمؤمنين. ونفى الثاني بقوله وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ لأن الركن الشديد الذي يستند إليه إما وليّ يشفع أو ناصر يدفع، والأول أسهل الطريقين فلذلك قدم الوليّ على النصير. ثم خص الوعيد بالكافرين بآياته أي بدلائل الوحدانية وبالكتب والمعجزات. وفي زيادة قوله أُولئِكَ إشارة إلى أن اليأس من الرحمة منحصر فيهم لقوله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف: 87] ونسبة اليأس إليهم إمّا على سبيل الإخبار عن حالهم يوم القيامة، أو على سبيل وصف الحال، فإن وصف المؤمن أن يكون راجيا خاشيا ونعت الكافر أن لا يخطر بباله خوف ولا رجاء بل يكون خائفا كما قيل: الخائن خائف. وجوز في الكشاف أن يكون على طريقة التشبيه كأنه يشبه حالهم في انتفاء الرحمة عنهم بحال من يئس من رحمة الله. ولعله ذهب إلى هذا التشبه لأن اليأس من رحمة الله متوقف على الاعتراف بالله وبرحمته والكافر غير معترف بواحد من الأمرين. ثم بين بتكرير أولئك في قوله وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أن كل واحد من الوعيدين لا يوجد إلا فيهم وإن كان الوعيدان متلازمين في الحقيقة. ثم حكى أن جواب قوم إبراهيم لم يكن إلا أن قالوا فيما بينهم أو قال واحد ورضي به الباقون اقْتُلُوهُ بالسيف ونحوه أَوْ حَرِّقُوهُ بالنار وهذا ليس   الترمذي في كتاب الدعوات باب 99 ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 242) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 جوابا في الحقيقة ولكنه كقولهم «عتابك السيف» . وفيه بيان جهالتهم أنهم وضعوا الوعيد موضع الائتمار للنصيحة والإذعان للحق. ثم بين أنهم اتفقوا على تحريقه فأنجاه من النار. والقصة مذكورة في سورة الأنبياء. إِنَّ فِي ذلِكَ الإنجاء لَآياتٍ جمع الآية لعظم تلك الحالة كقوله إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] أو لأنها مشتملة على أحوال عجيبة كالرمي من المنجنيق من غير أن لحق به ضرر، وكما يروى أن النار صارت عليه روحا وريحانا إلى غير ذلك. وإنما قال في قصة نوح عليه السلام وَجَعَلْناها آيَةً [العنكبوت: 15] ولم يذكر الجعل هاهنا لأن الخلاص من مثل تلك النار آية في نفسه، وأما السفينة فقد جعلها الله آية بأن أحدث الطوفان وصانها عن الغرق، ويمكن أن يقال: إن الصون عن النار أعجب من الصون عن الماء فلذلك وحد الآية هناك وجمعها هاهنا. وإنما قال هناك آيَةً لِلْعالَمِينَ [العنكبوت: 15] وهاهنا لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأن تلك السفينة بقيت أعواما حتى مرّ عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد. أو نقول: جنس السفينة حصلت بعد ذلك فما بين الناس فكانت آية للعالمين. وأما تبريد النار فلم يبق من ذلك أثر فلم يظهر لمن بعده إلا بطريق الإيمان به. وهاهنا لطيفة وهي أن الله تعالى جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لغيره وقال قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ [الممتحنة: 4] فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله سيجعل النار على المؤمن المهتدي بردا وسلاما. ثم حكى أنه بعد أن خرج من النار عاد إلى النصيحة والدعاء لقومه إلى التوحيد والإخلاص وذلك قوله وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ قال جار الله: من قرأ بالنصب بغير إضافة أو بإضافة فعلى وجهين: أحدهما التعليل أي لتتوددوا بينكم وتتواصلوا لاتفاقكم وائتلافكم على عبادتها كما يتفق الناس على مذهب فيكون بينهم نسبة من ذلك. الوجه الثاني: أن يكون مفعولا ثانيا على حذف المضاف، أو على أن المصدر بمعنى المفعول أي اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم واتخذتموها مودودة بينكم. ومن قرأ بالرفع بإضافة أو بغير إضافة فعلى وجهين أيضا: أن يكون خبرا لأن على أن ما موصولة والتقدير: إن التي اتخذتموها أوثانا هي سبب مودة بينكم أو مودودة بينكم. وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي مودودة أو سبب مودة وعلى هذا فالوقف على أَوْثاناً حسن كما مر. ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يقوم بين العبدة وكذا بينهم وبين أوثانهم التباغض والتلاعن نظيره كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 82] والتحقيق فيه أنهم غلبت عليهم الجسمية ولذاتها فلهذا ألفوا الأصنام ولم تقبل عقولهم موجودا منزها عن الأجسام وخواصها، فلا جرم إذا رفعت الحجب وكشف الغطاء عن عالم الأرواح زالت نسبة الجسمية وظهرت الآلام الروحانية وعذبوا بنار الخسران والحرمان من غير شفعاء ولا أعوان، فلذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 قال وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ وإنما لم يقل هاهنا وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [البقرة: 107] لأن الله لا ينصر الكفار من أهل النار. وإنما جمع هاهنا لأنه أراد في الأول جنس النصير وهاهنا أراد نفي الناصرين الذين كان أهل الشرك يزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وكان ابن أخي إبراهيم صدقه حين رأى النار لم تحرقه. قالت العلماء: إن لوطا آمن برسالة إبراهيم حين رأى المعجزة. وأما بالوحدانية فآمن حين سمع مقالته إذ لو توقف في الإيمان إلى وقت إظهار المعجزة كان نقصا في مرتبته وقدحا في نور باطنه، ألا ترى أن أبا بكر وعليا أسلما كما عرض النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام عليهما. وَقالَ إبراهيم إِنِّي مُهاجِرٌ من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى فلسطين ولهذا قالوا: لكل نبي هجرة ولإبراهيم هجرتان. وكان معه في هجرته امرأته سارة وهاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة وهاجر معه لوط أيضا. ومعنى إِلى رَبِّي أي إلى حيث أمر ربي بالهجرة إليه ومثله قوله إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: 99] وعبارة القرآن أدخل في الإخلاص لأن المهاجر إلى حيث أمره الملك قد يهاجر إليه مرة أخرى لغرض نفسه فيصدق أنه مهاجر إلى حيث أمره الملك ولا يصدق أنه مهاجر لأجل الملك ولرضاه. وفي قوله إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ نوع تهديد لقومه وتصويب لما بدا له من الهجرة بأمر الله. قال في الكشاف: إنه هو العزيز الذي يمنعني من أعدائي، الحكيم الذي لا يأمرني إلا بما هو مصلحتي. ثم ذكر ما أنعم به عليه من الأولاد والأحفاد، ومن جعل النبوة وجنس الكتاب الإلهي فيهم. وهو التوراة والإنجيل والزبور والفرقان- ولهذا اندرج ذكر إسماعيل في الآية. ولعل السر في عدم ذكر إسماعيل والتصريح بذكره أن الله تعالى جعل الزمان بعد إبراهيم قسمين: أحدهما زمن إسحاق ويعقوب وذراريهما إلى زمان الفترة، والآخر من محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم قيام الساعة وهو من ولد إسماعيل فطي ذكر إسماعيل إشارة إلى تأخر زمان دولته والله أعلم. ثم كرر ذكر النعمة بقوله وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا قال أهل التحقيق: إن الله تعالى بدل جميع أحوال إبراهيم عليه السلام بأضدادها. لما أراد القوم تعذيبه بالنار فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وهاجر فريدا وحيدا فوهب الله له ذريّة طيبة مباركة كما وصفنا، وكان لا مال له فكثر ماله حتى حصل له من المواشي ما علم الله عدده فقط. يروى أنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس في أعناقها أطواق من ذهب. وكان خاملا حتى قال قائلهم سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء: 60] فجعل الله له لسان صدق في الآخرين. اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم. ثم بين بقوله وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أن تلك النعمة الدنيوية ولذاتها مقرونة بفلاح الآخرة وصلاحها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 جعلنا الله تعالى ببركته أهلا لبعض ذلك وهو المستعان. قوله وَلُوطاً إِذْ قالَ إعرابه كإعراب قوله وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ وقد مر والظاهر أن لوطا يكون قد أمر قومه بالتوحيد والعبادة أوّلا ثم نهاهم عن الفاحشة ثانيا. إلا أن الله تعالى قد حكى عنه ما اختص به وبقومه وهو قوله إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ويحتمل أن يكونوا موحدين إلا أنهم بسبب الإصرار على الفعلة الشنعاء وتحليلها مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم الناهي عنها صاروا في حكم الكفرة. وإذا كان الزنا فاحشة كما قال وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً [الإسراء: 32] مع أن الزنا لا يفضي إلى قطع النسل فاللواطة أولى بكونها فاحشة لتماديها في القبح ولإفضائها إلى انقطاع النسل، ويعلم منه احتياجها إلى الزاجر كالزنا بل أولى ويعلم منه افتقارها إلى الرجم بدليل إمطار الحجارة على أهلها. ومعنى ما سَبَقَكُمْ بِها أنه لم يأت بمثل هذا الفعل أحد قبلهم أو لم يشتهر به ولم يبالغ فيه أحد وإن ارتكبه بعضهم في الندرة كما يقال: إن فلانا سبق البخلاء في البخل، واللئام في اللؤم إذا زاد عليهم. ومعنى تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ تقضون الشهوة بالرجال مع قطع السبيل المعتاد مع النساء. ويجوز أن يكونوا قطاع الطريق والظاهر يشعر به وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ أي تضمون إلى قبح فعلكم قبح الإظهار. والنادي هو المجلس ما دام فيه الناس. وعن عائشة: كانوا يتجامعون. وعن ابن عباس: هو الحذف ومضغ العلك وحل الإزار والفحش في المزاح والسخرية بمن مر بهم فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ ولم يهددوه بنحو القتل والتخويف كما في قصة إبراهيم، لأن إبراهيم كان يقدح في آلهتهم ويشتمهم بتعديد نقائصهم يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم: 42] فجعلوا جزاءه شر الجزاء. وأما لوط فكان ينكر عليهم فعلهم فهددوه بالإخراج أوّلا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [النمل: 56] واقترحوا من عذاب الله ثانيا. ويجوز أن يكون على سبيل الاستهزاء فلا جرم قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ كأنه أيس من توبتهم وإنابتهم ومن أن يلدوا تائبا مطيعا كما قال نوح وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: 27] ولعلهم كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش طوعا وكرها أو بابتداء الفواحش واقتداء من بعدهم بهم. والبشرى هي البشارة بالولد، والنافلة إسحق ويعقوب، وإضافة مُهْلِكُوا إضافة تخفيف لا تعريف لأنه بمعنى الاستقبال أو الحال القريب منه لا الماضي، ولأن المقصود يتضح بذلك لا بوصف الملائكة لمطلق الإهلاك. والقرية سذوم. ثم علل الإهلاك بأن الظلم قد استمر فيهم بناء على أن كان للثبوت والاستمرار، ويحتمل أن يكون للزمان الماضي فإن هذا القدر يكفي للتعليل والزائد عليه لا تحتاج الملائكة إلى تقريره بخلاف ما في قصة نوح فَأَخَذَهُمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ [العنكبوت: 14] فإن ذلك إخبار من الله تعالى ولا يحسن من الكريم أن يعاقب على الجرم السابق إلا بعد تحقق الإصرار والاستمرار. قال بعضهم: إن تعلق بِالْبُشْرى بهذا الإنذار هو أنه كان في إهلاك قوم لوط إخلاء الأرض من العباد فقدمت البشارة المذكورة المتضمنة لوجود عباد صالحين حتى لا يتأسف على إهلاك قوم من أبناء جنسه. ثم إن إبراهيم لما سمع إنذار الملائكة أظهر الإشفاق على لوط والحزن له قائلا إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ منك بِمَنْ فِيها وأخبروا بحاله وحال قومه. ومعنى مِنَ الْغابِرِينَ من الماضين ذكرهم أو ممن يمضي زمانه ويفني أو من الباقين في المهلكين وسِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً قد مر في «هود» وقال بعضهم: يحتمل أن يكون ضيق الذرع عبارة عن انقباض الروح فعند ذلك تجتمع أعضاء الإنسان وتقل مساحتها. فقالت الملائكة لا تَخَفْ علينا وَلا تَحْزَنْ بسب التفكر في أمرنا. وقال أهل البرهان: وإنما قيل هاهنا وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ بزيادة «أن» لأن «لما» تقتضي جوابا وإذا اتصل به «أن» دل على أن الجواب وقع في الحال من غير تراخ في الظاهر كما في هذه السورة وهو قوله سِيءَ بِهِمْ وفي هود اتصل به كلام بعد كلام فطال فلم يحسن دخول «أن» ظاهرا مع أن القصة واحدة. ثم إن الملائكة قالوا للوط إِنَّا مُنَجُّوكَ بلفظ اسم الفاعل وقالوا لإبراهيم عليه السلام لَنُنَجِّيَنَّهُ بلفظ الفعل لأن ذلك ابتداء الوعد وهذا أوان إنجازه فأرادوا أن ذلك الوعد حتم واقع منا كقولك: أنا ميت لضرورة وقوعه ووجوده. والرجز العذاب الذي يوقع صاحبه في القلق والاضطراب من قولهم: ارتجز وارتجس إذا اضطرب، والمراد الحجارة. وقيل: النار. وقيل: الخسف. وعلى هذا يراد أن الأمر بالخسف والقضاء به من السماء وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي من القرية آيَةً بَيِّنَةً هي آثار منازلهم الخربة أو بقية الحجارة أو الماء الأسود أو قصتهم وخبرهم. وقوله لِقَوْمٍ يتعلق ب تَرَكْنا أو ب بَيِّنَةً ولزيادة قوله بَيِّنَةً قال لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بخلاف قوله في قصة نوح عليه السلام وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ [العنكبوت: 15] لأن الآية لا تتبين إلا لذوي العقول وليس كل من في العالم بذي عقل. ثم أجمل سائر القصص والرجاء إما على أصله أو بمعنى الخوف. وعلى الأول قال جار الله: أراد افعلوا ما ترجون به العاقبة، فأقيم المسبب مقام السبب. أو أمروا بالرجاء والمراد اشتراط ما يسوغه من الإيمان كما يؤمر الكافر بالصلاة مثلا على إرادة الشرط وهو الإسلام. فَكَذَّبُوهُ إنما صح إطلاق التكذيب مع أن ما ذكره شعيب أمر ونهي، والأمر لكونه طلبا لا يحتمل التصديق والتكذيب، وكذا النهي لأن قول شعيب يتضمن قوله الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 واحد والحشر كائن والفساد محرم وكل واحد من هذه خبر. ومعنى الرجفة والصيحة قد مر في «الأعراف» وفي «هود» . وكذا إنه لم قال مع الرجفة في دارهم على التوحيد، ومع الصيحة في ديارهم على الجمع. وَأهلكنا عاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ ذلك الإهلاك مِنْ جهة مَساكِنِهِمْ إذا نظرتم إليها عند مروركم بها وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ أي عقلاء متمكنين من النظر والاستدلال، وكانوا عارفين بأخبار الرسل أن العذاب نازل بهم ولكنهم لم ينظروا في الدليل ولجوا حتى هلكوا وَما كانُوا سابِقِينَ أي أدركهم أمر الله فلم يفوتوه. ثم قرر أمر المذنبين بإجمال آخر يفيد أنهم عذبوا بالعناصر الأربعة، فجعل ما منه تركيبهم سببا لعدمهم وما منه بقاؤهم سببا لفنائهم. فالحاصب حجارة محماة تقع على كل واحد منهم فتنفذ من الجانب الآخر وهو إشارة إلى التعذيب بعنصر النار وأنه لقوم لوط. والصيحة وهي تموّج شديد في الهواء لمدين وثمود. والخسف لقارون والغرق لقوم نوح وفرعون وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بالإهلاك وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالإشراك وقال بعض أهل العرفان: وما كان الله ليضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة ولكنهم وضعوا أنفسهم مع شرفها في عبادة الوثن الذي هو في غاية الخسة فلذلك ضرب لهم المثل بالعنكبوت ونسجه الذي هو عند الناس في غاية الوهن والضعف. فإن كان تشبيها مركبا فظاهر، وإن كان مفرقا فالمشرك كالعنكبوت واتخاذه الصنم معبودا وملجأ كاتخاذ العنكبوت نسجه بيتا فإنه يصير سببا لهلاكه ولتنظيف البيت منه كعابد الوثن يقع في النار بسبب عبادته. وفيه أن العنكبوت كما أنه يصطاد بسبب نسجه الذباب ولكنه لا بقاء له ويتلاشى بأدنى سبب كذلك الكافر يستفيد بشركه ما هو أقل من جناح بعوضة وهو بعض متاع الدنيا ولكنه كعمله يصير آخر الأمر هباء منثورا. ثم عرض على العقول صحة المثل المضروب قائلا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ بأنه لا يصلح للبقاء ولا للاستدفاء ولا للاستظلال ولا للاستكنان والنسج في نفسه إن فرض له فائدة كما أن الصنم في نفسه يمكن أن ينتفع به ولكن اتخاذ النسج بيتا لا شك أنه غير مفيد بل مضر كما مر فكذلك عبادة الصنم. ثم قال لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فحذف الجواب ليذهب الوهم كل مذهب أي لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم وأمر دينهم لتابوا وندموا، ولو كانوا يعلمون صحة هذا التشبيه وقد صح أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت. فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان إذا استقريتها دينا دينا. وصاحب الكشاف علق هذا الشرط بما قبله وليس بذاك وقد مر في الوقوف والله أعلم. تم الجزء العشرون، ويليه الجزء الحادي والعشرون وأوله: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الحادي والعشرون من أجزاء القرآن الكريم [سورة العنكبوت (29) : الآيات 42 الى 69] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 القراآت: ما يَدْعُونَ بياء الغيبة: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم غير الأعشى والبرجمي. الباقون: بتاء الخطاب آية على التوحيد: ابن كثير وعاصم سوى حفص والمفضل وحمزة وعلي غير قتيبة وخلف لنفسه. وَيَقُولُ بالياء: نافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بالنون يا عِبادِيَ الَّذِينَ بسكون الياء: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بفتح الياء والوقف للجميع بالياء لا غير أَرْضِي بفتح الياء ابن عامر يرجعون بضم الياء التحتانية وفتح الجيم: يحيى وهشام تُرْجَعُونَ بفتح التاء الفوقانية وكسر الجيم. الباقون: بضم التاء الفوقانية وفتح الجيم لنثوينهم بسكون الثاء المثلثة: حمزة وعلي وخلف. والآخرون: بفتح الياء التحتانية الموحدة. وتشديد الواو وَلِيَتَمَتَّعُوا بسكون اللام: ابن كثير وقالون وحمزة وعلي وخلف سُبُلَنا بسكون الباء: أبو عمرو. الوقوف: مِنْ شَيْءٍ ط الْحَكِيمُ هـ لِلنَّاسِ ط لاختلاف الجملتين والعدول عن العموم إلى الخصوص الْعالِمُونَ هـ بِالْحَقِّ هـ لِلْمُؤْمِنِينَ هـ الصَّلاةَ ط وَالْمُنْكَرِ ط أَكْبَرُ ط ما تَصْنَعُونَ هـ مُسْلِمُونَ هـ إِلَيْكَ الْكِتابَ ط يُؤْمِنُونَ بِهِ ج فصلا بين حال الفريقين مع اتفاق الجملتين يُؤْمِنُ بِهِ ط الْكافِرُونَ هـ الْمُبْطِلُونَ هـ الْعِلْمَ ط الظَّالِمُونَ هـ مِنْ رَبِّهِ ط عِنْدَ اللَّهِ ط مُبِينٌ هـ عَلَيْهِمْ ط يُؤْمِنُونَ هـ شَهِيداً ج لأن ما بعده يصلح وصفا واستئنافا وَالْأَرْضِ بِاللَّهِ لا لأن ما بعده خبر الْخاسِرُونَ هـ بِالْعَذابِ ط الْعَذابُ ط لا يَشْعُرُونَ هـ بِالْعَذابِ ط بِالْكافِرِينَ هـ لا لأن يَوْمَ ظرف لَمُحِيطَةٌ تَعْمَلُونَ هـ فَاعْبُدُونِ ط تُرْجَعُونَ هـ خالِدِينَ فِيها ط الْعامِلِينَ قف بناء على أن التقدير هم الذين أو أعني الذين يَتَوَكَّلُونَ هـ رِزْقَهَا ق قد قيل: والوصل أولى لأنه وصف آخر لدابة وَإِيَّاكُمْ ج لاحتمال الاستئناف والوصل أولى ليكون حالا متمما للمعنى الْعَلِيمُ هـ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 لا للاستفهام مع الفاء يُؤْفَكُونَ هـ وَيَقْدِرُ لَهُ ط عَلِيمٌ هـ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ط الْحَمْدُ لِلَّهِ ط لتمام المقول لا يَعْقِلُونَ هـ وَلَعِبٌ ط الْحَيَوانُ ط لأن الشرط غير معلق يَعْلَمُونَ هـ الدِّينَ هـ يُشْرِكُونَ لا لتعلق لام كي ومن جعلها لام أمر تهديد وقف عليه آتَيْناهُمْ ط لمن قرأ وَلِيَتَمَتَّعُوا بالجزم على استئناف الأمر، ومن جعل لام لِيَكْفُرُوا للأمر عطف هذه عليها فلم يقف. وَلِيَتَمَتَّعُوا لا لاستئناف التهديد يَعْلَمُونَ هـ مِنْ حَوْلِهِمْ ط يَكْفُرُونَ هـ جاءَهُ ط لِلْكافِرِينَ هـ سُبُلَنا ط الْمُحْسِنِينَ هـ. التفسير: هذا توكيد للمثل المذكور وزيادة عليه حيث لم يجعل ما يدعونه شيئا هذا على تقدير كون «ما» نافية و «من» زائدة، ويجوز أن تكون استفهاما نصبا ب يَدْعُونَ أو بمعنى الذي و «من» للتبيين المراد ما يدعون من دونه من شيء فإن الله يعلمه. وهو العزيز الحكيم قادر على إعدامه وإهلاكهم لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة والحياة عن بينة. وفيه أيضا تجهيل لهم حيث عبدوا ما هو أقل من لا شيء وتركوا عبادة القاهر القادر الحكيم. ثم إن الجهلة من قريش كانوا يسخرون من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت ونحوهما فنزلت وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ وذلك لأن الأمثال والتشبيهات وسائل إلى المعاني المحتجبة في الأستار كما سبق في أول البقرة، حيث ضرب المثل بالبعوضة. قال الحكيم: العلم الحدسي يعرفه العاقل، وأما إذا كان فكريا دقيقا فإنه لا يعقله إلا العالم لافتقاره إلى مقدمات سابقة. والمثل مما يفتقر في إدراك صحته وحسن موقعه إلى أمور سابقة ولا حقة يعرف بها تناسب مورده ومضربه وفائدة إيراده فلا يعقل صحتها إلا العلماء. وحين أمر الخلق بالإيمان وأظهر الحق بالبرهان وقص قصصا فيها عبر، وأنذر أهل الكفر بإهلاك من غبر ووصف سبيل أهل الأباطيل بالتمثيل، قوى قلوب أهل الإيمان بأن كفرهم ينبغي أن لا يورث شكا في صحة دينكم، وشكهم يجب أن لا يؤثر في رد يقينكم، ففي خلق السموات والأرض بالحق بيان ظاهر وبرهان باهر وإن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر. وإنما قال هاهنا لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مع قوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وقوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إلى قوله لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164] لأن المؤمن لا يقصر نظره من الخلق على معرفة الخالق فحسب ولكنه يرتقي منه إلى نعوت الكمال والجلال فيعرف أنه خلقهما متقنا محكما وهو المراد بقوله بِالْحَقِّ والخلق المتقن المحكم لا يصدر إلا عن العالم بالكليات والجزئيات، وإلا عن الواجب الواحد الذات والصفات كقوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] ثم يرتقي من مجموع هذه المقدمات إلى صحة الرسالة وحقيقة المعاد فيحصل له الإيمان بتمامه من خلق ما خلقه على أحسن نظامه. وإنما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 وحد الآية هاهنا لأنه إشارة إلى التوحيد وهو سبحانه واحد لا شريك له. وفي قصة إبراهيم إشارة إلى النبوة وفي النبيين صلى الله عليهم وسلم كثرة. وحيث قوى قلب المؤمنين بالتخصيص المذكور سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ لتعلم أن نوحا ولوطا وغيرهما بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة، ولهذا قال اتْلُ ولم يقل «اتل عليهم» لأن التلاوة بعد اليأس منهم ما كانت إلا لتسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلم. أو نقول: إن الكاتب الإلهي قانون كلي فيه شفاء للصدور فيجب تلاوته مرة بعد أخرى ليبلغ إلى حد التواتر وينقله قرن إلى قرن ويأخذه قوم من قوم إلى يوم النشور. وأيضا فيه من العبر والمواعظ ما يهش لها الأسماع وتطمئن إليها القلوب كالمسك يفوح لحظة فلحظة، وكالروض يستلذه النظر ساعة فساعة. وفي الجمع بين الأمرين التلاوة وإقامة الصلاة معنيان: أحدهما زيادة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قيل له: إذا تلوت ولم يقبل منك فأقبل على الصلاة لأنك واسطة بين الطرفين، فإن لم يتصل الطرف الأول وهو من الخالق إلى المخلوق، فليتصل الطرف الآخر وهو من المخلوق إلى الخالق. والثاني أن العبادات إما اعتقادية وهي لا تتكرر بل تبقى مستمرا عليها. وإما لسانية، وإما بدنية خارجية وأفضلها الصلاة، فأمر بتكرار الذكر والصلاة حيازة للفضيلتين ثم علل الأمر بإقامة الصلاة فقال إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ فقال بعض المفسرين: أراد بالصلاة القرآن وفيه النهي عنهما وهو بعيد وقيل: أراد نفس الصلاة وإنما تنهى عنهما ما دام العبد في الصلاة، وضعف بأنه ليس مدحا كاملا لأن غيرها من الأعمال الفاضلة والمباحة قد يكون كذلك كالنوم وغيره. والذي عليه المحققون أن للصلاة لطفا في ترك المعاصي فكأنها ناهية عنها وذلك إذا كانت الشروط من الخشوع وغيره مرعية. فقد روي عن ابن عباس: من لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل. فقال: إن صلاته لتردعه وروي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلاة ثم يرتكب الفواحش، فوصف ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن صلاته ستنهاه، فلم يلبث أن تاب. وعلى كل حال فالمراعي لأوقات الصلاة لا بد أن يكون أبعد من القبائح. واللفظ لا يقتضي إلا هذا القدر وكيف لا تنهى ونحن نرى أن من لبس ثوبا فاخرا فإنه يتجنب مباشرة القاذورات، فمن لبس لباس التقوى كيف لا يتجنب الفواحش. وأيضا الصلاة توجب القرب من الله تعالى كما قال وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق: 19] ومقرّب الملك المجازي يجل منصبه أن يتعاطى الأشغال الخسيسة فكيف يكون مقرب الملك الحقيقي؟ وأيضا من دخل في خدمة ملك فأعطاه منصبا له مقام خاص مرتفع فإذا دخل وجلس في صف النعال لم يتركه الملك هنالك، فإذا صار العبد برعاية شروط الصلاة وحقوقها من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 أصحاب اليمين فكيف يتركه الله الكريم في أصحاب الشمال؟ وتفسير الفحشاء والمنكر مذكور مرارا، وقال أهل التحقيق: الفحشاء التعطيل وهو إنكار وجود الصانع، والمنكر الإشراك به وهو إثبات إله غير الله وذلك أن وجود الواجب الواحد أظهر من الشمس وإنكار الظاهر منكر ظاهر. واعلم أن الصلاة لها هيئة فأولها وقوف بين يدي الله كوقوف العبد بين يدي السلطان، وآخرها جثو بين يدي الله كما يجثو أهل الإخلاص بين يدي السلطان. وإذا جثا في الدنيا هكذا لم يجث في الآخرة كما قال وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [مريم: 72] فالمصلي إذا قال «الله» نفى التعطيل وإذا قال «أكبر» نفى الشرك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك، وإذا قال بِسْمِ اللَّهِ نفى التعطيل، وإذا قال الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نفى الإشراك لأن الرحمن هو المعطي للوجود بالخلق والرحيم هو المفيض للبقاء بالرزق، وهكذا الْحَمْدُ لِلَّهِ خلاف التعطيل، وقوله رَبِّ الْعالَمِينَ خلاف التشريك وفي قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ نفى التعطيل والإشراك من حيث إفادة التقديم الاختصاص بالعبادة، وكذا قوله وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وفي قوله اهْدِنَا الصِّراطَ نفي التعطيل لأن المعطل لا مقصد له. وفي قوله الْمُسْتَقِيمَ نفى الإشراك لأن المستقيم أقرب الطرق وهو أحد، والمشرك يزيد في الطريق بتحصيل الوسائط. وعلى هذا إلى آخر الصلاة وهو قوله في التشهد «أشهد أن لا إله إلا الله» نفى التعطيل والإشراك، فأول الصلاة «الله» وآخرها «الله» . ثم إن الله سبحانه كأنه قال للعبد: أنت إنما وصلت إلى هذه المنزلة الرفيعة بهداية محمد صلى الله عليه وسلم، فقل بعد ذكري: أشهد أن محمدا رسول الله، واذكر إحسانه بالصلاة عليه. ثم إذا رجعت من معراجك وانتهيت إلى إخوانك فسلم عليهم وبلغهم سلامي كما هو دأب المسافرين وَلَذِكْرُ اللَّهِ أي الصلاة أَكْبَرُ من غيرها من الطاعات. وفي تسمية الصلاة بالذكر إشارة إلى أن شرف الصلاة بالذكر. وجوز في الكشاف أن يراد ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة. وعن ابن عباس: ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بالطاعة. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ من الأعمال فيثيبكم أو يعاقبكم على حسب ذلك. وحين بين طريقة إرشاد المسلمين ونفع من انتفع واليأس ممن امتنع، أراد أن يبين طريقة إرشاد أهل الكتاب وهي مجادلتهم بالخصلة التي هي أحسن، يعني مقابلة الخشونة باللين والغضب بالحلم والعجلة بالتأني. قال بعض المفسرين: أراد لا تجادلهم بالسيف وإن لم يؤمنوا إلا إذا ظلموا فنبذوا الذمة أو منعوا الجزية. وقيل: إلّا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد لله والقول بثالث ثلاثة وقيل: إلا الذين آذوا رسول الله. والتحقيق أن أكثر أهل الكتاب جاؤا بكل حسن إلا الاعتراف بمحمد صلى الله عليه وسلم فوحدوا وآمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 والمبدأ والمعاد، فلمقابلة إحسانهم يجادلون أولا بالأحسن، ولا تستهجن آراؤهم ولا ينسب إلى الضلال آباؤهم بل يقال لهم آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا إلى آخر الآية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلا لم تصدقوهم، وإن كان حقا لم تكذبوهم» «1» ثم ذكر دليلا قياسيا فقال وَكَذلِكَ يعني كما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا عليك وقال جار الله: هو تحقيق لقوله آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا أي ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مصدقا لسائر الكتب السماوية. فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هم عبد الله بن سلام وأضرابه وَمِنْ هؤُلاءِ أي من أهل مكة أو الأولون هم الأقدمون من أهل الكتاب، والآخرون هم المعاصرون منهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل: الأولون هم الأنبياء لأن كلهم آمنوا بكلهم ومن هؤلاء هم أهل الكتاب وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا مع وضوحها إلا المصرون على الكفر المتوغلون فيه نحو كعب بن الأشرف وأصحابه. واعلم أن المجادل إذا ذكر مسألة خلافية كقوله: الزكاة تجب في مال الصغير. فإذا قيل له: لم؟ قال: كما تجب النفقة في ماله ولا يذكر الجامع بينهما. فإن فهم الجامع من نفسه فذاك، وإلا قيل له: لأن كليهما مال فضل عن الحاجة. فالله سبحانه ذكر أولا التمسك بقوله وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا ثم ذكر الجامع بقوله وَما كُنْتَ تَتْلُوا الآية. وفي قوله بِيَمِينِكَ زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتبا. ومعنى إِذاً لَارْتابَ لو كان شيء من ذلك أي من التلاوة والخط لارتاب الْمُبْطِلُونَ من أهل الكتاب، وارتاب الذين من شأنهم الركون إلى الأباطيل، لأن النبي إذا كان قارئا كاتبا أمكن أن يسبق إلى الوهم أن الكلام كلامه لا كلام الله، وإذا كان أميا فلا مجال لهذا الوهم. أو المراد أن سائر الأنبياء لم يكونوا أميين ووجب الإيمان بهم لمكان معجزتهم فهبوا أنه قارئ كاتب أليس صاحب آيات ومعجزات فإذا هم مبطلون على كل حال. ثم أكد إزالة ريبهم بقوله بَلْ هُوَ يعني القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وهو الحفاظ والقراء وسائر الكتب السماوية، ما كانت تقرأ إلا من القراطيس ولهذا جاء في صفة هذه الأمة «صدورهم أناجيلهم» وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا الباهرة النيرة إلا المتوغلون في الظلم. سماهم أولا كافرين لأجل مجرد الجحود، ثم بعد بيان المعجزة سماهم ظالمين لأن الكفر إذا انضم معه الظلم كان أشنع. ويجوز أن يراد بالظلم الشرك كأنهم بغلوهم في الجحود ألحقوا بأهل الشرك حكما أو حقيقة. ولما بين الدليل من جانب النبي صلى الله عليه وسلم ذكر شبهتهم وهي الفرق بين المقيس والمقيس عليه، وذلك أن موسى أوتي تسع آيات علم بها كون الكتاب من عند الله وأنت ما أوتيت شيئا منها فأرشد الله نبيه إلى الجواب   (1) رواه البخاري في كتاب الشهادات باب 29. كتاب تفسير سورة 2 باب 11. أبو داود في كتاب العلم باب 2. أحمد في مسنده (4/ 136) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 وهو أن يقول إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ووجهه أنه ليس من شرط الرسالة إظهار المعجزة وإنما المعجزة بعد التوقف في الرسالة، ولهذا علم وجود رسل كشيث وإدريس وشعيب، ولم يعلم لهم معجزة وكان في بني إسرائيل أنبياء لم تعرف نبوتهم إلا بقول موسى أو غيره، فليس على النبي إلا النذارة. وأما إنزال الآية فإلى رحمة الله إذا شاء تخليص القوم من تصديق المتنبئ وتكذيب النبي. ثم قال أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ الآية. والمعنى هبوا أن إنزال الآية شرط أليس القرآن المتلو الذي أخرس شقاشق فصحائهم كافيا في بيان الإعجاز؟ إِنَّ فِي ذلِكَ المتلو على وجه الأرضين لَرَحْمَةً من الله على الخلق وإلا اشتبه عليهم النبي بالمتنبئ وَذِكْرى ليتعظ بها الناس ما بقي الزمان. وإنما كانت هذه الرحمة من الله على الخلق والتذكرة مختصة بالمؤمنين، لأن المعجزة للكافرين سبب لمزيد الإنكار المستلزم لإلزام الحجة والخلود في النار، ثم ختم الدلائل بأن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بكلام منصف وهو قوله كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً وقال في آخر سورة الرعد قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الآية: 43] لأن الكلام هناك مع المشركين فاستشهد عليهم بأهل الكتاب أيضا وأما هنا فالكلام مع أهل الكتاب فاقتصر على شهادة الله، ثم بين كون شهادة الله كافية بقوله يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثم هددهم بقوله وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ وهما متلازمان لأن الإيمان بما سوى الله وهو الباطل الهالك الزائل الزاهق كفر بالله وجحود بحقه. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لا يستحق لهذا الاسم في الحقيقة غيرهم إذ لا غبن أفحش من اشتراء الباطل بالحق والكفر بالإيمان وإضاعة العمر في عبادة ما لا ينفعهم بل يضرهم قيل: إن ناسا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتف قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود، فلما نظر إليها ألقاها وقال: كفى بها حماقة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم فنزلت أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ الآية. ويروى أن كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا: يا محمد من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزلت قُلْ كَفى الآية. فعلى هذا فالآية نازلة في المشركين، وعلى ما مر فهل يتناول أهل الكتاب؟ قالوا: نعم، لأنه صح عندهم معجزة محمد صلى الله عليه وسلم وقطعوا بأنها ليست من عند الله بل من تلقاء محمد صلى الله عليه وسلم فيلزمهم أن يقولوا: إن محمدا هو الله فيكون إيمانا بالباطل وكفرا بالله. قلت: ولعل وجه التناول هو أنهم آمنوا بالمحرف من التوراة وعبدوا العجل والله أعلم. ثم إن النضر بن الحرث وغيره من كفار قريش كانوا يستعجلون بالعذاب كما مر استهزاء منهم وتكذيبا فنزلت وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى هو الموت أو يوم بدر أو ما كتب في اللوح أنه لا يعذب هذه الأمة عذاب الاستئصال إلى يوم القيامة. وقوله وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ تأكيد للبغتة، أو هو كلام مستقل أي إنهم لا يشعرون هذا الأمر ويظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 ثم كرر قوله يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ تعجبا منهم وتعجيبا، فإن من توعد بأمر يسير كلطمة أو لكمة يحتمل أن يظهر من نفسه الجلادة ويقول: هات ما عندك. وأما الذي توعد بإحراق ونحوه فكيف يتجلد ويستعجل خصوصا إذا كان الموعد لا يخلف الميعاد ويقدر على كل ما أراد. وقوله لَمُحِيطَةٌ بمعنى الاستقبال أي ستحيط بهم يوم كذا ويجوز أن يكون بمعنى الحال حقيقة لأن المعاصي التي توجبها محيطة بهم في الدنيا، أو مجازا لأن جهنم مآلهم ومرجعهم فكأنها الساعة محيطة بهم. والظرف على هذين الوجهين منصوب بمضمر أي يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ كان كيت وكيت. وإنما خص الغشيان بالفوق والتحت دون باقي الجهات، لأن نار جهنم بذلك تتميز عن نار الدنيا لأن نار الدنيا، لا تنزل من فوق ولا تؤثر شعلتها من تحت بل تنطفئ الشعلة تحت القدم، وإنما لم يقل «ومن تحتهم» كما قال مِنْ فَوْقِهِمْ لأن نزول النار من فوق عجيب سواء كان من سمت الرأس أو من موضع آخر. وأما الاشتعال من تحت فليس بعجيب إلا حيث يحاذي الرجل. ويجوز أن يكون زيادة الأرجل تصويرا لوقوفهم في النار أو لجثوهم فيها. وقوله ذُوقُوا ما كُنْتُمْ أي جزاء ما كنتم تعملونه أمر إهانة، وحين ذكر حال الكفرة من أهل الكتاب والمشركين وجمعهم في الإنذار وجعلهم من أهل النار اشتد عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعهم من عبادة الله فقال يا عِبادِيَ فإن كانت الإضافة للتشريف كقوله عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الدهر: 6] فقوله الَّذِينَ آمَنُوا صفة موضحة. وإن كانت للتخصيص فهي صفة مميزة. ومعنى الآية أن المؤمن إذا لم يتسهل له عبادة الله في بلد على وجه الإخلاص فليهاجر عنه إلى بلد يكون فيه أفرغ بالا أو أرفع حالا وأقل عوارض نفسانية وأكمل دواعي روحانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد» . واعلم أني عند الوصول إلى تفسير هذه السورة عنّ لي سفر من غير اختيار كلي فأقول متضرعا إلى الله الكريم ومستمدا من إعجاز الفرقان العظيم: اللهم إن كنت تعلم أن هذا السفر مشوب بشيء من رضاك فإن كل الرضا لا يمكنني أن أراعيه فاجعله سببا لنجح المقاصد وحصول المآرب والاشتمال على الفوائد الدنيوية والدينية والخلاص من شماتة الأعداء الدنية حتى أفرع لنشر العلوم الشرعية إنك على ما تشاء قدير وبالإسعاف والإجابة جدير. والفاء في قوله فَإِيَّايَ للدلالة على أنه جواب الشرط كأنه. قال: إذا كان لا مانع من عبادتي فاعبدوني ثم أريد معنى الاختصاص والإخلاص فقدم المفعول على شريطة التفسير، وجيء بالفاء الثانية الدالة على ترتيب المقتضى على المقتضي كما يقال: هذا عالم فأكرموه كما مر في قوله وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40] فصار حاصل المعنى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 إن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فاخلصوها لي في غيرها. والفائدة في الأمر بالعبادة بعد قوله يا عِبادِيَ الدال على العبودية إما المداومة أي يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل، أو الإخلاص في العبادة. ويجوز أن يقال: العبودية غير العبادة، فكم من عبد لا يطيع سيده، ثم لما أمر المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان والخلان فقال كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي إن الذي تكرهون لا بد من وقوعه فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ فنثيبكم على ذلك، وفيه أن كل نفس ذائقة الموت اضطرارا فمن أراد أن لا يموت أبدا فليمت اختيارا فإن أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار. ثم بين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما للكافرين من النيران، وأن في الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما يحيط بالكافرين من النار. وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ بإزاء ما بين جزاء عمل الكفار بقوله ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وقوله لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ألننزلنهم مِنَ الْجَنَّةِ عوالي ومن قرأ بالثاء المثلثة فمن الثواء يقال: ثوى في المنزل لازما وأثوى غيره متعديا إلى واحد. فانتصاب غُرَفاً إما بنزع الخافض، وإما لتضمين الإثواء معنى التبوئة والإنزال، وإما التشبيه الظرف المؤقت بالمبهم. ثم مدح الَّذِينَ صَبَرُوا على المكاره في الحال. وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فيما يحتاجون إليه في الاستقبال. وكل واحد من الصبر والتوكل يحتاج إليه المسافر والمقيم، فكما أن المهاجر يصبر على فراق الأوطان ويتوكل في سفره على الرحمن، فالمتوطن يصبر على الأذيات والمحن ويتوكل في أموره على فضل ذي المنن. والصبر والتوكل صفتان لا تحصلان إلا مع سعة العلم بالله وبما سوى الله، فمن علم أنه باق لا يصبر عنه ولا يتوكل في الأمور إلا عليه، ومن علم أن ما سواه فإن هان عليه الصبر وعلم أنه لا يصلح للاعتماد عليه. ثم ذكر ما يعين على الصبر والتوكل وهو النظر في حال الدواب. وقال المفسرون: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم بمكة بالهجرة خافوا الفقر والضيعة فكان الرجل منهم يقول: كيف أقدم بلدة ليست لي فيها معيشة فنزلت وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا عن الحسن أي لا تدخره وقال غيره: لا تطيق حمل الرزق اللَّهُ يَرْزُقُها بإيجاد غذائها وهدايتها إليه. ثم بتشبث ذلك الغذاء بالمغتذي بتوسط قوى أودعها فيها وهيأها لذلك. وَإِيَّاكُمْ بمثل ما قلنا وبزيادة الاهتداء إلى وجوه المكاسب والمعايش وترتيب الملبس والمسكن وتهيئة الأقوات وادخار الأموال وتملكها اختيارا وقهرا، ومنه يعلم أن الاشتغال بترتيب بعض الوسائط وتدبيرها لا ينافي التوكل فقد يكون الزارع الحاصد متوكلا والراكع الساجد غير متوكل. عن ابن عيينة: ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفأرة وللعقعق مخابئ إلا أنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 ينساها. وحكي أن البلبل يحتكر في حضنيه أي يجمع. وإذا كان أكثر الحيوان على صورة المتوكلين فالإنسان العاقل العارف بالمبدأ والمعاد، العالم بوجوه المكاسب الذي يأتيه الرزق من جهات الإرث والعمارة والهدية ونحوها، كيف يظاهر على الحطام الزائل أشد حرص؟! وَهُوَ السَّمِيعُ لدعاء طلبة الرزق الْعَلِيمُ بطوياتهم ومقادير حاجاتهم. ثم عجب أهل العجب من حال المشركين من أهل مكة وغيرهم لم يعبدوا الله مخلصين مع علمهم بأنه خالقهم ورازقهم، فكيف يصرفون عن توحيد الله؟ فإن من علمت عظمته وجبت خدمته، ولا عظمة فوق عظمة خالق الذرات وإليه أشار بخلق الأرض والسموات موجد الصفات وإليه الإشارة بتسخير الشمس والقمر ولا حقارة فوق حقارة الجماد لأنه دون النبات وهو دون الحيوان وهو دون الإنسان وهو دون سكان السموات، فكيف يتركون عبادة أشرف الموجودات ويشتغلون بعبادة أخس المخلوقات، وحين ذكر الخلق أتبعه ذكر الرزق وحكمة البسط والقبض في ذلك الباب. ومعنى يَقْدِرُ يضيق فالضمير في لَهُ إما للشخص المعين المبسوط له والمراد أن تعاقب الأمرين عليه بمشيئة الله وإما لمبهم غير معين كأن الضمير وضع موضع من يشاء. وفي قوله إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إشارة إلى أنه عالم بمقادير الحاجات فإذا علم احتياج العبد إلى الرزق أوصله إليه من غير تأخير إن شاء. ثم احتج على المشركين بوجه آخر وهو اعترافهم بأن إحياء الأرض الميتة بواسطة تنزيل ماء السماء هو من الله. ثم قال قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وهو كلام مستقل على سبيل الاعتراض أو هو متصل بما قبله كأنه استحمد رسوله على البراءة من التناقض والتهافت خلاف أهل الشرك المعترفين بأن النعمة من الله ثم يتركون عبادته إلى عبادة الصنم الذي لا يملك نفعا ولا ضرا. وفيه أن العالم إذا لم يعمل بعلمه انخرط في سلك من لا عقل له ولهذا عقبه بقوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وقال جار الله: أراد لا يعقلون ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد، أو لا يعقلون ما تريد بقولك: «الحمد لله» ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم. واعلم أن المشركين معترفون بأن الخلق والرزق من الله، ولكن حب الدنيا وزينتها حملتهم على موافقة أهل الشرك والمداومة على الدين الباطل، فصغر الله تعالى أمر الدنيا وعظم أمر الآخرة ليعلم أن رعاية جانب الآخرة أهم من رعاية صلاح الدنيا. قال أهل العلم: الإقبال على الباطل لعب، والإعراض عن الحق لهو، والمشتغل بالدنيا كذلك. ويمكن أن يقال: المشتغل بها لا على وجه الاستغراق بل على وجه يفرغ لبعض أمور الآخرة لاعب، والمشغول بها بحيث ينسى الآخرة بالكلية لاه وحين كان الكلام في الأنعام بعد ذكر الآخرة وما يجري فيها من الحيرة والحسرة قدم اللعب هنالك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 لأن الاستغراق الكلي بالنسبة إلى أهل الآخرة أبعد فأخر الأبعد. ولما كان المذكور هاهنا من قبيل الدنيا ولهذا أشار إليها بقوله وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا وقال في الأنعام وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا [الآية: 32] وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها بالكلية، فلا جرم قدم اللهو. ويحتمل أن يقال: إنه تعالى قدم اللعب على اللهو في موضعين من «الأنعام» وكذلك في القتال ويقال لها «سورة محمد» صلى الله عليه وسلم وفي «الحديد» . وقدم اللهو على اللعب في «الأعراف» و «العنكبوت» . فاللعب مقدم في الأكثر لأن اللعب زمانه الصبا، واللهو زمانه الشباب، وزمان الصبا مقدم على زمان الشباب. «تنبيه» ما ذكر في الحديد اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ كلعب الصبيان وَلَهْوٌ كلهو الشبان وزِينَةٌ كزينة النسوان وَتَفاخُرٌ كتفاخر الإخوان وَتَكاثُرٌ [الآية: 20] كتكاثر السلطان وقدم اللهو في الأعراف لأن ذلك في القيامة فذكر على ترتيب ما انقضى وبدأ بما بدأ به الإنسان وانتهى من الجانبين. وأما هذه السورة فأراد فيها ذكر سرعة زمان الآخرة، فبدأ بذكر ما هو أكثر ليكون إلى المقصود أقرب. ثم إن الحال في سورة الأنعام لما كانت حال إظهار الحسرة لم يحتج المكلف إلى وازع قوي فاقتصر على قوله وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ [الأنعام: 32] ولما كان هاهنا حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى وازع أقوى فقال وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أي لا حياة إلا حياة الآخرة وليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة بلا موت فكأنها في ذاتها حياة. ولا يخفى ما في التركيب من أنواع المبالغة من جهة «إن» ومن جهة صيغة الفصل، ولام التأكيد، وبناء الفعلان بتحريك العين وهو مصدر «حيي» بياءين لفقد ما عينه ياء ولامه واو. ولو كانا واوين لقيل: حوى مثل قوى وقياسه «حييان» بياءين قلبت الثانية واوا على منوال حيوة في اسم رجل. ولأن المبالغة هاهنا أزيد مما في الأنعام قال هاهنا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وهنالك أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام: 32] لأن المعلوم أكثر مقدمة من المعقول وقد مر في السورة ثم أشار بقوله فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ إلى أن المانع من التوحيد والإخلاص هو الحياة الدنيا لأنهم إذا انقطع رجاؤهم رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد والإخلاص، فإذا نجاهم إلى البر عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا لأجلها. ثم بين أن نعمة الأمن يجب أن تقابل بالشكر لا بالكفر فقال أَوَلَمْ يَرَوْا الآية. وقد مر مثله في «القصص» . ثم ذكر أن الذين سمعوا البيانات المذكورة ولم يؤمنوا فلا أظلم منهم لأن من وضع شيئا في غير موضعه فهو ظالم. فمن وضع شيئا في موضع لا يمكن أن يكون ذلك موضعه يكون أظلم، وإنهم جعلوا لله شريكا مع عدم إمكان الشريك له، فلا أظلم منهم. وأيضا من كذب صادقا يجوز عليه الكذب كان ظالما، فمن كذب صادقا لا يجوز عليه الكذب كيف يكون حاله وإنهم كذبوا النبي والقرآن؟ وفي قوله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 لَمَّا جاءَهُ إشارة إلى أنهم لم يتلعثموا في التكذيب وقت أن سمعوه ولم يستعملوا التدبر التفكر فيما يجب أن يستعمل فيه التأني والتثبت. وهذا أيضا نوع من الظلم بل ظلم مضموم إلى ظلم. وفي قوله أَلَيْسَ معنيان بعد كون الاستفهام للتقرير. فإن أريد نفي الحال فمعناه ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين حتى اجترءوا على مثل هذه الجرأة؟ وإن أريد نفي الاستقبال فالمراد ألا يثوون في جهنم وقد افتروا على الله وكذبوا بالحق؟ وقيل: هو من الكلام المنصف لأنه قدم مقدمة هي أنه لا أظلم من المفتري وهو المتنبئ ومن الذي كذب النبي. ثم ذكر أن جهنم مقام الكافر سواء كان هو المتنبئ أو المكذب للنبي فهو كقوله وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] ثم ختم السورة بآية جامعة فيها تسلية قلوب المؤمنين والمراد أن من جاهد النفس أو الشيطان الجني والإنسي فِينا أي في حقنا ومن أجل رضانا خالصا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبيل الجنة أو سبيل الخير بإعطاء مزيد الألطاف والتوفيق. وقيل: والذين جاهدوا فيما علموا ولم يقصروا في العمل به لنهدينهم إلى ما لم يعلموا وهو قريب من قول الحكيم: إن النظر في المقدمات يعد النفس لقبول الفيض وهو النتيجة من واهب الصور الجسمانية والعقلية. وقوله وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ أي بالنصر والإعانة إشارة إلى مرتبة أعلى من الاستدلال وهو الذي يسمى العلم اللدني، فكأنه تعالى أشار في خاتمة السورة إلى الفرق الثلاث. فأشار إلى الناقصين بقوله وَمَنْ أَظْلَمُ وذلك أنهم صرفوا الاستعداد في غير ما خلق لأجله، وإلى المتوسطين الذين يحصلون العلم بالكد بقوله وَالَّذِينَ جاهَدُوا وإلى أصحاب الحدس وصفاء الضمير بقوله وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ والله أعلم بمراده. التأويل: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ بالله لأن عقولهم مؤيدة بأنوار العلم اللدني إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ الذين ينظرون بنور الله فان النور لا يرى إلا بالنور اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ فيه أن التلاوة والعمل به يجب أن يتقارنا حتى يتخلق بخلق القرآن ويحصل الانتهاء عن الفحشاء وهي طلب الدنيا. والمنكر وهو الالتفات إلى غير الله. فإن لم تكن الصلاة متصفة بذلك فهي كلا صلاة. وَلَذِكْرُ اللَّهِ في إزالة مرض القلب أَكْبَرُ من تلاوة القرآن وإقامة الصلاة، لأن القلب لا يطمئن إلا بذكر الله، وعند الاطمئنان توجد سلامة القلب. فالذكر له خاصية الإكسير في جعل الإبريز ذهبا خالصا. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ من استعمال مفتاح الشريعة وآداب الطريقة لفتح أبواب طلسم الوجود المجازي والوصول إلى الكنز الخفي وَلا تُجادِلُوا يا أرباب القلوب أهل العلم الظاهر إلا بطريق الإنصاف والرفق إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا بمزيد الإنكار والعناد فحينئذ لا تجادلوهم إذ لا يرجى منهم قبول الحق والإذعان له، فخلوا بينهم وبين باطلهم وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 العلوم الباطنة وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من العلوم الظاهرة وَكَذلِكَ أي كما أنزلنا الدلائل والبراهين العقلية على أهل الظاهر أنزلنا عليكم الكشوف والمعارف فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وهم أرباب القلوب يصدقون به، وَمِنْ هؤُلاءِ العلماء الظاهريين من يؤمن به وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الذين يشترون الحق بالباطل وَما كُنْتَ تَتْلُوا وفيه أن القلب إذا كان خاليا عن النقوش الفاسدة كان أقبل للعلوم اللدنية كقلب النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعني أن قلوب الخواص خزائن الغيب. سأل موسى عليه السلام: إلهي أين أطلبك؟ فقال: أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي. ثم أشار بقوله وَما يَجْحَدُ إلى أن الحرمان من الرؤية من خصوصية الرين ولهذا قالوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ وذلك لعمى عيون قلوبهم. ثم أشار إلى ظلومية الإنسان وجهوليته بأنه يستعجل بالعذاب مع عدم صبره عليه وَإِنَّ جَهَنَّمَ الحرص وغيره من الأخلاق الذميمة لَمُحِيطَةٌ بهم من فوقهم وهو الكبر والغضب وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وهو الحرص والشره والشهوة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ لأنهم نائمون فإذا ماتوا انتبهوا يا عِبادِيَ أن أرض حضرة جلالي واسِعَةٌ فهاجروا بالخروج من حبس وجودكم إلى سرادقات هويتي كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ بالاضطرار فارجعوا إلينا بالاختيار لنبوئنكم من جنة الوصال غرفا من المعارف تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أنهار الحكمة الَّذِينَ صَبَرُوا في البداية على حبس النفس بالفطام عن المرام، وفي الوسط على تجرع القلب كاسات التقدير من غير تعبير، وفي النهاية صبروا على بذل الروح لنيل الفتوح وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ شخص كالدابة لا تَحْمِلُ النظر عن رِزْقَهَا لضعف نفسها عن التوكل اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ أيها الطالبون للمشاهدات والمكاشفات لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لأن كلهم قالوا في الأزل: بلى عند خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] والفرق إثبات الشريك ونفيه وذلك لعدم إصابة النور المرشش وإصابة دليله قوله اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ بإصابته النور وَيَقْدِرُ بأخطائه إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ باستحقاق كل فريق من نزل من سماء الروحانية ماء الإيمان فأحيا به أرض القلوب لَهِيَ الْحَيَوانُ لأن جميع أجزائها حي فقد ورد في الحديث «إن الجنة وما فيها من الأشجار والأثمار والغرف والحيطان والأنهار حتى ترابها وحصباؤها كلها حي» قلت: ولعل ذلك لبقاء كل منها على كماله الآخر. ثم بين بقوله فَإِذا رَكِبُوا أن إخلاص المؤمن ثابت وإخلاص الكافر مضطرب ثم بين أن حرم القلب آمن وما حوله من صفات النفس ومشاهدة ربها مظنة تصرف الشيطان، فمن افترى على الله بأن لا يكون له مع الله وقت وحال ويظهر ذلك من نفسه، أو كذب طريقة أهل الحق جاهدوا فينا يخرج منه مجاهدة الرهبانيين والفلاسفة والبراهمة ونحوهم لأنهم مرتاضون رياء وكسلا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 (سورة الروم) (وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون وكلماتها ثمانمائة وتسعة عشر آياتها ستون) [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 32] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 القراآت: عاقبة بالنصب: ابن عامر وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون: بالرفع. السُّواى بالإمالة: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وحماد يرجعون على الغيبة: أبو عمرو غير عباس وأوقية وسهل ويحيى وحماد تخرجون بفتح التاء وضم الراء: حمزة وعلي وخلف. الباقون: مجهولا لِلْعالِمِينَ بكسر اللام: حفص يفصل على الغيبة: عباس. الآخرون: بالنون. الوقوف: الم كوفي غُلِبَتِ الرُّومُ هـ سَيَغْلِبُونَ هـ سِنِينَ هـ وَمِنْ بَعْدُ ط الْمُؤْمِنُونَ هـ بِنَصْرِ اللَّهِ ط وكلاهما مبني على أن قوله بِنَصْرِ اللَّهِ يتعلق ب يَفْرَحُ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ ط الرَّحِيمُ هـ وَعْدَ اللَّهِ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ الدُّنْيا ج لعطف الجملتين المختلفتين والوصل أولى غافِلُونَ هـ فِي أَنْفُسِهِمْ ط لحق الحذف أي فيعلموا ذلك أو فيقولوا هذا القول مُسَمًّى ط لَكافِرُونَ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ط بِالْبَيِّناتِ ط يَظْلِمُونَ هـ لا لأن «ثم» لترتيب الأخبار يَسْتَهْزِؤُنَ هـ يرجعون هـ الْمُجْرِمُونَ هـ والوصل جائز كافِرِينَ هـ يَتَفَرَّقُونَ هـ يُحْبَرُونَ هـ مُحْضَرُونَ هـ تُصْبِحُونَ هـ تُظْهِرُونَ هـ بَعْدَ مَوْتِها ط تُخْرَجُونَ هـ تَنْتَشِرُونَ هـ وَرَحْمَةً ط يَتَفَكَّرُونَ هـ وَأَلْوانِكُمْ ط لِلْعالِمِينَ هـ مِنْ فَضْلِهِ ط يَسْمَعُونَ هـ مَوْتِها ط يَعْقِلُونَ هـ بِأَمْرِهِ ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار دَعْوَةً لا وقيل: على من الأرض وكلاهما تعسف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 والحق أن قوله مِنَ الْأَرْضِ متعلق ب دَعاكُمْ كقولك دعوت زيدا من بيته لا كقولك دعوته من بيتي تَخْرُجُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط قانِتُونَ هـ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ج وَالْأَرْضِ ط الْحَكِيمُ هـ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ط لانتهاء الإخبار إلى الاستفهام كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ط يَعْقِلُونَ هـ بِغَيْرِ عِلْمٍ ج لابتداء الاستفهام مع الفاء أَضَلَّ اللَّهُ ط لتمام الاستفهام وابتداء النفي ناصِرِينَ هـ حَنِيفاً ط عَلَيْها ط لِخَلْقِ اللَّهِ ط الْقَيِّمُ هـ لا للاستدراك لا يَعْلَمُونَ هـ وقيل: لا وقف عليه بناء على أن مُنِيبِينَ حال من ضمير فَأَقِمْ على أن الأمر له ولأمته مثل يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ [الطلاق: 1] والوقف أوضح لبعد العامل عن المعمول بل التقدير: كونوا منيبين بدليل قوله وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لأن قوله مِنَ الَّذِينَ كالبدل مما قبله شِيَعاً ط فَرِحُونَ هـ. التفسير: وجه تعلق السورة بما قبلها هو أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول للمشركين ما أمر الله به صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة: 171] وكان يحقر آلهتهم وينسبها إلى العجز وعدم النفع والضر، وكان أهل الكتاب يوافقون المسلمين في الإله وفي كثير من الأحكام ولذلك قال وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إلى قوله وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ [العنكبوت: 46] فلا جرم أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم في الأمور. فاتفق أن بعث كسرى جيشا إلى الروم واستعمل عليهم رجلا يقال له شهريران، فسار إلى الروم بأهل فارس فظفر عليهم وقتلهم وخرب مدائنهم. وكان قيصر بعث رجلا يدعى بجنس فالتقى مع شهريران بأذرعات وبصرى وهو أدنى الشام إلى أرض العرب وإليه الإشارة بقوله أَدْنَى الْأَرْضِ لأن الأرض المعهودة عند العرب هي أرضهم أي غلبوا في أقرب أرض العرب منهم وهي أطراف الشام. وجوز جار الله أن يراد بأرضهم على إنابة اللام مناب المضاف إليه أي في أدنى أرضهم إلى عدوهم. وهذا تفسير مجاهد لأنه قال: هي أرض الجزيرة وهي أدنى أرض الروم إلى فارس. عن ابن عباس: الأردن وفلسطين. ففرح المشركون بذلك فأنزل الله تعالى هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق فقد يبتلى المحبوب ويعجل عذابه ليسلم في الآجل. وقوله فِي أَدْنَى الْأَرْضِ إشارة إلى ضعفهم أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طريق الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم. ثم بين أن الروم سيغلبون غلبة عظيمة بعد ذلك الضعف العظيم، وكل ذلك دليل على أن الأمر بيد الله من قبل الغلبة ومن بعدها، أو من قبل تلك المدة ومن بعد ذلك، وقد وقع كما أخبر فغلبت الروم على فارس حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هنالك الرومية، قال المفسرون: لما نزلت الآية قال أبوبكر للمشركين: لا أقر الله أعينكم، والله ليظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين. فقال له أبي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 ابن خلف: كذبت يا أبا فضيل اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه، فخاطره على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعل الأجل ثلاث سنين. فأخبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الأجل فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين. فلما أراد أبوبكر أن يخرج من مكة أتاه أبي فلزمه وطلب كفيلا فكفله ابنه عبد الله بن أبي بكر، فلما أراد أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله فلزمه إلى أن أقام كفيلا ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي فمات بمكة من جراحته التي جرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم فظهرت الروم على فارس يوم الحديبية. وذلك عند رأس سبع سنين. فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يتصدق به. قالت العلماء: إنما أبهم الوقت لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد الشاسعة قلما يحصل الاتفاق على وقتها المعين من السنة والشهر واليوم والساعة وإن كان معلوما للنبي بإعلام الله إياه، فالمعاند كان يتمكن من الإرجاف بوقوع الواقعة قبل وقوعها ليحصل الخلف في الميعاد ولكن المعاند لا يتمكن من إنكار الواقعة في البضع، وَيَوْمَئِذٍ أي يوم يغلب الروم فارس ويحصل ما وعد الله من غلبتهم يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ وبغلبة من له كتاب على من لا كتاب له، أو بغيظ الشامتين بهم من كفار مكة. وقيل: نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبر به نبيهم من غلبة الروم. وعن أبي سعيد الخدري: وافق ذلك يوم بدر وهو المراد بنصر الله، وذلك أن خبر الكسر لم يصل إليهم في ذلك اليوم بعينه فلا يكون فرحهم يومئذ بل الفرح يحصل بعده، ولناصر القولين الأولين أن يقول: أقيم سبب الفرح، مقام الفرح أو المراد باليوم الوقت الواسع الشامل لما بين زمان وقوع الكسر إلى زمان وصول خبر الكسر الموجب للفرح. ومن علق قوله بِنَصْرِ اللَّهِ بقوله يَنْصُرُ بناء على أن المقصود بيان أن النصرة بيد الله لا بيان وقوع النصرة لم يقف هاهنا ووقف على الْمُؤْمِنُونَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فإذا سلط العدو على الحبيب فلعزته واستغنائه عن العالمين، وإذا نصر الحبيب فلرحمته عليه. أو نقول: إن نصر المحب فلعزته واستغنائه عنه ورحمته في الآخرة واصلة إليه. وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه لأن ما سبق في معنى الوعد وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنه لا خلف في وعده لأنهم بله في أمور الدين. وفي إبدال قوله يَعْلَمُونَ من قوله لا يَعْلَمُونَ أو في بيان هذا بذاك إشارة أن العلم بأمور الدنيا كالجهل المطلق، وفي تنكير ظاهِراً إشارة إلى قلة علمهم بظاهر الدنيا أيضا وفي تكرير «هم» إشارة إلى أن الغفلة منهم وإلا فأسباب التذكرة حاصلة وظاهر الدنيا ملاذها وملاعبها وباطنها مضارها ومتاعبها. هي الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من سفكي وفتكي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 فلا يغرركم طول ابتسامي ... فقولي مضحك والفعل مبكي ثم أشار إلى وجه التفكر بقوله أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا وقوله فِي أَنْفُسِهِمْ يتعلق به أما تعلق الظرف بالفعل كأنه قال: أو لم يحدثوا التفكر في قلوبهم الفارغة فيكون كما لو قلت لأجل زيادة التصوير اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك مع أن الاعتقاد لا يكون إلا في القلب، والإضمار لا يوجد إلا في النفس. وأما تعلق الجار بالفعل كقولك: تفكر في الأمور. وذلك أنه إذا تفكر في نفسه التي هي أقرب الأشياء إليه وقف على غرائب الحكم ودقائق الصنع التي أودعها الله تعالى فيها كما يكفل بيان بعضها علم التشريح فجره ذلك إلى العلم بأنه سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا متلبسا بالغرض الصحيح الذي أودعه الله فيها، وبتقدير أجل مسمى هو وقت الجزاء والحساب، ثم في الآية تقريران: أحدهما يناسب أصول الأشاعرة وهو أن دلائل الأنفس منجرة إلى دلائل الآفاق المذكورة للتوحيد وللعلم بالإله القادر المختار الصادق كلامه، لكنه أخبر عن تخريب السموات والأرض وعن حشر الأجساد وانتهاء الجسمانيات إلى الإفناء ثم الإعادة في الوقت المعلوم فيكون الأمر على ما أخبر. وثانيهما يتوقف على أصول المعتزلة، وهو أن التفكر في النفس يجذب بصنعه إلى معرفة الإله الحكيم الذي لا يفعل العبث والجزاف، فإنه خلق السموات وغيرها من الأجسام لمنافع المكلفين، وإذا انتهى التكليف فلا بد من تخريب السموات والأرض وانتهاء الأمر إلى حالة الجزاء واللقاء كيلا تنخرم قاعدة الحكمة والتدبير ورعاية الصلاح والعدل. ثم قال وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ وقد قال قبل ذلك وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لأنه قد ذكر دليلا على الأصول، ولا شك أن الإيمان بعد الدليل يكون أكثر من الإيمان قبل الدليل فلا يبقى الأكثر كما هو فعبر عن الباقي بالكثير. قال في الكشاف والمراد بِلِقاءِ رَبِّهِمْ الأجل المسمى، والأشاعرة يحملونه على الرؤية، واعلم أن دليل الأنفس مقدم على دليل الآفاق، لأن الإنسان قلما يذهل عن نفسه، وأن نفسه أقرب الأشياء إليه نظير الآية قوله سبحانه الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 191] أي يعرفون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال، ويتفكرون في خلق السموات والأرض بدلائل الآفاق. وإنما أخر الأنفس في قوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] لإن الإراءة إنما يفتقر إليها في معرفة الأبعد الأخفى كأنه قال: سنريهم آياتنا الآفاقية فإن لم يفهموها فآيات الأنفس معلومة. وهذا الترتيب لا يناسب التفكر بل الفكر يتصور دليل الأنفس أولا ثم يرتقي إلى دليل الآفاق فظهر أن كل آية وردت على ما اقتضته الحكمة والبلاغة. وحين ذكر دليل النفس الذي لا يقع الذهول عنه إلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 ندرة ارتقى إلى دليل السموات والأرض الذي يقع الذهول عنه في كثير من الأحوال لكنه لا يحتاج إلا إلى التفات ذهني، ثم أتبعه دليل الآفاق الذي يتوقف على السير والتحول ليقفوا على أمر أمثالهم. وحكاية أشكالهم ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك لأن من تقدمهم كعاد وثمود كانوا أشد منهم قوة جسمانية وأثاروا الأرض حرثوها وهو إشارة إلى القوة المالية. ثم أشار إلى القوة الظهرية التي يستند إليها عند الضعف والفتور وهي الحصون والعمائر بقوله وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها هؤلاء يعني أهل مكة كانوا أهل واد غير ذي زرع ما لهم أثارة أرض أصلا ولا عمارة لها رأسا، ففيه نوع تهكم بهم. قال أهل البرهان: إنما قال في هذه السورة وفي آخر «فاطر» وفي «المؤمن» أَوَلَمْ يَسِيرُوا بالواو وفي غيرهن أفلم بالفاء لأن ما قبلها في هذه السورة أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا وما بعدها وَأَثارُوا بالواو فوافق ما قبلها وما بعدها. وكذا في «فاطر» ما قبله وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا وما بعده وَما كانَ [الآية: 43، 44] وفي «المؤمن» ما قبله وَالَّذِينَ يَدْعُونَ وأما في آخر «المؤمن» فما قبله أَيَّ آياتِ اللَّهِ وما بعده فَما أَغْنى عَنْهُمْ [الآية: 82] وكلاهما بالفاء. قوله في هذه السورة مِنْ قَبْلِهِمْ متصل بكون آخر مضمر. وقوله كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وكذا معطوفاه إخبار عما كانوا عليه قبل الإهلاك. وإنما قال في «فاطر» وَكانُوا بزيادة الواو لأن التقدير فينظروا كيف أهلكوا وكانوا أشد، وخصت السورة به لقوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ [فاطر: 44] وقال في «المؤمن» كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ فأظهر «كان» وزاد لفظه «هم» لأن الآية وقعت في أوائل قصة موسى وهي تتم في ثلاثين آية، فكان اللائق به البسط دون الوجازة ولم يبسط هذا البسط في آخر السورة اكتفاء بالأول والله أعلم. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بوضع الأنفس الشريفة في موضع خسيس هو عبادة الأصنام. قال أهل السنة: هذا الوضع كان بمشيئة الله وإرادته لكنه صدر عنهم فأضيف إليهم والسوأى تأنيث الأسوإ وهو الأقبح وهي خبر «كان» فيمن قرأ عاقِبَةَ بالرفع واسم «كان» فيمن قرأ عاقِبَةَ بالنصب. و «ثم» لتفاوت الرتبة، وفي التركيب وضع للمظهر موضع المضمر. والمعنى أنهم أهلكوا ثم كانت عاقبتهم السوأى وهي عذاب النار. وأَنْ كَذَّبُوا المعنى لأن «أو» بأن كذبوا أو هو تفسير أساؤا على أن الإساءة في معنى القول نحو: نادى وكتب معناه أي كذبوا وجوز جار الله أن يكون السوأى مفعول أَساؤُا وأَنْ كَذَّبُوا عطف بيان لها، وخبر «كان» محذوف إرادة الإبهام ليذهب الوهم كل مذهب فيكون تقدير الكلام. ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايا أن كذبوا كذا وكذا مما لا يكتنه كنهه. قال أهل التحقيق: ذكر الزيادة في حق المحسن في قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يوسف: 26] ولم يذكر في الحق المسيء لأن جزاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 سيئة سيئة بمثلها، وذكر السبب في العقوبة وهو قوله أَنْ كَذَّبُوا ولم يذكره في الآية ليعلم أن إحسانه لا يتوقف على السبب بل فضله كاف فيه. وحين ذكر أن عاقبتهم النار وكان في ذلك إشارة إلى الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة فقال اللَّهُ يَبْدَؤُا يعني من خلق بالقدرة والإرادة لا يعجز عن الرجعة والإعادة. ثم بين ما يكون وقت الرجوع فقال وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ يعني في ذلك اليوم يتبين إفلاسهم ويتحقق إبلاسهم وهو سكوت مع تحير ويأس مع بؤس ويأس لا اليأس الذي هو إحدى الراحتين وذلك إذا كان المرجو أمرا غير ضروري فيستريح الطامع من الانتظار. ثم ذكر وجه الإبلاس وذلك قوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ يجحدونها وقتئذ بقوله سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ [مريم: 82] أو وكانوا في الدنيا كافرين بسببهم. ثم حكى أنهم يعني المسلمين والكافرين يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فريق في الجنة وفريق في السعير تفصيله في الآيتين بعده والروضة عندهم كل أرض ذات نبات وماء. وفي الأمثال «أحسن من بيضة في روضة» يعنون بيضة النعامة وتنكير روضة للتعظيم ومعنى يُحْبَرُونَ يسرون بأنواع المسار لحظة فلحظة. حبره إذا سره سرورا تهلل ببشر. وخصه مجاهد بالتكريم، وقتادة بالتنعيم، وابن كيسان بالتحلية، ووكيع بالسماع. عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن في الجنة لنهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء رخصة يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة» «1» قال الراوي: سألت أبا الدرداء بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح. وروي أن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا. وأما معنى مُحْضَرُونَ لا يغيبون عنه وقد مر في قوله ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص: 61] وإنما أهمل ذكر الفسقة من أهل الإيمان اكتفاء بما ذكر في الآيات الأخر كقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] وكقوله إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ إلى قوله تُبْتُ الْآنَ [النساء: 17- 18] قال جار الله: لما ذكر الوعد والوعيد أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد وقال آخرون: لما ذكر عظمته في المبدأ بقوله ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وفي الانتهاء بقوله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ وكرر ذكر قيام الساعة للتأكيد والتخويف، أراد أن ينزه نفسه عن كل سوء ويثبت لذاته كل حمد ليعلم أنه منزه عن طاعات المطيعين، محمود على كل ما يوصل   (1) رواه الترمذي في كتاب الجنة باب 24. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 إلى المكلفين، مذكور على لسان أهل السموات والأرضين. والتسبيح في الظاهر هو تنزيه الله من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما في كل منها من كل نعمة متجددة. وخص بعضهم التسبيح بالصلاة لما روي عن ابن عباس أنه قال تُمْسُونَ صلاتا المغرب والعشاء وتُصْبِحُونَ صلاة الفجر وَعَشِيًّا صلاة العصر ويَظْهَرُونَ صلاة الظهر أمر بالصلاة في أول النهار ووسطه وآخره، وأمر بالصلاة أول الليل ووسطه وهو العشاء بقوله صلى الله عليه وسلم «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وبتأخير العشاء إلى نصف الليل» ولم يأمر بالصلاة في آخر الليل لأن النوم فيه غالب وإنه منّ على عباده بالاستراحة في الليل بالنوم في مواضع منها قوله وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ [الروم: 23] كما يجيء. روي عن الحسن أن الآية مدنية بناء على أنه كان يقول: فرضت الصلوات الخمس بالمدينة وكان الواجب بمكة ركعتين في غير وقت معلوم. وقول الأكثر إن الخمس فرضت بمكة. قوله وَعَشِيًّا معطوف على حِينَ وما بينهما وهو قوله وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اعتراض. قال جار الله: معناه إن على المميزين كلهم من أهل السموات والأرض أن يحمدوه قلت: فيه أيضا أن الله غني عن تسبيح المسبحين فلو لم يحمده حامد فله استئهال الحمد على الإطلاق ولو حمدوه لعاد نفعه إليهم. وقدم الإمساك لأن الظلمة عدمية والأصل في الأشياء العدم، وقدم العشي على الظهيرة لأجل الفاصلة أو للتنبيه على فضيلة صلاة العصر، ولعل في تقديم الاعتراض المذكور على العشي إشارة إلى هذا ومعنى ويُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قد سلف مرارا ويحتمل أن يراد هاهنا اليقظان والنائم لقوله وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي من القبور، فتنبيه النائم بعد اليقظة يشبه الإعادة، وكذا رد الأرض إلى حالة الخضرة والنضرة بعد ذبولها. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون إلى قوله وكذلك تخرجون أدرك ما فاته من يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته من ليلته» ثم أراد أن يذكر الحجج الباهرة على استحقاق التسبيح والتحميد له فقال وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ أي أصلكم أو كلا منكم كما مر في أول الحج مِنْ تُرابٍ وذلك أن التراب أبعد الأشياء عن درجة الإحياء لكثافته ولبرودته ويبسه والحياة بالحرارة والرطوبة، ولكدورته والروح نير ولثقله وخفة الأرواح ولسكونه والحي متحرك حساس. ولا تتنافي بين هذا وبين قوله خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً [الفرقان: 54] لأنه أراد الأصل الثاني الذي هو النطفة، أو أراد أن أصل البشر في الظاهر هو التراب والماء وأما النار فللإنضاج، والهواء فللاستبقاء كالزق المنفوخ يقوم بالهواء، وثُمَّ لتبعيد الرتبة وإِذا للمفاجأة أي ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا. قالوا: فيه إشارة إلى مسألة حكمية وهي أن الله تعالى يخلق أولا إنسانا فيتبعه أنه حيوان تام لا أنه يخلق أولا حيوانا ثم يجعله إنسانا، فخلق الأنواع هو المراد الأول ثم تكون الأنواع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 فيها الأجناس بتلك الإرادة الأولى. وقوله بَشَرٌ إشارة إلى القوة المدركة التي البشر بها بشرو بها يمتاز عن غيره من الحيوانات. وقوله تَنْتَشِرُونَ إشارة إلى القوة المتحركة التي بها الحيوان حيوان فكأنه أشار إلى فصله وجنسه، وكان الأولى تقديم الجنس على الفصل، إلا أنه عكس الترتيب لأنه كأنه قال: العجب غير مختص بالإنسان بل الحيوان المنتشر من التراب الساكن عجيب أيضا. والانتشار إما بمعنى التردد في الحوائج كقوله فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10] وإما بمعنى البث والتفريق كقوله وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النساء: 1] . وحين بين خلق الإنسان ولم يكن مما يبقى على مر الزمان منّ عليهم بأن جعل نوع الإنسان باقيا بتعاقب الأشخاص فقال وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ ولا يلزم منه أن لا يكنّ مخلوقات للعبادة والتكليف لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، فقد يكون الشيء مختصا باثنين وجعل مهيأ لآخرين على أن النعمة ما كانت تتم علينا إلا بتكليفهن، فلولا خوف العقاب لتمردت النسوان على أزواجهن. ومِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم أو هو إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم وقد مر في «النحل» ويشهد للتفسير الأول قوله لِتَسْكُنُوا إِلَيْها فإن الجنس إلى الجنس أسكن وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً عن الحسن هي الجماع وَرَحْمَةً هي الولد. وقال غيره: المودة حالة حاجة نفسه إليها، والرحمة حالة حاجة صاحبته إليه، وقد تفضي المودة إلى مجرد الرحمة وذلك إذا خرجت عن محل الشهوة بكبر أو مرض، أو خرج عن إمكان رعاية حقها بكبر أو زمانة أو فقر. قال بعضهم: المودة والرحمة بعصمة الزواج من غير سابقة معرفة وقرابة وهي من قبل الله، والفرك من قبل الشيطان إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق والجعل لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فخلق الإنسان من الوالدين آية، وجعل أحدهما ذكرا والآخر أنثى آية، وخروج الولد الضعيف من الموضع الضيق آية، وجعل التوادد بين الزوجين من غير صلة رحم آية ولما ذكر دلائل الأنفس أتبعها دلائل الآفاق وأعظمها خلق السموات والأرض، فإن خلق المركبات قد يسنده بعض الجهلة إلى ما في العناصر من الكيفيات وإلى ما في السموات من الحركات والاتصالات، وأما السماء والأرض فلا يجد بدا من أن يقول: إنهما بقدرة الله تعالى. ثم عاد إلى ذكر أحوال الأنفس ومن جملتها اختلاف الألسنة لا جرمها، فإن التباين بين أجرامها ليس يبلغ إلى حد يعد آية بل وصفها وهو النطق وتقطيع الأصوات اللذان بهما يمتاز بعض الأصناف والأشخاص عن بعض، واختلاف الألوان والحلي فبذلك يقع التفاوت ويرتفع الاشتباه، فحس البصر يدرك اختلاف الصور وحسن السمع يدرك اختلاف الأصوات وأما اللمس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 والشم والذوق فلا حكم ظاهرا لها في باب التمييز بين الأشخاص الإنسانية. وحيث ذكر بعض العرضيات اللازمة أراد أن يذكر الأعراض المفارقة بعضها فقال وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ قال جار الله: هذا من باب اللف والنشر وتقدير الكلام. ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار ليكون موافقا لما جاء في مواضع أخر كقوله وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ: 10، 11] وقدم المنام على الابتغاء لأن الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة قال: وإنما فصل بين القرينتين الأوليين بالقرينتين الآخريين لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد يعني كأنه لم يعطف النهار على الليل والابتغاء على المنام. وجوز أن يراد منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، فان الإنسان كثيرا ما ينام بالنهار ويكسب بالليل. وفي اقتران الفضل بالابتغاء إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من نفسه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه. ثم أشار إلى عوارض الآفاق فقال وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ فأضمر «أن» وأسكن الياء بعد حذفها وإنزال الفعل منزلة المصدر كما في المثل السائر «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» قيل: لما كان البرق من الأمور التي تتجدد زمانا دون زمان ذكره بلفظ المستقبل ولم يذكر معه «أن» وقيل: ومن آياته كلام كاف كما تقول: منها كذا ومنها كذا. وتسكت تريد بذلك الكثرة: وقيل: أراد ويريكم من آياته البرق. وانتصاب خَوْفاً وَطَمَعاً كما مر في «الرعد» ثم ذكر بعض لوازم الآفاق قائلا وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ فقيام السموات والأرض استمساكهما بغير عمد، ومن نسب ذلك إلى الطبيعة فلا بد أن يستند الطبع إلى واجب لذاته وأمره أن يقول لهما كونا كذلك نظيره قوله إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ إلى قوله مِنْ بَعْدِهِ [فاطر: 41] واعلم أن الأمر عند المعتزلة موافق للإرادة، وعند الأشاعرة ليس كذلك. ولكن النزاع في الأمر الذي هو للتكليف لا الذي للتكوين، فإن قوله كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] موافق للإرادة بالاتفاق. قال جار الله: قوله إِذا دَعاكُمْ بمنزلة قوله يُرِيكُمُ في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى كأنه قال: ومن آياته قيام السموات والأرض، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاكم مرة واحدة يا أهل القبور اخرجوا والمراد سرعة الخروج من غير توقف وإلا فلا أمر ظاهرا. أو أراد نداء الملك والأرض مكان المدعو على التقديرين لا الداعي إذ لا مكان لله مطلقا ولا للملك في جوف الأرض. نعم، لو كان المراد أن الملك يدعوهم وهو على وجه الأرض جاز. ومعنى «ثم» عظم ما يكون من ذلك الأمر وتهويل لتلك الحالة، وإذا الأولى للشرط، والثانية للمفاجأة نائبة مناب الفاء. واعلم أنه تعالى ذكر في كل باب أمرين: أما من الأنفس فخلق البشر ثم خلقهم زوجين، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 وأما من الآفاق فخلق السموات والأرض. ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان والألوان، ومن عوارضه المنام والابتغاء، ومن عوارض الآفاق البروق والأمطار، ومن لوازمها قيام السماء والأرض. والواحد يكفي للإقرار بالحق، إلا أن الثاني يجري مجرى الشاهد الآخر. وراعى في تعداد العرضيات لطيفة، بدأ باللوازم وختم باللوازم وذلك أن الإنسان متغير الحال، فالأحوال اللازمة له أغرب والأفلاك ثابتة بالنسبة إلى الإنسان فعوارضها أغرب، وبدأ في كل باب بما هو أعجب، وإنما ختم الآية الأولى بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لأن الفكر يؤدي إلى الوقوف على المعاني المقتضية للإنس والسكون وعلى دقائق صنع الله في خلق الإنسان وبثهم في الأرض، أو نقول: إن من الأشياء ما يعلم بمجرد الفكر كدقائق حكمة الله في خلق الإنسان، لأن أقرب الأشياء إلى الإنسان هو ذاته فلذلك قال هنالك لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ومنها ما يعلم من غير تجشم فكر كالاستدلال على قدرة الله بخلق السماء والأرض، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، فإن الكل تظلهم السماء وتقلهم الأرض. وكل واحد منفرد بلطيفة في صورته يمتاز بها عن غيره، ولهذه يشترك في معرفتها الناس جميعا فلهذا قال لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ ومن حمل اختلاف الألسن على اللغات اختلاف الألوان على البياض والسواد والصفرة والسمرة، فالاشتراك في معرفتها أيضا ظاهر. ومن قرأ لِلْعالِمِينَ بكسر اللام فقد أحسن، فبالعلم يمكن الوصول إلى معرفة ما سبق ذكره، ومن الأشياء ما يحتاج الفكر فيه إلى إعانة مرشد كالمنام والابتغاء فإنهما لزوالهما في بعض الأوقات قد يرفعان لوازمهما فلهذا قال لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن معنى يَسْمَعُونَ هاهنا يستجيبون لما يدعون إليه، ثم إن حدوث الولد من الوالدين كالأمر المطرد العادي فكان الولد يمكن أن يسبق إلى الوهم إسناده إلى الطبيعة فأمر هنالك بالفكر. وأما البرق والمطر فليس أمرا عاديا ولذلك يختلف بالشدة والضعف وبحسب الأوقات والأمكنة فالعقل الصحيح يجزم بأن من فعل الفاعل المختار فلذلك قال لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وقيل: إن العقل ملاك الأمر وهو المؤدي إلى العلم فوقع الختم عليه. وحين فرغ من تعداد الآيات وكان مدلولها الوحدانية التي هي الأصل الأول والقدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر أكد الأول بقوله وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ مطيعون منقادون وأكد الأصل الآخر بل كلا الأصلين بقوله وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ يعني أن يعيده أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي في نظركم وعند معقولكم وإلا فلا صعوبة في الإبداء أصلا حتى يقع التفضيل على حده. وإنما أخرت الصلة هاهنا وقدمت في قوله في سورة مريم وهُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم: 9] لأنه قصد هناك الاختصاص يعني أن خلق الولد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 بين هرم وعاقر لا يهون إلا علي. ولا معنى للاختصاص هاهنا فإن الأمر مبني على المعقول بين الآدميين من ان المعاد أهون من المبدأ ولهذا قيل: أول الغزو أخرق. وليس الدخيل في أمر كالناشىء عليه. ومن الدليل العقلي على هذا المطلوب أن الإبداء خلق الأجزاء وتأليفها، والإعادة تأليف فقط، ولا شك أن أمرا واحدا أهون من الأمرين ولا يلزم منه أن يكون في الأمرين صعوبة فإن من قال: الرجل القوي يقدر على حمل شعيرة من غير صعوبة وسلم السامع له ذلك فإذا قال فلان لا يتعب من حمل خردلة وإن حمل خردلة أهون عليه. كان كلاما معقولا وقد أجرى الزجاج قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مجرى المثل فيما يصعب ويسهل. وفسر به قوله وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى يعني هذا مثل مضروب لكم في الأرض وله المثل الأعلى من هذا المثل ومن كل مثل يضرب في السموات فيما بين الملائكة. وعن ابن عباس: أراد أن فعله وإن شبهه بفعلكم ومثله به لكنه ليس كمثله شيء فله المثل الأعلى وقال جار الله: المثل الوصف أي له الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله قد عرف به ووصف في السموات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وهو أنه القادر الذي يقدر على الخلق والإعادة، العليم الذي لا يعزب عن علمه شيء فلا يصعب عليه جمع الأجزاء بعد تفرّقها على الوجه الذي يقتضيه التدبير ولهذا ختم الآية بقوله: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وعن مجاهد: المثل الأعلى وصفه بالوحدانية وهو قوله «لا إله إلا الله» وقد ضرب لذلك مثلا. ومعنى مِنْ أَنْفُسِكُمْ أنه أخذ مثلا وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم و «من» للابتداء وفي قوله مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ للتبعيض، والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. والمعنى هل ترضون لأنفسكم أن يكون لكم شركاء من بعض عبيدكم يشاركونكم فيما رزقناكم من الأموال والأملاك فَأَنْتُمْ يعني بسبب ذلك أنتم أيها السادات والعبيد في ذلك المرزوق سَواءٌ من غير تفضيل وففضل للأحرار على العبيد تَخافُونَهُمْ أن تستبدوا بتصرف دونهم كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي كما يهاب بعضكم بعضا من الأحرار. والحاصل أن من يكون له مملوك لا يكون شريكا له في ماله ولا يكون له حرمة كحرمة سيده فكيف يجوز أن يكون عباد الله شركاء له أو شفعاء عنده بغير إذنه؟ وكيف يجوز أن يكون لهم عظمة مثل عظمة الله حتى يعبدوا كعبادته على أن مملوككم ليس مملوكا لكم في الحقيقة ليس إلا اختصاص المبايعة، ولهذا لا حكم لهم عليهم بالقتل والقطع وبالمنع من الفرائض وقضاء الحاجة والنوم. وقد يزول الاختصاص بالبيع والعتق ومملوك الله لا خروج له من ملكه بوجه من الوجوه وفي قوله فِي ما رَزَقْناكُمْ إشارة إلى أن الذي هو لكم ليس في الحقيقة لكم وإنما الله استخلفكم فيه ورزقكموه من فضله كَذلِكَ أي مثل هذا التفصيل والتبعيد للتعظيم أو لدخوله في حيز الذكر أو المضي نُفَصِّلُ الْآياتِ نبينها لِقَوْمٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 يَعْقِلُونَ لأن التمثيل إنما يكشف المعاني لأرباب العقول. ثم شوه صورة الشرك بقوله بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي أشركوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فهوى العالم ربما يتبدل بالهدى وأما الجاهل فإنه هائم في هواه كالبهائم لا يرجى ارعواه يؤكده قوله فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ والإضلال هاهنا لا يخفى أن الأشاعرة يحملونه على خلق الضلال في المكلف، والمعتزلة يحملونه على الخذلان ومنع الألطاف وقد تقدم مرارا. ثم قال لرسوله ولأمته تبعية إذا تبين الحق وظهرت الوحدانية فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي سدده نحوه غير مائل إلى غيره من الأديان الباطلة فِطْرَتَ اللَّهِ أي الزموها أو عليكم بها. قال جار الله: إنما أضمرته على خطاب الجماعة لقوله مُنِيبِينَ وهو حال منهم ولأن الأمر والنهي بعده معطوفان عليه لكنك قد عرفت في الوقوف أن هذا التقدير غير لازم وعلى ذلك يحتمل أن يقدر الزم أو عليك أو أخص أو أريد وأشباه ذلك. وفطرة الله هي التوحيد الذي تشهد به العقول السليمة والنظر الصحيح كما جاء في الحديث النبوي «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه» «1» . ويحتمل أن تكون الفطرة إشارة إلى أخذ الميثاق من الذر. وقوله لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ نفي في معنى النهي أي لا تبدلوا خلقه الذي فطركم عليه لكن الإيمان الفطري غير كاف. وقيل: هو تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يؤمن قومه فكأنه قال: إنهم أشقياء ومن كتب شقيا لم يسعد. وقيل: أراد أن الخلق لا خروج لهم عن عبوديته بخلاف مماليك الإنسان فإنهم قد يخرجون من أيديهم بالبيع والعتق. وفيه فساد قول من زعم أن العبادة لتحصيل الكمال فإذا كمل العبد لم يبق عليه تكليف، وفساد قول الصابئة وبعض أهل الشك أن الناقص لا يصلح لعبادة الله وإنما الإنسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله، وفساد قول النصارى والحلولية أن الله يحل في بعض الأشخاص كعيسى وغيره فيصير إلها. ومعنى فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً قد مر في آخر «الأنعام» وأنهم فرق كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها وقال أهل التحقيق: بعضهم يعبد الدنيا وبعضهم يعبد الهوى وبعضهم يريد الجنة وبعضهم يطلب الخلاص من النار. ومعنى كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ قد مر في «المؤمنين» وجوز جار الله أن يكون مِنَ الَّذِينَ منقطعا عما قبله وكُلُّ حِزْبٍ مبتدأ وفَرِحُونَ صفة كل ومعناه من المفارقين دينهم كل حزب بصفة كذا والله أعلم.   (1) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 80. كتاب تفسير سورة 30 باب 1. مسلم في كتاب القدر حديث 22، 23، 24، أحمد في مسنده (2/ 315، 346) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 التأويل: الألف ألفة طبع المؤمنين، واللام لوم طبيعة الكافرين، والميم مغفرة رب العالمين، فمن الألفة أحبوا أهل الكتاب، ومن اللوم أبغضهم الكافرون، ومغفرة رب العالمين شملت الفريقين حتى قال إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53] إلا أن يكون هناك مخصص. ثم أشار إلى أن حال أهل الطلب يتغير بتغير الأوقات فيغلب فارس النفس روم القلب تارة وسيغلب روم القلب فارس النفس بتأييد الله ونصره فِي بِضْعِ سِنِينَ من أيام الطلب وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ وهم الروح والسر والعقل. أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي استعداد أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ الروحانية وَالْأَرْضَ النفسانية إلا ليكون مظهرا للحق ولأجل مسمى بالصبر والثبات في تصفية مرآة القلوب عن صدا الأوصاف الذميمة النفسانية. والأجل المسمى هو أوان صفاء القلب متوجها إلى الحق أَوَلَمْ يَسِيرُوا في أرض البشرية بالسلوك لتبديل الأخلاق والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم الفلاسفة والبراهمة المعتمدون على مجرد البراهين من غير اعتبار الشرائع. والسوأى هي أن صاروا أئمة الكفر والضلال. اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بتصيير النفس متعلقة بالقالب ثُمَّ يُعِيدُهُ بطريق السير والسلوك والعبور عن المنازل والمقامات إلى عالم الأرواح ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بجذبة ارْجِعِي [الفجر: 28] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ الإرادة يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ بتضييع الأوقات في طلب ما سوى الله. ويوم تقوم الساعة قيامة العشق يومئذ تتفرق المحبون، فبعضهم يطلب الجنة، وبعضهم يطلب الوصلة، وبعضهم يريد الوحدة فَسُبْحانَ اللَّهِ حين تغلبون على ليل نيل الشهوات وحين صباح نهار تجلي شموس الوصال، وله الحمد إن كنتم في سموات القربات أو أرض البعد والغفلات، وسبحانه في عشاء غشاء القساوة وفي حالة استواء شمس المعرفة في وسط سماء القلب، فإن الربح الخسران في كلتا الحالتين راجع إلى الطائفتين والله منزه عن العالمين. يخرج القلب الحي بنور الله من النفس الميتة في ظلمات صفاتها إبرازا للطفه، ويخرج القلب الميت عن الأخلاق الحميدة من النفس الحية بالصفات الحيوانية، إظهارا لقهره، ويحيي أرض القلوب بعد موتها وكذلك تخرجون بدأ وإعادة. فمن آياته خلق سموات القلوب وأرض النفوس، واختلاف ألسنة القلوب وألسنة النفوس، فلسان القلب يتكلم بلغة العلويات، ولسان النفس يتكلم بلغات السفليات واختلاف أَلْوانِكُمْ وهي الطبائع المختلفة. منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة ومنكم من يريد الله وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ في ليل البشرية وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ في نهار الروحانية والمكاشفات الربانية لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ كلام الله من شجرة الوجود، ويريكم بروق شواهد الحق ثم اللوامع ثم الطوالع. فتلك الأنوار ترى شهوات الدنيا نيرانا فيخاف منها، وترى مكاره التكاليف جنانا فيطمع فيها. أن تقوم سماء النفس وأرض القلب بأمره لأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 الروح من أمره ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ بجذبة ارْجِعِي [الفجر: 28] إِذا أَنْتُمْ يعني النفس والقلب والروح تَخْرُجُونَ من أنانية وجودكم وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ لأنه في البداية كان مباشرا بنفسه وفي الإعادة يكون المباشر إسرافيل بنفخه، والمباشرة بنفس الغير في العمل أهون من المباشرة بنفسه عند نظر الخلق. ويحتمل أن يكون أهون من الهون بالضم وهو الذلة والضمير للخلق، وذلك أنهم في البداية لم يكونوا ملوثين بلوث الحدوث، ولا مدنسين بأدناس الشرك والمعاصي، فلعزتهم في البداية باشر خلقهم بنفسه، ولهونهم في الإعادة باشرهم بغيره، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فيما أودع من الآيات في سموات الأرواح وأرض القلوب. ضَرَبَ لَكُمْ أي للروح والقلب والسر والعقل مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من الأعضاء والجوارح والحواس والقوى فِي ما رَزَقْناكُمْ من العلوم والكشوف تَخافُونَهُمْ أن لا يضيعوا شيئا من المواهب بالتصرفات الفاسدة كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي كخيفة الروح من القلب أن لا يضيع شيئا منها بأن يصرفها في غير موضعها رياء وسمعة وهوى، أو كخيفة القلب من السر والعقل بأن يصرفها فيما يفسد العقائد ويوقع في الشكوك. فكما لا يصلح هؤلاء لشركتكم فكذلك لا تصلحون أنتم لشركتي إذا تجليت عليكم، فدعوى الاتحاد والحلول باطلة والكبرياء ردائي لا غير. [سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 60] وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 القراآت: آتَيْتُمْ مِنْ رِباً مقصورا: ابن كثير لتربوا بضم التاء وسكون الواو على الجمع: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب لنذيقهم بالنون: ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل يرسل الريح على التوحيد: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف كسفا بالسكون: يزيد وابن ذكوان آثارِ على الجمع: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد ضَعْفٍ وما بعده بفتح الضاد: حمزة وعاصم غير للفضل. الباقون: بالضم وهو اختيار خلف وحفص لا يَنْفَعُ بياء الغيبة: حمزة وعلي وخلف وعاصم. والآخرون: بتاء التأنيث لا يَسْتَخِفَّنَّكَ بالنون الخفيفة: رويس عن يعقوب. الوقوف: يُشْرِكُونَ هـ لا وقد يوقف على توهم لام الأمر آتَيْناهُمْ ط للعدول إلى الخطاب وابتداء أمر التهديد فَتَمَتَّعُوا قف لاستئناف التهديد تَعْلَمُونَ هـ يُشْرِكُونَ هـ بِها ج ط فصلا بين النقيضين يَقْنَطُونَ هـ وَيَقْدِرُ ج يُؤْمِنُونَ هـ وَابْنَ السَّبِيلِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 ط وَجْهَ اللَّهِ ز ط الْمُفْلِحُونَ هـ عِنْدَ اللَّهِ ج ط لعطف جملتي الشرط الْمُضْعِفُونَ هـ يُحْيِيكُمْ ط شَيْءٍ ط يُشْرِكُونَ هـ يَرْجِعُونَ هـ مِنْ قَبْلُ ط مُشْرِكِينَ هـ يَصَّدَّعُونَ هـ كُفْرُهُ ج لما مر يَمْهَدُونَ هـ لا وقد يوقف على جعل اللام للقسم وحذف نون التأكيد مِنْ فَضْلِهِ هـ الْكافِرِينَ هـ تَشْكُرُونَ هـ جْرَمُوا ط وقيل: يوقف على قًّا أي وكان الانتقام حقا. ثم ابتدأ علينا أي واجب عليناصْرُ الْمُؤْمِنِينَ هـ خِلالِهِ ط ج للشرط مع الفاء يَسْتَبْشِرُونَ هـ لَمُبْلِسِينَ هـ مَوْتِها ط الْمَوْتى ج لاتفاق الجملتين مع العدول عن بيان الإحياء إلى بيان القدرة قَدِيرٌ هـ يَكْفُرُونَ هـ مُدْبِرِينَ هـ ضَلالَتِهِمْ ط مُسْلِمُونَ هـ وَشَيْبَةً ط ما يَشاءُ ج ط لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقول الْقَدِيرُ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ لا لأن ما بعده جواب القسم غَيْرَ ساعَةٍ ط يُؤْفَكُونَ هـ يَوْمِ الْبَعْثِ ز لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقول لا تَعْلَمُونَ هـ يُسْتَعْتَبُونَ هـ مَثَلٍ ط مُبْطِلُونَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ لا يُوقِنُونَ هـ. التفسير: لما بين التوحيد بالدلائل وبالمثل بين أنه أمر وجداني يعرفونه في حال الضر والبلاء وإن كانوا ينكرونه في حال الرحمة والرخاء، وفي لفظي المس والإذاقة دليل على أن الإنسان قليل الصبر في حالتي الضراء والسراء. وإنما قال إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ ولم يقل «إذا هم يشركون» كما قال في آخر «العنكبوت» ، لأن الكلام هناك مع أهل الشرك وهاهنا مع الناس كلهم وليس كل الناس كذلك. ثم استفهم على سبيل الإنكار قائلا أَمْ أَنْزَلْنا كأنه قال: إذا تقررت الحجج المذكورة فماذا يقولون، أيتبعون أهواءهم بغير علم أم لهم دليل على ما يقولون؟ وإسناد التكلم الى الدليل مجاز كما تقول: نطقت الحال بكذا. و «ما» في قوله بِما كانُوا مصدرية والضمير في بِهِ لله أو موصولة والضمير لها أي بالأمر الذي بسببه يشركون، ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي ذا سلطان وهو الملك فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه يُشْرِكُونَ وحين ذكر الشرك الظاهر أتبعه ذكر الخفي وهو أن تكون عبادة الله للدنيا فإذا أتاه بهواه رضي، وإذا منع وتعسر سخط وقنط، والرحمة المطر والصحة والأمن وأمثالها، والسيئة أضداد ذلك. وإنما لم يذكر سبب الرحمة ليعلم أنها بفضله وذكر سبب السيئة وهو شؤم معاصيهم ليدل على عدله. والفرح بالنعمة مذموم إذا كان مع قطع النظر عن المنعم، فإذا كان مع ملاحظة المنعم فمحمود بل الفرح الكلي يجب أن يكون بالمنعم. والقنوط من رحمة الله أيضا مذموم كما مر في قوله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف: 87] ثم أشار بقوله أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ إلى أن الكل من الله فيجب أن يكون نظر المحقق في الحالين على الله. ففي حالة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 الرحمة يشتغل بالشكر، وفي حالة الضراء لا ينسب الله إلى عدم القدرة وإلى عدم العناية بحال العبد بل يشتغل بالتوبة والإنابة إلى أوان الفرج والنصر، وهذه مرتبة المؤمن الموحد فلذلك قال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ولا يخفى أن بسط الرزق مما يشاهد ويرى فلذلك قال أَوَلَمْ يَرَوْا وقال في «الزمر» أَوَلَمْ يَعْلَمُوا [الآية: 52] مناسبة لما قبله وهو أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ [القصص: 78] وقوله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قال جار الله: لما ذكر أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك قائلا فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ الآية. وأقول: لما بين كيفية التعظيم لأمر الله أشار إلى الشفقة على خلق الله قائلا فَآتِ أيها المكلف أو النبي والأمة يتبعونه لا محالة كما مر في قوله فَأَقِمْ وَجْهَكَ [الروم: 30] وفيه أن الله إذا بسط الرزق فلا ينقص بالإنفاق، وإذا ضيق لم يزدد بالإمساك، فينبغي أن لا يتوقف الإنسان في الإحسان. وفي تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر دلالة على أنهم أولى بالإشفاق عليهم من سائر الأصناف. وإنما قال ذَا الْقُرْبى ولم يقل «القريب» ليكون نصا في معناه ولا يشتبه بالقرب المكاني، وفيه أن القرابة أمر له دوام بخلاف المسكنة وكونه من أبناء السبيل. وفي قوله فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دون أن يقول «فآت هذه الأصناف حقوقهم» تشريف لذوي القرابة حيث جعل الصنفين الآخرين تابعا لهم على الإطلاق. فإنه إذا قال الملك: خل فلانا يدخل وفلانا أيضا كان أدخل في التعظيم من أن يقول: خل فلانا وفلانا يدخلان ذلِكَ الإيتاء خَيْرٌ في نفسه أو خير من المنع لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي ذاته أو جهة قربته فإن من أنفق ألوفا رياء وسمعة لم ينل درجة من أنفق رغيفا لوجه الله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ كقوله في أول «البقرة» لأن قوله فَأَقِمْ وَجْهَكَ [الروم: 30] اشارة إلى الإيمان بالغيب وغيره أو إلى إقامة الصلاة، وقوله وَآتِ ذَا الْقُرْبى أمر بالزكاة بل بالصدقة المطلقة. وفي قوله يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ إشارة إلى الاعتراف بالمعاد. ثم أراد أن يعظم شأن الصدقة فضم إلى ذلك تقبيح أمر الربا استطرادا. فمن قرأ ممدودا فظاهر، ومن قرأ مقصورا فهو من الإتيان أي وما غشيتموه أو أصبتموه من إعطاء ربا ليربو أي ليزيد في أموال أكلة الربا، وفي القراءة الأخرى ليزيد في أموالهم فَلا يَرْبُوا فلا يزكو ولا ينمو عِنْدَ اللَّهِ لأنه يمحق بركتها نظيره ما مر في آخر البقرة يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [الآية: 276] قيل: نزلت في ثقيف وكانوا يرابون. وقيل: نزلت في الهبة أو الإهداء لأجل عوض زائد، فبين الله تعالى أن ذلك لا يوجب الثواب عند الله وإن كان مباحا. وفي الحديث «الجانب المستغزر يثاب عن هبته» أي الرجل الغريب إذا أهدى شيئا فإنه ينبغي أن يزاد في عوضه. قال جار الله: في قوله فَأُولئِكَ التفات حسن كأنه قال ذلك لخواصه ولملائكته وهو أمدح لهم من أن يقول «فأنتم المضعفون» أي ذوو الإضعاف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 من الحسنات نظيره المقوي والموسر لذوي القوة واليسار، والرابط محذوف أي هم المضعفون به. وجوز في الكشاف أن يراد فمؤتوه أولئك هم المضعفون. قالت العلماء: أراد الإضعاف في الثواب لا في المقدار، فليس من أعطى رغيفا فإن الله يعطيه عشرة أرغفة، وإنما المراد أن الرغيف الواحد لو اقتضى أن يكون ثوابه قصرا في الجنة فإن الله تعالى يعطيه عشرة قصور تفضلا. ثم عاد إلى بيان التوحيد مرة أخرى بتذكير الخلق والرزق والإماتة والإحياء بعدها نظرا إلى الدلائل، ثم طلب منهم الإنصاف بقوله هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ قال جار الله: «من» الأولى والثانية والثالثة كل واحدة منهن مستقلة بتأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم. قلت: الأولى للتبعيض كأنه أقام فعل البعض مقام فعل الكل توسعة على الخصم، والثالثة لتأكيد الاستفهام، والمتوسطة للابتداء ولكنه يفيد أنه رضي منهم بشيء واحد من تلك الأشياء للتوسعة المذكورة أيضا. ثم بين أن الشرك وسائر المعاصي سبب ظهور الفساد في البر والبحر وذلك لقلة المنافع وكثرة المضار ومحق البركات من كل شي. وفسره ابن عباس بإجداب البر وانقطاع مادة البحر وتموجه بمائه، وعن الحسن: المراد بالبحر مدن البحر وقراه التي على سواحله، وقال عكرمة: العرب تسمي الأمصار بحارا لِنُذِيقَهُمْ وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن نعاقبهم بجميعها في الآخرة إرادة أن يرجعوا عما هم عليه، وجوز جار الله أن يراد ظهر الشر والمعاصي في الأرض برا وبحرا بكسب الناس. وعلى هذا فاللام في قوله لِنُذِيقَهُمْ لام العاقبة. ثم أمرهم بالنظر في حال أشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم كقوم نوح وعاد وثمود كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فيه إشارة إلى أن بعضهم كانوا مرتكبي ما دون الشرك من المعاصي ولكنهم شاركوا المشركين في الهلاك تغليظا عليهم. أو هو كقوله وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] أو المراد أن أهل الشرك كانوا أكثر من أهل سائر الأديان الباطلة كالمعطلة والمجسمة ونحوهم. خاطب نبيه وبتبعيته أمته بقوله فَأَقِمْ كأنه قال: وإذ قد ظهر فساد سائر الملل والنحل فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ البليغ الاستقامة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ من الله يَوْمٌ لا يرده راد. ويجوز أن يتعلق قوله مِنَ اللَّهِ بقوله لا مَرَدَّ أي لا راد له من جهة الله فلا يقدر غيره على رده فلا دافع له أصلا يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي يتصدعون والتصدع التفرق. ثم بين وجه تفرق الناس بقوله مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي وبال كفره عليه لا على غيره وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً أي آمن وعمل صالحا لأن العمل الصالح لا يتصور إلا بعد الإيمان، على أن الإيمان، أيضا عمل صالح قلبي ولساني وسيصرح به في قوله لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 الصَّالِحاتِ ومعنى يَمْهَدُونَ يوطؤن كما يسوّي الراقد مضجعه، وجوز جار الله أن يراد فعلى أنفسهم يشفقون من قولهم: في المشفق أم فرشت فأنامت. وذلك أن الإشفاق يلزمه التمهيد عرفا وعادة. ثم بين غاية التمهيد بقوله لِيَجْزِيَ وقوله مِنْ فَضْلِهِ عند أهل السنة ظاهر: وحمله المعتزلة على شبه الكناية لأن الفضل تبع للثواب فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له، أو الفضل بمعنى العطاء والثواب. وفي قوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ وعيد عظيم لهم لأنه إذا لم يحبهم أرحم الراحمين فلا يتصور لهم خلاص من عذابه ولا مناص ولا رحمة من جهته ولا نعمة، وفيه تعريض بأنه يحب المؤمنين ولا وعد أعظم من هذا ولا شرف فوق ذلك. قال جار الله: تكرير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح. وقوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس. قلت: يشبه أن يكون مراده أنه ذكر الكافر أولا ثم المؤمن، وفي الآية الثانية قرر أولا أمر المؤمن ثم أردفه بتقرير أمر الكافر. أو أراد أن قوله لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ دل بصريحه على ثواب المؤمن وبتعريضه على حرمان الكافر، وقوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ دل بصريحه على حرمان الكافر وبتعريضه على ثواب المؤمن. فالأول طرد والثاني عكس وكل منهما مقرر للآخر. وحين ذكر ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح وبين أنه من دلائل الوحدانية بقوله وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح لما مر من أن الكريم لا يذكر، لإحسانه سببا ويذكر لأضراره سببا. ومن قرأ على التوحيد فللدلالة على الجنس، ومن قرأ على الجمع فإما لأنه أراد الجنوب والشمال والصبا وهي رياح الرحمة دون الدبور التي هي للعذاب، وإما لأن أكثر الرياح نافعة والضارة كالسموم قليلة جدا لا تهب إلا حينا، وإما لأن الرياح إذا اجتمعت وتزاحمت وتراكمت حتى صارت ريحا واحدا أضرت بالأشجار والأبنية وقلعتها وإذا تفرقت وصارت رياحا اعتدلت ونفعت. قوله مُبَشِّراتٍ أي بالمطر كقوله بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف: 57] وقيل: أي بتصحيح الأهوية وإصلاح الأبدان. وقوله وَلِيُذِيقَكُمْ إما معطوف على ما قبله معنى كأنه قيل: ليبشركم وليذيقكم بعض رحمته لأن راحات الدنيا زائلة لا محالة، وإما معطوف على محذوف أي وليكون كذا وكذا أرسلناها. وفي قوله بِأَمْرِهِ إشارة إلى أن مجرد هبوب الريح لا يكفي في جريان الفلك ولكنها تجري بإذن الله وجعله الريح على اعتدال وقوام. وفي قوله وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ دلالة على أن ركوب البحر لأجل التجارة جائز. وفي قوله وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إشارة إلى أن نعم الله تعالى يجب أن تقابل بالشكر. وإنما بنى الكلام في هذه الآية على الخطاب بخلاف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 418 قوله لنذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون تشريفا لأهل الرحمة، ورحمة الله قريب من المحسنين فكان من حقهم أن يخاطبوا ثم أشار إلى أصل النبوة مع تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لَقَدْ أَرْسَلْنا واختصر الكلام فدل بذكر عاقبة الفريقين المجرم والمؤمن عليهما، فعاقبة المجرمين الذين لم يصدّقوا رسلهم الانتقام منهم، وعاقبة الذين صدّقوهم النصر والظفر على الأعداء. وفي قوله قًّا عَلَيْنا تعظيم لأهل الإيمان ورفع في شأنهم وإلا فلا يجب لأحد على الله شيء. ثم أراد أن يشير إلى الأصل الثالث وهو المعاد فمهد لذلك مقدمة منتزعة مما تقدم ذكره وهو بيان إرسال الرياح لأجل إحداث السحاب الماطر المبسوطة بعضها على الاتصال والمتفرق بعضها كسفا أي قطعا. وقوله فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يخرج من خلاله قد مر في النور. ثم ذكر في ضمن ذلك عجز الإنسان وقلة ثباته وتوكله وقوله مِنْ قَبْلِهِ مكرر للتأكيد ومعناه الدلالة على أن عهدهم بالمطر تطاول فاستحكم بأسهم وتحقق إبلاسهم. وقيل: أراد أنهم من قبل نزول المطر، أو من قبل ما ذكرنا من إرسال الريح وبسط السحاب كانوا مبلسين، وذلك أن عند رؤية السحب وهبوب الرياح قد يرجى المطر فلا يتحقق الإبلاس. ثم صرح بالمقصود قائلا إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإبداء والإعادة قَدِيرٌ. ثم أكد تزلزل الإنسان وتذبذبه وأنه بأدنى سبب يكفر بنعمة الله فقال وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً ضارة باردة أو حارة فَرَأَوْهُ أي رأوا أثر الرحمة وهو النبات. ومن قرأ آثار فالضمير عائد إلى المعنى لأن آثار الرحمة النبات أيضا واسم النبات يقع على القليل والكثير، وإنما قال مُصْفَرًّا ولم يقل «أصفر» لأن تلك الصفرة حادثة. وقيل: فرأوا السحاب مصفرا لأنه إذا كان كذلك لم يمطر. ثم زاد في تسلية رسوله بقوله فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى إلى قوله فَهُمْ مُسْلِمُونَ وقد مر في آخر النمل. ثم أعاد من دلائل التوحيد دليلا آخر من الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله وأطواره وتقلبه من ضعف الطفولية إلى قوة الشباب والكهولة ومنها إلى ضعف الهرم. وفي قوله خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ إشارة إلى أن أساس أمر الإنسان الضعف كقوله خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء: 37] وقيل: من ضعف أي من نطفة. وهذا الترديد في الأطوار المختلفة أظهر دليل على وجود الصانع العليم القدير. وقوله يَخْلُقُ ما يَشاءُ كقوله في دليل الآفاق فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ [الروم: 48] والكل إشارة إلى بطلان القول بالطبيعة المستقلة. ثم عاد إلى ذكر المعاد وأحوال القيامة، وذكر أن الكفار يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو في القبور أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث، وأن أهل العلم والإيمان وهم الملائكة والأنبياء وغيرهم حالهم بالعكس. وذلك أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستكثر الأجل ويريد تعجيله، والموعود بوعيد إذا ضرب له أجل يستقل المدة ويريد تأخيرها. ومعنى يُؤْفَكُونَ يصرفون عن الصدق والتحقيق أي هكذا كان أمرهم في الدنيا مبينا على الظن الكاذب وكانوا يصرون بمثله. ويحتمل أن يكونوا ناسين أو كاذبين. ومعنى في كتاب الله في اللوح المحفوظ أو في علمه وقضائه، أو فيما كتب وأوجب. وفيه رد قول الكفار وإطلاع لهم على مصدوقية الحال. قال جار الله: في الحديث «ما بين فناء الدنيا إلى وقت البعث أربعون» قالوا: لا نعلم أهي أربعون سنة أو أربعون ألف سنة. وذلك وقت يفنون فيه وينقطع عذابهم. والفاء في قوله فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ جواب شرط يدل عليه الكلام كأنه قيل: إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث وبه تبين بطلان قولكم وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أنه حق. ثم بين أن ذلك اليوم لا يقبل فيه عذر من أهل الشرك وسائر أنواع الظلم وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب منهم الرضا فلا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة، وقد مر في «النحل» . ثم بين أن القرآن مشحون بقصص وأخبار كلها كالمثل في غرابتها وحسن مواقعها، وأن الرسول مهما جاءهم بدليل أنكروه لأن الذي اجترأ على العناد في دليل واحد، الأغلب أن يتجرأ على أمثاله وهذا نتيجة الطبع والخذلان، فلا علاج في مثل هذه القضية إلا بالصبر وتحمل أعباء الرسالة إلى إنجاز وعد الله بالنصرة وإعلاء الدين. ومعنى لا يَسْتَخِفَّنَّكَ لا يحملنك على الخفة والقلق قوم شاكون فأمثال هذه الأفعال والأقوال لا تستبعد من أهل الريب والضلال أمر أن لا يضجر ويشتغل بالدعاء إلى الحق حتى يأتي أوان النصر والظفر والله المستعان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 420 (سورة لقمان) (مكية إلا ثلاث آيات وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ إلخ حروفها ألفان ومائة وعشرة كلمها خمسمائة وثمانية وأربعون آياتها أربع وثلاثون) [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 421 القراآت: ورحمة بالرفع. حمزة وأبو عون عن قنبل ليضل بفتح الياء: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ويَتَّخِذَها بالنصب: يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بسكون الياء: البزي والقواس. وقرأ حفص والمفضل بفتح الياء وكذا في قوله يا بُنَيَّ أَقِمِ الباقون: بكسر الياء. مثقال بالرفع: أبو جعفر ونافع نصاعر بالألف: أبو عمرو ونافع وحمزة وعلي وخلف. الآخرون. بالتشديد. الوقوف: الم هـ كوفي الْحَكِيمِ هـ وقف لمن قرأ وَرَحْمَةً بالرفع على تقدير هو هدى. ومن قرأ بالنصب على الحال والعامل معنى الإشارة في تِلْكَ فلا وقف لِلْمُحْسِنِينَ هـ لا يُوقِنُونَ هـ ط الْمُفْلِحُونَ هـ بِغَيْرِ عِلْمٍ ط قد يوقف لمن قرأ وَيَتَّخِذَها بالرفع والوصل أحسن لأنه وإن لم يكن معطوفا على لِيُضِلَّ فهو معطوف على يَشْتَرِي هُزُواً ط مُهِينٌ ط وَقْراً ط لانقطاع النظم مع اتصال الفاء أَلِيمٍ هـ النَّعِيمِ هـ لا للحال والعامل معنى الفعل في لهم فِيها ط لأن التقدير وعد الله وعدا حَقًّا ط الْحَكِيمُ هـ دابَّةٍ هـ للعدول كَرِيمٍ هـ دُونِهِ ط مُبِينٍ هـ لِلَّهِ ط لِنَفْسِهِ ج حَمِيدٌ هـ بِاللَّهِ ط وقد يوقف على لا تُشْرِكْ على جعل الباء للقسم وهو تكلف عَظِيمٌ هـ بِوالِدَيْهِ ج لانقطاع النظم مع تعلق أَنِ اشْكُرْ ب وَصَّيْنَا وَلِوالِدَيْكَ ط الْمَصِيرُ هـ مَعْرُوفاً ز للعدول عن بعض المأمور إلى الكل مع اتفاق الجملتين إِلَيَّ ج لأن «ثم» لترتيب الأخبار تَعْمَلُونَ هـ اللَّهُ ط خَبِيرٌ هـ أَصابَكَ ط الْأُمُورِ هـ ج للآية ووقوع العارض مع عطف المتفقتين مَرَحاً ط فَخُورٍ ج لما ذكر مِنْ صَوْتِكَ هـ ط الْحَمِيرِ هـ. التفسير: لما قال في آخر السورة المتقدمة وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الزمر: 27] وكان فيه إشارة إلى إعجاز القرآن، ودل ما بعده إلى تمام السورة على أنهم مصرون على كفرهم، أكد تلك المعاني في أول هذه السورة. وتفسيره إلى الْمُفْلِحُونَ كما في أول البقرة. إلا قوله تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ فإنه مذكور في أول «يونس» . وحيث زاد هاهنا وَرَحْمَةً قال لِلْمُحْسِنِينَ فإن الإحسان مرتبة فوق التقوى لقوله صلى الله عليه وسلم «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» «1» ولقوله سبحانه إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128]   (1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 31 باب 2. مسلم في كتاب الإيمان حديث 57. أبو داود في كتاب السنة باب 16. الترمذي في كتاب الإيمان باب 4. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 9. أحمد في مسنده (1/ 27، 51) (2/ 107) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 422 لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] ومما يؤيد ما قلنا أنه لم يقل هنا يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] لئلا يلزم شبه التكرار، فإن الإحسان لا مزيد عليه في باب العقائد. ثم بين حال المعرضين عن الحق بقوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الإضافة بمعنى «من» أي الحديث الذي هو لهو ومنكر. وجوز في الكشاف أن تكون «من» للتبعيض أي يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه وفيه نظر، لأنه يصح هذا التأويل في قولنا «خاتم فضة» وليس بمشهور. قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحرث وكان يتجر إلى فارس فيشتري كتب الأعاجم فيحدث بها قريشا. وقيل: كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه ويقول: هذا خير مما يدعوك محمد إليه من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. فعلى هذا معنى لِيُضِلَّ بضم الياء ظاهر، ومن قرأ بالفتح فمعناه الثبات على الضلال أو الإضلال نوع من الضلال. وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ متعلق ب يَشْتَرِي كقوله فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة: 16] أي للتجارة قاله في الكشاف وغيره. ولا يبعد عندي تعلقه بقوله لِيُضِلَّ كما قال وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: 25] قال المحققون: ترك الحكمة والاشتغال بحديث آخر قبيح، وإذا كان الحديث لهوا لا فائدة فيه كان أقبح. وقد يسوغه بعض الناس بطريق الإحماض كما ينقل عن ابن عباس أنه قال أحمضوا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «روّحوا القلوب ساعة فساعة» والعوام يفهمون منه الترويح بالمطايبة وإن كان الخواص يحملونه على الاشتغال بجانب الحق كقوله «يا بلال روّحنا» ثم إنه إذا لم يقصد به الإحماض بل يقصد به الإضلال لم يكن عليه مزيد في القبح ولا سيما إذا كان مع اشتغاله بلهو الحديث مستكبرا عن آيات الله التي هي محض الحكمة كما قال وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً ومحل كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً نصب على الحال قال جار الله: الأولى حال من ضمير مُسْتَكْبِراً والثانية من لَمْ يَسْمَعْها قلت: هذا بناء على تجويز الحال المتداخلة وإلا فمن الجائز أن يكون كل منهما ومُسْتَكْبِراً حالا من فاعل وَلَّى أي مستكبرا مشابها لمن لم يسمعها مشابها لمن في أذنيه وقر. وجوز أن يكونا مستأنفين وتقدير كأن المخففة كأنه والضمير للشأن، قال أهل البرهان: هذه الآية والتي في الجاثية نزلتا باتفاق المفسرين في النضر إلا أنه بالغ هاهنا في ذمه لتركه استماع القرآن فقال بعد قوله كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أي صمما لا يقرع مسامعه صوت، فإن عدم السماع أعم من أن يكون بوقر الأذن أو بنحو غفلة. وترك الجملة الثانية في «الجاثية» لأنه لم يبن الكلام هنالك على المبالغة بدليل قوله وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً [الجاثية: 9] والعلم لا يحصل إلا بالسماع أو ما يقوم مقامه من خط وغيره. وحين بين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 423 وعيد أعداء الدين بين حال أولياء الله بقوله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية. وقد مر مثله مرارا وفي قوله وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إشارة إلى أنه لا غالب ولا مناوىء، يعطي النعيم من شاء والبؤس من شاء حسب ما تقتضيه حكمته وعدله. ثم بين عزته وحكمته بقوله خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ وقد مر في أول «الرعد» . وقوله وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ مذكور في أول «النحل» ومِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ذكر في أول الشعراء. هذا الذي ذكر من السموات بكيفياتها والأرض بهيآتها بسائطها ومركباتها خَلْقُ اللَّهِ أي مخلوقه فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وهم الآلهة بزعمهم. وهذا أمر تعجيز وتبكيت فلهذا سجل عليهم بالضلال المبين. ثم بين فساد اعتقاد أهل الشرك بأنه مخالف أيضا لعقيدة الحكماء الذين يعولون على المعقول الصرف منهم لقمان بن باعوراء ابن أخت أيوب أو ابن خالته أو من أولاد آزر، عاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام، فلما بعث قطع الفتوى فقيل له؟ فقال: ألا أكتفي إذا كفيت وأكثر الأقاويل أنه كان حكيما. عن ابن عباس: لقمان لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان راعيا أسود فرزقه الله العتق ورضي الله قوله «ووصيته» وحكاها في القرآن. وقيل: خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة. وقال عكرمة والشعبي: كان نبيا. روي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد وقد لين الله له الحديد، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله. فقال له داود عليه السلام: بحق ما سميت حكيما. وروي أن مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين فأخرج اللسان والقلب، ثم أمره بمثل ذلك بعد أيام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب أيضا فسأله عن ذلك فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا، وأخبث ما فيها إذا خبثا. ثم فسر الحكمة بقوله أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ لأن إيتاء الحكمة في معنى القول. قال العلماء: هذا أمر تكوين أي جعلناه شاكرا فإن أمر التكليف يستوي فيه الجاهل والحكيم، وفيه تنبيه على أن شكر المعبود الحق رأس كل العبادة وسنام الحكمة وفائدته ترجع إلى العبد لا إلى المعبود فإنه غني عن شكر الشاكرين مستحق للحمد وإن لم يكن على وجه الأرض حامد. وحين بين كماله شرع في تكميله وذلك لابنه المسمى أنعم أو أشكم. قيل: كان ابنه وامرأته كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما. ووجه كون الشرك ظلما عظيما أنه وضع فيه أخس الأشياء- وهو الفقير المطلق- موضع أشرف الأشياء- وهو الغني المطلق- ثم وصى الله سبحانه الإنسان بشكر إنعام الوالدين وبطاعتهما وإن كانا كافرين إلا أن يدعواه إلى الإشراك بالله. وهذه جملة معترضة نيط باعتراضها غرضان: أحدهما أن طاعة الأبوين تالية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 لعبادة الله، والثاني تأكيد كون الشرك أمرا فظيعا منكرا حتى إنه يلزم فيه مخالفة من يجب طاعته. وقوله حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً أي حال كونها تهن وهنا عَلى وَهْنٍ أي ضعفا على ضعف، لأن الحمل كلما زاد وعظم ازدادت ثقلا وضعفا، اعتراض في اعتراض تحريضا على رعاية حق الوالدة خصوصا. روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال: قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك ثم أمك ثم أباك. وقوله وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ توقيت للفطام كما مر في «البقرة» في قوله وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [البقرة: 233] وفيه تنبيه آخر على ما كابدته الأم من المشاق. ومعنى مَعْرُوفاً صحابا أو مصاحبا معروفا على ما يقتضيه العرف والشرع. وفي قوله وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ إشارة أخرى إلى أنهما لو لم يكونا منيبين إلى الرب لم يتبع سبيلهما في الدين وإن لزم طاعتهما في الدنيا وفي باب حسن العشرة والصحبة. واتفق المفسرون على أن هذه الآية ونظيرتها التي في «العنكبوت» وفي «الأحقاف» نزلت في سعد بن أبي وقاص وفي أمه حمنة بنت أبي سفيان، وذلك أنه حين أسلم قالت: يا سعد، بلغني أنك قد صبأت، فو الله لا يظلني سقف بيت وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد- وكان أحب ولدها إليها «فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه فنزلت هذه الآيات، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتراضاها بالإحسان وإنما لم يذكر في هذه السورة قوله حُسْناً لأن قوله أَنِ اشْكُرْ قام مقامه، وإنما قال هاهنا وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ لأنه أراد وإن حملاك على الإشراك، وقال في العنكبوت لِتُشْرِكَ [العنكبوت: 8] موافقة لما قبله فإنما يجاهد لنفسه مع أن مبني الكلام هناك الاختصار. وحين وصف نفسه بكماله في خاتمة الآية بقوله فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أتبعه ما يناسبه من وصايا لقمان وهو قوله يا بُنَيَّ إِنَّها أي القصة إِنْ تَكُ أي الحبة من الإساءة أو الإحسان في الصغر كحبة الخردل ويجوز أن يقال: الحبة إن تك كحبة الخردل. ومن قرأ مِثْقالَ بالرفع تعين أن يكون الضمير في إِنَّها للقصة وتأنيث تَكُ لإضافة المثقال إلى الحبة. وروي أن ابن لقمان قال له: أرأيت الحبة تكون في مقل البحر أي في مغاصه يعلمها الله؟ إن الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة لأن الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء. سؤال: الصخرة لا بد أن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة في ذكرها؟ الجواب على قول الظاهريين من المفسرين ظاهر لأنهم قالوا: الصخرة هي التي عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء. وقال أهل الأدب: فيه إضمار والمراد في صخرة أو في موضع آخر من السموات والأرض ومثله قول جار الله، أراد فكانت مع صغرها في أخفى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 425 موضع وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلي، وقال أهل التحقيق: إن خفاء الشيء يكون إما لغاية صغره، وإما لاحتجابه، وإما لكونه بعيدا، وإما لكونه في ظلمة. فأشار إلى الأول بقوله مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ وإلى الثاني بقوله فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ وإلى الثالث بقوله أَوْ فِي السَّماواتِ وإلى الرابع بقوله أَوْ فِي الْأَرْضِ وقوله يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أبلغ من قول القائل «يعلمه الله» ففيه مع العلم بمكانه إظهار القدرة على الإتيان به إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ نافذ القدرة خَبِيرٌ ببواطن الأمور، وحين منع ابنه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بمكارم الأخلاق والعادات وأولها الصلاة، وفيها تعظيم المعبود الحق، وبعدها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فبهما تتم الشفقة على خلق الله. وقوله وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من أذيات الخلق في البأس، أو هو مطلق في كل ما يصيبه من المصائب والمكاره إِنَّ ذلِكَ المذكور مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي من معزوماتها من عزم الأمر بالنصب إذا قطعه قطع إيجاب وإلزام، ومنه العزيمة خلاف الرخصة، أو من عزم الأمر بالرفع أي جد وقد مر في آخر «آل عمران» . وحين أمره بأن يكون كاملا في نفسه مكملا لغيره وكان يخشى عليه أن يتكبر على الغير بسبب كونه مكملا له أو يتبختر في النفس بسبب كونه كاملا في نفسه قال وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ يقال: أصعر خدّه وصعره وصاعره من الصعر بفتحتين وهو داء يصيب البعير يلوي منه عنقه. والمعنى: أقبل على الناس بكل وجهك تواضعا لا بشق الوجه كعادة المتكبرين. ومعنى لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً مذكور في سورة «سبحان الذي» والمختال والفخور مذكوران في سورة النساء. فالمختال هو الماشي لأجل الفرح والنشاط لا لمصلحة دينية أو دنيوية، والفخور هو المصعر خده، بين أن الله لا يحبهما فيلزم الاجتناب عن الاتصاف بصفتهما. ثم أمره عند الاحتياج إلى المشي لضرورة بالمشي القصد أي الوسط بين السرعة والإبطاء على قياس سائر الأخلاق والآداب فخير الأمور أوساطها، ومثله غض الصوت حين التكلم. قال أهل البيان: في تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير التي هي مثل في البلادة حتى استهجن التلفظ باسمها في أغلب الأمر، وفي تمثيل أصواتهم بالنهاق ثم إخلاء الكلام عن أداة التشبيه وإخراجه مخرج الاستعارة، تنبيه على أن الإفراط في رفع الصوت من غير ضرورة ولا فائدة مكروه عند الله جدا، واشتقاق أنكر من النكر ليكون على القياس لا من المنكر والحمير جمع الحمار، وإنما لم يقل أصوات الحمير لأن المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق وغير الناطق له صوت، وإن أنكر أصوات هذه الأجناس صوت أفراد هذا الجنس. قال بعض العقلاء: من نكر صوت هذا الحيوان أنه لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق، وأما سائر الحيوانات فلا يصيح إلا لحاجة قالوا: ومن فوائد عطف الأمر بغض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 426 الصوت على الأمر بالقصد في المشي، أن الحيوان يتوصل إلى مطلوبه بالمشي فإن عجز عن ذلك فبالتصويت والنداء كالغنم تطلب السخلة، ومنها أن الإنسان له عقيدة ولسان وجوارح يتحرك بها كسائر الحيوانات فأشار إلى الأولى بقوله إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ أي أصلح ضميرك فإن الله خبير، وأشار إلى التوسط في أفعال الجوارح بقوله وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وإلى التوسط في الأقوال بقوله اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أو نقول: أشار بقوله أَقِمِ الصَّلاةَ إلى الأوصاف الملكية التي يجب أن تكون في الإنسان، وبقوله وَأْمُرْ إلى قوله مَرَحاً إلى الأوصاف الفاضلة الإنسانية، وبقوله وَاقْصِدْ وَاغْضُضْ إلى الأوصاف التي يشارك فيها الإنسان سائر الحيوان والله تعالى أعلم. التأويل: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ هي للعوام مقادير معينة من المال كربع العشر من عشرين، وللخواص إخراج كل المال في سبيل الله، ولأخص الخواص بذل الوجود لنيل المقصود لَهْوَ الْحَدِيثِ قال الجنيد: السماع على أهل النفوس حرام لبقاء نفوسهم، وعلى أهل القلوب مباح لوفور علومهم وصفاء قلوبهم، وعلى أصحابنا واجب لفناء حظوظهم. وَإِذْ قالَ لُقْمانُ القلب لِابْنِهِ السر المتولد من ازدواج الروح والقلب وَهُوَ يَعِظُهُ أن لا يتصف بصفات النفس العابدة للشيطان والهوى والدنيا فِي عامَيْنِ يريد فطامه عن مألوفات الدارين وَإِنْ جاهَداكَ فيه أن السر لا ينبغي له أن يلتفت إلى الروح أو القلب إذا اشتغلا بغير الله في أوقات الفترات، فإن الروح قد يميل إلى مجانسه من الروحانيات، والقلب يميل تارة إلى الروح، وأخرى إلى النفس ولكنه يرجى الصلاة بعد الفترة، وأما السر فإذا زال عن طبيعته وهو الإخلاص في التوحيد فإصلاح حاله ممكن بعيد. وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ وهو الخفي. إِنَّها إِنْ تَكُ يعني القسمة الأزلية من السعادة وضدها لَصَوْتُ الْحَمِيرِ قالوا: هو الصوفي يتكلم قبل أوانه. [سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 34] أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 427 القراآت: نِعَمَهُ على الجمع: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل وحفص والبحر بالنصب: أبو عمرو ويعقوب عطفا على اسم «أن» الآخرون: بالرفع حملا على محل «أن» ومعمولها وَأَنَّ ما يَدْعُونَ على الغيبة: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وحفص وسهل ويعقوب وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ التشديد: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وعاصم. الوقوف: وَباطِنَةً ط مُنِيرٍ هـ آباءَنا ط السَّعِيرِ هـ الْوُثْقى ط الْأُمُورِ هـ كُفْرُهُ هـ عَمِلُوا ط الصُّدُورِ هـ غَلِيظٍ هـ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ط لِلَّهِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط الْحَمِيدُ هـ كَلِماتُ اللَّهِ ط حَكِيمٌ هـ واحِدَةٍ ط بَصِيرٌ هـ وَالْقَمَرَ ز لأن قوله كُلٌّ مبتدأ مع عطف «أن» على «أن» الأولى خَبِيرٌ هـ الْباطِلُ لا الْكَبِيرُ هـ مِنْ آياتِهِ ط شَكُورٍ هـ الدِّينَ ج مُقْتَصِدٌ ط كَفُورٍ هـ عَنْ وَلَدِهِ لا لعطف الجملتين المختلفتين لفظا مع صدق الاتصال معنى شَيْئاً ط الدُّنْيا قف للفصل بين الموعظتين الْغَرُورُ هـ السَّاعَةِ ج لاختلاف الجملتين الْغَيْثَ ج وإن اتفقت الجملتان للتفصيل بين عيب وغيب الْأَرْحامِ ط لابتداء الجملة المنفية التي فيها استفهام غَداً ط لابتداء نفي آخر مع تكرار نفس دون الاكتفاء بضميرها تَمُوتُ ط خَبِيرٌ هـ. التفسير: لما ذكر أن معرفة الصانع غير مختصة بالنبوة ولكنها توافق الحكمة أيضا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 428 ولو كانت تعبدا محضا للزم قبوله، كيف وإنها توافق المعقول، أعاد الاستدلال بالأمور المشاهدة الآفاقية والأنفسية. ومعنى سَخَّرَ لَكُمْ لأجلكم كما مر في سورة إبراهيم من قوله وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ [إبراهيم: 33] الآية ومعنى أَسْبَغَ أتم، والنعم الظاهرة كل ما يوجد للحس الظاهر إليه سبيل ومن جملتها الحواس أنفسها. والباطنة ما لا يدرك إلا بالحس الباطن أو بالعقل أو لا يعلم أصلا. ومن المفسرين من يخص، فعن مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء ظاهرا، والباطنة إمداد الملائكة. وعن الضحاك: الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة والعلم. وقيل: النفس. ثم ذكر أن بعض الناس يجادلون في الله بعد ظهور الدلائل على وحدانيته وقد مر في أول «الحج» . ثم ذكر أنه لا مستند له في ذلك إلا التقليد، ثم وبخه على جهله وتقليده بأنه يتبع سبيل الشيطان ولو دعاه إلى النار قائلا أَوَلَوْ كانَ إلخ. ومعناه أيتبعونهم ولو كان كذا؟ ثم أراد أن يفصل حال المؤمن والكافر بعض التفصيل فقال وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وهو نظير قوله في «البقرة» بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [الآية: 112] والفرق أن معناه مع «إلى» يرجع إلى التفويض والتسليم، ومع اللام يؤل إلى الإخلاص والإذعان والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيل كما مر في آية الكرسي. وقوله يمتعهم الآية. كقوله في البقرة وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ [الآية: 126] وغلظ العذاب شدته. ثم بين أنهم معترفون بالمعبود الحق إلا أنهم يشركون به وقد مر في آخر «العنكبوت» مثله إلا أنه قال في آخره بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ وذلك أنه زاد هناك قوله وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [الرعد: 2] فبالغ، فإن نفي العقل أبلغ من نفي العلم إذ كل عالم عاقل ولا ينعكس. ثم ذكر أن الملك كله له وهو غني على الإطلاق حميد بالاستحقاق. وحين بين غاية قدرته أراد أن يبين أنه لا نهاية لعلمه فقال وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ الآية. عن ابن عباس: أنها نزلت جوابا لليهود وأن التوراة فيها كل الحكمة. وقيل: هي جواب قول المشركين أن الوحي سينفد. وتقدير الآية على قراءة الرفع: لو ثبت كون الأشجار أقلاما وثبت البحر ممدودا بسبعة أبحر. ويجوز أن تكون الجملة حالا واللام في البحر للجنس. وجعل جنس البحار ممدودا بالسبعة للتكثير لا للتقدير، فإن كثيرا من الأشياء عددها سبعة كالسيارات السبعة والأقاليم السبعة وأيام الأسبوع ومثله قوله صلى الله عليه وسلم «المؤمن يأكل في معا واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» «1» أراد الأكل الكثير. وقال في الكشاف جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، وجعل   (1) رواه البخاري في كتاب الأطعمة باب 12. مسلم في كتاب الأشربة حديث 182- 186. الترمذي في كتاب الأطعمة باب 20 ابن ماجة في كتاب الأطعمة باب 3. الدارمي في كتاب الأطعمة باب 13. الموطأ في كتاب صفة النبي حديث 9، 10. أحمد في مسنده (2/ 21، 43) (4/ 336) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 429 الأبحر السبعة مملوأة مدادا، فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع. قلت: جعله الأبحر سبعة تقديرا ينافي قوله «أبدا لا ينقطع» وإنما لم يجعل للأقلام مدادا لأن نقصان المداد بالكتابة أظهر من نقصان القلم. وإنما لم يقل «كلم الله» على جمع الكثرة للمبالغة إذ يفهم منه أن كلماته لا تفي بكتبتها البحار فكيف بكلمة؟ وقيل: أراد بكلماته عجائب مصنوعاته الموجودة بكلمة «كن» وقد مر نظير هذه الآية في آخر الكهف. ثم بين أنه لا يصعب على قدرته كثرة الإيجاد والإعدام فإن تعلق قدرته بمقدور واحد كتعلقها بمقدورات غير محصورة لأن اقتداره لا يتوقف على آلة وعدة وإنما ذلك له ذاتي يكفي فيه الإرادة. ثم أكد ذلك بأن سمعه يتعلق في زمان واحد بكل المسموعات، وكذا بصره بكل المبصرات من غير أن يشغله شيء عن شيء. ثم أعاد طرفا من دلائل قدرته مع تذكير بعض نعمه قائلا أَلَمْ تَرَ وقد مر نظيره في «الحج» إلى قوله الْكَبِيرُ وقوله هاهنا يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وقوله في «فاطر» و «الزمر» لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر: 5، فاطر: 13] يؤل إلى معنى واحد وإن كان الطريق مغايرا، لأن الأول معناه انتهاؤهما إلى وقت معلوم وهو للشمس آخر السنة وللقمر آخر الشهر. وعن الحسن: هو يوم القيامة لأن جريهما لا ينقطع إلا وقتئذ. والثاني معناه اختصاص الجري بإدراك أجل معلوم كما وصفنا. ووجه اختصاص هذا المقام بإلى وغيره باللام، أن هذه الآية صدّرت بالتعجيب فناسب التطويل. والمشار إليه بذلك هو ما وصف من عجيب قدرته أو أراد أن الموحى من هذه الآيات بسبب بيان أن الله هو الحق. قال بعضهم الْعَلِيُّ إشارة إلى كونه تماما وهو أنه حصل له كما ينبغي أن يكون له. والْكَبِيرُ إشارة إلى كونه فوق التمام وهو أنه يحصل لغيره ما يحتاج إليه. ثم أكد الآية السماوية بالآية الأرضية. ومعنى بِنِعْمَتِهِ بإحسانه ورحمته أو بالريح الطبية التي هي بأمر الله إِنَّ فِي ذلِكَ الإجراء لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على الضراء شَكُورٍ في السراء. ووجه المناسبة أن كلتا الحالتين قد يقع لراكب البحر أو صبار على النواحي والتروك شكور في الأفعال والأوامر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر» . ثم ذكر أن بعض الناس لا يخلص لله إلا عند الشدائد، وإنما وحد الموج وجمع الظلل وهي كل ما أظلك من جبل أو سحاب، لأن الموج الواحد يرى له صعود ونزول كالجبال المتلاصقة. وإنما قال هاهنا. فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وقد قال فيما قبل إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] لأنه ذكر هاهنا الموج وعظمته ولا محالة يبقى لمثله أثر في الخيال فيخفض شيئا من غلو الكفر والظلم وينزجر بعض الانزجار، ويلزمه أن يكون متوسطا في الإخلاص أيضا لا غاليا فيه، وقل مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر. والختر أشد الغدر ومنه قولهم «لا تمد لنا شبرا من غدر إلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 430 مددنا لك باعا من ختر» . والختار في مقابلة الصبار لأن الختر لا يصدر إلا من عدم الصبر وقلة الاعتماد على الله في دفع المكروه. والكفور طباق الشكور. وحين بيّن الدلائل وعظ بالتقوى وخوف من هول يوم القيامة. ومعنى لا يَجْزِي لا يقضي كما مر في أول «البقرة» . وذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد ليلزم منه عدم الانتفاع بغيرهما بالأولى، وفيه إشارة إلى ما جرت به العادة من أن الأب يتحمل الآلام عن ابنه ما أمكن، والولد يتحمل الإهانة عن الأب ما أمكن، فكأنه قال: لا يجزى فيه والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ شيئا من الآلام وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً من أسباب الإهانة. قال جار الله: إنما أوردت الجملة الثانية اسمية لأجل التوكيد. وذلك أن الخطاب للمؤمنين فأراد حسم أطماعهم أن يشفعوا لآبائهم الكفرة وفي توسيط «هو» مزيد تأكيد. وفي لفظ الْمَوْلُودِ دون أن يقول «ولا ولد» تأكيد آخر، لأن الولد يقع على ولد الولد أيضا بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك فكأنه قيل: إن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته فضلا أن يشفع لمن فوقه. وقيل: إنما أوردت الثانية اسمية لأن الابن من شأنه أن يكون جازيا عن والده لما عليه من الحقوق والوالد يجزي شفقة لا وجوبا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بمجيء ذلك اليوم حَقٌّ أو وعده بعدم جزاء الوالد عن الولد وبالعكس حق. والْغَرُورُ بناء مبالغة وهو الشيطان أي لا ينبغي أن تغرنكم الدنيا بنفسها ويزينها في أعينكم غار من الشيطان أو النفس الأمارة. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «مفاتيح الغيب خمس» وتلا قوله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «1» إلى آخرها. وعن المنصور، أنه همه معرفة مدة عمره فرأى في منامه كأن خيالا أخرج يده من البحر وأشار إليه بالأصابع الخمس. فاستفتى العلماء في ذلك فتأولوها بخمس سنين وبخمسة أشهر وبغير ذلك حتى قال أبو حنيفة: تأويلها أن مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه. قال في التفسير الكبير: ليس مقصود الآية أنه تعالى مختص بمعرفة هذه الأمور فقط فإنه يعلم الجوهر الفرد أين هو وكيف هو من أول يوم خلق العالم إلى يوم النشور، وإنما المراد أنه تعالى حذر الناس من يوم القيامة. كان لقائل أن يقول: متى الساعة؟ فذكر أن هذا العلم لا يحصل لغيره ولكن هو كائن لدليلين ذكرهما مرارا وهو إنزال الغيث المستلزم لإحياء الأرض وخلق الأجنة في الأرحام، فإن القادر على الإبداء قادر على الإعادة بالأولى. ثم إنه كأنه قال: أيها السائل إن لك شيئا أهم منها لا تعلمه فإنك لا تعلم معاشك ومعادك فلا تعلم ماذا تَكْسِبُ غَداً مع أنه فعلك وزمانك ولا   (1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 6 باب 1. مسلم في كتاب الإيمان حديث 5، 7. النسائي في كتاب الإيمان باب 6. أحمد في مسنده (2/ 24، 52) (4/ 13) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 431 تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك فكيف تعلم قيام الساعة؟ والسر في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت بل مكانه هو أنه ينافي التكليف كما مر في أول «طه» ، ولو علم المكلف مكان موته لأمن الموت إذا كان في غيره. والسر في إخفاء الكسب في غير الوقت الحاضر هو أن يكون المكلف أبدا مشغول السر بالله معتمدا عليه في أسباب الرزق وغيره. روي أن ملك الموت مر على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه. فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت. فقال: كأنه يريدني. وسأل سليمان أن يحمله على الريح إلى بلاد الهند ففعل. ثم قال ملك الموت لسليمان: كان نظري إليه تعجبا منه لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك. قال جار الله: جعل العلم لله والدراية للعبد لما في الدراية من معنى الختل والحيلة كأنه قال: إنها لا تعرف وإن أعلمت حيلها وقرىء بأية أرض والأفصح عدم تأنيثه. التأويل: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً هي تسخير ما في السموات وما في الأرض من الأجسام العلوية والسفلية، البسيطة والمركبة. وباطنة هي تسخير ما في سموات القلوب من الصدق والإخلاص والتوكل والشكر وسائر المقامات القلبية والروحانية بأن يسر العيون عليها بالسكون المتدارك بالجذبة والانتفاع بمنافعها والاجتناب عن مضارها. وتسخير ما في أرض النفوس من أضداد الأخلاق المذكورة بتبديلها بالحميدة والتمتع بخواصها والتحرز عن آفاتها. ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ لفساد استعدادهم تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ سلامتهم في الظاهر معلومة، وأما في الباطن فنجاتهم بسفائن العصمة من بحار القدرة أو بسفينة الشريعة بملابسة الطريقة في بحر الحقيقة لإراءة آيات شواهد الحق، وإذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير تمنوا أن تلفظهم نفحات الألطاف إلى سواحل الأعطاف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 432 (سورة ألم السجدة) (حروفها ألف وخمسمائة وثمانية عشر كلماتها ثلاثمائة وثمانون آياتها ثلاثون مكية إلا قوله أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً إلى ثلاث آيات) [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 30] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 433 القراآت: خَلَقَهُ بفتح اللام: عاصم وحمزة وعلي وخلف ونافع وسهل. الآخرون: بالسكون على البدل من كل شيء. وعلى الأول يكون وصفا له أَإِذا أَإِنَّا كما في «الرعد» ما أُخْفِيَ بسكون الياء على أنه فعل مضارع متكلم: حمزة. الباقون: بفتحها على أنه فعل ماض مجهول لَمَّا صَبَرُوا بكسر اللام وتخفيف الميم: حمزة وعلي ورويس. الباقون: بفتح اللام وتشديد الميم أولم نهد بالنون: يزيد عن يعقوب. الوقوف: الم هـ كوفي الْعالَمِينَ هـ ط لأن «أم» استفهام تقريع غير عاطفة بل هي منقطعة افْتَراهُ ج لعطف الجملتين المختلفتين يَهْتَدُونَ هـ الْعَرْشِ ط شَفِيعٍ هـ تَتَذَكَّرُونَ هـ ط تَعُدُّونَ هـ الرَّحِيمُ ط مِنْ طِينٍ هـ ج لأن «ثم» لترتيب الأخبار مَهِينٍ هـ ج لذلك وَالْأَفْئِدَةَ ط تَشْكُرُونَ هـ جَدِيدٍ هـ كافِرُونَ هـ تُرْجَعُونَ هـ عِنْدَ رَبِّهِمْ ط لحق القول المحذوف مُوقِنُونَ هـ أَجْمَعِينَ هـ هذا ج للابتداء بان مع تكرار وَذُوقُوا تَعْمَلُونَ هـ لا يَسْتَكْبِرُونَ هـ وَطَمَعاً ز لانقطاع النظم بتقديم المفعول يُنْفِقُونَ هـ أَعْيُنٍ ج لأن جَزاءً يحتمل أن يكون مفعولا له وأن يكون مصدرا لفعل محذوف يَعْمَلُونَ هـ فاسِقاً ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار لا يَسْتَوُونَ هـ الْمَأْوى ز لمثل ما مر في جَزاءً يَعْمَلُونَ هـ النَّارُ ط تُكَذِّبُونَ هـ يَرْجِعُونَ هـ عَنْها ط مُنْتَقِمُونَ هـ إِسْرائِيلَ هـ ج وإن اتفقت الجملتان للعدول عن ضمير المفعول الأول وهو واحد إلى ضمير الجمع في الثانية صَبَرُوا ط لمن شدد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 434 يُوقِنُونَ هـ يَخْتَلِفُونَ هـ مَساكِنِهِمْ ط لَآياتٍ ط يَسْمَعُونَ هـ وَأَنْفُسُهُمْ ط يُبْصِرُونَ هـ صادِقِينَ هـ يُنْظَرُونَ هـ مُنْتَظِرُونَ هـ. التفسير: لما ذكر في السورة المتقدمة دلائل الوحدانية ودلائل الحشر وهما الطرفان، بدأ في هذه السورة ببيان الأمر الأوسط وهو الرسالة المصححة ببرهان القرآن. وإعرابه قريب من قوله الم ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 1- 2] وميل جار الله إلى قوله تَنْزِيلُ الْكِتابِ مبتدأ خبره مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ولا ريب فيه اعتراض لا محل له والضمير في فِيهِ راجع إلى مضمون الجملة أي لا ريب في كونه منزلا من عنده. ويمكن أن يقال: في وجه النظم لما عرّف في أول السورة المتقدمة أن القرآن هدى ورحمة قال هاهنا: إنه من رب العالمين، وذلك أن من عثر على كتاب سأل أولا أنه في أي علم. فإذا قيل: إنه في الفقه أو التفسير. سأل: إنه تصنيف أي شخص؟ ففي تخصيص رب العالمين بالمقام إشارة إلى أن كتاب رب العالمين لا بد أن يكون فيه عجائب للعالمين فترغب النفس في مطالعته. ثم أضرب عما ذكر قائلا أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ وهو تعجيب من قولهم لظهور أمر القرآن في تعجيز بلغائهم عن مثل سورة الكوثر. ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك. ومعنى لِتُنْذِرَ قَوْماً قد مر في «القصص» ويندرج فيهم أهل الكتاب إذ يصدق عليهم أنه لم يأتهم نذير بعد ضلالهم سوى محمد صلى الله عليه وسلم، ولو لم يندرجوا لم يضرّ فإن تخصيص قوم بالذكر لا يدل على نفي من عداهم كقوله وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] وحين بين الرسالة بين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد فقال اللَّهُ مبتدأ خبره ما يتلوه وقد مر نظائره. وقوله ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ إثبات للولاية والشفاعة أي النصرة من عنده ونفي لهما من غيره، وفيه تجهيل لعبدة الأصنام الزاعمين أنها شفعاؤهم بعد اعترافهم بأن خالق الكل هو الله سبحانه. ولما بين الخلق شرع في الأمر فقال يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه ذلك العمل في يوم طويل، وهو كناية عن قلة الإخلاص لأنه لا يوصف بالصعود ولا يقوى على العروج إلا العمل الخالص، يؤيد هذا التفسير قوله فيما بعد قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض لكل يوم من أيام الله وهو ألف سنة، ثم يصعد إليه مكتوبا في الصحف في كل جزء من أجزاء ذلك اليوم إلخ. ثم يدبر الأمر ليوم آخر مثله وهلم جرا. أو ينزل الوحي مع جبرائيل ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحي. ورده مع جبرائيل أيضا وتقدير الزمان بألف سنة لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وأن الملك يقطعها في يوم واحد من أيامنا. وقيل: إنه إشارة إلى نفوذ الأمر، فإن نفاذ الأمر كلما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 435 كان في مدة أكثر كان حاله أعلى أي يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة منه، فكم يكون شهر منه وكم يكون سنة منه وكم يكون دهر منه؟ فلا فرق على هذا بين ألف سنة وبين خمسين ألف سنة كما في «المعارج» . وقيل: إن هذه عبارة عن الشدة واستطالة أهلها إياها كالعادة في استطالة أيام الشدة والحزن واستقصار أيام الراحة والسرور. وخصت السورة بقوله أَلْفَ سَنَةٍ موافقة لما قبله وهو قوله فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وتلك الأيام من جنس هذا اليوم. وخصت سورة المعارج بقوله خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [الآية: 4] لأن فيها ذكر القيامة وأهوالها فكان هو اللائق بها. وعن عكرمة: إن اليوم في المعارج عبارة عن أول أيام الدنيا إلى انقضائها وأنها خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم كم مضى وكم بقي إلا الله عز وجل. وبالجملة فالآية المتقدمة تدل على عظمة عالم الخلق وسعة مكانه، والآية الثانية تدل على عظمة عالم الأمر وامتداد زمانه. ثم بين أنه مع غاية عظمة ملكه وملكوته عليم بأمر العالمين فقال ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وفي قوله الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ إشارة إلى صفتي القهر واللطف اللتين ينبغي أن تكونا لكل ملك، وإنما أخر الرَّحِيمُ مع أن رحمته سبقت غضبه ليوصله بقوله الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ نظيره الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه: 50] وقد مر في «طه» . وعطف عليه تخصيصا بعد تعميم خلق الإنسان وهو آدم بدليل قوله ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ أي ذريته لأنها تنسل أي تنفصل، والسلالة الخلاصة كما ذكرنا في أول «المؤمنين» ، وقوله مِنْ ماءٍ بدل من سلالة والمهين الحقير. ومعنى سَوَّاهُ قوّمه وأداره في الأطوار إلى حيث صلح لنفخ الروح فيه، ثم عدل من الغيبة إلى الخطاب في قوله وَجَعَلَ لَكُمُ تنبيها على جسامة نعم هذه الجوارح وتوبيخا على قلة الشكر عليها. ثم بين عدم شكرهم بإنكارهم المعاد بعد مشاهدة الفطرة الأولى وليست الثانية بأصعب منها. والواو للعطف على ما سبق كأنهم قالوا: إن محمدا مفتر وقالوا: الله ليس بواحد وَقالُوا أَإِذا يعني أنهم وأسلافهم زعموا أن الحشر غير ممكن. ومعنى ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ غبنا فيها إما بالدفن أو بتفرق الأجزاء وتلاشيها. والعامل في أَإِذا ما يدل عليه قوله أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو نبعث أو يجدد خلقنا. ثم صرح بإثبات كفرهم على الإطلاق واللقاء لقاء الجزاء الشامل لجميع أحوال الآخرة. ثم رد عليهم قولهم بالفوت بأنه يتوفاهم ملك الموت الموكل بقبض الأرواح ثم يرجعون إلى حكم الله وحده. ثم بين ما يكون من حالهم عند الرجوع بقوله وَلَوْ تَرى أنت يا محمد أوكل من له أهلية الخطاب إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ خجلا وندامة قائلين رَبَّنا أَبْصَرْنا ما كنا شاكين في وقوعه وَسَمِعْنا منك تصديق رسلك وجواب «لو» محذوف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 436 وهو لرأيت أمرا فظيعا، وجوزوا أن يكون «لو» للتمني كأنه جعل لنبيه تمني أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الذل والهوان ليشمت بهم. ثم إنه سبحانه ألزمهم وألجمهم بقوله وَلَوْ شِئْنا الآية. وفيه أنه لو ردهم إلى الدنيا لم يهتدوا لأنهم خلقوا لجهنم القهر وقد مر نظيره في آخر «هود» . ثم أكد إهانتهم بقوله فَذُوقُوا وانتصب هذا على أنه مفعول فَذُوقُوا وقوله لِقاءَ مفعول نَسِيتُمْ أي ذوقوا هذا العذاب بما نسيتم لقاء يومكم وذهلتم عنه بعد وضوح الدلائل أو تركتم الفكر فيه، ويجوز أن يكون هذا صفة يَوْمِكُمْ ومفعول ذُوقُوا محذوف وهو العذاب ولِقاءَ مفعول نَسِيتُمْ أو هو مفعول فَذُوقُوا على حذف المضاف أي تبعة لقاء يومكم ويكون نَسِيتُمْ متروك المفعول أو محذوفه وهو الفكر في العاقبة. وقوله إِنَّا نَسِيناكُمْ من باب المقابلة والمراد تركهم من الرحمة نظيره نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] وقوله عَذابَ الْخُلْدِ من باب إضافة الموصوف إلى الصفة في الظاهر نحو: رجل صدق. أمرهم على سبيل الإهانة بذوق عذاب الخزي والخجل، ثم بذوق العذاب الخلد أعاذنا الله منه بفضله العميم، ثم ذكر أن كما الإيمان بآيات الله من شأن الخلص من عباده الساجدين لله شكرا وتواضعا حين وعظوا بآيات ربهم منزهين له عما لا يليق بجنابه وجلاله متلبسين بحمده غير مستكبرين عن عبادته تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ترتفع وتتنحى عن مواضع النوم داعين ربهم أو عابدين له خَوْفاً من أليم عقابه وَطَمَعاً في عظيم ثوابه، وفسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيام الليل وهو التهجد. قال: «إذا جمع الله الأولين والآخرين جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع ينادي ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ثم يرجع فينادي ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس.» » عن علي رضي الله عنه: جنبي تجافى عن الوساد خوفا من النار والمعاد من خاف من سكرة المنايا لم يدر ما لذة الرقاد قد بلغ الزرع منتهاه لا بد للزرع من حصاد عن أنس بن مالك: كان أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة فنزلت فيهم. وقيل: هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها.   (1) رواه أحمد في مسنده (3/ 68، 76) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 437 و «ما» في قوله ما أُخْفِيَ موصولة ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى أي شيء، والمعنى لا تعلم نفس من النفوس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل أي نوع عظيم من الثواب ادخر الله لأولئك مما تقرّ به عيونهم حتى لا تطمح إلى غيره ولا تطلب الفرح بما عداه. عن النبي صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتم عليه اقرؤا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين» «1» وعن الحسن: أخفى القوم أعمالا في الدنيا فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. قال المحققون: إنه يصدر من العبد أعمال صالحة وقد صدر عن الرب أشياء سابقة من الخلق والتربية وغيرهما، وأشياء لاحقة من الثواب والإكرام، فلله تعالى أن يقول: أنا أحسنت أولا، والعبد أحسن في مقابلته، فالثواب تفضل من غير عوض. وله أن يقول: الذي فعلته أولا تفضل فإذا أتى العبد بالعمل الصالح جزيته خيرا لأن جزاء الإحسان إحسان، وهذا الاعتبار الثاني أليق بالكرم ليذيق العبد لذة الأجر والكسب، والاعتبار الأول أليق بالعبودية حتى يرى الفضل لله في جانب الأبد فإذن لا تنقطع المعاملة بين الله وبين العبد أبدا، وتكون العبادة لهم في الآخرة بمنزلة التنفس للملائكة. يروى أنه شجر بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط يوم بدر كلام فقال له الوليد: اسكت فإنك صبي. فقال له علي: اسكت فإنك فاسق. فأنزل الله تعالى فيهما خاصة وفي أمثالهما من الفريقين عامة أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً إلى آخر ثلاث آيات أو أربع. ومن أول الآية محمول على اللفظ وفي قوله لا يَسْتَوُونَ محمول على المعنى. ثم فصل عدم استوائهما بقوله أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا وجَنَّاتُ الْمَأْوى نوع من الجنان تأوي إليها أرواح الشهداء على قول ابن عباس. وقال بعضهم: هي عن يمين العرش. وفي لام التمليك في فَلَهُمْ مزيد تشريف وإيذان بأنهم لا يخرجون منها كما لا يخرج المالك من ملكه ولهذا لو قيل: هذه الدار لزيد يفهم منه الملكية بخلاف ما لو قيل: اسكن هذه الدار. فإنه يحمل على الإعارة وإنه تعالى قال لأبينا آدم اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة: 35] لأنه كان في علمه أنه يخرج منها. وإنما قيل هاهنا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ وفي «سبأ» عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها [الآية: 42] لأن النار في هذه السورة وقعت موقع الكناية لتقدم ذكرها، الكنايات لا توصف فوصف العذاب. وفي «سبأ» لم يتقدم ذكر النار فحسن وصف النار.   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 35. مسلم في كتاب الإيمان حديث 312 الترمذي في كتاب الجنة باب 15. ابن ماجة في كتاب الزهد باب 29. الدارمي في كتاب الرقاق باب 98. أحمد في مسنده (2/ 313) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 438 وتكذيبهم العذاب هو أنهم كانوا يقولون في الدنيا إنه لا عذاب في الآخرة، ويحتمل أن يراد بالتكذيب أنهم يقولون في الآخرة أول ما تأخذهم النار أنه لا عذاب فوق ما نحن فيه، فإذا زاد الله لهم ألما على ألم وهو قوله كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها صاروا كاذبين فيما زعموا أنه لا عذاب أزيد مما هم فيه، وعلى هذا يمكن أن يراد بالخروج منها والإعادة فيها هو أن أبدانهم تألف النار وتتعودها فيقل الإحساس بها فيعيد الله عليهم إحساسهم الأول فيزيد تألمهم، ومن هنا قالت الحكماء: إن الإحساس بحرارة حمى الدق أقل من الإحساس بحرارة الحمى البلغمية مع أن نسبة الدق إلى الثانية نسبة النار إلى الماء المسخن، ونظيره أن الإنسان يضع يده في الماء البارد فيتألم أولا، ثم إذا صبر زمانا طويلا زال ذلك الألم وذلك لبطلان حسه. ثم حتم على نفسه أنه يذيقهم عذاب الدنيا من القتل والأسر والقحط قبل أن يصلوا إلى عذاب الآخرة. وعن مجاهد: أن الأدنى هو عذاب القبر. وإنما لم يقل الأصغر في مقابلة الأكبر، أو الأبعد الأقصى في مقابلة الأدنى، لأن الغرض هو التخويف والتهديد وذلك إنما يحصل بالقرب لا بالصغر والكبر ولا بالبعد. ومعنى قوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ والترجي على الله محال لنذيقهم إذاقة الراجين رجوعهم عن الكفر والمعاصي كقوله إِنَّا نَسِيناكُمْ أي تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلا أي نذيقهم على الوجه الذي يفعل الراجي من التدريج، أو نذيقهم إذاقة يقول القائل: لعلهم يرجعون بسببه. قال في التفسير الكبير: إن الرجاء في أكثر الأمر يستعمل فيما لا تكون عاقبته معلومة، فتوهم الأكثرون أنه لا يجوز إطلاقه في حق الله تعالى وليس كذلك، فإن الجزم بالعاقبة إنما يحصل في حقه بدليل منفصل لا من نفس الفعل فإن التعذيب لا يلزم منه الرجوع لزوما بينا. قلت: هذا يرجع إلى التأويل الأول، فإن الكلام في تعذيب الله هل هو يستدعي الرجوع على سبيل الرجاء أم لا، وكون مطلق التعذيب مستدعيا لذلك لا يكفي للسائل. وقالت المعتزلة: لعل من الله إرادة وإرادة الله فعل المختار لا تقدح في اقتدار الله إذا لم يختر المختار مراد الله كما أنهم لم يختاروا التوبة والرجوع عن الكفر وإلا لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر. وإنما يقدح في اقتداره إذا تعلقت في إرادته بفعل نفسه أو بفعل المضطر المقسور ثم لا يوجد ذلك الفعل. وجوّز في الكشاف أن يراد: لعلهم يريدون الرجوع إلى الدنيا ويطلبونه كقوله فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً سميت إرادة الرجوع رجوعا كما سميت إرادة القيام قياما في قوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] ثم بين أنهم إذا ذكروا بالدلائل من النعم أولا والنقم ثانيا وهو العذاب الأدنى ثم لم يؤمنوا فلا أحد أظلم منهم. ومعنى ثُمَّ أنه ذكر مرات ثم بالآخرة أَعْرَضَ عَنْها والفاء في سورة الكهف تدل على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 439 الإعراض عقيب التذكير وقد سبق. وقال أهل المعاني: «ثم» هاهنا تدل على أن الإعراض بعد التذكير مستبعد في العقول. قال المحققون: الذي لا يحتاج في معرفة الله إلّا إلى الله عدل كقوله أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] كما قال بعضهم: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله. والذي يحتاج في ذلك إلى دلائل الآفاق والأنفس متوسط، والذي يقر عند الشدة ويجحد عند الرحمة ظالم كقوله وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [الروم: 33] والذي يبقى على الجحود والإعراض وإن عذب فلا أظلم منه. وحين جعله أظلم كان ظالم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم ليدل على إصابة الأظلم منهم النصيب الأوفر من الانتقام. ولو قال «إنا منهم منتقمون» لم يكن بهذه الحيثية في الإفادة. ثم عاد إلى تأكيد أصل الرسالة مع تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ قال جار الله: اللام للجنس ليشمل التوراة والفرقان. والضمير في لِقائِهِ للكتاب أي آتينا موسى مثل ما آتيناك ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي، فلا تك في شك من أنك لقيت مثله. واللقاء بمعنى التلقين والإعطاء كقوله وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ [النمل: 6] وقيل: الضمير في لِقائِهِ لموسى أي من لقائك موسى ليلة المعراج أو يوم القيامة، أو من لقاء موسى الكتاب وهو تلقيه له بالرضا والقبول. والضمير في جَعَلْنا للكتاب على أنه منزل على موسى. واستدل به على أن الله تعالى جعل التوراة هدى لبني إسرائيل خاصة ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل. ثم حكى أن منهم من اهتدى حتى صار من أئمة الهدى وذلك حين صبروا أو لصبرهم على متاعب التكليف ومشاق الدعاء إلى الدين بعيد إيقانهم به. وفيه أن الله تعالى سيجعل الكتاب المنزل على نبينا أيضا سبب الاهتداء والهداية وكان كما أخبر. ومثله إخبار النبي صلى الله عليه وسلم «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» ولا يخفى أن «من» التبعيضية في قوله وَجَعَلْنا مِنْهُمْ كانت تدل على أن بعضهم ليسوا أئمة الهدى، وفيه رمز إلى أن بعضهم كانوا أئمة الضلال فلذلك قال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ الآية. وفيه إشارة إلى أنه سبحانه سيميز المحق في كل دين من المبطل. ثم أعاد أصل التوحيد مقرونا بالوعيد قائلا أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ وقد مر نظيره في آخر «طه» وإنما قال في آخر الآية إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ على الجمع ليناسب القرون والمساكن. وإنما قال أَفَلا يَسْمَعُونَ لأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع، وفيه إشارة إلى أنه لاحظ لهم منه إلا السماع. وحين ذكر الإهلاك والتخريب أتبعه ذكر الإحياء والعمارة. ومعنى نَسُوقُ الْماءَ نسوق السحاب وفيه المطر إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ وهي التي جز نباتها أي قطع إما لعدم الماء وإما لأنه رعي وأزيل. قال جار الله: ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز بدلالة قوله فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً وعن ابن عباس أنها أرض اليمن، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 440 والضمير في «به» للماء. وإنما قدم الأنعام هاهنا على الأنفس لأن الزرع لا يصلح أوّله إلا للأنعام وإنما يحدث الحب في آخر أمره. قال في «طه» كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [الآية: 54] لأن الأزواج من النبات أعم من الزرع وكثير منه يصلح للإنسان في أول ظهوره مع أن الخطاب لهم فناسب أن يقدموا وإنما ختم الآية بقوله أَفَلا يُبْصِرُونَ تأكيدا لقوله في أول الآية أَوَلَمْ يَرَوْا ثم حكى نوع جهالة أخرى عنهم وهو استعجالهم العذاب. قال المفسرون: كان المسلمون يقولون إن الله سيفتح لنا على المشركين أي ينصرنا عليهم ويفتح بيننا وبينهم أي يفصل، فاستعجل المشركون ذلك. ويوم الفتح يوم القيامة فحينئذ تنفتح أبواب الأمور المبهمة أو يوم بدر أو يوم فتح مكة قاله مجاهد والحسن. فإن قلت: كيف ينطبق قوله قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ إلخ جوابا عن سؤالهم عن وقت الفتح؟ فالجواب أنهم سألوا ذلك على وجه التكذيب والاستهزاء فقيل لهم: لا تستهزؤا فكأنا بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان واستنظرتم فلم تنظروا. ومن فسر يوم الفتح بيوم بدر أو بيوم فتح مكة فالمراد أن المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل وإلا فقد نفع الإيمان الطلقاء يوم فتح مكة وناسا يوم بدر. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وانتظار النصرة عليهم حين علم أنه لا طريق معهم إلا القتال نظيره قوله قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور: 31] . التأويل: الألف المحبون لقربي والعارفون بتمجيدي فلا يصبرون عني ولا يستأنسون بغيري. اللام الأحباء لي مدخر لقائي فلا أبالي أقاموا على وثاقي أم قصروا في وفائي. الميم ترك أوليائي مرادهم لمرادي فلذلك اخترتهم على جميع عبادي تَنْزِيلُ الْكِتابِ أعز الأشياء على الأحباب كتاب الأحباب أنزله رَبِّ الْعالَمِينَ لأهل الظاهر على ظاهرهم ولأهل الباطن في باطنهم فاستناروا بنوره وتكلموا بالحق عن الحق للحق فلم يفهمه أهل الغرة والغفلة فقالوا افْتَراهُ. خلق سموات الأرواح وأرض الأشباح وما بينهما من النفس والقلب والسر في ستة أجناس هي: الجماد والمعدن والنبات والحيوان والشيطان والملك ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الخفي وهو لطيفة ربانية قابلة للفيض الرباني بلا واسطة فَلا تَتَذَكَّرُونَ كيف خلقكم في أطوار مختلفة يُدَبِّرُ الْأَمْرَ من سماء الروح إلى أرض النفس البدن ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ النفس المخاطبة بخطاب ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] في يوم طلعت فيه شمس صدق الطلب، وأشرقت الأرض بنور جذبات الحق كانَ مِقْدارُهُ في العروج بالجذبة كألف سنة مما تعدون من أيامكم في السير من غير جذبة كما قال صلى الله عليه وسلم «جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين» وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ وخمره بيده في أربعين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 441 صباحا فأودع في كل صباح خاصية نوع من أنواع عالم الشهادة ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ سلها من أجناس عالم الشهادة. ثُمَّ سَوَّاهُ شخص إنسان جديد المرآة وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ فصار مرآة قابلة لإراءة صفات جماله وجلاله. ثم تجلى فيها بتجلية صفة السمعية والبصرية والعالمية التي مرآتها السمع والأبصار والأفئدة ضَلَلْنا في أرض البشرية يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ وهو المحبة الإلهية بقبض الأرواح من صفات الإنسانية ويميتها عن محبوباتها بجذبة ارْجِعِي [الفجر: 28] ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ بالتوجه إلى حضيض عالم الطبيعة كالأنعام بعد أن كانوا رافعي الرؤوس يوم الميثاق. تَتَجافى جُنُوبُهُمْ همتهم عن مضاجع الدارين جَنَّاتُ الْمَأْوى التي هي مأوى الأبرار تكون نزلا للمقربين السائرين إلى الله كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ لأنه لم يكن لكم به شعور في الدنيا لأنكم كنتم في يوم الغفلة والاشتغال بالمحسوسات الْعَذابِ الْأَدْنى إذا وقعت للسالك فترة ووقفة لعجب تداخله أو لملالة وسآمة ابتلاه الله ببلاء في نفسه أو ماله أو مصيبة في أهاليه وأقربائه وأحبابه لعله ينتبه من نوم الغفلة ويدارك أيام العطلة قبل أن يذيقه العذاب الأكبر في الخذلان والهجران فلا تك في مرية من لقائه أي من أنه يرى الرب ببركة متابعتك حين قال: اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الرؤية مخصوصة بك وبتبعتك لأمتك. ويحتمل أن يكون الخطاب في فلاتك لموسى القلب والضمير في لِقائِهِ لله. وجعلنا موسى القلب هدى لبني إسرائيل صفات القلب وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً هم السر الخفي إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ الآية. لأنهم عنده أعز من أن يجعل حكمهم إلى أحد من المخلوقين، ولأنه أعلم بحالهم من غيرهم ولئلا يطلع على أحوالهم غيره لأنه خلقهم للمحبة والرحمة فينظر في شأنهم بنظر المحبة والرضا، لأنه عفوّ يفيض العفو والجود فتحيا به القلوب الميتة فيسقي حدائق وصلهم بعد جفاف عودها وزوال المأنوس من معهودها فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً من الواردات التي تصلح لتربية النفوس وهي الأنعام، ومن المشاهدات التي تصلح لتغذية القلوب. ويقول المنكرون لهذه الطائفة مَتى هذَا الْفَتْحُ أي الفتوح التي تدعونها قل لا ينفعكم ذلك إذ لم تقتدوا بهم ولم تهتدوا بهديهم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أيها الطالب بالإقبال علينا وبالله التوفيق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 442 (سورة الأحزاب) (مدنية حروفها خمسة آلاف وسبعمائة وستة وتسعون كلمها ألف ومائتان وثمانون آياتها ثلاث وسبعون) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 443 القراآت: بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ على الغيبة والضمير للمنافقين: أبو عمرو اللَّائِي بهمزة بعدها ياء: حمزة وعلي وخلف وعاصم وابن عامر. بهمزة مكسورة فقط: سهل ويعقوب ونافع غير ورش من طريق النجاري وابن مجاهد وابن عون عن قنبل اللاي بياء مكسورة فقط: أبو عمرو وورش من طريق النجاري ويزيد وسائر الروايات عن ابن كثير وكذلك في «المجادلة» و «الطلاق» تُظاهِرُونَ من المظاهرة عاصم تُظاهِرُونَ بحذف إحدى تاءي الفاعل: حمزة وعلي وخلف. مثله ولكن بإدغام التاء في الظاء: ابن عامر الباقون تظهرون بتشديد الظاء والهاء بما يعملون بصيرا على الغيبة: أبو عمرو وعباس مخير وَإِذْ زاغَتِ مدغما: أبو عمرو وعلي وهشام وحمزة في رواية ابن سعدان وخلاد وابن عمرو وزاغَتِ ممالة: نصير وحمزة في رواية خلاد ورجاء الظُّنُونَا والرَّسُولَا والسَّبِيلَا في الحالين: أبو عمرو ونافع وابن عامر وعباس والخراز وأبو بكر وحماد والمفضل. وقرأ أبو عمرو غير عباس وحمزة ويعقوب بغير ألف في الحالين. الباقون: بالألف في الوقوف وبغير ألف في الوصل لا مُقامَ بضم الميم: حفص الآخرون: بفتحها. لأتوها مقصورا من الإتيان: أبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون: بالمد من الإيتاء والإعطاء ويسائلون بإدغام التاء في السين من التفاعل: يعقوب الباقون يَسْئَلُونَ ثلاثيا. الوقوف: وَالْمُنافِقِينَ ط حَكِيماً هـ رَبِّكَ ط خَبِيراً هـ عَلَى اللَّهِ ط وَكِيلًا ط هـ فِي جَوْفِهِ ج فصلا بين بيان الحالين المختلفين مع اتفاق الجملتين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 444 أُمَّهاتِكُمْ ج لذلك أَبْناءَكُمْ ط بِأَفْواهِكُمْ ط السَّبِيلَ هـ عِنْدَ اللَّهِ ج للشرط مع العطف وَمَوالِيكُمْ ط أَخْطَأْتُمْ بِهِ لا لأن التقدير ولكن فيما تعمدت قلوبكم وكذا إن كان خبر مبتدأ محذوف أي ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح وذلك للاستدراك رَحِيماً هـ ط أُمَّهاتُهُمْ ط مَعْرُوفاً هـ مَسْطُوراً هـ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ص للعطف غَلِيظاً هـ صِدْقِهِمْ ج لأن الماضي لا ينعطف على المستقبل ولكن التقدير: وقد أعاد أَلِيماً هـ تَرَوْها ط بَصِيراً هـ ج لاحتمال أن يكون المراد واذكر إذ جاؤكم ولا سيما على قراءة يعملون على الغيبة الظُّنُونَا ط شَدِيداً هـ غُرُوراً هـ فَارْجِعُوا ج لظاهر الواو وإن كانت للاستئناف بِعَوْرَةٍ ط بناء على أن ما بعده ابتداء إخبار من الله، ومن وقف على عَوْرَةٌ وجعل ابتداء الإخبار من هناك لم يقف فِراراً هـ يَسِيراً هـ الْأَدْبارَ ط مَسْؤُلًا هـ قَلِيلًا هـ رَحْمَةً ط وَلا نَصِيراً هـ إِلَيْنا ج لاحتمال كون ما بعده استئنافا أو حالا قَلِيلًا لا لأن ما بعده حال عَلَيْكُمْ ج لعطف الجملتين المختلفتين الْمَوْتِ ج فصلا بين تناقض الحالين الْخَيْرِ ط أَعْمالَهُمْ ط يَسِيراً هـ لَمْ يَذْهَبُوا ج أَنْبائِكُمْ ط قَلِيلًا هـ. التفسير: لما أمره في آخر السورة المتقدمة بانتظار الفرج والنصر أمره في أول هذه السورة بأن لا يتقي غير الله ولا يطيع سواه. قال جار الله عن زر قال: قال أبي بن كعب: كم تعدون سورة الأحزاب؟ قلت: ثلاثا وسبعين آية. قال: فو الذي يحلف به أبي بن كعب إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول، ولقد قرأنا منها آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما» إلى آخره. أراد أبي بن كعب أنها من جملة ما نسخ من القرآن. وأما ما يحكى أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليفات المبتدعة. ومن تشريفات الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نودي في جميع القرآن بالنبي أو الرسول دون اسمه كما جاء يا آدَمُ [البقرة: 35] يا مُوسى [طه: 11] يا عِيسى [آل عمران: 55] يا داوُدُ [ص: 26] وإنما جاء في الأخبار مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح: 29] تعليما للناس وتلقينا لهم أنه رسول وجاء ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: 40] وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ [محمد: 2] لأن المقام مقام تعيين وتشخيص وإزالة اشتباه مع قصد أن لا يكون القرآن خاليا عن بركة اسمه العلم وحيث لم يقصد هذا المعنى ذكره بنحو ما ذكره في النداء كقوله لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ [التوبة: 128] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ [الأحزاب: 21] والمراد بقوله اتَّقِ اللَّهَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 445 واظب على ما أنت عليه من التقوى ولو أريد الازدياد جاز لأن التقوى باب لا يبلغ آخره ولا يأمن أحد أن يصدر عنه ما لا يوافق التقوى ولا يطابق الدعوى ولهذا جاء قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف: 110] يعني إنما يرفع عني الحجاب فينكشف لي الوحي، وإذا أرخى لدي الستر فإني كهيئتكم. يروى أنه صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام يهود قريظة والنضير وغيرهم وقد تابعه ناس منهم على النفاق كان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم فنزلت. وروي أن أبا سفيان بن حرب وأشياعه قدموا المدينة أيام المصالحة فقالوا: يا رسول الله ارفض ذكر آلهتنا وندعك وربك، فشق ذلك على المؤمنين فهموا بقتلهم فنزلت. أي اتق الله في نقض العهد. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ من أهل مكة وَالْمُنافِقِينَ من أهل المدينة فيما طلبوا إليك وكانوا يقولون له أن يعطوه شطر أموالهم إن رجع عن دينه. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالصواب حَكِيماً فيما أمرك به من عدم اتباع آرائهم وأهوائهم، وحين نهاه عن اتباع الغي أمره باتباع ما هو رشد وصلاح وهو القرآن، وبأن يثق بالله ويفوّض إليه أموره فلا يخاف غيره ولا يرجو سواه. ولما أمر رسوله بما أمر من اتقاء الله وحده وقد ابتدر منه صلى الله عليه وسلم في حكاية زينب زوجة دعيه زيد ما ابتدر قال على سبيل المثل ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ كأنه قال: يا أيها النبي اتق الله حق تقاته وهو أن لا يكون في قلبك تقوى غير الله فإن المرء ليس له قلبان حتى يتقي بأحدهما الله وبالآخر غيره كما جاء في قصة زيد وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ثم أراد أن يدفع عنه مقالة الناس بأنه تعالى لم يجعل دعي المرء ابنه فقدم على ذلك مقدمة وهي قوله وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ إلى آخرها أي إنكم إذا قلتم لأزواجكم: أنت عليّ كظهر أمي لا تصير أما بإجماع الكل، أما في الإسلام فإنه ظهار لا يحرم الوطء كما سيجيء في سورة المجادلة. وأما في الجاهلية فلأنه كان طلاقا حتى كان يجوز للزوج أن يتزوج بها ثانيا. فكذلك قول القائل للدعيّ إنه ابني لا يوجب كونه ابنا فلا تصير زوجته زوجة الابن، فلم يكن لأحد أن يقول في ذلك شيئا، فلم يكن لخوفك من الناس وجه ولو كان أمرا مخوفا ما كان يجوز أن تخاف غير الله إذ ليس لك قلبان في الجوف. والفائدة في ذكر هذا القيد كالفائدة في قوله الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] من زيادة التصوير للتأكيد. ومعنى ظاهر من امرأته قال لها: أنت علي كظهر أمي. كأنه قال: تباعدي مني بجهة الظهار. وعدى ب «من» لتضمين معنى التباعد. وإنما كنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذي يقارب الفرج فكنوا عنه بالظهر الذي يلازمه لأنه عموده وبه قوامه. وقيل: إن إتيان المرأة في قبلها من جانب ظهرها كان محذورا عندهم زعما منهم بأن الولد حينئذ يجيء أحول، فلقصد التغليظ شبهها المطلق منهم بالظهر، ثم لم يقنع بذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 446 حتى جعله ظهر أمه. والدعي «فعيل» بمعنى «مفعول» وهو المدعو ولد أشبه بفعيل الذي هو بمعنى «فاعل» كتقي وأتقياء فجمع على «أفعلاء» . واعلم أن زيد بن حارثة كان رجلا من قبيلة كلب سبي صغيرا فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله وهبته له وطلبه أبوه وعمه فخير فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وكانوا يقولون زيد بن محمد فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقوله ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الأحزاب: 40] وقيل: كان أبو معمر رجلا من أحفظ العرب وكان يقال له ذو القلبين. وقيل: هو جميل الفهري كان يقول: إن لي قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد، فأكذب الله قولهما وضربه مثلا في الظهار والتبني. وقيل: سها في صلاته فقالت اليهود وأهل النفاق: لمحمد قلبان، قلب مع أصحابه وقلب معكم. وعن الحسن: نزلت فيمن يقول: نفس تأمرني ونفس تنهاني ومعنى التنكير في لِرَجُلٍ وزيادة من الاستغراقية التأكيد كأنه قيل: ما جعل الله لنوع الرجال ولا لواحد منهم قلبين البتة ذلِكُمْ النسب قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ إذ لا أصل شرعا لقول القائل: هذا ابني. وذلك إذا كان معروف النسب حرا، أما إذا كان مجهول النسب فإن كان حرا ثبت نسبه من المتبني ظاهرا إن أمكن ذلك بحسب السن، وإن كان عبدا له عتق وثبت النسب. وإن كان العبد معروف النسب عتق ولم يثبت النسب. ثم بين ما هو الحق والهدى عند الله فقال ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أي انسبوهم إليهم فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فهم إخوانكم في الدين ومواليكم فقولوا: هذا أخي أو مولاي يعني الولاية في الدين. ثم رفع الجناح إذا صدر القول المذكور خطأ على سبيل سبق اللسان وكذا ما فعلوه من ذلك قبل ورود النهي. ويجوز أن يراد العفو عن الخطأ على طريق العموم فيتناول لعمومه خطأ النبي وعمده وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للخاطيء رَحِيماً للعامل ولا سيما إذا تاب. ثم إنه كان لقائل أن يقول: هب أن الدعي لا يسمى ابنا، أما إذا كان لدعيه شيء حسن فكيف يليق بالمروءة أن تطمح عينه إليه وخاصة إذا كان زوجته فلذلك قال في جوابه النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ والمعقول فيه أنه رأس الناس ورئيسهم فدفع حاجته والاعتناء بشأنه أهم كما أن رعاية العضو الرئيس وحفظ صحته وإزالة مرضه أولى وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» «1» ويعلم من إطلاق الآية أنه أولى بهم من أنفسهم في كل شيء من أمور الدنيا والدين. وقيل: إن أولى بمعنى أرأف وأعطف كقوله صلى الله عليه وسلم   (1) رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث 95، 97. أبو داود في كتاب الزكاة باب 39، 40. أحمد في مسنده (2/ 94) . [ ..... ] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 447 «ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة اقرؤا إن شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن هلك وترك مالا فلترثه عصبته من كانوا وان ترك دينا أو ضياعا أي عيالا فإليّ» «1» وكما رفع قدره بتحليل أزواج غيره له إذا تعلق قلبه بإحداهن رفع شأنه بتحريم أزواجه على أمته ولو بعد وفاته فقال وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي في هذا الحكم فإنهن فيما وراء ذلك كالأجنبيات ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن. ومن كمال عناية الله سبحانه بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن لم يقل وهو أب لهم وإن جاءت هذه الزيادة في قراءة ابن مسعود وإلا حرم زوجات المؤمنين عليه أبدا، إلا أن يراد الأبوة والشفقة في الدين كما قال مجاهد: كل نبي فهو أبو أمته. ولذلك صار المؤمنون أخوة. قال المفسرون: كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة فنسخه الله بقوله وَأُولُوا الْأَرْحامِ الآية. وجعل التوارث بحق القرابة ومعنى فِي كِتابِ اللَّهِ في اللوح أو في القرآن وهو هذه الآية وآية المواريث وقد سبق نظيره في آخر «الأنفال» . وقوله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إما ان يتعلق ب أُولُوا الْأَرْحامِ أي الأقارب من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب، وإما أن يتعلق ب أَوْلى أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية الدينية ومن المهاجرين بحق الهجرة. ثم أشار إلى الوصية بقوله إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا أي إلا أن يسدوا ويوصلوا إلى أوليائهم في الدين وهم المؤمنون والمهاجرون معروفا برا بطريق التوصية. والحاصل أن الأقارب أحق من الأجانب في كل نفع من ميراث وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك إلا في الوصية فإنه لا وصية لوارث. قال أهل النظم: كأنه سبحانه قال: بينكم هذا التوارث والنبي لا توارث بينه وبين أقاربه فلذلك جعلنا له بدل هذا أنه أولى في حياته بما في أيديكم، أو لعله أراد دليلا على قوله أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ فذكر أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، ثم لو أراد أحد برا مع صديقه صار ذلك الصديق أولى من قريبه كأنه بالوصية قطع الإرث وقال: هذا مالي لا ينتقل مني إلا إلى من أريده، فالله تعالى كذلك جعل لصديقه من الدنيا ما أراده. ثم ما يفضل منه يكون لغيره كانَ ذلِكَ الذي ذكر في الآيتين فِي الْكِتابِ وهو القرآن أو اللوح مَسْطُوراً والجملة مستأنفة كالخاتمة للأحكام المذكورة. ثم أكد الأمر بالاتقاء بقوله وَإِذْ أَخَذْنا أي اذكر وقت أخذنا في الأزل مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القويم من غير تفريط وتوان. وقد خصص بالذكر   (1) رواه البخاري في كتاب الاستقراض باب 11. أحمد في مسنده (2/ 334) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 448 خمسة لفضلهم وقدم نبينا صلى الله عليه وسلم لأفضليته. وإنما قدم نوحا في قوله شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى: 13] لأن المقصود هنالك وصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة فكأنه قال: شرع لكم من الدين الأصلي الذي بعث عليه نوح في العهد القديم، ومحمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير. وإنما نسب الدين القديم إلى نوح لا إلى آدم لأن نوحا كان أصلا ثانيا للناس بعد الطوفان، وخلق آدم كان كالعمارة ونبوته كانت إرشادا للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب كما في زمن نوح والله أعلم. قال أهل البيان: أراد بالميثاق الغليظ ذلك الميثاق بعينه أي وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقا غليظا أي عظيما وهو مستعار من وصف الأجرام. وقال آخرون: هو سؤالهم عما فعلوا في الإرسال كما قال وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] وهذا لأن الملك إذا أرسل رسولا وأمره بشيء وقبله كان ميثاقا فإذا أعلمه بأنه يسأل عن حاله في أفعاله وأقواله يكون تغليظا في الميثاق عليه حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة، وعلى هذا يحق أن يقال: قوله في سورة النساء وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [الآية: 21] هو الإخبار بأنهم مسؤولون عنهن كما قال صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» «1» ثم بين الغاية من إرسال الرسل فقال لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ الآية. وفيه أن عاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب لأن الصادق محاسب والكاذب معاقب كما قال علي رضي الله عنه: حلالها حساب وحرامها عقاب. فالصادقون على هذا التفسير هم الذين صدقوا عهدهم يوم الميثاق حين قالوا بَلى في جواب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] ثم أقاموا على ذلك في عالم الشهادة، أو هم المصدقون للأنبياء فإن من قال للصادق صدقت كان صادقا. ووجه آخر وهو أن يراد بهم الأنبياء فيكون كقوله وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] وكقوله يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] وفائدة مسألة الرسل تبكيت الكافرين كما مر. قال جار الله: قوله وَأَعَدَّ معطوف على أخذنا كأنه قال: أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وأعد أو على ما دل ليسأل كأنه قيل: فأثاب للمؤمنين وأعد للكافرين. وفيه وجه آخر عرفته في الوقوف. ثم أكد الأمر بالاتقاء من الله وحده مرة أخرى فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا الآية. وذلك أن في وقعة الأحزاب اشتد الأمر على الأصحاب لاجتماع المشركين بأسرهم واليهود بأجمعهم، فأمنهم الله وهزم عدوهم فينبغي أن لا يخاف العبد غير الله القدير   (1) رواه البخاري في كتاب الجمعة باب 11. مسلم في كتاب الإمارة حديث 20 أبو داود في كتاب الإمارة باب 1، 13. الترمذي في كتاب الجهاد باب 27. أحمد في مسنده (2/ 45، 54) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 449 البصير. وذكروا في القصة أن قريشا كانت قد أقبلت في عشرة آلاف من أحزاب بني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان وقد خرج غطفان في ألف ومن تابعهم من نجد وقائدهم عيينة بن حصن وعامر بن الطفيل في هوازن وضامتهم اليهود من قريظة والنضير. وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة أشار عليه بذلك سلمان الفارسي، ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالنساء أن يرفعوا في الآطام واشتد الخوف وظن المسلمون كل ظن ونجم النفاق من المنافقين حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا نقدر أن نذهب إلى الغائط. ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى أنزل الله النصر، وذلك بأن أرسل على أولئك الجنود المتحزبة ريح الصبا في ليلة باردة شاتية فسفت التراب في وجوههم وَأرسل جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة وكانوا ألفا فقلعوا الأوتاد وقطعوا الأطناب وأطفأوا النيران وأكفئوا القدور وتفرقت الخيول وكثرت الملائكة في جوانب عسكرهم وقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا. ومعنى مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي من قبل المشرق وهم بنو غطفان وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من قبل المغرب وهم قريش تحزبوا وقالوا: سنكون جملة واحدة حتى نستأصل محمدا. ومعنى زيغ الأبصار ميلها عن سننها واستوائها حيرة، أو عدولها عن كل شيء الا عن العدو فزعا وروعا. والحنجرة منتهى الحلقوم، وبلوغ القلوب الحناجر إما أن يكون مثلا لاضطراب القلوب وقلقها وإن لم تبلغها في الحقيقة، وإما أن يكون حقيقة لأن القلب عند الخوف يجتمع فيتقلص ويلتصق بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يسد مخرج النفس فيموت وإنما جمع الظنون مع أن الظن مصدر لأن المراد أنواع مختلفة، فظن المؤمنون الابتلاء والفتنة فخافوا الزلل وضعف الاحتمال، وظن المنافقون وضعاف اليقين الذين في قلوبهم مرض وهم على حرف ما حكى الله عنهم وهو قوله ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً كما حكينا عن معتب. ومن فوائد جمع الظن أن يعلم قطعا أن فيهم من أخطأ الظن فإن الظنون المختلفة لا تكون كلها صادقة. فأما أن تكون كلها كاذبة أو بعضها فقط والمقام مقام تقرير نتائج الخوف. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ كعبد الله بن أبي وأصحابه ويثرب اسم المدينة أو أرض وقعت المدينة في ناحية منها لا مُقامَ لَكُمْ أي لاقرار لكم ولا مكان هاهنا تقومون أو تقيمون فيه على القراءتين، فارجعوا إلى المدينة واهربوا من عسكر رسول الله، أو ارجعوا كفارا واتركوا دين محمد وإلا فليست لكم يثرب بمكان، ثم إن السامعين عزموا على الرجوع فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم وتعللوا بأن بيوتنا عورة أي ذات خلل لا يأمن أصحابها بها السراق على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 450 متاعهم، أو أنها معرضة للعدو فأكذبهم الله تعالى بقوله وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ ثم أظهر ما تكن صدورهم فقال إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً ثم بين مصداق ذلك بقوله وَلَوْ دُخِلَتْ أي المدينة عليهم من أقطارها أو دخلت عليهم بيوتهم من جوانبها وأكنافها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ أي الارتداد والرجوع إلى الكفر وقتال المسلمين لَآتَوْها والحاصل أنهم يتعللون بأعوار بيوتهم ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو دخلت عليهم هؤلاء العساكر المتحزبة التي يفرون منها مدينتهم وبيوتهم من نواحيها كلها لأجل النهب والسبي ثم عرض عليهم الكفر ويقال لهم كونوا على المسلمين لتسارعوا إليه وما تعللوا بشيء. ويمكن أن يراد أن ذلك الفرار والرجوع ليس لأجل حفظ البيوت لأن من يفعل فعلا لغرض فإذا فاته الغرض لا يفعله كمن يبذل المال لكيلا يؤخذ منه بيته فإذا أخذ منه البيت لا يبذله، فأكذبهم الله تعالى بأن الأحزاب لو دخلت بيوتهم وأخذوها منهم لرجعوا عن نصرة المسلمين فتبين أن رجوعهم عنك ليس إلا لكفرهم ومقتهم الإسلام. والضمير في قوله وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً يرجع إلى الفتنة أي لم يلبثوا بإتيان الفتنة أو بإعطائها إلا زمانا يسيرا ريثما يكون السؤال والجواب أو لم يقيموها إلا قليلا ثم تزول وتكون العاقبة للمتقين. ويحتمل عود الضمير إلى المدينة أي وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا قليلا فإن الله يهلكهم. قوله وَلَقَدْ كانُوا الآية. عن ابن عباس: عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم. وقيل: هم قوم غابوا عن بدر فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن. وعن محمد بن اسحق: عاهدوا يوم أحد أن لا يفروا بعد أن نزل فيهم ما نزل. ثم ذكر أن عهد الله مسؤول عنه وأن ما قضى الله وقدر من الموت حتف الأنف أو من القتل فهو كائن والفرار منه غير نافع، ولئن فرض أن الفرار منه فتمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتع في مراتع الدنيا إلا زمانا قليلا. عن بعض المروانية أنه مر بحائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال: ذلك القليل نطلب. ثم أكد التقرير المذكور بقوله قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ الآية. قال جار الله: لا عصمة إلا من السوء فتقدير الكلام: من يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو من يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر الكلام كقوله متقلدا سيفا ورمحا. أي ومعتقلا رمحا. أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع. والمعوقون الذين يمنعون الناس من نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون واليهود هَلُمَّ إِلَيْنا معناه قربوا أنفسكم إلينا وقد مر في «الأنعام» في قوله قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ [الآية: 15] وقوله وَلا يَأْتُونَ معطوف على الْقائِلِينَ لأنه في معنى الذين يقولون. وقوله إِلَّا قَلِيلًا أي إلا إتيانا قليلا كقوله ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا لقلة الرغبة. وعوز الجد والأشحة جمع شحيح قيل: معناه أضناء بكم أي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 451 يظهرون الإشفاق على المسلمين قبل شدة القتال، فإذا جاء البأس ارتعدت فرائصهم وتدور أعينهم كدوران عين من يغشى عليه من سكرات الموت. وقيل: أراد أنهم يبخلون بأموالهم وأنفسهم فلا يبذلونهما في سبيل الله فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ وجمعت الغنائم سَلَقُوكُمْ أي بسطوا إليكم ألسنتهم قائلين وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم وبنا نصرتم وبمكاننا غلبتم عدوكم، فهم عند البأس أجبن قوم وأخذلهم للحق، وأما عند حيازة الغنيمة فأشحهم وأوقعهم والحداد جمع حديد، وكرر أشحة لأن الأول مطلق والثاني مقيد بالخير وهو المال والثواب أو الدين أو الكلام الجميل. أُولئِكَ المنافقون لَمْ يُؤْمِنُوا حقيقة وإن آمنوا في الظاهر فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ التي لها صورة الصلاح بأن أعلم المسلمين أحوال باطنهم وَكانَ ذلِكَ الذي ذكر من أعمال أهل النفاق يَسِيراً على الله لا وزن لها عنده أو وكان ذلك الإحباط عليه سهلا. قال في الكشاف: لأن أعمالهم حقيقة بالإحباط تدعو إليه الدواعي ولا يصرف عنه صارف. ويمكن أن يقال: إعدام الجواهر هين على الله فإعدام الإعراض ولا سيما بمعنى عدم اعتبار نتائجها أولى بأن يكون هينا. ثم قرر طرفا آخر من جبنهم وهو أنهم يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وقد ذهبوا فانصرف المنافقون إلى المدينة منهزمين بناء على هذا الحسبان. ومن جملة جبنهم وضعف احتمالهم أنه إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرة ثانية تمنوا أَنَّهُمْ بادُونَ أي خارجون إلى اليد وحاصلون فيما بين الأعراب حذرا من عيان القتال فيكون حالهم إذ ذاك أنهم يسئلون عن أخباركم قانعين من العيان بالأثر ومن الحضور بالخبر وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ولم ينصرفوا إلى المدينة وكان قتال لم يقاتلوا إِلَّا قَلِيلًا إبداء للعذر على سبيل الرياء والضرورة. التأويل: «اتق الله» من التكوين وكان عليه السلام متقيا من الأزل إلى الأبد، وكذا الكلام فيما يتلوه من النواهي والأوامر ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ لأن القلب صدف درة المحبة ومحبة الله لا تجتمع مع محبة الدنيا والهوى وغيرهما، فالقلب واحد كما أن المحبة واحدة والمحبوب واحد وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ ووَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ فيه أن الحقائق لا تنقلب لا عقلا ولا طبعا ولا شرعا وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ من معرفة الأنساب فإن النسب الحقيقي ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه النسب الباقي كما قال «كل حسب ونسب ينقطع إلا حسبي ونسبي» فحسبه الفقر ونسبه النبوة وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ بقطع الرحم عن النبوة بترك سنته وسيرته النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لأنهم لا يقتدرون على توليد أنفسهم في النشأة الثانية كما لم يقدروا على توليد أنفسهم في النشأة الأولى، وكان أبوهم أحق بهم من أنفسهم في توليدهم من صلبه وأزواجه وهن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 452 قلوبهم أمهاتهم لأنه يتصرف في قلوبهم تصرف الذكور في الإناث بشرط كمال التسليم ليقع من صلب النبوة نطفة الولاية في أرحام القلوب، وإذا حملوا النطفة صانوها عن الآفات لئلا تسقط بأدنى رائحة من روائح حب الدنيا وشهواتها فيرتدوا على أعقابهم. وبعد النبي صلى الله عليه وسلم سائر أقارب الدين بعضهم أولى ببعض لأجل التربية ومن المؤمنين بالنشأة الأخرى والمهاجرين عن أوطان البشرية إلا إذا تزكت النفس بالأخلاق الحميدة وصارت من الأولياء بعد أن كانت من الأعداء فيعمل معها معروفا برفق من الإزهاق وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ في الأزل وَمِنْكَ يا محمد أولا بالحبيبية وَمِنْ نُوحٍ بالدعوة ومن إبراهيم بالخلة ومن موسى بالمكالمة ومن عيسى بن مريم بالعبدية، وغلظنا الميثاق بالتأييد والتوثيق لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ سؤال تشريف لا سؤال تعنيف. والصدق أن لا يكون في أحوالك شوب ولا في أعمالك عيب، ولا في اعتقادك ريب، ومن أماراته وجود الإخلاص من غير ملاحظة المخلوق وتصفية الأحوال من غير مداخلة إعجاب، وسلامة القول من المعاريض، والتباعد عن التلبيس فيما بين الناس، وإدامة التبري من الحول والقوة، بل الخروج من الوجود الحقيقي إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ الشياطين وصفات النفس الدنيا وزينتها مِنْ فَوْقِكُمْ وهي الآفات السماوية وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وهي المتولدات البشرية. أو مِنْ فَوْقِكُمْ وهي الدواعي النفسانية في الدماغ، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ هي الدواعي الشهوانية فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً من نكبات قهرنا وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها من حفظنا وعصمتنا وعاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ الشروع في الطلب أنهم لا يولون أدبارهم عند الجهاد مع الشيطان والنفس لإخوانهم وهم الحواس والجوارح كونوا أتباعا لنا والله أعلم. تم الجزء الحادي والعشرون ويليه الجزء الثاني والعشرون وأوله: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 453 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الثاني والعشرون من أجزاء القرآن الكريم [سورة الأحزاب (33) : الآيات 21 الى 40] لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 454 القراآت: أُسْوَةٌ بضم الهمزة حيث كان: عاصم وعباس. الآخرون: بكسرها نضعف بالنون وكسر العين العذاب بالنصب: ابن كثير وابن عامر، وقرأ أبو عمرو ويزيد ويعقوب بالياء المضمومة والعين مفتوح وبرفع العذاب. الآخرون: مثله ولكن بالألف من المضاعفة ويعمل صالحا يؤتها على التذكير والغيبة: حمزة وعلي وخلف وافق المفضل في ويعمل الباقون: بتأنيث الأول وبالنون في الثاني. وَقَرْنَ بفتح القاف: أبو جعفر ونافع وعاصم غير هبيرة. الباقون: بكسرها. وَلا تَبَرَّجْنَ أَنْ تَبَدَّلَ بتشديد التاءين: البزي وابن فليح أن يكون على التذكير: عاصم وحمزة وعلي وخلف وهشام. وَخاتَمَ بفتح التاء بمعنى الطابع: عاصم. الباقون: بكسرها. الوقوف: كَثِيراً هـ لإبتداء القصة الْأَحْزابَ لا لأن قالُوا جواب «لما» رَسُولُهُ الثاني ز لاحتمال الاستئناف والحال أوجه وَتَسْلِيماً ط عَلَيْهِ ج لابتداء التفصيل مع الفاء يَنْتَظِرُ لا لاحتمال الحال وجانب الابتداء بالنفي أرجح تَبْدِيلًا هـ لا إلا عند أبي حاتم عَلَيْهِمْ ط رَحِيماً هـ لا للآية لاحتمال كون ما بعده صفة أو استئنافا شجرها ط مع الله ط يعدلون هـ حاجِزاً ط مع الله ط لا يعلمون هـ ط خلفاء الأرض هـ ط مع الله ط ما تذكرون هـ ط رحمته ط مع الله ط يشركون ط والأرض ط مع الله ط صادقين هـ إِلَّا اللَّهَ ط يبعثون هـ عمون هـ. التفسير: لما فرغ من توبيخ المنافقين حث جمع المكلفين على مواساة الرسول وموازرته كما واساهم بنفسه في الصبر على الجهاد والثبات في مداحض الأقدام. والأسوة القدوة وهو المؤتسى به أي المقتدى به، فالمراد أنه في نفسه قدوة كما تقول في البيضة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 455 عشرون منا حديدا أي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد. والمراد أن فيه خصلة هي المواساة بنفسه فمن حقها أن يؤتسى بها وتتبع. قال في الكشاف: قوله لِمَنْ كانَ بدل من قوله لَكُمْ وضعف بأن بدل الكل لا يقع من ضمير المخاطب فالأظهر أنه صفة الأسوة. والرجاء بمعنى الأمل أو الخوف. وقوله يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ كقولك: رجوت زيدا وفضله أي رجوت فضل زيد، أو أريد يرجو أيام الله واليوم الآخر خصوصا. وقوله وَذَكَرَ معطوف على كانَ وفيه أن المقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي واظب على ذكر الله وعمل ما يصلح لزاد المعاد. ثم حكى أن ما ظهر من المؤمنين وقت لقاء الأحزاب خلاف حال المنافقين. وقوله هذا إشارة إلى الخطب أو البلاء. عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا أي في آخر تسع ليال أو عشر، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وقد وقع. وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ في كل ما وعد وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً بمواعيده إلا فساد همهم بقتل نبيهم. وقد عدّ في الكشاف أسماءهم منهم قدار بن سالف عاقر الناقة، وكانوا مفسدين لا يخلطون الإفساد بشيء من الإصلاح ومن جملة وَتَسْلِيماً لقضائه. وقيل: هذا إشارة إلى ما أيقنوا من أن عند الفزع الشديد يكون النصر والجنة كما قال أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا [البقرة: 214] إلى آخره. كان رجال من الصحابة نذروا أنهم إذا لقوا حربا ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستشهدوا، فمدحهم الله تعالى بأنهم صدقوا ما عاهدوا أي صدقوا الله فيما عاهدوه عليه. ويجوز أن يجعل المعاهد عليه مصدوقا على المجاز كأنهم قالوا للمعاهد عليه: سنفي بك فإذا وفوا به صدقوه فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ أي نذره فقاتل حتى قتل كحمزة ومصعب، وقد يقع قضاء النحب عبارة عن الموت لأن كل حي لا بد له من أن يموت فكأنه نذر لازم في رقبته. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الشهادة كعثمان وطلحة وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ما غير كل من الفريقين عهده. وفيه تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق ومرضى القلب فكأنه قال: صدق المؤمنون ونكث المنافقون، فكان عاقبة الصادقين الجزاء بالخير بواسطة صدقهم، وعاقبة أصحاب النفاق التعذيب إن شاء الله إلا أن يتوبوا. وإنما استثنى لأنه آمن منهم بعد ذلك ناس وإلى هذا أشار بقوله إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً حيث رحمهم ورزقهم الإيمان، ويجوز أن يراد يعذب المنافقين مع أنه كان غفورا رحيما لكثرة ذنبهم وقوة جرمهم ولو كان دون ذلك لغفر لهم وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم الأحزاب ملتبسين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 456 بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً أي غير ظافرين بشيء من مطالبهم التي هي عندهم خير من كسر أو أسر أو غنيمة. وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بواسطة ريح الصبا وبإرسال الملائكة كما قصصنا وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهروا الأحزاب مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ والصيصية ما تحصن به ومنه يقال لقرن الثور والظبي ولشوكة الديك التي في ساقه صيصية لأن كلا منها سبب التحصن به. روي أن جبرائيل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج فقال: ما هذا يا جبرائيل؟ فقال: من متابعة قريش: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه فقال: يا رسول الله إن الملائكة لم تضع السلاح إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عائد إليهم فإن الله داقهم دق البيض على الصفا، وإنهم لكم طعمة. فأذن في الناس ان من كان سامعا مطيعا فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة، فما صلى كثير من الناس العصر إلا هناك بعد العشاء الآخرة فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنزلون على حكمي. فأبوا فقال: على حكم سعد بن معاذ فرضوا به، فقال سعد: حكمت فيهم أن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ثم أنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقا فقدمهم وضرب أعناقهم وهم ثمانمائة إلى تسعمائة. وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير. وإنما قدم مفعول تَقْتُلُونَ لأن القتل وقع على الرجال وكانوا مشهورين، وكان الاعتناء بحالهم أشد ولم يكن في المأسورين هذا الاعتناء بل بقاؤهم هناك بالأسر أشد لأنه لو قال و «فريقا تأسرون» فإذا سمع السامع قوله «وفريقا» ربما ظن أنه يقال بعده يطلقون أو لا يقدرون على أسرهم ولمثل هذا قدم قوله وَأَنْزَلَ على قوله وَقَذَفَ وإن كان قذف الرعب قبل الإنزال وذلك أن الاهتمام والفرح بذكر الإنزال أكثر. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ التي استوليتم عليها ونزلتم فيها أولا وَدِيارَهُمْ التي كانت في القلاع فسلموها إليكم وَأَمْوالَهُمْ التي كانت في تلك الديار وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها قيل: هي القلاع أنفسها. وعن مقاتل: هي خيبر. وعن قتادة: كنا نحدّث أنها مكة. وعن الحسن: فارس والروم. وعن عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. وعن بعضهم: أراد نساؤهم وهو غريب. ثم أكد الوعد بفتح البلاد بقوله وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً قال أهل النظم: إن مكارم الأخلاق ترجع أصولها إلى أمرين: التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وإليها الإشارة بقوله عليه السلام «الصلاة وما ملكت أيمانكم» «1» ولما أرشد نبيه إلى القسم   (1) رواه ابن ماجة في كتاب الوصايا باب 1. أحمد في مسنده (1/ 78) (3/ 117) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 457 الأول بقوله اتَّقِ اللَّهَ أرشده إلى القسم الآخر وبدأ بالزوجات لأنه أولى الناس بالشفقة ولهذا قدّمهنّ في النفقة. لنبن تفسير الآية على مسائل منها: أن التخيير هل كان واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فنقول: التخيير قولا كان واجبا بالاتفاق لأنه إبلاغ الرسالة، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا. ومنها أن واحدة منهن لو اختارت الفراق هل كان يعتبر اختيارها فراقا؟ والظاهر أنه لا يعتبر فراقا وإنما تبين المختارة نفسها بإبانة من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله فَتَعالَيْنَ وعلى هذا التقرير فهل كان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم الطلاق أم لا؟ الظاهر الوجوب، لأن خلف الوعد منه غير جائز بخلاف الحال فينا فإنه لا يلزمنا الوفاء بالوعد شرعا. ومنها أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره الظاهر نعم ليكون التخيير ممكنا لها من التمتع بزينة الدنيا. ومنها أن المختارة لله ورسوله هل يحرم طلاقها؟ الظاهر نعم بمعنى أنه لو أتى بالطلاق لعوتب. وفي تقديم اختيار الدنيا إشارة إلى أنه كان لا يلتفت إليهن كما ينبغي اشتغالا بعبادة ربه. وكيفية المتعة وكميتها ذكرناهما في سورة البقرة. والسراح الجميل كقوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [الآية: 229] وفي ذكر الله والدار الآخرة مع ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وفي قوله لِلْمُحْسِناتِ إشارات إلى أن اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم سبب مرضاة الله وواسطة حيازة سعادات الآخرة، وأنه يوجب وصفهن بالإحسان. والمراد بالأجر العظيم كبره بالذات وحسنه بالصفات ودوامه بحسب الأوقات، فان العظيم لا يطلق إلا على الجسم الطويل العريض العميق الذاهب في الجهات في الامتدادات الثلاثة، وأجر الدنيا في ذاته قليل، وفي صفاته غير خال عن جهات القبح كما في قوله من الضرر والثقل، وكذلك في مشروبه وغيرهما من اللذات ومع ذلك فهو منغص بالانقطاع والزوال. ويروى أنه حين نزلت الآية بدأ بعائشة وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اختار جميعهن اختيارها فشكر ذلك لهنّ الله فأنزل لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ [الأحزاب: 52] وروى أنه قال لعائشة إني ذاكر لك أمرا ولا عليك أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ثم قرأ عليها القرآن فقالت: أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ثم قالت: لا تخبر أزواجك أني اخترتك فقال: إنما بعثني الله مبلغا ولم يبعثني متعنتا أما حكم التخيير في الطلاق فإذا قال لها: اختاري. فقالت: اخترت نفسي. أو قال: اختاري نفسك فقالت: اخترت. لا بد من ذكر النفس في أحد الجانبين. وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه إذا كان في المجلس أو لم يشتغل بما يدل على الإعراض. واعتبر الشافعي اختيارها على الفور وهي عنده طلقة رجعية وهو مذهب عمر وابن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 458 مسعود. وعن الحسن وقتادة والزهري: أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره. وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء بالاتفاق لأن عائشة اختارت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعد ذلك طلاقا. وعن علي رضي الله عنه مثله في رواية، وفي أخرى أنه عد ذلك واحدة رجعية إذا اختارته، وإذا اختارت نفسها فواحدة بائنة. وحين خيرهن النبي صلى الله عليه وسلم واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهدّدهن على الفاحشة التي هي أصعب على الزوج من كل ما تأتي به زوجته، وأوعدهن بتخفيف العذاب لأن الزنا في نفسه قبيح ومن زوجة النبي أقبح ازدراء بمنصبه، ولأنها تكون قد اختارت حينئذ غير النبي فلا يكون النبي عندها أولى من الغير ولا من نفسها، وفيه إشارة إلى شرفهن فإن الحرة لشرفها كان عذابها ضعف عذاب الأمة. وأيضا نسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادة إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم، فكذلك زوجاته اللواتي هن أمهات المؤمنين. وليس في قوله مَنْ يَأْتِ دلالة على أن الإتيان بالفاحشة منهن ممكن الوقوع فإن الله تعالى صان أزواج الأنبياء من الفاحشة ولكنه في قوة قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ [البقرة: 120] وقوله مِنْكُنَّ للبيان لا للتبعيض لدخول الكل تحت الإرادة. وقيل: الفاحشة أريد بها كل الكبائر. وقيل: هي عصيانهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهن وطلبهن منه ما يشق عليه. وفي قوله وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً إشارة إلى أن كونهن نساء النبي لا يغني عنهن شيئا، كيف وإنه سبب مضاعفة العذاب؟ وحين بين مضاعفة عقابهن ذكر زيادة ثوابهن في مقابلة ذلك. والقنوت الطاعة، ووصف الرزق بالكرم لأن رزق الدنيا لا يأتي بنفسه في العادة وإنما هو مسخر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار، ورزق الآخرة بخلاف ذلك. ثم صرح بفضيلة نساء النبي بأنهن لسن كأحد من النساء كقولك: ليس فلان كآحاد الناس أي ليس فيه مجرد كونه إنسانا بل فيه وصف أخص يوجد فيه ولا يوجد في أكثرهم كالعلم أو العقل أو النسب أو الحسب. قال جار الله: أحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد، ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث. والواحد وما وراءه. والمعنى، إذا استقريت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن من جماعة واحدة تساويكن في الفضل. وقوله إِنِ اتَّقَيْتُنَّ احتمل أن يتعلق بما قبله وهو ظاهر، واحتمل أن يتعلق بما بعده أي إن كنتن متقيات فلا تجبن بقولكن خاضعا لينا مثل كلام المريبات فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي ريبة وفجور. وحين منعهن من الفاحشة ومن مقدماتها ومما يجرّ إليها أشار إلى أن ذلك ليس أمرا بالإيذاء والتكبر على الناس بل القول المعروف عند الحاجة هو المأمور به لا غير. ثم أمرهن بلزوم بيوتهن بقوله وَقَرْنَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 459 بفتح القاف أمر من القرار بإسقاط أحد حرفي التضعيف كقوله فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الواقعة: 65] وأصله «اقررن» . من قرأ بكسرها فهو أمر من قر يقر قرارا أو من قر يقر بكسر القاف. وقيل: المفتوح من قولك قار يقار إذا اجتمع. والتبرج إظهار الزينة كما مر في قوله غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ [النور: 60] وذلك في سورة النور. والجاهلية الأولى هي القديمة التي كانت في أول زمن إبراهيم عليه السلام، أو ما بين آدم ونوح، أو بين إدريس ونوح، أو في زمن داود وسليمان. والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الأولى جاهلية الكفر، والأخرى الفسق والابتداع في الإسلام. وقيل: إن هذه أولى ليست لها أخرى بل معناه تبرج الجاهلية القديمة، وكانت المرأة تلبس درعا من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. ثم أمرهن أمرا خاصا بالصلاة والزكاة ثم عاما في جميع الطاعات، ثم علل جميع ذلك بقوله إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ فاستعار للذنوب الرجس، وللتقوى الطهر. وإنما أكد إزالة الرجس بالتطهير لأن الرجس قد يزول ولم يطهر المحل بعد وأَهْلَ الْبَيْتِ نصب على النداء أو على المدح وقد مر في آية المباهلة أنهم أهل العباء النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أصل، وفاطمة رضي الله عنهما والحسن والحسين رضي الله عنهما بالاتفاق. والصحيح أن عليا رضي الله عنه منهم لمعاشرته بنت النبي صلى الله عليه وسلم وملازمته إياه. وورود الآية في شأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يغلب على الظن دخولهن فيهن، والتذكير للتغليب. فإن الرجال وهم النبي وعلي وأبناؤهم غلبوا على فاطمة وحدها أو مع أمهات المؤمنين. ثم أكد التكاليف المذكورة بأن بيوتهن مهابط الوحي ومنازل الحكم والشرائع الصادرة من مشرع النبوة ومعدن الرسالة. ثم ختم الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً إيذانا بأن تلك الأوامر والنواهي لطف منه في شأنهن وهو أعلم بالمصطفين من عبيده المخصوصين بتأييده. يروى أن أم سلمة أو كل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن: يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء فنحن نخاف أن لا يقبل منا طاعة فنزلت إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وذكر لهن عشر مراتب: الأولى التسليم والانقياد لأمر الله، والثانية الإيمان بكل ما يجب أن يصدّق به فإن المكلف يقول أولا كل ما يقول الشارع فأنا أقبله فهذا إسلام، فإذا قال له شيئا وقبله صدق مقالته وصحح اعتقاده. ثم إن اعتقاده يدعوه إلى الفعل الحسن والعمل الصالح فيقنت ويعبد وهو المرتبة الثالثة، ثم إذا آمن وعمل صالحا كمل غيره ويأمر بالمعروف وينصح أخاه فيصدق في كلامه عند النصيحة وهو المراد بقوله وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ثم إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يصيبه أذى فيصبر عليه كما قال في قصة لقمان وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ [الآية: 17] أي بسببه. ثم إنه إذا كمل في نفسه وكمل غيره قد يفتخر بنفسه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 460 ويعجب بعبادته فمنعه منه بقوله وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وفيه إشارة إلى الصلاة لأن الخشوع من لوازمها قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [المؤمنون: 1، 2] فلذلك أردفها بالصدقة. ثم بالصيام المانع من شهوة البطن فضم إلى ذلك الحفظ من شهوة الفرج التي هي ممنوع منها في الصوم مطلقا وفي غير الصوم مما وراء الأزواج والسراري. ثم ختم الأوصاف بقوله وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً يعني أنهم في جميع الأحوال يذكرون الله يكون إسلامهم وإيمانهم وقنوتهم وصدقهم وصومهم وحفظهم فروجهم لله. وإنما وصف الذكر بالكثرة في أكثر المواضع فقال في أوائل السورة لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً وقال في الآية وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً ويجيء بعد ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً لأن الإكثار من الأفعال البدنية متعسر يمنع الاشتغال ببعضها من الاشتغال بغيرها بحسب الأغلب، ولكن لا مانع من أن يذكر الله وهو آكل أو شارب أو ماش أو نائم أو مشغول ببعض الصنائع والحرف، على أن جميع الأعمال صحتها أو كمالها بذكر الله تعالى وهي النية. قال علماء العربية: في الآية عطفان: أحدهما عطف الإناث على الذكور، والآخر عطف مجموع الذكور والإناث على مجموع ما قبله. والأول يدل على اشتراك الصنفين في الوصف المذكور وهو الإسلام في الأول والإيمان في الثاني إلى آخر الأوصاف، والثاني من باب عطف الصفة على الصفة فيؤل معناه إلى أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم. وحين انجر الكلام من قصة زيد إلى هاهنا عاد إلى حديثه. قال الراوي: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت حجش وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب على مولاه زيد بن حارثة فأبت وأبى أخوها عبد الله فنزلت وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ الآية. فقالا: رضينا يا رسول الله فأنكحها إياه وساق عنه المهر ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر. وقيل: نزلت في أن كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي أول من هاجر من النساء وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد قبلت، وزوّجها زيدا فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوّجها عبده. وقال أهل النظم: إنه تعالى لما أمر نبيه أن يقول لزوجاته إنهن مخيرات فهم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد ضرر الغير فعليه أن يترك حق نفسه لحظ غيره، فذكر في هذه الآية أنه لا ينبغي أن يظن ظانّ أن هوى نفسه متبع، وأن زمام الاختيار بيد الإنسان كما في حق زوجات النبي، بل ليس لمؤمن ولا مؤمنة أن يكون له اختيار عند حكم الله ورسوله، فأمر الله هو المتبع وقضاء الرسول هو الحق، ومن خالف الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا، لأن المقصود هو الله والهادي هو النبي، فمن ترك المقصد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 461 وخالف الدليل ضل ضلالا لا يرعوي بعده. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر زينب ذات يوم بعد ما أنكحها زيدا فوقعت في نفسه فقال: سبحان الله مقلب القلوب، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يردها أولا، لعله أي لم يلده إلخ تأمل ولو أرادها لاختطبها. وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد أن أفارق صاحبتي. فقال: ما لك أرى بك شيء منها؟ قال: لا والله ما رأيت منها إلا خيرا ولكنها تتكبر عليّ لشرفها. فقال له: أمسك عليك زوجك واتق الله ثم طلقها بعد. فلما اعتدت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك اخطب عليّ زينب. قال زيد: فانطلقت فإذا هي تخمر عجينها فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري وقلت: يا زينب أبشري إن رسول الله يخطبك. ففرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي. فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن فتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار ولنرجع إلى ما يتعلق بتفسير الألفاظ. قوله لِلَّذِي يعني زيدا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإيمان الذي هو أجل النعم وبتوفيق الأسباب حتى تبناه رسوله وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أي بالإعتاق وبأنواع التربية والاختصاص. وقوله وَاتَّقِ اللَّهَ أي في تطليقها فلا تفارقها. نهي تنزيه لا تحريم، أو أراد اتق فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وإيذاء الزوج. والذي أخفى النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه هو تعلق قلبه بها أو مودّة مفارقة زيد إياها أو علمه بأن زيدا سيطلقها. وعن عائشة لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أوحي إليه لكتم هذه الآية، وذلك أن فيه نوع تخالف الظاهر والباطن في الظاهر وليس كذلك في الحقيقة، لأن ميل النفس ليس يتعلق باختيار الآدمي فلا يلام عليه، ولا هو مأمور بإبدائه. والذي أبداه كان مقتضى النصح والإشفاق والخشية والحياء من قالة الناس إن قلب النبي مال إلى زوجة دعيه فبهذا القدر عوتب بقوله وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. فلعل الأولى بالنبيّ أن يسكت عن إمساكه حذرا من عقاب الله على ترك الأولى كما سكت عن تطليقه حياء من الناس. قال جار الله: الواوات في قوله وَتُخْفِي وَتَخْشَى وَاللَّهُ للحال. ويجوز أن تكون للعطف كأنه قيل: وإذ تجمع بين قولك أمسك وإخفاء خلافه وخشية الناس وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ حتى لا تفعل مثل ذلك. قوله فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها حاجته ولم يبق له فيها رغبة وطلقها وانقضت عدتها زَوَّجْناكَها نفيا للحرج عن المؤمنين في مثل هذه القضية فإن الشرع كما يستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم يستفاد من فعله أيضا، بل الثاني يؤكد الأول. ألا ترى أنه لما ذكر ما فهم منه حلّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 462 الضب ثم لم يأكل بقي في النفوس شيء، وحيث أكل لحم الجمل طاب أكله مع أنه لا يؤكل في بعض الملل وكذلك الأرنب. وقوله إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً يفهم منه نفي الحرج عند قضاء الوطر بالطريق الأولى. عن الخليل: قضاء الوطر بلوغ كل حاجة يكون فيها همة وأراد بها في الآية الشهوة. وقيل: التطليق. فلا إضمار على هذا وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا مكونا لا محالة. ومن جملة أوامره ما جرى من قصة زينب، ثم نزه جانب النبي صلى الله عليه وسلم عن قالة الناس بقوله ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ أي قسم وأوجب لَهُ وسُنَّةَ اللَّهِ مصدر مؤكد لما قبله أي سن الله نفي الحرج سنة في الأنبياء الذين خلوا فكان من تحته أزواج كثيرة كداود وسليمان وسيجيء قصتهما في سورة ص. ومعنى قَدَراً مَقْدُوراً قضاء مقضيا هكذا قاله المفسرون ولعل قوله وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا إشارة إلى القضاء، وهذا الأخير إشارة إلى القدر وقد عرفت الفرق بينهما مرارا. وفي قوله وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ تعريض بما صرح به في قوله وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ والحسيب الكافي للمخاوف أو المحاسب على الصغائر والكبائر فيجب أن لا يخشى إلا هو. ثم أكد مضمون الآي المتقدمة وهو أن زيدا لم يكن ابنا له فقال ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ فكان لقائل أن يقول: أما كان أبا للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم فلذلك قيل مِنْ رِجالِكُمْ فخرجوا بهذا القدر من جهتين: إحداهما أن هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال، وبهذا الوجه يخرج الحسن والحسين أيضا من النفي لأنهما لم يكونا بالغين حينئذ. والأخرى أنه أضاف الرجال إليهم وهؤلاء رجاله لا رجالهم وكذا الحسن والحسين، أو أراد الأب الأقرب. ومعنى الاستدراك في قوله وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هو إثبات الأبوة من هذه الجهة لأن النبي كالأب لأمته من حيث الشفقة والنصيحة ورعاية حقوق التعظيم معه، وأكد هذا المعنى بقوله وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ لأن النبي إذا علم أن بعده نبيا آخر فقد ترك بعض البيان والإرشاد إليه بخلاف ما لو علم أن ختم النبوة عليه وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ومن جملة معلوماته أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ومجيء عيسى عليه السلام في آخر الزمان لا ينافي ذلك لأنه ممن نبىء قبله وهو يجيء على شريعة نبينا مصليا إلى قبلته وكأنه بعض أمته. التأويل: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ أي كان في الأول مقدرا لكم متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلقت قدرتنا بإخراج أرواحكم من العدم إلى الوجود عقيب إخراج روح الرسول من العدم إلى الوجود «أول ما خلق الله نوري أو روحي» وبحسب القرب إلى روح الرسول والبعد عنه يكون حال الأسوة، وكل ما يجري على الإنسان من بداية عمره إلى نهاية عمره من الأفعال والأقوال والأخلاق والأحوال. فمن كان يرجو الله كان عمله خالصا لوجه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 463 الله تعالى، ومن كان يرجو اليوم الآخر يكون عمله للفوز بنعيم الحنان. وكل هذه المقامات مشروط بالذكر وهو كلمة «لا اله الا الله محمد رسول الله» نفيا وإثباتا، وهما قدمان للسائرين إلى الله وجناحان للطائرين بالله. وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ المجتمعين على إضلالهم وإهلاكهم من النفس وصفاتها، والدنيا وزينتها، والشيطان واتباعه قالُوا متوكلين على الله هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أن البلاء موكل بالأنبياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ يتصرفون في الموجودات تصرف الذكور في الإناث صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ أن لا يعبدوا غيره في الدنيا والعقبى. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ فوصل إلى مقصده وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الوصول وهو في السير وهذا حال المتوسطين وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بريح القهر أذهبت على النفوس فأبطلت شهواتها، وعلى الشيطان فردت كيده، وعلى الدنيا فأزالت زينتها. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي أعانوا النفس والشيطان والهوى على القلوب من أهل الكتاب طالبي الرخص لأرباب الطلب المنكرين أحوال أهل القلوب مِنْ صَياصِيهِمْ هي حصون تكبرهم وتجبرهم، وأنزل وقعهم من حصون اعتقاد أرباب الطلب كيلا يقتدوا بهم ولا يغتروا بأقوالهم، وقذف بنور قلوبهم في قلوب النفوس والشياطين الرعب فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وهم النفس وصفاتها والشيطان وأتباعه وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وهم الدنيا وجاهها وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ لتنفقوا في سبيل الله وتجعلوها بذر مزرعة الآخرة وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها يشير إلى مقامات وكمالات لم يبلغوها فيبلغوها باستعمال الدنيا فإن ذلك بعد الوصول لا يضر لأنه يتصرف بالحق للحق. قُلْ لِأَزْواجِكَ فيه إشارة إلى أن حب الدنيا يمنعهن من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهن محال النطفة الإنسانية في عالم الصورة، فكيف لا يضر حب الدنيا لأهل القلوب الذين قلوبهم أرحام النطفة الروحانية الربانية، والأجر العظيم هو لقاء الله العظيم فمن أحب غير الله وإن كان الجنة نقص من الأجر بقدر ذلك إلا محبة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن محبة الجنة بالحظ دون الحق فيها ما تشتهي الأنفس، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم بالحق لا الحظ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] ومضاعفة العذاب سقوطهن عن قرب الله وعن الجنة كما أن إيتاء الأجر مرتين عبارة عن هذين، وكان من دعاء السري السقطي: اللهم إن كنت تعذبني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب. والرزق الكريم رزق المشاهدات الربانية يا نِساءَ النَّبِيِّ هم الذين أسلموا أرحام قلوبهم لتصرفات ولاية الشيخ ليست أحوالهم كأحوال غيرهم من الخلق إِنِ اتَّقَيْتُنَّ بالله من غيره فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ لشيء من الدارين فإن كثيرا من الصادقين خضعوا بالقول لأرباب الدنيا الذين في قلوبهم مرض حب المال والجاه فاستجروهم ووقعوا في ورطة الهلاك والحجاب. فالقول المعروف وهو المتوسط الذي لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 464 يكون فيه الميل الكلي إلى أهل الدنيا أصوب وإلى الحق أقرب. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ من عالم الملكوت وَلا تَبَرَّجْنَ في عالم الحواس راغبين في زينة الدنيا كعادة الجهلة وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ التي هي معراج المؤمن يرفع يده من الدنيا ويكبر عليها ويقبل على الله بالإعراض عما سواه، ويرجع من مقام تكبر الإنسان إلى خضوع ركوع الحيوان، ومنه إلى خشوع سجود النبات، ثم إلى قعود الجماد فإنه بهذا الطريق أهبط إلى أسفل القالب فيكون رجوعه بهذا الطريق إلى أن يصل إلى مقام الشهود الذي كان فيه في البداية الروحانية، ثم يتشهد بالتحية والثناء على الحضرة، ثم يسلم عن يمينه على الآخرة وما فيها وعن شماله على الدنيا وما فيها. وإيتاء الزكاة بذل الوجود المجازي لنيل الوجود الحقيقي. الرجس لوث الحدوث، والبيت لأهل الوحدة بيت القلب يتلى فيه آيات الواردات والكشوف. إن الذين استسلموا للأحكام الأزلية وآمنوا بوجود المعارف الحقيقية، وقتنوا أي أغرقوا الوجود في الطاعة والعبودية، وصدقوا في عهدهم وصبروا على الخصال الحميدة وعن الأوصاف الذميمة، وخشعوا أي أطرقت سريرتهم عند بواده الحقيقة، وتصدقوا بأموالهم وأعراضهم حتى لم يبق لهم مع أحد خصومة، وصاموا بالإمساك عن الشهوات وعن رؤية الدرجات، وحفظوا فروجهم في الظاهر عن الحرام وفي الباطن عن زوائد الحلال، وذكروا الله بجميع أجزاء وجودهم الجسمانية والروحانية. وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذا صدر أمر المكلف أو عليه، فإن كان مخالفا للشرع وجب عليه الإنابة والاستغفار، وإن كان موافقا للشرع فإن كان موافقا لطبعه وجب عليه الشكر، وإن كان مخالفا لطبعه وجب أن يستقبله بالصبر والرضا. وفي قوله وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ دلالة على أن المخلصين على خطر عظيم حتى إنهم يؤاخذون بميل القلب وحديث النفس وذلك لقوة صفاء باطنهم، فاللطيف أسرع تغيرا. فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً قضاء شهوته بين الخلق إلى قيام الساعة ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فيما فيه أمان هو نقصان في نظر الخلق فإنه كمال عند الحق إلا إذا كان النظر للحق وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فيه أن نسبة المتابعين إلى حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم كنسبة الابن إلى الأب الشفيق ولهذا قال «كل حسب ونسب ينقطع إلّا حسبي ونسبي» . [سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 73] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 465 القراآت: تُرْجِي بغير همز: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وحفص وخلف والأعشى والمفضل وعباس لا تحل بتاء التأنيث: أبو عمرو ويعقوب إِناهُ بالامالة وغيرها مثل الْحَوايا في «الأنعام» وافق الخزاز عن هبيرة هاهنا بالإمالة ساداتنا بالألف وبكسر التاء: ابن عامر وسهل ويعقوب وجبلة. الباقون: على التوحيد كَبِيراً بالباء الموحدة: عاصم وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الآخرون: بالثاء المثلثة. الوقوف: كَثِيراً لا وَأَصِيلًا هـ النُّورِ ط رَحِيماً هـ سَلامٌ ج لاحتمال الجملة حالا واستئنافا كَرِيماً هـ نَذِيراً لا مُنِيراً هـ كَبِيراً هـ عَلَى اللَّهِ ط وَكِيلًا هـ تَعْتَدُّونَها ج لانقطاع النظم مع الفاء جَمِيلًا هـ مَعَكَ ج لاحتمال ما بعده العطف والنصب على المدح مع أن طول الكلام يرجح جانب الوقف يَسْتَنْكِحَها ق للعدول على تقدير جعلناها خالصة الْمُؤْمِنِينَ هـ حَرَجٌ ط رَحِيماً هـ إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ط لأن ما بعده واو استئناف دخل على الشرط عَلَيْكَ ط كُلُّهُنَّ ط قُلُوبِكُمْ ط حَلِيماً هـ يَمِينُكَ ط رَقِيباً هـ إِناهُ لا للعطف مع الإستدراك لِحَدِيثٍ ط مِنْكُمْ ط فصلا بين وصف الخلق وحال الحق مع اتفاق الجملتين مِنَ الْحَقِّ ط لإبتداء حكم آخر حِجابٍ ط وَقُلُوبِهِنَّ ط أَبَداً ط عَظِيماً هـ عَلِيماً هـ أَيْمانُهُنَّ لا والوقف أجوز لتكون الواو للاستئناف وَاتَّقِينَ اللَّهَ ط شَهِيداً هـ النَّبِيِّ ط تَسْلِيماً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 467 هـ مُهِيناً هـ مُبِيناً هـ جَلَابِيبِهِنَّ ط يُؤْذَيْنَ ط رَحِيماً هـ قَلِيلًا هـ ج لأن قوله مَلْعُونِينَ يحتمل أن يكون حالا أو منصوبا على الشتم مَلْعُونِينَ هـ ج لأن الجملة الشرطية تصلح وصفا واستئنافا تَقْتِيلًا هـ قَبْلُ ط تَبْدِيلًا هـ السَّاعَةِ ط عِنْدَ اللَّهِ ط قَرِيباً هـ سَعِيراً لا أَبَداً ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف نَصِيراً هـ ج لاحتمال تعلق الظرف ب لا يَجِدُونَ أو ب يَقُولُونَ أو باذكر الرَّسُولَا هـ السَّبِيلَا هـ كَبِيراً هـ قالُوا ط وَجِيهاً هـ سَدِيداً هـ لا ذُنُوبَكُمْ هـ عَظِيماً هـ الْإِنْسانُ ط جَهُولًا هـ لا وَالْمُؤْمِناتِ ط رَحِيماً هـ. التفسير: اعلم أن مبنى هذه السورة على تأديب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مر أنه سبحانه بدأ بذكر ما ينبغي أن يكون عليه النبيّ مع الله وهو التقوى، وذكر ما ينبغي أن يكون عليه مع أهله فأمر بعد ذلك عامة المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين. وبدأ بما يتعلق بجانب التعظيم لله وهو الذكر الكثير، وفيه لطيفة وهي أن النبيّ لكونه من المقربين لم يكن ناسيا فلم يؤمر بالذكر بل أمر بالتقوى والمحافظة عليها فإنها تكاد لا تتناهى. والتسبيح بكرة وأصيلا عبارة عن الدوام لأن مريد العموم قد يذكر الطرفين ويفهم منهما الوسط كقوله صلى الله عليه وسلم «ولو أن أوّلكم وآخركم» «1» قال جار الله: خص التسبيح بالذكر من جملة الذكر لفضله على سائر الأذكار ففيه تنزيه عما لا يجوز عليه. ولقائل أن يقول: هذا لا يطابق قوله صلى الله عليه وسلم «أفضل الذكر لا إله إلا الله» «2» وجوّز أن يراد بالذكر الكثير الإقبال على العبادات كلها، ويراد بالتسبيح الصلاة، وبالوقتين العموم كما مر، أو صلاة الفجر والعشاءين، لأن أداءها أشق ومراعاتها أشد. ثم حرض المؤمنين على ذكره بأنه أيضا يذكرهم والصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار، فلعله أراد باللفظ المشترك كلا مفهومية كما ذهب إليه الشافعي، أو في الكلام حذف أي وملائكته تصلي، أو المراد بصلاة الملائكة هي قولهم: اللهم صل على المؤمنين. جعلوا لاستجابة دعوتهم كأنهم فعلوا الرحمة، أو المراد القدر المشترك وهو العناية بحال المرحوم والمستغفر له. وأصل الصلاة التعطف وذلك أن المصلي يتعطف في ركوعه وسجوده فاستعير لمن يتعطف على غيره وحنوّا وترؤفا. ثم بين غاية الصلاة وهي إخراج المكلف من ظلمات الضلال إلى نور الهدى. وفي قوله وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً بشارة لجميع المؤمنين وإشارة إلى أن تلك الرحمة لا تخص السامعين وقت الوحي. ومعنى   (1) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 48. (2) رواه ابن ماجة في كتاب الأدب باب 55. أبو داود في كتاب الأدب باب 27. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 468 تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ مذكور في أول «يونس» وفي «إبراهيم» . وأراد بيوم اللقاء يوم القيامة لأن الخلق مقبلون على الله بكليتهم بخلاف الدنيا. والأجر الكريم هو ما يأتيه عفوا صفوا من غير شوب نغص. ثم أشار إلى ما ينبغي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مع عامة الخلق فقال إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وهي حال مقدرة أي مقبولا قولك عند الله لهم وعليهم كما يقبل قول الشاهد العدل، وفيه أن الله تعالى جعل النبي شاهدا على وجوده بل على وحدانيته لأن المدعي هو الذي يذكر شيئا بخلاف الظاهر والوحدانية أظهر من الشمس فلا ينبغي أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مدع لها. بل يقال: إنه شاهد عليها كما قال «على مثل الشمس فاشهد» وإنه قد جازاه بشهادته لله شهادته على نبوته كما قال والله يشهد انك لرسوله [المنافقون: 1] والحاصل أنه شاهد في الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط، وشاهد في الآخرة بأحوال الدنيا من الطاعة والمعصية والصلاح والفساد. وإنما قال وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ لأن الشهادة للمرء لا تفتقر إلى إذنه وكذلك الإنذار والتبشير إذا قال من يطع الملك أفلح ومن عصاه لم يربح. أما إذا قال: تعالوا إلى سماطه واحضروا على خوانه احتاج إلى رضاه. ويمكن أن يكون قوله بِإِذْنِهِ متعلقا بمجموع الأحوال أي بتسهيله أو تيسيره. ووصف النبي عليه السلام بالسراج بأن ظلمات الضلال تنجلي به كما ينجلي ظلام الليل بالسراج، وقد أمدّ الله بنور نبوته نور البصائر كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار. وإنما لم يشبه بالشمس لأن الشمس لا يؤخذ منه شيء ويؤخذ من السراج سرج كثيرة وهم الصحابة والتابعون في المثال ولهذا قال «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وصفهم بالنجم لأن النجم لا يؤخذ منه شيء، والتابعي لا يأخذ من الصحابي في الحقيقة وإنما يأخذ من النبيّ. ووصف السراج بالإنارة لأن السراج قد يكون فاترا ومنه قولهم «ثلاثة تضني: رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظرها من يجيء» . ويجوز أن يكون سراجا معطوفا على الكاف ويراد به القرآن، ويجوز أن يكون المعنى وذا سراج أو تاليا سراجا. قوله وَدَعْ أَذاهُمْ أي خذ بظاهرهم وادفع عنهم الأسر والقتل وحسابهم على الله، وإضافة أذاهم يحتمل أن يكون إلى الفاعل وإلى المفعول. ثم أمر المؤمنين بما يتعلق بجانب الشفقة على الخلق واكتفى بذكر الزوجات المطلقات قبل المسيس لأنه إذا لزم الإحسان إليهنّ بمجرد العقد وهو المراد بالنكاح هاهنا، فبالوطء يكون أولى وقد مر حكمهنّ في سورة البقرة. في قوله وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الآية: 237] وذلك لأجل تشطير الصداق. وإنما أعاد ذكرهن هاهنا لبيان عدم وجوب العدة عليهن. وتخصيص المؤمنات بالذكر دون الكتابيات إيذان بأنهن أولى بتخيرهن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 469 للنطفة. وفي قوله ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ تنبيه على أنه لا تفاوت في هذا الحكم بين قريبة العهد من النكاح وبين بعيدة العهد منه، فإذا لم تجب العدّة على البعيدة العهد فلأن لا تجب على القريبة العهد أولى. وقد يستدل بكلمة «ثم» على أن تعليق الطلاق بالنكاح لا يصح لأن المعية تنافي التراخي. وفي قوله فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ دليل على أن العدة حق واجب للرجال على النساء وإن كان لا يسقط بإسقاطه لما فيها من حق الله تعالى أيضا. ومعنى تَعْتَدُّونَها تستوفون عددها تقول: عددت الدراهم فاعتدها نحو: كلته فاكتاله. ثم عاد إلى تعليم النبي صلى الله عليه وسلم. وفائدة قوله اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وقوله مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وقوله اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ هي أن الله تعالى اختار لرسوله الأفضل الأولى، وذلك أن سوق المهر إليها عاجلا أفضل من أن تسميه وتؤجله. وكان التعجيل ديدن السلف ومن الناس من قال: ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يجب عليه إعطاء المهر لأن المرأة لها الامتناع إلى أن تأخذ مهرها، والنبي عليه السلام لم يكن يستوفي ما لا يجب له كيف وإنه إذا طلب شيئا حرم الامتناع على المطلوب منه. والظاهر أن طالب الوطء ولا سيما في المرة الأولى يكون هو الرجل لحياء المرأة، ولو طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم من المرأة التمكين قبل المهر لزم أن يجب وأن لا يجب، ولا كذلك أحدنا. ومما يؤكد هذا قوله وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها. والجارية إذا كانت سبية مالكها ومخطوبة سيفه ورمحه فإنها أحل وأطيب من المشتراة لكونها غير معلومة الحال. قال جار الله: السبي على ضربين: سبي طيبة وهي ما سبي من أهل الحرب، وسبي خبيثة وهي ما سبي ممن له عهد، فلا جرم قال سبحانه مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ لأن فيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث، وكذلك اللاتي هاجرن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقاربه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه. وإنما لم يجمع العم والخال اكتفاء بجنسيتها مع أن لجمع البنات دلالة على ذلك لامتناع اجتماع أختين تحت واحد، ولم يحسن الاقتصار في العمة والخالة لإمكان سبق الوهم إلى أن التاء فيهما للوحدة وشرط في استحلال الواهبة نفسها إرادة استنكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها. وفيه أنه لا بد من قبول الهبة حتى يتم النكاح، وبه استدل أبو حنيفة على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة، وحملها الشافعي على خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي الحسن الكرخي أن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز لقوله اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ قال أبو بكر الرازي: لا يصح لأن الإجارة عقد مؤقت وعقد النكاح مؤبد. والظاهر أن خالِصَةً حال من امْرَأَةً وقال جار الله: هي مصدر مؤكد كوعد الله أي خلص لك الإحلال خلوصا. وفائدة هذا الحال على مذهب الشافعي ظاهرة. وقال أبو حنيفة: أراد بها أنها زوجته وهي من أمهات المؤمنين فأورد عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 470 أن أزواجه كلهن خالصات له فلا يبقى لتخصيص الواهبة فائدة. وقوله قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ جملة اعتراضية معناها أن الله قد علم ما يجب على المؤمنين في حق الأزواج وفي الإماء على أي حدّ وصفة ينبغي أن يكون. ثم بين غاية الإحلال بقوله لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أي لئلا يكون عليك ضيق في دينك ولا في دنياك حيث أحللنا لك أصناف المنكوحات وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للذي وقع في الحرج رَحِيماً بالتوسعة والتيسير على عباده. ثم بيّن أنه أحل له وجوه المعاشرة بهن من غير إيجاب قسم بينهنّ، لأنه صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى أمته كالسيد المطاع فزوجاته كالمملوكات فلا قسم لهن. والإرجاء التأخير، والإيواء الضم وهما خبران في معنى الأمر. وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ يعني إذا طلبت من كنت تركتها فَلا جُناحَ عَلَيْكَ في شيء من ذلك وهذه قسمة جامعة للغرض لأنه إما أن يطلق وإما أن يمسك، وإذا أمسك ضاجع أو ترك، وإذا ضاجع قسم أو لم يقسم، وإذا طلق أو عزل فإما أن يترك المعزولة أو يبتغيها. يروى أنه أرجأ منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة وكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء، وكانت ممن آوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب. وروي أنه كان يسوّي مع ما خير فيه إلّا سودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك. وقيل: أراد تترك تزوّج من شئت من نساء أمتك وتتزوّج من شئت. وعن الحسن: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها. ومن قال: إن القسم كان واجبا مع أنه ضعيف بالنسبة إلى مفهوم الآية قال: المراد تؤخرهن إن شئت إذ لا يجب القسم في الأول، وللزوج أن لا ينام عند أحد منهن وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ في ذلك فابدأ بمن شئت وتمم الدور والأول أقوى. ثم قال ذلِكَ التفويض إلى مشيئتك أَدْنى إلى قرّة عيونهن وقلة حزنهن وإلى رضاهنّ جميعا لأنه إذا لم يجب عليه القسم. ثم إنه يقسم بينهن حملهن ذلك على تلطفه وتخلصه. وفي قوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وعيد لمن يرض منهن بما دبر الله له وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بذات الصدور حَلِيماً مع ذلك لا يعاجل بالعقوبة فتحا لباب التوبة. وقوله كُلُّهُنَّ بالرفع تأكيد لنون يرضين، وقرىء بالنصب تأكيدا لضمير المفعول في آتَيْتَهُنَّ ثم إنه سبحانه شكر لأزواج رسول الله اختيارهن الله ورسوله فأنزل لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قال أكثر المفسرين: أي من بعد التسع المذكورة، فالتسع نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج كما أن الأربع نصاب أمته منهن. وإنه تعالى زاد في إكرامهن بقوله وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ أي ولا يحل لك أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجا أخر بكلهن أو بعضهن، وأكد النفي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 471 بقوله مِنْ أَزْواجٍ وفائدته استغراق جنس جماعات الأزواج بالتحريم. وذهب بعضهم إلى أن الآية فيها تحريم غيرهن ولا المنع من طلاقهنّ، والمعنى لا يحل لك من النساء من بعد اللواتي نص على إحلالهنّ من الأجناس الأربعة، وأما غيرهنّ من الكتابيات والإماء بالنكاح والأعرابيات والغرائب فلا يحل لك التزوّج بهن. وقوله وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ منع من فعل الجاهلية وهو قولهم «بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي» فكان ينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه. يحكى أن عيينة بن حصن دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة من غير استئذان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عيينة أين الاستئذان؟ فقال: يا رسول الله ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت. ثم قال: من هذه الجميلة إلى جنبك؟ فقال: هذه عائشة أم المؤمنين. قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق. فقال عليه السلام: إن الله قد حرم ذلك. فلما خرج قالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ قال: أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه. وقوله وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ في موضع الحال أي مفروضا إعجابك بهن. قال جار الله: والأظهر أن جوابه محذوف يدل عليه ما قبله وهو لا يَحِلُّ وفائدة هذه الشرطية التأكيد والمبالغة. واستثنى ممن حرم عليه الإماء. وفي قوله وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً تحذير من مجاوزة حدوده. واعلم أن ظاهر هذه الآية ناسخ لما كان قد ثبت له صلى الله عليه وسلم من تحريم مرغوبته على زوجها، وفيه حكمة خفية، وذلك أن الأنبياء يشتدّ عليهم برحاء الوحي في أوّل الأمر ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم يتحدثون مع أصحابهم فكان الحاجة إلى تفريغ بال النبي تكون في أوّل الأمر أكثر لو هي القوّة ولعدم إلفه بالوحي، فإذا تكاملت قوّته وحصل إلفه بتعاقب الوحي لم يبق له الالتفات إلى غير الله فلم يحتج إلى إحلال التزوّج بمن وقع بصره عليها. وعن عائشة: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء. تعني أن الآية نسخت، ونسخها إمّا بالسنة عند من يجوّز نسخ القرآن بخبر واحد، وأمّا بقوله إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف. ثم عاد إلى إرشاد الأمة، وحالهم مع النبيّ إما حال الخلوة فالواجب هناك احترام أهله وأشار إليه بقوله لا تَدْخُلُوا وإما حال الملأ فالواجب وقتئذ التعظيم بكل ما أمكن وذلك قوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه فقيل: لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام إلا وقت الإذن أي مأذونين وإلا غير ناظرين إناه. وإنى الطعام إدراكه، أنى الطعام إنى نحو قلاه قلى. وقيل: أناه وقته فقد تلخص أن الإذن مشروط بكونه إلى الطعام فلزم منه أن لا يجوز الدخول إذا لم يكن الإذن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 472 إلى طعام كالدخول بالإذن لاستماع كلام مثلا، فأجيب بأن الخطاب مع قوم كانوا موصوفين بالتحين للطعام فمنعوا من الدخول في وقته من غير إذن. وجوز بعضهم أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي لا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم فلا يكون منعا من الدخول في غير وقت الطعام بغير الإذن والأوّل أولى. ولا يشترط في الإذن التصريح به إذا حصل العلم بالرضا جاز الدخول ولهذا قيل إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ على البناء للمفعول ليشمل إذن الله وإذن الرسول أو العقل المؤيد بالدليل. وقوله فَانْتَشِرُوا للوجوب وليس كقوله فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا [الجمعة: 10] وذلك للدليل العقلي على أن بيوت الناس لا تصلح للمكث بعد الفراغ مما دعي لأجله، وللدليل النقلي وذلك قوله وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ وهو مجرور معطوف على ناظِرِينَ أو منصوب على الحال أي لا تدخلوها هاجمين ولا مستأنسين. يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على زينب بتمر وسويق وشاة وأمر أنسا أن يدعو بالناس فترادفوا أفواجا إلى أن قال: يا رسول الله دعوت حتى ما أجد أحد أدعوه. فقال: ارفعوا طعامكم وتفرق الناس وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون فأطالوا فقام رسول الله ليخرجوا فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت فقالوا: وعليك السلام يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ وطاف بالحجرات فسلم عليهن ودعون له ورجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدّثون وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء وذلك قوله إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أي من إخراجكم، فلما رأوه متوليا خرجوا فرجع فنزلت الآية ناهية للثقلاء أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدّثه به أو يستأنسون حديث أهل البيت واستماعه. ومعنى لا يَسْتَحْيِي لا يمتنع ولا يترك كما مر في أول البقرة. والضمير في سَأَلْتُمُوهُنَّ لنساء النبيّ بقرينة الحال. قال الراوي: إن عمر كان يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة وكان يقول: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت. والمتاع الماعون وما يحتاج إليه. وثاني مفعولي فَسْئَلُوهُنَّ محذوف وهو المتاع المدلول عليه بما قبله. ذلِكُمْ الذي ذكر من السؤال من وراء الحجاب أَطْهَرُ لأجل قلوبكم لأن العين روزنة القلب ومنها تنشأ الفتنة غالبا. وروي أن بعضهم قال: نهينا أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن مات محمد لأتزوجن فلانة عنى عائشة، فأعلم الله أن ذلك محرم بقوله وَما كانَ أي وما صح لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ بوجه من الوجوه وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ الإيذاء والنكاح كانَ عِنْدَ اللَّهِ ذنبا عَظِيماً لأن حرمة الرسول ميتا كحرمته حيا. ثم بين بقوله إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً الآية. إنهم إن لم يؤذوه في الحال ولكن عزموا على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 473 إيذائه أو نكاح أزواجه بعده فالله عالم بكل شيء فيجازيهم بحسب ذلك. ثم إنه لما أنزل الحجاب استثنى المحارم بقوله لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ أي لا إثم عليهن في ترك الاحتجاب من هؤلاء. قال في التفسير الكبير عند الحجاب: لما أمر الله الرجل بالسؤال من وراء الحجاب فيفهم كون المرأة محجوبة عن الرجل بالطريق الأولى، وعند الاستثناء قال لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فرفع الحجاب عنهن فالرجال أولى بذلك. وقدم الآباء لأن اطلاعهم على بناتهم أكثر فقد رأوهن في حالة الصغر، ثم الأبناء ثم الأخوة، وقدم بني الإخوة لأن بني الأخوات آباؤهم ليسوا بمحارم إنما هم أزواج خالات أبنائهم فقد يصف الابن خالته عند أبيه ففي ذلك نوع مفسدة فأوجبت التأخر عن رتبة المحرمية، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين، أو لأنهما قد يصفان لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم. وقد يستدل بقوله وَلا نِسائِهِنَّ مضافة إلى المؤمنات أنه لا يجوز التكشف للكافرات في وجه، وأخر المماليك لأن محرميتهم كالأمر الضروري وإلا فالمفسدة في التكشف لهم ظاهرة ولهذا عقبه بقوله وَاتَّقِينَ فإن التكشف لهم مشروط بشرط سلامة العاقبة والأمن من الفتنة. ومنهم من قال: المراد من كان منهم دون البلوغ. قال جار الله: في نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قوله وَاتَّقِينَ فضل تشديد وبعث على سلوك طريقة التقوى فيما أمرن به من الاحتجاب كأنه قيل: وليكن عملكن في الحجب أحسن مما كان وأتقن غير محتجبات ليفضل سركن علنكن. ثم أكد الكل بقوله إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً وفيه أنه لا يتفاوت في علمه ظاهر الحجاب وباطنه. ثم كمل بيان حرمة النبي بأنه محترم في الملأ الأعلى فليكن واجب الاحترام في الملأ الأدنى، وقد مر معنى الصلاة في السورة. وإنما قال هناك هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ وقال هاهنا إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ ليلزم منه تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم: وذلك لأن إفراد الواحد بالذكر وعطف الغير عليه يوجب تفضيلا للمذكور على المعطوف، فكأنه سبحانه شرف الملائكة بضمهم مع نفسه بواسطة صلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم. واستدل الشافعي: بقوله صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا وظاهر الأمر للوجوب أن الصلاة في التشهد واجبة وكذا التسليم لأنه لا يجب بالاتفاق في غير الصلاة فيجب فيها. وذكر المصدر للتأكيد ليكمل السلام عليه وهو قول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. ولم يؤكد الصلاة هذا التأكيد لأنها كانت مؤكدة بقوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ وسئل النبي كيف نصلي عليك يا رسول الله؟ فقال: قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 474 حميد مجيد. وعنه صلى الله عليه وسلم «من صلى عليّ مرة صلى الله عليه عشرا «1» ومن العلماء من أوجب الصلاة كلما جرى ذكره لما روي في الحديث «من ذكرت عنده فلم يصل عليّ فدخل النار فأبعده الله» «2» ومنهم من أوجبها في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس، وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره. ومنهم من أوجبها في العمر مرة، وكذا قال في إظهار الشهادتين. والأحوط هو الأول وهو الصلاة عليه عند كل ذكر، وأما الصلاة على غيره فقد مر الخلاف فيها في سورة التوبة في قوله وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [الآية: 103] ثم رتب الوعيد على إيذاء الله ورسوله فيجوز أن يكون ذكر الله توطئة وتشريفا وإعلاما بأن إيذاء رسول الله هو إيذاء الله كقوله تعالى فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] ويجوز أن يراد بإيذاء الله الشرك به ونسبته إلى ما لا يجوز عليه. وعن عكرمة: هو فعل أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلق كخلق الله. وقيل: أذى رسول الله قولهم إنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون. وقيل: طعنهم عليه في نكاح صفية بنت حي، والأظهر التعميم. وعن بعضهم أن اللعن في الدارين هو جزاء من يؤذي الله، وإعداد العذاب المهين هو جزاء من يؤذي رسول الله، ولعل الفرق لاغ. ثم رتب وعيدا آخر على إيذاء المؤمنين والمؤمنات ولكن قيده بقوله بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا لأنه إذا صدر عن أحدهم ذنب جاز إيذاؤه على الوجه المحدود في الشرع، ولعل المراد هو الإيذاء القولي لقوله فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً ويحتمل أن يقال: احتمال البهتان سببه الإيذاء القولي، واحتمال الإثم المبين سببه الإيذاء الفعلي، ويحتمل أن يكون كلاهما وعيد الإيذاء القولي، وإنما وقع الاكتفاء به لأنه أجرح للقلب ولا مكان الاستدلال به على الفعلي، ولأن إيذاء الله لا يكون إلا بالقول إلا إذا جعل السجود للصنم إيذاء. قيل: نزلت في ناس من المنافقين كانوا يؤذون عليا رضي الله عنه. وقيل: في إفك عائشة. وقيل: في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات. ثم أراد أن يدفع عن أهل بيت نبيه وعن أمته المثالب التي هي مظان لصوق العار فقال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ الآية. ومعنى يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ يرخين عليهن. يقال للمرأة إذا زل الثوب عن وجهها أدني ثوبك على وجهك. ومعنى التبعيض في مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ أن يكون للمرأة   (1) رواه النسائي في كتاب الأذان باب 37. أحمد في مسنده (2/ 168) . (2) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 100. أحمد في مسنده (2/ 254) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 475 جلابيب فتقتصر على واحد منها، أو أريد طرف من الجلباب الذي لها. وكانت النساء في أول الإسلام على عادتهن في الجاهلية متبذلات يبرزن في درع وخمار من غير فصل بين الحرة والأمة، فأمرن بلبس الأردية والملاحف وستر الرأس والوجوه ذلِكَ الإدناء أَدْنى وأقرب إلى أَنْ يُعْرَفْنَ أنهن حرائر أو أنهن لسن بزانيات فان التي سترت وجهها أولى بأن تستر عورتها فَلا يُؤْذَيْنَ لا هن ولا رجالهن أقاربهن لأن أكثر الإيذاء والطعن إنما يتفق من جهة نساء العشيرة إذا كن مرئيات فضلا عن كونهن مزينات وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما قد سلف رَحِيماً حين أرشدكم إلى هذا الأدب الجميل. ولما أوعدهم بعذاب الآخرة خوّفهم بعقاب الدنيا قائلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عن الإيذاء وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وهم الضعفة الإيمان أو الزناة وأهل الفجور وَالْمُرْجِفُونَ في مدينة الرسول وهم الخائضون في أخبار السوء من غير حقيقة، سمي بذلك لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت من الرجفة وهي الزلزلة. روي أن ناسا كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله يوقعون في الناس أنهم قتلوا أو هزموا وكانوا يقولون قد أتاكم العدوّ ونحو ذلك. ومعنى لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ لنسلطنك عليهم وهو مجاز من قولهم: أغريت الجارحة بالصيد. والمراد لنأمرنك بأن تفعل ما يضطرهم إلى الجلاء ثم لا يساكنونك في المدينة إلا زمنا قليلا ريثما يتأهبون فيرتحلون بأنفسهم وعيالهم. ومعنى «ثم» تراخي الرتبة كأنه يفعل بهم أفاعيل تسوءهم إلى أن يبلغ حد الاضطرار فيزعجهم، ويجوز أن يكون قَلِيلًا منصوب على الحال أيضا ومعناه لا يجاورونك إلا أقلاء أذلاء ملعونين. وفي قوله لا يُجاوِرُونَكَ عطف على جواب القسم كأنه قيل: إن لم ينتهوا لا يجاورونك سُنَّةَ اللَّهِ أي سنة الله في الدين ينافقون في الأنبياء أن يقتلوا حيثما ثقفوا. وقال مقاتل: أراد كما قتل وأسر أهل بدر وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكام لا في الأفعال والأخبار. ثم إن المشركين واليهود كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة استهزاء وامتحانا فأمر نبيه أن يقول: إن ذلك العلم مما استأثر الله ولكنها قريبة الوقوع. ومعنى قَرِيباً شيئا قريبا أو يوما أو زمانا. ثم أوعدهم بما أعدّ لهم من عذاب السعير. ومعنى تقليب وجوههم تصريفها في الجهات كاللحم يدار على النار حين يشوى، أو تغييرها عن أحوالها، أو تحويلها عن هيآتها، أو نكسها على رؤوسها. والوجه عبارة عن الجملة وخص بالذكر لأنه أشرف وأكرم، وإذا كان الأشرف معرضا للعذاب فالأخس أولى. ثم حكى أنهم يعترفون ويتمنون ولا ينفعهم شيء من ذلك ثم يطلبون بعض التشفي بالدعاء على من أضلهم. قوله ضِعْفَيْنِ أي ضعفا لضلالهم وضعفا لإضلالهم. من قرأ لَعْناً كَبِيراً بالباء الموحدة فالمراد أشد اللعن وأفظعه، ومن قرأ بالثاء المثلثة أراد تكثير عدد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 476 اللعن وقد علموا أن العذاب حاصل فطلبوا ما ليس بحاصل وهو زيادة العذاب وكثرة اللعن أو عظمه. قوله لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى قال المفسرون: نزلت في شأن زيد وزينب وما سمع فيه من قالة بعض الناس. وإيذاء موسى هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذف موسى، أو حديث الأدرة أو البرص الذي قرفوه بذلك ففر الحجر بثوبه حتى رأوه عريانا وقد مر في «البقرة» . وقيل: اتهامهم إياه بقتل هارون وكان قد خرج معه إلى الجبل فمات هناك فحملته الملائكة ومروا به عليهم ميتا حتى أبصروه فعرفوا أنه غير مقتول، أو أحياه الله عز وجل فأخبرهم ببراءة موسى ومعنى مِمَّا قالُوا من مؤدى قولهم أو من مضمون مقولهم وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ذا جاه ومنزلة فلذلك كان يذب ويدفع عنه المثالب والمطاعن كما يفعل الملك بمن له عنده قربة. وروي عن شنبوذ وكان عبدا لله. ثم أشار إلى ما ينبغي أن يكون المؤمن عليه فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ والمعنى راقبوا الله في حفظ ألسنتكم وتقويم أمركم بسداد قولكم، فبتقوى الله يصلح العمل وبصلاح العمل تكفر السيئات وترفع الدرجات. أمرهم أوّلا بالتخلية وهي ترك الإيذاء وثانيا بالتحلية وهي التقوى الموجبة لتحصيل الأخلاق الفاضلة، ثم علق الفوز العظيم بالطاعة المسماة بالأمانة في قوله إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ فقيل: العرض حقيقة. وقيل: أراد المقابلة أي قابلنا الأمانة بالسماوات فرحجت الأمانة. والعرض أسهل من الفرض ولهذا كفر إبليس بالإباء ولم يكفر هؤلاء بالإباء لأن هناك استكبارا وهاهنا استصغارا بدليل قوله وَأَشْفَقْنَ مِنْها وقد يقال: المضاف محذوف أي عرضناها على أهل السموات والأرض والجبال وإنما صير إلى هذا التكلف لاستبعاد طلب الطاعة من الجمادات، ولم يستبعده أهل البيان لأن المراد تصوير عظم الأمانة وثقل حملها فمثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحالة المتحملة المفروضة لو عرضت على هذه الأجرام العظام. واعلم أن التكليف هو الأمر بخلاف ما في الطبيعة، فهذا النوع من التكليف ليس في السموات والأرض والجبال لأن السماء لا يطلب منها الهبوط، والأرض لا يطلب منها الصعود ولا الحركة، والجبال لا يطلب منها السير، وكذا الملائكة ملهمون بالتسبيح والتقديس. وسمي التكليف أمانة لأن من قصر فيه فعليه الغرامة ومن أداه فله الكرامة. فعرض الأمانة بهذا المعنى على هذه الأجرام وإباؤها من حملها هو عدم صلوحها لهذا الأمر، أو المراد هو التصوير المذكور. وقد خص بعضهم التكليف بقول «لا إله الا الله» . والأظهر عندي أن الأمانة هي الاستعداد الذي جبل كل نوع من المخلوقات عليه، وحمل الأمانة عبارة عن عدم أداء حقها كما يقال: فلان ركب عليه الدين. فكل من أخرج ما في قوته إلى الفعل فهو مؤدّ للأمانة وقاض حقها وإلا فهو حامل لها. ولا ريب أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 477 السموات مسخرات بأمر الله كل يجري لأجل مسمى، والأرض ثابتة في مستقرها، والجبال راسخة في أمكنتها، وهكذا كل نوع من الأنواع مما يطول تعدادها وإليه الإشارة بقوله سبحانه وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] إلا الإنسان فإن كثيرا من الأشخاص بل أكثرها مائلة إلى أسفل السافلين الطبع فلا جرم لم يقض حق الأمانة وانحط إلى رتبة الأنعام فوصف بالظلومية لأنه صرف الاستعداد في غير ما خلق لأجله، وبالجهولية لأنه جهل خاصة عاقبة إفساد الاستعداد، أو علم ولم يعمل بعلمه فنفي عنه العلم لانتفاء ثمرته. فاللام في الْإِنْسانُ للجنس وحمل الشيء على بعض الجنس يكفي في صدقه على الجنس. وفيه لطيفة أخرى مذكورة في تأويل آخر سورة البقرة. وذكروا في سبب الإشفاق أن الأمانة لا تقبل إما لعزتها ونفاستها كالجواهر الثمينة، أو لصعوبة حفظها كالزجاج مثلا، وكلا المحذورين موجود في التكليف. وأيضا كان الزمان زمان نهب وغارة إذ العرض كان بعد خروج آدم من الجنة والشيطان وجنوده كانوا في قصد المكلفين والعاقل لا يقبل الوديعة في مثل ذلك الوقت. وأيضا قد لا يقبل الأمانة لعسر مراعاتها ولاحتياجها إلى تعهد ومؤنة كالحيوان المحتاج إلى العلف والسقي والتكليف كذلك فإنه يحتاج إلى تربية وتنمية بخلاف متاع يوضع في صندوق أو بيت، فهذه الأشياء علمن ما في التكليف من التبعات وجهلها الإنسان فقبله فكان جهولا، وقد ظلم آدم نفسه بالمخالفة فكان ظلوما وكذا أولاده الذين ظلموا أنفسهم بالعصيان وجهلوا ما عليهم من العقاب. واعتذر بعضهم عن الإنسان أنه نظر إلى جانب من كلفه وقال المودع عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها، وإذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه وعونه فقبلها وقال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 4] وقيل: إنه كان ظلوما جهولا في ظن الملائكة حيث قالوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] وقال الحكيم: المخلوقات على قسمين: مدرك وغير مدرك. والمدرك منه من يدرك الجزئي فقط كالبهائم تدرك الشعير وتأكله ولا تتفكر في عواقب الأمور ولا تنظر في الدلائل، ومنه من يدرك الكلي دون الجزئي كالملك يدرك الكليات ولا يدرك لذة الجماع والأكل ولهذا قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا [البقرة: 32] فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات. ومنه من يدرك الأمرين وهو الإنسان له لذات بأمور جزئية فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية كلذة الملائكة بعبادة الله ومعرفته. فغير الإنسان إن كان مكلفا كان بمعنى كونه مخاطبا لا بمعنى الأمر بما فيه كلفة ومشقة. وفي قوله وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ دون أن يقول «وقبلها» إشارة إلى ما في التكليف من الثقل وإلى ما يستحقه عليه من الأجر لو حمله كما أمر وإلى حيث أمر وإلا غرم وجرم. (لطيفة) . الأمانة عرضت على آدم فقبلها وكان أمينا عليها، والقول قول الأمين فهو فائز. وأما أولاده فأخذوا الأمانة منه والآخذ من الأمين ليس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 478 بمؤتمن بل ضامن ولهذا لا يكون وارث المودع مقبول القول فلم يكن له بد من تجديد عهد وإيمان حتى يصير أمينا عند الله ويصير القول قوله فيكون له ما كان لآدم من الفوز، ولهذا ذكر ما فيه عاقبة حمل الأمانة قائلا لِيُعَذِّبَ إلى قوله وَيَتُوبَ إشارة إلى الفريقين. ثم وصف نفسه بكونه غفورا رحيما بإزاء كون الإنسان ظلوما جهولا ولا يخفى ما في هذه الإشارة من البشارة. التأويل: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً فمن أحب شيئا أكثر ذكره. وأهل المحبة هم الأحرار عن رق الكونين والحرّ يكفيه الإشارة هُوَ الَّذِي يُصَلِّي أي لولا صلاتي عليكم لما وفقتم لذكري كما أنه لولا سابقة محبتي لما هديتم إلى محبتي، فكان في الأزل بالمؤمنين رحيما فلهذا أخرجهم في الأبد من ظلمة الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً لنا بنعت المحبوبية وَمُبَشِّراً للطالبين برؤية جمالنا وَنَذِيراً للبطالين عن كمال حسننا وحسن كمالنا وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ لا بطبعك وهواك وَسِراجاً مُنِيراً في أوقات عدم الدعوة، وذلك أن النظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم كاف لمن كان له قلب مستنير، فإذا انضمت الدعوة إلى ذلك كان في الهداية غاية. وفضلا كبيرا هو القلب المستنير. إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ لما اتصفت نفسه بصفات القلب وزال عنها الهوى اتصفت دنياه بصفات الآخرة فحل له في الدنيا ما يحل لغيره في الآخرة إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ صلاة تليق بتلك الحضرة المقدّسة مناسبة لحضرة النبوّة بحيث لا يفهم معناها غيرهما منها الرحمة، ومنها المغفرة الواردة، ومنها الشواهد، ومنها الكشوف، ومنها المشاهدة، ومنها الجذبة، ومنها القربة، ومنها الشرب، ومنها الري، ومنها السكون، ومنها التجلي، ومنها الفناء في الله، ومنها البقاء به، وهكذا لأمته بحسب مراتبهم كقوله أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 157] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ هي قبول الفيض الإلهي بلا واسطة ولهذا سمي أمانة لأن الفيض من صفات الحق فلا يتملكه أحد. وقد اختص الإنسان بإصابة رشاش النور الإلهي فكان عرض الفيض عاما على قلب المخلوقات ولكن كان حمله خاصا بالإنسان لأن نسبة الإنسان إلى سائر المخلوقات نسبة القلب إلى الشخص، فالروح يتعلق بالقلب ثم يصل فيضه بواسطة العروق والشرايين إلى سائر البدن فيتحرك به وهذا سر الخلافة إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً لأنه خلق ضعيفا وحمل قويا جَهُولًا لأنه ظن أنه خلق للمطعم والمشرب والمنكح ولم يعلم أن هذه الصورة قشر وله لب وللبه لب وهو محبوب الله. فبقوّة الظلومية والجهولية حمل الأمانة ثم بروحه المنوّر برشاش الله أدّى الأمانة فصارت الصفتان في حق حامل الأمانة ومؤدي حقها مدحا، وفي حق الخائنين فيها ذمّا. ولما لم يكن لروح الملائكة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 479 ولغيرهم من المخلوقات راحلة تحملها بالعزة أبين منها وأشفقن. فالمخاطبون إذن على ثلاث طبقات: طبقة يظهر فيها جمال صفة عدله وهم الملك والأجسام العلوية والسفلية سوى الثقلين لم يحملوا الأمانة وتركوا نفعها لضرها، وطبقة يظهر فيها جمال قهره وهم المشركون والمنافقون حملوها طمعا في نفعها ثم لم يؤدّوا حقها بأن باعوها بالأعراض الفانية، والطبقة الثالثة المؤمنون وهم الذين حملوها طوعا ورغبة وشوقا ومحبة وأدّوا حقها بقدر وسعهم. ولكن الحكم لكل جواد كبوة يقع قدم صدقهم في حجر بلاء وابتلاء فيتوب الله عليهم بجذبات العناية وهم مرآة جمال فضله ولطفه الله حسبي ونعم الوكيل وبالله التوفيق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 480 (سورة سبأ) (وهي مكية حروفها ثلاثة آلف وخمسمائة واثنا عشر كلمها ثمانمائة وثلاث وثمانون آياتها أربع وخمسون) [سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 21] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 481 القراآت: عالم الغيب بالرفع: أبو جعفر ونافع وابن عامر ورويس. علام بالجر وبناء المبالغة: حمزة وعلي. الباقون عالِمِ بالجر وبدون المبالغة. مُعاجِزِينَ بالألف وقد روي عن ابن كثير وأبي عمرو معجزين بالتشديد رِجْزٍ أَلِيمٌ بالرفع صفة العذاب وكذلك في «الجاثية» : ابن كثير وحفص ويعقوب وجبلة. الآخرون: بالجر إن يشأ يخسف أو يسقط على الغيبة فيهما: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بالنون نَخْسِفْ بِهِمُ بإدغام الفاء في الباء: علي كِسَفاً بفتح السين: حفص غير الخزاز والطير بالرفع حملا على لفظ المنادى: يعقوب غير رويس الآخرون: بالنصب حملا على المحل أو لأنه مفعول معه أو معطوف على فَضْلًا بمعنى وسخرنا له الطير الريح بالرفع: أبو بكر وحماد والمفضل بتقدير: ولسليمان الريح مسخرة أو سخرت الريح له الرياح بالرفع أيضا ولكن مجموعا: يزيد. الباقون: موحدا منصوبا كالجوابي بالياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو عمرو وورش في الوصل عِبادِيَ الشَّكُورُ بسكون الياء: حمزة والوقف بالياء لا غير مِنْسَأَتَهُ بالألف: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن فليح وزيد عن يعقوب. وقرأ ابن ذكوان ساكنة الهمزة. الآخرون: بفتح الهمزة تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ على البناء للمفعول: يعقوب غير زيد لِسَبَإٍ غير مصروف: أبو عمرو والبزي لِسَبَإٍ بهمزة ساكنة: ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل لِسَبَإٍ بالألف: ابن فليح وزمعة والقواس غير ابن مجاهد وأبي عون مَسْكَنِهِمْ بفتح الكاف: حمزة وحفص، وبكسرها علي وخلف الباقون: مساكنهم مجموعة بِجَنَّتَيْهِمْ بضم الهاء: سهل ويعقوب أُكُلٍ خَمْطٍ بضم الكاف والإضافة: أبو عمرو وسهل ويعقوب. الآخرون: بالسكون والتنوين نُجازِي بضم النون وكسر الزاي إِلَّا الْكَفُورَ بالنصب: حمزة وعلي وخلف وحفص ويعقوب. الآخرون: بضم الياء وفتح الزاي وبرفع الْكَفُورَ ربنا بالرفع باعد بلفظ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 482 الماضي من المفاعلة: سهل. الآخرون: رَبَّنا بالنصب على النداء باعِدْ على الأمر. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بعد أمرا من التبعيد صَدَّقَ بالتشديد: عاصم وعلي وخلف. الباقون: بالتخفيف أي صدق في ظنه أو صدق يظن ظنا نحو «فعلته جهدك» . الوقوف: فِي الْآخِرَةِ ط الْخَبِيرُ هـ فِيها ط الْغَفُورُ هـ السَّاعَةُ ط لَتَأْتِيَنَّكُمْ هـ لمن قرأ عالِمِ بالرفع أي هو عالم ومن خفض جعله نعتا لربي فلم يقف ب الْغَيْبِ ج لأن قوله لا يَعْزُبُ يصلح حالا واستئنافا مُبِينٍ هـ لا لتعلق اللام أبو حاتم يقف الصَّالِحاتِ ط كَرِيمٌ هـ أَلِيمٌ هـ الْحَقَّ ج لأن قولهن وَيَهْدِي عطف على المعنى أي يحق قبوله ويهدي الْحَمِيدِ هـ مُمَزَّقٍ ط لأن ما بعده في حكم المفعول لأنه مفعول ثان ل يُنَبِّئُكُمْ وإنما كسرت لدخول اللام في خبرها جَدِيدٍ هـ ج للآية ولاتحاد المقول جِنَّةٌ ط الْبَعِيدِ هـ الْأَرْضِ ط السَّماءِ ط مُنِيبٍ هـ فَضْلًا ط وَالطَّيْرَ ج لأن ما يتلوه يصلح حالا واستئنافا الْحَدِيدَ هـ لا لتعلق «أن» صالِحاً ط بَصِيرٌ هـ وَرَواحُها شَهْرٌ ط لأن قوله وَأَسَلْنا عطف على محذوف أي وسخرنا لسليمان الريح الْقِطْرِ ط رَبِّهِ ط السَّعِيرِ هـ راسِياتٍ ط شُكْراً ط الشَّكُورُ هـ مِنْسَأَتَهُ هـ الْمُهِينِ هـ آيَةٌ ج لاحتمال أن يكون التقدير هي جنتان وأن يكون بدلا من آية وَشِمالٍ ط لَهُ ط أي لكم بلدة غَفُورٌ هـ قَلِيلٍ هـ كَفَرُوا ط الْكَفُورَ هـ السَّيْرَ ط آمِنِينَ هـ مُمَزَّقٍ ط شَكُورٍ هـ الْمُؤْمِنِينَ هـ شَكٍّ ط حَفِيظٌ هـ. التفسير: قال في التفسير الكبير: السور المفتتحة بالحمد خمس: ثنتان في النصف الأول «الأنعام» و «الكهف» ، وثنتان في النصف الأخير هذه «والملائكة» والخامسة وهي «الفاتحة» تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير، وذلك لأن المكلف له حالتان الإبداء والإعادة وفي كل حالة لله علينا نعمتان: نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فأشار في أوّل «الأنعام» إلى نعمة الإيجاد الأول بدليل قوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الآية: 2] وأشار في أوّل «الكهف» إلى إنزال الكتاب الذي به يتم نظام العالم ويحصل قوام معاش بني آدم، وأشار في أوّل هذه السورة إلى نعمة الإيجاد الثاني بدليل قوله تعالى وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وأشار في أوّل سورة الملائكة إلى الإبقاء الأبدي بدليل قوله جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] والملائكة بأجمعهم لا يكونون رسلا إلا يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين على المسلمين كقوله وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنبياء: 103] وقال تعالى في تحيتهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ [الزمر: 73] وفاتحة الكتاب حيث تشتمل على نعمة الدنيا بقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 483 رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 1] وعلى نعمة الآخرة بقوله مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 3] يقرأ في الافتتاح وفي الاختتام. واعلم أنه تعالى وصف نفسه في أول هذه السورة بأن له ما في السموات وما في الأرض إيذانا بأن كونه مالكا لكل الأشياء يوجب كونه محمودا على كل لسان، لأن الكل إذا كان له فكل من ينتفع بشيء من ذلك كان مستنفعا بنعمه. ثم صرح بأن له الحمد في الآخرة تفضيلا لنعم الآخرة على نعم الدنيا وإيذانا بأنها هي النعمة الحقيقية التي يحق أن يحمد عليها ويثنى عليه من أجلها مع إفادة الاختصاص بتقديم الظرف وَهُوَ الْحَكِيمُ في الابتداء الْخَبِيرُ بالانتهاء. ثم أكد علمه بقوله يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أي يدخل فيها من المياه والحبات والكنوز والأموات وَما يَخْرُجُ مِنْها من الشجر والنبات ومياه الآبار والجواهر والمعدنيات وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الأمطار والأرزاق وأنواع البركات والوحي وَما يَعْرُجُ فِيها من الملائكة وأعمال العباد. وقد أشار بقوله فِيها دون أن يقول «إليها» إلى أن الأعمال الصالحة مقبولة والنفوس الزكية واصلة، فقد ينتهي الشيء إلى الشيء ولا ينفذ فيه ولا يتصل به وَهُوَ الرَّحِيمُ حين الإنزال الْغَفُورُ وقت عروج الأعمال للمفرطين في الأقوال والأفعال. ثم بين أن نعمة الآخرة بإتيان الساعة الآخرة قد ينكرها قوم ثم رد عليهم بقوله بَلى وأكد ذلك بقوله وَرَبِّي ثم برهن على ذلك بقوله عالِمِ الْغَيْبِ لأن العالم بجميع الأشياء عالم بأجزاء الأحياء قادر على جمعها كما بدأها. وفي قوله لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إشارة إلى أن الإنسان له جسم أرضي وروح سماوي، فالعالم بما في العالمين القادر على تأليفهما قادر على إعادتهما على ما كانا عليه. وإنما ذكر الأكبر مع أن الأصغر هو اللائق بالمبالغة لئلا يتوهم متوهم أن الصغار تثبت لكونها تنسى أما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته، بل المراد أن الصغير والكبير مثبت في الكتاب وقد مر نظيره في «يونس» . وقدم السموات على الأرض موافقة لقوله لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ بخلاف «يونس» فإن المخاطبين في الأرض فقدمت. ثم ذكر غاية الإعادة بقوله لِيَجْزِيَ إلى قوله مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ومعنى سَعَوْا فِي آياتِنا أي في إبطال آياتنا معاجزين مريدين تعجيز النبيّ في التقرير والتبليغ، أو يعجزون من آمن بنا. وقيل: أي مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا. وقال ابن زيد: جاهدين وهو قولهم لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] وعن قتادة: الرجز سوء العذاب. وحين بين جزاء المؤمن الصالح عمله والمكذب الساعي العجز علم منه حال غيرهما، فالمؤمن الذي لم يعمل صالحا يكون له مغفرة من غير رزق كريم، والكافر غير المعاند يكون له عذاب وإن لم يكن من أسوأ أنواعه. ثم بين أن الذين أوتوا العلم لا يغترون بشبهات أهل العناد ويرون ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق ليس الحق إلا هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 484 والنزاع غير لفظي حتى يمكن تصحيح قول المعاند بوجه. وأولو العلم هم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم. وقيل: هم علماء أهل الكتابين الذين أسلموا. ويرى من فعل القلب مفعولاه الذي مع صلته والحق وهو فصل. وقيل: إن يَرَى معطوف على لِيَجْزِيَ فلا وقف على أَلِيمٌ أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علما لا يزاد عليه في الإيقان ويحتجوا به على المعاند، أو وليعلم من لم يؤمن من الأحبار أنه هو الحق فيزدادوا حسرة. والعزيز إشارة إلى كونه منتقما من الساعين في التكذيب، والحميد إشارة إلى أنه يشكر سعي من يصدق ويعمل صالحا، وقدم صفة الهيبة لأن الكلام مع منكري البعث. ثم قص عناد أهل قريش وخصهم بالتعجيب من حالهم لأنهم تجاهلوا حين قالوا على رجل مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندهم أظهر من الشمس قصدوا بذلك الطعن والسخرية فأخرجوا الكلام مخرج الحكاية ببعض الأضاحيك والأعاجيب كأن لم يكونوا قد عرفوا منه إلا أنه رجل ما. ومعنى مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ فرقت أوصالكم كل تفريق وجوّز جار الله أن يكون اسم مكان فمن الأموات ما حصل أجزاؤه في بطون الطير والسباع، ومنها ما مرت به السيول فذهبت به كل مذهب أو سفته الرياح فطرحته كل مطرح. والعامل في «إذا» ما دل عليه قوله إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو تبعثون أو تخلقون، ثم ازدادوا في التجاهل قائلين أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً إن كان يعتقد خلافه أَمْ بِهِ جِنَّةٌ إن كان لا يعتقد خلافه. وفيه أن الكافر لا يرضى بالكذب البحت فيردد كلامه بين الأمرين ولكن أخطأ ابن أخت خالته حين ترك قسما ثالثا وهو أنه عاقل صادق فلذلك ردّ الله عليهم بقوله بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ جعل وقوعهم في العذاب رسلا لوقوعهم في الضلال إذ العذاب من لوازم الظلال وموجباته قابل قولهم أَفْتَرى بالعذاب وقولهم بِهِ جِنَّةٌ بالضلال البعيد لأن نسبة الجنون إلى العاقل أقل في باب الإيذاء من نسبة الافتراء إليه. وقد أسقطت همزة الوصل في قوله أَفْتَرى استثقالا لاجتماع همزتين: همزة الاستفهام المفتوحة وهمزة الوصل المكسورة وهو على القياس. وجوز بعضهم أن يكون هذا الاستفهام من كلام السامع المجيب لمن قال: هل ندلكم؟ وحين قرر دليل الحشر من جهة كونه علام الغيوب أراد أن يذكر دليلا آخر على ذلك من قبل كمال قدرته فقال أَفَلَمْ يَرَوْا معناه أعموا فلم ينظروا، خصت بالفاء وليس غيره في القرآن تعجيلا للجواب وتعقيبا لحل الشبهة نظيره قوله أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] ثم هدّدهم بأنه قادر على أن يجعل عين النافع ضارا بالخسف وإسقاط الكسف. وقال جار الله: أراد فلم ينظروا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 485 إلى السماء والأرض وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم لا يقدرون أن يخرجوا من أقطارهما فلم يخافوا أن يخسف الله بهم، أو يسقط عليهم كسفا لتكذيبهم الآيات وكفرهم بالرسول كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة. إِنَّ فِي ذلِكَ النظر والاعتبار لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ لأن الراجع إلى ربه قلما يخلو من الاعتبار والاستبصار. ثم ذكر من عباده المنيبين إليه داود وسليمان كما قال في «ص» فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: 24] وقال في سليمان وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ [ص: 34] وفي قوله مِنَّا تنويه بالفضل وشأنه. ثم بين الفضل بقوله يا جِبالُ أَوِّبِي لأن هذا القول نوع من إيتاء الفضل، ويجوز أن يكون التقدير: قلنا يا جبال أوّبي أي رجعي معه التسبيح. قيل: كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائها والطير بأصدائها، وقد مر تحقيقه في سورة الأنبياء. والتأويب السير طول النهار والنزول ليلا فكأنه قال: أوّبي النهار كله بالتسبيح معه. وفي خطاب الجماد إشعار بأنه ما من صامت ولا ناطق إلا وهو منقاد لمشيئته. وقد ألان الله له الحديد كالشمع أو لأن الحديد في يده لما أوتي من شدة القوة. و «أن» في قوله أَنِ اعْمَلْ مفسرة لأن إلانة الحديد له في معنى الأمر بأن يستعمل. سابِغاتٍ أي دروعا واسعة وهي من الصفات التي غلبت عليها الاسمية حتى ترك ذكر موصوفها. والسرد نسج الدروع ومعنى التقدير فيه أن لا تجعل المسامير دقاقا فتقلق ولا غلاظا فتفصم الحلق. يروى أنه كان يخرج حين ملك بني إسرائيل متنكرا فيسأل الناس عن نفسه ويقول لهم: ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه فقيض الله تعالى ملكا في صورة آدمي فسأله على عادته فقال: نعم الرجل لولا خصلة فيه. فخاف داود فسأله فقال: لولا أنه يطعم عياله من بيت المال فطلب عند ذلك من الله أن يغنيه عن أكل بيت المال فعلمه صنعة اللبوس. وإنما اختار له ذلك لأنه وقاية للروح ويحفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل، فالزرّاد خير من القوّاس والسياف. وقيل: إن التقدير في السرد إشارة إلى أنه غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب يكون بقدر الحاجة إلى القوت وباقي اليوم والليلة للعبادة بدليل قوله وَاعْمَلُوا صالِحاً أي لستم يا آل داود مخلوقين إلا للعمل الصالح فأكثروا منه وأما كسب القوت فاقتصدوا فيه. ثم أكد الفعل الصالح بقوله إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فإن من يعلم أنه بمرأى من الملك اجتهد في حسن العمل وتزكية الباطن. ثم ذكر المنيب الآخر وهو سليمان، وحكى ما استفاد هو بالإنابة وهو تسخير الريح له كالمملوك المنقاد لأمره غُدُوُّها شَهْرٌ أي جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك. يروى أن بعض أصحاب سليمان كتب في منزل بناحية دجلة: نحن نزلناه وما بنيناه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 486 ومبنيا وجدناه غدونا من إصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه وبائتون بالشام إن شاء الله. ومن جملة معجزاته إسالة عين القطر، والقطر النحاس أساله لأجله كما ألان الحديد لداود فنبع كما ينبع الماء من العين فلذلك سماه عين القطر. روي أنه كان يسيل في شهر ثلاثة أيام. زعم بعض المتحذلقين أن المراد من تسخير الجبال وتسبيحها مع داود أنها كانت تسبح كما يسبح كل شيء بحمده وكان هو عليه السلام يفقه تسبيحهم فيسبح. والمراد من تسخير الريح أنه راض الخيل وهي كالريح. وقوله غُدُوُّها شَهْرٌ أي ثلاثون فرسخا لأن الذي يخرج للتفرج لا يسير في العادة أكثر من فرسخ ثم يرجع. والمراد بإلانة الحديد وإسالة القطر أنهم استخرجوا الحديد والنحاس بالنار واستعمال آلاتها. والمراد بالشياطين ناس أقوياء. ولا يخفى ضعف هذه التأويلات فإن قدرة الله في باب خوارق العادات أكثر وأكمل من أن تحتاج إلى هذه التكلفات. وقال في التفسير الكبير: الجبال لما سبحت تشرفت بذكر الله فلم يضفها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحب، والريح لم يذكر فيها أنها سبحت فجعلها كالمملوكة. أو نقول: الجبل في السير ليس أصلا بل هو يتحرك معه تبعا، والريح لا تتحرك مع سليمان بل تتحرك مع نفسها فلم يقل الريح مع سليمان بل سليمان كان مع الريح. وهاهنا نكتة وهي أن الله تعالى ذكر ثلاثة أشياء في حق داود وثلاثة في حق سليمان. لعله كالمصروف عن جهته تأمل فالجبال المسخرة لداود من جنس تسخير الريح لسليمان. إذ كل منهما ثقيل مع خفيف، فالجبال أثقل من الآدمي والآدمي أثقل من الريح. وأيضا تسخير الطير من جنس الجن فإن الطير تنفر من الآدمي والآدمي يتقي مواضع الجن والجن تطلب أبدا اصطياد الناس والإنسان يطلب اصطياد الطير. وإلانة الحديد شبيهة بإسالة القطر. وفي قوله بِإِذْنِ رَبِّهِ إشارة إلى أن حضور الجن بين يديه كان مصلحة له لا مفسدة. وفي قوله عَنْ أَمْرِنا دون أن يقول «عن أمر ربه» إشارة إلى أن الجن كانوا بصدد التعذيب عند زيغهم عن أمر الله، فإن لفظ الرب ينبىء عن الرحمة، وصيغة جمع المتكلم في مقام الوحدة ينبىء عن الهيبة. قال ابن عباس: عذاب السعير عذاب الآخرة. وعن السدي: كان معه ملك بيده سوط من النار كلما استعصى عليه الجنيّ ضربه من حيث لا يراه الجني. ثم فصل عمل الجن بقوله يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وهي المساجد والمجالس الرفيعة الشريفة المصونة عن الابتذال وقد مر في «آل عمران» . والتماثيل صور الملائكة والنبيين كان يأمر بأن تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم. عن أبي العالية: لم يكن اتخاذ الصور في تلك الشرائع محرما ولعلها صور غير الحيوان من الأشجار ونحوها. ويروى أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه، ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 487 قعد أظله النسران بأجنحتهما. وحين فرغ من تقرير مسكنه ونقوشه شرع في تقرير آلات مجلسه فقدم ذكر الجفان التي بها تظهر عظمة السماط الممدود منه. والجفنة القصعة الكبيرة، والجوابي الحياض الكبار، لأن الماء يجبى فيها أي يجمع جعل الفعل لها مجازا وهي من الصفات الغالبة كالدابة، وكان يقعد على الجفنة ألف رجل. وحين ذكر الجفان كان يقع في النفس أن هذه الأطعمة كيف تكون قدورها فذكر أنها قدور راسيات ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها. ويعلم من تقرير قصتي داود سليمان أن اشتغال داود بآلة الحرب أكثر لأنه قتل جالوت، ثم أراد تسوية الملك والغلبة على الجبابرة، وأما في زمن سليمان فالملك قد استوى ولم يكن على وجه الأرض أحد يقاومه وكان يفرق الأموال في الإطعام والإنعام. ثم بين بقوله اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً أن الدنيا عرض زائل وإن كان ملك سليمان فعلى العاقل أن يصرف همته في طلب الآخرة. وانتصب شُكْراً على أنه مفعول له أو حال أي شاكرين، أو مصدرا لأن اعْمَلُوا في معنى الشكر، أو مفعول به لأن الشكر عمل صالح. وقال جار الله: إنه على طريق المشاكلة ومعناه إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكرا. قلت: وفي لفظ العمل إشارة إلى أن الشكر اللساني غير كاف وإنما المعتبر الشكر الفعلي أو هو مع القولي. يروى أن داود عليه السلام جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي. والشكور هو المتوفر على أداء الشكر الباذل وسعه فيه بالقلب واللسان والجوارح في أكثر الأوقات والأحوال وإنهم لقليل فلذلك قال بعضهم: اللهم اجعلني من الأقلين. وهذا الشكر القليل إنما هو بقدر الطاقة البشرية وأما الذي يناسب نعم الله فلن يقدر الإنسان عليه إلا أن يقول الله: عبدي ما أتيت به من الشكر قبلته منك مع قلته وكتبتك شاكرا لأنعمي بأسرها، وهذا القول نعمة عظيمة لا أكلفك شكرها. وحين بين عظمة سليمان وتسخير الريح والجن له، بين أنه لم ينج من الموت وأنه قضى عليه الموت ولو نجا أحد منه لكان نبي الله أولى بذلك. يروى أن داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس فمات قبل أن يتمه، فوصى به إلى سليمان فأمر الشياطين بإتمامه، وكان من عادته أن يعتكف فيه أحيانا. فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله عز وجل فيسألها لأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة فسألها لأيّ شيء أنت؟ فقالت: لخراب هذا المسجد. فقال: ما كان الله ليخربه وأنا حيّ. فقال: اللهم عمّ على الجن موتي حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب. وقال لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني. فقال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 488 أمرت بك وقد بقيت في عمرك ساعة. فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب؟ فقام يصلي متكئا على عصاه فقبض روحه فبقي كذلك وظن جنوده أنه في العبادة فكانوا يواظبون على الأعمال الشاقة إلى أن أكلت الأرضة عصاه فخرّ ميتا وذلك بعد سنة. والأرض مصدر أرضت الخشبة أرضا إذا أكلتها الأرضة. والمنسأة العصا لأنه ينسأ بها أي يطرد ويؤخر، وقد يترك همزها. وقرىء من سأته أي طرف عصاه سميت بسأة القوس على الاستعارة. وتبينت بمعنى ظهرت «وأن» مع صلتها بدل من الجن بدل الاشتمال على نحو قولك «تبين زيد جهله» أو هو بمعنى علمت أي علم الجن كلهم بعد التباس الأمر على عامتهم أن كبارهم لا يعلمون الغيب وكان ادعاؤهم ذلك من قبل زورا. أو المراد التهكم بهم وأن الذين ادّعوا منهم علم الغيب اعترفوا بعجزهم مع أنهم كانوا من قبل عارفين عجزهم كما لو قلت لمدعي الباطل إذا دحضت حجته: هل تبينت أنك مبطل. وأنت تعلم أنه لم يزل متبينا لذلك. وكان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة، ملك وهو ابن ثلاث عشرة وبقي في ملكه إلى أن مات، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. ولما بين حال الشاكرين لأنعمه ذكر حال من كفر النعمة. وسبأ بصرف بناء على أنه اسم للحي أو الأب الأكبر، ولا يصرف بتأويل القبيلة وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ثم سميت مدينة مأرب بسبأ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث. من قرأ مساكنهم فظاهر. ومن قرأ على التوحيد فالمراد مسكن كل واحد منهم أو موضع سكناهم وهو بلدهم وأرضهم. عن الضحاك: كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام. ومعنى كون الجنتين آية أنه جعل قصتهما عبرة لأهل الكفران، أو علامة دالة على الصانع وكمال اقتداره ووجوب شكره. قال جار الله: لم يرد بستانين اثنين فحسب وإنما أراد جماعتين من البساتين: جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها، كأن كل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها جنة واحدة، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كقوله جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ [الكهف: 32] . وقوله كُلُوا مِنْ رِزْقِ حكاية لسان الحال أو لسان الأنبياء المبعوثين إليهم وهم ثلاثة عشر نبيا على ما روي. وفيه إشارة إلى كمال النعمة حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض. وكذا قوله وَاشْكُرُوا لَهُ لأن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة. وكذا قوله بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أي عن المؤذيات من العقارب والحيات وسائر الهوام والحشرات، أو المراد أنها ليست بسبخة كقوله وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ [الأعراف: 58] وَرَبٌّ غَفُورٌ أي ربكم الذي رزقكم فطلب شكركم غفور لمن يشكره بقدر طاقته لا يؤاخذه بالتقصير في أداء حق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 489 الشكر إذا توجه عليه الشكر وبذل وسعه فيه، أو أراد غفران سائر الذنوب فكأنه وعدهم سعادة الدارين. وعن ثعلب: معناه اسكن واعبد. وحين بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم وهو قوله فَأَعْرَضُوا أي عن الشكر. ثم ذكر جزاءهم بقوله فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وهو الجرذ. يروى أن بلقيس الملكة عمدت إلى جبال هناك فسدّت ما بينها من الشعب بالصخر والقار فحقنت به ماء العيون والأمطار وتركت فيه خروقا لها أبواب مترتبة بعضها فوق بعض على مقدار ما يحتاجون إليه في سقي أراضيهم، فلما طغوا سلط الله على سدّهم الخلد فثقبه من أسفله. وقيل: العرم جمع عرمة وهي الحجارة المركوزة والمراد بها المسناة التي عقدوها سكرا. وقيل: العرم اسم الوادي. وقيل: المطر الشديد. والتركيب يدل على الشكاسة وسوء الخلق ومنه قولهم «صبي عارم» من العرام بالضم أي شرس. ومن ذلك «عرمت العظم» عرقته و «عرمت الإبل الشجر» نالت منه ذَواتَيْ أُكُلٍ صاحبتي ثمر. والقياس ذاتي إلا أن المستعمل في التثنية هو الجمع. والخمط شجر الأراك. أبو عبيدة: كل شجر ذي شوك. الزجاج: كل نبت أخذ طعما من مرارة حتى لا يمكن أكله. والأثل نوع من الطرفاء لا يكون عليه ثمرة إلا نادرا كالعفص في الطعم والطبع ولكن أصغر. والسدر معروف وهو من أحسن أشجار البادية فلذلك وصفه هاهنا بالقلة. عن الحسن: قلل السدر لأنه أكرم ما بدّلوا، والتحقيق فيه أن البساتين إذا عمرت كل سنة ونقيت من الحشائش كانت ثمارها زاكية وأشجارها عالية، فإذا تركت سنين صارت كالغيضة والأجمة والتفت الأشجار بعضها ببعض فيقل الثمر وتكثر الحشائش والأشجار ذوات الشوك على أنه لا يبعد التبديل تحقيقا فيكون شبه المشخ. من قرأ أُكُلٍ خَمْطٍ بالإضافة فظاهر، ومن قرأ بالتنوين فعلى حذف المضاف أي أكل أكل خمط، أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل: ذواتي أكل بشع. وتسمية البدل جنتين لأجل المشاكلة أو التهكم. قال في الكشاف: الأثل والسدر معطوفان على أُكُلٍ لا على خَمْطٍ لأن الأثل لا أكل له ذلِكَ الإرسال والتبديل جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا النعمة وغمطوها وَهَلْ نُجازِي مثل هذا الجزاء وهو العقاب العاجل إِلَّا الْكَفُورَ قال بعضهم: المجازاة في النقمة والجزاء في النعمة إلا إذا قيد كقوله سبحانه جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وقال جار الله: الجزاء عام لكل مكافأة يستعمل في المعاقبة تارة وفي الإثابة أخرى، فلما استعمل أوّلا في معنى المعاقبة استعمل ثانيا على نحو ذلك. وقيل: إن المجازاة مفاعلة وهي في الأكثر تكون بين اثنين يوجد من كل واحد جزاء في حق الآخر، ففي النعمة لا يكون مجازاة لأن الله مبتدىء بالنعم. وحين ذكر حال مسكنهم وجنتيهم وحكى تبديل الجنتين بما لا نفع فيه أراد أن يذكر حال خارج بلدهم وما يؤل إليه أمره فقال وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي قرى الشام قُرىً ظاهِرَةً متواصلة يرى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 490 من كل منها ما يتلوها لتقاربها، أو ظاهرة للسابلة لكونها على متن الطريق. وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فيقيل الغادي في قرية ويبيت الرائح في أخرى، فمنازل ما بين تلك القرى مقدّرة ومعلومة لا يجاوزها المسافر عرفا بخلاف المفاوز فإن السائر يسير فيها بقدر طاقته حتى يقطعها. ثم بين أمن تلك الطريق بقوله سِيرُوا أي قلنا لهم سيروا إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار. قال أهل البيان: لا قول ثمة ولكنهم مكنوا من السير بتهيئة أسبابه من وجدان الزاد والراحلة وعدم المخاوف والمضارّ فكأنهم أمروا بذلك. والمقصود من ذكر الليالي والأيام تقرير كمال الأمن ولذلك قدمت الليالي فإنها مظنة الآفات. ويمكن تقرير الأمن بوجه آخر وهو أن يقال: سيروا فيها وإن تطاولت مدّة سفركم فيها وامتدت أياما وليالي، أو يراد بالليالي والأيام مدّة أعمارهم أي سيروا فيها مدّة عمركم فإنكم لا تلقون إلا الأمن. ثم حكى أنهم سئموا العيش الهنيء وملوا الدعة والراحة كما طلب بنو إسرائيل البصل والفوم مكان المن والسلوى فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا أرادوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزوّدوا الأزواد قائلين: لو كان جني جناتنا أبعد كان أشهى وأرغد. ويحتمل أن يكون ذلك لفساد اعتقادهم وشدّة اعتمادهم على أن ذلك لا يعدم كما يقول القائل لغيره: اضربني مشيرا بذلك إلى أنه لا يقدر عليه. ومن قرأ على الابتداء والخبر فالمراد استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوّها لفرط تنعمهم وترفههم وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بوضع الكفر موضع الشكر فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ فرقناهم كل تفريق فلا جرم اتخذ الناس حالهم مثلا قائلين «ذهبوا أيدي سبأ» أي في طرق شتى. واليد في كلام العرب الطريق يقال: سلك بهم يد البحر. وقيل: الأيادي الأولاد لأنه يعضد بهم كما بالأيدي. والمعنى ذهبوا تفرق أولاد سبأ فلحق غسان بالشام، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعمان إِنَّ فِي ذلِكَ الجعل والتمزيق لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ عن المعاصي شَكُورٍ للنعم أو صبار على النعم حتى لا يلحقه البطر شكور لها برعاية حق الله فيها. ثم أخبر عن ضعف عزم الإنسان بقوله وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ أي على بني آدم لقرينة الحال. وقيل: على أهل سبأ وظن إبليس هو قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ [الحجر: 39] أو قوله أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [ص: 76] بدليل قوله فَاتَّبَعُوهُ والمتبوع خير من التابع. ولا ريب أن الكافر أدون حالا من إبليس لأنه خالف أمر الله في سجدة آدم والكافر يجحد الصانع أو يشرك به. ثم بين قوله وَما كانَ لَهُ أن الشيطان ليس بملجىء ولكنه آية وعلامة يتميز به ما هو السابق في علمه من المقرّ والشاك. والحفيظ المحافظ ويدخل في مفهوم الحفظ العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه وكذا العاجز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 491 التأويل: يَعْلَمُ ما يَلِجُ في أرض البشرية بواسطة الحواس والأغذية الحلال والحرام وَما يَخْرُجُ مِنْها من الصفات المتولدة منها. وَما يَنْزِلُ من سماء القلب من الفيوض والإلهامات وَما يَعْرُجُ فِيها من آثار الفجور والتقوى وظلمة الضلالة ونور الهدى إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من سماء القلب وأرض النفس، نخسف بهم أرض البشرية بغلبات صفاتها أو يغلب عليهم صفة من صفات القلب بالميل إلى الإفراط فنهلكهم بها كالسخاوة فإنها صفة حميدة لكنها إذا جاوزت حدّ الاعتدال صارت ذميمة إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الإسراء: 27] يا جِبالُ أَوِّبِي قد مر تأويله في سورة الأنبياء وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وهو المتكلم بالحكمة على قدر عقول الناس وَلِسُلَيْمانَ القلب سخرت ريح العناية وذلك أن مركب القلوب في السير هو الجذبة الإلهية كما أن مركب البدن في المسير البدن. يروى أن سليمان في سيره لاحظ ملكه يوما فمال الريح ببساطه فقال سليمان للريح: استو فقالت الريح: استو أنت فإني لا أكون مستوية حتى تستوي أنت. كذلك حال السر مع القلب وريح العناية إذا زاغ القلب أزاغ الله بريح الخذلان بساط السر إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11] وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ الحقائق والمعاني وسخرنا له صفات الشيطنة لتعمل بين يديه على وفق أوامر الله ونواهيه كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم «شيطاني أسلم على يدي فلا يأمرني إلا بالخير» «1» مِنْ مَحارِيبَ وهو كل ما يتوج إلى الله به بخاصية الإباء والاستكبار وأنفة السجود لغير الله، ولو وكل القلب والروح إلى خاصية الروحانية التي جبل الروح عليها ما كان يرغب في العبور عن مقام الروحانية كالملائكة. قال جبرائيل عليه السلام: لو دنوت أنملة لاحترقت. وَجِفانٍ كَالْجَوابِ فيه إشارة إلى مأدبة الله التي يأكل منها الأنبياء والأولياء إذ يبيتون عنده اعْمَلُوا آلَ داوُدَ وهم متولدات الروح فشكر البدن استعمال الشريعة بجميع الأعضاء والحواس، وشكر النفس بإقامة شرائط التقوى والورع، وشكر القلب بمحبة الله وحده، وشكر السر المراقبة، وشكر الروح بذل الوجود على نار المحبة كالفراش على شعلة الشمعة، وشكر الخفي قبول الفيض بلا واسطة في مقام الوحدة مخفيا بنور الوحدة عن نفسه. فالعوام شكرهم بالأقوال، والخواص شكرهم بالأعمال، وخواص الخواص شكرهم بالأحوال من الاتصاف بصفة الشكورية التي تعطي على عمل. فإن عشرة ثواب باق ولذلك وصفهم بالقلة تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ اتكأ سليمان على عصاه فبعث الله أخس دابة لإبطال متكئه وجعله سببا لزوال ملكه وفوات روحه وكان قبل   (1) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث 69، 70. الترمذي في كتاب الرضاع باب 17. النسائي في كتاب النساء باب 4. الدارمي في كتاب الرقاق باب 25، 66. أحمد في مسنده (1/ 257) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 492 متكئا على فضل الله فآتاه ما لم يؤت أحدا من خلقه لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ السر جَنَّتانِ جنة الروح عن يمين السر وجنة القلب عن شمال السر بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ هي بلدة الإنسانية القابلة لبذر التوحيد وَرَبٌّ غَفُورٌ يستر العيوب فَأَعْرَضُوا عن الوفاء وأقبلوا على الجفاء فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ سطوات الْعَرِمِ قهرنا وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ الشجرتين بأشجار الأخلاق الحميدة جَنَّتَيْنِ من الأوصاف الذميمة وَهَلْ نُجازِي وهل يكون للأشجار الخبيثة إلا الأثمار الخبيثة. قُرىً ظاهِرَةً منازل السالكين ومقامات العارفين من التوبة والزهد والتوكل والتزكية والتحلية. وقلنا لهم سيروا في ليالي البشرية وأيام الروحانية آمِنِينَ في حيازة الشريعة فطلبوا البعد عن الله بالميل إلى ما سواه ففرقناهم في أودية الهلاك ودركات البعد. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ فيه أن الشيطان إنما سلط على بني آدم لاستخراج جواهر النفوس من معادنها. [سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 54] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 493 القراآت: أذن له على البناء للمفعول: أبو عمرو وعلي وخلف والأعشى والبرجمي فزع علي البناء للفاعل: ابن عامر ويعقوب جزاء بالنصب الضِّعْفِ مرفوعا: يعقوب في الغرفة على التوحيد: حمزة يَحْشُرُهُمْ ثُمَّ يَقُولُ على الغيبة فيهما: حفص ويعقوب. الباقون: بالنون ثم تفكروا بتشديد التاء: رويس أَجْرِيَ إِلَّا بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص ربي إنه بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو: التَّناوُشُ مهموزا: أبو عمرو وحمزة وخلف وعاصم سوى حفص والشموني والبرجمي. حِيلَ بضم الحاء وكسر الياء: ابن عامر وعلي ورويس. الوقوف: مِنْ دُونِ اللَّهِ ج لاحتمال الجملة بعده حالا واستئنافا ظَهِيرٍ هـ أَذِنَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 494 لَهُ ط الْحَقَّ ط الْكَبِيرُ هـ وَالْأَرْضِ ط قُلِ اللَّهُ لا لاتصال المقول مُبِينٍ هـ تَعْمَلُونَ هـ بِالْحَقِّ ط الْعَلِيمُ هـ كَلَّا ط الْحَكِيمُ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ صادِقِينَ هـ وَلا تَسْتَقْدِمُونَ هـ بَيْنَ يَدَيْهِ ط عِنْدَ رَبِّهِمْ ج لأن ما بعده يصلح استئنافا وحالا وهذا أوجه الْقَوْلَ ج لمثل ذلك مُؤْمِنِينَ هـ مُجْرِمِينَ هـ أَنْداداً ط الْعَذابَ ط كَفَرُوا ط يَعْمَلُونَ هـ كافِرُونَ هـ بِمُعَذَّبِينَ هـ لا يعملون هـ صالِحاً ز أن أولئك مبتدأ مع الفاء آمِنُونَ هـ مُحْضَرُونَ هـ وَيَقْدِرُ لَهُ ط يُخْلِفُهُ ج لعطف الجملتين المختلفتين الرَّازِقِينَ هـ يَعْبُدُونَ هـ مِنْ دُونِهِمْ ج لتنويع الكلام مع اتحاد المقول الْجِنَّ ج لذلك مُؤْمِنُونَ هـ ضَرًّا ط تُكَذِّبُونَ هـ آباؤُكُمْ ج للعطف مع طول الكلام والتكرار مُفْتَرىً ط مُبِينٌ هـ مِنْ نَذِيرٍ هـ نَكِيرِ هـ بِواحِدَةٍ ج لأن ما بعده بدل أو خبر أي هي أن تقوموا مِنْ جِنَّةٍ ط شَدِيدٍ هـ لَكُمْ ط اللَّهِ ج شَهِيدٌ هـ بِالْحَقِّ ج لاحتمال أن ما بعده بدل من الضمير في يقذف أو خبر أي هو علام الْغُيُوبِ هـ يُعِيدُ هـ عَلى نَفْسِي ج لعطف جملتي الشرط رَبِّي ط قَرِيبٌ هـ قَرِيبٍ لا لأن ما بعده معطوف على أُخِذُوا: آمَنَّا بِهِ ط لاحتمال كون الجملة الاستفهامية مبتدأ بها أو حالا بَعِيدٍ هـ لا للآية ولاحتمال الاستئناف والحال بعده والعامل معنى الفعل في التناوش مِنْ قَبْلُ ج للعطف على كفروا بناء على أنه حال ماضية أو للاستئناف أي وهم يقذفون بَعِيدٍ هـ مِنْ قَبْلُ ط مُرِيبٍ هـ. التفسير: لما فرغ من حكاية أهل الشكر وأهل الكفران تمثيلا عاد إلى مخاطبة كفار قريش وتقريعهم. ومفعولا زعم محذوف أي زعمتموهم آلهة، وسبب حذف الأوّل استحقاق عوده إلى الموصول، وسبب حذف الثاني إقامة الصفة وهي مِنْ دُونِ اللَّهِ مقام الموصوف. وتفسير الآية مبني على تفصيل وهو أن مذاهب أهل الشرك أربعة: أحدها قولهم إنا نعبد الملائكة والكواكب التي في السماء فهم آلهتنا والله إلههم فالله تعالى قال في إبطال قولهم أنهم لا يملكون في السموات شيئا كما اعترفتم، ولا في الأرض على خلاف ما زعمتم أن الأرض والأرضيات في حكمهم. وثانيها قول بعضهم إن السموات من الله على سبيل الاستقلال، وإن الأرضيات منه ولكن بواسطة الكواكب واتصالاتها وانصرافاتها فأبطل معتمد هؤلاء بقوله وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أي الأرض كالسماء لله ليس لغيره فيها نصيب. وثالثها قول من قال: التركيبات والحوادث كلها من الله لكن فوض ذلك إلى الكواكب وإعانتها فأشار إلى إبطال معتقد هؤلاء بقوله وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ورابعها مذهب من زعم أنا نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا فبين بطلان مذهبهم بقوله وَلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 495 تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ قال جار الله: تقول الشفاعة لزيد على أنه الشافع وعلى معنى أنه المشفوع له أي لا تنفع الشفاعة إِلَّا كائنة لِمَنْ أَذِنَ لَهُ من الشافعين أو إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله. و «حتى» غاية لمضمون الكلام الدال على انتظار الإذن كأنه قيل: يتربصون ويقفون مليا فزعين حَتَّى إِذا فُزِّعَ أي كشف الفزع في القيامة عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا قال الْحَقَّ أي القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى، يؤيد هذا التفسير قول ابن عباس عن النبي «فإذا أذن لمن أذن أن يشفع فزعته الشفاعة» والتشديد للسلب والإزالة على نحو «قردته وجلدته» أي أزلت قراده وسلخت جلده. وقيل: إن «حتى» على هذا التفسير متعلق بقوله زَعَمْتُمْ أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ثم تركتم ما زعمتم وقلتم قال الحق. ومنهم من ذهب إلى أن التفزيع غاية الوحي المستفاد من قل فإنه عند الوحي يفزع من في السموات كما جاء في حديث «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبرائيل فاذا جاء فزع عن قلوبهم فيقولون: يا جبرائيل ماذا قال ربكم؟ فيقول الحق» «1» أي يقول الحق الحق. وقيل: أراد بالفزع أنه تعالى لما أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فزع من في السموات من القيامة لأن إرسال محمد صلى الله عليه وسلم من أشراطها فلما زال عنهم ذلك قالوا: ماذا قال الله؟ قال جبرائيل وأتباعه: الحق. وقيل: إنه الفزع عند الموت يزيله الله عن القلوب فيعرف كل أحد أن ما قال الله هو الحق فينتفع بتلك المعرفة أهل الإيمان ولا ينتفع بها أهل الكفر. وحين بين بقوله قُلِ ادْعُوا أنه لا يدفع الضر إلا هو أشار بقوله قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ إلى أن جلب النفع لا يكمل إلا به. وهاهنا نكتة هي أنه قال في دفع الضر قالُوا الْحَقَّ وفي طلب النفع قال قُلِ اللَّهُ تنبيها على أنهم في الضراء مقبلون على الله معترفون به، وفي السراء معرضون عنه غافلون لا يتنبهون إلا بمسه. وقوله وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ من الكلام المنصف الذي يتضمن قلة شغب الخصم وفلّ شوكته بالهوينا. وفي تخالف حرفي الجر في قوله لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ إشارة إلى أن أهل الحق راكبون مطية الهدى مستعلون على متنها، وأن أهل الباطل منغمسون في ظلمة الضلال لا يدرون أين يتوجهون. وإنما وصف الضلال بالمبين وأطلق الهدى لأن الحق كالخط المستقيم واحد، والباطل كالخطوط المنحنية لا حصر لها فبعضها أدخل في الضلالة من بعض وأبين. وقوله عَمَّا أَجْرَمْنا إلى قوله عَمَّا تَعْمَلُونَ أبلغ في سلوك طريقة الإنصاف حيث   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 31. أبو داود في كتاب السنة باب 20. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 496 أسند الإجرام وهو الصغائر والزلات أو هي مع الكبائر إلى أهل الإيمان، وعبر عن إجرام أهل الكفر بلفظ عام وهو العمل. وفيه إرشاد إلى المناظرات الجارية في العلوم وغيرها، وإذا قال أحد المناظرين للآخر: أنت مخطئ أغضبه وعند الغضب لا يبقى سداد الفكر، وعند اختلاله لا مطمع في الفهم فيفوت الغرض. ومعنى الفتح الحكم والفصل بين الفريقين بإدخال أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وحين حث في الآية الأولى على وجوب النظر من حيث إن كل أحد يؤاخذ بجرمه ولو كان البريء أخذ بالمجرم لم يكن كذلك، أكد ذلك المعنى بالآية الثانية فإن مجرد الخطأ والضلال واجب الاجتناب فكيف إذا كان يوم عرض وحساب. وفي قوله الْعَلِيمُ إشارة إلى أن حكمه يكون مع العلم لا كحكم من يحكم بمجرد الغلبة والهوى. ولما بين أن غير الله لا يعبد لدفع الضر ولا لجلب النفع أراد أن يبين أن غير الله لا ينبغي أن يعبد لأجل استحقاق العبادة فإنه لا مستحق للعبادة إلا هو. ومعنى أَرُونِيَ وكان يعرفهم ويراهم الاستخفاف بهم والتنبيه على الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله أو أراد أعلموني بأي صفة ألحقتموهم بالله وجعلتموهم شركاء ف شُرَكاءَ نصب على الحال والعائد محذوف وكَلَّا ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسده بإبطال المقايسة وردّ الإلحاق. ثم زاد في توبيخهم بقوله بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كأنه قال: أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات فإن الإله لا يمكن أن يخلو عن القدرة الكاملة والحكمة الشاملة. وهو يحتمل أن يكون ضمير الشأن. وحين فرغ من التوحيد شرع في الرسالة. ومعنى كَافَّةً عامة لأن الرسالة إذا شملتهم فقد منعتهم أن يخرج أحد منهم والكف المنع وكافة صفة لرسالة. وقال الزجاج: التاء للمبالغة كتاء الراوية والعلامة وإنه حال من الكاف أي أرسلناك جامعا للناس في الإبلاغ والتبشير والإنذار، أو مانعا للناس من الكفر والمعاصي. وبعض النحويين جعله حالا من الناس وزيف بأن حال المجرور لا يتقدم عليه. ومن هؤلاء من جعل اللام بمعنى «إلى» لأن أرسل يتعدى بإلى فضوعفت تخطئته بأن استعمال اللام بمعنى. «إلى» ضعيف، ولا يخفى أن ثاني مفعولي أَرْسَلْناكَ على غير هذا التفسير محذوف والتقدير: وما أرسلناك إلى الناس إلا كافة وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وذلك لا لخفائه ولكن لغفلتهم. وحين ذكر الرسالة بين الحشر وذكر أنهم استعجلوه تعنتا منهم فبين على طريق التهديد أنه لا استعجال فيه كما لا إمهال وهذا شأن كل أمر ذي بال. قال جار الله مِيعادُ يَوْمٍ كقولك «سحق عمامة» في أن الإضافة للتبيين يؤيده قراءة من قرأ مِيعادُ يَوْمٍ بالرفع فيهما فأبدل منه اليوم. وفي إسناد الفعل إليهم بقوله لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ دون أن يقول لا يؤخر عنكم زيادة تأكيد لوقوع اليوم. ولما بين الأصول الثلاثة: التوحيد والرسالة والحشر، ذكر أنهم كافرون بالكل قائلين لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 497 بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل. يروى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب فأخبروهم أنهم يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم فأغضبهم ذلك وقرنوا إلى القرآن جميع الكتب. وقيل: الذين كفروا عام والذي بين يديه يوم القيامة وما جاء ذكره في القرآن من تفاصيل الحشر وغيرها، وأن أهل الكتاب لو صدّقوا بشيء من ذلك فليس لأجل مجيئه في القرآن ولكن لمجيئه في كتبهم. وحين وقع اليأس من إيمانهم بقولهم لَنْ نُؤْمِنَ وعد نبيه بأنه سيراهم على أذل حال موقوفين للسؤال متجاذبين أهداب المراجعة كما يكون حال جماعة أخطأوا في تدبير أمره وجواب «لو» محذوف أي لقضيت العجب. وبدأ بالأتباع لأن المضل أولى بالتوبيخ. وفي قوله لَوْلا أَنْتُمْ إشارة إلى أن كفرهم كان لمانع لا لعدم المقتضى فإن الرسول قد جاء ولم يقصر في الإبلاغ. ثم ذكر جواب المستكبرين وهم الرؤوس والمتبوعون على طريقة الاستئناف. وفي إيلاء الاسم وهو نحن حرف الإنكار إثبات أنهم هم الذين صدّوا بأنفسهم عن الهدى بكسب منهم واختيار وأن المانع لم يكن راجحا على المقتضى ولا مساويا له وأكدوا ذلك بقولهم بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أي إنكم أنتم الذين أطعتم أمر الشهوة فكنتم كافرين ولم يكن منا إلا التسويل والتزيين. ثم عطف قولا آخر للمستضعفين على قولهم الأول. والإضافة في مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ من باب الاتساع بإجراء الظرف مجرى المفعول به وأصل الكلام: بل مكرهم في الليل والنهار. أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي، فالأول اتساع لفظي، والثاني معنوي. أبطلوا إضرابهم بإضرابهم قائلين: ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهة مكركم لنا مستمرا دائما دائبا ليلا ونهارا. وقدم الليل لأنه أخفى للمكر والويل. وقرىء مَكْرُ اللَّيْلِ بالتشديد أي سبب ذلك أنكم تكرّون الإغواء مكرا دائبا. والمعنى: ما أنتم بالصارف القطعيّ والمانع القويّ ولكن انضم إلى ذلك طول المدة فصار قولكم جزء السبب. وفي قولهم أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً إشارة إلى أن المشرك وإن كان مثبتا لله في الظاهر ولكنه ناف له على الحقيقة لأنه جعله مساويا للصنم. ويجوز أن يكون كل منهما قول طائفة فبعضهم كانوا مأمورين بجحد الصانع وبعضهم بالإشراك به. وتفسير قوله وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ مذكور في سورة يونس. والضمير يعود إلى جنس الظالمين الشامل للمستضعفين وللمستكبرين. وقوله فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي في أعناقهم من وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على ما استحقوا به الأغلال وهي محمولة على الظاهر وإن جاز أن يراد بها العلائق. وفي قوله هل تجزون إشارة إلى أنهم استحقوها عدلا. ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن إيذاء الكفار الأنبياء ليس بدعا وإنما ذلك هجيراهم قدما. وإنما خص المترفين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 498 بالذكر لأنهم أصل في الجحود والإنكار وغيرهم تبع، ثم استدلوا على كونهم مصيبين في ذلك بكثرة الأموال والأولاد لأنهم اعتقدوا أنهم لو لم يكرموا على الله ما رزقهم، ثم قاسوا أمر الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمر الدنيا فقالوا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فبين الله خطأهم بأن القابض الباسط هو الله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن ذلك بمجرد المشيئة لا بالكسب والاستحقاق فكم من شقيّ موسر وتقي معسر. ثم زاد في البيان بقوله وَما أَمْوالُكُمْ أي وما جماعة أموالكم وَلا جماعة أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى أي قربى اسم بمعنى القربة وقع موقع المصدر كقوله وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] ثم استثنى من ضمير المفعول في تقرّبكم بقوله إِلَّا مَنْ آمَنَ والمراد أن الأموال والأولاد لا تقرّب أحدا إلا المؤمن الصالح ينفق الأموال في سبيل الله ويعلم أولاده الخير والفقه في الدين. ويحتمل أن يكون الاستثناء من الفاعل والمعنى أن شيئا من الأشياء لا يقرّب إلا عمل المؤمن الصالح لأن ما سوى ذلك شاغل عن الله، والعمل الصالح إقبال على العبودية. ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب شيئا من الله حصل. وجزاء الضعف من إضافة المصدر إلى المفعول تقديره: فأولئك لهم أن يجازوا الضعف. ومعنى قراءة يعقوب: أولئك لهم الضعف جزاء. والتضعيف يكون إلى العشر وإلى سبعمائة وأكثر كما عرفت. والباقي إلى قوله مُحْضَرُونَ قد سبق. وحين بين أن حصول الترف لا يدل على الشرف ذكر أن بسط الرزق لا يختص بهم ولكنه سبحانه قد يبسط الرزق لمن يشاء من عباده المؤمنين. ثم رتب وعد الإخلاف على الإنفاق وذلك إما في العاجل بالمال أو بالقنوع، وإما في الآخرة بالثواب الذي لا خلف فوقه ولا مثله. ومما يؤكد الآية قوله صلى الله عليه وسلم اللهم «أعط منفقا خلفا» «1» الحديث. وقول الفقهاء ألق متاعك في البحر وعليّ ضمانه، وأن التاجر إذا علم أن مالا من الأموال في معرض الفناء يبيعه نسيئة وإن كان من الفقراء وإلا نسب إلى الخطأ وسخافة الرأي، ولا ريب أن مال الدنيا في معرض الزوال وأن أغنى الأغنياء قد طلب منا الإقراض ووعد الإضعاف والإخلاف فأي تجارة عند العاقل أربح من هذا؟ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأن سلسلة الأرزاق والرزق تنتهي إليه. وعن بعضهم: الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي فكم من مشته لا يجد وواجد لا يشتهي. ثم حكى عاقبة حال الكفار بقوله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وفي خطاب الملائكة تقريع الكفار وتقرير لما يعروهم من الخجل والوجل عند اقتصاص ذلك كما مر في قوله لعيسى   (1) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 27. مسلم في كتاب الزكاة حديث 57. أحمد في مسنده (2/ 306، 347) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 499 أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة: 116] قالُوا سُبْحانَكَ ننزهك عن أن نعبد غيرك أنت الذي نواليك ونعادي غيرك في شأن العبادة بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ حيث أطاعوهم في عبادة غيرك فهم كانوا يطيعونهم وكنا نحن كالقبلة، أو صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها، أو كانوا يدخلون في أجواف الأصنام فيعبدون بعبادتها. وإنما قالوا أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ وما ادّعوا الإحاطة لأن الذين رأوهم وأطلعهم الله على أحوالهم كانوا كذلك ولعل في الوجود من لا يطلع الله الملائكة عليه من الكفار. وأيضا أن العبادة عمل ظاهر والإيمان عمل باطن، والاطلاع على عمل القلب كما هو ليس إلا الله وحده فراعوا الأدب الجميل والحكم على الظاهر أكثري. ثم ذكر أن الأمر في ذلك اليوم لله وحده والخطاب في قوله لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ للملائكة والكفار وإن كان الكفار غائبين كما تقول لمن حضر عندك ولمن شاركه في أمر بسببه: أنتم قلتم كذا على معنى أنت قلت وهم قالوا. ويحتمل أن يكون الخطاب للكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم أو لهم وللملائكة أيضا بهذا التأويل، وعلى الأول يكون قوله وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا إفرادا للكفرة بالذكر، وعلى الوجه الآخر يكون تأكيدا لبيان حالهم في الظلم وذكر الضر تأكيد لعدم تملكهم شيئا وإلا فهو غير متصور في ذلك اليوم. وإنما قال هاهنا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وفي السجدة عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ [الآية: 20] لأنهم هناك قد رأوا النار بدليل قوله كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [الآية: 20] فقيل لهم ذوقوا العذاب المؤبد الذي كنتم به تكذبون في قولكم لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: 80] وهاهنا لم يروا النار. وقيل: لأنه مذكور عقيب الحشر والسؤال فناسب التوبيخ على تكذيبهم بالنار. ثم حكى أكاذيبهم بقوله وَإِذا تُتْلى الآية. ولا يخفى ما فيه من المبالغات. ثم بين أن أقوالهم هذه لا تستند إلا إلى محض التقليد فقال وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها فالآيات البينات لا تعارض إلا بالبراهين العقلية وما لهم من دليل أو بالنقليات وما عندهم من كتاب ولا رسول غيرك وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد وثمود وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ والمعشار كالمرباع وهما العشر والربع. قال الأكثرون: معناه وما بلغ هؤلاء المشركون عشر ما آتينا المتقدمين من القوة والنعمة وطول العمر. ثم إن الله أخذهم وما نفعهم محصولهم فكيف حال هؤلاء الضعفاء؟. وقال بعضهم: أراد وما بلغ الذين من قبلهم معشار ما آتينا قوم محمد صلى الله عليه وسلم من البيان والبرهان لأن محمدا صلى الله عليه وسلم أفصح الرسل وكتابه أوضح الكتب. ثم إن المتقدمين أنكر عليهم تكذيبهم فكيف لا ينكر على هؤلاء؟ قال جار الله: قوله فَكَذَّبُوا رُسُلِي بعد قوله وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تخصيص بعد تعميم كأنه قيل: وفعل الذين من قبلهم التكذيب فكذبوا رسلي؟ نظيره قول القائل: أقدم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 500 فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن ينعطف على قوله وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما كقولك: ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فيفضل عليه. قلت: فعلى هذا تكون الفاء للسببية، والمعنى أنه إذا لم يبلغ معشار فضله فكيف يفضل عليه؟ وكذا في الآية فيصير المعنى أنهم إذا لم يبلغوا معشار الأقدمين فكيف كذبوا؟ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ للمكذبين الأوّلين فليحذروا من مثله. ويجوز عندي أن يكون الثاني تكريرا للأول لأجل ترتب النكير عليه كأنه قيل: فإذ قد صح أنهم فعلوا ما ذكرنا فلا جرم ذاقوا وبال أمرهم نظيره قولك لمن بحضرتك: فعلت كذا وكذا، فإذا فعلت ذلك فتربص. وبعد تقرير الأصول الثلاثة: التوحيد والرسالة والحشر كررها مجموعة بقوله قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أي بخصلة أو حسنة أو كلمة واحدة وقد فسرها بقوله أَنْ تَقُومُوا على أنه عطف بيان لها. والقيام إما حقيقة وهو قيامهم عن مجلس النبيّ متفرقين إلى أوطانهم. وإما مجاز وهو الاهتمام بالأمر والنهوض له بالعزم والجد. فقوله مَثْنى وَفُرادى إشارة إلى جميع الأحوال لأن الإنسان إما أن يكون مع غيره أو لا فكأنه قال: أن تقوموا لله مجتمعين ومنفردين لا تمنعكم الجمعية عن ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد إلى معين يعينكم على ذكر الله. وقوله ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا يعني اعترفوا بما هو الأصل وهو التوحيد ولا حاجة فيه إلى تفكر ونظر بعد ما بان وظهر، ثم تتفكروا فيما أقول بعده، وهو الرسالة المشار إليها بقوله ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ والحشر المشار إليه بقوله بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ قيل: وفيه إشارة إلى عذاب قريب كأنه قال: ينذركم بعذاب يمسكم قبل الشديد. فمجموع الأمور الثلاثة شيء واحد، أو المراد أنه لا يأمرهم في أوّل الأمر بغير التوحيد لأنه سابق على الكل لا أنه لا يأمرهم في جميع العمر إلا بشيء واحد. وعند جار الله: الخصلة الواحدة هي الفكر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى: إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وهو أن تقوموا لوجه الله خالصا متفرقين اثنين اثنين وواحدا واحدا، فإن ما فوق الاثنين والواحد يوجب التشويش واختلاف الرأي فيعرض كل من الاثنين محصول فكره على صاحبه من غير عصبية ولا اتباع هوى، وكذلك الفرد يفكر في نفسه بعدل ونصفة حتى يجذب الفكر بصنعه إلى أن هذا الأمر المستتبع لسعادة الدارين لا يتصدّى لادعائه إلا رجلان: مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان، وعاقل اجتباه الله بسوابق الفضل والامتنان لتكميل نوع الإنسان. لكن محمدا صلى الله عليه وسلم بالاتفاق أرجح الناس عقلا وأصدقهم قولا وأوفرهم حياء وأمانة، فما هو إلا النبيّ المنتظر في آخر الزمان المبعوث بين يدي عذاب شديد هو القيامة وأهوالها. وقوله ما بِصاحِبِكُمْ إما أن يكون كلاما مستأنفا فيه تنبيه على كيفية النظر في أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد: ثم تتفكروا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 501 فتعلموا ذلك. وجوز بعضهم أن تكون «ما» استفهامية. وحين ذكر أنه ما به جنة ليلزم منه كونه نبيا ذكر وجها آخر يلزم منه صحة نبوّته وهو قوله ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ الآية. وتقريره أن العاقل لا يركب العناء الشديد إلا لغرض عاجل وهو غير موجود هاهنا بل كل أحد يعاديه ويقصده بالسوء، أو لغرض آجل ولا يثبت إلا على تقدير الصدق فإن الكاذب معذب في الآخرة لا مثاب. هذا إذا أريد بقوله فَهُوَ لَكُمْ نفي سؤال الآخر رأسا كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتني شيئا فخذه وهو لم يعطه شيئا. ويحتمل أن يراد بالأجر قوله لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] وقوله ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الفرقان: 57] لأن المودة في القربى قد انتظمته وإياهم وكذا اتخاذ السبيل إلى الله عز وجل فيه نصيبهم ونفعهم. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يعلم أني لا أطلب الأجر على نصحكم أو يعلم أن فائدة النصح تعود عليكم. قوله يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي في قلوب المحقين وفيه إزالة استبعاد الكفرة تخصيص واحد منهم بإنزال الذكر عليه فإن الأمر بيد الله والفضل له يؤتيه من يشاء وإنه عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعلم عواقب الأمور ومراتب الاستحقاق فيعطى على حسب ذلك لا كما يفعل الهاجم الغافل، أو أراد يقذف بالحق على الباطل فيدمغه، وذلك أن براهين التوحيد قد ظهرت وشبه المبطلين قد دحضت. وفي قوله عَلَّامُ الْغُيُوبِ إشارة إلى أن البرهان الباهر لم يقم إلا على التوحيد والرسالة، وأما الحشر فالدليل عليه إخبار علام الغيوب عنه. وحين ذكر أنه يقذف بالحق وكان ذلك بصيغة الاستقبال أخبر أن ذلك الحق قد جاء وهو القرآن والإسلام وكل ما ظهر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وعلى يده. وقيل: السيف. وقوله وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ مثل في الهلاك لأن الحيّ إما أن يبدىء فعلا أو يعيده، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة. والتحقيق فيه أن الحق هو الموجود الثابت. ولما كان ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من بيان التوحيد والرسالة والحشر ثابتا في نفسه بينا لمن نظر إليه كان جائيا، وحين كان ما أتوا به من الإصرار والتكذيب مما لا أصل له قيل: إنه لا يبدىء ولا يعيد أي لا يعيد شيئا لا في الأوّل ولا في الآخر. وقيل: الباطل إبليس لأنه صاحب الباطل ولأنه هالك والمراد أنه لا ينشىء خلقا ولا يعيد وإنما المنشئ والباعث هو الله. وعن الحسن: لا يبدىء لأهله خيرا ولا يعيده أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج: «ما» استفهامية والمعنى أي شيء ينشىء إبليس ويعيده؟ ثم قرر أمر الرسالة بوجه آخر وهو قوله قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي يعنى كضلالكم وأما اهتدائي فليس بالنظر والاستدلال كاهتدائكم وإنما هو بالوحي المبين. قال جار الله: هذا حكم عام لكل مكلف، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 502 والتقابل مرعي من حيث المعنى والمراد أن كل ما هو وبال على النفس وضارّ لها فهو بها وبسببها لأنها الأمارة بالسوء وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه. وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله لا يعزب عنه منهما شيء، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعاه على من يكذبه أجابه ليس كمن يسمع من بعيد ولا يلحق الداعي. ثم عجب نبيه أو كل راء من مآل حال أهل العناد بقوله وَلَوْ تَرى وجوابه محذوف أي لرأيت أمرا عظيما. والأفعال الماضية التي هي فَزِعُوا وَأُخِذُوا وَقالُوا وَحِيلَ كلها من قبيل وَنادى [الأعراف: 48] وَسِيقَ [الزمر: 73] ووقت الفزع وقت البعث أو الموت أو يوم بدر. وعن ابن عباس: نزلت في خسف البيداء وهم ثمانون ألفا أرادوا غزو الكعبة وتخريبها فخسف بهم حين دخلوا البيداء فَلا فَوْتَ أي فلا يفوتون الله ولا يسبقونه. والأخذ من مكان قريب هو من الموقف إلى النار، أو من ظهر الأرض إلى بطنها، أو من صحراء بدر إلى القليب، أو من تحت أقدامهم إلى الأرض. وجوّز جار الله أن يعطف وَأُخِذُوا على فَلا فَوْتَ على معنى إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا. ثم بين أنهم سيؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بالقرآن أو بالحق حين لا ينفع الإيمان وذلك قوله وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ وهو تناول سهل لشيء قريب مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعيد كما يتناوله الآخر من قريب تناولا سهلا لا تعب فيه، أو أراد أن تناولهم التوبة وإيمانهم في الآخرة بعيد عن الدنيا فإن أمس الدابر لا يعود وإن كانت الآخرة قريبة من الدنيا ولهذا سماها الله الساعة وكل ما هو آت قريب. وعن أبي عمرو: التناؤش بالهمز التناول من بعد من قولهم: نأشت بالهمزة أي أبطأت وتأخرت. والأصح أنه من النوش كما مر همزت الواو المضمومة كما همزت في أجوه. وقيل: التناوش بلغة اليمن التذكرة قاله أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب في كتاب «المدخل في تفسير القرآن» والضمير في قوله وَقَدْ كَفَرُوا عائد إلى ما يعود إليه في قوله آمَنَّا بِهِ. قوله وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ فيه وجوه أحدها: أنه قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعر ساحر وهذا تكلم بالأمر الخفي وقد أتوا به من جهة بعيدة عن حاله لأنهم قد عرفوا منه الأمانة والصدق لا الكذب والزور. وثانيها: أخذوا الشريك من حالهم في العجز فإنهم يحتاجون في الأمور العظام إلى التعاون فقاسوا الأمر الإلهي عليه. وثالثها: أنهم قاسوا قدرة الله على قدرتهم عجزوا عن إحياء الموتى فظنوا أن الله لا يقدر على البعث، وقياس الخالق على المخلوق بعيد المأخذ. ورابعها: قاسوا أمر الآخرة على الدنيا قائلين إن كان الأمر كما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 503 تصفون من قيام الساعة وحصول الثواب والعقاب فنحن أكرم على الله من أن يعذبنا. وخامسها: قالوا رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً [السجدة: 12] وهو قذف بالغيب من مكان بعيد وهو الدنيا. وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من نفع الإيمان في الآخرة أو من الرد إلى الدنيا كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ أي بأشباههم من كفرة الأمم لم ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأس الله ومُرِيبٍ موقع في الريب منقول من الأعيان إلى المعنى أو ذو ريبة وذلك باعتبار صاحبه وكلاهما مجاز بوجهين وقد مر في هود. التأويل: مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ القلوب وَلا فِي الْأَرْضِ النفوس من سعادة أو شقاوة قالُوا الْحَقَّ يعني ما فهموا من الهيبة كلامه ولكن يعلمون أنه لا يقول إلا الحق قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ من سموات القلوب وأرض النفوس إذا نزل من سماء القلب ماء الفيض على أرض الشرعية. أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ من الدنيا والهوى والشيطان كافة للناس من أهل الأولين والآخرين في عالم الأجساد وهو ظاهر، وفي عالم الأرواح تبشرها بأن لها كمالا عند الاتصال بالأشباح وتنذرها بالحرمان إن لم تتعلق بالأجسام، وذلك أن الأرواح علوية نورانية والأشباح سفلية مظلمة لا يحصل بينهما التعلق إلا بالتبشير والإنذار. فالروح بمثابة البذر والقالب كالأرض، وشخص الإنسان بمثابة الشجرة، والتوحيد والمعرفة ثمرتها، والشريعة كالماء والبشير والنذير كالآكار. وإذا أمعنت النظر وجدت شجرة الموجودات نابتة من بذر روحه صلى الله عليه وسلم وهو ثمرة هذه الشجرة مع جميع الأنبياء والمرسلين ولكن بتبعية محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا حصلت له رتبة الشفاعة دونهم. يقولون يعني أرباب الطلب يستعجلون متى نصل إلى الكمال الذي بشرتمونا به. ثم بين أن لثمرة كل شجرة وقتا معلوما لا تتجاوزه أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ أي أكثر مدعي الإسلام بأهل الأهواء مؤمنون وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ فيه أن معارف الأسرار ومراتب الأحرار لا تصلح لمن هو أسير في أيدي صفات النفس وَحِيلَ بَيْنَهُمْ لأن الدين ليس بالتمني والله أعلم بحقائق الأشياء والله الموفق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 504 (سورة فاطر) (مكية حروفها ثلاثة آلاف ومائة وثلاثون كلمها سبعمائة وسبع وسبعون آياتها خمس وأربعون) [سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 26] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 505 القراآت: غير الله بالجر: يزيد وحمزة وعليّ. الآخرون: بالرفع حملا على المحل فَلا تَذْهَبْ من الإذهاب نفسك منصوبا: يزيد. الآخرون: بفتح التاء والهاء من الذهاب نَفْسُكَ مرفوعا: الريح على التوحيد: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف وَلا يُنْقَصُ بفتح الياء وضم القاف: روح وزيد. الباقون: بالعكس. مِنْ عُمُرِهِ باختلاس الضمة: عباس والذين يدعون على الغيبة: قتيبة. الوقوف: وَرُباعَ ط يَشاءُ ط قَدِيرٌ هـ لَها ج بَعْدِهِ ط الْحَكِيمُ هـ عَلَيْكُمْ ط وَالْأَرْضِ ط إِلَّا هُوَ ز للاستفهام ولفاء التعقيب واتحاد المعنى تُؤْفَكُونَ هـ قَبْلِكَ ط الْأُمُورُ هـ الْغَرُورُ هـ عَدُوًّا ط السَّعِيرِ هـ ط لأن الَّذِينَ مبتدأ. شَدِيدٌ هـ كَبِيرٌ هـ حَسَناً ط لحذف الجواب حَسَراتٍ ط يَصْنَعُونَ هـ مَوْتِها ط النُّشُورُ هـ جَمِيعاً ط يَرْفَعُهُ ط شَدِيدٌ هـ يَبُورُ هـ أَزْواجاً ط بِعِلْمِهِ ط فِي كِتابٍ ط يَسِيرٌ هـ أُجاجٌ ط تَلْبَسُونَها ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى تَشْكُرُونَ هـ مُسَمًّى ط الْمُلْكُ ط قِطْمِيرٍ هـ دُعاءَكُمْ ج للشرط مع العطف لَكُمْ ط بِشِرْكِكُمْ ط خَبِيرٍ هـ إِلَى اللَّهِ ط لاتفاق الجملتين مع حسن الفصل بين وصفي الخالق والمخلوق الْحَمِيدُ هـ جَدِيدٍ هـ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال بِعَزِيزٍ هـ أُخْرى ط لاستئناف الشرط قُرْبى ط الصَّلاةَ ط لِنَفْسِهِ ط الْمَصِيرُ هـ وَالْبَصِيرُ هـ لا وَلَا النُّورُ هـ لا وَلَا الْحَرُورُ هـ ج للطول والتكرار الْأَمْواتُ ط يَشاءُ ج للعطف من الإثبات إلى النفي مع اتفاق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 506 الجملتين الْقُبُورِ هـ إِلَّا نَذِيرٌ هـ وَنَذِيراً ط نَذِيرٌ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف الْمُنِيرِ هـ نَكِيرِ هـ. التفسير: لما بين في آخر السورة المتقدمة انقطاع رجاء الشاك وعدم قبول توبته في الآخرة ذكر في أول هذه السورة حال الموفق المؤمن وبشر بإرسال الملائكة إليهم مبشرين، وبين أنه يفتح لهم أبواب الرحمة. وفاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبدعهما أو شاقهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض يؤيد التفسير الثاني قوله جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وقوله وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء: 103] وأُولِي أَجْنِحَةٍ أي أصحاب أجنحة أراد أن طائفة منهم أجنحة كل منهم اثنان اثنان، وبعضهم أجنحة كل ثلاثة ثلاثة، وبعضهم أجنحة كل أربعة أربعة. قال جار الله: الذين أجنحتهم ثلاثة ثلاثة لعل الثالث منها في وسط الظهر بين الجناحين يمدهما بقوة أو لعله لغير الطيران فلقد رأيت في بعض الكتب أن صنفا من الملائكة لهم ستة أجنحة، فجناحان يلفون بهما أجسادهم، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله عز وجل، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله عز وجل. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبرائيل عليه السلام ليلة المعراج وله ستمائة جناح. وروي أن إسرافيل له اثنا عشر جناحا، جناح منها بالمشرق، وجناح بالمغرب، وإن العرش على كاهله وإنه ليتضاءل لعظمة الله سبحانه وتعالى حتى يعود مثل الوصع وهو العصفور الصغير. ويجوز أن يخالف حال الملائكة حال الطيور في الطيران كالحيوان الذي يدب بأرجل كثيرة، ويجوز أن يكون البعض للزينة، ويجوز أن يكون كل جناح ذا شعب. وقال الحكيم: الجناحان إشارة إلى جهتين: جهة الأخذ من الله، وجهة الإعطاء لمن دونهم بإذن الله كقوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: 193] عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم: 5] فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات: 5] ومنهم من يفعل بواسطة فلهم ثلاث جهات أو أكثر على حسب الوسائط. ثم بين كمال قدرته بقوله يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ والظاهر أنه عام يتناول كل زيادة في كل أمر يعتبر في الصورة كحسن الوجه والخط والصوت ونحوهما، أو في المعنى كحصافة العقل وجزالة الرأي وسماحة النفس وذلاقة اللسان وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة. ثم أكد نفاذ أمره وجريان الأمور على وفق مشيئته بقوله ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ الآية. وفيها دلالة على أن رحمته سبقت غضبه من جهة تقديم الرحمة ومن جهة بيان الضمير في القرينة الأولى بقوله مِنْ رَحْمَةٍ والإطلاق في قوله وَما يُمْسِكْ فيشمل إمساك الغضب وإمساك الرحمة. ومن جهة قوله مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد إمساكه فيفيد أن الرحمة إذ جاءته لم يكن لها انقطاع وإن ضدّها قد ينقطع وإن كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 507 لا يقطعه إلا الله ولهذا لا يخرج أهل الجنة من الجنة وقد يخرج أهل النار من النار وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على إرسال الرحمة وإمساكها الْحَكِيمُ الذي لا يمسك ولا يرسل إلا عن علم كامل وصلاح شامل. وحيث بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة المستدعية للحمد على التفصيل أمر المكلفين بتذكر النعمة على الإجمال لسانا وقلبا وعملا، ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه: اذكر أياديّ عندك يريد حفظها وشكرها والعمل بموجبها. وعن ابن عباس: أن الناس أهل مكة أسكنهم حرمه ويتخطف الناس من حولهم. وعنه أيضا أنه أراد بالنعمة العافية، والظاهر تعميم النعمة والمنعم عليهم. ثم أشار إلى نعمة الإيجاد بقوله هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ وإلى نعمة الإبقاء بقوله يَرْزُقُكُمْ وهو نعت خالق أو مستأنف أو تفسير لمضمر والتقدير: هل يرزقكم خالق يرزقكم؟ قال جار الله: إن جعلت يَرْزُقُكُمْ كلاما مستأنفا ففيه دليل على أن الخالق لا يطلق إلا على الله عز وجل. وأما على الوجهين الآخرين فلا، إذ لا يلزم من نفي خالق رازق غيره نفي خالق غيره مطلقا. وقوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ جملة مفصولة لا محل لها مثل يَرْزُقُكُمْ في غير وجه الوصف إذ لو جعلت وصفا لزم التناقض لأن قولك «هل من خالق آخر سوى الله» إثبات لله، ولو جعلت المنفية وصفا صار تقدير الكلام: هل من خالق آخر سوى الله لا إله إلا ذلك الخالق فلزم نقض الإثبات المذكور مع أن الكلام في نفسه يكون غير مستقيم. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي كيف تصرفون عن هذا الظاهر فتشركون المنعوت بمالك الملك والملكوت. وحين بيّن الأصل الأول وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ الآية. والمراد إن يكذبوك فتسل بهذا المعنى. ثم بين الأصل الثالث وهو الحشر بقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ وقد مرّ مثل الآية في آخر سورة لقمان. وقد يسبق إلى الظن هاهنا أن الغرور وهو الشيطان لأنه عقبه بقوله إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا لأن الحازم لا يقبل قول العدوّ ولا يعتمد عليه. ثم صرح بوجه اتخاذه وبعاقبة دعوته فقال إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ ثم فصل مال حال حزبه وحزب الله بقوله الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله وَأَجْرٌ كَبِيرٌ عرض على العقول أنه لا سواء بين الحزبين والمعنى أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ من الفريقين كمن لم يزين له. ولا ريب أن المزين لهم عملهم هم أهل الأهواء والبدع الذين لا مستند لهم في مأخذهم سوى التقليد واتباع الهوى. ثم أنتج من ذلك قوله فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وذلك أن الناس متساوية الأقدام في الإنسانية ومتفاوتة الأحوال في الأعمال، فتبين أنه لا استقلال، وأن أفعال العباد مستندة إلى إزادة مصرف القلوب والأحوال. ثم رتب على عدم الاستقلال قوله فَلا تَذْهَبْ أي فلا تهلك نَفْسُكَ وعَلَيْهِمْ صلة تذهب كما تقول هلك عليه حبا أو هو بيان للمتحسر عليه ولا يتعلق ب حَسَراتٍ المفعول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 508 لأجله لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته. وجوّز جار الله أن يكون حالا كأن كل نفسه صارت حسرات لفرط التحسر. وعن الزجاج أن تقدير الآية: أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم فحذف لدلالة المذكور وهو فلا تذهب عليه، أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله، فحذف لأن قوله فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ يدل عليه. ثم بين أن حزنه إن كان لما بهم من الضلال فالله عالم بهم وبما يصنعون لو أراد منهم الإيمان لآمنوا وإن كان لما بهم من الإيذاء فالله عليم بفعلهم فيجازيهم بذلك. ثم أكد كونه فاعلا مختارا قادرا قهارا مبدئا معيدا بقوله وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ وهو من الالتفات الموجب للتهويل والتعظيم. وقوله فَتُثِيرُ بلفظ المستقبل تصوير لتلك الحالة العجيبة الشأن، عرف نفسه بفعل الإرسال ثم قال فَسُقْناهُ كأنه قال: أنا الذي عرفتني بمثل هذه السياقة والصناعة وأنعمت عليك بهذه النعمة الشاملة. ثم شبه البعث والنشور بالصنع المذكور ووجهه ظاهر. وحين بين برهان الإيمان أشار إلى ما كان يمنع الكفار منه وهو العزة الظاهرة التي كانوا يتوهمونها من حيث إن معبوديهم كانت تحت تسخيرهم والرسول كان يدعوهم إلى الإيمان لطاعة الله وطاعة أنبيائه فكأنه قال: إن كنتم تطلبون حقيقة العزة فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ خاصة كلها فلتطلبها من عنده ومن عند أوليائه نظيره قولك «من أراد النصيحة فهي عند الأبرار» يريد فليطلبها عندهم فاعتبر في هذه الآية حرف النهاية. وأما في قوله لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] فاعتبر الوسائط فالعزة للمؤمنين بواسطة الرسول وله من رب العزة. ثم إن الكفار كأنهم قالوا: نحن لا نعبد من لا نراه ولا نحضر عنده فإن البعد من الملك ذلة فقال إِلَيْهِ يَصْعَدُ أي إن كنتم لا تصلون إليه فهو يسمع كلامكم ويقبل الطيب منها وذلك آية العزة، وأما هذه الأصنام فلا يتبين عندها الذليل من العزيز إذ لا حياة لها ولا شعور وهكذا العمل الصالح لا تراه هذه الأصنام فلا يمكن لها مجازاة الأنام. وفاعل قوله يَرْفَعُهُ إن كان هو الله فظاهر، وإن كان الكلم أعني قوله «لا إله إلا الله» فمعناه أنه لا يقبل عمل إلا من موحد وإن كان هو العمل فالمعنى: أن الكلم وهو كل كلام فيه ذكر الله أو رضاه يريد الصعود إلى الله إلا أنه لا يستطيع الصعود ولا يقع موقع القبول إلا إذا كان مقرونا بالعمل الصالح. عن النبي صلى الله عليه وسلم «الكلم الطيب هو قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن له عمل صالح لم يقبل منه» . وعن ابن المقفع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر. ولا يخفى أن القول هو الأصل والعمل مؤكده فلهذا قدم القول. وحين بيّن حال العمل الصالح ذكر أن المكرات السيئات بائرة كاسدة لا حقيقة لها، ولعله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 509 أشار بها إلى مكرات قريش المذكورات في قوله وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال: 30] جمع الله مكراتهم فقلبها عليهم حين أوقعهم في قليب بدر. ولما ذكر دليل الآفاق أكده بدليل الأنفس قائلا وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ وفيه إشارة إلى خلق آدم ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ وفيه إشارة إلى خلق أولاده. ومعنى أَزْواجاً أصنافا أو ذكرانا وإناثا. ثم أشار إلى كمال علمه بقوله وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ثم بين نفوذ إرادته بقوله وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ قال جار الله: معناه من أحد ولكنه سماه معمرا باعتبار ما يؤل إليه. وليس المراد تعاقب التعمير وخلافه على شخص واحد وإنما المراد تعاقبهما على شخصين فتسومح في اللفظ تعويلا على فهم السامع كقول القائل: ما تنعمت بكذا ولا اجتويته إلا قل فيه ثوائي. وتأويل آخر وهو أن يراد لا يطول عمر إنسان ولا ينقص من عمر ذلك الإنسان بعينه إِلَّا فِي كِتابٍ وصورته أن يكتب في اللوح إن حج أو وصل الرحم فعمره أربعون سنة، وإن جمع بين الأمرين فعمره ستون، فإذا جمع بينهما فعمر ستين كان الغاية، وإذا أفرد فعمر أربعين فقد نقص من تلك الغاية. وبهذا التأويل يستبين معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار» . ويصح ما استفاض على الألسن «أطال الله بقاءك» . وعن سعيد بن جبير يكتب في الصحيفة أن عمره كذا سنة، ثم يكتب بعد ذلك في آخرها ذهب يوم ذهب يومان حتى تنقضي المدّة. وعن قتادة: المعمر من بلغ ستين، والمنقوص من عمره من يموت قبل الستين. وذلك في علم الله. إِنَّ ذلِكَ الذي ذكر من خلق الإنسان من المادة المذكورة أو الزيادة في الأعمار أو النقصان منها عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. ثم ضرب مثلا للمؤمن والكافر وذكر دليلا آخر على عظم قدرته فقال وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ الآية. على الأوّل يكون قوله وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ إلى آخر الآية تقريرا للنعمة على سبيل الاستطراد، أو هو من تمام التشبيه كأنه شبه الجنسين بالبحرين. ثم فضل البحر الأجاج على الكافر لأنه شارك العذب في استخراج السمك واللؤلؤ وجرى الفلك فيه، وأما الكافر فلا نفع فيه البتة فيكون كقوله في البقرة ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ إلى آخر قوله وإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الآية: 74] والأشبه أن الآية تقرير دليل مستأنف كما مرّ في أوّل «النحل» يؤيده تعقيبه بدليل آخر وهو قوله يُولِجُ اللَّيْلَ إلى قوله لِأَجَلٍ مُسَمًّى قد مرّ في آخر «لقمان» مثله، وفيه ردّ على عبدة الكواكب الذين ينسبون حوادث هذا العالم إلى الكواكب بالذات لا إلى تسخير مبدعها. قوله ذلِكُمُ اللَّهُ أي الذي فعل الأشياء المذكورة من فطر السموات والأرض وإرسال الرياح وخلق الإنسان من التراب وغير ذلك هو المعبود الحق. وقوله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ خبران آخران، ويجوز أن يكون اللَّهُ رَبُّكُمْ خبرين ولَهُ الْمُلْكُ جملة مبتدأة واقعة في طبقات. قوله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 510 وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ وذلك أن المشركين كانوا معترفين بأن الأصنام ليسوا خالقين وإنما كانوا يقولون إنه تعالى فوض أمور الأرضيات إلى الكواكب التي هذه الأصنام صورها وطوالعها، فأخبر الله تعالى أنهم لا يملكون قطميرا وهو القشرة الرقيقة للنواة فضلا عما فوقها. قال جار الله: يجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله تعالى صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان ورَبُّكُمْ خبرا لولا أن المعنى يأباه فقيل: لأن ذلك إشارة إلى معلوم سبق ذكره. وكونه صفة أو عطف بيان يقتضي أن يكون فيما سبق ضرب إبهام. قلت: وفيه نظر، أما أولا فلأن اسم الله من قبيل الأعلام لا من قبيل أسماء الأجناس فكيف يجوز جعله صفة؟ وأما ثانيا فلأنه على تقدير التجويز يكون صفة مدح فلا ينافي كون المشار إليه معلوما. والوجه الصحيح في إباء المعنى هو أن الوصف إذا كان معرفة كان أمرا متحققا في الخارج مسلما عند السامع. مثلا إذا قلت: الرجل الكاتب جاءني. تريد الرجل الذي تعرفه أيها السامع أنه كاتب جاءني لكن الخطاب هاهنا مع الكفار وهم يجحدون المعبود الحق، أو يجحدون أن العبادة لا تصلح إلا له، فلا يصح إيقاع اسم الله وصفا لذلكم والخطاب معهم. ثم زاد في توبيخ الكفرة بقوله إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنهم جماد ولو فرض سماعهم مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ لما مرّ من أنهم لا يملكون شيئا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أيضا يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ قائلين ما كنتم إيانا تعبدون وَلا يُنَبِّئُكَ أي لا يطلعك على حقيقة الحال أيها النبيّ أو أيها السامع مِثْلُ خَبِيرٍ ببواطن الأمور. والمعنى أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق لأني خبير بما أخبرت به ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل عالم به. وفيه أنه الخبير بالأمر وحده، وفيه أن هذا الخبر مما لا يعرف بمجرد المعقول لولا إخبار الله سبحانه. ثم بين أن نفع العبادة إنما يعود على المكلفين فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ ومعنى تعريف الخبر القصد إلى أنهم جنس الفقراء مبالغة، وذلك أن افتقار الإنسان إلى الله عاجلا لأمور المعاش وآجلا لنعيم الآخرة أبين من افتقار سائر المخلوقين إليه. وقيل: إن كون الناس فقراء أمر ظاهر لا يخفى على أحد فلهذا عرف كقول القائل: الله ربنا ومحمد نبينا. ثم بين أن فقرهم ليس إلا إلى الله فقابل الفقراء بقوله وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ وقابل قوله إِلَى اللَّهِ بقوله الْحَمِيدُ لأنه إذا أنعم عليهم استحق الحمد منهم. ثم ذكر أنه غني عن وجودهم أيضا لا يفتقر في ظهور أثر قدرته إليهم فقال إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وقد مرّ في «النساء» وفي «إبراهيم» . وحين بين الحق بالدلائل الباهرة أراد أن يذكر ما يدعوهم إلى النظر فيه فقال وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ يعني أن النفوس الوازرات لا ترى واحدة منهن إلا حاملة وزرها لا وزر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 511 غيرها. ولا ينافي في هذا قوله وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] لأن وزر الإضلال هو وزر النفس الوزارة أيضا، وفيه أن كل نفس وازرة مهمومة بهم وزرها متحيرة في أمرها. ثم زاد في التهويل بقوله وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أي نفس ذات حمل لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ فإن عدم قضاء الحاجة بعد السؤال أفظع. ثم زاد التأكيد بقوله وَلَوْ كانَ أي المدعوّ ذا قُرْبى فإن عدم القضاء بعد السؤال من القريب من أب وولد أدل على شدّة الأمر فيعلم منه أن لا غياث يومئذ أصلا. ثم بين أن هذه الإنذارات إنما تفيد أهل الخشية والطاعة حال كونهم غائبين عن العذاب أو حال كون العذاب غائبا عنهم. ثم لما بيّن أن الوزر لا يتعدى إلى الغير بيّن أن التطهر عن الذنوب لا يفيد إلا نفس المتزكي وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ لكل فيجزيهم على حسب ذلك. ثم ضرب للكافر والمؤمن مثلا فقال وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وقيل: إنه مثل للصنم وللمعبود الحق. ثم ذكر للكفر والإيمان مثلا قائلا وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وإذا كان الإيمان نورا والمؤمن بصيرا فلا يخفى عليه النور، وإذا كان الكفر ظلمة والكافر أعمى فله صادّ فوق صادّ. ثم بيّن لمآلهما ومرجعهما مثلا وهو الظل والحرور. قال أهل اللغة: السموم يكون بالنهار والحرور أعم. وقال بعضهم: الحرور يكون بالليل فالمؤمن بإيمانه كمن هو في ظل وراحة، والكافر في كفره كمن هو حرّ وتعب. وهاهنا مسائل. الأولى: ضرب أوّلا مثلا للكافر والمؤمن ثم أعاد مثلهما بقوله وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ وهذا أبلغ لأن الأعمى والبصير قد يشتركان في إدراك أشياء ولا كذلك الحي والميت ولمكان هذه المبالغة أعاد الفعل. الثانية: كرر «لا» النافية في الأمثال الأخيرة دون الأوّل، لأن المنافاة بين العمى والبصر ليست ذاتية كما في سائرهما وقد يكون شخص واحد بصيرا بإحدى العينين أعمى بالأخرى. الثالثة: قدم الأشرف في مثلين وهو الظل والحيّ، وأخره في الآخرين فهم أهل الظاهر أن ذلك لرعاية الفواصل. والمحققون قالوا: إنهم كانوا قبل البعث في ظلمة الضلال فصاروا إلى نور الإيمان في زمان محمد صلى الله عليه وسلم، فلهذا الترتيب قدّم مثل الكافر وكفره على مثل المؤمن وإيمانه. ولما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لأن رحمته سبقت غضبه. ثم إن الكافر المصرّ بعد البعثة صار أضلّ من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق فقال وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ أي المؤمن الذي آمن بما أنزل الله. والأموات الذين تليت عليهم الآيات ولم تنجع فيهم البينات فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياتهم قبل ممات الكافرين المعاندين. الرابعة: إنما وحد الأعمى والبصير لأن المراد أن أحد الجنسين لا يساوي جنس الآخر من جهة العمى والبصر، ولعل فردا من أحدهما قد يساوي الفرد الآخر من جهة أخرى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 512 وكذا الكلام في إفراد الظل والحرور. وإنما جمع الظلمات ووحّد النور لما مرّ في أوّل «الأنعام» من تحقيق أن الحق واحد والشبهات كثيرة. وإنما جمع الأحياء والأموات لأن المراد أن أحد الصنفين لا يساوي الآخر سواء قابلت الجنس بالجنس أو قابلت الفرد بالفرد. الخامسة: لا يخفي أن هذه الواوات بعضها ضمت شفعا إلى شفع وبعضها ضمت وترا إلى وتر. ثم سلى ورسوله بقوله إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ الآية. فقد مرّ نظيره في قوله إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النمل: 80] وإنما اقتصر على قوله إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ وكذا في قوله إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ لأن الكلام في معرض التهديد مع أن ذكر البشير يدل عليه بل ذكر النذير يدل على مقابله. والمراد بالنذارة آثارها لثبوت زمان الفترة. ثم زاد في التسلية بقوله وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ وقد مر مثله في آخر «آل عمران» . وإنما حذف الفاعل هناك لبناء الكلام هنالك على الاقتصار دليله أنه قال وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ فاقتصر على لفظ المضيّ ولم يسم الفاعل، ويحتمل أن يكون لفظ الماضي إشارة إلى وقوع التكذيب منهم فإن تلك السورة مدنية والله أعلم. [سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 45] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 513 القراآت: يدخلونها مجهولا: أبو عمرو ويجزي مجهولا غائبا كل بالرفع: أبو عمرو. الباقون: بالنون مبينا للفاعل كل بالنصب والْمَكْرُ السَّيِّئُ بهمزة ساكنة: حمزة استثقالا للحركات، وحمله النحويون على الاختلاس، وإذا وقف يبدل من الهمزة ياء ساكنة. الوقوف: ماءً ج للعدول أَلْوانُها الأولى ج سُودٌ هـ كَذلِكَ ط الْعُلَماءُ ط غَفُورٌ هـ لَنْ تَبُورَ هـ فَضْلِهِ ط شَكُورٌ هـ يَدَيْهِ ط بَصِيرٌ هـ عِبادِنا ج لِنَفْسِهِ ج مُقْتَصِدٌ ج تفصيلا بين الجمل مع النسق بِإِذْنِ اللَّهِ ط الْكَبِيرُ هـ ط لأن ما بعده مبتدأ لا بدل وَلُؤْلُؤاً ج لاختلاف الجملتين حَرِيرٌ هـ الْحَزَنَ ط شَكُورٌ هـ فَضْلِهِ ج لاحتمال الاستئناف والحال لُغُوبٌ هـ جَهَنَّمَ ج لمثل ما قلنا عَذابِها ط كَفُورٍ هـ ج لاحتمال الواو الحال فِيها ج للقول المحذوف كُنَّا نَعْمَلُ ط النَّذِيرُ هـ نَصِيرٍ هـ وَالْأَرْضِ ط الصُّدُورِ هـ فِي الْأَرْضِ ط كُفْرُهُ ط مَقْتاً ج وان اتفقت الجملتان ولكن لتكرار الفعل وتصريح الفاعل والمفعول في الثانية خَساراً هـ دُونِ اللَّهِ ط السَّماواتِ ج لاحتمال أن «أم» منقطعة مِنْهُ ج غُرُوراً هـ تَزُولا ج لابتداء ما في معنى القسم مع الواو مِنْ بَعْدِهِ ط غَفُوراً هـ الْأُمَمِ ج نُفُوراً هـ لا وَمَكْرَ السَّيِّئِ ط بِأَهْلِهِ ط الْأَوَّلِينَ ج لانتهاء الاستفهام مع اتصال الفاء تَبْدِيلًا هـ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 514 ج تَحْوِيلًا هـ قُوَّةً ط فِي الْأَرْضِ ط قَدِيراً هـ مُسَمًّى ج بَصِيراً هـ. التفسير: لما بين دلائل الوحدانية بطريق الإخبار ذكر دليلا آخر بطريق الاستخبار لأن الشيء إذا كان خفيا ولا يراه من بحضرتك كان معذورا، أما إذا كان بارزا مكشوفا فإنك تقول: أما تراه. والمخاطب إما كل أحد أو النبيّ صلى الله عليه وسلم لأن السيد إذا نصح بعض العباد ولم ينفعهم الإرشاد قال لغيره. اسمع ولا تكن مثل هذا ويكرر معه ما ذكره مع الأول. والالتفات في فَأَخْرَجْنا لأن نزول الماء يمكن أن يقال: إنه بالطبع ولكن الإخراج لا يمكن إلا بإرادة الله. وأيضا الإخراج أتم نعمة من الإنزال لأن إنزال المطر لفائدة الإخراج. واختلاف ألوان الثمرات اختلاف أصنافها أو هيئاتها، والجدد الخطط، والطرائق «فعلة» بمعنى «مفعول» والجد القطع. قال جار الله: لا بدّ من تقدير مضاف أي ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر مختلف ألوانها في البياض والحمرة، لأن الأبيض قد يكون على لون الجص وقد يكون أدنى من ذلك، وكذلك الحمرة. والغرابيب تأكيد للسود إلا أنه أضمر المؤكد أوّلا ثم أظهر ثانيا على طريقة قوله: والمؤمن العائذات الطير وإنما لم يتصوّر اختلاف الألوان هاهنا لأن السواد إذا كان في الغاية لم يكن بعدها لون. يقال: أسود غربيب للذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب. ويمكن أن يقال: إن المختلف صفة الحمر فقط. وحين فرغ من دلائل النبات وما يشبه المعادن شرع في الاستدلال بالحيوان، وقدّم الإنسان لشرفه، ثم ذكر الدواب على العموم، ثم خصص الأنعام، أو أراد بالدابة الفرس فجعله لشرفه رديف الإنسان. وقوله مُخْتَلِفٌ أي بعض مختلف أَلْوانُهُ وذكر الضمير تغليبا للإنسان أو نظرا إلى البعض. وقوله كَذلِكَ أي كاختلاف الجبال والثمرات، وفيه أن هذه الأجناس كما أنها في أنفسها دلائل فهي باختلافها أيضا دلائل. وحين خاطب نبيه بقوله أَلَمْ تَرَ بمعنى ألم تعلم أتبعه قوله إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ كأنه قال: إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن نظر في دلائله فعرفه حق معرفته، أو أراد أن يعرّفه كنه معرفته لأن الخشية على حسب العلم بنعوت كماله وصفات جلاله. وفي الحديث «أعلمكم بالله أشدّكم خشية له» وفائدة تقديم المفعول أن يعلم أن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، ولو أخر المفعول كان معنى صحيحا وهو أنهم لا يخشون أحدا إلا الله إلا أن ذلك غير مراد هاهنا. وعن عمر بن عبد العزيز ويحكى عن أبي حنيفة أنهما قرءا برفع الله ونصب العلماء فتكون الخشية مستعارة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 515 للتعظيم أي لا يعظم الله ولا يجل من الرجال إلا العلماء به. ثم بين السبب الباعث على الخشية بقوله إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ فالعزة توجب الخوف من أليم عقابه والمغفرة توجب الطمع في نعيمه وثوابه، وفيه أن خوف المؤمن ينبغي أن يكون مخلوطا برجائه. ثم مدح العالمين العاملين بقوله إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ الآية. قال أهل التحقيق: قوله إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ إشارة إلى عمل القلب، وقوله إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ أي يداومون على التلاوة إشارة إلى عمل اللسان. وقوله وَأَقامُوا الصَّلاةَ إشارة إلى عمل الجوارح، والكل أقسام التعظيم لأمر الله. ثم أشار إلى الشفقة على خلق الله بقوله وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ وقوله يَرْجُونَ وهو خبر «إن» إشارة إلى الإخلاص في العقائد والأعمال أي ينفقون من الأموال لا ليقال إنه كريم أو لغرض آخر بل لتجارة لا كساد فيها ولا بوار وهي طلب مرضاة الله. وقوله لِيُوَفِّيَهُمْ متعلق ب لَنْ تَبُورَ أي تنفق عند الله ليوفيهم بنفاقها عنده أجورهم. وجوّز جار الله أن يجعل يَرْجُونَ في موضع الحال واللام متعلق بالأفعال المتقدّمة أي فعلوا جميع ما ذكر من التلاوة والإقامة والإنفاق لغرض التوفية. وخبر «إن» قوله إِنَّهُ غَفُورٌ لهم شَكُورٌ لأعمالهم. وحين ذكر دلائل الوحدانية أتبعه بيان الرسالة وذكر حقيقة الكتاب المتلوّ والكتاب للجنس ف «من» للتبعيض أو هو القرآن، و «من» للتبيين أو هو اللوح المحفوظ و «من» للابتداء وقد مرّ في البقرة أن قوله مُصَدِّقاً حال مؤكدة. وفي قوله إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ تقرير لكونه حقا لأن الذي يكون عالما بالبواطن والظواهر لم يمكن أن يكون في كلامه شوب باطل. وفيه لم يختر محمدا للرسالة جزافا وعلى سبيل الاتفاق ولكنه أعلم حيث يجعل رسالته. قوله ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ زعم جمع من المفسرين أن الكتاب للجنس بدليل قوله فيما قبل جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ والإيراث الإعطاء، والمصطفون من عبيده هم الأنبياء كأنه قال: علمنا البواطن وأبصرنا الظواهر فاصطفينا عبادا ثم أورثناهم الكتاب. وعلى هذا فالمراد بالظلم على النفس وضع الشيء في غير موضعه وإن كان بترك الأولى ومنه قول أبينا آدم رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] وقول يونس إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] وإذا كان الظلم بهذا المعنى جائزا عليهم فالاقتصاد أولى. ويجوز أن يعود الضمير في قوله فَمِنْهُمْ إلى الأمة كأنه قيل: إن الذي أوحينا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلنا، وآتيناهم كتبا فمن قومك ظالم كفر بك وبما أنزل إليك، ومقتصد آمن به ولم يأت بجميع ما أمر به، وسابق آمن وعمل صالحا. وقال أكثرهم: إنه القرآن والإيراث الحكم بالتوريث أو هو على عادة إخبار الله في التعبير عن المستقبل بالماضي لتحققه أي نريد أن نورثه. والمصطفون هم الصحابة والتابعون ومن بعدهم إلى يوم القيامة كقوله كُنْتُمْ خَيْرَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 516 أُمَّةٍ [آل عمران: 11] وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] وعلى هذا ففي تفسير المراتب الثلاثة أقوال أحدها: الظالم الراجح السيئات، والمقتصد المتساوي الحسنات والسيئات، والسابق راجح الحسنات. ثانيها الظالم من ظاهره خير من باطنه، والمقتصد المتساوي، والسابق من باطنه خير. ثالثها: الظالم صاحب الكبيرة، والمقتصد صاحب الصغيرة، والسابق المعصوم. رابعها: عن علي رضي الله عنه: الظالم أنا، والمقتصد أنا، والسابق أنا. فقيل له: كيف ذاك؟ قال: أنا ظالم بمعصيتي، ومقتصد بتوبتي، وسابق بمحبتي. خامسها: الظالم التالي للقرآن غير العالم به ولا العامل بموجبه، والمقتصد التالي العالم غير العامل، والسابق التالي العامل. سادسها: الظالم الجاهل، والمقتصد المتعلم، والسابق العالم. سابعها: الظالم من يحاسب فيدخل النار وهو أصحاب المشأمة، والمقتصد من يحاسب فيدخل الجنة وهو أصحاب الميمنة، والسابق من يدخل الجنة بغير حساب. ثامنها: الظالم من خالف أوامر الله وارتكب مناهيه فإنه واضع للتكليف في غير موضعه، والمقتصد هو المجتهد في أداء التكاليف وإن لم يوفق لذلك فإنه قصد الحق واجتهد، والسابق هو الذي لم يخالف تكاليف الله بتوفيقه دليله قوله في الأخير بِإِذْنِ اللَّهِ وذلك أنه إذا وقع الخير في نفسه سبق إليه قبل تسويل النفس، والمقتصد يقع في قلبه فتردّده النفس، والظالم تغلبه النفس. وبعبارة أخرى من غلبته النفس الأمارة وأمرته فأطاعها ظالم، ومن جاهد نفسه فغلبته تارة وغلب أخرى فهو المقتصد صاحب النفس اللوامة، ومن قهر نفسه فهو السابق. وفي تقديم الظالم ثم المقتصد إيذان بأن المقتصدين أكثر من السابقين والظالمون أكثر الأقسام كما قال وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] ذلِكَ الذي ذكر من التوفيق أو من السبق بالخيرات أو من الإيراث هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ قال جار الله: أبدل قوله جَنَّاتُ عَدْنٍ من الفضل لأنها مسببة عنه وكأنها هو. قلت: ويمكن أن يقال جَنَّاتُ عَدْنٍ مبتدأ لأنها معرفة بدليل قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ [مريم: 61] ولئن سلم أنها نكرة فليكن يَدْخُلُونَها صفة له وخبرها يُحَلَّوْنَ ثم إن ضمير يَدْخُلُونَها إن عاد إلى التالين لكتاب الله أو إلى السابقين فلا إشكال فالظالم يدخل النار والمقتصد يكون أمره موقوفا كقوله وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ [التوبة: 106] أو كقوله وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً وإن عاد إلى الفرق الثلاث فبشرط العفو أو بشرط التوبة، وقد يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له» وفي تقديم جَنَّاتُ عَدْنٍ وبناء الكلام عليها دون أن يقول «يدخلون جنات عدن» إيذان بأن الاهتمام بشأنها أكثر فإن نظر السامع على المدخول فيه لا على نفس الدخول. وقد مرت العبارة الأصلية في سورة الحج في قوله إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ إلى قوله حَرِيرٌ [الآية: 23] وتغيير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 517 العبارة في هذا المقام لمزيد هذه الفائدة والله أعلم. وفي قوله يُحَلَّوْنَ فِيها إشارة إلى سرعة الدخول فإن في تحليتهم خارج الجنة تأخيرا للدخول. وفي تحليتهم بالسوار إشارة إلى أمرين: أحدهما الترفه والتنعم، الثاني أنهم لا يحتاجون فيها إلى عمل من الطبخ وتهيئة سائر الأسباب. قال جار الله: أي يحلون بعض أساور من ذهب كأنه بعض سابق لسائر الأبعاض كما سبق المسوّرون به غيرهم، والذهب واللؤلؤ إشارة إلى النوعين اللذين منهما الحليّ. وقيل: إن ذلك الذهب في صفاء اللؤلؤ، والحزن للجنس فيعم كل حزن من أحزان الدنيا والدين كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم وكأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» وقد خصه جمع من المفسرين بخوف سوء العاقبة أو بحزن الآفات أو بحزن الموت أو بهمّ المعاش حتى قال بعضهم: كراء الدار والتعميم أولى. والمقامة بمعنى الإقامة والفضل التفضل. وعند المعتزلة العطاء لأن الثواب أجر مستحق واجب عندهم. والنصب التعب والمشقة التي تصيب المزاول للأمر المنتصب له. واللغوب ما يلحقه من الفتور والكلال بعد ذلك قاله جار الله. وقال غيره: إن الذي يباشر عملا من الأعمال لا يظهر عليه الإعياء إلا بعد أن يستريح، فالمراد أنهم لا يخرجون من الجنة إلى موضع يتعبون بسبب ذلك ثم يلحقهم الإعياء بعد الرجوع. ثم عطف قوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا على قوله إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ وقوله فَيَمُوتُوا جواب للنفي والتقدير لا يقضي عليهم بالموت فيستريحوا ويَصْطَرِخُونَ يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدّة كشأن المستغيث. وفائدة قوله غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح، أو المراد نعمل صالحا غير الذي كنا نحسبه صالحا لأنهم كانوا يحسبون أنهم يحسنون. وفيه إشارة إلى أنهم في الآخرة أيضا ضالون لم يهدهم الله في الآخرة كما لم يهدهم في الدنيا، ولو كانوا مهتدين لقالوا: ربنا زدت للمحسنين حسنات بفضلك لا بعملهم ونحن أحوج إلى تخفيف العذاب منهم إلى تضعيف الثواب فافعل بنا ما أنت أهله نظرا إلى فضلك، ولا تفعل بنا ما نحن أهله نظرا إلى عدلك، وانظر إلى مغفرتك الهاطلة ولا تنظر إلى معذرتنا الباطلة. وهذا بخلاف حال المؤمن هداه في العقبى كما هداه في الدنيا حتى دعاه بأقرب دعاء إلى الإجابة، وأثنى عليه بأطيب ثناء عند الإنابة فقالوا الْحَمْدُ لِلَّهِ وقالوا إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ اعترافا بتقصيرهم شَكُورٌ إقرارا بوصول ما لم يخطر ببالهم إليهم وأحالوا الكل إلى فضله تصريحا بأنه لا عمل لهم بالنسبة إلى بحار نعمه. قوله أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ استفهام فيه توبيخ وإفحام وهو متناول لكل عمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 518 تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه إلا أن التوبيخ في العمر الطويل أعظم. عن النبي صلى الله عليه وسلم «العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة» وروي «من جاوز الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار» وعن مجاهد: ما بين العشرين إلى الستين. وقيل: ثماني عشرة وسبع عشرة. وقوله وَجاءَكُمُ معطوف على المعنى كأنه قيل: قد عمرناكم وجاءكم النَّذِيرُ وهو النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: الشيب. فبين بالجملتين أن القابل موجود والفاعل حاصل، فالعذر غير مقبول فَذُوقُوا العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ الذين وضعوا أعمالهم في غير موضعها وأتوا بالمعذرة في غير وقتها مِنْ نَصِيرٍ نفى الأنصار والناصرين في آخر «آل عمران» وفي «الروم» ووحد هاهنا كأنهم في النار قد أيسوا من كثير ممن كانوا يتوقعون منهم النصرة إلّا من نصير واحد وهو الله سبحانه. ثم كان لسائل أن يسأل: ما بال الكافر يعذب أبدا وإنه ما كفر إلا أياما معدودة فلا جرم قال إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فكان يعلم من الكافر أن الكفر قد تمكن في قلبه بحيث لو دام إلى الأبد لما أطاع الله ولا عبده. وذات الصدور صواحباتها من الظنون والعقائد فذو موضوع لمعنى الصحبة، فالصدور ذات العقائد والعقائد ذات الصدور باعتبار أنها تصحبها. وحين ذكرهم بما مر من أنه سوف يوبخهم بالتعمير وإيتاء العقول وإرسال من يؤيد المعقول بالمنقول وعظهم بأنه هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ وفقد العاطف هنا خلاف ما في آخر «الأنعام» للعدول عن خطاب أهل الآخرة إلى خطاب أهل الدنيا. وقال هاهنا خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ بزيادة «في» المفيدة لتمكن المظروف في الظرف لأجل المبالغة والترقي من الأدنى إلى الأعلى كأنه قيل: أمهلتم وعمرتم وأمرتم على لسان الرسل بما أمرتم وجعلتم خلفاء الهالكين الماضين فأصبحتم بحالهم راضين فَمَنْ كَفَرَ بعد هذا كله فَعَلَيْهِ وبال كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً لأن الكافر السابق ممقوت واللاحق الذي أنذره الرسول ولم ينتبه أمقت لأنه رأى عذاب من تقدّمه ولم يتنبه وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً فإن العمر كرأس مال من اشترى به رضا الله ربح ومن اشترى به سخطه خسر. ثم وبخ أهل الشرك بقوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ وأبدل منه أَرُونِي كأنه قال: أخبروني عن هؤلاء الشركاء، أروني أيّ جزء من أجزاء الأرض استبدّوا بخلقه أَمْ لَهُمْ مع الله شِرْكٌ فِي خلق السَّماواتِ أم معهم أو مع عابديهم كتاب من عند الله فهم على برهان من ذلك الكتاب. والإضافة في شُرَكاءَكُمُ لملابسة العبادة، أو المراد كونهم شركاءهم في النار كقوله إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ وهم الرؤساء بَعْضاً وهم الأتباع إِلَّا غُرُوراً [يونس: 18] وهو قولهم هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا وحين بين عجز الأصنام أراد أن يبين كمال القدرة فقال إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي يمنعهما من أَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 519 تَزُولا أو كراهة زوالهما عن مقرهما ومركزهما، ولو فرض زوالهما بأمر الله فلن يمسكهما أحد من بعد زوالهما أو من بعد الله. وقيل: أراد أنهما كانتا جديرتين بأن تهدّ هدّا لعظم كلمة الشرك كقوله تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ [مريم: 90] يؤيد هذا الوجه قوله إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غير معاجل بالعقوبة غَفُوراً لمن تاب من الشرك. قال المفسرون: بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم رسلهم فكذبوا فو الله لئن أتانا رسول لكنا أهدى. وزيف هذا النقل بأن المشركين كانوا منكرين للرسالة والحشر فكيف اعترفوا بأن اليهود والنصارى جاءهم رسل. سلمنا لكنهم كيف عرفوا تكذيب اليهود وتحريفهم ولم يأتهم رسول ولا كتاب؟ فالوجه الصحيح في سبب النزول أنهم كانوا يقولون: لو جاءنا رسول لم ننكره وإنما ينكرون كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا لأنه كاذب، ولو صح كونه رسولا لآمنا. وقوله مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ليس للتفضيل بل المراد أنا نكون أهدى مما نحن عليه ونكون من إحدى الأمم كقولك: زيد من المسلمين. أو هو للتفضيل والأمم لتعريف العهد أي أمة محمد وموسى وعيسى عليهم السلام، أو للعموم أي أهدى من أيّ أمة تفرض ويقال فيها إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها في الهدى والاستقامة. فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي صح لهم نذارته بالمعجزات الباهرة ما زادَهُمْ هو أو مجيئه إِلَّا نُفُوراً كأنه صار سببا في نفارهم عن الحق عنادا وكبرا فانتصب اسْتِكْباراً على أنه مفعول لأجله أو حال ويجوز أن يكون بدلا من نُفُوراً وقوله وَمَكْرَ من إضافة المصدر إلى صفة معموله أصله وأن مكروا السيء أي المكر السيء، والمكر هو مكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم من الهمّ بالقتل والإخراج وقد حاق بهم يوم بدر، أو هو عام وعاقبة الماكر وخيمة يصل إليه جزاؤه عاجلا أو آجلا. عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا فإن الله يقول ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله» . وفي أمثالهم «من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا» . وفي قوله بِأَهْلِهِ دون أن يقول «إلا بالماكر إشارة إلى أن الرضا بالمكر والإعانة عليه كهو فيندرج مصاحبه في زمرة أهل المكر. وقوله سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ من إضافة المصدر إلى المفعول. وقوله لِسُنَّتِ اللَّهِ من إضافته إلى الفاعل والمراد بها إنزال العذاب على أمثالهم من مكذبي الرسل، جعل استقبالهم لذلك واستعجالهم إياه انتظارا له منهم. والتبديل تغيير الصورة مع بقاء المادة، والتحويل نقل الشيء من مكان إلى مكان آخر. خص هذه السورة بالجمع بين الوصفين لأن كثيرا من أحوال الكفرة جاءت هاهنا مثناة كقوله وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ إلى قوله إِلَّا خَساراً وكقوله إِلَّا نُفُوراً اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ويحتمل أن يريد بسنة الأوّلين استمرارهم على الإنكار كأنه قال: أنتم تريدون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 520 الإتيان بسنة الأوّلين والله يأتي بسنة لا تبدل. العذاب المعلوم بنوع آخر ولا تحوّله عن مستحقيه إلى من لا يستحقه. ثم أمرهم بالسير وذكرهم ما رأوه في مسايرهم ومتاجرهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار الهالكين الأقدمين مع وفور قوّتهم وكثرة شوكتهم. ثم بين كمال علمه ونهاية قدرته على اتصال أصناف الاستحقاقات بقوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ أي ليسبقه ويفوته شيء. ثم ختم السورة بما يدل على غاية حلمه وهو أنه لا يؤاخذ الناس بكل جرم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو القيامة وهو يومئذ أعلم بأحوالهم علما عيانيا فيجزي كلا بحسب علمه، وقد مر مثل الآية في سورة النحل. وقيل: الأجل هو يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن أو حين يجتمع الناس على الضلال والله أعلم. تم الجزء الثاني والعشرون، ويليه الجزء الثالث والعشرون وأوله تفسير سورة يس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 521 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الثالث والعشرون من أجزاء القرآن الكريم (سورة يس) (مكية سوى آية نزلت في اليهود قوله وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا حروفها ثلاثة آلاف كلمها سبعمائة وسبع وعشرون آياتها ثلاث وثمانون) [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 44] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 522 القراآت: يس بإظهار النون: أبو عمرو وسهل ويعقوب غير رويس وابن كثير غير ابن فليح وحمزة وأبو جعفر ونافع غير النجاري عن ورش والحلواني عن قالون وعاصم غير يحيى وابن أبي غالب. وقرأ حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد بالإمالة. تنزيل بالنصب: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. والباقون: بالرفع سَدًّا بفتح السين في الحرفين: حمزة وعلي وخلف وحفص وأبو زيد فَعَزَّزْنا بالتخفيف: أبو بكر وحماد والمفضل آين بالمد والياء أبو عمرو وقالون وزيد مثله ولكن بالقصر ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد. أَإِنْ بهمزتين: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل وابن عامر، هشام يدخل بينهما مدة وقرأ المفضل أين على وزن «كيف» الْآنَ بسكون النون وبالمد: يزيد مثل آنذرتهم ذُكِّرْتُمْ بالتخفيف: زيد وَما لِيَ بسكون الياء: حمزة ويعقوب ينقذوني في الحالين بالياء: يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل إِنِّي إِذاً بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو إِنِّي آمَنْتُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو إلا صيحة واحدة بالرفع وكذلك ما بعدها: يزيد لَمَّا بالتشديد: ابن عامر وحمزة وعاصم الميتة بالتشديد: أبو جعفر ونافع عملت بغير هاء الضمير: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل لمستقر بكسر القاف: زيد عن يعقوب والقمر بالرفع على الابتداء: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ونافع ويعقوب غير رويس. الآخرون: بالنصب إضمارا على شريطة التفسير ذرياتهم على الجمع: أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب. الوقوف: يس هـ كوفي الْحَكِيمِ هـ لا لجواب القسم الْمُرْسَلِينَ هـ لا لأن الجار والمجرور خبر بعد خبر أو مفعول ثان لمعنى الفعل في الْمُرْسَلِينَ أي أرسلت على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 523 صراط مُسْتَقِيمٍ هـ ط على القراءتين فمن نصب فمعناه نزل تنزيل أو أعني تنزيل ومن رفع فالتقدير هذا تنزيل الرَّحِيمِ هـ لا لتعلق لام كي بمعنى التنزيل والإرسال غافِلُونَ هـ لا يُؤْمِنُونَ هـ مُقْمَحُونَ هـ لا يُبْصِرُونَ هـ لا يُؤْمِنُونَ هـ بِالْغَيْبِ هـ لانقطاع النظم مع دخول الفاء كَرِيمٍ هـ وَآثارَهُمْ ط مُبِينٍ هـ الْقَرْيَةِ هـ لأن «إذا» ليس ظرفا ل اضْرِبْ بل التقدير واذكر إذ جاءها. وجوّز في الكشاف أن يكون «إذ» بدلا من أَصْحابَ الْقَرْيَةِ فلا وقف. الْمُرْسَلُونَ هـ ج لاحتمال أن يكون «إذ» بدلا أو معمولا لعامل آخر مضمر مُرْسَلُونَ هـ مِثْلُنا لا مِنْ شَيْءٍ لا لاتحاد المقول فيهما تَكْذِبُونَ هـ لَمُرْسَلُونَ هـ ج الْمُبِينُ هـ بِكُمْ ج للابتداء بما في معنى القسم مع اتحاد المقول أَلِيمٌ هـ مَعَكُمْ ط ذُكِّرْتُمْ ط مُسْرِفُونَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ لأن اتَّبِعُوا بدل من الأوّل مُهْتَدُونَ هـ تُرْجَعُونَ هـ وَلا يُنْقِذُونِ هـ ج للابتداء بان مع تعلق «إذا» بما قبلها أي أني إذا اتخذت آلهة لفي ضلال مُبِينٍ هـ فَاسْمَعُونِ هـ ط لأن التقدير فلم يسمعوا قوله فقتلوه ثم قيل له ادخل الْجَنَّةَ ط يَعْلَمُونَ هـ لا لتعلق الباء. الْمُكْرَمِينَ هـ مُنْزِلِينَ هـ خامِدُونَ هـ الْعِبادِ ج لأن ما بعده يصلح استئنافا وحالا والعامل معنى في حسرة يَسْتَهْزِؤُنَ هـ لا يَرْجِعُونَ هـ مُحْضَرُونَ هـ يَأْكُلُونَ هـ الْعُيُونِ هـ لا ثَمَرِهِ هـ ط لمن جعل «ما» نافية ومن جعلها موصولة لم يقف أَيْدِيهِمْ ط يَشْكُرُونَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ مُظْلِمُونَ هـ ط لَها ط الْعَلِيمِ هـ لا لمن قرأ وَالْقَمَرَ بالرفع بالعطف على اللَّيْلُ، ومن قرأ بالنصب وقف مطلقا الْقَدِيمِ هـ النَّهارِ ط يَسْبَحُونَ هـ الْمَشْحُونِ هـ لا يَرْكَبُونَ هـ يُنْقَذُونَ هـ لا حِينٍ هـ. التفسير: الكلام الكلي في فواتح السور قد مر في أوّل البقرة وغيرها والذي يختص بالمقام ما قيل إن معناه يا سيد أو يا أنيسين فاقتصر على البعض رواه جار الله عن ابن عباس. ولا يخفى أن النداء على هذا يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم يؤيده قوله إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وكثيرا ما يستعمل القسم بعد إفحام الخصم الألدّ كيلا يقول إنك قد أفحمت بقوّة جدالك وأنت في نفسك خبير بضعف مقالك. وأيضا الابتداء بصورة اليمين يدل على أن المقسم عليه أمر عظيم والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه، وكانت العرب يتحرزون من الأيمان الفاجرة ويقولون إنها تدع الديار بلاقع، وكان من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعظمون القرآن غاية التعظيم وكان اليمين به موقوفا عليه عند الكفرة. وقوله عَلى صِراطٍ كالتأكيد لأن المرسلين لا يكونون إلا على المنهج القويم. وتنكير صراط للتعظيم. قيل: فيه دليل على فساد قول المباحية القائلين بأن المكلف إذا صار واصلا لم يبق عليه تكليف فإن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 524 المرسلين لم يستغنوا عن رعاية الشريعة فكيف غيرهم. وقوله ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ كقوله في «القصص» لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ [الآية: 46] وقد مر أنه يشمل اليهود والنصارى لأن آباءهم الأدنين لم ينذروا بعد ما ضلوا فَهُمْ غافِلُونَ لهذا السبب. وقد يقال: إن «ما» مصدرية أو موصولة أي أرسلت لتنذرهم إنذار آبائهم أو ما أنذر آباؤهم فإنهم في غفلة، فعلى هذا كونهم غافلين سبب باعث على الإنذار، وعلى الأول عدم الإنذار سبب غفلتهم. ثم بين أن السبب الحقيقي للغفلة هو أنه تعالى جعلهم من جملة المطبوع على قلوبهم ومن زمرة أهل النار وهو قوله فيهم لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ [ص 85] أو أراد بالقول سبق علمه فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤمنون. وقيل: أراد أن القول بالدعوة بلغ أكثرهم ولكنهم لا يؤمنون جحودا وعنادا، وذلك أن من يتوقف على استماع الدليل في مهلة النظر يرجى منه الإيمان إذا بان له البرهان، أما بعد البيان والوضوح فلا يكون عدم الإيمان إلا للمكابرة. وحين بيّن أنهم لا يؤمنون ذكر أن ذلك من الله تعالى فقال إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فيكون مثلا لتصميمهم على الكفر كالطبع والختم. وقيل: إنه إشارة إلى إمساكهم وأنهم لا ينفقون في سبيل الله كما قال وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الإسراء: 29] وعلى هذا يمكن أن يكون معنى قوله فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أنهم لا يزكون كأنه عبر بالإيمان عن الزكاة كما عبر به عن الصلاة في قوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] وقيل: نزلت في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا صلى الله عليه وسلم يصلي ليرضخن رأسه، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال مخزومي آخر: أنا أقتله بهذا الحجر. فذهب فأعمى الله بصره وأنزلت الآيتان. والضمير في قوله فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ راجع إلى الأيدي وإن كانت غير مذكورة لكونها معلومة فإن المغلول تكون أيديه مجموعة إلى العنق ولذلك يسمى الغل جامعة أي جامعا لليد والعنق. وتأنيث الجامعة مبالغة أو بتأويل الآلة. وقيل: واختاره في الكشاف أنه يرجع إلى الأغلال أي جعلنا في أعناقهم أغلالا ثقالا غلاظا بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطىء رأسه فلا يزال مقمحا. والمقمح الذي يرفع رأسه ويغض بصره ومنه أقمحت السويق أي سففته. والكانونان يقال لهما شهرا قماح لأن الإبل ترفع رؤوسها عن الماء لبرده فيهما. وكيف يفهم من الغل في العنق المنع من الإيمان حتى يجعل كناية فيقول المغلول الذي بلغ الغل ذقنه وبقي مقمحا رافع الرأس لا يبصر الطريق فضرب ذلك مثلا للذي يهديه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصراط المستقيم العقلي وهو لا يبصره بنظر بصيرته، ويمكن أن يجعل كناية عن عدم التصديق بتحريك الرأس. ويقال: بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء، والإيمان كالماء الزلال الذي به الحياة. ثم ضرب مثلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 525 آخر لكونهم غير منتهجين سبيل الرشاد وذلك قوله وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا قال أهل التحقيق: المانع إما أن يكون في النفس وهو الغل فلا يتبين لهم آيات الأنفس، وإما أن يكون خارجا عنها وهو السدّ فلا يتضح لهم دلائل الآفاق. ويمكن أن يقال: السدّ من قدام إشارة إلى عدم العلوم النظرية، ومن خلف إشارة إلى عدم فطنتهم الغريزية، أو الأوّل إشارة إلى الغفلة عن أحوال المعاد، والثاني إشارة إلى الغفلة عن المبدأ. وفيه أن السالك إذا انسدّ عليه الطريق من قدامه ومن خلفه والموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة فإنه يهلك لا محالة. ثم زاد في التأكيد بقوله فَأَغْشَيْناهُمْ أي جعلنا بعد ذلك كله على أبصارهم غشاوة فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ شيئا أصلا. ويحتمل أن يكون الإغشاء إشارة إلى أن السدّ قريب منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة فإن القرب القريب مانع من الرؤية فلا يرون السدّ قريب منهم فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وعلى هذا يكون ذكر السد من خلف تأكيدا على تأكيد، فإن الذي جعل بين يديه ومن خلفه سدان ملتزقان لا يمكنه التحرك يمنة ويسرة ولا النظر إلى السدّ ولا إلى غيره. ويمكن أن يقال: فائدته تعميم المنع من انتهاج المسالك المستقيمة لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو إلى جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء، وهكذا إن فرض رجوع قهقرى فإن المشي من هاتين الجهتين عادة، ثم صرح بالمقصود معطوفا على المذكورات قائلا وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ الآية. وقد مر إعرابه وسائر ما يتعلق بتفسيره في أول البقرة. ولا يخفى أن الإنذار وعدمه بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير مستويين وإنما الإنذار سبب لزيادة سيادته وسعادته عاجلا وآجلا. ثم بين بقوله إِنَّما تُنْذِرُ أن عدم فائدة الإنذار إنما هو بالإضافة إلى المطبوع على قلوبهم الذين تقدم شرح حالهم وبيان أمثالهم لا إلى المنتفعين به. والذكر القرآن أو ما فيه من المواعظ والحكم والدلائل، وفي ذكر الخشية مع تعقيبه باسم الرحمن إشارة إلى أن قهره مقرون بلطفه يعني مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا رجاءكم. والغيب ما غاب عنا من أحوال القيامة وغيرها. وقيل: أي بالدليل وإن لم ينته إلى العيان فعند الانتهاء إلى ذلك لم يبق للخشية فائدة. ومعنى الفاء في فَبَشِّرْهُ أنك كما أنذرت وخوّفت فبشر بمغفرة واسعة وأجر كريم لا يكتنه كنهه، فكأن المغفرة بإزاء الإيمان والأجر الكريم للعمل الصالح. أو الأول لاتباع الذكر والثاني للخشية. وحين فرغ من بيان الرسالة شرع في أصل الحشر قائلا إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى على أن البشارة بالمغفرة والأجر لا يتم إلا بعد ثبوت الإعادة وهكذا خشية الرحمن بالغيب تناسب ذكر إحياء الأموات. والظاهر أن قوله نَحْنُ ضمير الفصل ويجوز أن يكون مبتدأ والفعل خبره والجملة خبر «إن» ويجوز أن يكون نَحْنُ خبر «إن» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 526 كقول القائل عند الافتخار بالشهرة: أنا أنا. كأن الله تعالى قال إنما نحن معروفون بأوصاف الكمال وإذا عرّفنا أنفسنا فلا تنكر قدرتنا على إحياء الموتى. وفي هذا التركيب أيضا إشارة إلى التوحيد أي ليس غيرنا أحد يشاركنا حتى نقول إنا كذا فنمتاز. ثم أشار إلى العلم التام الذي يتوقف عليه المجازاة فقال وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا أي أسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة. وقيل: أراد ما قدّموا وأخروا فاكتفى بأحدهما كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] والصحيح أنه لا حاجة إلى هذا التقدير لأن قوله وَآثارَهُمْ يدل عليه والمراد بها ما هلكوا عليه من أثر حسن كعلم علموه أو كتاب صنفوه أو بقعة خير عمروها أو أثر سيء كبدعة وظلامة وآلات ملاه. وقيل: هي آثار المشائين إلى المساجد. عن جابر: أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حوله خالية فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم دياركم فإنما تكتب آثاركم. وعن عمر بن عبد العزيز: لو كان الله مغفلا شيئا لأغفل هذه الآثار التي تعفيها الرياح أي تمحوها. وقيل: أراد ونكتب ما قدموا من نياتهم فإنها قبل الأعمال وآثارهم أي أعمالهم. سؤال: كيف قدم إحياء الموتى على الكتابة ولم يقل «نكتب ما قدموا ونحييهم» لأجل الجزاء؟ الجواب لأن الكتابة ليست مقصودة بالذات وإنما المقصود الأصلي هو الإحياء للجزاء ولو لم يكن إحياء وإعادة لم يكن للكتابة أثر. وأيضا قوله إِنَّا نَحْنُ دال على العظمة والجبروت، والإحياء أمر عظيم لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه بخلاف الكتابة، فقدّم الأمر العظيم ليناسب اللفظ الدال على العظمة. وأيضا أراد أن يرتب على كتابة الأعمال قوله وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ ومعناه أن قبل هذه الكتابة كتابة أخرى فإن الله كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا، ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه. وفيه بيان أن الكتابة مقرونة بالحفظ والإحصاء، فرب مكتوب غير محفوظ ولا مضبوط، وفيه تعميم بعد تخصيص كأنه قال: ليست الكتابة مختصة بأفعالهم وإنما هي لكل شيء. والإمام اللوح لأن الملائكة يتبعون ما كتب فيه من أجل ورزق وإماتة وإحياء، والمبين هو المظهر للأمور، والفارق بين أحوال الخلق، وحيث بين أن الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن قال لنبيه صلى الله عليه وسلم لا تأس. وَاضْرِبْ لنفسك ولقومك مَثَلًا مثل أَصْحابَ الْقَرْيَةِ وهي أنطاكية الروم، والمرسلون رسل عيسى عليه السلام إلى أهلها. وفي قوله إِذْ أَرْسَلْنا دلالة على أن رسول الرسول رسول وأنه يؤيد مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل وكيل الموكل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل الأول، وكأنه أرسل اثنين ليكون قولهما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 527 على قومها عند عيسى حجة تامة. وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم يكتفي بواحد في الأغلب كمعاذ وغيره فمن هنا يعلم ترجيح هذه الأمة. وأما القصة فإن عيسى عليه السلام أرسل إليهم اثنين فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنما واسمه حبيب النجار فسألهما فأخبراه فقال: ما آيتكما؟ قالا: نشفي المريض ونبرىء الأكمة والأبرص. وكان له ولد مريض من سنتين فمسحاه فبرأ فآمن حبيب وفشا الخبر فشفى على أيديهما خلق كثير ورفع خبرهما إلى الملك فأحضرا فلما سمع قولهما قال: ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم. من أوجدك وآلهتك. فحبسهما حتى ينظر في أمرهما فبعث عيسى شمعون وذلك قوله سبحانه فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ من قرأ بالتشديد فمعناه فقوّينا الرسولين، ومن قرأ بالتخفيف فمن العزة أي فغلبنا وقهرنا أهل القرية. وإنما ترك ذكر المفعول به لأن الغرض ذكر الثالث فالعناية بذكره أهم وأتم نظيره قولك: حكم السلطان اليوم بالحق الغرض الذي سيق له الكلام قولك بالحق فلذلك تركت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه. وأما باقي القصة فإن شمعون دخل متنكرا وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به فقال له ذات يوم بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه؟ قال: لا، حال الغضب بيني وبين ذلك. فدعاهما فقال شمعون: من أرسلكما قال: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال: وما آيتكما؟ قالا: ما يتمنى الملك. فدعا بغلام مطموس فدعوا الله حتى انشق له بصر وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مقلتين ينظر بهما فقال شمعون: يا أيها الملك إن شئت أن تغلبهما فقل لآلهتك حتى تصنع مثل هذا. فقال الملك: أنت لا يخفى عليك أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تقدر ولا تعلم. وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع ويحسبون أنه منهم. فقال شمعون: فالحق إذا معهم فآمن الملك وبعض حاشيته وبقي آخرون على الكفر فأهلكوا بالصيحة. قال أهل البيان: يجب زيادة المؤكدات في الجملة الخبرية بحسب تزايد الإنكار من السامع فلهذا قال الرسل أوّلا: إنا إليكم مرسلون مقتصرين على «أن» . وثانيا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ مجموعا بين «أن» واللام وما يجري مجرى القسم. ولا يخفى أن اليمين بعد إظهار البينة وإفحام الخصم مؤكد قوي كما مر في أول السورة. وفي قولهم وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ تسلية لأنفسهم أي نحن خرجنا من عهدة ما علينا ولم يبق إلا التفكر منكم والتذكر. وحيث أكد الرسل قولهم باليمن أكد الكفار قولهم بالتطير، فمن عادة الجهال أن يتيمنوا بكل ما يوافق طباعهم وهواهم ويتشاءموا بما كرهوه وكأنهم قالوا في الأول كنتم كاذبين وفي الثاني صرتم مصرين على الكذب حالفين بالأيمان الكاذبة التي تدع الديار بلاقع فتشاءمنا بكم ولا نترككم. لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالقول أو بالحجارة. وَلَيَمَسَّنَّكُمْ بعد ذلك أو بسبب الرجم بالحجارة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 528 المتوالية إلى الموت عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ أي سبب شؤمكم مَعَكُمْ وهو كفركم ومعاصيكم أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ يعني أتطيرون إن ذكرتم. ومن قرأ أين على وزن «كيف» ذكرتم بالتخفيف فالمراد شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم فضلا عن المكان الذي حللتم فيه. ثم إن الرسل كأنهم قالوا لهم أنحن كاذبون أم نحن مشؤمون بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ في عصيانكم أو ضلالكم فمن ثم أتاكم الشؤم، أو تشاءمتم بمن يجب التبرك بهم وقصدتموهم بالسوء وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ هو حبيب النجار الذي مر ذكره نصح قومه فقتلوه وقبره في سوق أنطاكية. وقيل: كان في غار يعبد الله عز وجل، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقاول الكفرة فوثبوا عليه فقتلوه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصاحب ياسين ومؤمن آل فرعون» ومن هنا قالوا: إنه آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل ولادته وذلك أنه سمع نعته من الكتب والعلماء. وتنكير رجل للتعظيم أي رجل كامل في الرجولية أو ليفيد ظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن بهم رجل من الرجال لا معرفة لهم به وكان بعيدا من التواطؤ. وقوله مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ أيضا يفيد مثل هذا أو أنهم ما قصروا في التبليغ والإنذار حتى بلغ خبرهم القاصي والداني والسعي بمعنى المشي أو بمعنى القيام في المهام أي يهتم بشأن المؤمنين ويسعى في نصرتهم وهدايتهم ونصحهم. ثم حثهم على اتباع الرسل ولم يقل اتبعوني كما قال مؤمن آل فرعون اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر: 38] لأنه جاءهم فنصحهم في أوّل مجيئه وما رأوا سيرته بعد فقال: اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لأجلكم السبيل. فقوله اتَّبِعُوا نصيحة وقوله الْمُرْسَلِينَ إظهار للإيمان وقدم النصيحة إظهارا للشفقة. وقد روي أنه كان يقتل ويقول: اللهم اهد قومي. ثم أكد وجوب الاتباع بأنهم في أنفسهم مهتدون ولا يتوقعون أجرا في الدلالة ووجوب اتباع مثل هذا الدليل للذي ضل عن سواء السبيل مركوز في العقول. ثم أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحة قومه. قال الحكيم الَّذِي فَطَرَنِي إشارة إلى وجود المقتضي. وقوله وَما لِيَ إشارة إلى عدم المانع من جانبه فإن كل امرئ هو أعلم بحال نفسه، والمقتضى وإن كان مقدما في الوضع والطبع على المانع إلا أن المقتضي هاهنا لظهوره كان مستغنيا عن البيان رأسا فقدّم عدم المانع لأجل البيان ولهذا لم يقل «وما لكم لا تعبدون» كيلا يذهب الوهم إلى أنه لعله يطلب العلة والبيان وإنما ورد في سورة نوح ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [الآية: 13] لأن القائل هناك داع لا مدعو فكأن الرجل قال: مالي لا أعبد وقد طلب مني ذلك. وفي قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بيان الخوف والرجاء ولهذا لم يقل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 529 «وإليه أرجع» كأنه جعل نفسه ممن يعبد الله لذاته لا لرغبة أو رهبة. ثم أراد كمال التوحيد فقال أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً فقوله ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي فيه إقرار بوجود الصانع الفاطر، وقوله أَأَتَّخِذُ على سبيل الإنكار نفي لغيره ممن يسمى إلها وبهما يتم معنى لا إله إلا الله. ثم عرض على عقولهم جهل عابدي الأصنام أنهم لا يقدرون على دفع ضر ولا على إيصال نفع، وقد رتب الكلام فيه على ترتيب ما يقع بين العقلاء فإن الذي يريد أن يدفع الضر عن شخص يقدم على الشفاعة له، فإن قبلت وإلا أنقذه أي خلصه بوجه من الوجوه. قال بعض المفسرين: لما أقبل القوم عليه يريدون قتله أقبل هو على المرسلين. قال إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعوا قولي لتشهدوا لي. وإنما قال بِرَبِّكُمْ ولم يقل «بربي» ليتعين أنه آمن بالرب الذي دعوه إليه. وقال أكثرهم: الخطاب للكفار وعلى هذا فالمراد به بيان التوحيد أي ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وفطركم فاسمعوا قولي وأطيعوني. وفي قوله قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ وجهان أحدهما. أنه قتل. ثم كأن سائلا سأل: كيف لقاؤه ربه بعد ذلك التصلب في نصرة الدين حتى بذل مهجته؟ فقيل: قيل ادخل الجنة. والقائل هو الله سبحانه أو الملائكة بأمره. قال جار الله: لم يذكر المقول له لانصباب الغرض إلى المقول وعظم شأنه ولأنه معلوم. ثم كأن سائلا آخر سأل: أيّ شيء تمنى في الجنة؟ فقيل: قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ وإنما تمنى علم قومه بحاله ليصير ذلك سببا لهم في التوبة والإيمان ليفوزوا بما فاز ويؤيده ما روي في حديث مرفوع أنه نصح قومه حيا وميتا. ويجوز أن يكون سبب التمني هو أن ينبهوا على خطئهم في أمره وعلى صوابه في رأيه وأن عداوتهم لم تعقبه إلا سعادة وكرامة. وثانيهما أن الرسل بشروه وهو حيّ بدخول الجنة فصدّقهم وتمنى علم قومه بحاله فيؤمنوا كما آمن. و «ما» في قوله بِما غَفَرَ مصدرية أو موصولة أي بالذي غفره لي من الذنوب، أو استفهامية يعني بأي شيء غفر لي أراد ما جرى بينه وبينهم من المصابرة والذب عن الدين إلا أن طرح الألف أجود. فقول القائل: علمت بم صنعت هذا أحسن من قوله «بما صنعت» فقوله غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ بإزاء قوله فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ثم أشار إلى كيفية إهلاك قومه بعده قائلا وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ قال المفسرون: يجوز أن يريد بقومه الذين بقوا من أهل القرية بعد المؤمنين منهم وأن يريد به أقاربه فلعل غيرهم من قوم الرسل آمنوا فلم يصبهم العذاب. ثم قال وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ أي وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جندا من السماء، ومن هنا يعلم فضل نبينا صلى الله عليه وسلم على غيره فقد أنزل الله لأجله الجنود من السماء يوم بدر والخندق وحنين وما أنزلها لغيره من نبي فضلا عن حبيب، فشتان بين حبيب الجبار وبين حبيب النجار. فالحاصل أنه تعالى يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 530 إلا مثلك وما كنا نفعله لغيرك. فمن قرأ إِلَّا صَيْحَةً بالنصب أراد ما كانت الأخذة أو العقوبة إلا بسبب صيحة، ومن قرأ بالرفع على أن «كان» التامة فمعناه ما وقعت إلا صيحة. قال جار الله: القياس والاستعمال على تذكير الفعل لأن المعنى ما وقع شيء إلا صيحة ولكنه نظر إلى ظاهر اللفظ وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل. قلت: يجوز أن يقدر ما حدثت عقوبة. وقيل: إن التأنيث لتهويل الواقعة ولهذا جاءت أسماء الجنس كلها مؤنثة. ووصف الصيحة بواحدة للتأكيد. وقرأ ابن مسعود إلا زقية وهي الصيحة أيضا ومنه المثل «أثقل من الزواقي» والزقاء صياح الديك ونحوه، وذلك لأن صياح الديكة يؤل بنزول الأنس وبتبدل الفراق بالوصال. ثم شبه هلاكهم بخمود النار وهو صيرورتها رمادا لأنهم كانوا كالنار الموقدة في القوّة الغضبية حيث قتلوا من نصحهم وتجبروا على من أظهر المعجزة لديهم. ثم بين بقوله يا حَسْرَةً أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون من الملائكة والثقلين، أو من الله عز وجل على سبيل الاستعارة وذلك لتعظيم ما صدر من تقصيرهم وبدر من تفريطهم ثم ذكر سبب التحسر بقوله ما يَأْتِيهِمْ الآية. ثم عجب من حالهم في عدم الاعتبار بأمثالهم من الأمم الخالية. وقوله أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ بدل من كَمْ أَهْلَكْنا التقدير: ألم يعلموا القرون الكثيرة المهلكة من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم. والبدل بدل اشتمال لهم لأنه حال من أحوال المهلكة أي أهلكوا بحيث لا رجوع لهم إليهم. والرجوع حسيّ وهو ظاهر، أو معنويّ وهو الرجوع بالنسب والولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم. من قرأ «لما» بالتشديد فبمعنى إلا و «أن» نافية. ومن قرأ بالتخفيف فإن مخففة و «ما» صلة تقديره. وإن كلهم لمحشورون مجموعون محضرون للحساب يوم القيامة. قال في الكشاف: كيف أخبر عن كل المجموعي بجميع؟ وأجاب بأنهما ليسا بواحد، بل الكل يفيد الشمول والجميع يفيد الانضمام وأن المحشر يجمعهم. ويحتمل أن يقال: الغرض وصف الجميع بالإحضار كقولك: الرجل رجل عالم والنبيّ نبيّ مرسل. ثم ذكر البرهان على الحشر وعلى التوحيد أيضا مع تعداد النعم وتذكيرها قائلا: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ قال المحققون: إنما قال لهم لأن الأرض ليست آية للنبي ولغيره من أهل الإخلاص الذين هم بالله عرفوا الله قبل النظر إلى الأرض والسماء كقوله أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] وقوله أَحْيَيْناها استئناف بيانا لكونها آية وكذلك نسلخ ويجوز أن يكونا وصفين على قياس. ولقد أمر على اللئيم يسبني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 531 وقوله فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ بتقديم الجار للدلالة على أن الحب هو معظم قوت الإنسان وبه قوام معاشه عادة، فنفس الأرض آية فإنها مهدهم الذي فيه تحريكهم واستكانهم والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم. وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم، ثم إحياؤها مخضرة نعمة ثانية فإنها أحسن وأنزه، ثم إخراج الحب منها نعمة ثالثة فإن قوتهم إذا كان في مكانهم كأن أجمع للقوّة والفراغ. ثم جعل الجنات فيها نعمة رابعة موجبة للتفكه وسعة العيش، ثم تفجير العيون فيها نعمة خامسة لأن ماء السماء لا يحصل الوثوق بنزوله في كل حين فذلك كالشيء المدخر القريب التناول. والضمير في قوله مِنْ ثَمَرِهِ يعود إلى الله، وفائدة الالتفات أن الثمار بعد وجود الأشجار وجريان الأنهار لا توجد إلا بتخليق الملك الجبار، ويحتمل أن يعود إلى المذكور وهو الجنات أو إلى التحصيل وترك ذكر الأعناب لأن حكمه حكم النخيل. وقيل: إلى التفجير المدلول عليه بسياق الكلام أي ليأكلوا من فوائد التفجير وهو أعم من الثمار، ويشمل جميع ما ذكره في قوله أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا إلى قوله وَفاكِهَةً وَأَبًّا [عبس: 25- 31] وقوله وَما عَمِلَتْ من قرأ بغير هاء الضمير فما موصولة أو مصدرية أي ليأكلوا من ثمر الله ومن ثمر ما عملته أو من ثمر عمل أيديهم، أو نافية فيكون إشارة إلى أن الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه، ومن قرأ مع الضمير فما موصولة والضمير لها أو نافية والضمير للتفجير أو المذكور. ومعنى عمل الأيدي ما يتكابده الناس من الحرث والسقي وغير ذلك. هذا إذا جعلت «ما» موصولة، فإن كانت نافية فالمراد الإيجاد والخلق. وقيل: عمل الأيدي التجارة. وقيل: الطبخ ونحوه. ثم نزه نفسه بقوله سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ أي الأصناف والمراد بقوله وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ أزواج لم يطلع الله الإنسان عليها بطريق من طرق المعرفة وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] قالت الأشاعرة: فيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن أفعالهم أعراض وهي داخلة تحت الأجناس. وقوله مِمَّا تُنْبِتُ لا يخرجه عن العموم لأن البيان متعدّد نظيره قول القائل: أعطيته كل شيء من الثياب والدواب والعبيد. فإنه يفهم أن تعديد الأصناف لتأكيد العموم يؤيده قوله في الزخرف الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها [الآية: 36] من غير تقييد. وحين فرغ من الاستدلال بالمكان شرع في الاستدلال بالزمان. ومعنى سلخ النهار من الليل تميزه منه. ومعنى سلخ النهار من الليل تميزه منه. قال جار الله: أصله من سلخ الجلد الشاة إذا ازاله عنها فاستعير لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وموضع إلقاء ظله. ومعنى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 532 مُظْلِمُونَ داخلون في الظلام أي لا بد لهم أن يدخلوا في الظلام إذ زال ولا يقدرون على دفعه. وفيه أن الليل كعرض أصلي يطرأ عليه النور تارة ويزول عنه أخرى. ثم كان لجاهل أن يقول: سلخ النهار إنما هو بغروب الشمس فلا جرم قال وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ أي لحدّ لها مؤقت تنتهي إليه من فلكها شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره إلا أن المسافر له قرار بعد ذلك وهذه لا قرار لها بعد الحصول في ذلك الحدّ ولكنها تستأنف الحركة منه وهو أوّل الحمل أو أحد الخافقين أو إحدى الغايتين في تصاعدها فلك نصف النهار وتنازلها أو غير ذلك من الاعتبارات. وقيل: أراد بالمستقر بيتها وهو الأسد. وقيل: أراد لجري مستقرها وهو فلكها. وقيل: هو الدائرة التي عليها حركتها الخاصة. وقال الحكيم: أراد لأمر لو وجده لاستقر وهو استخراج الأوضاع الممكنة. وقيل: أراد الوقت الذي ينقطع جريها وهو يوم القيامة. وقيل: إنه إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه قال: إن الشمس تجري فتطلع عند انقضاء الليل فيعود النهار لمنافعه وعلى هذا فالمستقر هو أفق الغرب خاصة ذلِكَ الجري على الوجوه المذكورة تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الغالب بقدرته على كل مقدور الْعَلِيمِ بمبادىء الأمور وغاياتها. ثم ذكر أمر سير القمر وقد مر في أوّل سورة يونس في قوله وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ [الآية: 5] والعرجون عود العذق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة وهو «فعلون» من الانعراج الانعطاف قاله الزجاج. والقديم ما تقادم عهده ويختلف بحسب الأعيان. فلا يقال لمدينة بنيت من سنة وسنتين هي قديمة. وقد يقال: نبت قديم وإن لم يكن له سنة. وإطلاق القديم على العالم لا يعتاد لأنه موهم إلا عند من يعتقد أنه لا أول له. وقال في الكشاف: القديم المحول وهو أول ما يوصف بالقدم، فلو أن رجلا قال: كل مملوك لي قديم فهو حر وكتب ذلك في وصية، عتق منهم من مضى له حول وأكثر. وإذا قدم العرجون دق وانحنى واصفرّ فشبه انقراض الشهر به من الوجوه الثلاثة. ثم بين أن لكل واحد من النيرين حركة مقدرة وسلطانا على حياله لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ لتباطوء سيرها عن سيره وَلَا اللَّيْلُ أي ولا تسبق آية الليل- وهو القمر- آية النهار- وهي الشمس- أي لا يداخل القمر الشمس في سلطانها. وقيل: أراد أن الليل لا يدخل في وقت النهار. وقيل: إنه إشارة إلى الحركة اليومية التي بها يحدث الليل والنهار. والمراد أن القمر لا يسبق الشمس بهذه الحركة لأنها تشملهما على السواء، وهكذا جميع الكواكب فلا يقع بسببها تقدم ولا تأخر ولهذا لم يقل «يسبق» على قياس تدرك أي ليس من شأنه السبق إذ الكواكب كأنها كلها ساكنة بهذه الحركة. وأقول: يحتمل أن يراد لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا القمر ينبغي أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 533 يتخلف، فحذف إحدى القرينتين للعلم به كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] وكذا الكلام في قوله وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أراد ولا النهار سابق الليل أي لا يدخل شيء منهما في غير وقته. سلمنا أن المراد بالليل والنهار آيتهما لكنه يمكن أن يقال: إنه إشارة إلى الحركة الدورية لأنه لما قال: إن الشمس لبطء سيرها لا تدرك القمر. فهم منه أن القمر يسبق الشمس بحركته، فأشار إلى أن هذا السبق ليس على قياس المتحركات على الاستقامة ولكنه سبق هو بعينه موجب للقرب، وهذا معنى قول أهل الهيئة إن الكوكب هارب عن نقطة ما طالب لها بعينه. وأما قوله وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فقد مرّ تفسيره في سورة الأنبياء. ولما بين ما هو كالضروري لوجود الإنسان من المكان والزمان وما يتبعه ويسبقه، شرع في تقرير ما هو نافع لهم في أحوال المعاش. قال بعض المفسرين: أراد بحمل الذرية حمل آبائهم وهم في أصلابهم. والفلك فلك نوح ومثله هو ما يركبون الآن عليه من السفن والزوارق. قال جار الله: وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح، ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل. ومن فوائد ذكر الذرية أن من الناس من لا يركب السفينة طول عمره ولكنه في ذريته من يركبها غالبا. وذهب آخرون إلى أن المراد حمل أولادهم ومن يهمهم حمله كالنساء. وقد يقع اسم الذرية عليهن لأنهن مزارع الأولاد. في الحديث «إنه نهى عن قتل الذراري» يعني النساء فكأنه قيل: إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره وعلى هذا يكون قوله وَخَلَقْنا لَهُمْ إلى آخره اعتراضا، ومثل الفلك ما يركبون من الإبل لأنها سفائن البر. وفي وصف الفلك بالمشحون مزيد تقرير للقدرة والنعمة فإن الفلك إذا كان خاليا كان خفيفا لا يرسب في الماء بالطبع. ثم ذكر ما يؤكد كونه فاعلا مختارا قائلا وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وهو مصدر أو صفة أي لا إغاثة أو لا مغيث. وقوله إِلَّا رَحْمَةً إشارة إلى أن الإنقاذ رحمة بالنسبة إلى المؤمن ومتاع إلى حلول الأجل بالإضافة إلى الكافر، أو المراد أن أحد لا يتخلص من الموت وإن سلم من الآفات ولله در القائل: ولم أسلم لكي أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام التأويل: يس إشارة إلى أنه بلغ في السيادة مبلغا لم يبلغه أحد من المرسلين تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ فيه أنه لعزته لا يحتاج إلى تنزيل القرآن ولكن رحمته اقتضت ذلك نُحْيِ القلوب الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا من الأنفاس المتصاعدة ندما وشوقا، وآثار خطا أقدام صدقهم وآثار دموعهم على خدودهم أَصْحابَ الْقَرْيَةِ القلوب إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ من الخواطر الرحمانية والإلهامات الربانية بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 534 الخلود فَكَذَّبُوهُما النفس وصفاتها فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ من الجذبة إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لأن النفس وصفاتها لا يوافقهما ما يدعو الإلهام والجذبة إليه طائِرُكُمْ مَعَكُمْ لأن النفس خلقت من العدم على خاصيتها المشئومة رَجُلٌ يَسْعى هو الروح المشتاق إلى لقاء الحق لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً لأنه لا شرب له من مشاربكم. قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ وهي عالم الأرواح وهو كقوله يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إلى قوله وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر: 30] عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ أي بعد رجوع الروح إلى الحضرة ما أنزل إلى النفس وصفاتها ملائكة من السماء لأنهم لا يقدرون على النفس وصفاتها وإصلاح حالها، فإن صلاحها في موتها والمميت هو الله. صَيْحَةً واحِدَةً من وارد حق فَإِذا هُمْ يعني النفس وصفاتها خامِدُونَ ميتون عن أنانيته بهويته أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا فيه إشارة إلى أن هذه الأمة خير الأمم شكى معهم من كل أمة وما شكى إلى أحد من غيرهم شكايتهم وَآيَةٌ لَهُمُ القلوب الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها بالطاعة ونخيل الأذكار وأعناب الأشواق وعيون الحكمة وثمر المكاشفات وعمل الخيرات والصدقات خَلَقَ الْأَزْواجَ من الآباء العلوية والأمهات السفلية مِمَّا تُنْبِتُ أرض البشرية بازدواج الكاف والنون. وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ بازدواج الروح والقلب وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ من تأثير العناية في قلوب المخلصين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت وَآيَةٌ لَهُمُ ليل البشرية نَسْلَخُ مِنْهُ نهار الروحانية فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ بظلمة الخليقة فإن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره. وشمس نور الله تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها وهو قلب استقر فيه رشاش نور الله وقمر القلب قَدَّرْناهُ ثمانية وعشرين منزلا على حسب حروف القرآن وأسماؤها: الألفة والبر والتوبة والثبات والجمعية والحلم والخلوص والديانة والذلة والرأفة والزلفة والسلامة والشوق والصدق والصبر والطلب والظمأ والعشق والعزة والفتوة والقربة والكرم واللين والمروءة والنور والولاية والهداية واليقين. فإذا قطع كل المنازل فقد تخلق بخلق القرآن ولهذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 90] وهو آخر المنازل والمقامات، فإن السالك يألف الحق أوّلا ثم يتوب فيثبت على ذلك حتى تحصل له الجمعية، وعلى هذا يعبر المقامات حتى يصير كاملا كالبدر، ثم يتناقص نوره بحسب دنوّه من شمس شهود الحق إلى أن يتلاشى ويخفى وهو مقام الفقر الحقيقي الذي افتخر به نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله «الفقر فخري» . ثم أشار بقوله لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها إلى أن الرب لا يصير عبدا ولا العبد ربا. ثم ذكر أن العوام محمولون في سفينة الشريعة والخواص في بحر الحقيقة كلاهما بفلك العناية وملاحة أرباب الطريقة، ومثل ما يركبون هو جناح همة المشايخ. وَإِنْ نَشَأْ نغرق العوام في بحر الدنيا والرخص والخواص في بحر الشبهات والإباحة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 535 [سورة يس (36) : الآيات 45 الى 83] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 536 القراآت: يَخِصِّمُونَ بفتحتين ثم كسر الصاد المشددة: ابن كثير وورش وسهل ويعقوب وأصله «يختصمون» أدغمت التاء في الصاد بعد نقل حركتها إلى الخاء، وقرأ أبو جعفر ونافع غير ورش بسكون الخاء، وقرأ أبو عمرو بإشمام الفتحة قليلا وقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من الخصم ثلاثيا. الباقون: بكسر الخاء للاتباع وتشديد الصاد. وروى خلف عن يحيى بكسر الياء والخاء والتشديد. شُغُلٍ بضمتين: عاصم وخلف وابن عامر ويزيد ويعقوب. فكهون وبابه بغير ألف: يزيد. ظل بضم الظاء وفتح اللام: حمزة وعلي وخلف على أنه جمع ظلة. الآخرون: ظِلالٍ جمع ظل جِبِلًّا بضم الجيم وسكون الباء. ابن عامر وأبو عمرو. وقرأ أبو جعفر ونافع وعاصم وسهل بكسرتين واللام مشددة، وقرأ يعقوب بضمتين والتشديد. والباقون: بضمتين والتخفيف نُنَكِّسْهُ مشددا: حمزة وعاصم غير مفضل. الآخرون: بالتخفيف من النكس. تعقلون بتاء الخطاب: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب لتنذر على الخطاب أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب يقدر على صيغة المضارع: يعقوب كن فيكون بالنصب: ابن عامر وعلي. الوقوف: تُرْحَمُونَ هـ مُعْرِضِينَ هـ رَزَقَكُمُ اللَّهُ لا لأن ما بعده جواب «إذا» أَطْعَمَهُ لا كذلك لاتحاد المقول ولئلا يبتدأ بما لا يقوله مسلم. وجوز جار الله أن يكون قوله إِنْ أَنْتُمْ قول الله أو حكاية قول المؤمنين لهم فالوقف جائز. مُبِينٍ هـ صادِقِينَ هـ يَخِصِّمُونَ هـ يَرْجِعُونَ هـ يَنْسِلُونَ هـ مَرْقَدِنا هـ لئلا يوهم أن هذا صفة وما بعده منفي وفيه وجوه أخر نذكرها في التفسير الْمُرْسَلُونَ هـ مُحْضَرُونَ هـ تَعْمَلُونَ هـ فاكِهُونَ هـ ج لاحتمال أن هُمْ تأكيد الضمير وأَزْواجُهُمْ عطف عليه وفِي ظِلالٍ ظرف فاكِهُونَ، ولاحتمال أن ما بعده مبتدأ وخبره مُتَّكِؤُنَ يَدَّعُونَ هـ ج لأنه من المحتمل أن يكون سَلامٌ خبر محذوف أي عليهم سلام يقول قولا، وأن يكون سَلامٌ بدل ما يَدَّعُونَ أي لهم ما يتمنون وهو سلام سَلامٌ ط ج لحق الحذف رَحِيمٍ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ الشَّيْطانَ ج لأن التقدير فإنه مُبِينٌ هـ لا للعطف اعْبُدُونِي ج مُسْتَقِيمٌ هـ كَثِيراً هـ تَعْقِلُونَ هـ تُوعَدُونَ هـ تَكْفُرُونَ هـ يَكْسِبُونَ هـ يُبْصِرُونَ هـ يَرْجِعُونَ هـ فِي الْخَلْقِ ط يَعْقِلُونَ هـ له ج مُبِينٌ هـ الْكافِرِينَ هـ مالِكُونَ هـ يَأْكُلُونَ هـ وَمَشارِبُ هـ يَشْكُرُونَ هـ يُنْصَرُونَ ج نَصْرَهُمْ لا لأن الواو للحال مُحْضَرُونَ هـ قَوْلُهُمْ هـ لئلا يوهم أن ما بعده مقول الكفار يُعْلِنُونَ هـ مُبِينٌ هـ خَلْقَهُ ط رَمِيمٌ هـ مَرَّةٍ ط عَلِيمٌ هـ لا لأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 537 الَّذِي بدل تُوقِدُونَ هـ مِثْلَهُمْ ط لانتهاء الاستفهام الْعَلِيمُ هـ فَيَكُونُ هـ تُرْجَعُونَ هـ. التفسير: لما بين الآيات المذكورة حكى أنهم في غاية الجهالة ونهاية الضلالة، لا مثل العلماء الذين يتبعون البرهان، ولا كالعوام الذين يبنون أمورهم على الأحوط إذا أنذرهم منذر انتهوا عن ارتكاب المنهي خوفا من تبعته وطمعا في منفعته وإليه الإشارة بقوله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي في ظنكم فإن الذي لا تفيده الآيات يقينا فلا أقل من أن يحترز من العذاب ويرجو الثواب أخذا بطريقة الاحتياط، ونظير الآية ما مرّ في أوّل سورة سبأ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الآية: 9] وعن مجاهد: أراد ما تقدّم من ذنوبكم وما تأخر. وعن قتادة: ما بين أيديكم من وقائع الأمم وما خلفكم أي من أمر الساعة. وقيل: ما بين أيديكم من أمر الساعة. وقيل: ما بين أيديكم الآخرة فإنهم مستقبلون لها، وما خلفكم الدنيا فإنهم تاركون لها. أو ما بين أيديكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم فإنه حاضر عندهم وما خلفكم من أمر فإنكم إذا اتقيتم تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم والحشر رحمكم الله. أو ما بين أيديكم من أنواع العذاب كالحرق والغرق المدلول عليه بقوله وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ ما خلفكم الموت الطالب لكم يدل على قوله وَمَتاعاً إِلى حِينٍ وجواب «إذا» محذوف وهو لا يتقون أو يعرضون، يدل عليه ما بعده مع زيادة فائدة هي دأبهم الإعراض عند كل آية. ويحتمل أن يكون قوله وما تَأْتِيهِمْ متعلقا بما قبله وهو قوله يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يعني إذا جاءتهم الرسل كذبوهم فإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها. وقوله أَلَمْ يَرَوْا إلى قوله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ اعتراض. ثم أشار إلى أنهم كما يخلون بجانب التعظيم لأمر الله حيث قيل لهم اتقوا فلم يتقوا يخلون بجانب الشفقة على خلق الله ولا ينفقون إذا أمروا بالإنفاق على أنهم خوطبوا بأدنى الدرجات في التعظيم والإشفاق، فإن أدنى الانقياد الاتقاء من العذاب، وأدنى الإشفاق هو إنفاق بعض ما في التصرف من مال الله، فأين هم من معشر أقبلوا بالكلية على الله وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله؟ وفي قوله مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ إشارة إلى أن الله تعالى قادر على إغناء الفقير وإعطائه ولكنه جعل الغني واسطة في الإنفاق على الفقير. فالسعيد من عرف حق التوسيط وانتهز فرصة الإمكان وعلم أن الإنفاق سبب للبركة في الحال ومجلبة للثواب في المآل. وقوله قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا دون أن يقول «قالوا» تسجيل عليهم بالكفر. وقوله لِلَّذِينَ آمَنُوا مزيد تصوير لجهالتهم حين قالوا لهؤلاء الأشراف ما قالوا. وقوله أَنُطْعِمُ دون «أننفق» إظهار لغاية خستهم فإن الإطعام أدون من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 538 الإنفاق ومن بخل بالأدون فهو بأن يبخل بالأكثر أولى. وقوله مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ كلام في نفسه حسن لكنهم ذكروه في معرض الدفع فلهذا استوجبوا الذم وقد بين الله خطأهم بقوله مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فإن من في خزائنه مال وله في يد الغير مال فإنه مخير إن أراد أعطى زيدا مما في خزائنه وإن شاء أعطاه مما في يد الغير وليس لذلك الغير أن يقول لم أحلته عليّ. وقوله إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ بناء على ما اعتقدوه أن الأمر بالإنفاق ضائع، لأنه سعي في إبطال مشيئة الله ولم يعلموا أن الضلال لا يتعدّاهم أيه سلكوا، وذلك أنهم لم ينظروا إلى الأمر والطلب وبادروا إلى الاعتراض، والطاعة هي اتباع الأمر لا الاستكشاف عن الغرض والغاية. ومن جملة تعنتهم أنهم استبطؤا الموعود على الاتقاء والإنفاق قائلين إِنْ كُنْتُمْ أيها المدّعون للرسالة صادِقِينَ فأخبرونا متى يكون هذا الموعود به من الثواب والعقاب فأجابهم الله تعالى بقوله ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً كأنهم بالاستبطاء كانوا منتظرين شيئا. وتنكير صيحة للتهويل ووصفها بواحدة تعظيم للصيحة وتحقير لشأنهم أي صيحة لا يحتاج معها إلى ثانية، وفي قوله تَأْخُذُهُمْ أي تعمهم بالأخذ مبالغة أخرى، وكذا في قوله وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي يشتغلون بمتاجرهم ومعاملاتهم وسائر ما يتخاصمون فيه ومع ذلك يصعقون. وقيل: تأخذهم وهم يختصمون في أمر البعث قائلين إنه لا يكون. ثم بالغ في شدّة الأخذ بقوله فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وفي قوله فَلا يَسْتَطِيعُونَ دون أن يقول «فلا يوصون» مبالغة لأن من لا يوصي قد يستطيعها، وكذلك في تنكير توصية الدال على التقليل، وكذا في نفس التوصية لأنها بالقول والقول يوجد أسرع من الفعل من أداء الواجبات وردّ المظالم، وقد تحصل التوصية بالإشارة فالعاجز عنها عاجز عن غيرها. وفي قوله وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ بيان لشدّة الحاجة إلى التوصية فإن الذي يقطع بعدم الوصول إلى أهله كان إلى الوصية أحوج. وفيه تنبيه على أن الميت لا رجوع له إلى الدنيا ولا اجتماع له بأهله مرة أخرى إلى حين يبعثون. ثم بين حال النفخة الثانية، والأجداث القبور والنسلان العدو. وكيف صارت النفختان مؤثرتين في أمرين متضادين الإماتة والإحياء؟ نقول: لا مؤثر إلا الله، والنفخ علامة على أن الصوت يوجد التزلزل وأنه قد يصير سببا لافتراق الأجزاء المجتمعة تارة ولاجتماع المتفرقة أخرى. ثم إن أجزاء كل بدن قد تحصل في موضع هو بمنزلة جدثه، أو أعطى للأكثر حكم الكل. وذكر الرب في هذا الموضع للتخجيل فإن من أساء واضطر إلى الحضور عند من أحسن إليه كان أشدّ ألما وأكثر ندما. وقوله يَنْسِلُونَ لا ينافي قوله في موضع آخر فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] فلعل ذلك في أول الحالة ثم يحصل لهم سرعة المشي من غير اختيارهم. ويمكن أن يقال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 539 إن هيئة الانتظار ليست بمنافية للمشي بل مؤكدة له ومعينة عليه. وفي «إذا» المفاجأة إشارة إلى أن الإحياء والتركيب والقيام والعدو كلها تقع في زمان النفخ. ثم بين أنهم قبل النسلان قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا كأنهم شكوا في أنهم كانوا موتى فبعثوا أو كانوا نياما فتنبهوا فجمعوا في السؤال بين الأمرين: البعث والمرقد. عن مجاهد: للكفار. هجعة يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح بأهل القبور قالوا ذلك، ثم أجابهم الملائكة في رواية ابن عباس، والمتقون على قول الحسن هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ كأنه قيل: ليس بالبعث الذي عرفتموه وهو بعث النائم من مرقده حتى يهمكم السؤال عن الباعث أن هذا هو البعث الأكبر الذي وعده الرحمن في كتبه المنزلة على لسان رسله الصادقين. والظاهر أن هذا مبتدأ وما وَعَدَ الرَّحْمنُ إلى آخره خبره، و «ما» مصدرية أي هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالمصدر. ويجوز أن يكون «ما» موصولة أي هذا الذي وعده الرحمن وصدقه المرسلون أي صدقوا فيه. وجوّز جار الله أن يكون هذا صفة للمرقد وما وَعَدَ خبر مبتدأ محذوف أي هذا وعد الرحمن، أو مبتدأ محذوف الخبر أي ما وعده الرحمن وصدقه المرسلون حق عليكم. وقيل: إن قوله هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ من كلام الكافرين كأنهم تذكروا ما سمعوا من الرسل فأجابوا به أنفسهم، أو أجاب بعضهم بعضا. ثم عظم شأن الصيحة بالنسبة إلى المكلفين وحقر أمرها بالإضافة إلى الجبار قائلا إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً الآية. وقد مر نظيره. ثم بين ما يكون في ذلك اليوم قائلا فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ أيها الكافرون إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وفيه إشارة إلى أن عدله عام وفضله خاص بأهل الإيمان وفيه أنهم إذا جمعوا لم يجمعوا إلا للعدل أو الفضل فالفاء فيه كما في قول القائل للوالي أو للقاضي: جلست للعدل فلا تظلم. أي ذلك يقتضي هذا ويستعقبه. وقوله ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إشارة إلى عدم الزيادة فإن الشيء لا يزيد على عينه كقولك: فلان يجازيني حرفا بحرف. أي لا يترك شيئا. ويجوز أن يراد الجنس أيّ لا تجزون إلا جنس العمل حسنا أو سيئا. ثم فصل حال المحسنين بطريق الحكاية في ذلك اليوم تصويرا للموعود وترغيبا فيه فقال إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ لا يكتنه كنهه وفيه وجوه أقواها أنهم مشغولون عن هول ذلك اليوم بما لهم من الكرامات والدرجات. وقوله فاكِهُونَ مؤكد لذلك المعنى أي شغلوا عنه باللذة والسرور لا بالويل والثبور. وثانيها أنه بيان لحالهم ولا يريد أنهم شغلوا عن شيء بل المراد أنهم في عمل، ثم بين عملهم بأنه ليس بشاق بل هو ملذ محبوب. وثالثها أنهم تصوروا في الدنيا أمورا يطلبونها في الجنة فإذا رأوا فيها ما لم يخطر ببالهم اشتغلوا به عنها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 540 وعن ابن عباس أن الشغل افتضاض الأبكار أو ضرب الأوتار. وقيل: التزاور. وقيل: ضيافة الله. وعن الكلبي: هم في شغل عن أهاليهم من أهل النار لا يهمهم أمرهم لئلا يدخل عليهم تنغيص من تنعمهم. والفاكه والفكه المتنعم المتلذذ ومنه الفاكهة لأنها تؤكل للتلذذ لا للتغذي والفكاهة الحديث لأجل التلذذ لا للضرورة. والأزواج ظاهرها زوج المرأة وزوجة الرجل. وقيل: أراد أشكالهم في الأحساب وأمثالهم في الإيمان كقوله وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص: 58] قال أهل العرفان: من شرائط السماع الزمان والمكان والإخوان فقوله هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ إشارة إلى عدم الوجوه الموحشة وأن لهم في ظل الله ما يمنع الإيذاء كقوله لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الدهر: 13] وقوله عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ دليل على القوّة والفراغة والتمكن من أنواع الملاذ. وقوله لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ إشارة إلى سائر أنواع الملاذ الزائدة على قدر الضرورة. وقوله وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ إشارة إلى دفع جميع حوائجهم وما يخطر ببالهم. قال الزجاج: هو افتعل من الدعاء أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم. وقال جار الله: هو للاتخاذ أي ما يدعون به أو ما يدعون به أو ما يدعون لأنفسهم كقولك: يشتوي. أي اتخذ لنفسه شواء. أو هو بمعنى التداعي. وعلى الوجهين إما أن يراد كل ما يدعو به الله أحد أو كل ما يطلبه من صاحبه فإنه يجاب له بذلك، أو يراد أن كل ما يصح أن يدعى به ويطلب فهو حاصل لهم قبل الطلب. وقيل: معناه يتمنون من قولهم: ادّع عليّ ما شئت أي تمنه عليّ. وقيل: هو من الدعوى وذلك أنهم كانوا يدّعون في الدنيا أن الله هو مولاهم وأن الكافرين لا مولى لهم بينه قوله سَلامٌ يقال لهم قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أي من جهته بواسطة الملائكة. وقيل: أراد لهم ما يدّعون سالم خالص لا شوب فيه. وقَوْلًا أي عدة وعلى هذا يكون قوله لَهُمْ للبيان وما يَدَّعُونَ سَلامٌ مبتدأ وخبر كقولك: لزيد الشرف متوفر. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون قَوْلًا نصبا على التمييز لأن السلام من الملك قد يكون قولا وقد يكون إشارة. وقال أهل البيان قوله وَامْتازُوا معطوف على المعنى كأنه قيل: دوموا أيها المؤمنون في النعيم وامتازوا اليوم أيها المجرمون. أو قلنا لأهل الجنة: إنكم في شغل وقلنا لأهل النار: امتازوا وهو كقوله فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] أو تميزوا في أنفسكم غيظا وحنقا فلا دواء لألمكم ولا شفاء لسقمكم كقوله في صفة جهنم تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك: 8] أو افترقوا خلاف ما للمؤمن من الاجتماع بالإخوان فلا عذاب كفرقة الأخدان يؤيده ما روي عن الضحاك: لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى. وعن قتادة: أراد اعتزلوا عن كل خير ترجون، أو امتازوا عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 541 شفعائكم وقرنائكم. أو المراد تميزهم بسواد الوجه وزرقة العين وبأخذ الكتاب بالشمال وبخفة الميزان وغير ذلك. وقال صاحب المفتاح: قوله إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ إلى آخر الآيات خطاب لأهل المحشر بدلالة الفاء في قوله فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ بعد قوله إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وقد جاء في التفاسير أن قوله إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ إنما يقال حين يسار بهم إلى الجنة فيؤل معنى الكلام إلى قول القائل إن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر يؤل حالهم إلى أسعد حال فليمتازوا عنكم إلى الجنة، وامتازوا أنتم عنهم أيها المجرمون. ثم كان لسائل أن يقول: إن الإنسان خلق ظلوما جهولا والجهل عذر فبين الله تعالى أن الأعذار زائلة قائلا أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ والآية إلى قوله أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ شبه اعتراض، فيه توبيخ لأهل النار وما ذلك العهد عن بعضهم أنه الذي مر ذكره في قوله وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ [طه: 115] وقيل: هو المذكور في قوله وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ [الأعراف: 172] وقيل: هو المبين على لسان الرسل. ومعنى لا تَعْبُدُوا لا تطيعوا ولا تنقادوا وسوسته وتزيينه. وقوله هذا إشارة إلى ما عهد إليهم من مخالفة الشيطان وعبادة الرحمن. قال أهل المعاني: التنوين في قوله صِراطٌ للتعظيم إذ لا صراط أقوم منه، أو للتنويع أي هذا بعض الطرق المستقيمة، ففيه توبيخ لهم على العدول عنه كما يقول الرجل لولده وقد نصحه النصح البالغ: هذا فيما أظن قول نافع غير ضار. وفي ذكر الصراط هاهنا إشارة إلى أن الإنسان في دار التكليف مسافر والمجتاز في بادية يخاف فيها على نفسه وماله لا يكون عنده شيء أهم من معرفة طريق قريب أمن. ثم بين لهم عدواة الشيطان بقوله وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا وهو في لغاته كلها بمعنى الخلق من جبله الله على كذا أي طبعه عليه. عن علي رضي الله عنه أنه قرأ جيلا بياء منقوطة من تحت بنقطتين. ثم أشار إلى محل امتياز المجرمين إليه بقوله هذِهِ جَهَنَّمُ وقوله اصْلَوْهَا أمر إهانة وتنكيل نحو ذق. وفي قوله الْيَوْمَ إشارة إلى أن اللذات قد مضت وأيامها قد انقضت وليس بعد ذلك إلا العقاب. روى أهل التفسير أنهم يجحدون يوم القيامة كفرهم في الدنيا فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم. وفي الحديث «يقول العبد يوم القيامة إني لا أجيز شاهدا إلا من نفسي فيختم على فيه ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعد الكنّ وسحقا فعنكن كنت أناضل» «1» قال المتكلمون: إنه لا يبعد من الله تعالى إنطاق كل جرم من الأجرام إنطاق اللسان وهو فاعل لما يشاء. قال الحكيم: إنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانهتاك أستارهم فيقفون ناكسي الرؤوس وقوف القنوط اليئوس.   (1) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث 17. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 542 وتكلم الأعضاء عبارة عن ظهور إمارات الذنوب عليهم بحيث لا يبقى للإنكار مجال كقول القائل: الحيطان تبكي على صاحب الدار إذا ظهر أمارات الحزن وأسبابه. ثم إنه تعالى أسند الختم إلى نفسه وأسند التكلم والشهادة إلى الأيدي والأرجل لكيلا يقال: إن الإقرار بالإجبار غير مقبول. وأيضا إنه أسند التكلم إلى الأيدي والشهادة إلى الأرجل لأن الأعمال مستندة إلى الأيدي غالبا كقوله وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] فهي كالعاملة، والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره. وإنما جعلت الشهادة عليهم منهم لأن غيرهم إما صالحون وهم أعداء للمجرمين فلهم أن يقولوا شهادتهم غير مقبولة في حقنا، وإما فاسقون وشهادة الفسقة غير مقبولة شرعا. وهاهنا نكتة وهي أن الختم لازم للكفار في الدارين، ختم الله على قلوبهم في الدنيا وكان قولهم بأفواههم كما قال يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: 167] ثم إذا ختم على أفواههم أيضا في الآخرة لزم أن يكون قولهم بسائر أعضائهم. هذا وقد ذكرنا مرارا أنه تعالى كلما يذكر تمسك الجبرية يذكر عقيبه تمسك القدرية وبالعكس. وكان للقدرية أن تتمسك بقوله يَكْسِبُونَ تَكْفُرُونَ حيث أسند الله الكفر والكسب إليهم فلا جرم عقبه بتمسك الجبري وهو قوله وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا ووجه التمسك أن إعماء البصائر شبه إعماء الأبصار، وسلب القوّة العقلية كسلب القوّة الجسمية. فكما أنه لو شاء لطمس على أبصارهم حتى لا يهتدوا إلى الطريق القاهر الظاهر ولو شاء لسلب قوّة جسومهم بالمسخ حتى لا يقدروا على تقدم ولا تأخر، فكذلك إذا شاء أعمى البصائر وسلب قواهم العقلية حتى لم يفهموا دليلا ولم يتفكروا في آية. والطمس محو أثر شق العين. قال جار الله فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ أصله فاستبقوا إلى الصراط فانتصب بنزع الخافض. والمعنى لو شاء لمسخ أعينهم فلو راموا أن يسبقوا إلى الصراط الذي عهدوه واعتادوا على سلوكه إلى مساكنهم لم يقدروا عليه إذ الصراط طريق الاستباق، والاستباق مضمن معنى الابتدار. فالمراد لو شاء لأعماهم حتى لو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف أو مبتدرين إياه كما كان هجيراهم لم يستطيعوا. أو يجعل الصراط مسبوقا لا مسبوقا إليه، فالمعنى لو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوه لعجزوا ولم يقدروا إلا على سلوك الطريق المعتاد كالعميان يهتدون فيما ألفوا من المقاصد والجهات دون غيرها. عن ابن عباس: أراد لمسخناهم قردة وخنازير. وقيل: حجارة. وعن قتادة: لأقعدناهم على أرجلهم أو أزمناهم على أرجلهم. والمكان والمكانة واحد أراد مسخا مجمدا بحيث لا يقدرون أن يرجعوا مكانهم. وإنما قدم الطمس على المسخ تدرّجا من الأهون إلى الأصعب، فإن الأعمى قد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 543 يهتدي إلى وجوه التصرف بأمارات عقلية أو حسية غير البصر. وأما الممسوخ على مكانه فلا يهتدي إلى شيء أصلا. ولمثل ما قلنا قدم المضيّ على الرجوع فإن سلوك طريق قد رآه مرة يكون أهون مما لم يره أصلا، فنفى أوّلا استطاعة الأصعب ثم نفى استطاعة الأهون أيضا لأجل المبالغة. وحين قطع الأعذار بسبق الإنذار وذلك في قوله أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ شرع في قطع عذر آخر للكافر وهو أن يقول: لم يكن لبثنا في الدنيا إلا يسيرا ولو عمرتنا لما وجدت منا تقصيرا فقال الله تعالى وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ كقوله وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [الحج: 5] افلا تعقلون أنكم كلما دخلتم في السن ضعفتم وقد عمرتم ما تمكنتم فيه من النظر والعمل، ومن لم يأت بالواجب في زمان الإمكان لم يأت به في زمن الأزمان. وعن بعضهم: طوى العصران ما نشراه مني ... فأبلى جدّتي نشر وطيّ أراني كل يوم في انتقاص ... ولا يبقى على النقصان شيّ وقال آخر: أرى الأيام تتركني وتمضي ... وأوشك أنها تبقى وأمضي علامة ذاك شيب قد علاني ... وضعف عند إبرامي ونقضي وما كذب الذي قد قال قبلي ... إذا ما مر يوم مر بعضي وحيث بين أصل الوحدانية والحشر في هذه السورة مرات أقربها قوله وَأَنِ اعْبُدُونِي وقوله هذِهِ جَهَنَّمُ إلى آخرها عاد إلى أصل الرسالة بقوله وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وإنما لم يقل وما علمناه السحر ولا الكهانة مع أنهم ادّعوا أنه ساحر كاهن لأنه ما تحدّاهم إلا بالقرآن. وإنما نسبوه إلى السحر عند إظهار فعل خارق كشق القمر وحنين الجذع إليه، ونسبوه إلى الكهانة عند إخباره عن الغيوب وهو نوع خاص من الكلام من غير اعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية. قال جار الله معنى قوله وَما يَنْبَغِي لَهُ أنه لا يتأتى له ولا يتسهل كما جعلناه أميا لا يهتدي للخط. وروي عن الخليل أن الشعر كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام ولكن كان لا يتأتى له. قال: وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وقال: هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت كلام اتفاقي من غير قصد وتعمد، والشعر كلام موزون مقفى مع تعمد. وقيل: أراد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 544 نفي الشعر عن القرآن فقال وَما عَلَّمْناهُ بتعليم القرآن الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي للقرآن أن يكون شعرا وأنا أقول: الأحسن أن يقال: ما ينبغي له معناه أنه لا يليق بجلالة منصبه لأن الشعر مادته كلام يفيد تأثيرا دون التصديق وهو التخييل، وأما الوزن والقافية فهما كالصورة ويفيدانه ترويجا وتزيينا فجلّ رتبته من التخييل الذي هو قريب من المغالطة، ولهذا لم يؤمر بأن يدعو بهما إلى سبيل ربه. وإنما أمر بأن يدعو إلى الدين بسائر أصناف الكلام حيث قيل ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] ونظيره قوله هاهنا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي موعظة وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ذو البيان أو الإبانة وأنه يشمل البرهان والجدل. أما البرهان فظاهر، وأما الجدل فلأن النتيجة إذا كانت في نفسها حقة. فالرجل العالم المحق ليس عليه إلا إفحام الخصم الألدّ وإلزامه بمقدّمات مسلمة أو مشهورة، ومما يؤيد ما ذكرنا ما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قول طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد هكذا: ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار. ولا ريب أنه كان يتأتى له رواية الشعر إن لم يتأت له قرضه، وما ذاك إلا للتنزه عما يشبه ما يشين رتبته ولا يوافق مغزاه. ويروى أنه صلى الله عليه وسلم حين قال: هل أنت إلا إصبع دميت انقطع الوحي أياما حتى قالت الكفار إن محمدا قد ودعه ربه وقلاه، وهذا أحد أسباب نزول تلك الآية. ولمثل ما قلنا لم يرو عنه كلام منظوم وإن كان حقا وصدقا كالذي قاله بعض الشعراء في التوحيد والحقائق. وقد أشار إلى نحو ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم «إن من الشعر لحكمة» «1» وقد مر في تفسير قوله سبحانه في آخر الشعراء إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الآية: 227] وذلك أن الشاعر يقصد لفظا فيوافقه معنى حكمي. وبالجملة لا يخلو الشعر عن تكلف ما، وقد يدعوه النظم إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ، فأين الشارع من الشاعر؟ ثم بين كون القرآن منزلا على هذا الوجه بقوله لتنذر يا محمد أو لينذر هو أي القرآن مَنْ كانَ حَيًّا عاقلا متأملا. ويجوز أن تكون الحياة عبارة عن الإيمان، أو المراد بالحي من يؤل حاله إلى الإيمان. أو المراد بالإنذار الانتفاع به مثل هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: 11] وقوله وَيَحِقَّ الْقَوْلُ كقوله في أول   (1) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 90. الترمذي في كتاب الأدب باب 69. ابن ماجة في كتاب الأدب باب 41. الدارمي في كتاب الاستئذان باب 69. أحمد في مسنده (1/ 269) (3/ 456) (5/ 125) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 545 السورة لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ وقد مر وهذا كلام مطابق من حيث المعنى كأنه قال: لتنذر من كان حيا ويحق القول على من كان ميتا لأن الكافر في عداد الموتى. ثم عاد إلى تقرير دلائل الوحدانية مع تعداد النعم فقال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أي من جملة ما عملته أَيْدِينا فاستعار عمل الأيدي لتفرده بالأحداث والإيجاد مع اشتمال المحدث والموجد على غرائب وعجائب حتى قال فيه أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 11] وقوله فَهُمْ لَها مالِكُونَ إشارة إلى إتمام الإنعام في خلق الأنعام. وقوله وَذَلَّلْناها لَهُمْ إشارة إلى ما فوق التمام فقد يملك الشيء ولا يكون مسخرا، ومن الذي يقدر على تذليل الإبل لولا أمر الله بتسخيرها حتى قال بعضهم: يصرفه الصبيّ بكل وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير وتضربه الوليدة بالهراوي ... فلا غير لديه ولا نكير والجرير حبل يجعل للبعير بمنزلة العذار للدابة. ومن زعم أن الملك بمعنى الضبط من قوله: لا أملك رأس البعير أن يفر. يلزمه التكرار. ثم فصل بعض منافعها بقوله فَمِنْها رَكُوبُهُمْ والركوب والركوبة ما يركب كالحلوب والحلوبة، والتاء للمبالغة. وقيل: للوحدة والمنافع كالجلود والأوبار والأصواف، ذكرها بالاسم العام لما في تفصيلها من الطول. والمشارب جمع مشرب وهو موضع الشرب أي الأواني المتخذة من جلودها، أو هو الشرب كالألبان والاسمان. وحين وبخهم على عدم الشكر بقوله أَفَلا يَشْكُرُونَ زاد في توبيخهم بقوله وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أي وضعوا الشرك مكان الشكر فلا أظلم منهم. وفي قوله لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ إلى قوله مُحْضَرُونَ وجهان: أحدهما أنهم طمعوا في أن يتقوّوا بهم ويعتضدوا بمكانهم والأمر عكس ذلك حيث هم جند لآلهتهم معدّون يخدمونهم ويذبون عنهم من غير نفع في آلهتهم. وثانيهما اتخذوهم لينصروهم عند الله بالشفاعة، والأمر على خلاف ذلك حيث إن آلهتهم يوم القيامة جند محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقودا للنار. ووجه ثالث وهو أن يكون قوله وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ تأكيدا لعدم الاستطاعة فإن من حضر واجتمع ثم عجز عن النصرة يكون في غاية الضعف بخلاف من لم يتأهب ولم يجمع أنصاره. ثم عقب دليل التوحيد بالرسالة مسليا رسوله بقوله فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ باتخاذ الشريك لله أو بالطعن في الرسالة أو بالإيذاء والتهديد. ثم علل عدم الحزن بقوله إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من النفاق وسائر العقائد الفاسدة وَما يُعْلِنُونَ من الشرك وسائر الأفعال القبيحة، أو يسرون من المعرفة بالله ويعلنون من العناد. وجوّز جار الله فتح «أن» على تقدير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 546 لام التعليل، بل جوز أن تكون المفتوحة بدلا من قَوْلُهُمْ والمكسورة مفعولا ل قَوْلُهُمْ ويكون نهي الرسول عن ذلك كنهيه عن الشرك في قوله وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 14] ثم أردف الرسالة بالحشر مع أن فيه دليلا آخر على التوحيد مأخوذا من الأنفس، فإن الأول كان مأخوذا من الآفاق. وفي قوله فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وجهان: أحدهما فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا رجل مميز منطيق معرب عما في ضميره كقوله أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف: 18] فقوله مِنْ نُطْفَةٍ إشارة إلى أدنى ما كان عليه الإنسان وقوله فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ إشارة إلى أعلى ما حصل عليه الآن، لأن أعلى أحوال الناطق أن يقدر على المخاصمة والذب عن نفسه بالكلام الفصيح. وثانيهما قول كثير من المفسرين إنها نزلت في جماعة من كفار قريش تكلموا في البعث فقال لهم أبيّ بن خلف الجمحي: واللات والعزى لأصيرن إلى محمد ولأخصمنه. وأخذ عظما باليا فجعل يفتته بيده ويقول: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم ويبعثك ويدخلك جهنم. قال أهل البيان: سمى قولهم مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ مثلا لأن إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى قصة عجيبة. وفيه تشبيه الخالق القادر العليم بالمخلوق العاجز عن خلق أدنى بعوضة الجاهل بما يجري عليه من الأحوال. والرميم اسم لما بلي من العظام كالرمة والرفات ولا يبعد أن يكون صفة. ولم تؤنث بتقدير موصوف محذوف أي شيء رميم، أو لأنه بمعنى فاعل كقوله إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الأعراف: 56] وفي الآية دليل ظاهر على أن عظام الميتة نجسة لأن الموت والحياة يتعاقبان عليها. وقال أصحاب أبي حنيفة: إنها طاهرة وإن الحياة لا تحل فيها فلا يتصور موتها، وكذا الشعر والعصب. وتأوّلوا الآية بأن المراد بإحياء العظام ردّها على ما كانت عليه غضة طرية في بدن حيّ حساس. واعلم أن المنكرين للحشر منهم من اكتفى في إنكاره بمجرد الاستبعاد كقوله مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ فأزال استبعادهم بتصوير الخلق الأول، فإن الذي قدر على جعل النطفة المتشابهة الأجزاء إنسانا مختلف الأبعاض والأعضاء، مودعا فيه الفهم والعقل وسائر أسباب المزية والفضل، فهو على إعادتها أقدر. ومنهم من ذكر شبهة وهي كقولهم: إن الإنسان بعد العدم لم يبق شيئا فكيف يصح إعادة المعدوم عقلا؟ أو كقولهم: إن الذي تفرقت أجزاؤه في أبدان السباع وجدران الرباع كيف يجمع ويعاد؟ أو كقولهم إن إنسانا إذا نشأ مغتذيا بلحم إنسان آخر فلا بد أن لا يبقى للآكل وللمأكول جزء يمكن إعادته. فأجاب الله تعالى عن الأول بقوله يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا فإنه يعيده وإن لم يكن شيئا. وعن الباقيتين بقوله وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ فيجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع والسباع وهكذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 547 يعلم الأصلي من الفضلي فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل والمأكول. ثم شبه خلق الإنسان بل الحيوان من قبل إيداع الحرارة الغريزية التي بها قوام الحياة في جوهر رطب طريّ بإنشاء الشجر الأخضر الذي تنقدح منه النار. قالت العرب: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار أي استكثر واستغزر يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ- وهو ذكر على العفار- وهي أنثى- فتنقدح النار بإذن الله عز وجل. وعن ابن عباس: ليس من شجرة إلا وفيها نار إلا العناب قالوا: ولذلك يتخذ منه كذينقات القصارين. قلت: ويشبه أن يكون كل شجرة في غاية الصلابة هكذا إلا أن يكون له سبب خاص به كما يروى أنه معجزة لموسى عليه السلام فإنه قد رأى النار فيها فلا ينبغي لغيره أن يراها. ثم أكد قدرته الكاملة على خلق الإنسان إبداء وإعادة بتذكر خلق السموات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس. ثم أثبت ما نفاه مستفهما للتقرير بقوله بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الكثير الخلق الكامل فيه الْعَلِيمُ بكل جوهر وعرض وما يطلق عليه اسم الشيئية. ثم بين أن إيجاده ليس متوقفا إلا على تعلق الإرادة بالمقدور وقد مر تقريره في أوائل «البقرة» وغيرها. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن المعدوم شيء. وأجيب بأن الآية دلت على أنه حين تعلق الإرادة به شيء، أما إنه قبل ذلك شيء فكلا. ثم ختم السورة بتقرير المبدأ والمعاد على الإجمال. فقوله بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ إشارة إلى المبدأ. وقوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إشارة إلى المعاد وإذا تقرر الطرفان فما بينهما الوسط المشتمل على التكاليف والرسالة، فهذه الآية كالنتيجة للمقدمات السابقة في السورة. عن ابن عباس: كنت لا أعلم ما روي في فضائل يس وقراءتها كيف خصت بذلك فإذا أنه لهذه الآية. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ان لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس» «1» فذكر الإمام الغزالي رضي الله عنه أن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر وأنه مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه فلذلك سماها قلب القرآن. وقال غيره: إن الأصول الثلاثة التي يتعلق بها نصيب الجنان وهي التوحيد والرسالة والحشر مكررة في هذه السورة. وليس فيها شيء من بيان وظيفة اللسان ولا العمل بالأركان. فلما كان أعمال القلب لا غير سماه قلبا، ولهذا ورد في الأخبار أنه ينبغي أن تقرأ على الميت حالة النزع وذلك ليزداد بها قوة قلبه، فإن الأعضاء الظاهرة وقتئذ ساقطة المنة، والقلب مقبل على الله معرض عما سواه ولنا فيه وجه هو بالتأويل أشبه فلنذكره هناك.   (1) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 7. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 21. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 548 التأويل: اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ من الدنيا وشهواتها وَما خَلْفَكُمْ من نعيم الجنة ولذاتها لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بمشاهدة الجمال وأنوار الكمال وَنُفِخَ فِي الصُّورِ إشارة إلى نفخ إسرافيل المحبة في صور القلب، فإذا السر والروح والخفي من أجداث أوصاف البشرية إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يرجعون بعضها بالسير وبعضها بالطيران إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ شغلهم الله بالمفاكهة عن المشاهدة كما قال بعض الصوفية: والناس يخرجون من مسجد الجامع هؤلاء حشو الجنة. وللمجالسة أقوام آخرون وهم الفارغون من الالتفات إلى الكونين. قال الله تعالى فَإِذا فَرَغْتَ [الشرح: 7] أي من تعلقات الكونين فَانْصَبْ [الشرح: 7] لطلب الوصال. ويحكى أن الآية قرئت في مجلس الشبلي رضي الله عنه فشهق شهقة وغاب، فلما أفاق قال: مساكين لو علموا أنهم عم شغلوا لهلكوا. ويحتمل أن يقال: إنهم اليوم أي في الدنيا في شغل بأنواع الطاعات والعبادات من طلب الحق والشوق إلى لقائه كما يحكى عن يحيى بن معاذ أنه قال: رأيت رب العزة في منامي فقال لي: ابن معاذ، كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني. ويمكن أن يقال: إنهم اليوم في الدنيا في شغل بالطاعات والرضا بما قسم الله عن طلب اللذات والفوائد وارتكاب المحرمات والزوائد. أو يقال: إنه خطاب للعصاة فإن أهل الله هم المستغرقون في بحار عظمة الله، وأهل الجنة مشتغلون باستيفاء اللذات وليس للعصاة إلا رحمتي وكرمي كما قال يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ في بعض الاخبار المروية أن عبدا لتشهد عليه أعضاؤه بالذلة فتتطاير شعرة من جفن عينه فتستأذن بالشهادة له فيقول الحق تعالى: تكلمي يا شعرة جفن عين عبدي واحتجي عن عبدي. فتشهد له بالبكاء من خوفه فيغفر له وينادي مناد: هذا عتيق الله بشعرة. وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ إن السالك إذا عمر صار في آخر الأمر إلى الفناء في الله حتى لا يبقى منه ما يستند الفعل إليه. وفي قوله وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ إشارة إلى أن العلوم والصنائع كلها من الله تعالى وبتعليمه وإلهامه. مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ وهو شجرة البشرية نار المحبة تُوقِدُونَ مصباح قلوبكم. وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن قلب القرآن يس» لأن ذكره صلى الله عليه وسلم رمز إليه في أول السورة وفي آخرها. أما الأول فقد مر في تفسير لفظ يس وأما الثاني فلأن قوله فَسُبْحانَ إلى آخره يدل على المبدأ والمعاد تصريحا، وعلى الرسالة ضمنا، ولا ريب أن القلب خلاصة كل ذي قلب، وإنه صلى الله عليه وسلم كان خلاصة المخلوقات وكان خلقه القرآن الذي نزل على قلبه، وكأن فاتحة السورة وخاتمتها مبنية على ذكره منبئة عن سره كالقلب في جوف صاحبه فلأجل هذه المناسبات أطلق على يس أنه قلب القرآن والله ورسوله أعلم بأسرار كلامه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 549 (سورة والصافات) (مكية حروفها ثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون كلمها ثمانمائة وستون آياتها مائة واثنان وثمانون) [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 82] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 550 القراآت: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا وما بعدهما مدغما: حمزة وأبو عمرو غير عباس بِزِينَةٍ منونا: حمزة وعاصم غير المفضل الكواكب بالنصب: أبو بكر وحماد. الباقون: بالجر لا يَسَّمَّعُونَ بتشديد السين والميم وأصله «يتسمعون» : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون: بسكون السين وتخفيف الميم. بَلْ عَجِبْتَ بالضم: حمزة وعلي وخلف. الآخرون: بالفتح على الخطاب آيذا بالمد والياء إنا بهمزة واحدة مكسورة: يزيد وقالون وزيد. الباقون: مثل التي في «الرعد» وأما الثانية فمثل التي في «الرعد» أَوَآباؤُنَا مثل أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى [الأعراف: 98] وكذلك في «الواقعة» لا تَناصَرُونَ بالتشديد البزي وابن فليح أَإِنَّا أَإِنَّكَ أَإِفْكاً مثل أَإِنَّكُمْ في «الأنعام» يُنْزَفُونَ بضم الياء وكسر الزاي: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الآخرون: بفتح الزاي لترديني بالياء في الحالين: يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل. الوقوف: صَفًّا هـ لا زَجْراً هـ لا لَواحِدٌ هـ ط الْمَشارِقِ هـ ط الْكَواكِبِ هـ لا مارِدٍ هـ ج لاحتمال ما بعده الوصف والاستئناف قاله السجاوندي. وعليه بحث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 551 يجيء في التفسير واصِبٌ هـ لا ثاقِبٌ هـ ج خَلَقْنا ط لازِبٍ هـ وَيَسْخَرُونَ هـ ص لا يَذْكُرُونَ هـ ص يَسْتَسْخِرُونَ هـ ص مُبِينٌ هـ ج لَمَبْعُوثُونَ هـ لا الْأَوَّلُونَ هـ ط داخِرُونَ هـ يَنْظُرُونَ هـ الدِّينِ هـ تُكَذِّبُونَ هـ يَعْبُدُونَ هـ لا الْجَحِيمِ هـ مَسْؤُلُونَ هـ لا لأن المسئول عنه قوله ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ هـ مُسْتَسْلِمُونَ هـ يَتَساءَلُونَ هـ الْيَمِينِ هـ مُؤْمِنِينَ هـ ج سُلْطانٍ ج للعدول مع اتفاق الجملتين طاغِينَ هـ لَذائِقُونَ هـ غاوِينَ هـ مُشْتَرِكُونَ هـ بِالْمُجْرِمِينَ هـ يَسْتَكْبِرُونَ هـ مَجْنُونٍ هـ ط الْمُرْسَلِينَ هـ الْأَلِيمِ هـ ج تَعْمَلُونَ هـ لا الْمُخْلَصِينَ هـ مَعْلُومٌ هـ فَواكِهُ ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف مُكْرَمُونَ هـ لا النَّعِيمِ هـ لا مُتَقابِلِينَ ج مَعِينٍ هـ لا لِلشَّارِبِينَ هـ ج لأن ما بعده يصلح وصفا واستئنافا يُنْزَفُونَ هـ عِينٌ ط مَكْنُونٌ ج يَتَساءَلُونَ هـ قَرِينٌ هـ الْمُصَدِّقِينَ هـ لَمَدِينُونَ هـ مُطَّلِعُونَ هـ الْجَحِيمِ هـ لَتُرْدِينِ هـ الْمُحْضَرِينَ هـ بِمَيِّتِينَ هـ لا بِمُعَذَّبِينَ هـ الْعَظِيمُ هـ الْعامِلُونَ هـ الزَّقُّومِ هـ لِلظَّالِمِينَ هـ الْجَحِيمِ هـ لا لأن ما بعده صفة لشجرة الشَّياطِينِ هـ الْبُطُونَ هـ لا لأن «ثم» لترتيب الأخبار حَمِيمٍ هـ الْجَحِيمِ هـ ج ضالِّينَ هـ لا للعطف مع اتصال المعنى يُهْرَعُونَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ مُنْذِرِينَ هـ الْمُنْذَرِينَ هـ لا الْمُخْلَصِينَ هـ الْمُجِيبُونَ هـ ز الْعَظِيمِ هـ ز الْباقِينَ هـ ز فِي الْآخِرِينَ هـ لا لأن ما بعده مفعول تركنا على سبيل الحكاية الْعالَمِينَ هـ الْمُحْسِنِينَ هـ الْمُؤْمِنِينَ هـ الْآخَرِينَ هـ. التفسير: إنه سبحانه بدأ في أوّل هذه السورة بالتوحيد كما ختم السورة المتقدمة بذكر المعاد وأقسم على المطلوب بثلاثة أشياء، أما الحكمة في القسم فكما مرّ في أول سورة يس، وأما الإقسام بغير الله وصفاته فلا نسلم أنه لا يجوز لله سبحانه، أو هو على عادة العرب، أو المراد تعظيم هذه الأشياء وتشريفها، أو المراد رب هذه الأشياء فحذف المضاف. قال الواحدي: إدغام التاء في الصاد حسن وكذا التاء في الزاي وفي الذال لتقارب مخارجها، ألا ترى أن التاء والصاد هما من طرف اللسان وأصول الثنايا ويجتمعان في الهمس، والمدغم فيه يزيد على المدغم في الإطباق والصفير وإدغام الأنقص في الأزيد حسن؟ وأيضا الزاي مجهورة وفيها زيادة صفير. ثم المقسم بها في الآيات إما أن تكون صفات ثلاثا لموصوف واحد أو صفات لموصوفات متباينة. وأما التقدير الأوّل ففيه وجوه الأوّل: أنها صفة الملائكة لأنهم صفوف في السماء كصفوف المصلين في الأرض، أو أنهم يصفون أجنحتهم في الهواء واقفين منتظرين لأمر الله تعالى. والصف ترتيب الشيء على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 552 نسق. الفاعل صاف، والجماعة صافة، والصافات جمع الجمع ولولا ذلك لقيل والصافين. قال الحكيم: يشبه أن يكون معنى كونهم صفوفا أن لكل منهم مرتبة معينة في الشرف أو بالغلبة. والزجر سوق السحاب. قال ابن عباس: يعني الملائكة الموكلين بالسحاب. وقال آخرون: أراد زجرهم الناس عن المعاصي بالخواطر والإلهامات، أو بدفع تعرض الشياطين عن بني آدم. والتاليات الذين يتلون كتاب الله على الأنبياء. والحاصل أن كونهم صافين إشارة إلى استكمال جواهر الملائكة في ذواتها أعني وقوفهم في مواقف العبودية والطاعة، وكونهم زاجرين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إزالة ما لا ينبغي من جواهر الأرواح البشرية، وكونهم تالين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إفاضة الجلايا القدسية والأنوار الإلهية على الأرواح الإنسانية. الوجه الثاني أنها صفات النفوس الإنسانية المقبلة على عبودية الله وعبادته وهم ملائكة الأرض، أقسم بنفوس المصلين بالجماعات الزاجرين أنفسهم عن الشهوات أو عن إلقاء وساوس الشيطان في قلوبهم أثناء الصلوات بتقديم الاستعاذة أو برفع الأصوات، التالين للقرآن في الصلاة وغيرها. أو أقسم بنفوس العلماء الصافات لأجل الدعوة إلى دين الله الزاجرات عن الشبهات والمنهيات بالمواعظ والنصائح الدارسات شرائع الله وكتبه لوجه الله، أو أقسم بنفوس المجاهدين في سبيل الله كقوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا [الصف: 3] والزجرة والصيحة سواء. والمراد رفع الصوت بزجر الخيل. وأما التاليات فذلك أنهم يشتغلون وقت المحاربة بقراءة القرآن وذكر الله. يحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يخرج من الصف وسيفه ينطف دما فإذا رقى ربوة يأتي بالخطبة الغراء. الوجه الثالث أنها صفات آيات القرآن وذلك أنها أنواع مختلفة بعضها دلائل التوحيد، وبعضها دلائل العلم والقدرة، وبعضها دلائل النبوة، وبعضها دلائل المعاد، وبعضها بيان التكاليف والأحكام، وبعضها تعليم الأخلاق الفاضلة، وكلها مترتبة ترتيبا لا يتغير ولا يتبدل فكأنها أجرام واقفة في صفوف معينة، ولا ريب أنها تزجر المكلفين عن المناهي والمنكرات. وأما نسبة التلاوة إليهن فمجاز كما يقال: شعر شاعر. والفاء في هذه الوجوه لترتب الصفات في الفضل فالفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة أو بالعكس فلكل وجه. ويحتمل وإن لم يذكره جار الله أن تكون لترتيب معانيها في الوجود كقوله: الصابح فالغانم فالآيب كأنه قال: الذي صبح فغنم فآب. مثاله المصلون يقفون أوّلا صفوفا ثم يزجرون الوساوس عنهم بالاستعاذة ثم يشتغلون بالقراءة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 553 وأما التقدير الثاني وهو أن يكون المراد بهذه الأمور الثلاثة موصوفات متغايرة فالصافات الطير من قوله وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور: 41] والزاجرات كل ما زجر عن معاصي الله، والتاليات كل من تلا كتاب الله. أو الصافات طائفة من الملائكة أو من الأشخاص الإنسانية، وكل من الزاجرات والتاليات طائفة أخرى. وقيل: الصافات العالم الجسماني المنضود كرة فوق كرة من الأرض إلى الفلك الأعظم، والزاجرات الأرواح المدبرة للأجسام بالتحريك والتصريف، والتاليات الأرواح المستغرقة في بحار معرفة الله تعالى والثناء عليه. والفاء على هذه المعاني لترتب الموصوفات في الفضل. ثم إنه سبحانه لم يقتصر في إثبات التوحيد على الحلف ولكنه عقبه بالدليل الباهر فقال رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ فلكل كوكب مشرق ومغرب بل للشمس ولسائر السيارات وللثوابت في كل يوم مشرق آخر بحسب تباعدها عن منطقة المعدل وتقاربها منها. وإنما اقتصر على ذكر المشارق لشرفها ولدلالتها على البغارب كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] . ثم بين أنه جعل الكواكب بحيث يشاهدها الناس من السماء الدنيا وهي تأنيث الأدنى لمنفعتين: الأولى تحصيل الزينة، والثانية الحفظ من الشيطان. والزينة مصدر كالنسبة أو اسم لما يزان به الشيء كالليقة لما تلاق به الدواة. ثم قرأ بالإضافة فلها وجوه: أن يكون مصدرا مضافا إلى الفاعل أي بأن زانتها الكواكب وإلى المفعول أي بأن زان الله تعالى الكواكب وحسنها في أنفسها، فإن النور والضوء أحسن الصفات وأكملها، وكذا أشكالها المختلفة كشكل الثريا وبنات النعش والجوزاء وسائر الصور المتوهمة من الخطوط التي تنظم طائفة منها، وقد ترتقي إلى نيف وأربعين منها صور البروج الاثني عشر. وبالجملة إشراق الجواهر الزواهر وتلألؤها على بسيط أزرق بنظام مخصوص مما يروق الناظر، ويجوز أن يقع الْكَواكِبِ بيانا للزينة وهي اسم لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به فيكون كخاتم فضة. ويجوز أن يراد بالزينة ما زينت به الكواكب كما روي عن ابن عباس أنه فسر الزينة بالضوء. ومن قرأ بتنوين بِزِينَةٍ وجر الْكَواكِبِ فعلى الإبدال، ومن قرأ بتنوين بِزِينَةٍ ونصب الْكَواكِبِ فعلى أنه بدل من محل بِزِينَةٍ أو من السماء، أو على أن المراد بتزيينها الكواكب كما في أحد وجوه الإضافة. قوله وَحِفْظاً فيه وجوه أحدها: أنه محمول على المعنى والتقدير: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا من الشياطين. وثانيها أن يقدر مثل الفعل المتقدم للتعليل كأنه قيل: وحفظا من كل شيطان زيناها بالكواكب. وثالثها قال المبرد: إذا ذكرت فعلا ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله بما تقدم. تقول: افعل ذلك وكرامة أي وأكرمك كرامة، وذلك لما علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال فالتقدير: وحفظناها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 554 حفظا. قال المفسرون: الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب فأخبروا صنعاءهم، فجعل الله الكواكب في زمن محمد صلى الله عليه وسلم بحيث تحرقهم وتحفظ أهل السماء من إصغائهم. قال الحكيم: ليس المراد بالكواكب الحافظة أنفس الكواكب المركوزة في الأفلاك وإلا لوقع نقصان ظاهر في أعدادها، بل المراد ما يضاهيها من الشهب الحادثة عند كرة النار من الأبخرة المرتفعة، وقد مر تحقيق ذلك في أول سورة الحجر. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: إن الشياطين لهم حذق كامل في استخراج الصنائع الدقيقة فإذا عرفوا هذه الحالة بالتجربة فلم لا يمنعون منه. وأيضا إنهم مخلوقون من النار والنار كيف تؤثر في النار؟ وأيضا مقر الملائكة السطح الظاهر من الفلك الأعلى وإنهم لا يصعدون إلا إلى قريب من الفلك الأدنى فكيف يسمعون كلام الملائكة؟ والجواب أنا لا نسلم حذقهم في كل الأمور ولهذا جاء في وجوه تسخيرهم ما جاء على أن موضع الاستراق والاحتراق غير متعين، ووقوع هذه الحالة أيضا كالنادر. فلعل المسترق يكون غير واقف عليه، والنيران بعضها أقوى من البعض وليس الشيطان نارا صرفا، ولكن الناري غالب عليه. ولا نسلم أن الملائكة لا ينزلون إلى الفلك الأخير بإذن الله. والمارد الخارج من الطاعة وقد مر اشتقاقه في قوله مردوا على النفاق. والضمير في قوله لا يَسَّمَّعُونَ لكل شيطان لأنه في معنى الجمع. والتسمع تكلف السماع سمع أو لم يسمع وقد ضمن معنى الإصغاء فلذلك عدّي بإلى. وقيل: معنى سمعت إليه صرفت إلى جهته سمعي. قال جار الله: هذه الجملة لا يصح أن تكون صفة لأن الحفظ من شياطين غير سامعين أو مستمعين لا معنى له، ولا يصح أن يكون استئنافا لأن سائلا لو سأل: لم يحفظ من الشياطين؟ فأجيب بأنهم لا يسمعون. لم يستقم فبقي أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ به لاقتصاص حال المسترقة للسمع. قلت: لو كان صفة باعتبار ما يؤول إليه حالهم جاز، وكذا إن كان مستأنفا كأنه قيل: لم يحفظ فأجيب لأنهم يؤلون إلى كذا. ومن هنا زعم بعضهم أن أصله لئلا يسمعوا لهم فحذفت اللام ثم «أن» وأهدر عملها كما في قول القائل: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ورد عليه في الكشاف أن حذف اللام في قولك «جئتك أن تكرمني» وحذف «أن» في قول الشاعر جائز، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات. قلت: إن القرآن حجة على غيره مع أن قول الشاعر أيضا لا يصح إلا بتقدير اللام أو «من» مع «أن» . والملأ الأعلى الملائكة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 555 لأنهم يسكنون السموات. وعن ابن عباس: أراد أشراف الملائكة. وعنه: الكتبة من الملائكة. والقذف الرمي بحجر تقول: قذفته بحجر أي رميت إليه حجرا. وقوله مِنْ كُلِّ جانِبٍ أي مرة من هذا الجانب ومرة من هذا الجانب. وقيل: من كل الجوانب. دُحُوراً أي طردا مع صغار مصدر من غير لفظ الفعل، لأن القذف والطرد متغايران كأنه قيل: يقذفون قذفا أو يدحرون دحورا. ويجوز أن يكون مفعولا له أي لأجل الدحور أو مصدرا في موضع الحال أي مدحورين كقوله مَذْمُوماً مَدْحُوراً [الإسراء: 18] وَلَهُمْ أي للشياطين عَذابٌ واصِبٌ دائم وقد مر في النحل في قوله وَلَهُ الدِّينُ واصِباً [النحل: 52] يعني أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب ولهم في الآخرة نوع من العذاب غير منقطع إِلَّا مَنْ خَطِفَ في محل الرفع بدلا من الواو في لا يَسَّمَّعُونَ أي لا يسمع إلا الشيطان الذي اختلس الكلمة مسارقة. وقيل: وثب وثبة. وقيل: الاستثناء منقطع خبره فَأَتْبَعَهُ أي أتبعه ورمى في أثره شِهابٌ ثاقِبٌ مضيء أو ماض فإذا قذفوا احترقوا. وقيل: تصيبهم آفة فلا يعودون. وقيل: لا يقتلون بالشهب بل يحس بذلك فلا يرجع ولهذا لا يمتنع غيره من ذلك. وقيل: يصيبهم مرة ويسلمون مرة فصاروا في ذلك كراكبي السفينة للتجارة. وحين بين الوحدانية ودلائلها في أول هذه السورة أراد أن يذكر ما يدل على الحشر والكلام فيه من طريقين: الأوّل أن يقال: قدر على الأصعب فيقدر على الأسهل بالأولى، الثاني قدر في أول الأمر فيقدر في الحالة الثانية. أما الطريق الأوّل فأشار إليه بقوله فَاسْتَفْتِهِمْ أي سل قومك أو صاحبهم وأراد بمن خلقنا ما ذكرنا من الملائكة والسموات والأرض والمشارق والكواكب والشهب والشياطين، وغلب أولي العقل على غيرهم. وقيل: أراد عادا وثمود ومن قبلهم من الأمم الخالية. والقول الأول أقوى بدليل فاء التعقيب ولإطلاق قوله خَلَقْنا اكتفاء ببيان ما تقدمه كأنه قال: خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق، فاستخبرهم أهم أشد خلقا أم هذه الخلائق، ومن هان عليه هذه كان خلق البشر بل إعادته عليه أهون. وأما الطريق الثاني فإليه الإشارة بقوله إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي لازم والباء بدل من الميم عند أكثرهم ولهذا قال ابن عباس: هو الملتصق من الطين الحر. وقال مجاهد والضحاك: هو المنتن. ووجه الاستدلال أن هذا الجسم لو لم يكن قابلا للحياة لم يقبلها من أول الأمر، وإذا قبلها أوّلا فلا يبقى ريب في قبولها ثانيا، وقادرية الله تعالى باقية على حالها فالإعادة أمر ممكن، وقد أخبر الصادق عن وقوعها فيجب وقوعها. وفي هذا الطريق الثاني تقوية للطريق الأوّل، فإن خلقهم من الطين شهادة عليهم بالضعف والرخاوة. ثم بين أنهم مع قيام الحجج الضرورية عليهم مصرون على الإنكار فقال بَلْ عَجِبْتَ من قرأ بفتح التاء فظاهر أي عجبت يا محمد من تكذيبهم وإنكارهم البعث وَهم يَسْخَرُونَ من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 556 تعجبك، أو عجبت من القرآن حين أعطيته ويسخر أهل الكفر منه. ومن قرأ بالضم فأورد عليه أن التعجب على الله غير جائز لأنه روعة تعتري الشخص عند استعظام الشيء. وقيل: هذه حالة تحصل عند الجهل بصفة الشيء. وأجيب بأن معناه: قل يا محمد بل عجبت. سلمنا لكن العجب هو أن يرى الإنسان ما ينكره الكافر والإنكار من الله تعالى غير منكر. سلمنا لكن هذه الألفاظ في حقه تعالى محمولة على النهايات كالمكر والاستهزاء والمعنى: بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقي أني استعظمتها فكيف بعبادي وهؤلاء بجهلهم وعنادهم يسخرون منها، أو استعظمت إنكارهم البعث ممن هذه أفعاله وهم يسخرون ممن يصف الله تعالى بالقدرة عليه نظيره الآية وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد: 5] . عند من يرى أن العجب من الله. وقد جاء في الحديث «يعجب ربك من الشاب ليس له صبوة» . وقال أيضا: «عجب ربكم من ألكم وقنوطكم وسرعة إجابته» . والألّ التضرع. ثم حكى عنهم أنه كما أن دأبهم السخرية عند إيراد البراهين فكذلك دأبهم أنهم إذا وعظوا لا يتعظون. وَإِذا رَأَوْا آيَةً بينة كانشقاق القمر وغيره من المعجزات يَسْتَسْخِرُونَ يبالغون في السخرية أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها ونسبوا ما رأوه إلى السحر. فالحاصل أنه لا تفيد معهم البراهين الضرورية ولا المقدمات الوعظية ولا المعجزات الدالة على صدق إخبارك بالبعث. قوله أَوَآباؤُنَا من قرأ بسكون الواو فمعطوف على محل اسم «أن» ، ومن قرأ بفتحها فعليه، أو على الضمير في لَمَبْعُوثُونَ وحسن الفصل بهمزة الاستفهام والمعنى: أيبعث أيضا آباؤنا؟ يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد. وعلى الأوّل أرادوا إنكار أن يبعث واحد منهم أو من آبائهم فأرغمهم الله سبحانه بقوله قُلْ نَعَمْ تبعثون وَأَنْتُمْ داخِرُونَ صاغرون أذلاء. وإذا كان كذلك فَإِنَّما هِيَ أي البعثة أو هو مبهم يوضحه خبره زَجْرَةٌ واحدة يعني صيحة النفخة الثانية فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أراد أنهم أحياء بصراء أو أراد أنهم ينظرون أمر الله فيهم. وَقالُوا يا وَيْلَنا الظاهر أن كلامهم يتم عند قوله تُكَذِّبُونَ يقوله الكفرة فيما بينهم. وقيل: إن كلامهم يتم عند قوله يا وَيْلَنا ثم قال الله أو الملائكة هذا يَوْمُ الدِّينِ الجزاء والحساب هذا يَوْمُ الْفَصْلِ القضاء والفرق بين المحسن والمسيء احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا بالكفر أو بالفسق يعني رؤساءهم. وهذا الحشر بمعنى الجمع لأنه بعد البعث أي اجمعوهم وَأَزْواجَهُمْ أي أشكالهم الذين على دينهم وسيرتهم الزاني مع الزاني، والسارق مع السارق، والشارب مع الشارب. وقيل: قرناءهم من الشياطين. وقيل: نساءهم اللاتي على ملتهم. وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام فَاهْدُوهُمْ ادعوهم أو قدموهم والسابق يسمى الهادي أو دلوهم إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وسطها أو طريقها لأنه قال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 557 بعد ذلك وَقِفُوهُمْ أي احبسوهم للسؤال كأنهم إذا انتهوا إلى الجحيم سئلوا تهكما وتوبيخا بالعجز عن التناصر ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ قد أسلم بعضهم بعضا وخذله. وحقيقته طلب كل منهم سلامة نفسه فقال المفسرون: إن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر فيوبخ على ذلك يوم القيامة. ثم حكى أنهم في جهنم يتساءلون تساؤل التخاصم وذلك أن اتباعهم قالُوا لرؤسائهم إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ وفيه وجوه، الأول: أنها استعارة عن الخيرات والسعادات وذلك أن الجانب الأيمن أشرف من الأيسر شرعا وعرفا. كان رسول الله يحب التيامن في كل شيء ولهذا أمرت الشريعة بمباشرة أفاضل الأمور باليمين وأراطلها بالشمال، وجعلت اليمين لكاتب الحسنات والشمال لكاتب السيئات، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه والمسيء بالضد، وما جعلت يمنى إلا للتيمن بها ولذلك تيمنوا بالسانح وتطيروا بالبارح. فقيل: أتاه عن اليمين أي من قبل الخير وناحيته فصدّه عنه وأضله. قال جار الله: من المجاز ما غلب عليه الاستعمال حتى لحق بالحقيقة وهذا من ذاك لأن اليمين كالحقيقة في الخير. ثم صار قولك «أتاه عن اليمين» مجازا في المعنى المذكور. الثاني: أن يقال: فلان يمين فلان إذا كان عنده بمنزلة رفيعة فكأنهم قالوا: إنكم كنتم تخدعوننا وتوهمون أننا عندكم بمحل رفيع فوثقنا بكم وقبلنا عنكم. الثالث: اليمين الحلف، كان الكفار قد حلفوا لهؤلاء الضعفة أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم وتمسكوا بعهودهم. الرابع: أن اليمين القوة والقهر فبها يقع البطش غالبا أي كنتم تأتوننا عن القهر والغلبة حتى حملتمونا على الضلال. وكما أن الضمير في قالُوا الأول كان عائدا إلى الأتباع بقرينة الخطاب، فالضمير في قالُوا الثاني يعود إلى الرؤساء لمثل تلك القرينة. والمعنى بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه كما أعرضنا. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً مختارين الطغيان وهذا مثل محاجة إبليس وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ [إبراهيم: 22] فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ قال مقاتل: أراد قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [الأعراف: 18] والمعنى أنه لما أخبر عن وقوعنا في العذاب وكان خبر الله حقا فلا جرم وجب وقوعنا في العذاب. قال جار الله: لو حكى الوعيد كما هو لقال «إنكم لذائقون» ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم يتكلمون بذلك عن أنفسهم وكلا الاستعمالين شائع فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ أي أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية كأنهم قالوا: إن اعتقدتم أن غوايتكم بسبب إغوائنا فغوايتنا إن كانت بسبب إغواء غاو آخر لزم التسلسل فعلمنا أن غوايتنا أيضا من الله كما مر في قوله فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا هذا تفسير أهل السنة. وأما المعتزلة فيفسرون الآيات هكذا قالوا: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي كنتم مختارين الكفر على الإيمان، وما سلبنا تمكنكم من تسلط بل اخترتم أنتم الطغيان فحق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 558 علينا وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة فَأَغْوَيْناكُمْ فدعوناكم إلى الغي لأنا كنا غاوين فأردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا. وحين حكى كلام الأتباع والمتبوعين أنتج من ذلك قوله فَإِنَّهُمْ جميعا يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ كما كانوا مشتركين في الغواية. ولعل للمتبوعين عذابا زائدا للإغواء ولكن الزيادة لا تنافي الاشتراك في أصل الشيء إِنَّا كَذلِكَ أي مثل ذلك الفعل نَفْعَلُ بكل مجرم أي كافر بدليل قوله إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ يأبون من قبوله، والجملة الشرطية خبر «كان» وهو مع الاسم والخبر خبر «إن» وإن ألغيت «كان» فالخبر يَسْتَكْبِرُونَ و «إذا» ظرفه. وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ عنوا محمدا صلى الله عليه وسلم بين أنهم منكرون للتوحيد وللنبوّة جميعا فردّ عليهم بقوله بَلْ جاءَ متلبسا بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ وفيه تنبيه على أن التوحيد دين كل الأنبياء ثم صدقهم في قولهم فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا ونقل الكلام من الغيبة إلى الحضور للمبالغة قائلا إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ ثم كان لقائل أن يقول: كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عبيده فقال وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فالحكمة اقتضت الأمر بالخير والطاعة، والنهي عن القبيح والمعصية، والأمر والنهي لا يكمل المقصود بهما إلا بالترغيب والترهيب، وإذا وقع الإخبار عنه وجب تحققه صونا للكلام عن الكذب هذا بتفسير المعتزلة أشبه. والسنّي يقول: لا اعتراض عليه في شيء ولا يسأل عما يفعل. قال جار الله إِلَّا عِبادَ اللَّهِ استثناء منقطع أي لكن عباد الله الْمُخْلَصِينَ أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ قلت: يجوز أن يكون الاستثناء متصلا والمعنى: وما تجزون إلا ما كنتم تعملون من غير زيادة إلا المخلصين فإن جزاءهم بالأضعاف. ويحتمل أن يكون الخطاب في قوله إِنَّكُمْ للمكلفين جميعا فيصح الاستثناء المتصل مطلقا أي تذوقون العذاب الأليم. قوله مَعْلُومٌ قيل: أي معلوم الوقت كقوله وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] وقيل: معلوم الصفة لكونه مخصوصا بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر. وقيل: معلوم القدر على حسب استحقاقهم. وقيل: أراد أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى يقطع. ثم فسر ذلك الرزق بأنه فَواكِهُ فقيل: إن الفاكهة عبارة عما يؤكل لأجل التلذذ لا لأجل الحاجة، وأرزاق أهل الجنة كلها كذلك لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد فلذلك سمي رزقهم فاكهة. وقيل: أراد به التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كانت الفاكهة حاضرة أبدا كان الطعام أولى بالحضور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 559 وحيث بين الأكل ذكر أن ذلك حاصل مع الإكرام والتعظيم فقال وَهُمْ مُكْرَمُونَ إذ الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم. وحين ذكر مأكولهم وصف مسكنهم وهيئة جلوسهم فقال فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ وقد مر في «الحجر» . ثم وصف مشروبهم. قال أهل اللغة: لا يسمى الإناء كأسا إلا إذا كان فيها خمر، وقد تسمى الخمر نفسها كأسا. عن الأخفش: كل كأس في القرآن فهي الخمر وكذا في تفسير ابن عباس. والمعين النهر الجاري على وجه الأرض وأصله معيون لأنه الظاهر للعيون أو من عين الماء. وقد يقال: عان الماء يعين إذا ظهر جاريا قاله ثعلب. وقيل: «فعيل» من المعن وهو المنقعة أو الماء الشديد الجري ومنه أمعن في السير أي بالغ فيه. واشتدّ وصف الخمر بما يوصف به الماء لأنها تجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء. وبيضاء صفة للكأس: قال الحسن: خمر الجنة أشدّ بياضا من اللبن. ولَذَّةٍ إما مصدر وصف بها للمبالغة كأنها نفس اللذة، أوصي تأنيث. اللذ واللذ اللذيذ واحد كالطب والطبيب ثم بين أن خمر الجنة لا تغتال العقول. يقال: غاله يغوله غولا إذا أهلكه وأفسده، وفيه تعريض بخمر الدنيا ولهذا قدم الظرف وبنى الكلام على الاسم في قوله وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أي يسكرون. وخص هذا الوصف بالذكر لأنه أعظم المفاسد في شرب الخمر. يقال: نزف الشارب على البناء للمفعول إذا ذهب عقله. والتركيب يدور على الفناء والنفاد ومنه نزحت الركية حتى نزفتها إذا لم تترك فيها ماء. وأنزف مثله ومعناه صار ذا نزف. وعن بعضهم أن معنى قوله وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ هو أن الشراب لا ينقطع عنهم لئلا يلزم نوع من التكرار. والأوّلون حملوه على المبالغة. ثم وصف منكوحهم بقوله وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي حابساتها عن غير أزواجهن كقوله عُرُباً [الواقعة: 37] والعين جمع العيناء مؤنث الأعين وهو كبير العين. ثم شبههن ببيض النعام المكنون في وكناتها، وذلك لأن فيها بياضا يشوبه قليل من الصفرة، وإذا كانت مستورة في أماكنها كانت مصونة عن الغبرة والتغير فكانت في غاية الحسن، وبها تشبه العرب النساء وتسميهن بيضات الخدور. ثم عطف على قوله يُطافُ قوله فَأَقْبَلَ وهو مضارع في المعنى إلا أنه على عادة الله تعالى في الأخبار. ولعل هذا التذاكر عقيب إطافة الكأس فلهذا جيء بالفاء بخلاف ما مر في تخاصم أهل النار. والمراد أنهم يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة أهل المنادمة والعشرة. قال بعضهم: وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 560 وقد حكى من جملة مكالماتهم تذكرهم أنه كان قد حصل لهم في الدنيا ما يوجب لهم الوقوع في عذاب الله، ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالنعيم المقيم وهذا ابتداء الحكاية قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي من أهل الجنة إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ جليس أو شريك في الدنيا يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أي بيوم الدين أَإِنَّا لَمَدِينُونَ لمجزيون من دان يدين إذا جزى. وقيل: لمسوسون مقهورون من دانه إذا ساسه ومنه الحديث «الكيس من دان نفسه» وعن بعضهم: أراد بالمتحادثين الرجلين المذكورين في الكهف في قوله وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الآية: 32] قالَ يعني ذلك القائل أو الله أو بعض الملائكة هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إلى النار أي هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم منها. عن ابن عباس: إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار فَاطَّلَعَ على أهل النار فرأى قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ وسطها قالَ لقرينه تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ «إن» مخففة واللام فارقة. والإرداء الإهلاك، وبخه على أنه كان يدعوه في الدنيا إلى إنكار البعث المتضمن للكفر المؤدّي إلى الهلاك الحقيقي. والخطاب مع القرين إما أن يكون بحيث يسمعه حقيقة وذلك لرفع الحجاب وتقريب المسافة أو كما أراد الله بقدرته، وإما أن يخاطبه وإن لم يمكنه السماع لبعده كما يخاطب الموتى ومن في حكمهم، نظيره ما مر في قصة صالح فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ [الأعراف: 79] إلى آخر الآية والله أعلم. ثم شكر الله تعالى على أن وفقه لنعمة الإسلام وأرشده إلى الحق وعصمه عن الباطل فقال وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ في النار مثلك أطلق إطلاقا لأن الإحضار يستعمل في الشر غالبا ولا سيما في اصطلاح القرآن. وحين تمم كلامه مع الرجل الذي كان قرينا له في الدنيا وهو الآن من أهل النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة قائلا أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ وفيه قولان أحدهما: إن أهل الجنة لا يعلمون في أوّل دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فيستفهمون عن ذلك فيما بينهم، أو يسألون الملائكة فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون والتقدير: نحن مخلدون منعمون فما من شأننا أن نموت ولا أن نعذب. وثانيهما أن هذا مما يقوله المؤمن تحدثا بنعمة الله سبحانه واغتباطا بحاله، فإن الذي يتكامل خيره وسعادته إذا عظم تعجبه بها قد يقول. أفيدوم هذا لي؟ وإن كان على يقين من دوامه. وأيضا إنه قال ذلك بمسمع من قرينه ليكون توبيخا له وليحكيه الله فيكون لنا لطفا وزجرا. احتج نفاة عذاب القبر بقوله إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى فإنه يدل على أن الإنسان لا يموت إلا موتة واحدة ولو حصلت الحياة في القبر لكان الموت حاصلا مرتين. وأجيب بأن المراد بالموتة الأولى كل ما يقع في الدنيا. وقوله إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يجوز أن يكون من تمام كلامه لقرينه تقريعا له وتوبيخا وأن يكون من قول أهل الجنة فيما بينهم أي إن هذا الأمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 561 الذي نحن فيه أو هو قول الله تصديقا لهم، وكذا قوله لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ولا خلاف أن قول ذلك خير من كلام الله عز وجل كأنه لما تمم قصة المؤمن رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فاستفهم للتقرير أن ذلك الرزق خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ قال جار الله: أصل النزل الفضل والريع في الطعام يقال: طعام كثير النزل. فاستعير للحاصل من الشيء، وحاصل الرزق المعلوم اللذة والسرور، وحاصل تلك الشجرة الألم والغم. ويمكن أن يقال: النزل ما يقدّم للضيف، ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم ولكنهم وبخوا على ذلك. وظاهر القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعم والرائحة مؤلمة التناول صعبة الابتلاع إلا أن المفسرين اختلفوا في ماهيتها، فذكر قطرب أنها شجرة مرة تكون بتهامة. وقال غيره: إنها ليس لها في الدنيا وجود بدليل قوله إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ وذلك أنها خلاف المألوف والمعتاد فإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله تعالى وإذا ورد على الزنديق توسل به إلى الطعن في القرآن ويزيد في شبهته كقوله فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125] وقيل: إنما كانت فتنة لهم لأنهم إذا كلفوا تناولها شق ذلك عليهم فهو كقوله: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: 13] وذكر المفسرون أن ابن الزبعري قال لصناديد قريش إن محمدا يخوّفنا بالزقوم وإن الزقوم بلسان بربر وإفريقية الزبد والتمر. وذكروا أيضا أن أبا جهل أدخلهم بيته وقال: يا جارية زقمينا فأتتهم بالزبد والتمر فقال: تزقموا فهذا الذي يوعدكم محمد به فأنزل الله صفة الزقوم. وذكر بقية أوصاف الشجرة منها إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. وفيه تكذيب للطاعنين فيه كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر. ومنها طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ قال جار الله: الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية وذلك أن يكون وجه الاستعارة مجرد الطلوع أي الظهور، أو معنوية وذلك إذا كان يشبه الطلع شكلا ولونا. وفي تشبيه ثمرتها برؤوس الشياطين أقوال أحدها وهو الأقوى: أنه تمثيل وتخييل وذلك أن الشيطان مثل في القبح ونفرة الطباع عنه كما أن الملك مثل في الحسن وميل النفوس إليه، وإذا كان الشيطان كله مستقبحا فرأسه كذلك، وتشبيه الثمرة برأسه أولى للاستدارة وللتوسط في الجحيم. الثاني أن الشيطان هاهنا نوع من الحيات تعرفها العرب، خفاف لها أعراف ورؤوس قباح. الثالث أنه شجر معروف عند العرب قبيح الأعالي يسمى الأستن وثمره يسمى رؤوس الشياطين. الرابع قال مقاتل: رؤوس الشياطين حجارة سود تكون حول مكة. ولعل هذا بل الثالث والثاني أيضا يعود إلى الأول إلا أنه بعد التسمية كأنه صار أصلا يشبه به. ثم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 562 علل جعل الشجرة فتنة للظالمين بقوله فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها أي من طلعها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أي بطونهم إما لأن شدّة الجوع تحملهم على تناول ذلك الشيء الكريه، وإما لأن الزبانية يقسرونهم على أكلها ليكون بابا من العذاب، فإذا شبعوا غلبهم العطش أو أخذتهم الغصة فيسقون من حميم وهو الماء الشديد الحرارة، وقد وصفه الله سبحانه في قوله وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف: 29] والشوب المزج كما قال في صفة شراب أهل الجنة وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ [المطففين: 27] وهو تسمية بالمصدر والمراد أن الطعام مزج بالحميم أو يسقون صديدا أو شرابا حارا ممزوجا بما هو أحر وهو الحميم. ومعنى «ثم» التراخي في الزمان كأنهم لا يسقون إلا بعد مدة مديدة تكميلا للتعذيب، أو التراخي بالرتبة لأن الشراب أبشع من الطعام بكثير. قال مقاتل: معنى «ثم» في قوله ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ أنهم يخرجون من الجحيم ودركاتها إلى موضع فيه الزقوم والحميم، وبعد الأكل والشرب يردّون إلى موضعهم أي من الجحيم فكأنهم في وقت الأكل والشرب لا يعذبون بالنار. وقيل: هو كقولهم «فلان يرجع إلى مال ونعمة» أي هو فيها. وقيل: «ثم» لتراخي الأخبار أي فقد صح أن مرجع الكفار إلى النار. وقيل: «ثم» مع الجملة قد تدل على التقديم أي قبل ذلك كان مرجعهم إلى الجحيم. ثم بين أن سبب وقوعهم في أصناف العذاب المذكور هو التقليد. والإهراع الإسراع الشديد كأنهم يساقون سوقا ولو لم يوجد في ذم التقليد إلا هذه الآية لكفى. ثم أراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إجمالا بقوله وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أي قبل قومك أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ثم استثنى من قوله وَلَقَدْ ضَلَّ أو من الْمُنْذَرِينَ المهلكين عباده المخلصين فإن عاقبتهم كانت حميدة. ثم سلاه بوقائع الأمم الخالية تفصيلا. وقدّم قصة نوح عليه السلام لكونه أبا ثانيا ونداؤه في قوله رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ [المؤمنون: 26] أو قوله رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] واللام الداخلة على فَلَنِعْمَ جواب قسم محذوف أو للابتداء، والمخصوص بالمدح وهو نحن محذوف، والجمع لتصوير العظمة والكبرياء، وفيه وفي فاء التعقيب في فَلَنِعْمَ دليل على أن نداء العظيم الكبير حقيق بأن يكون مقرونا بإجابة. والكرب العظيم ما هو فيه من مخاوف الطوفان أو من إيذاء قومه مع اليأس من إيمانهم وهذا أقرب. وفي قوله هُمُ الْباقِينَ بصيغة الحصر دلالة على أن كل من سواه وسوى ذريته فقد فنوا. روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ذريّته وهم سام وحام ويافث. فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان شرقا وغربا، ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وتركنا عليه في المتأخرين من الأمم هذه الكلمة وهي سَلامٌ عَلى نُوحٍ ومعنى فِي الْعالَمِينَ أن هذه التحية ثبتها الله فيهم فيسلم الثقلان عليه إلى يوم القيامة. ثم بين أن سبب هذه التشريفات هو كونه محسنا وهذا جزاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 563 كل محسن. ثم بين أن إحسانه كان مسبوقا بإيمانه فعلى كل مؤمن أن يجتهد حتى يصير محسنا. وحين تمم ما آل إليه أمر نوح وذريته ذكر عاقبة سائر قومه فقال ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أعاذنا الله من الإغراق والإحراق وجعل فلكنا فلك نوح وسفرنا متضمنا للنصر والفتوح. التأويل: وَالصَّافَّاتِ إشارة إلى ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجساد في أربعة صفوف: الأول للأنبياء، والثاني للأولياء، والثالث للمؤمنين، والرابع لأهل الكفر فَالزَّاجِراتِ هي الإلهامات الربانية للعوام عن المناهي، وللخواص عن رؤية الأعمال، وللأخص عن الالتفات إلى غير الله فَالتَّالِياتِ ذِكْراً هم الذين يذكرون الله في الخلوات بخلوص النيات. رب سموات القلوب وأرض النفوس وما بينهما من صفاتهما ورب مشارق القلوب يطلع منها شموس الشواهد وأقمار الطوالع ونجوم اللوامع. السماء الدنيا هي الرأس، وكواكبها الحواس، والشهب هي الخواطر الرحمانية تدفع بها الوساوس الشيطانية طِينٍ لازِبٍ أي لاصق بكل ما يصادفه فقوم لصقوا بالدنيا وقوم لصقوا بالآخرة وقوم لصقوا بنفحات ألطاف الحق، فأذابتهم وجذبتهم عن أنانيتهم بهويتها كما تذيب الشمس الثلج وتجذبه عنه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ للسالك في كل مقام وقفة تناسب ذلك المقام وهو مسؤول عن أداء حقوق ذلك المقام. فقوم يسألهم الملك وقوم يسألهم الملك، والأوّلون أقوام لهم أعمال صالحة تصلح للعرض والكشف. والآخرون قسمان: قوم لهم أعمال يسترها الحق عن اطلاع الخلق عليهم في الدنيا والآخرة كما قال «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري» وقوم لهم ذنوب لا يطلع عليها إلا الله فيسترها عليهم كما جاء ذكره في الحديث «إن الله يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كتفه يستره من الناس فيقول: أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب. ثم يقول: أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم. ثم يقول: أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب. حتى إذا قرره بذنوبه ورأى نفسه أنه قد هلك قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وقد غفرتها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته» «1» إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وهي الموتة الإرادية عن الصفات النفسانية وبعد ذلك لا موت، بل ينتقل من دار إلى دار. لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ بل لمثل هذه الأمور تبذل الأرواح وتفدى الأشباح كما قيل: (شعر)   (1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 11 باب 4. مسلم في كتاب التوبة حديث 52. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 13. [ ..... ] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 564 على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... وإن بات من ليلى على اليأس والصدّ ثم أخبر بعد قصة الأولياء عن قصة الأعداء بقوله أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ وفي قوله كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ دليل على أن أفعالهم كانت في قبح صفات الشياطين فكانت مكافأتهم من جنس صورة الشياطين سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ انه تعالى سلم على نوح الروح لأنه يحتاج إلى سلام الله ليعبر على الصراط المستقيم الذي هو أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف، ولهذا يكون دعوة الرسل حينئذ رب «سلم سلم» . وإنما اختصوا بالصراط والعبور عليه ليؤدّوا الأمانة التي حملوها إلى أهلها وهو الله سبحانه وتعالى. [سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 182] وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 565 القراآت: يزفون بضم الياء وكسر الزاي: حمزة. الباقون: بفتح الياء إِنِّي أَرى أَنِّي أَذْبَحُكَ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. وتَرى بضم التاء وكسر الراء: علي وخلف وحمزة. سَتَجِدُنِي بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع وَإِنَّ إِلْياسَ موصولا كهمزة الوصل: ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الآخرون: بكسر الهمزة اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ بالنصب في ثلاثتها على البدل: سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد والمفضل. الباقون: برفعها على الابتداء والخبر. آل ياسين ابن عامر ونافع ورويس. الآخرون إلياسين كأنه جمع إلياس لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى موصولا والابتداء بكسر الهمزة: يزيد وإسماعيل والأصبهاني عن ورش الباقون: بفتحها في الحالين. الوقوف: لَإِبْراهِيمَ هـ ط لأن التقدير «واذكر» . وجوز في الكشاف أن يتعلق الظرف بما في الشيعة من معنى المتابعة فلا وقف سَلِيمٍ هـ تَعْبُدُونَ هـ ج للابتداء بالاستفهام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 566 مع اتحاد المقول تُرِيدُونَ هـ ط لاستفهام آخر الْعالَمِينَ هـ فِي النُّجُومِ هـ لا للفاء واتحاد المعنى سَقِيمٌ هـ مُدْبِرِينَ هـ تَأْكُلُونَ هـ ج للاستفهام مع الاتحاد كما مر لا تَنْطِقُونَ هـ بِالْيَمِينِ هـ يَزِفُّونَ هـ تَنْحِتُونَ هـ لا لأن الواو للحال تَعْمَلُونَ هـ فِي الْجَحِيمِ هـ الْأَسْفَلِينَ هـ سَيَهْدِينِ هـ الصَّالِحِينَ هـ حَلِيمٍ هـ ماذا تَرى ط ما تُؤْمَرُ ز للسين مع اتصال المقول الصَّابِرِينَ هـ لِلْجَبِينِ هـ ج لاحتمال أن الواو مقحمة وَنادَيْناهُ جواب «لما» ، ولاحتمال أن الجواب محذوف أي قبلنا منه وناديناه يا إِبْراهِيمُ هـ لا الرُّؤْيا ج لاحتمال أن ما بعده داخل في حكم النداء أو مستأنف الْمُحْسِنِينَ هـ الْمُبِينُ هـ عَظِيمٍ هـ فِي الْآخِرِينَ هـ لا إِبْراهِيمَ هـ الْمُحْسِنِينَ هـ الْمُؤْمِنِينَ هـ الصَّالِحِينَ هـ إِسْحاقَ ط مُبِينٌ هـ وَهارُونَ هـ ج للآية مع العطف الْعَظِيمِ هـ ج لذلك الْغالِبِينَ هـ لا الْمُسْتَبِينَ هـ ج الْمُسْتَقِيمَ هـ ج فِي الْآخِرِينَ هـ لا وَهارُونَ هـ الْمُحْسِنِينَ هـ الْمُؤْمِنِينَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ لا وجه صحيح وإن لم يكن مقصودا فلهذا لم يكن الوقف لازما. تَتَّقُونَ هـ الْخالِقِينَ هـ لا لمن قرأ اللَّهَ بالنصب الْأَوَّلِينَ هـ لَمُحْضَرُونَ هـ الْمُخْلَصِينَ هـ فِي الْآخِرِينَ هـ لا الياسين هـ الْمُحْسِنِينَ هـ الْمُؤْمِنِينَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ أَجْمَعِينَ هـ لا الْغابِرِينَ هـ الْآخَرِينَ هـ مُصْبِحِينَ هـ لا وَبِاللَّيْلِ ط تَعْقِلُونَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ لا الْمَشْحُونِ هـ لا الْمُدْحَضِينَ هـ ج لحق المحذوف مع الفاء مُلِيمٌ هـ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ هـ لا يُبْعَثُونَ هـ سَقِيمٌ هـ ج يَقْطِينٍ هـ ج أَوْ يَزِيدُونَ هـ ط إِلى حِينٍ هـ ط الْبَنُونَ هـ ط شاهِدُونَ هـ لَيَقُولُونَ هـ لا وَلَدَ اللَّهُ لا تعجيلا لتكذيبهم لَكاذِبُونَ هـ الْبَنِينَ هـ ط لابتداء استفهام آخر تَحْكُمُونَ هـ تَذَكَّرُونَ هـ ج لأن «أم» تصلح استئنافا مُبِينٌ هـ لا لتعجيل أمر التعجيز صادِقِينَ هـ نَسَباً ط لَمُحْضَرُونَ هـ لا لتعلق الاستثناء وسُبْحانَ اللَّهِ معترض يَصِفُونَ هـ الْمُخْلَصِينَ هـ تَعْبُدُونَ هـ لا بِفاتِنِينَ هـ لا الْجَحِيمِ هـ مَعْلُومٌ هـ الصَّافُّونَ هـ ج للعطف مع الاتفاق الْمُسَبِّحُونَ هـ ج لَيَقُولُونَ هـ لا مِنَ الْأَوَّلِينَ هـ لا الْمُخْلَصِينَ هـ يَعْلَمُونَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ لأن ما بعده يصلح ابتداء مقولا للكلمة الْمَنْصُورُونَ هـ ص لعطف الجملتين المتفقتينْ غالِبُونَ هـ حِينٍ هـ لا للعطف ولشدة اتصال المعنى يُبْصِرُونَ هـ يَسْتَعْجِلُونَ هـ الْمُنْذَرِينَ هـ حِينٍ هـ لا يُبْصِرُونَ هـ عَمَّا يَصِفُونَ هـ ج لعطف جملتين مختلفتين الْمُرْسَلِينَ هـ ج للابتداء بالحمد الذي به يبتدأ الكلام وإليه ينتهي مع اتفاق الجملتين الْعالَمِينَ هـ. التفسير: الضمير في شِيعَتِهِ يعود إلى نوح والمراد أن إبراهيم ممن شايع نوحا على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 567 أصول الدين أو على التصلب في الدين. وقال الكلبي: واختاره الفراء إنه يعود إلى محمد أي هو على منهاجه ودينه وإن كان إبراهيم سابقا والأوّل أظهر لتقدّم ذكر نوح. ولما روي عن ابن عباس معناه من أهل دينه وعلى سنته وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان: هود وصالح، وبين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة. ومعنى جاءَ رَبَّهُ أقبل بقلبه على الله وأخلص العمل له. والقلب السليم قد مرّ في «الشعراء» . ثم ذكر من جملة آثار سلامة قلبه أن دعا أباه وقومه إلى التوحيد. ومعنى ماذا تَعْبُدُونَ أي شيء تعبدونه كقوله في «الشعراء» ما تَعْبُدُونَ [الآية: 70] سألهم عن جنس معبوديهم ثم وبخهم على ذلك بقوله أَإِفْكاً هو مفعول له قدم للعناية كما قدم المفعول به على الفعل لذلك فإنه كان الأهم عنده أن يكافحهم ويعنفهم على شركهم وأنهم على إفك وباطل. ويجوز أن يكون إِفْكاً حالا معنى أو مفعولا به وآلِهَةً بدل منه على أنها إفك في أنفسها. فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ حتى جعلتم الجمادات أندادا له أو حسبتم أنه يهمل أمركم ولا يعاقبكم، وفيه أنه لا يقدر في وهم ولا ظن ما يصدر عن عبادته. وفي قوله إِنِّي سَقِيمٌ قولان: الأوّل أنه صدر منه كذبا لمصلحة رأى فيه، ولما جاء في الحديث «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات» : قوله: «إِنِّي سَقِيمٌ وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وقوله لسارة إنها أختي» «1» وقد سبق تقرير ذلك في الأنبياء. الثاني وهو الأقوى أنه كلام صادق لأن الكذب قبيح وإن اشتمل على مصلحة. وأما الحديث فنسبة الراوي إلى الكذب أولى من نسبة نبي الله إلى ذلك. وفي التوجيه وجوه: الأوّل: إن النظر في النجوم يريد به النظر في علم النجوم وأحكامها وكتبها وذلك ليس بحرام ولا سيما في ذلك الشرع فليس فيه إلا اعتقاد أنه تعالى خص كل واحد من الكواكب بقوّة وخاصية يظهر بها منه أثر مخصوص، والإنسان لا ينفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة له، إما في بدنه أو في قلبه، فلعل به سقما كالحمى الثابتة، أو أراد سيسقم لأمارة نجومية، أو أراد به الموت الذي يلحقه لا محالة ولاداء أعي منه. الثاني: أن المراد بالنجوم ما جاء في قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً إلى آخر الآية. أي نظر فيها ليعرف أحوالها وأنها قديمة أو محدثة. وقوله إِنِّي سَقِيمٌ أي سقيم القلب غير عارف بربي وكان ذلك قبل البلوغ، أو سقيم النفس لكفركم. الثالث: إن النجوم النبات أي فنظر فيها متحريا منها ما فيه شفاء لسقمهم وهمهم أن به ذلك وكان به. وقال الأزهري عن أحمد بن يحيى: النجوم جمع نجم وهو كل ما تفرق ومنه نجوم الكتابة أي نظر في متفرقات   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 8. مسلم في كتاب الفضائل حديث 154. أبو داود في كتاب الطلاق باب 16. الترمذي في كتاب تفسير سورة 21 باب 3. أحمد في مسنده (2/ 403) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 568 كلامهم وأحوالهم حتى يستخرج منه حيلة فلم يجد عذرا أحسن من قوله إِنِّي سَقِيمٌ قال المفسرون: كان الطاعون أغلب الأسقام عليهم فظنوا أن به ذلك فتركوه في بيت الأصنام مخافة العدوى وهربوا إلى عيدهم وذلك قوله سبحانه فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ ذهب إليها في خفية حتى لا يرى فكأنه رجع إليها مراوغا قومه من روغان الثعلب. وقيل: راغ بقوله إِنِّي سَقِيمٌ حتى خلا بها وسماها آلهة على زعمهم. وقوله أَلا تَأْكُلُونَ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ استهزاء بها وكان عندها طعام زعموا أنها تأكل منه. وقيل: وضع الطعام ليبارك فيه. وروى أن سدنتها كانوا يأكلون ما يوضع عندها من الطعام وينطقون عند الضعفة عن لسانها يوهمون أنها تأكل وتنطق. وإنما جاء في هذه السورة فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ بالفاء وفي «الذاريات» قالَ أَلا تَأْكُلُونَ بغير الفاء لأنه قصد من أول الأمر تقريع من زعم أنها تأكل وتشرب، وفي «الذاريات» يستأنف تقديره: قربه إليهم فلم يأكلوها فلما رآهم لا يأكلون فقال ألا تأكلون. فَراغَ عَلَيْهِمْ عداه بعلى لأن الميل الأول كان على سبيل الرفق استهزاء، وهذا كان بطريق العنف والقهر وهذا كمال يقال في المحبوب: مال إليه. وفي المكروه: مال عليه. وقوله ضَرْباً مصدر راغ من غير لفظه أو لفعل محذوف أو حال أي يضرب ضربا أو ضاربا. ومعنى بِالْيَمِينِ أي باليد اليمنى لأنها أقوى على الأعمال أو بالقوّة مجازا، أو بسبب الحلف وهو قوله تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ أي إلى إبراهيم يَزِفُّونَ يمشون على سرعة. وزفيف النعامة ابتداء عدوها. ومن قرأ بضم الياء فإما لازم من أزف إذا صار إلى حال الزفيف، أو متعد والمفعول محذوف أي يزفون دوابهم أو بعضهم بعضا وقد مر نظيره في التوبة في قوله وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ [التوبة: 47] قال بعض الطاعنين، قوله فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ دل على أنهم عرفوا كاسر أصنامهم. وقوله في «الأنبياء» أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ [الآية: 62] دل على أنهم لم يعرفوا الكاسر فبينهما تناقض. وأجيب بأن هؤلاء غير أولئك فالذين عرفوه ذهبوا إليه مسرعين، والذين لم يعرفوه بعد استخبروا عنه. على أن قوله فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ لا دلالة له على أنهم عرفوا أن الكاسر هو إبراهيم فلعلهم أقبلوا إليه لأجل السؤال عن الكاسر. وحين عاتبوه على فعله أراد أن يبين لهم فساد طريقتهم ف قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وذلك أن الناحت لم يحدث فيه إلا صورة معينة فيكون معناه أن الشيء الذي لم يكن معبودا لي صار بسبب تصرفي فيه معبودا لي وفساد هذا معلوم بالبديهة، احتج جمهور الأشاعرة بقوله وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ على أن العبد ليس خالق أعماله لأن المعنى خلقكم وأعمالكم. وزيف بأن «ما» موصولة لتناسب قرينتها في قوله ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 569 تَنْحِتُونَ وليتوجه التوبيخ ولكيلا يلزم التناقض فإن النحت عملهم. والصحيح أن الآية كقوله بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ [الأنبياء: 56] أي فطر الأصنام. ثم إن إبراهيم لما ألقمهم الحجر بهذا القول وألزمهم عدلوا إلى طريقة الإيذاء وقالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً قال ابن عباس: بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون. وتقدير الآية: ابنوا له بنيانا واملؤه نارا وألقوه فيها. والجحيم النار العظيمة. ومعنى الفاء في قوله فَأَرادُوا كقوله أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الأعراف: 4] كأنه قيل: فبنوا البنيان وملؤه نارا وألقوه فيها فنجيناه منها. وقد صح أنهم أرادوا به كيدا فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ الأذلين وأما في الأنبياء فلم يقصد هذا الترتيب فاقتصر على الواو العاطفة. وإنما اختصت هذه السورة بقوله الْأَسْفَلِينَ لأنه ذكر أنهم بنوا بنيانا عاليا فكان ذكر السفل في طباقه أنسب. ثم ذكر بقية قصة إبراهيم وقوله إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي كقوله في «العنكبوت» إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [الآية: 26] وإنما حكم بقوله سَيَهْدِينِ ربي إلى ما فيه صلاحي في الدارين اعتمادا على فضل الله أو عرف ذلك بالوحي. وحين هاجر إلى الأرض المقدسة أراد الولد فقال رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ والله تعالى بين استجابته بقوله فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ وصف الغلام بالعلم في سورة الحجر وبالحلم هاهنا. فذهب العلماء إلى أنه أراد بغلام عليم في صغره حليم في كبره، فإن الصبي لا يوصف بالحلم ومن هنا انطوت البشارة على معان ثلاثة: أحدها أن الولد ذكر، والثاني أنه يبلغ أوان الحلم، والثالث أنه يكون حليما، وأيّ حلم أعظم من استمساكه حين عرض أبوه عليه الذبح فقال سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ وفيه أن ولده قائم مقامه في الشرف والفضيلة فوصفه بالحلم كما وصف به إبراهيم في قوله إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود: 75] . وقيل: العليم إسحق لقوله فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ [الذاريات: 29] والحليم إسماعيل. ثم حكى حديث ذبحه قائلا فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي قوي على أن يمشي مع أبيه في حوائجه. والظرف بيان كأنه قال أوّلا فلما بلغ السعي فقيل: مع من؟ فأجيب مع أبيه. ولا يجوز تعلقه بالسعي لأن صلة المصدر لا تتقدّم عليه ولا بقوله بَلَغَ لأنهما لم يبلغا معا حد السعي- والمعنى في اختصاص الأب إخراج الكلام مخرج الأغلب. وقال جار الله: السبب فيه أن الأب أرفق الناس به وأعطفهم عليه وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله لأنه لم تستحكم قوته. يروى أنه كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وقيل أراد السعي في المنافع وفي طاعة الله. اعلم أن الناس اختلفوا في الذبيح، فعن أبي بكر الصديق وابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب وعكرمة ومجاهد والضحاك أنه إسماعيل لقوله صلى الله عليه وسلم «أنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 570 ابن الذبيحين» فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله. وذلك أن عبد المطلب نذر إن بلغ بنوه عشرة أن يذبح واحدا منهم تقربا، فلما كملوا عشرة أتى بهم البيت وضرب عليهم بالقداح فخرج قدح عبد الله فمنعه أخواله ففداه بعشرة من الإبل، ثم ضرب عليه وعلى الإبل فخرج قدحه ففداه بعشرة أخرى، وضرب مرة أخرى فخرج قدحه وهكذا يزيد عشرة عشرة إلى أن تمت مائة فخرج القدح على الجزر فنحرها وسن الدية مائة. وفي رواية أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم «يا ابن الذبيحين» . فتبسم فسأل عن ذلك فقال: إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده. فخرج السهم على عبد الله فمنعوه ففداه بمائة من الإبل. حجة أخرى: نقل عن الأصمعي أنه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعي أين عقلك؟ ومتى كان إسحق بمكة وإنما كان إسماعيل وهو الذي بنى البيت مع أبيه وسن النحر بمكة. وحجة أخرى: وصف إسماعيل بالصبر في قوله وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء: 85] وهو صبره على الذبح في قوله سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ووصفه بصدق الوعد إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مريم: 54] وذلك أنه وعد أباه الصبر على قضاء الله أو على الذبح فوفى به. أخرى: وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [مريم: 54] فيمن قرأ بالنصب لأنه إذا بشر بالولد من صلبه علم أنه لم يؤمر بذبحه. أخرى: أجمعوا على أن إسماعيل مقدم في الوجود على إسحق فهو المراد بقوله رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ثم إنه ذكر عقيبة قصة الذبح. وأيضا قوله وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ يجب أن يكون غير قوله فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ وإلا لزم التكرار. حجة أخرى: ان قرني الكبش كانا ميراثا لولد إسماعيل عن أبيهم وكانا معلقين بالكعبة إلى أن احترق البيت في أيام ابن الزبير والحجاج. وعن علي وابن مسعود وكعب الأحبار وإليه ذهب أهل الكتاب أن الذبيح إسحق لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي النسب أشرف؟ فقال: يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله. وأجابوا عن قوله: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ أنه بشر بغلام أوّلا ثم بنبوته ثانيا. وأيضا صرح بالمبشر به في قوله فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود: 71] وفي قوله وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ فيحمل عليه المبهم في قوله فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ وأيضا لا نسلم أن البشارة بيعقوب كانت متصلة ببشارة إسحق اعتبارا بقراءة من قرأ يعقوب [هود: 17] بالرفع. وأيضا أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي هو مهاجرته إلى الشام ثم قال فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ فوجب أن يكون الغلام الحليم قد حصل له في الشام وذلك الغلام لم يكن إلا إسحق، لأن إسماعيل قد نشأ بمكة. وكان الزجاج يقول: الله أعلم أيهما الذبيح. ويتفرع على اختلاف المفسرين في الذبيح اختلافهم في موضع الذبح، فالذين قالوا إن الذبيح إسماعيل ذهبوا إلى أن الذبح كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 571 بمنى وهذا أقوى، والذين قالوا إنه إسحق قالوا إن الذبح كان بالشام وخصه بعضهم يبيت المقدس. إذا عرفت هذا الاختلاف فقوله يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ إنما قال بلفظ المستقبل لأنه كان يرى في منامه ثلاث ليال أو لأن رؤيا الأنبياء وحي ثان فذكر تأويل الرؤيا كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب سفينة: رأيت في المنام أني ناج من هذه المحنة فكأنه قال: إني أرى في المنام ما يوجب أني أذبحك. ويحتمل أن يكون حكاية ما رآه. قال بعض المفسرين: رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا فأصبح يروّي في ذلك أمن الله أو من الشيطان فسمي يوم التروية. فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله فسمي عرفة، ثم رأى مثله في الثالثة فهمّ بنحره فسمي يوم النحر. وقال بعضهم: حين بشره الملائكة بغلام حليم قال هو إذن ذبيح الله، فلما ولد وبلغ حد السعي مع أبيه قيل له: أوف بنذرك فانظر ماذا ترى هو من الرأي. ومن قرأه من الإراءة فالمعنى ماذا تبصر من رأيك وتدبيرك. وإنما شاوره في حتم من الله ليثبته إن جزع ويفرح بصبره إن ثبت ولئلا يقع الذبح معافصة من غير إعلام به وبسببه، وليكون سنة في المشاورة فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في الأكل من الشجرة لما فرط منه ذلك قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أي به فحذف الجار كقوله: أمرتك الخير. أي أمرتك بالخير أو أمرك على تسمية المأمور به بالمصدر ثم إضافته إلى المفعول: فَلَمَّا أَسْلَما أي انقادا وخضعا لأمر الله. قال قتادة: أسلم هذا ابنه وهذا نفسه. وَتَلَّهُ أي صرعه. واللام في لِلْجَبِينِ كهي في قوله وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ [الإسراء: 109] والجبين أحد جانبي الجبهة. وقيل: كبه لوجهه لأن الولد قال له اذبحني وأنا ساجد. يروى أنه حين أراد ذبحه قال: يا بنيّ خذ الحبل والمدية ننطلق إلى الشعب ونحتطب، فلما توسطا الشعب أخبره بما أمر فقال له: اشدد به رباطي لئلا أضطرب واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن، واشحذ شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإن الموت شديد، واقرأ على أمي سلامي، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل. فقال إبراهيم: نعم العون أنت يا بنيّ على أمر الله. ثم أقبل عليه يقبله وقد ربطه وهما يبكيان فقال له: كبني على وجهي ولا تنظر إليّ حتى لا تدركك رقة تحول بينك وبين أمر الله. قال جار الله: تقدير الكلام فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا كان ما كان مما ينطق به العيان ولا يحيط به البيان من استئثارهما بما أنعم الله عليهما من دفع البلاء وبما اكتسبا في تضاعيف ذلك من الثواب والثناء، وقد أشير إلى جميع ذلك بقوله إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا الأمر الذي قد وقع لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ الذي يتميز فيه المخلص عن المدعى والمكروه الذي لا أصعب على النفس منه. يروى أنه لما وصل موضع السجود منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 572 الأرض جاء الفرج. وقيل: إنه وضع السكين على قفاه فانقلب السكين ونودي يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا. فنظر فإذا جبرائيل عليه السلام معه كبش أقرن أملح فكبر جبرائيل والكبش وإبراهيم وابنه وأتى المنحر من منى فذبحه وذلك قوله سبحانه وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ والفداء جعل الشيء مكان غيره لدفع الضرر عنه. والذبح اسم لما يذبح كالطحن لما يطحن. وقوله عَظِيمٍ أي سمين ضخم الجثة بالقياس إلى أمثاله وهي السنة في الأضاحي. قال صلى الله عليه وسلم «استشرفوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم» . والاستشراف جعلها شريفة وكريمة. وعن سعيد بن جبير: حق له أن يكون عظيما وقد رعى في الجنة أربعين خريفا. وفي قول ابن عباس: إنه الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه وكان يرعى في الجنة إلى أن فدى به إسماعيل. وقيل: سمي عظيما لعظم قدره حيث قبله الله تعالى فداء عن ولد خليله. وقيل: وصفه بالعظم لبقاء أثره إلى يوم القيامة فإنه ما من سنة إلا ويذبح بسبب ذلك من الأنعام ما لا يحصيه إلا الله. وعن الحسن. أنه وعل أهبط عليه من ثبير. وقال السدّي: نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو بكبش أملح ينحط من الجبل فقام عند إبراهيم عليه السلام فذبحه وخلى ابنه. استدل بعض الأصوليين من أهل السنة بالآية على جواز نسخ الحكم قبل حضور وقته. وقالت المعتزلة. وكثير من فقهاء الشافعية والحنفية بعدم الجواز لاستلزامه البداء أو الجهل، وزعموا أنه تعالى أمر إبراهيم في المنام بمقدمات الذبح كاضجاع ابنه ووضع السكين على حلقه، والعزم الصحيح على الإتيان بذلك الفعل أوان ورود الأمر. سلمنا أنه أمر بنفس الذبح لكن لم يجوز أنه قطع الحلقوم إلا أنه كان يلتئم جزءا فجزءا فلهذا قيل له قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا. والفداء فضل من الله في حقه وتعظيم له بدلا من عدم وقوع الذبح في الظاهر ولهذا قال وَفَدَيْناهُ. بإسناد الفداء إلى ذاته تعالى. والحق أن نسخ الحكم قبل وقته لا يدل على البداء والعبث كما أنه بعد الوقت لا يدل على ذلك فقد يكون غرض الآمر أن يعلم أن المأمور هل يعزم على الفعل ويوطن نفسه على الانقياد والطاعة أم لا. وتصديق الرؤيا يكفي فيه الإتيان بمثل هيئة الذبح، فمن الرؤيا ما يكون تأويلها بالشبيه كرؤيا يوسف، والفداء زيادة تشريف وتكريم ووضع سنة مؤكدة. وروي أن الكبش هرب من إبراهيم عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فبقيت سنة في الرمي. وروي أنه لما ذبحه قال جبرائيل: الله أكبر الله أكبر. فقال الولد الذبيح: لا إله إلا الله والله أكبر. فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد. فبقي سنة. قوله وَتَرَكْنا إلى قوله الْمُؤْمِنِينَ قد مر نظيره في قصة نوح إلا أنه لم يقل هاهنا فِي الْعالَمِينَ اكتفاء بما علم في قصة نوح. ولم يقل هاهنا إِنَّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 573 كَذلِكَ بل اقتصر على كَذلِكَ لأنه سبق ذكر التأكيد في هذه القصة فلم يحتج إلى إعادته على أنه قد بقي من القصة شيء فناسب الاختصار في الاعتراض. قوله وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ من جعل الذبيح إسماعيل قال: وبشرناه بإسحاق بعد إسماعيل. ومن جعل الذبيح إسحق قال بشر بنبوّته وقد كان بشر بمولده. قوله نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ كل منهما حال مقدرة من الفاعل أي بشرناه به مقدرا وعالما وحاكما بأنه نبي صالح. وقد أطنب صاحب الكشاف في هذا المقام حيث بنى الكلام على أنه حال مقدرة من إسحق. وهو عندي تطويل بلا طائل فليتأمل. وَبارَكْنا عَلَيْهِ قيل: أي على الغلام المبشر به. وقيل: على إبراهيم: وَعَلى إِسْحاقَ أي أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا. ومن جملة ذلك ما روي أنه أخرج من صلب إسحق ألف نبي أوّلهم يعقوب وآخرهم عيسى وهم المشار إليهم بقوله وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ ويعلم من قوله وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ أن البر قد يلد الفاجر ولا عار على الأب، وأن الشرف بالحسب لا بالنسب. وأما قصة موسى فلا خفاء بها. والكرب العظيم تسلط فرعون وجفاؤه على قومه. وقيل: الغرق. والضمير في نَصَرْناهُمْ لهما ولقومهما. والمستبين البليغ في بيانه وهو التوراة بان وأبان واستبان بمعنى إلا أن الثالث أبلغ. والصراط المستقيم دين الله الذي اشترك في أصوله جميع الرسل. وأما إلياس فالجمهور على أنه نبي من بني إسرائيل بعث بعد موسى وكان من ولد هارون. وقيل: هو إدريس النبي وقد مر ذكره في سورة مريم. و «إذا» ظرف 3 لمحذوف أي اذكر يا محمد لقومك إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ الله. قال الكلبي: أي ألا تخافون عبادة غير الله. وحين خوّفهم مجملا ذكر سببه فقال أَتَدْعُونَ أي أتعبدون بَعْلًا وهو اسم صنم من ذهب كان ببعلبك من بلاد الشام طوله عشرون ذراعا وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه، فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس. قال الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه: لو جوّزنا دخول الشيطان في جوف الصنم وتكلمه فيه لكان قادحا في كثير من المعجزات كحنين الجذع وكلام الجمل. قلت: هذا الوهم زائل بعد ثبوت النبوّة بمعجزات أخر. وقيل: البعل الرب بلغة اليمن. والمعنى أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة أحسن الخالقين. ثم بين جزاء تكذيبهم أنهم محضرون في العذاب غدا. وباقي القصة ظاهر إلا قوله إلياسين فمن قرأ بالإضافة فعلى أن إدريس بن ياسين أي سلام على أهل ياسين. وقيل: آل ياسين آل محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: يس اسم القرآن فكأنه قيل: سلام على من آمن بكتاب الله. والوجه الأوّل هو أنسب الأقوال. ومن قرأ على صورة الجمع فقد قال الفراء: أراد به إلياس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 574 وأتباعه من المؤمنين كقولهم المهلبون والأشعرون بتخفيف ياء النسبة. وقيل: إنه لغة في إلياس. قال الزجاج: يقال ميكائيل وميكائين فكذا هاهنا. حكى الثعلبي وغيره أن إلياس نبي من سبط هارون بعثه الله إلى بني إسرائيل وكان فيهم ملك يقال له «أحب» وله امرأة يقال لها «إزبيل» وكانت تبرز للناس كما يبرز زوجها وتجلس للحكم كما يجلس، فأتاهما إلياس ودعاهما إلى الله تعالى فأبيا عليه وهما بقتله فاختفى منهما سبع سنين، وكان اليسع خليفته وآل أمره إلى أن أوحي إليه أن اخرج إلى موضع كذا فما جاءك فاركبه ولا تخف. فجاء فرس من نار فوثب عليه وناداه خليفته اليسع بن أخطوب ما تأمرني؟ فرمى إلياس إليه بكسائه من الجوّ وكان ذلك عليه علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل. ورفع الله إلياس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فكان إنسيا ملكيا أرضيا سماويا. وقيل: إلياس موكل بالفيافي كما وكل الخضر بالبحار، وهما آخر من يموت من بني آدم. وكان الحسن يقول: قد هلك إلياس والخضر ولا نقول كما يقول الناس. وقصة لوط مذكورة مرارا. ومعنى مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أن مشركي العرب كانوا مسافرين إلى الشام فلعل أكثر مرورهم بتلك الديار كان في هذين الوقتين لأمر عارض كحر أو غيره. وقصة يونس أيضا مما سبق ذكرها، وفيها مزيد تسلية وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم. قال بعضهم: إنه أرسله ملك زمانه إلى أولئك القوم ليدعوهم إلى الله تعالى. فالإباق وهو هرب العبد من سيده لا يوجب العصيان، والأظهر أن قوله وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ مذكور في معرض التعظيم على قياس أوائل سائر القصص، ولن يفيد هذه الفائدة إلا إذا كان الإرسال من الله تعالى. وأما الجواب عن إباقه فقد مر في قوله وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً [الأنبياء: 87] قوله الْمَشْحُونِ كالعلة لقوله فَساهَمَ والمساهمة المقارعة. يقال: أسهم القوم إذا اقترعوا. قال المبرد: هي من السهام التي تجال للقرعة، والمدحض المغلوب في الحجة وغيرها وحقيقته الذي أزلق عن مقام الظفر والغلبة. يروى أنه حين غضب على قومه خرج من بينهم حتى أتى بحر الروم ووجد سفينة مشحونة فحملوه فيها، فلما وصلت إلى لجة البحر أشرفت على الغرق فقال الملاحون: إن فيكم عاصيا وإلا لم يحصل في السفينة ما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر. وقد يزعم أهل البحر أن السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري فاقترعوا فخرج من بينهم يونس. فقال التجار: نحن أولى بالمعصية من نبي الله. ثم عادوا ثانيا وثالثا فخرج سهمه فقال: يا هؤلاء أنا العاصي ورمى بنفسه إلى الماء. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ أي ابتلعه كاللقمة وَهُوَ مُلِيمٌ داخل في الملامة ومنه المثل: رب لائم مليم. أي يلوم غيره وهو أحق منه باللوم فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ قيل: أي من المصلين. قيل: أي من المصلين. عن قتادة: كان كثير الصلاة في الرخاء. وقيل: من الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح والتقديس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 575 كما قيل: اذكر الله في الخلوات يذكرك في الفلوات. والأظهر أن المراد منه ما حكى الله تعالى في آية أخرى أنه كان يقول في تلك الظلمات لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] . والضمير في يُبْعَثُونَ للخلائق بالقرينة وقوله لَلَبِثَ فيه أقوال: أحدها: يبقى هو والحوت إلى يوم البعث. والثاني يموت الحوت ويبقى هو في بطنه. والثالث يموتان ثم يحشر يونس من بطنه. واختلفوا في مدّة لبثه في بطن الحوت، فعن الحسن أنه لم يلبث إلا قليلا. وقيل: ثلاثة أيام. وعن عطاء: سبعة. وعن الضحاك: عشرون. وقال الكلبي: أربعون. روي أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر فلفظه بالعراء وهو المكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «سبح يونس في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا ربنا إنا لنسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة. فقال: نعم ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح. قال: نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه في الساحل» وحكي في بعض التفاسير وإن لم يطابقه رأي أصحاب المسالك كل المطابقة أن الحوت أخرجه إلى نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى البطائح ثم دجلة فلفظه بأرض نصيبين لم تنله آفة إلا أن بدنه عاد كبدن الصبي حين يولد، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين وذلك كالمعجزة له. قال المبرد والزجاج: هو «يفعيل» من قطن بالمكان إذا أقام به فيشمل كل شجرة لا تقوم على ساق كالدباء والبطيخ إلا أن المفسرين خصصوه بالدباء قالوا: لأن الذباب لا يجتمع عنده وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتحب القرع. قال: أجل هي شجرة أخي يونس. قال الواحدي: في الآية دلالة أوّلا على أن اليقطين لم يكن من قبل فأنبته الله لأجله. والآخر أن اليقطين كان قائما بحيث يحصل له ظل. قلت: الثاني مسلم إلا أن الأول ممنوع إن أراد به النوع وإن أراد به الشخص فمسلم. وقيل: هي التين. وقيل: هي شجرة الموز تغطى بورقها واستظل بأغصانها واغتذى من ثمارها. وروي أنه كان يستظل بالشجرة وكانت وعلة تأتيه فيشرب من لبنها. وروي أنه مر زمان على الشجرة فيبست فبكى جزعا فأوحى إليه: بكيت على شجرة ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون فرجع إلى قومه. وقد سبق في سورة يونس باقي التفسير و «أو» في قوله أَوْ يَزِيدُونَ ليست للشك وإنما المراد وصفهم بالكثرة في مرأى الناظر أي إذا رآها الرائي قال هي مائة ألف أو أكثر. ومن هذا التأويل يتضح وجه العطف من حيث المعنى كأنه قيل: وأرسلناه إلى جم غفير مقول فيهم إنهم مائة ألف أو يزيدون. وقيل: التقدير وأرسلناه إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 576 مائة ألف وأرسلناه إلى قوم يزيدون في الإيهام. وكم الزائد؟ قيل: ثلاثون ألفا. عن ابن عباس. وقيل: بضعة وثلاثون. وقيل: بضعة وأربعون. وقيل: سبعون. وجاء مرفوعا عشرون ألفا. ويحتمل أن يراد أو يزيدون في مرور الزمان لأنه يبقى فيهم مدة كما قال فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ هو انقضاء آجالهم. وقيل: القيامة وقد مر. ثم عطف قوله فَاسْتَفْتِهِمْ على مثله في أول السورة. والوجه فيه أنه أمر رسوله باستفتاء قريش عن سبب إنكار البعث، ثم ساق الكلام متصلا بعضه ببعض على ما عرفت في أثناء التفسير، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى حين أضافوا البنات إلى الله تعالى قائلين الملائكة بنات الله مع كراهتهم التامة لهن ورغبتهم الوافرة في البنين. وحين استفتاهم على سبيل التوبيخ شرع في تزييف معتقدهم بقسمة عقلية وذلك أن سند الدعوى إما أن يكون حسا أو خبرا أو نظرا. أما الحس فمفقود لأنهم ما شاهدوا كيفية تخليق الله الملائكة وهو المراد من قوله أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ وأما الخبر فكذلك لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم أنه صدق قطعا وهؤلاء كذابون أفاكون وأشار إليه بقوله أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وأما النظر فمفقود أيضا وبيانه من وجهين: الأول أن دليل العقل يقتضي فساده لأنه تعالى أكمل الموجودات والأكمل لا يليق به اصطفاء الأخس لأجل نفسه وذلك قوله أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ من قرأ أصطفى بفتح الهمزة فلأنه استفهام بطريق الإنكار وقد حذفت همزة الوصل للتخفيف، ومن قرأ بكسرها على الإخبار جعله من جملة كلام الكفرة. الثاني: عدم الدليل على صحة مذهبهم وهو قوله أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ نظيره ما مر في قوله أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم: 35] وقوله وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً للمفسرين فيه قولان: أحدهما أنهم الطائفة الأولى والمعنى أنهم جعلوا بين الله وبين الملائكة نسبة بسبب قولهم إنهم بناته فإن الولادة تقتضي الجنسية والمناسبة، وفيه توبيخ لهم على أن من صفته الاجتنان والاستتار كيف يصلح أن يكون مناسبا لا يجوز عليه صفات الإجرام، وعلى هذا فالضمير في قوله إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ للكفرة. والمعنى أنهم يقولون ما يقولون في الملائكة وقد علمت الملائكة أنهم في ذلك كاذبون وأنهم محضرون النار معذبون بما يقولون. وثانيهما أنهم طائفة من الزنادقة قائلون بيزدان وأهرمن كما مر في «الأنعام» في قوله وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الآية: 100] وعلى هذا فالضمير إما للكفار كما مر، وإما للشياطين. روى عكرمة أنهم قالوا: سروات الجن بنات الرحمن. وقال الكلبي: زعموا أن الله سبحانه تزوّج إلى الجن فخرج منها الملائكة. والتاء في الجنة للتأنيث كحق وحقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 577 قال جار الله: الاستثناء في قوله إِلَّا عِبادَ اللَّهِ منقطع معناه إنهم لمحضرون ولكن المخلصين ناجون وما بينهما اعتراض دال على التنزيه. وجوّز أن يكون الاستثناء من الضمير في يَصِفُونَ أي يصفه هؤلاء بذلك، ولكن أهل الإخلاص مبرؤن من وصفه بما لا ينبغي. وحين بين المذاهب الفاسدة بقضها بيّن أن أهل الشرك ومعبوديهم ليس لهم أن يفتنوا على الله أي يحملوا غيرهم على سلوك سبيل الفتنة والضلال إلا من سبق في علم الله بأنه من أهل النار. وقالت المعتزلة: إلا من سبق في علمه أنهم بسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها. وجوز جار الله أن تكون الواو في وَما تَعْبُدُونَ بمعنى «مع» وجاز السكوت على تَعْبُدُونَ كما في قولهم «كل رجل وضيعته» . ثم قال ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي على ما تعبدون بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ مثلكم. وقال: والوجه في نظم هذه الآيات أن يكون قوله سُبْحانَ اللَّهِ إلى قوله الْمُسَبِّحُونَ من كلام الملائكة والمعنى: ولقد علمت الملائكة وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزة وقالوا: سبحان الله، فنزهوه عن ذلك واستثنوا عباده المخلصين. وقالوا للكفرة: فإذا صح ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحدا من خلقه إلا من كان مثلكم ممن علم الله عز وجل لكفرهم أنهم أهل النار. وكيف نكون مناسبين لرب العزة وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه لكل منا مقام من الطاعة لا يستطيع أن يتجاوزه ونحن الصافون كما مر في أول السورة ونحن المسبحون وقال في التفسير الكبير: هاتان الجملتان تدلان على الحصر، وفيه إشارة إلى أن طاعة البشر كالعدم بالنسبة إلى طاعة الملك فكيف يجوز أن يقال: البشر تقرب درجتهم من درجة الملك فضلا عن دعوى الأفضلية؟ قلت: لا شك أن هذا التركيب يفيد الحصر إلا أنه لم يفرق بين قصر الأول على الثاني كما في الآية وبين عكسه، والذي يفيد مدعاه هو العكس لا الأصل فافهم. وقيل: هذه الآيات من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وما من المسلمين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله. ثم ذكر أعمالهم وأنهم الذين يصطفون في الصلاة ويسبحون الله وينزهونه. ثم حكى أن مشركي قريش كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً أي كتابا من جملة كتب الأوّلين أي نظيرها في بيان الشرائع والتكاليف لأخلصنا العبادة لله. وإن مخففة واللام فارقة فَكَفَرُوا بِهِ الفاء للربط أي فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار فكفروا به فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وخامة عاقبة التكذيب. وقيل: أرادوا لو علمنا حال آبائنا وما آل إليه أمرهم وكان ذلك كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم لآمنا به وأخلصنا لكنا على شك من حديثه. ثم بين أن رسل الله وجنده منصورون غالبون عاجلا وآجلا، والأول أكثريّ والثاني تحقيق يقيني. ثم أمر نبيه بالصفح والإغماض إلى أوان النصرة والغلبة قائلا فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض عن أذاهم إلى حين الأمر بالقتال أو إلى يوم بدر. عن السدي: أو إلى الموت والقيامة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 578 وَأَبْصِرْهُمْ وما يقضى عليهم من الأسر والقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة فسوف يبصرونك وما يؤل إليه أمرك من النصر والثواب في الدارين. وفي هذا الأمر تنفيس عن النبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له كأن الحالة الموعودة قدام عينيه قربا وتحققا. وفَسَوْفَ في الموضعين للوعيد لا للتبعيد وكأنهم فهموا التسويف فاستعجلوا العذاب فوبخوا عليه. وكان من عادة العرب أن يغيروا صباحا فسميت الغارة صباحا وإن وقعت في وقت آخر، وشبه نزول العذاب بساحتهم بعد ما أنذروه بجيش أنذر بعض النصحاء بهجومه قومه فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم حتى أناخ بفنائهم بغتة فشنّ الغارة عليهم. قيل: نزلت في فتح مكة. وعن أنس: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي قالوا: محمد والخميس. ورجعوا إلى حصنهم فقال صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين أي صباحهم، فحذف المخصوص بالذم. واللام في الْمُنْذَرِينَ للجنس. وإنما ثنى وتول عنهم ليكون تسلية على تسلية. والأول لعذاب الدنيا والثاني للآخرة، وأطلق الفعل الثاني أيضا اكتفاء بالأول وليفيد فائدة زائدة وهي أنه يبصر وهم يبصرون ما لا يحيط به الوصف من صنوف المسرة وفنون المساءة. واعلم أن السورة اشتملت على ما قاله المشركون في الله وعلى ما عانى المرسلون من جهتهم وعلى ما يؤل إليه عاقبة الرسل وحزب الله من موجبات الحمد فلا جرم ختمها بكلمات جامعة لتلك المعاني. ومعنى رَبِّ الْعِزَّةِ كقوله قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران: 26] والمراد ذي العزة لأنها صفته لا مربوبه. عن ابن عباس أنه سمع رجلا يقول: اللهم رب القرآن فأنكر عليه وقال: القرآن ليس بمربوب ولكن كلام الله. والظاهر أن قوله عَمَّا يَصِفُونَ يتعلق ب سُبْحانَ كما في قوله سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ وقل: متعلق بالعزة أي امتنع عما يصفونه به وقد مر شيء من تحقيق هذه الحالة في آخر سورة يس. قال بعضهم: إنما لم يقل في آخر قصتي لوط ويونس سلام عليهما اكتفاء بقوله في الخاتمة وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ عن علي رضي الله عنه: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلس سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ إلى آخر السورة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 579 (سورة ص) (وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وتسعة وستون كلمها سبعمائة واثنان وثلاثون آياتها ثمان وثمانون) [سورة ص (38) : الآيات 1 الى 40] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 580 القراآت: أو نزل بالواو مثل أأنبئكم [الآية: 15] في آل عمران عذابي وعقابي بالياء في الحالين: يعقوب والسرندي عن قنبل وافق سهل وعباس في الوصل الْأَيْكَةِ مذكور في «الشعراء» مِنْ فَواقٍ بضم الفاء: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بالفتح وَلِيَ نَعْجَةٌ بفتح الياء: حفص والأعشى والبرجمي فَتَنَّاهُ بتخفيف النون على أنه مثنى والضمير للخصمين: عباس لتدبروا بحذف إحدى التاءين على أنه خطاب: يزيد والأعشى والبرجمي. الباقون: على الغيبة وإدغام تاء التفعل في الدال إِنِّي أَحْبَبْتُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو من بعدي بالفتح أبو جعفر ونافع وأبو عمرو والرياح مجموعة: يزيد. الوقوف: ذِي الذِّكْرِ ط وَشِقاقٍ هـ مَناصٍ هـ مِنْهُمْ ز لتصريح ذكر الكافرين مع إمكان الاكتفاء بالضمير وقد اتفقت الجملتان كَذَّابٌ ج للاستفهام واتحاد العامل واحِداً ج لمثل ما مر عُجابٌ هـ آلِهَتِكُمْ ج لما مر يُرادُ ج هـ لذلك الْآخِرَةِ ج لذلك اخْتِلاقٌ هـ ج لما قلنا مِنْ بَيْنِنا ط مِنْ ذِكْرِي هـ لعطف الجملتين المختلفتين والابتداء بالتهديد عَذابِ هـ لأن «أم» بمعنى ألف استفهام إنكار الْوَهَّابِ هـ ج لأن «أم» تصلح ابتداء إنكار الْأَسْبابِ هـ الْأَحْزابِ هـ الْأَوْتادِ هـ لا الْأَيْكَةِ ط الْأَحْزابُ هـ عِقابِ هـ فَواقٍ هـ الْحِسابِ هـ الْأَيْدِ ج للابتداء بان ولاحتمال التعليل أَوَّابٌ هـ وَالْإِشْراقِ هـ أَوَّابٌ هـ الْخِطابِ هـ الْخَصْمِ م لأن «إذ» ليس بظرف للإتيان ولتناهي الاستفهام إلى الأمر أي اذكر إذ تسوّروا الْمِحْرابَ هـ لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 581 لأن «إذ» بدل من الأولى لا تَخَفْ ج لحق الحذف أي نحن خصمان مع اتحاد المقول الصِّراطِ هـ فِي الْخِطابِ هـ نِعاجِهِ ج ما هُمْ ط وَأَنابَ هـ ذلِكَ ط مَآبٍ هـ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الأولى ط الْحِسابِ هـ باطِلًا ط كَفَرُوا ج للابتداء بالتهديد مع فاء التعقيب النَّارِ هـ ج لأن «أم» لاستفهام إنكار. كَالْفُجَّارِ هـ الْأَلْبابِ هـ سُلَيْمانَ ط الْعَبْدُ ط أَوَّابٌ هـ لا والأصح الوقف والتقدير: اذكر إذ فإن أوبه غير مقيد بل مطلق الجياد هـ لا للعطف رَبِّي ج لاحتمال أن «حتى» للابتداء وأن تكون لانتهاء الحب أي آثرت حب الخير حتى توارت بِالْحِجابِ هـ لحق الحذف تقديره: قال ردّوها عليّ فطفق. وَالْأَعْناقِ هـ أَنابَ هـ بَعْدِي هـ لا لاحتمال أن يكون التقدير فإنك الْوَهَّابُ هـ أَصابَ هـ وَغَوَّاصٍ هـ الْأَصْفادِ هـ حِسابٍ هـ مَآبٍ هـ. التفسير: عن ابن عباس أن ص بحر عليه عرش الرحمن. وعن سعيد بن جبير: بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين. وقيل: صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به عن الله. وقيل: صدّ الكفار عن قبول هذا الدين. وقيل: صدّ محمد صلى الله عليه وسلم قلوب العباد. وقيل: هو من المصاداة المعارضة ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت في الجبال يؤيده قراءة من قرأ ص بالكسر، معناه عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه. والذكر الشرف والشهرة أو الموعظة، وجواب القسم محذوف كأنه قيل: إنه المعجز وإن إلهكم لواحد. ويجوز إن كان ص اسم السورة أن يراد هذه ص، والقرآن يعني هذه السورة هي التي أعجزت العرب بحق القرآن كما تخبر عن هذا حاتم والله، تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله. ثم بين أن الكفار في استكبار عن الإذعان للحق وفي مخالفة الله ورسوله. ومعنى «بل» ترك كلام والأخذ في كلام آخر. ولئن سلم أنه للمغايرة الكلية فالكلام الأول هو كون محمد صلى الله عليه وسلم صادقا في تبليغ الرسالة، أو كون القرآن، أو هذه السورة معجزا، والحكم المذكور بعد «بل» هو المعازة والمشاقة في كونه كذلك فحصل المطلوب. ثم خوف الكفار بقوله كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ أي رفعوا أصواتهم بالدعاء والاستغاثة لأن نداء من نزل به العذاب لا يكون إلا كذلك. وعن الحسن: فنادوا بالتوبة كقوله فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا ولهذا قال وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي لم يكن ذلك الوقت وقت فرار من العذاب أو حين نداء ينجي. قال سيبويه والخليل: التاء في «لات» زائدة مثلها في «ربت» و «ثمت» وهي المشبهة بليس، وقد تغير حكمها بزيادة التاء حيث لا تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا اسمها أو خبرها وتقدير الآية: ليس الحين حين مناص. ولو رفع لكان تقديره وليس حين مناص حاصلا لهم. وقال الأخفش: إنها «لا» النافية للجنس زيدت عليها التاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 582 وخصت بنفي الأحيان كأنه قيل: أصل «لات» ليس قلبت الياء ألفا والسين تاء. وقيل: التاء قد تلحق بحين كقوله: العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان ما من مطعم وإلى هذا ذهب أبو عبيدة. وتأكد هذا الرأي عنده حين رأى التاء في المصحف متصلا بحين. وضعف بعد تسليم أنه في الإمام كذلك بأن خط المصحف غير مقيس عليه. أما الوقف على لاتَ فعند الكوفيين بالهاء قياسا على الأسماء، وعند البصريين بالتاء قياسا على الأفعال. والمناص مصدر ناص ينوص إذا هرب ونجا أو فات. قال ابن عباس: لما نزل بهم العذاب ببدر قالوا: مناص أي اهربوا وخذوا حذركم فأنزل الله وَلاتَ حِينَ مَناصٍ. ثم حكى شر صنيعهم وسوء مقالتهم في حق النبي صلى الله عليه وسلم قائلا وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ أي من جنس البشر. ثم سجل عليهم بالكفر بوضع الظاهر موضع المضمر قائلا وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ في إظهار خوارق العادات كَذَّابٌ على الله. وإنما قيل في سورة ق فَقالَ الْكافِرُونَ [الآية: 2] بالفاء لأن القول هناك شيء عجيب وهو نتيجة العجب فاتصل الكلامان لفظا ومعنى. وأما هاهنا فلم يتصل إلا معنى أَجَعَلَ الْآلِهَةَ أي صيرها وحكم عليها بالوحدة إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ بليغ في العجب. يروى أنه لما أسلم عمر بن الخطاب شق ذلك على قريش وفرح المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الأشراف والرؤساء: امشوا إلى أبي طالب فأتوه وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، وإنا أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك. فدعا أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألون السواء فلا تمل كل الميل على قومك. فقال: ماذا يسألونني؟ فقالوا: ارفضنا وارفض آلهتنا وندعك وإلهك. فقال صلى الله عليه وسلم: أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال له أبو جهل: والله لنعطينكها وعشر أمثالها. فقال صلى الله عليه وسلم: قولوا لا إله إلا الله. فنفروا من ذلك وقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً كيف يسع الخلق كلهم إله واحد فأنزل الله هذه الآيات. يعني من أول السورة إلى قوله كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي نهضوا من ذلك المجلس وأَنِ مفسرة أي امْشُوا من غير أن يتلفظوا به وَاصْبِرُوا عَلى عبادة آلِهَتِكُمْ. قال النحويون: الانطلاق هاهنا مضمن معنى القول لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم. وقيل: وانطلق الملأ منهم وقالوا لغيرهم امشوا. وقيل: انطلقوا بأن امشوا أي بهذا القول. وليس المراد بالمشي السير إنما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 583 المراد المضيّ على الأمر. وقيل: امشوا واتركوا محمدا صلى الله عليه وسلم. وقيل: هي من مشت الماشية إذا كثر نسلها مشاء ومنه الماشية للتفاؤل. وفي تهذيب اللغة عن الأزهري: مشى الرجل إذا استغنى فيكون هذا دعاء لهم بالبركة إِنَّ هذا الأمر وهو استعلاء محمد صلى الله عليه وسلم لَشَيْءٌ يُرادُ أي حكم الله به فلا حيلة في دفعه ولا ينفع إلا الصبر أو إنه لشيء من نوائب الدهر أريد بنا فلا انفكاك لنا منه، أو إن دينكم لشيء يراد أن يؤخذ منكم. وقيل: إن عبادة الأصنام لشيء نريده ونحتاج إليه. وقيل: إن هذا الاستعلاء والترفع لشيء يريده كل أحد وكل ذي همة وقريب منه قول القفال: إن هذه كلمة تذكر للتحذير والتخويف معناها إنه ليس غرض محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القول تقرير الدين ولكن غرضه أن يستولي علينا ويحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد. ما سَمِعْنا بِهذا أي بقول محمد صلى الله عليه وسلم فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ فيما أدركنا عليه آباءنا أو في ملة عيسى التي هي آخر الملل، لأن النصارى مثلثة غير موحدة. قال جار الله: يجوز أن يكون التقدير ما سمعنا بهذا كائنا في الملة الآخرة فيكون الظرف حالا من هذا لا متعلقا ب سَمِعْنا والمعنى أنا لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله. إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ كذب اختلقه من عنده. ثم أظهروا الحسد وما كان يغلي به صدورهم قائلين أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا وذلك أنهم ظنوا أن الشرف بالمال والجاه فقط نظيره في القمر أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [القمر: 25] إلا أنه استعمل هناك الإلقاء لأن أذكارهم كانت صحفا مكتوبة وألواحا مسطورة. وقدم الظرف هاهنا لشدّة العناية ولزيادة غيظهم وحمقهم فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أي من دلائلي التي لو نظروا فيها لزال الشك عنهم، فالقاطع لا يساوي المشكوك. وقيل: أراد أنهم لا يكذبونك ولكنهم جحدوا آياتي. ثم قال بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي لو ذاقوه لأقبلوا على أداء المأمورات والانتهاء عن المنهيات. وقيل: أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخوّفهم بالعذاب لو أصروا على الكفر. ثم إنهم أصروا ولم ينزل عليهم العذاب فصار ذلك سببا لشكهم في صدقه صلى الله عليه وسلم فلا جرم لا يزول ذلك الشك إلا بنزول العذاب. ثم أجاب عن شبهتهم بوجه آخر وهو قوله أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ والمراد أن النبوة من جملة النعمة المخزونة عنده يعطيها من يشاء من عباده. ثم خصص بعد التعميم قائلا أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ولا ريب أن هذه الأشياء بعض خزائن الله وإذا كانوا عاجزين عن البعض فعن الكل أولى. ثم تهكم بهم بقوله فَلْيَرْتَقُوا أي فإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق وقسمة الرحمة فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوسل بها إلى المقصود. وقيل: أسباب السموات أبوابها والمعنى إن ادّعوا ملك السموات وأنهم يعلمون ما يجري فيها فليرتقوا إليها. قال بعض حكماء الإسلام: في الأسباب إشارة إلى أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 584 الأجرام الفلكية وما أودع الله فيها من القوى والخواص أسباب حوادث العالم السفلي. ثم حقر أمرهم بقوله جُنْدٌ ما وهو خبر مبتدأ محذوف و «ما» مزيدة للاستعظام جارية مجرى الصفة أي هم جند من الجنود. ثم خصص الوصف بقوله مِنَ الْأَحْزابِ أي ما هم إلا جند من الكفار المتحزبين على رسل الله مهزوم مكسور عما قريب فلا تبال بهم. قال قتادة هُنالِكَ إشارة إلى يوم بدر. وقيل: يوم الخندق. وقيل: فتح مكة فإن مكة هي الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات. وقال أهل البيان: هي إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم كقولك لمن ينتدب لأمر «ليس من أهله» «لست هنالك» . ثم مثل حالهم بحال من قبلهم من الأمم المكذبة وقصصهم مذكورة مرارا. والذي يختص بالمقام هو أنه وصف فرعون بذي الأوتاد فعن قتادة أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب بها عنده. وقال المبرد: بنى أبنية طويلة صارت كالأوتاد لبقائها. وقيل: هي أوتاد أربعة كان يعذب الناس بها على الأرض أو على رؤوس أخشاب أربعة. وقيل: أراد كثرة أوتاد خيام معسكره. وقيل: أراد ذو جموع كثيرة فبالجمعية يشتد الملك كما يشتد البناء بالأوتاد وهذا قريب. وقول أهل البيان إن أصل هذه الكلمة من ثبات البيت المطنب بأوتاد، ثم استعير لثبات العز والملك والمقصود على الوجوه كلها. وصف فرعون بالشدة والقوة ونفاذ الأمر ليعلم أنه تعالى أهلك من كان هذه صفته فكيف بمن هو دونه. قال أبو البقاء: قوله أُولئِكَ الْأَحْزابُ مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون خبرا والمبتدأ من قوله وعاد أو من ثمود أو من قوم لوط، قلت: ويحتمل أن يكون الْأَحْزابُ صفة أُولئِكَ وأُولئِكَ بدلا من مجموع المعطوفات والمعطوف عليه. قال جار الله: قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن هذه الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم وآباؤهم الذين وجد منهم التكذيب. لقد ذكر تكذيبهم أوّلا في الجملة الخبرية على وجه الإبهام، ثم جاء بالجملة الاستثنائية أعني قوله إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فبين أن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوا جميعهم فَحَقَّ أي ثبت أو وجب لذلك عقابي إياهم في الدنيا ثم في الآخرة وذلك قوله وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ المذكورون. وقيل: أهل مكة: إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً وهي النفخة الأولى ما لَها مِنْ توقف مقدار فَواقٍ وهو بالفتح والضم زمان ما بين حلبتي الحالب. عن النبي صلى الله عليه وسلم «العيادة قدر فواق الناقة» ومعنى الآية إذا جاء وقتها لم يمهل هذا القدر. وقيل: الفواق بالفتح الإفاقة أي ما لها من رجوع وترداد لأن الواحدة تكفي أمرهم وما لها رجوع إلى الحالة الأولى بل تبقى ممتدة إلى أن يهلك كلهم واعلم أن القوم إنما تعجبوا لشبهات ثلاث وقعت لهم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 585 أولاها في الإلهيات وهو قولهم أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً والثانية في النبوات وهي قولهم أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا والثالثة تتعلق بالمعاد وهي قولهم: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا وهو القطعة من الشيء لأنه قطع منه من قطه إذا قطعه. والقط أيضا صحيفة الجائزة ونحوها لأنها قطعة من القرطاس استعجلوا نصيبهم من العذاب الموعود، أو من اللذات العاجلة، أو من صحيفة الأعمال، كل ذلك استهزاء منهم فلذلك أمره بالصبر على ما يقولون. قال جار الله: أراد اصبر على أذاهم وصن نفسك أن تزل فيما كلفت من مخابراتهم. وَاذْكُرْ أخاك داوُدَ كيف زل تلك الزلة اليسيرة فعوتب عليها ونسب إلى البغي، أو اصبر وعظم أثر أمر معصية الله في أعينهم بذكر قصة داود وما أورثته زلته من البكاء الدائم والحزن الواصب. وقال غيره: اصبر على أذى قومك فإنك مبتلى بذلك كما صبر سائر الأنبياء على ما ابتلاهم به. ثم عدّهم وبدأ بداود وذلك أنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب فأوحى الله إليه أنهم وجدوها بالصبر على البلايا فسأل الابتلاء. ثم إن الدنيا لا تنفك من الهموم والأحزان واستحقاق الدرجات بقدر الصبر على البليات. ثم إن مجامع ما ذكر الله تعالى في قصة داود ثلاثة أنواع من الكلام: الأول: تفصيل ما آتاه الله تعالى من الفضائل. الثاني: شرح الواقعة التي وقعت له. والثالث: استخلاف الله تعالى إياه بعد ذلك. والأول عشرة أصناف: أحدها ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم إياه ليقتدي به في الصبر وسائر أصول الأخلاق. وثانيها تسميته بالعبد مضافا إلى صيغة جمع التكلم للتعظيم والعبودية الصحيحة الجامعة لكمالات الممكنات كما سبق مرارا. ويمكن أن يكون التلفظ بذكر اسمه العلم أيضا تشريفا له. وثالثها قوله ذَا الْأَيْدِ ذا القوة في الحروب وعلى الطاعات وعن المعاصي وكان يصوم يوما ويفطر يوما وهو أشد الصوم ويقوم نصف الليل. ويحتمل أن يكون الياء محذوفا اكتفاء بالكسر فيكون جمع اليد بمعنى النعمة لأن الله تعالى أنعم عليه ما لم ينعم على غيره. رابعها قوله إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجاع في الأمور كلها إلى طاعة الله ومرضاته من آب يؤب. خامسها تسبيح الجبال معه وقوله يُسَبِّحْنَ حال والإشراق وقت إضاءة الشمس وهو بعد شروقها عند الضحى. يقال شرقت الشمس ولما تشرق. واستدل به ابن عباس على وجود صلاة الضحى في القرآن لما روي عن أم هانىء: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقال: يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق. قال ابن عباس: وكانت صلاة يصليها داود عليه السلام ويحتمل أن يكون معنى الإشراق الدخول في وقت الشروق فيراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بالشروق قاله جار الله. سادسها قوله وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً أي وسخرنا الطير مجموعة من كل ناحية. قال ابن عباس: كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 586 فسبحت فذلك حشرها وقد مر ذكر هذه المعجزة في «الأنبياء» وفي «سبأ» . قال أهل البيان: قوله مَحْشُورَةً في مقابلة قوله يُسَبِّحْنَ ولكنه اختير الفعل في أحد الموضعين والاسم في الآخر لأنه أريد في الأول الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئا بعد شيء وحالا بعد حال حتى كأن السامع يتصوّرها بتلك الحالة، وأما الحاشر فهو الله وحشر الطيور جملة واحدة أدل على القدرة له تعالى. سابعها قوله كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود مسبح مرجع للتسبيح. وقيل: الضمير لله أي كل من داود والجبال والطير لله مسبح رجاع إلى فعله مرة بعد مرة، وهذا الوصف كالتأكيد للوصف الذي يتقدّمه وهذا أخص لأنه أدل على الواقعة. ثامنها قوله وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي قوّيناه بالجنود والأعوان وبسائر الأسباب فكان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف حرس، وزاد بعضهم فقال أربعون ألفا. وقيل: نصرناه بالهيبة، وسببه أن غلاما ادّعى على رجل بقرة فأنكر المدّعى عليه ولطم الغلام لطمة فسأل داود من الغلام البينة فعجز فرأى داود في المنام أن الله تعالى يأمره أن يقتل المدعى عليه ويسلم البقرة إلى الغلام. فقال داود: هذا منام فأتاه الوحي بذلك في اليقظة فأخبر بذلك بني إسرائيل فجزعوا وقالوا: أتقتل رجلا بلطمة؟ فقال داود: هذا أمر الله فسكتوا. ثم أحضر الرجل وأخبره إن الله أمره بقتله فقال الرجل: صدقت يا نبيّ الله إني قتلت أباه غيلة وأخذت البقرة، فقتله داود وعظمت هيبته واشتدّ ملكه وقالوا: إنه يقضي بالوحي من السماء. تاسعها قوله وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وقد مر معناها مرارا وأنها منحصرة في قسمين: الأول العلم بالتصوّرات الحقيقية والتصديقات اليقينية بمقتضى الطاقة البشرية، والثاني العمل بالأخلاق الفاضلة المفضية إلى السعادة الباقية. وخصصها بعضهم بالعلم بالنبوّة والفهم أو بالزبور والشرائع. عاشرها فصل الخطاب وهو القدرة على ضبط المعاني والتعبير عنها بأقصى الغايات حتى يكون كاملا مكملا فهما مفهما. قال جار الله: الفصل بمعنى المفصول ومعناه البين من الكلام الملخص الذي لا يلتبس ولا يختلط بغيره. قلت: ومن ذلك أن لا يخطىء صاحبه مظان الفصل والوصل كما نذكره في الوقوف. وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال: البينة على المدّعي واليمين على من أنكر. فالفصل بمعنى الفاصل كالصوم والصحب ويندرج فيه جميع كلامه في الأقضية والحكومات وتدابير الملك والمشورات. يروى أنه سبحانه علق لأجله سلسلة من السماء وأمره أن يقضي بها بين الناس، فمن كان على الحق يأخذ السلسلة، ومن كان على الباطل لا يقدر على أخذها. ثم إن رجلا غصب من آخر لؤلؤة وجعلها في جوف عصا له ثم خاصمه المدّعي إلى داود فقال المدعي: إن هذا أخذ مني لؤلؤة ولم يردّها عليّ وإني صادق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 587 في مقالتي، فجاء وأخذ السلسلة فتحير داود في ذلك فرفعت السلسلة وأمره أن يقضي بالبينة واليمين وهو فصل الخطاب. وقيل: هو قوله «أما بعد» وهو أوّل من تكلم به. وقيل: هو أنه إذا تكلم في الحكم فصل وكل هذه الأقوال تخصيصات من غير دليل والأقوى ما قدمناه. ثم إنه سبحانه لما مدحه بالوجوه العشرة أردفه بذكر واقعته قائلا وَهَلْ أَتاكَ يا محمد نَبَأُ الْخَصْمِ أي ما أتاك خبرهم وقد أتاك الآن. وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم عنها ليكون أدعى إلى الإصغاء لها. وللناس في هذه الواقعة ثلاثة أقوال أقواها تقريرها على وجه لا يدل على صدور ذنب عن نبيّ الله، وثانيها التقرير على وجه يدل على صدور الصغيرة عن نبيّ الله، وثالثها التقرير على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه، وأضعفها التقرير على وجه يدل على الكبيرة. ويختلف تفسير بعض الألفاظ بحسب اختلاف بعض المذاهب فلنفسر كلا منها على حدة. وأما المشترك بين الأقوال فلا نفسره إلا مرة. القول الأوّل: يروى أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبيّ الله داود- وكان له يوم يخلو بنفسه ويشتغل بطاعة ربه- فانتهضوا الفرصة في ذلك وتسوّروا المحراب أي تصعدوا غرفته من سوره. وفي قوله إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ إشارة إلى أنهم بعد التسوّر نزلوا عليه. قال الفراء: قد يجاء بإذ مرتين ويكون معناهما كالواحد كقولك «ضربتك إذ دخلت عليّ إذ اجترأت عليّ» مع أنه يكون وقت الدخول ووقت الاجتراء واحدا. وحين رآهما قد دخلا عليه لا من الطريق المعتاد علم أنهم إنما دخلوا عليه للشر. فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ أي نحن خصمان والخصم في الأصل مصدر فلهذا لم يجمعه أوّلا نظرا إلى أصله، وثناه ثانيا بتأويل شخصان أو فريقان خصمان، وجمع الضمائر في قوله إِذْ تَسَوَّرُوا إِذْ دَخَلُوا فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ بناء على أن أقل الجمع اثنان، أو على أن صحب كل منهما من جملتهما. والأوّل أظهر لأن القائلين كانا اثنين بالاتفاق بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ أي بغى أحدنا على الآخر وتعدّى حدّ العدالة. ثم قرروا مقصودهم بثلاث عبارات متلازمة إحداها فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ أي بالعدل الذي هو حكم الله فينا. والثانية وَلا تُشْطِطْ وهو نهي عن الباطل بإلزام الحق والشط البعد. شط وأشط لغتان، أرادوا لا تجر فالجور البعد عن الحق. والثالثة وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي وسطه وهو مثل لمحض الحق وصدقه. وحين أخبروا عن وقوع الخصومة مجملا شرعوا في التفصيل فقال أحدهما مشيرا إلى الآخر إِنَّ هذا وقوله أَخِي أي في الدين أو الخلطة أو النسب خبر أو بدل والخبر لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وهي أنثى من الضأن وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها أي ملكنيها فأكفلها كما أكفل ما تحت يدي وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي غلبني في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 588 المخاطبة فكان تكلمه أبين وبطشه أشدّ قالَ داود لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ أضاف المصدر إلى المفعول الثاني وحذف الفاعل والمفعول الأوّل أي بسؤاله إياك نعجتك. وليس السؤال هاهنا سؤال خضوع وتفضل وإنما هو سؤال مطالبة ومعازة. وإِلى متعلقة بفعل دل عليه السؤال تقديره بسؤال أي ليضمها إلى نعاجه، أو ضمن السؤال معنى الإضافة كأنه قيل: بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه الطلب وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ الشركاء الذين خلطوا أموالهم واطلع بسبب ذلك بعضهم على أحوال البعض لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ وقد تغلب الخلطة في الماشية. والشافعي يعتبرها في باب الزكاة إذا اتحد الفحل والراعي والمراح والمسقى وموضع الحلب، فإن كانت للخليطين أربعون شاة فعليهما شاة. وعند أبي حنيفة لا شيء عليهما وإن كانت لأحدهما واحدة وللآخر تسع وتسعون فعلى الأوّل أداء جزء من مائة جزء من شاة واحدة وعلى الآخر الباقي. هذا عند الشافعي، وعند أبي حنيفة لا شيء على ذي النعجة. ثم بين أن أكثر الخلطاء موسوم بسمة الظلم إلا المؤمنين وإنهم لقليل. «وما» في قوله وَقَلِيلٌ ما هُمْ مزيدة للإبهام، وفيه تعجيب من قلتهم. وقال ابن عيسى: هي موصولة أي وقليل الذين هم كذلك. قصد نبيّ الله بذكر حال الخطاء في هذا المقام الموعظة الحسنة والترغيب في اختيار عادة الخلطاء الصلحاء لا التي عليها أكثرهم من الظلم والاعتداء، وفيه تسلية للمظلوم عما جرى عليه من خليطه وإن له في أكثر الخلطاء أسوة وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ أي ابتليناه وذلك أن القوم لما دخلوا عليه قاصدين قتله وإنه كان سلطانا شديد القوّة وقد فزع منهم. ثم إنه مع ذلك عفا عنهم دخل قلبه شيء من العجب فحمله على الابتلاء فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ من تلك الحالة وَأَنابَ إلى الله واعترف بأن إقدامه على تلك الخلة لم يكن إلا بتوفيق الله. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ الخاطر أو لعله هم بإيذاء القوم. ثم تذكر أنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم، ثم استغفر من تلك الهمة. أو لعل القوم تابوا إلى الله وطلبوا منه أن يستغفر الله لهم فاستغفر لأجلهم متضرعا إلى الله فغفر ذنبهم بسبب شفاعته ودعائه. وَمعنى خَرَّ راكِعاً سقط ساجدا. قال الحسن: لأنه لا يكون ساجدا حتى يركع، أو المراد أن خرّ للسجود مصليا لأن الركوع قد يعبر به عن الصلاة. ومذهب الشافعي أن هذا الموضع ليس فيه سجدة التلاوة لأنه توبة نبيّ فلا توجب على غيره سجدة التلاوة ولا تستحب أيضا. ومذهب أبي حنيفة بخلافه. وجوز مع ذلك أن يكون الركوع بدل السجود هذا تمام تقرير القول الأوّل. ولا يرد عليه إلا أن داود كان أرفع منزلة من أن يتسور عليه بعض آحاد الرعية في حال تعبده أو يتجاسر عليه بقوله لا تَخَفْ وَلا تُشْطِطْ وأنه كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين على ظلم الآخر قبل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 589 استماع كلامه والأول استبعاد محض؟ وأجيب عن الثاني بأنه ما قال ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه لكنه لم يذكر في القرآن، ومما يؤيد هذا القول ختم ذكر الواقعة بقوله: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ والزلفى القربة، والمآب الحسن الجنة. قال مالك بن دينار: إذا كان يوم القيامة يؤتى بمنبر رفيع ويوضع في الجنة يقال: يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا- وحاصل التفسير على هذا القول إن الخصمين كانا من الإنس وكانت الخصومة بينهما على الحقيقة، وكانا خليطين في الغنم، أو كان الخلطة خلطة الصدقة، أو الجوار وكان أحدهما موسرا وله نسوان كثيرة من الحرائر والسرائر. والعرب تشبه المرأة بالنعجة والظبية، والثاني معسرا ما له إلا امرأة واحدة واستنزله عنها، وكانت الأنصار يواسون المهاجرين بمثل ذلك كما كانوا يقاسمونهم أموالهم ومنازلهم وما كان ذنب داود إلا خطرة أو همة. القول الثاني: إن أهل زمان داود كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته فاتفق أن نظر داود وقع على امرأة رجل يقال له أوريا فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا ففعل فتزوجها وهي أم سليمان. فقيل له: إن مع عظم منزلتك وارتفاع مرتبتك وكثرة نسائك لم يكن لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة النزول لك، كان الواجب عليك مغالبة هواك والصبر على ما امتحنت به. وقيل: خطبها أوريا ثم خطبها داود فآثره أهلها وكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه، وعلى هذا يجوز أن يكون الخطاب في قوله وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ من الخطبة أي غالبني في خطبتها حيث زوّجها دوني. وعلى هذا القول يجوز أن يكون الخصمان من الإنس كما مر. وحين وافق حالهما حال داود تنبه فاستغفر. وأن يكونا ملكين بعثهما الله ليتنبه على خطئه فيتداركه بالاستغفار ويرد على هذا أن الملكين لو قالا نحن خصمان بغى بعضنا على بعض فكذب والملائكة لا يكذبون ولا يأمرهم الله بالكذب. والجواب أن التقدير ما تقول خصمان قالا بغى بعضنا على بعض. أو أرادوا: أرأيت لو كنا خصمين بغى بعضنا على بعض ألست تحكم بيننا، ثم صوروا المسألة ومثلوا قصته بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون فأراد صاحبه تتمة المائة وحاجة في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده. وعن الحسن: لم يكن لداود تسع وتسعون امرأة وإنما هذا مثل. القول الثالث: وهو المشهور عند الجمهور أن داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء: يوما للعبادة، ويوما للاشتغال بخواص أموره، ويوما يجمع بني إسرائيل للوعظ والتذكير فجاءه الشيطان يوم العبادة والباب مغلق في صورة حمامة من ذهب فمد يده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 590 ليأخذها لابن صغير له فطارت إلى قريب منه، وهكذا مرة ثانية وثالثة إلى أن وقعت في كوة فتبعها فوقع بصره على امرأة جميلة تغتسل فنقضت شعرها فغطى جسدها فوقع في نفسه منها ما شغله عن الصلاة، فنزل من محرابه ولبست المرأة ثيابها وخرجت إلى بيتها، فخرج داود حتى عرف بيتها وسألها من أنت؟ فأخبرته فقال لها: هل لك زوج؟ فقالت: نعم. قال: أين هو؟ قالت: في جند كذا فرجع وكتب إلى أمير جيشه إذا جاءك كتابي هذا فقدم فلانا في أول التابوت وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد ففتح الله على يده وسلم. فأمر برده مرة ثانية وثالثة حتى قتل، فأتاه خبر قتله فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء، وتزوّج امرأته فبعث الله إليه ملكين في صورة إنسانين فطلبا أن يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته ومنعهما الحرس فتسوّرا عليه المحراب فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان ففزع منهما، وحين وجد قصتهما مطابقة لحاله علم أنه مبتلى من الله. يروى أنهما قالا حينئذ حكم على نفسه. وقيل: ضحكا وغابا فعلم أن الله ابتلاه بذنبه. ولا يخفى أن ذنبه بهذا التفسير والتقرير كبيرة لأنه يدل على الإفراط في العشق وعلى السعي في قتل النفس المسلمة بغير حق. فيروى أنه سجد أربعين ليلة لم يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة ولم يذق طعاما ولا شرابا حتى أوحى الله إليه أن ارفع رأسك فإني قد غفرت لك. ويروى أن جبرائيل قال له اذهب إلى أوريا وهو زوج المرأة واستحل منه فإنك تسمع صوته موضع كذا، فأتاه واستحل منه فقال: أنت في حل. قال: فلما رجع قال له جبريل: هل أخبرته بجرمك؟ فقال: لا قال: فإنك لم تعمل شيئا فارجع وأخبره بالذي صنعت. فرجع داود فأخبره بذلك فقال: أنا خصمك يوم القيامة فرجع مغتما وبكى أربعين يوما. فأتاه جبريل وقال: إن الله تعالى يقول: أنا أستوهبك من عبدي فيهبك لي وأجزيه على ذلك أفضل الجزاء فسرى عنه وكان حزينا في عمره باكيا على خطيئته. وروي أنه نقش خطيئته على كفه حتى لا ينساها. والمحققون كعلي رضي الله عنه وابن عباس وابن مسعود وغيرهم ينكرون القصة على هذا الوجه. روى سعيد بن المسيب والحرث بن الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حد الفرية على الأنبياء. قلت: لا يخفى أن الأحوط السكوت عما لا يرجع إلى طائل، بل يحتمل أن يعود إلى قائله لوم عاجل وعقاب آجل. ومن الدلائل القوية التي اعتمد عليها فخر الدين الرازي في ضعف هذه الرواية قوله سبحانه عقيب ذكر الواقعة يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فمن البعيد جدا أن يوصف الرجل بكونه ساعيا في سفك دم أخيه المسلم بغير حق وبانتزاع زوجته منه ثم يقال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 591 إنا فوضنا الخلافة إليه. وعندي أن ذلك عليه لا له لقوله تعالى فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى إلخ فكأنه قيل له: إنا جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله وفي سياسة المدن، أو تخلفنا كما يقال «السلطان ظل الله في الأرض» فاللائق بهذا المنصب السعي لإصلاح حال المسلمين وحفظ فروجهم ودمائهم وأموالهم لا السعي في تحصيل هوى النفس بأي وجه يمكن، فإن صاحبه المصر عليه ضال معرض عن إعداد الزاد ليوم المعاد. يحكى عن بعض خلفاء بني مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز أو الزهري: هل سمعت ما بلغنا؟ قال: وما هو؟ قال: بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا يكتب عليه معصية. فقال: يا أمير المؤمنين، الخلفاء أفضل أم الأنبياء ثم تلا هذه الآية. وحين تمم واقعة داود ونصحه وما فرض عليه في شأن الاستخلاف أشار إلى أن الأمور الدنيوية التابعة للحركات السماوية ليست واقعة على الجزاف، وبمقتضى الطبائع، ولكن لها غاية صحيحة فأجمل هذا المعنى أوّلا بقوله وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ الذي ذكر من خلق هذه الأشياء بلا غاية ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لأنهم بإنكارهم البعث جحدوا الجزاء الذي هو غاية التكليف فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ لأنهم بهذه العقيدة وقعوا في نار البعد والقطيعة فلم يستدلوا بالآفاق والأنفس على الصانع نظيره ما مر في آخر «آل عمران» رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [الآية: 191] ثم صرح بالغاية قائلا أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية. «وأم» منقطعة بمعنى بل والهمزة للإنكار والمراد أنه لو بطل الجزاء كما زعموا لاستوت حال الطائفتين المتقي المصلح للأرض بتهذيب الأخلاق وتدبير المنزل والسياسة المدنية على وفق العقل والشرع، والفاجر المفسد في الأرض بهدم النواميس وتتبع الشهوات وهتك الحرمات، ومن سوى بينهم كان إلى السفه أقرب منه إلى الحكمة، ولا ينافي هذا إمكان التسوية من حيث المالكية. وحين ذكر هذه المعاني اللطيفة والقواعد الشريفة منّ على رسوله بقوله كِتابٌ أي هذا كتاب أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ كثير المنافع والفوائد لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ليتأملوا فيها ويستنبطوا الأسرار والحقائق منها فمن حفظ حروفه وضيع حدوده كان مثله كمثل معلق اللؤلؤ والجواهر على الخنازير. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: يقال في وجه النظم إن العقلاء قالوا: من ابتلى بخصم جاهل مصر متعصب وجب عليه أن يقطع الكلام معه ويخوض في كلام آخر أجنبي حتى إذا اشتغل خاطره بالكلام الأجنبي أدرج في أثنائه مقدمة مناسبة للمطلوب الأول، فإن ذلك المتعصب قد يسلم هذه المقدمة فإذا سلمها فحينئذ يتمسك بها في إثبات المطلوب الأول فيصير الخصم ساكتا مفحما. وإذ قد عرفت هذا فنقول: إن الكفار قد بلغوا في إنكار الحشر إلى حيث قالوا على سبيل الاستهزاء رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ فقال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 592 تعالى: يا محمد فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ واقطع الكلام معهم في هذه المسألة واشرع في كلام آخر أجنبي في الظاهر وهو قصة داود إلى قوله إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ فكل من سمع هذا قال: نعم ما فعل حيث أمره بالحكم الحق كأنه قال: أيها المكلف إني لا آمرك مع أني رب العالمين إلا بالحق فههنا الخصم يقول: نعم ما فعل حيث لم يقض إلا بالحق، فعند هذا يلتزم صحة القول بالحشر وإلّا لزم التسوية بين من أصلح واتقى ومن أفسد وفجر وذلك ضدّ الحكمة. وحين ذكر هذه الطريقة الدقيقة في إلزام المنكرين وإفحامهم وصف القرآن بالبركة والإفادة والإرشاد، لأن هذه الطائف لا تستفاد إلا منه. وبعد تتميم قصة داود شرع في قصة ابنه سليمان ومدحه بقوله نِعْمَ الْعَبْدُ أي هو فحذف المخصوص للعلم به. وفي قوله إِنَّهُ أَوَّابٌ كما مر في قصة داود إشارة إلى أنه كان شبيها بالأب في الفضيلة والكمال فلذلك استويا في جهة المدح. وفي القصة واقعتان يمكن تقرير كل منهما كما في واقعة أبيه على وجه لا يقدح في العصمة وهو المختار عند المحققين، وعلى وجه دون ذلك وهو الأشهر فلنفسر كلا منهما بالوجهين بتوفيق الله تعالى. أما الأوّل من الواقعة الأولى فقوله إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ وهي جمع صافن وهو الذي يقوم على ثلاث قوائم وعلى طرف الرابعة وهو نعت جيد للخيل. قيل: الصافن الذي يجمع بين يديه. وفي الحديث «من سرّه أن يقوم الناس له صفوفا فليتبوّأ مقعده من النار» أي واقفين مثل خدم الجبابرة. والْجِيادُ جمع جواد وهو جيد الجري يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها على أحسن الأشكال. وإذا أجريت كانت سراعا في جريها، فإذا طلبت لحقت، وإذا طلبت لم تلحق. يروى أن رباط الخيل كان مندوبا في شرعهم كما في شرعنا. ثم إن سليمان سلام الله عليه احتاج إلى الغزو فجلس بعد صلاة الظهر على كرسيه وأمر بإحضار الخيل، وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا وحظ النفس وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي سمى الخيل خيرا لتعلق الخير بها كما جاء في الحديث «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» «1» أي آثرت حب الخير ولزمته لأن ربي أمرني بارتباطها ولم يصدر حب هذه المحبة الشديدة إلا عن ذكر الله وأمره. والضمير في قوله حَتَّى تَوارَتْ للخيل أي ما زالت تعرض   (1) رواه البخاري في كتاب المناقب باب 28. مسلم في كتاب الزكاة حديث 25. أبو داود في كتاب الجهاد باب 41. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 29. الدارمي في كتاب الجهاد باب 33. الموطأ في كتاب الجهاد حديث 44. أحمد في مسنده (3/ 29) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 593 عليه ويأمر بإعدائها وسيرها إلى إن غابت عن بصره، ثم قال رُدُّوها عَلَيَّ أي أمر الرائضين بان يردوا الخيل عليه، فلما عادت عليه طفق يمسح مسحا بسوقها وأعناقها تشريفا لها وإظهارا لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدوّ، أو لأنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها، أو أراد إظهار أنه بلغ في اختبار أمور المملكة إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه. وقيل: مسح الغبار عن أعناقها وسوقها بيده. وقيل: وسم أعناقهن وأرجلهن فجعلهن في سبيل الله. وأما الوجه الآخر في هذه الواقعة فما روي أن سليمان غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس. وقيل: ورثها من أبيه وكان أبوه أصابها من العمالقة. وقيل: أخرجها الشياطين من مرج من المروج أو من البحر وكانت ذوات أجنحة. فقعد يوما بعد الظهر واستعرضها فلم يزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وذلك قوله حَتَّى تَوارَتْ أي الشمس بدليل ذكر العشي بِالْحِجابِ حجاب الأفق. وقيل: حتى توارت الخيل بحجاب الليل وغفل عن العصر، أو عن ورد من الذكر كان له وقت العشي فقال إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ وهو متضمن معنى فعل يتعدى بعن أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي وجعلت حبها مغنيا عن ذكر ربي فاغتم لما فاته فاستردها وعقرها تقربا لله وذلك قوله فَطَفِقَ مَسْحاً قال جار الله: أي يمسح بالسيف سوقها وأعناقها فقلب لأمن الإلباس كقولهم «عرضت الناقة على الحوض» قال الراوي: قربها إلا مائة فما في أيدي الناس من الجياد فمن نسلها، وحين عقرها أبدله الله خيرا منها وهي الريح تجري بأمره. وقيل: الضمير في رُدُّوها للشمس والخطاب للملائكة تضرع إلى الله فرد الله عليه الشمس فصلى العصر. ومحل القدح في هذه الرواية هو نسبة سليمان إلى حب الدنيا حتى غفل عن الصلاة وضم بعضهم إلى ذلك أن قطع أعناق الخيل وعرقبة أرجلها منهي عنه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله. وأجيب بأنه فعل ذلك لأنها منعته عن الصلاة أو لأنه ذبحها للفقراء والمساكين، قال الزجاج: لم يفعل ذلك إلا وقد أباحه الله له وما أباح الله فليس بمنهي. قال الإمام فخر الدين الرازي: إن الكفار لما بلغوا في الإيذاء والسفاهة إلى حيث قالوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قال لنبيه: اصبر يا محمد على ما يقولون واذكر عبدنا داود. ثم ذكر عقيبه قصة سليمان، وهذا الكلام إنما يكون لائقا لو قلنا إن سليمان أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله وأعرض عن الشهوات، فأما لو كان المقصود أنه أقدم على الكبيرة لم يكن ذكره مناسبا. هذا تمام الكلام في الواقعة الأولى. وأما الثانية وإليها الإشارة بقوله. وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 594 فالمحققون يروونه على وجوه: أحدها: أن سليمان ولد له ابن بعد أن ملك عشرين سنة فقالت الشياطين: إن عاش لم نتخلص من البلاء والتسخير فسبيلنا أن نقتله أو نخبله، فعلم بذلك سليمان فأمر السحاب أن يحفظه ويغذوه خوفا من مضرة الشياطين، فما راعه إلا أن ألقي على كرسيه ميتا فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربه فاستغفر ربه وأناب. وثانيها روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن سليمان قال ذات ليلة: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة. وفي رواية على مائة وفي رواية على ألف- كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل: إن شاء الله. فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعين فذلك قوله وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ» «1» . وثالثها قال أبو مسلم: مرض سليمان مرضا شديدا امتحنه الله به حتى صار جسدا على كرسيه ملقي كما جاء في الحديث «لحم على وضم وجسد بلا روح» لأن الجسد يطلق في الأكثر على ما لا روح له. ثُمَّ أَنابَ أي رجع إلى حالة الصحة. والمشهور عند الجمهور أن الجسد الملقى على كرسيه كان شيطانا جلس على سرير ملكه أربعين يوما، وذلك أن ملكه كان في خاتمه فأخذ شيطانا يقال له آصف وقال: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فذهب ملكه وقعد آصف على كرسيه. وعن علي رضي الله عنه أنه قال: بينما سليمان جالس على شاطىء البحر وهو يعبث بخاتمه إذ سقط في البحر. وقيل: إنه وطئ امرأة في الحيض فذلك ذنبه. وقال في الكشاف: وغيره حكوا أن سليمان بلغه خبر صيدون وهي مدينة في بعض الجزائر وأن بها ملكا عظيم الشأن. فخرج إليه تحمله الريح حتى أناخ بها جنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وأصاب بنتا له اسمها جرادة من أحسن الناس وجها، فاصطفاها لنفسه وأسلمت وأحبها وكانت لا يرقأ دمعها حزنا على أبيها. فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدون لها كعادتهن في ملكه، فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها، فوضعه عندها يوما فأتاها الشيطان صاحب البحر وهو الذي دل سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس. واسمه صخر- على صورة سليمان فقال: يا أمينة أعطيني خاتمي فتختم به وجلس على كرسي سليمان وعكفت عليه الطير والجن والإنس. وغير سليمان عن هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته، فكان يدور على البيوت يتكفف وإذا قال: أنا سليمان. حثوا   (1) رواه مسلم في كتاب الأيمان حديث 24. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 595 عليه التراب وسبوه فمكث على ذلك أربعين يوما عدد ما عبد الوثن في بيته. وكان ذلك الشيطان يقضي بين الناس ويتمكن من جميع ملكه إلا نساءه. وقيل: من جميع ملكه ونسائه وما يدع امرأة في دمها ولا يغتسل من جنابة، فلما أراد الله أن يرد الملك إليه أنكر علماء بني إسرائيل قضية قضاها الشيطان فأحضروا التوراة، فلما قرؤها فرّ الشيطان وألقى الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فصادها صائد ووهبها لسليمان وأعطاها على أجرة عمله يوما فأخرج من بطنها الخاتم ثُمَّ أَنابَ أي رجع على ملكه أو ثاب ووقع ساجدا. ثم إن سليمان ظفر بالشيطان فجعله في تابوت وسده بالنحاس وألقاه في البحر. والعلماء المتقنون أبوا قبول هذه الرواية وقالوا: إنها من أباطيل اليهود، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل وإلا ارتفع الأمان عن الشرائع والأديان، وكيف يسلطهم الله على آحاد عباده فضلا عن أنبيائه حتى يغيروا أحكامهم ويفجروا بنسائهم. وأما اتخاذ التماثيل فيجوز أن تختلف فيه الشرائع والسجود للصورة إذا كان بغير إذنه فلا عتب عليه. وحكى الثعلبي هذه القصة بوجه أقرب إلى القبول وهو أن سليمان لما افتتن بأخذ التمثال في بيته سقط الخاتم من يده فأخذه سليمان فأعاده إلى يده فسقط، فلما رآه لا يثبت في اليد أيقن بالفتنة فقال له آصف: إنك لمفتون فتب إلى الله واشتغل بالعبادة وأنا أقوم مقامك إلى أن يتوب الله عليك. فقام آصف في ملكه أربعة عشر يوما وهو الجسد الذي ألقي على كرسيه، فردّ الله إليه ملكه وأثبت الخاتم في يده. وعن سعيد بن المسيب أن سليمان احتجب عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله إليه: يا سليمان احتجبت عن عبادي وما أنصفت مظلوما عن ظالم، ثم ذكر القصة وأخذ الشيطان الخاتم ورجوعه إليه. ثم حكى الله تعالى أن سليمان قال رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً قدم المغفرة على طلب الملك كما هو دأب الصالحين تقديما لأمر الدين على أمر الدنيا، ولأن الاستغفار يجر الرزق فإن الإنسان قلما ينفك عن ترك الأولى فإذا زال عنه شؤم ذلك ببركة الاستغفار انفتح عليه أبواب الخيرات. والذين حملوا الفتنة على صدور الذنب عنه فوجوب الاستغفار عندهم واضح وحملوا قوله لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي على أنه سأل ملكا لا يقدر الشيطان على أن تقوم مقامه. والأوّلون ذهبوا إلى أنه لم يقل ذلك حسدا وإنما قصد به أن يكون معجزة له، ومن شرط المعجز أن لا يقدر غيره على معارضته ولا سيما أمته الذين بعث إليهم ولهذا قال بعضهم: أراد غيري ممن بعثت إليهم ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة. وحقيقة لا ينبغي لا ينفعل من بغيت الشيء طلبته أي لا يصير مطلوبا لأنه سماوي فوق طوق البشر، أو قصد أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق فإذا كان ملكه آية كان ثوابه على الصبر عنه غاية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 596 ونهاية، أو أراد أن يظهر للخلق أن حصول الدنيا لا يمنع من خدمة المولى، وأن ملك سليمان إذا كان عرضة للفناء فالأولى بالعاقل أن يشتغل بالعبودية ولا يلتفت إلى الدنيا وما فيها. وقيل: إنه لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا زائلة منتقلة إلى الغير بإرث ونحوه فطلب ملكا لا يتصور انتقاله إلى الغير وهو ملك الدين والحكمة. وقال أهل البيان: لم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته كما تقول لفلان: ما ليس لأحد من الفضل والمال. وربما كان للناس أمثال ذلك. والأقوى هو الأوّل بدليل قوله عقيبه فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ وَالشَّياطِينَ. ولا ريب أن هذا معجزة وملك عجيب دال على نبوّته ويؤيده ما جاء في الحديث «أردت أن أربطه- يعني الشيطان- على سارية من سواري المسجد إلا أني تذكرت دعوة أخي سليمان» «1» والضمير في بِأَمْرِهِ لسليمان. وقيل: لله. والرخاء الرخوة اللينة ولا ينافي هذا وصفها بالعصوف في الأنبياء فلعلها تختلف باختلاف الأحوال والأوقات، أو هي طيبة في نفسها ولكنها عاصفة بالإضافة إلى الرياح المعهودة. ومعنى أصاب قصد وأراد من إصابة السهم. وقوله وَالشَّياطِينَ معطوف على الرِّيحَ وقوله كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ بدل الكل من الشياطين. كانوا يبنون لأجله الأبنية الرفيعة ويستخرجون اللؤلؤ من البحر وهو أوّل من استخرج الدر من البحر وَآخَرِينَ عطف على الشياطين أو على كل داخل في حكم البدل، وكان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد. والصفد القيد والعطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ومنه قول عليّ رضي الله عنه: من برك فقد أسرك ومن جفاك فقد أطلقك وقيل: حقيقته التفويض على الخير والشر. قال الجبائي: إن الشيطان كان كثيف الجسم في زمن سليمان ويشاهده الناس. ثم إنه لما توفي سليمان أمات الله ذلك الجنس وخلق نوعا آخر لطيف الجسم بحيث لا يرى ولا يقوى على الأعمال الشاقة. قلت: هذا إخبار بالغيب إلا أن تكون رواية صحيحة. ولم لا يجوز أن تكون أجسامهم لطيفة بمعنى عدم اللون ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التمزق والتفرق. هذا عَطاؤُنا أي قلنا لسليمان هذا الملك عطاؤنا والإضافة للتعظيم. وقوله: بِغَيْرِ حِسابٍ يتعلق بالعطاء يعني أنه جم كثير لا يدخل تحت الضبط والحصر فأعط منه ما شئت أو أمسك مفوّضا إليك زمام   (1) رواه البخاري في كتاب الصلاة باب 75. مسلم في كتاب المساجد حديث 39. أحمد في مسنده (2/ 298) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 597 التصرف فيه. ويجوز أن يتعلق بالأمرين أي ليس عليك في ذلك حرج ولا تحاسب على ما تعطي وتمنع يوم القيامة. عن الحسن: أن الله لم يعط أحدا عطية إلا جعل عليه فيها حسابا سوى سليمان فإنه أعطاه عطية هنيئة إن أعطى أجر وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة. ويحتمل أن يراد هذا التسخير تسخير الشياطين عطاؤنا فامنن على من شئت منهم بالإطلاق، أو أمسك من شئت منهم بالوثاق، فأنت في سعة من ذلك لا تحاسب في إطلاق من أطلقت وحبس من حبست وحين فرغ من تعداد النعم الدنيوية أردفه بما أنعم به عليه في الآخرة قائلا: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ كما في قصة داود وفيه أن ثوابه كفء ثواب أبيه كما أن سيرته سيرة أبيه. التأويل بصاد صمديته في الأزل وصانعيته في الوسط وصبوريته إلى الأبد. أقسم بالقرآن ذي الذكر لأن القرآن قانون معالجات القلوب وأعظم مرض القلب من نسيان الله فأعظم علاجه ذكر الله. ثم أشار إلى انحراف مزاج الكفار بمرض نسيان الله من اللين والسلامة إلى الغلظ والقساوة، ومن التواضع إلى التكبر، ومن الوفاق إلى الخلاف، ومن التصديق إلى التكذيب، ومن التوحيد إلى تكثير الآلهة. وفي قوله وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إشارة إلى أن الكفار إذا تواصوا فيما بينهم بالصبر والثبات فالمؤمنون أولى بالثبات على قدم الصدق في طلب المحبوب الحقيقي إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ في الأزل من المقبول والمردود. بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ لأنهم في النوم فإذا ماتوا انتبهوا وأحسوا بالألم فعاينوا الأمر حين لا ينفع العيان، ويزول الشك يوم لا يجدي البرهان. عَجِّلْ لَنا قِطَّنا النفوس الخبيثة تميل بطبعها إلى السفليات العاجلة كما أن النفوس الكريمة تميل بطبعها إلى العلويات الباقية، ولكل من الصنفين جذبة بالخاصية إلى شكله كجذب المغناطيس الحديد. لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً هن آثار فيوض الصفات الربانية بحسب الأسماء التسعة والتسعين، فلكل منها مظهر في عالم الملك والخلق وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ هو ذات الله وحده فَقالَ أَكْفِلْنِيها أي صيرني أجمع بين الله وبين ما سواه. ثم هاهنا أسرار كثيرة تفهمها إن شاء الله. وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ امتحناه بالجمع بين الدين والدنيا فَاسْتَغْفَرَ للحق رَبَّهُ راكِعاً وَأَنابَ إلى الله معرضا عما سواه. وهذا التأويل مما خطر ببالي أرجو أن يكون مضاهيا للحق: إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فيه أن الخلافة عطاء من الله وأنها مخصوصة بالإنسان خلق مستعدّا لها بالقوة، وفيه أن الجعلية تتعلق بعالم المعنى كما أن الخلقية تتعلق بعالم المعنى كما أن الخلقية تتعلق بعالم الصورة. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] ووجه الخلافة هو أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 598 الروح الإنساني أوّل فيض بذاته وصفاته فذاته من ذات الله بلا واسطة، وصفاته من صفاته بلا واسطة، فخلق لخليفته منزلا صالحا وهو قالبه، وأعد له عرشا هو القلب ليكون محل استوائه، ونصب له خادما وهو النفس، فلو بقي الإنسان على فطرة الله لكان روحه مستفيضا من الله تعالى فائضا لخلافة الحق على عرش القلب، والقلب فائض لخلافة الروح على خادمه النفس، والنفس فائضة لخلافة القلب على القالب، والقالب فائض لخلافة النفس على الدنيا، وهي أرض الله فلا يجري شيء من الأمور إلا على نهج الحق. وَوَهَبْنا لِداوُدَ الروح سُلَيْمانَ القلب إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ وهو بعد زوال شمس التجلي الصَّافِناتُ الْجِيادُ وهي مركب الصفات البشرية. وفي قوله فَطَفِقَ مَسْحاً إشارة إلى أن كل محبوب سوى الله إذا حجبك عنه لحظة يلزمك أن تقتله بسيف «لا إله إلا الله» وإليه الإشارة بقوله ثانيا وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ صدره شيئا من الشهوات الجسدانية فافتتن به فتاب ورجع إلى الحضرة. فإن قيل: قوله لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي هل يتناول نبينا صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: يتناوله بالصورة لا بالمعنى. فإن الذي كان مطلوب سليمان من تزكية النفس عن محبة الدنيا مع القدرة عليها، ومن تحلية القلوب بعلوّ الهمة وبذل المال والجاه وإفشاء العدل والنصفة وغير ذلك كان حاصلا للنبي صلى الله عليه وسلم من غير زحمة مباشرة صورة الملك والافتتان به عزة ودلالا ولهذا قال في حديث تسلطه على الشيطان «ذكرت دعوة أخي سليمان فتركته» «1» وكان يعرض عليه مقاليد الخزائن فيقول: «الفقر فخري» على أن صورة الملك أيضا مما سيحصل لبعض أمته كما قال «وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها» «2» . [سورة ص (38) : الآيات 41 الى 88] وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)   (1) المصدر. (2) رواه مسلم في كتاب الفتن حديث 19. أبو داود في كتاب الفتن باب 1. الترمذي في كتاب الفتن باب 14. ابن ماجة في كتاب الفتن باب 9. أحمد في مسنده (5/ 278) (4/ 123) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 599 القراآت: مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بسكون الياء: حمزة. بنصب بضمتين: يزيد، وقرأ يعقوب بفتحتين، وقرأ هبيرة بالفتح والسكون. والباقون: بالضم والسكون بِخالِصَةٍ ذِكْرَى على الإضافة: أبو جعفر ونافع وهشام عبدنا إبراهيم على التوحيد: ابن كثير وعلى هذا يكون إبراهيم وحده عطف بيان. ما يوعدون على الغيبة: ابن كثير وأبو عمرو وَغَسَّاقٌ بالتشديد حيث كان: حمزة وعليّ وخلف وحفص وأخر بضم الهمزة على الجمع: أبو عمرو وسهل ويعقوب والمفضل. والباقون: بالمد على التوحيد. الْأَشْرارِ بالإمالة والتفخيم مثل الْأَبْرارِ غير ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان الْأَشْرارِ بالإمالة أَتَّخَذْناهُمْ موصولة والابتداء بكسر الألف: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف. والآخرون: بفتح الهمزة على الاستفهام ما كان لي بفتح الياء: حفص إلا إنما بكسر الهمزة على الحكاية: يزيد لَعْنَتِي إِلى بفتح الياء: أبو جعفر ونافع فَالْحَقُّ بالرفع: حمزة وخلف وعاصم غير المفضل وهبيرة ويعقوب غير رويس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 600 الوقوف: أَيُّوبَ م إلا إذا جعل «إذ» بدلا وَعَذابٍ هـ ط لتقدير القول أي فأرسلنا إليه جبريل فقال له اركض بِرِجْلِكَ ج لأن هذا مبتدأ مع أنه من تمام القول وَشَرابٌ هـ الْأَلْبابِ هـ وَلا تَحْنَثْ ط صابِراً ط الْعَبْدُ ط أَوَّابٌ هـ وَالْأَبْصارِ هـ الدَّارِ هـ ج للاية مع العطف الْأَخْيارِ هـ وَذَا الْكِفْلِ ط مِنَ الْأَخْيارِ هـ ذِكْرٌ هـ ط مَآبٍ هـ لا لأن جَنَّاتِ بدل أو عطف بيان. الْأَبْوابُ هـ ج لاحتمال أن عامل مُتَّكِئِينَ محذوف أي يتنعمون متكئين وإن جعل حالا من مُفَتَّحَةً فهي مقدّرة لأن الاتكاء لا يكون في حال فتح الأبواب وَشَرابٍ هـ أَتْرابٌ هـ الْحِسابِ هـ مِنْ نَفادٍ هـ ج هذا ط أي هذا بيان جزاء المتقين أو الأمر هذا مَآبٍ هـ لا جَهَنَّمَ ج لأن ما بعده يصلح حالا واستئنافا يَصْلَوْنَها ج الْمِهادُ هـ هذا لا لأن خبره حَمِيمٌ فقوله فَلْيَذُوقُوهُ اعتراض وَغَسَّاقٌ هـ لا للعطف أَزْواجٌ هـ ط مَعَكُمْ ج لاتصال المعنى مع الابتداء بما في معنى الدعاء بِهِمْ هـ النَّارِ ط بِكُمْ ط لَنا ج الْقَرارُ هـ النَّارِ هـ الْأَشْرارِ هـ ط لمن قرأ بكسر الهمزة لاحتمال إضمار همزة الاستفهام واحتمال كونها خبرية صفة أو حالا ومن صرح بالاستفهام فوقفه مطلق الْأَبْصارُ هـ النَّارِ هـ الْقَهَّارُ هـ ج لأن ما بعده يصلح بدلا وخبرا لمحذوف أي هو الغفار عَظِيمٌ هـ لا لأن ما بعده وصف مُعْرِضُونَ هـ يَخْتَصِمُونَ هـ مُبِينٌ هـ طِينٍ هـ ساجِدِينَ هـ أَجْمَعُونَ هـ لا إِبْلِيسَ ط الْكافِرِينَ هـ بِيَدَيَّ ط للاستفهام الْعالِينَ هـ مِنْهُ ط لأن ما بعده جواب سؤال كأنه علل الخيرية طِينٍ هـ رَجِيمٌ هـ ج والوصل أولى لاتصال لعنتي به الدِّينِ هـ يُبْعَثُونَ هـ الْمُنْظَرِينَ هـ لا لتعلق إلى الْمَعْلُومِ هـ أَجْمَعِينَ هـ لا للاستثناء الْمُخْلَصِينَ هـ فَالْحَقُّ ز على قراءة الرفع أي فهذا الحق مع اتحاد المقول أَقُولُ ج لاحتمال أن ما بعده قسم مستأنف أو بدل من قوله وَالْحَقَّ. أَجْمَعِينَ هـ ج الْمُتَكَلِّفِينَ هـ لِلْعالَمِينَ هـ حِينٍ هـ. التفسير: وجه النظم كأنه تعالى يقول: يا محمد اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثر مالا أو جاها من داود وسليمان، ولم يكن أكثر بلاء ومحنة من أيوب، ومع ذلك لم يبق حالهما وحاله على نسق واحد، فالصبر مفتاح الفرج. وأَيُّوبَ عطف بيان و «إذ» معمول فعل آخر أو بدل اشتمال من أيوب أي زمان بلائه وكان معاصرا ليعقوب، وامرأته ليا بنت يعقوب، ونداؤه دعاؤه والجار محذوف أي دعاه بأني مسني على الحكاية وإلا لقال بأنه مسه والنصب والنصيب كالرشد والرشد، والنصب بالفتح والسكون على أصل المصدر، وضمة الصاد لا تباع النون كقفل وقفل. ومعنى الكل التعب والمشقة. قيل: الضر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 601 في البدن والعذاب في ذهاب المال والأهل وللناس في بلائه قولان: الأول أن الذي نزل به كان من الشيطان وقد مرّ تقريره في «الأنبياء» ومجمله ما روي أن إبليس سأل ربه فقال: هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال: نعم، عبدي أيوب. قال: فسلطني على ماله فكان يجيئه ويقول: هلك من مالك كذا فيقول: الله أعطى والله أخذ ثم يحمد الله. فقال: يا رب إن أيوب لا يبالي بماله فسلطني على ولده. فجاء وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية فجاء وأخبره به فلم يلتفت إليه فقال: يا رب إنه لا يبالي بماله وولده فسلطني على جسده فأذن فيه، فنفخ في جلد أيوب وحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فمكث في ذلك البلاء سبع سنين أو ثمان عشرة، وصار بحيث استقذره أهل بلده فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد فجاء الشيطان إلى امرأته وقال: إن استعاذ بي زوجك خلصته من هذا البلاء فأشارت إلى أيوب بذلك فغضب لذلك- أو لوجوه أخر سبق ذكرها في سورة الأنبياء- وحلف إن عافه الله ليجلدنها مائة جلدة وعند ذلك دعا ربه شاكيا إليه لامنه كقول يعقوب نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف: 86] فأجاب دعاءه وأوحى إليه ارْكُضْ أي اضرب بِرِجْلِكَ الأرض. عن قتادة: هي أرض الجابية من قرى الشام. فأظهر الله تعالى من تحت رجله عينا باردة طيبة فاغتسل منها فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه وردّ عليه أهله وماله. القول الثاني: إن الشيطان لا قدرة له على إيقاع الناس في الأمراض والآفات وإلا لوقع في العالم مفاسد ولم يدع صالحا إلا نكبه، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة. فالمراد بمس الشيطان هو الأحزان الحاصلة في قلبه بسبب وساوسه من تعظيم ما نزل به من البلاء وإغرائه على الجزع والقنوط من روح الله إلى غير ذلك مما مر ذكره في سورة الأنبياء. ولناصر القول الأول أن يقول: سلمنا أن الشيطان باستقلاله لا يقدر على المفاسد ولكنه لم لا يجوز أن يقدر على المفاسد ولكنه لم لا يجوز أن يقدر بعد الالتماس والتسليط؟. ولنعد إلى تفسير ما يختص بالمقام. قوله مُغْتَسَلٌ بارِدٌ أي هذا مكان يغتسل فيه أي بمائه ويشرب منه، والظاهر أنها كانت عينا واحدة عذبة باردة، وروى بعضهم أنه نبعت عينان ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها فبرأ ظاهره، وضرب رجله اليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها فزال ما في بطنه من القروح. وزعم أن تقدير الكلام هذا مغتسل وشراب بارد. وقوله وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قيل: أحياهم الله بأعيانهم وزاده مثلهم من أولاده. وقيل: من أولاد أولاده. وقيل: كانوا قد غابوا عنه وتفرقوا فجمع الله شملهم. وقيل: كانوا مرضى فشفاهم الله والأول أصح. وقوله رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 602 مفعول لهما فكانت الهبة رحمة له وتذكيرا لذوي العقول حتى لو ابتلوا بما ابتلي به صبروا كما صبر فيفوزوا كما فاز. وإنما لم يقل هاهنا رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا [الأنبياء: 84] مع أنه أبلغ اكتفاء بما مر في سورة الأنبياء وفي قوله وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ مع قوله في «الأنبياء» وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ [الآية: 84] إشارة إلى أن ذا اللب هو الذي يعبد الله. وتخصص كل من السورتين بما خص لرعاية الفاصلة قوله وَخُذْ معطوف على ارْكُضْ والضغث الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو سنبلة. قال مجاهد: هو لأيوب خاصة. وعن قتادة: هو عام في هذه الأمة. والصحيح أنه باق في المريض والمعذور لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمخدج وقد زنى بأمة فقال: خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة حلل الله يمين أيوب بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها. ومعنى وَجَدْناهُ صابِراً علمنا منه الصبر. وهاهنا نكتة ذكرها بعض أرباب القلوب وهي أنه لما نزل في حق سليمان نِعْمَ الْعَبْدُ تارة وفي حق أيوب أخرى، اغتم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا تشريف عظيم فإن كان سببه اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان فنحن لا نقدر عليه، وإن كان سببه تحمل بلاء مثل بلاء أيوب فنحن لا نطيقه، فكيف السبيل الى تحصيله؟ فأنزل الله تعالى قوله فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج: 78] والمراد أنك إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم المولى، فإن كان منك الفضول فمني الفضل، وإن كان منك التقصير فمني النصرة والتوفيق. قلت: وصف أنبياء سائر الأمم بقوله نِعْمَ الْعَبْدُ ووصف هذه الأمة بقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: 110] فلا تشريف فوق هذا ثم أجمل ذكر طائفة من مشاهير الأنبياء. ومعنى أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ أولي العمل والعلم لأن اليد آلة لأكثر الأعمال، والبصر آلة لأقوى الإدراكات، فحسن التعبير عن العمل باليد، وعن الإدراك بالبصر، وفيه تعريض بأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ولا يتفكرون أفكار ذوي العقول والعرفان فهم في حكم الزمنى والعميان، ولولا قرينة الأبصار لكان يحتمل أن الأيدي جمع اليد النعمة. قوله أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ الخالصة صفة أو مصدر كالعاقبة، والدار ظرف فهي الدنيا، أو مفعول به فهي الآخرة. والمعنى جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة لا شوب فيها وهي ذكراهم الجنة بحيث لا يشوبون ذكرها بشيء من هموم الدنيا، أو هي تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها، أو بسبب خلوص ذكرى الجنة، أو بما خلص من ذكراها، أو جعلناهم مختصين بخلة صافية عن المنقصات وهي الثناء الحسن في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم. والْمُصْطَفَيْنَ جمع مصطفى وأصله مصطفيين لأنه في حالة الجر بالياء قلبت الياء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 603 المتحركة ألفا ثم حذفت، أراد اخترناهم من بين أبناء جنسهم والأخيار جمع خير بالتشديد أو خير بالتخفيف كأموات في ميت أو موت وإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وقد مر ذكرهم في سورة الأنبياء. وحين تمم ذكر الصالحين وما لقي كل منهم من أنواع الابتلاء تثبيتا لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو باب من أبواب التنزيل ونوع من أنواع القرآن، أراد أن يذكر على عقيبه بابا آخر وهو ذكر جزاء المتقين والطاغين قال هذا ذِكْرٌ ثم قال وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ كما يقول المصنف: إذا فرغ من فصل من كتابه هذا باب ثم يشرع في باب آخر. ويحتمل أن يكون من تتمة صفات الأنبياء أي هذا الذي قصصنا عليك من أحوال هؤلاء الأنبياء شرف وذكر جميل يذكرون به أبدا. قوله مُفَتَّحَةً حال والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل. قال الزجاج الْأَبْوابُ فاعل مُفَتَّحَةً والعائد محذوف أي الأبواب منها. وقال غيره: في مُفَتَّحَةً ضمير الجنات والْأَبْوابُ بدل الاشتمال من الضمير تقديره مفتحة هي الأبواب نظيره في بدل البعض «ضرب زيد اليد والرجل» فكان اللام عوضا من الضمير الراجع. والمعنى أن الملائكة الموكلين بالجنات إذا رأوا صاحب الجنة فتحوا له أبوابها وحيوه بالسلام فلا يحتاجون إلى تحصيل مفاتيح ومعاناة الفتح. وقيل: أراد به وصف تلك المساكن بالسعة وجولان الطرف فيها من غير حائل. وقوله مُتَّكِئِينَ حال مقدرة متداخلة كما مر أو حال بعد حال أو عامله مؤخر وهو يَدْعُونَ أي يتحكمون في ثمارها وشرابها فإذا قالوا لشيء منها أقبل حصل عندهم. وقيل: يتمنون وقيل: يسألون. قال المفسرون: أراد وشراب كثير فحذف اكتفاء بالأول. وحين بين أمر المسكن والمأكول والمشروب ذكر أمر المنكوح. وقاصرات الطرف قد مر في «الصافات» أنهن اللواتي قصرن الطرف عن الالتفات إلى غير أزواجهن. والأتراب جمع ترب وهي اللدة. واشتقاقها قيل من اللعب بالتراب، وقيل لأن التراب مسهن في وقت واحد. والسبب في اعتبار هذا الوصف أن التحاب بين الأقران أثبت. وقيل: هن وأزواجهن واحدة في الأسنان. وقيل: أراد أنهن شواب لا عجوز ولا صبية. ويروى أنهن بنات ثلاث وثلاثين. ومعنى لِيَوْمِ الْحِسابِ قيل: لأجل الحساب لأن الحساب علة الوصول إلى جزاء العمل. والظاهر أن اللام للوقت أي ما وعدتم تعطونه في يوم الحساب. إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ انقطاع ونهاية ولا مزيد فوق ذلك فتمام النعم بدوامها. ثم بين أن حال الطاغين مضادّة لحال المتقين وأكثر المفسرين حملوا الطغيان هاهنا على الكفر لأنه تعالى يحكي عنهم أنهم قالوا اتخذناهم سخريا، والفاسق لا يتخذ المؤمن هزوا لأن الطاغي اسم ذم، والاسم المطلق محمول على الكامل والكامل في الطغيان هو الكافر، ويؤيده قول ابن عباس: المعنى إن الذين طغوا عليّ وكذبوا رسلي لهم شر مصير. وحمله الجبائي على أصحاب الكبائر من أهل الإيمان وغيرهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 604 لأن كل من تجاوز عن تكاليف الله فقد طغا، ومنه قوله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6] والمهاد الفراش وقد مر مرارا. وقوله هذا قد مر بعض إعرابه في الوقوف، ويحتمل أن يراد العذاب هذا ثم ابتدأ فقال هو حميم أو منه حَمِيمٌ ومنه غَسَّاقٌ أو هذا فَلْيَذُوقُوهُ معناه ليذوقوا هذا فليذوقوه كقوله فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل: 51] وقيل: حَمِيمٌ مبتدأ وهذا خبره. والغساق بالتخفيف والتشديد ما يغسق من صديد أهل النار. يقال: غسقت العين إذا سال دمعها. وذكر الأزهري أن الغاسق البارد ولهذا قيل لليل الغاسق لأنه أبرد من النهار. فالحميم يحرق بحرّه، والغساق يحرق ببرده. وقال الزجاج: إنه المنتن لو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق يؤيده قول ابن عمر: هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه. وقال كعب: هو عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذي سم من عقرب وحية. وعن الحسن: هو عذاب لا يعلمه إلا الله. إن الناس أخفوا لله طاعة فأخفى لهم ثوابا في قوله فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أي ومذوقات أخر أو عذاب أو مذوق آخر من جنس هذا المذوق. وأَزْواجٌ أي أجناس أو مقترنات صفة الآخر لأنه جاز أن يكن مختلفات أو صفة للثلاثة المذكورة وهي حميم وغساق وشيء آخر من شكله، والمجموع خبر هذا أو خبر هو. وحين وصف مسكن الطاغين ومأكولهم ومشروبهم حكى أحوالهم مع الذين كانوا يعدونهم أحباءهم في الدنيا ثم مع الذين كانوا يعدونهم أعداءهم. أما الأوّل فقوله هذا أي يقول الطاغون بعضهم مع بعض وذلك إذا دخلت أمة ثم دخل آخرون. والفوج الأوّل الرؤساء والثاني الأتباع. وقيل: الأول إبليس وبنوه والثاني أبناء آدم هذا فَوْجٌ أي جمع كثيف دخل النار في صحبتكم. والاقتحام الدخول في الشدة أرادوا أن أتباعهم اقتحموا معهم العذاب كما اقتحموا معهم الضلال. وقوله لا مَرْحَباً بِهِمْ دعاء منهم على أتباعهم ومَرْحَباً نصب على أنه مفعول به أو مصدر أي أتيت رحبا لا ضيقا، أو رحبت بلادك رحبا فإذا دخل عليه لا صار دعاء السوء وبهم بيان للمدعو عليهم. وقوله إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ تعليل لاستيجابهم اللعن. قيل: إنما قالوا ذلك ولم يصدر من الأتباع ذنب في حق من قبلهم لأن النار تكون مملوءة منهم، أو لأن عذابهم يضاعف بسببهم. وقيل: هو إخبار لا دعاء أي وقد وردوا موردا لا رحب فيه ولا سعة. وقيل هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ كلام الخزنة لرؤساء الكفرة فما بين أتباعهم. وقيل: هذا كله كلام الخزنة قالُوا أي الأتباع. بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أي الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به وعللوا ذلك بقولهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 605 أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا والضمير لما هم فيه من العذاب أو الصلي أي كنتم السبب في العمل الذي هذا جزاؤه فجمعوا بين مجازين، لأن الأتباع هم الذين عملوا عمل السوء لا رؤساؤهم والعمل هو المقدّم لا جزاؤه. ومن جعل قوله لا مَرْحَباً بهم من كلام الخزنة، زعم أن تقدير الكلام هذا الذي دعا به علينا الخزنة أنتم يا رؤساء أحق به منا لإغوائكم إيانا وتسببكم لما نحن فيه. فَبِئْسَ الْقَرارُ أي المستقر النار قالُوا أي الفوج وهو كالبدل من قالُوا الأوّل والضعف المضاعف كما مر في «الأعراف» وأما الثاني فقوله ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ أي في اعتقادنا لأن دينهم على خلاف ديننا، أو أرادوا أنهم أراذل لا خير فيهم يعنون فقراء المسلمين. وعن بعضهم أن القائلين صناديد قريش كأبي جهل والوليد وأضرابهما والرجال عمار وبلال وصهيب وأمثالهم. من قرأ أَتَّخَذْناهُمْ بفتح الهمزة فعلى أنه إنكار منهم على أنفسهم وتأنيب لها بالاستسخار منهم، وكذا فيمن قرأ أَتَّخَذْناهُمْ بكسر الهمزة ويقدر همزة الاستفهام محذوفة، ومن جعلها صفة أو حالا فلا إشكال وحينئذ يتصل أَمْ زاغَتْ بقوله ما لَنا لا نَرى أي الرجال الموصوفين في النار كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت عنهم أبصارنا وخفي علينا مكانهم فلا نراهم وهم فيها. فأم منقطعة وكذا إن اتصل بقوله أَتَّخَذْناهُمْ على الاستفهام لأن الأول للإنكار، والثاني للاستخبار. ويجوز أن يكون «أم» متصلة وكلاهما للإنكار. ومعنى زيغ الأبصار ازدراؤهم وتحقيرهم يؤيده قول الحسن، كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم واللام في الأبصار عوض من الضمير أي أبصارنا إِنَّ ذلِكَ الذي حكينا عنهم لَحَقٌّ لا بد لهم وقوعه لأنهم مالوا إلى عالم التضاد فيحشرون، كذلك. ثم بين ما هو فقال هو تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ لأن التلاعن والتشاتم نوع من أنواع الخصومة. واعلم أنه سبحانه لما بدأ في أول السورة بأن محمدا يدعو إلى التوحيد وأن الكفار يستهزؤن منه وينسبونه إلى السخرية تارة وإلى الكذب أخرى. ثم ذكر طرفا من قصص الأنبياء عليهم السلام ليعلم أن الدنيا دار تكليف وبلاء لا دار إقامة وبقاء. ثم عقبه بشرح نعيم الأبرار وعقاب الأشرار، عاد إلى تقرير المطالب المذكورة في أوّل السورة وهي صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق ما يدعو إليه من التوحيد والإخلاص فقال قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ من جميع الوجوه الْقَهَّارُ لما دونه ثم أردف القهر باللطف والتربية قائلا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا ثم أكد صفتي القهر واللطف بقوله الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ فمن عزته أدخل أهل الاستكبار النار ولمغفرته أعدّ الجنة لأهل الاستغفار. قوله قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أي القول بأن الله واحد نبأ عظيم أو القول بالنبوّة أو بإثبات الحشر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 606 والقيامة، وذلك لأن هذه المطالب كانت مذكورة في أوّل السورة ولأجلها سيق الكلام منجرا إلى هاهنا. ويحتمل أن يراد كتاب أنزلناه فيه نبأ عظيم وهؤلاء الأقوام أعرضوا عن كل من هذه الأمور. ثم بين أنه حاصل من قبل الوحي بقوله ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى وهم الملائكة إِذْ يَخْتَصِمُونَ أي يتقاولون فيما بينهم بالوحي. والظرف متعلق بمحذوف أي بكلامهم وقت اختصامهم، شبه التقاول بالتخاصم من حيث إن في كل منهما سؤالا وجوابا والمشابهة علة لجواز المجاز. ثم صرح بما عليه مدار الوحي قائلا إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ما يوحى إليّ إلا هذا وهو إني نذير كامل في باب التبليغ، ويؤيده قراءة كسر أَنَّما. وقيل: إن الجار محذوف أي لم يوح إليّ إلا لأن أنذر ولا أقصر. روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم «أتاني الليل آت من ربي وفي رواية ربي في أحسن صورة فقال لي: يا محمد. قلت: لبيك ربي وسعديك. قال: هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أعلم. قال: فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السموات وما في الأرض. قال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الدرجات والكفارات ونقل الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء في السبرات المكروهات أي في البرد الشديد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، ومن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه» «1» الحديث. قال: والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام. واعلم أن أشراف قريش إنما نازعوا محمدا صلى الله عليه وسلم بسبب الحسد والكبر فختم الله تعالى السورة بذكر قصة آدم وما وقع فيه إبليس من الرجم واللعن حين حسد آدم واستكبر ليصير سماع القصة زاجرا للمكلفين عن هاتين الخصلتين، فعلى هذا يكون إِذْ قالَ معمولا لمحذوف أي اذكر وقت قول ربك للملائكة. وقيل: النبأ العظيم قصص آدم والإنباء به من غير سماع من أحد. وعلى هذا فالضمير عائد إلى ما يذكره عما قريب. والمعنى ما أحكيه خبر له شأن لأنه مستفاد من الوحي. وقوله إِذْ قالَ بدل من إِذْ يَخْتَصِمُونَ والملأ الأعلى أصحاب القصة الملائكة وآدم وإبليس لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم حين قالوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30] كأنهم قالوا: هؤلاء فيما بينهم. ثم خاطبوا بها الله سبحانه فلا يلزم أن يكون الله تعالى من الملأ الأعلى ويثبت له مكان. أو نقول: المراد علو الرتبة والشرف فيشمل تقاول الله وملائكته. وقال جار الله: كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك فكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط. وقصة   (1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 9 باب 15. الدارمي في كتاب الرؤيا باب 12. أحمد في مسنده (1/ 368) (4/ 88) (5/ 243) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 607 آدم مذكورة في «البقرة» وفي غيرها مشروحة. والتي في هذه السورة يوافق أكثرها ما في الحجر فلا فائدة في إعادتها فلنذكر ما يختص بالمقام قوله خَلَقْتُ بِيَدَيَّ كلام المجسمة فيه ظاهر وغيرهم حملوه على وجوه منها: أن اليد عبارة عن القدرة يقال مالي بهذا الأمر يد أي قوّة وطاقة. ومنها أنها النعمة. ومنها أنها للتأكيد وليدل على عدم الواسطة كما مر في قوله مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا [يس: 71] وقد يقال في حق من جنى بلسانه وإن لم يكن له هذا مما كسبت يداك. والحق فيه أن السلطان العظيم لا يقدر على عمل شيء بيديه إلا إذا كانت عنايته مصروفة إلى ذلك العمل، فحيث كانت العناية الشديدة من لوازم العمل باليد أمكن جعله مجازا عنها. ومنها قول أرباب التأويل إنه إشارة إلى صفتي اللطف والقهر وهما يشملان جميع الصفات فلا مخلوق إلا وهو مظهر لإحدى الصفتين، كالملك فإنه مظهر اللطف، وكالشيطان فإنه مظهر القهر إلا الإنسان فإنه مظهر لكلتيهما وبذلك استحق الخلافة ومسجودية الملائكة ولهذا جاء في الأحاديث القدسية «لا أجعل ذرّية من خلقت بيديّ كمن قلت له كن فكان» قوله أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ أي أطلبت الكبر من غير استحقاق أم كنت ممن علوت وفقت؟ فأجاب بأنه من العالين حيث قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وقيل: استكبرت الآن أو لم تزل منذ كنت من المتكبرين. ومعنى الهمزة التقرير. قوله فَالْحَقُّ من قرأ بالرفع فعلى أنه خبر لما مر أو مبتدأ محذوف الخبر مثل لَعَمْرُكَ [الحجر: 72] أي فالحق قسمي لأملان والحق أقوله وهو اعتراض. ومن نصبهما فعلى أن الثاني تأكيد للأوّل، أو على أن الأوّل للإغراء أي اتبعوا الحق وهو الله سبحانه، أو الحق الذي هو نقيض الباطل. وقوله مِنْكَ أي من جنسك وهم الشياطين وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أي من ذريّة آدم. وأَجْمَعِينَ تأكيد للتابعين والمتبوعين. ثم ختم السورة بما يدل على الاحتياط والاجتهاد في طلب هذا الدين لأن النظر إما إلى الداعي أو إلى المدعو إليه. أما الداعي فلا يسأل أجرا على ما يدعو إليه وهو القرآن أو الوحي أو النبأ، ومن الظاهر أن الكذاب لا ينقطع طمعه عن طلب المال البتة. وأما المدعو إليه فقوله وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ الذين ينتحلون ما ليس عندهم ولا دليل لهم على وجوده، بل العقل الصريح يشهد بصحته فإني أدعوكم إلى الإقرار بالله أوّلا ثم إلى تنزيهه عما لا يليق به ثانيا، ثم إلى وصفه بنعوت الجمال والجلال ثالثا ومن جملة ذلك التوحيد ونفي الأنداد والأضداد، ثم أدعو إلى تعظيم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة والأنبياء رابعا، ثم إلى الشفقة على خلق الله خامسا، ثم أدعو إلى الإقرار بالبعث والقيامة سادسا لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31] فهذه أصول معتبرة في دين الإسلام يشهد بحسنها بداية العقول ويحكم ببعدها عن الباطل كل من يرجع إلى محصول وهو المراد بقوله إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ عن النبي صلى الله عليه وسلم «للمتكلف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 608 ثلاث علامات: ينازع من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم» وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ أي خبر حقيقة القرآن وما أدعو إليه بعد حين هو الموت لأن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. وقيل: هو القيامة. وقيل: هو حين ظهور الإسلام ولا يخفى ما فيه من التهديد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 609 (سورة الزمر) (مكية إلا ثلاث آيات نزلت في وحشي بن حرب وأصحابه يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إلى آخرهن حروفها أربعة آلاف وسبعمائة وثمانية وكلمها ألف ومائة وسبعون آياتها 75) [سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 31] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 610 القراآت: يَرْضَهُ بالإشباع: ابن كثير وعلي والمفضل وعباس وإسماعيل وابن ذكوان وخلف يَرْضَهُ باختلاس ضمة الهاء: يزيد وسهل ويعقوب ونافع وعاصم غير يحيى وحماد والمفضل وحمزة وهشام وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الباقون يَرْضَهُ بسكون الهاء ليضل بفتح الياء: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. الباقون: بالضم أَمَّنْ هُوَ بتخفيف الميم: نافع وابن كثير وحمزة وأبو زيد يا عبادي الذين بفتح الياء. الشموني والبرجمي والوقف بالياء إني أمرت فبشر عبادي بفتح ياء المتكلم فيهما: شجاع وأبو شعيب وعباس والشموني والبرجمي والوقف بالياء إني أخاف بالفتح: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 611 أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. سالما بالألف: ابن كثير وأبو عمرو. والآخرون: بفتح السين واللام من غير ألف. الوقوف: الْحَكِيمِ هـ لَهُ الدِّينَ هـ ط الْخالِصُ ط أَوْلِياءَ هـ التقدير يقولون ولو وصل لأوهم أن ما نعبدهم أخبار من الله قاله السجاوندي. وعندي أن هذا وهم بعيد والأولى أن لا يوقف لئلا يفصل بين المبتدأ وخبره زُلْفى ج لاحتمال أن خبر المبتدأ هو ما بعده يَخْتَلِفُونَ هـ ط كَفَّارٌ هـ ما يَشاءُ ز لتعجيل التنزيه سُبْحانَهُ ط الْقَهَّارُ هـ ز بِالْحَقِّ ج لاحتمال كون ما بعده حالا والاستئناف أفضل وَالْقَمَرَ ط مُسَمًّى ط الْغَفَّارُ هـ أَزْواجٍ ط ثَلاثٍ ط الْمُلْكُ ط تُصْرَفُونَ هـ الْكُفْرَ ج لعطف جملتي الشرط مع وقوع العارض لَكُمْ ط أُخْرى ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار تَعْمَلُونَ هـ الصُّدُورِ هـ سَبِيلِهِ ط قَلِيلًا ز ص والأولى الوصل أو التقدير فإنك النَّارِ هـ رَحْمَةَ رَبِّهِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ الْأَلْبابِ هـ رَبَّكُمْ ط حَسَنَةٌ ط واسِعَةٌ ط حِسابٍ هـ لَهُ الدِّينَ هـ ط الْمُسْلِمِينَ هـ عَظِيمٍ هـ دِينِي هـ لا دُونِهِ ط يَوْمَ الْقِيامَةِ ط الْمُبِينُ هـ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ط عِبادَهُ ط فَاتَّقُونِ هـ الْبُشْرى ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب عِبادِ هـ لا أَحْسَنَهُ ط الْأَلْبابِ هـ الْعَذابِ هـ فِي النَّارِ هـ ج للآية مع الاستدراك مبنية لا لأن ما بعده وصف الْأَنْهارُ ط وَعْدَ اللَّهِ ط الْمِيعادَ هـ حُطاماً ط الْأَلْبابِ هـ مِنْ رَبِّهِ ط لحذف جواب الاستفهام من ذِكْرِ اللَّهِ ط مُبِينٍ هـ رَبَّهُمْ ج لأن الجملة ليست من صفة الكتاب مع العطف ذِكْرِ اللَّهِ ط مَنْ يَشاءُ ط هادٍ هـ يَوْمَ الْقِيامَةِ ط لحق الحذف كما مر تَكْسِبُونَ هـ لا يَشْعُرُونَ هـ الدُّنْيا ج للام الابتداء مع العطف أَكْبَرُ هـ يَعْلَمُونَ هـ يَتَذَكَّرُونَ هـ ج لاحتمال كون قُرْآناً نصبا على المدح أو على الحال المؤكدة كما يجيء يَتَّقُونَ هـ مُتَشاكِسُونَ هـ لِرَجُلٍ ط مَثَلًا ط اللَّهُ ج للإضراب مع اتفاق الجملتين لا يَعْلَمُونَ هـ مَيِّتُونَ هـ تَخْتَصِمُونَ هـ. التفسير: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مبتدأ وخبره مِنَ اللَّهِ وقيل: أصله هذا تنزيل الكتاب والجار صلة، والأولى أقوى لأن الإضمار خلاف الأصل، ولأنه يلزم مجاز آخر وهو كون التنزيل بمعنى المنزل فإن هذا إشارة إلى القرآن أو إلى جزء منه وهو هذه السورة. وفيه إبطال ما يقوله المشركون من أن محمدا يقوله من تلقاء نفسه. وفي قوله مِنَ اللَّهِ إشارة إلى الذات المستحق للعبادة والطاعة كقولك: هذا كتاب من فلان. تعظم به شأن الكتاب: وفي قوله الْعَزِيزِ إشارة إلى أن هذا الكتاب يحق قبوله فكتاب العزيز عزيز، وفيه أنه غني عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 612 إرسال الكتاب والاستكمال به وإنما ينتفع به المرسل إليهم. وفي قوله الْحَكِيمِ إشارة إلى أنه مشتمل على الفوائد الدينية والدنيوية لا على العبث والباطل. وقوله إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ليس تكرارا من وجهين: أحدهما أن التنزيل للتدريج والإنزال دفعي كما مر مرارا. والثاني أن الأول كعنوان الكتاب، والثاني يقرر ما في الكتاب. وقوله بِالْحَقِّ يعني أن كل ما أودعنا فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف فهو حق وصدق مؤيد بالبرهان العقلي وهو مطابقته للعقول الصحيحة، وبالدليل الحسي وهو أن الفصحاء عجزوا عن معارضته. ثم اشتغل ببيان بعض ما فيه من الحق وهو الإقبال على عبادته بالإخلاص والالتفات عما سواه بالكلية. أما الأول فهو قوله فَاعْبُدِ اللَّهَ أي أنت أو أمتك مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وآية الإخلاص أن يكون الداعي إلى العبادة هو مجرد الأمر لا طلب مرغوب أو هرب مكروه. وأما الثاني فذلك قوله أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي واجب اختصاصه بالطاعة من غير أن يشوب ذلك دعاء أو شرك ظاهر وخفي. وخصصه قتادة فقال: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله. وحين حث على التوحيد والإخلاص ذم طريقة الشرك والتقليد فقال وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا الضمير للمشركين ولكن الموصول يحتمل أن يكون عبارة عن المشركين والخبر ما أضمر من القول، أو قوله إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ والقول المضمر حال أو بدل فلا يكون له محل كالمبدل، وأن يكون عبارة عن الشركاء والخبر إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ والقول المضمر للحال أو بدل. وتقدير الكلام على الأول: والمشركون الذين اتخذوا من دونه أولياء ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا، أو المشركون الذين اتخذوا من دونه أولياء قائلين أو يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم. وعلى الثاني: والشركاء الذين اتخذهم المشركون أولياء قائلين أو يقولون كذا إن الله يحكم بينهم. وإذا عرفت التقادير فنقول: المراد بالأولياء هاهنا الملائكة وعيسى واللات والعزى. قال ابن عباس: كانوا يرجون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله أما الملائكة وعيسى فظاهر، وأما الأصنام فلأنهم اعتقدوا أنها تماثيل الكواكب والأرواح السماوية أو الصالحين. ومعنى حكم الله بينهم أنه يدخل الملائكة وعيسى الجنة، ويدخلهم مع الأصنام النار. واختلافهم أن الملائكة وعيسى موحدون وهم مشركون والأصنام يكفرون يوم القيامة بشركهم وهم يرجون نفعهم وشفاعتهم. ويجوز أن يرجع الضمير في بَيْنَهُمْ إلى الفريقين المؤمن والمشرك. ولا يخفى ما في الآية من التهديد. ثم سجل عليهم بالخذلان والحرمان فقال إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ فكذبهم هو زعمهم شفاعة الأصنام وكفرانهم أنهم تركوا عبادة المنعم الحق وأقبلوا على عبادة من لا يملك لهم ضرا ولا نفعا. ومن جملة كذبهم قولهم الملائكة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 613 بنات الله فلذلك نعبد صورها فاحتج على إبطال معتقدهم بقوله لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ وهو الأفضل يعني البنين لا الأنقص وهن البنات. وقال جار الله: معناه لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه وهم الملائكة، لأن اتخاذ الولد ممتنع، وفيه توبيخ لهم على أنهم حسبوا الاصطفاء اتخاذ الأولاد بل البنات. وأقول: إنه تعالى أراد إبطال قولهم بطريق برهان وهو صورة قياس استثنائي كقوله لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى لأجل الاتخاذ مما يخلق ما يشاء لكنه ما اصطفى ينتج أنه لم يرد أما الشرطية فظاهرة بعد تسليم كمال قدرته، وأما الثانية فأشار إليها بقوله سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ فقوله سُبْحانَهُ إشارة إلى استحالة اصطفائه شيئا لأجل اتخاذ الولد. وقوله هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ إشارة إلى البرهان على استحالة ذلك وتقريره من ثلاثة أوجه: الأول أنه هو الله وهو اسم للمعبود الواجب الذات الجامع لجميع نعوت الجمال والجلال واتخاذ الولد يدل على الحاجة والفقر حتى يقوم الولد بعده مقامه، أو على الاستئناس والالتذاذ بوجوده أو لغير ذلك من الأغراض، وكل ذلك ينافي الوجوب الذاتي والاستغناء المطلق. الثاني أنه هو الواحد الحقيقي كما مر ذكره مرارا. والولد إنما يحصل من جزء من أجزاء الوالد، ومن شرطه أن يكون مماثلا لوالده في تمام الماهية حتى تكون حقيقة الوالد حقيقة نوعية محمولة على شخصين، ويكون تعين كل منهما معلوما لسبب منفصل وكل ذلك ينافي التعين الذاتي والوحدة المطلقة. وأيضا إن حصول الولد من الزوج يتوقف على الزوجة عادة وهي لا بد أن تكون من جنس الزوج فلا يكون الزوج مما ينحصر نوعه في شخصه. الثالث أنه هو القهار والمحتاج إلى الولد هو الذي يموت فيقوم الولد مقامه والميت مقهور لا قاهر، فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما اصطفى شيئا لأن يتخذه ولدا فصح أنه لم يرد ذلك، ونفي إرادة الاتخاذ أبلغ من نفي الاتخاذ فقد يراد ولا يتخذ لمانع كعجزه ونحوه. هذا ما وصل إليه فهمي في تفسير هذه الآية والله تعالى أعلم بأسرار كلامه. وحين طعن في إلهية الأصنام عدد الصفات التي بها يستدل على الإلهية الحقة وهي أصناف: أولها قوله خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي متلبسا بالغاية الصحيحة وقد مر مرارا. الثاني. يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ والتكوير اللف واللي يقال كار العمامة على رأسه وكورها. وفي التشبيه أوجه منها: أن الليل والنهار متعاقبان إذا غشي أحدهما مكان الآخر فكأنما ألبسه ولف عليه. ومنها أنه شبه كل منهما إذا غيب صاحبه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن الأبصار. ومنها أن كلا منهما يكر على الآخر كرورا متتابعا كتتابع أكوار العمامة. وقيل: أراد أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص من الآخر من قوله صلى الله عليه وسلم «نعوذ بالله من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 614 الحور بعد الكور» «1» أي من الإدبار بعد الإقبال. الثالث قوله وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى وقد مر مثله في «فاطر» وغيره. وحيث كان الأجل المسمى شاملا للقيامة عقبه بقوله أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ وفيه ترهيب مع ترغيب. الرابع والخامس قوله خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وهما آيتان أوّلهما تشعيب الخلق الفائت للحصر من نفس آدم، والثانية خلق حوّاء من ضلعه. ومعنى «ثم» ترتيب الأخبار لأن الأولى عادة مستمرة دون الثانية إذ لم يخلق أنثى غير حوّاء من قصيري رجل فكانت أدخل في كونها آية وأجلب لعجب السامع. وقيل: هو متعلق بواحدة في المعنى كأنه قيل: خلقكم من نفس واحدة ثم شفعها الله بزوج منها. وقيل: إنه خلق آدم وأخرج ذريته من ظهره ثم ردهم إلى مكانهم، ثم خلق بعد ذلك حوّاء. وقيل: «ثم» قد يأتي مع الجملة دالا على التقدّم كقوله ثُمَّ اهْتَدى [طه: 82] ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد: 17] وكقوله صلى الله عليه وسلم «فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير» السادس قوله وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أما الأزواج فهي المذكورة في سورة الأنعام من الضأن اثنين الذكر والأنثى، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين. وأما وصفها بالإنزال فقيل: أنزلها من الجنة. وقيل: أراد إنزال ما هو سبب في وجودها وهو المطر الذي به قوام النبات الذي به يعيش الحيوان. وقيل: أنزل بمعنى قضى وقسم لأن قضاياه وقسمه مكتوبة في اللوح ومن هناك ينزل. وفي هذه العبارة نوع فخامة وتعظيم لإفادتها معنى الرفعة والاعتلاء ولهذا يقال: رفعت القضية إلى الأمير وإن كان الأمير في سرب. وخصت هذه الأزواج بالذكر لكثرة منافعها من اللبن واللحم والجلد والشعر والوبر والركوب والحمل والحرث وغير ذلك. السابع قوله يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ والمقصود ذكر تخليق الحيوان على الإطلاق بعد ذكر تخليق الإنسان والأنعام، إلا أنه غلب أولي العقل لشرفهم. ويحتمل أن يكون ذكر الإنعام اعتراضا حسن موقعه ذكر الأزواج بعد قوله جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ليعلم أن كل حيوان ذو زوج وترتيب التخليق مذكور مرارا كقوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قوله أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14] والظلمات الثلاث: البطن والرحم والمشيمة، أو الصلب والرحم والبطن. ذلِكُمُ الذي هذه أفعاله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وقد مر إعرابه في «فاطر» . لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا موصوف بهذه الصفات إلا هو فَأَنَّى تُصْرَفُونَ   (1) رواه ابن ماجة في كتاب الدعاء باب 20. مسلم في كتاب الحج حديث 426. الترمذي في كتاب الدعوات باب 41. النسائي في كتاب الاستعاذة باب 41، 42. الدارمي في كتاب الاستئذان باب 42. أحمد في مسنده (5/ 82، 83) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 615 أي كيف يعدل بكم عن طريق الحق بعد هذا البيان؟ ثم بين أنه غني عن طاعات المطيعين وأنها لا تفيد إلا أنفسهم فقال إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ قال المعتزلة: في قوله وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ دليل على أن الكفر ليس بقضائه وإلا لكان راضيا به. وأجاب الأشاعرة بأنه قد علم من اصطلاح القرآن أن العباد المضاف إلى الله أو إلى ضميره هم المؤمنون. قال وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ [الفرقان: 63] عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الدهر: 6] فمعنى الآية: ولا يرضى لعباده المخلصين الكفر. وهذا مما لا نزاع فيه. أو نقول: سلمنا أن كفر الكافر ليس برضا الله بمعنى أنه لا يمدحه عليه ولا يترك اللوم والاعتراض إلا أنا ندعي أنه بإرادته، وليس في الآية دليل على إبطاله. ثم بين غاية كرمه بقوله وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ والسبب في كلا الحكمين ما جاء في الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي» وباقي الآية مذكور مرارا مع وضوحه. ثم حكى نهاية ضعف الإنسان وتناقض آرائه بقوله وَإِذا مَسَّ إلى آخره. وقد مر نظيره أيضا. وقيل: إن الإنسان هو الكافر الذي تقدّم ذكره. وقيل: أريد أقوام معينون كعتبة بن ربيعة وغيره. ومعنى خوّله أعطاه لا لاستجرار العوض. قال جار الله: في حقيقته وجهان: أحدهما جعله خائل مال من قولهم هو خائل مال وخال مال إذا كان متعهدا له حسن القيام به. ومنه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخوّل أصحابه بالموعظة أي يتعهد ويتكفل أحوالهم إن رأى منهم نشاطا في الوعظ وعظهم. والثاني أنه جعله يخول أي يفتخر كما قيل: إن الغني طويل الذيل مياس ومعنى نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه، أو نسي ربه الذي كان يتضرع إليه و «ما» بمعنى «من» . والمراد أنه نسي أن لا مفزع ولا إله سواه وعاد إلى اتخاذ الأنداد مع الله. واللام في لِيُضِلَّ لام العاقبة. ثم هدّده بقوله تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 40] وفيه أن الكافر لا يتمتع بالدنيا إلا قليلا ثم يؤل إلى النار. ثم أردفه بشرح حال المحقين الذين لا رجوع لهم إلا إلى الله ولا اعتماد لهم إلا على فضله فقال أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ قال ابن عباس: القنوت الطاعة. وقال ابن عمر: لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام. والمشهور أنه الدعاء في الصلاة والقيام بما يجب عليه من الطاعة. وعن قتادة آناءَ اللَّيْلِ أوّله ووسطه وآخره. وفيه تنبيه على فضل قيام الليل ولا يخفى أنه كذلك لبعده عن الرياء ولمزيد الحضور وفراغ الحواس من الشواغل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 616 الخارجية، ولأن الليل وقت الراحة فالعبادة فيه أشق على النفس فيكون ثوابه أكثر. والواو في قوله ساجِداً وَقائِماً للجمع بين الصفتين. وفي قوله يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أي عذابها وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ إشارة إلى أن العابد يتقلب بين طوري القهر واللطف، ويتردّد بين حالي القبض والبسط ولا يخفى أن في الكلام حذفا فمن قرأ أَمَّنْ بالتخفيف فالخبر محذوف والمعنى أمن هو مطيع كغيره، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه وهو جري ذكر الكافر قبله وبيان عدم الاستواء بين العالم والجاهل بعده. ومن قرأ بالتشديد فالمحذوف جملة استفهامية والمذكور معطوف على المبتدأ والمعنى: هذا أفضل أمن هو قانت. وقيل: الهمزة على قراءة التخفيف للنداء كما تقول: فلان لا يصلي ولا يصوم فيا من تصلي وتصوم أبشر. وقيل: المنادي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قوله قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الآية. قال جار الله: أراد بالذين يعلمون الذين سبق ذكرهم وهم القانتون فكأنه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون فيها ثم يفتنون بالدنيا. ويجوز أن يراد على وجه التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون كذلك لا يستوي القانتون والعاصون. قيل: نزلت في عمار بن ياسر وأمثاله، والظاهر العموم. وفي قوله إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ إشارة إلى أن هذا التفات العظيم بين العالم والجاهل لا يعرفه إلا أرباب العقول كما قيل: إنما نعرف ذا الفضل من الناس ذووه وقيل لبعض العلماء: إنكم تزعمون أن العلم أفضل من المال ونحن نرى العلماء مجتمعين على أبواب الملوك دون العكس؟ فأجاب بأن هذا أيضا من فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فتركوه. وحين بين عدم الاستواء بين من يعلم وبين من لا يعلم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخاطب المؤمنين بأنواع من الكلام. النوع الأوّل. قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم قال أهل السنة: أمر المؤمنين أن يضموا إلى الإيمان التقوى، وفيه دلالة على أن الإيمان يبقى مع المعصية. وقالت المعتزلة: أمرهم بالتقوى لكيلا يحبطوا إيمانهم بارتكاب الكبائر بل يزيدوا في الإيمان حتى يتصفوا بصفة الاتقاء. ثم بين للمؤمنين فائدة الاتقاء قائلا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الآية. وقوله فِي هذِهِ الدُّنْيا إما أن يكون صلة لما قبله أو صلة لما بعده وهو قول السدي. ومعناه على الأوّل: الذين أحسنوا في هذه الدنيا لهم حسنة في الآخرة وهي الجنة. والتنكير للتعظيم أي حسنة لا يصل العقل إلى كنهها. وعلى الثاني: الذين أحسنوا فلهم في هذه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 617 الدنيا حسنة. قال جار الله: فالظرف بيان لمكان الحسنة. ويحتمل أن يقال: إنه نصب على الحال لأنه نعت للنكرة قدّم عليها. والقائلون بهذا القول فسروا الحسنة بالصحة والعافية وضم بعضهم إليها الأمن والكفاية. ورجح الأوّل بأن هذه الأمور قد تحصل للكفار على الوجه الأتم فكيف تجعل جزاء للمؤمن المتقي. وقيل: هي الثناء الجميل. وقيل: الظفر والغنيمة. وقيل: نور القلب وبهاء الوجه. وفي قوله وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إشارة إلى أن أسباب التقوى إن لم يتيسر في أرض وجبت الهجرة إلى أرض يتيسر ذلك فيها فيكون كقوله أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النساء: 97] وعن أبي مسلم: هي أرض الجنة لأنه حين بين أن المتقي له الجنة وصف أرض الجنة بالسعة ترغيبا فيها كما قال نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: 74] إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مفارقة الأوطان وتجرّع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وتكاليفه أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أي لا يحاسبون أو بغير حصر. قال جار الله: عن النبي صلى الله عليه وسلم «ينصب الله الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا» ثم تلا الآية وقال: حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل. النوع الثاني قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ قال مقاتل: إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدّك وسادة قومك يعبدون اللات والعزى؟ فأنزل الله هذه الآية. وكأنه إشارة إلى الأمر المذكور في أوّل السورة فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وقوله وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ ليس بتكرار لأن اللام للعلة والمأمور به محذوف يدل عليه ما قبله والمعنى: أمرت بإخلاص الدين وأمرت بذلك لأجل أن أكون أوّل المسلمين أي مقدّمهم وسابقهم في الدارين فنقول: فائدة التكرار أن ذكر التعليل مع نوع تأكيد. وقيل: اللام بدل من الباء أي أمرت بأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ليصح الاقتداء بي في قولي وفعلي. ولعل الإخلاص إشارة إلى عمل القلب والإسلام إلى عمل الجوارح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام في خبر جبريل بالأعمال الظاهرة، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم ليس مثل الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلونها بل له سابقة في كل ما يأمر به وينهى عنه. وحين بين أن الله أمره بإخلاص القلب وبأعمال الجوارح وكان الأمر يحتمل الوجوب والندب بين أن ذلك الأمر للوجوب فقال قُلْ إِنِّي أَخافُ الآية. وذلك أن خوف العقاب لا يترتب إلا على ترك الواجب، وإذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مع جلالة قدره خائفا من العصيان فغيره أولى. قيل: المراد به أمته. وقيل: نزلت قبل أن يغفر الله له. وقالت الأشاعرة: فيه دليل على أن صاحب الكبيرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 618 قد يعفى عنه لأنه بين أن اللازم عند حصول المعصية خوف العقاب لا نفس العقاب. النوع الثالث قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي وليس بتكرار لما قبله وذلك أن الأوّل للإخبار بأنه مأمور من جهة الله بالعبادة الخالصة عن الشرك الجلي والخفي، وهذا إخبار بأن الذي أمر به فإنه قد أتى به على أكمل الوجوه، ولهذا أخر الفعل وضم إلى مضمونه التهديد بقوله فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ النوع الرابع قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لوقوعها في هلكة الإخلاد بعذابها وَخسروا أَهْلِيهِمْ لأن أهلهم وأولادهم إن كانوا في النار فلا فائدة لهم منهم لأنهم محجوبون عنهم، أو لأن كلا منهم مشغول بهمه وإن كانوا من أهل الجنة فما أبعد ما بينهم. وقيل: أهلوهم الحور العين في الجنة لو آمنوا. قال أهل البيان: في قوله أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ تفظيع لشأنهم حيث استأنف الجملة وصدّرها بحرف التنبيه ووسط الفصل وعرف الخسران ووصفه بالمبين. قلت: التحقيق فيه أن للإنسان قوّتين يستكمل بإحداهما علما وبالأخرى عملا. والآلة الواسطة في القسم الأول هي العلوم المسماة بالبديهيات وترتيبها على الوجه المؤدّي إلى النتائج وهو بمنزلة الربح يشبه تصرف التاجر في رأس المال بالبيع والشراء، والآلة في القسم العملي هي القوى البدنية وغيرها من الأسباب الخارجية المعينة عليها، واستعمال تلك القوى في وجوه أعمال البر التي هي بمنزلة الربح يشبه التجارة فكل من أعطاه الله العقل والصحة والتمكين. ثم إنه لم يستفد منها معرفة الحق ولا عمل الخير فإذا مات فقد فات ربحه وضاع رأس ماله ووقع في عذاب الجهل وألم البعد عن عالمه والقرب مما يضاده أبد الآباد، فلا خسران فوق هذا ولا حرمان أبين منه وقد أشار إلى هذا بقوله لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أي أطباق من النار من ظلل الآخرين فإن لجهنم دركات كما أن للجنة درجات. وقال المفسرون: سمى النار ظلة بغلظها وكثافتها فصارت محيطة بهم من جميع الجوانب حائلة من النظر إلى شيء آخر. قلت: إن كانوا في كرة النار فوجهه ظاهر ونظيره في الأحوال النفسانية إحاطة نار الجهل والحرص وسائر الأخلاق الذميمة بالإنسان وقد مرّ في قوله لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف: 41] يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [العنكبوت: 55] وقيل: الظلة ما علا الإنسان فسمى ما تحتهم بالظلة إطلاقا لأحد الضدين على الآخر، أو لأن التحتانية مشابهة للفوقانية في الحرارة والإحراق وذلِكَ العذاب المعد للكفار يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ المؤمنين وقد مر أن العباد في القرآن إذا كان مضافا إلى ضمير الله اختص بأهل الإيمان عند أهل السنة. وعندي أنه لا مانع من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 619 التعميم هاهنا. ثم عقب الوعيد بالوعد قائلا وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ وهو كل ما عبد من دون الله كما مر في آية الكرسي. وقوله أَنْ يَعْبُدُوها بدل اشتمال منه وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ رجعوا بالكلية إلى تحصيل رضاه، فالأول تخلية، والثاني تحلية، وحقيقة الإعراض عما سوى الله والإقبال على الله هي أن يعرف أنّ كل ما سواه فإنه ممكن الوجود لذاته فقير في نفسه وهو سبحانه واجب الوجود لذاته غني على الإطلاق لا حكم إلا له ولا تدبير إلا به وبأمره. لَهُمُ الْبُشْرى أي هم مخصوصون بالبشارة المطلقة وهي الخبر الأول الصدق الموجب للسرور بزوال المكاره وحصول الأماني ووقتها الموت الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [النحل: 32] وعند دخول الجنة وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ [الرعد: 24] وعند لقاء الله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب: 44] وسماع هذه البشارات في الدنيا على ألسنة الرسل لا يخرجها عن كونها بشارة في هذه الأوقات لأنها في الأول عامة للمكلفين مبهمة فيهم ولا تتعين إلا في هذه الأحوال. وقيل: هذه أنواع أخر من السعادات فوق ما عرفوها أو سمعوها نسأل الله الفوز بها. قال ابن زيد: نزلت في ثلاثة نفر كانوا يقولون في الجاهلية لا إله إلا الله: زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي. وعن ابن عباس أن أبا بكر آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءه عثمان وعبد الرحمن وطلحة والزبير وسعد وسعيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فأنزل الله فبشر عبادي الذين يستمعون القول أي من أبي بكر فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وهو لا إله إلا الله. وقال أهل النظم: لما بين أن الذين اجتنبوا وأنابوا لهم البشرى وكان ذلك درجة عالية لا يصل إليها إلا الأقلون جعل الحكم أعم إظهارا للرحمة فقال: كل من اختار الأحسن في كل باب كان من زمرة السعداء أهلا للبشارة. وقال جار الله: أراد بعباده الذين يستمعون القول الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم أي هم الذين ضموا هذه الخصلة إلى تلك، ولهذا وضع الظاهر في موضع المضمر. وفي الآية دلالة على وجوب النظر والاستدلال وأنه إذا اعترض أمران واجب وندب، فالأولى اختيار الواجب. وكذا الكلام في المباح والندب، فالأولى اختيار الواجب. وكذا الكلام في المباح والندب كالقصاص والعفو وكل ما هو أحوط في الدين. مثاله في الأصول القول بأن للعالم صانعا حيا قديما عليما قادرا متصفا بنعوت الجلال والإكرام وصفات الكمال والتمام، أولى وأحوط من إنكاره. وكذا الإقرار بالبعث والجزاء أحوط من الإنكار، وفي الفروع الصلاة المشتملة على القراءة والتشهد والتسليم وغيرها من الأركان والأبعاض المختلف فيها أجود من الصلاة الفارغة عنها أو عن بعضها. وقال العارفون: يسمعون من النفس الدعوة إلى الشهوات، ومن الشيطان قول الباطل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 620 والغرور، ومن الملك الإلهامات، ومن الله ورسوله الدعاء إلى دار السلام، فيقبلون كلام الله ورسوله والخواطر الحسنة دون غيرها. وعن ابن عباس: هو الرجل يجلس مع القوم فيستمع الحديث فيه محاسن ومساو فيحدث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه. ومن الواقفين من يقف على قوله فبشر عبادي ويبتدىء الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ وخبره أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ وهو إشارة إلى الفاعل وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ إشارة إلى أن جواهر نفوسهم قابلة لفيض الهداية بخلاف من لم يكن له قابلية ذلك وهو قوله أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ قال جار الله: أصل الكلام أمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه فهي جملة شرطية دخل عليها الهمزة للإنكار، وكررت الفاء الثانية للجزاء تأكيدا لمعنى الإنكار. ووضع من في النار موضع الضمير تصريحا بجزائهم، وأما الفاء الأولى فللعطف على محذوف يدل عليه سياق الكلام تقديره: أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق إلى آخره. وجوز أن يكون الكلام بعد المحذوف جملتين شرطية جزاؤها محذوف أيضا ثم حملية والتقدير: أفمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تخلصه أفأنت تنقذ من في النار؟ قلت: فالكلام على هذا التقدير يشتمل على أربع جمل: ثنتان بعد همزتي الإنكار محذوفتان والباقيتان ظاهرتان. ومن زعم أن الفاء بعد الهمزة لمزيد الإنكار لا للعطف فمجموع الآية شرطية كما ذكرنا، أو هي مع حملية ثم صرح بجزاء المتقين فقال لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ وهو كالمقابل لما مر في وعيد الكفار لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ ومعنى قوله مَبْنِيَّةٌ والله أعلم. أنها بنيت بناء المنازل التي على الأرض وسوّيت تسويتها وجعلت متساوية في أسباب النزاهة من الأشجار والأنهار لا مثل أبنية الدنيا فان الفوقاني منها يكون أضعف من التحتاني وأخف، والتحتاني قد يجري من تحتها الأنهار، وأما الفوقاني فلا يمكن فيها ذلك. قال حكماء الإسلام: الغرف المبنية بعضها فوق بعض هي العلوم المكتسبة المبنية على الفطريات، وأنها تكون في المتانة واليقين كالعلوم الغريزية البديهية. وحين وصف الآخرة بصفات توجب الرغبة فيها أراد أن يصف الدنيا بما يقتضي النفرة عنها فقدم لذلك مقدمة يستدل بها على حقية الصانع أيضا فقال أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ أي أدخله في الأرض حال كون ذلك الماء يَنابِيعَ مثل الدم في العروق. والينابيع جمع ينبوع وهو كل ماء يخرج من الأرض. وقيل: هو الموضع الذي يخرج منه الماء كالعيون والآبار فينصب على الظرف. وقوله ثُمَّ يُخْرِجُ على لفظ المستقبل تصوير لتلك الحالة العجيبة الشأن وهي إخراج النبت المختلف الألوان والأصناف والخواص بسبب الماء المخالط للأرض ثُمَّ يَهِيجُ أي يتم جفافه. قال الأصمعي: لأنه إذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 621 تم جفافه جاز له أن يثور عن منابته ويذهب ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً أي فتاتا متكسرا إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من إنزال الماء وإخراج الزرع بسببه لَذِكْرى لتذكيرا أو تنبيها على وجود الصانع لِأُولِي الْأَلْبابِ وفيه أن الإنسان وإن طال عمره فلا بدّ له من الانتهاء إلى حالة اصفرار اللون وتحطم الأجزاء والأعضاء بل إلى الموت والفناء. وإنما قال هاهنا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً وفي الحديد ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً [الحديد: 20] لأن الفعل هناك مسند إلى النبات وهو قوله أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ وهاهنا مسند إلى الله من قوله أَنْزَلَ إلى آخره. وحين بالغ في تقرير البيانات الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله والإعراض عن الدنيا الفانية بيّن أن ذلك البيان لا يكمل الانتفاع به إلا إذا شرح الله صدره ونور قلبه فقال أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ولا يخفى ما في لفظة «على» من فائدة الاستعلاء والتمكن كما مر في قوله أُولئِكَ عَلى هُدىً [البقرة: 5] والخبر محذوف كما ذكرنا في قوله أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ يعني هذا الشخص المنشرح الصدر كمن طبع الله على قلبه يدل عليه ما بعده فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي من أجل سماع القرآن. وإنما عدى ب «من» لأن قسوة القلب تدل على خلوه من فوائد القرآن ويجوز أن يكون «من» للتعليل وذلك أن جواهر النفوس مختلفة فبعضها تكون مشرقة بنور الله يزيدها نور القرآن بهاء وضياء، وبعضها تكون مظلمة كدرة لا ينعكس نور الذكر إليها ولا تظهر صور الحق فيها كالمرآة الصدئة. ثم أكد وصف القرآن وكيفية تأثيره في النفوس بقوله اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ عن ابن عباس وابن مسعود أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا له: حدثنا، فنزلت الآية. والحديث كلام يتضمن الخبر عن حال متقدمة ووصفه بالحدوث من حيث النزول لا ينافي قدمه من حيث إنه كلام نفسي. ووجه كونه أحسن لفظا ومعنى مما لا يخفى على ذي طبع فضلا عن ذي لب. وقوله كِتاباً بدل من أحسن أو حال موطئة. ومعنى مُتَشابِهاً أنه يشبه بعضه بعضا في الإعجاز اللفظي والمعنوي والنظم الأنيق والأسلوب العجيب والاشتمال على الغيوب وعلى أصول العلوم كما مر في أوّل «البقرة» في تفسير قوله وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة: 23] وقيل: هو من قوله وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7] فيكون صفة لبعض القرآن. وقيل: يشبه اللفظ اللفظ والمعنى مختلف. وقوله مَثانِيَ جميع مثنى ومثنى بمعنى مكرر لما ثنى من قصصه وأحكامه ومواعظه، أو لأنه يثني في التلاوة فلا يورث ملالا كقوله «ولا يخلق على كثرة الرد» «1» وقيل: المثاني لآي القرآن كالقوافي للشعر. وقد مر بعض هذه الأقوال في مقدمات الكتاب وفي سورة الحجر في قوله وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87]   (1) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 14. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 1. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 622 ومعنى اقشعرار الجلد تقبضه. قال جار الله: تركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس مضموما إليها الراء ليصير رباعيا دالا على معنى زائد، وهو تمثيل لشدة الخوف أو حقيقة سببه الخوف. قال المفسرون: أراد أنهم عند سماع آيات العذاب يخافون فتقشعر جلودهم وعند سماع آيات الرحمة والإحسان أو تذكرهم لرأفته وأن رحمته سبقت غضبه تلين جلودهم وقلوبهم. ومعنى «إلى» في قوله إِلى ذِكْرِ اللَّهِ هو أنه ضمن لأن معنى سكن واطمأن. وقال العارفون: إذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا وإن راح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا. وقال أهل البرهان: إذا اعتبر العقل موجودا لا أول له ولا آخر ولا حين ولا جهة وقع في بادية التحير والهيبة، وإذا اعتبر الدلائل القاطعة على وجود موجود واجب لذاته واحد في صفاته وأفعاله اطمأن قلبه إليه. قال جار الله: إنما ذكرت الجلود أوّلا وحدها لأن الخشية تدل على القلوب لأنها محل الخشية فكأنه قيل: تقشعر جلودهم بعد خشية قلوبهم، ثم إذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والرحمة استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة لينا في جلودهم. ويحتمل أن يقال: المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف، ومحل المكاشفات هو القلب، فلذلك اختص ذكر القلب بجانب الرجاء. ثم أشار إلى الكتاب المذكور بقوله ذلِكَ هُدَى اللَّهِ كقوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] . ثم بين أن للقاسية قلوبهم حالين: أما في الدنيا فالضلال العام وهو قوله وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وأما في الآخرة فقوله أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ أي شدّته والخبر محذوف وهو كمن أمن العذاب واتقاء العذاب بوجهه إما حقيقة بأن تكون يداه مغلولة إلى عنقه فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه، وإما أن يكون كناية عن عجزه عن الاتقاء وذلك أن الإنسان إذا وقع في نوع من العذاب فإنه يجعل يديه وقاية لوجهه الذي هو أشرف الأعضاء، فكأنه قيل: لا يقدرون على الاتقاء إلا بالوجه، والاتقاء بالوجه غير ممكن فلا اتقاء أصلا وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ القائلون هم خزنة النار. قوله كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تصوير لحال أمثالهم من الأمم الخالية بيناهم آمنون إذ أخذهم العذاب والخزي في الدنيا كالمسخ والقتل ونحوهما. ثم بين بقوله وَلَقَدْ ضَرَبْنا إلى آخر الآيتين أن هذه البيانات بلغت في الكمال إلى حيث لا مزيد عليه. ثم ضرب من أمثال القرآن مثلا لقبح طريقة أهل الشرك وهو رجل من المماليك قد اشترك فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ أي كلهم يسيء خلقه في استخدامه أو هم مختلفون في ذلك يأمره هذا بشيء وينهاه الآخر عن ذلك الشيء بعينه. والشكاسة سوء الخلق والاختلاف. ورجلا سالما لرجل أي خالصا من الشرك. ومن قرأ بغير ألف فعلى حذف المضاف أي ذا سلامة وذا خلوص من الشركة. وقال جار الله: وإنما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 623 جعله رجلا ليكون أفطن لما شقي به أو سعد فان المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك. قلت: لا ريب أن الرجل أصل في كل باب فجعله مضرب المثل أولى نظيره وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ [النحل: 76] ثم استفهم على سبيل الإنكار بقوله هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا وهو تمييز أي هل يستوي حالاهما وصفتاهما. واقتصر في التمييز على الواحد لقصد الجنس والمراد تجهيل من يجعل المعبود متعددا، فليس رضا واحد كطلب رضا جماعة مختلفين. وحاصله يرجع إلى دليل التمانع كما مرّ في قوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] وقال أهل العرفان: الشركاء المتشاكسون تجاذب شغل الدنيا وشغل العيال وغير ذلك من الأشغال، فأين ذلك الرجل ممن ليس له في الدنيا نصيب ولا له في الخلق نسيب وهو عن الآخرة غريب وإلى الله قريب. قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ كما مرّ في «لقمان» قوله إِنَّكَ مَيِّتٌ وجه النظم أنه سبحانه كأنه قال إن هؤلاء الأقوام إن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة بسبب استيلاء الحرص والحسد عليهم في الدنيا، فلا تبال يا محمد بهذا فإنك ستموت وهم أيضا يؤلون إلى الموت فلو أنهم يتربصون بك الموت فإن الموت يعم الكل فلا معنى لشماتة المرء بعد وفاة صاحبه ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ تحتج عليهم بأنك قد بلغت وهم يعتذرون بما لا طائل تحته، وقد يخاصم الكفار بعضهم بعضا حتى يقال لهم لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ [ق: 28] وقد يقع الاختصام بين أهل الملة في الدماء والمظالم التي بينهم والله أعلم. تم الجزء الثالث والعشرون، وبه يتم المجلد الخامس من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري، ويليه المجلد السادس، وأوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 624 الفهرس فهرس المجلد الخامس من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 625 تفسير سورة الأنبياء الآيات: 1- 20 3 الآيات: 21- 50 11 الآيات: 51- 91 27 الآيات: 92- 112 52 تفسير سورة الحج الآيات: 1- 22 61 الآيات: 23- 41 74 الآيات: 42- 64 87 الآيات: 65- 78 98 تفسير سورة المؤمنون الآيات: 1- 30 106 الآيات: 31- 56 118 الآيات: 57- 90 125 الآيات: 91- 118 132 تفسير سورة النور الآيات: 1- 10 140 الآيات: 11- 26 165 الآيات: 27- 34 175 الآيات: 35- 50 192 الآيات: 51- 64 207 تفسير سورة الفرقان الآيات: 1- 20 219 الآيات: 21- 50 229 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 627 الآيات: 51- 77 249 تفسير سورة الشعراء الآيات: 1- 68 261 الآيات: 69- 122 272 الآيات: 123- 175 279 الآيات: 176- 227 283 تفسير سورة النحل الآيات: 1- 14 291 الآيات: 15- 44 297 الآيات: 45- 66 310 الآيات: 67- 93 318 تفسير سورة القصص الآيات: 1- 21 326 الآيات: 22- 42 336 الآيات: 43- 70 347 الآيات: 71- 88 359 تفسير سورة العنكبوت الآيات: 1- 15 367 الآيات: 16- 41 377 الآيات: 42- 69 386 تفسير سورة الروم الآيات: 1- 32 399 الآيات: 33- 60 414 تفسير سورة لقمان الآيات: 1- 19 421 الآيات: 20- 34 428 تفسير سورة الم السجدة الآيات: 1- 30 433 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 628 تفسير سورة الأحزاب الآيات: 1- 20 443 الآيات: 21- 40 454 الآيات: 41- 73 467 تفسير سورة سبأ الآيات: 1- 21 481 الآيات: 22- 54 494 تفسير سورة فاطر الآيات: 1- 26 505 الآيات: 27- 45 514 تفسير سورة يس الآيات: 1- 44 522 الآيات: 45- 83 537 تفسير سورة الصافات الآيات: 1- 82 550 الآيات: 83- 182 566 تفسير سورة ص الآيات: 1- 40 580 الآيات: 41- 88 600 تفسير سورة الزمر الآيات: 1- 31 610 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 629 [ المجلد السادس ] بسم الله الرّحمن الرّحيم الجزء الرابع والعشرون من أجزاء القرآن الكريم [ تتمة سورة الزمر ] [سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 75] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 القراآت: عباده على الجمع: يزيد وحمزة وعلى وخلف. أرادني الله بسكون الياء: حمزة. كاشفات بالتنوين ضره بالنصب وهكذا ممسكات رحمته أبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون: بالإضافة فيهما قضى عليها مجهولا الموت بالرفع: حمزة وعلي وخلف يا عبادي الذين أسرفوا بسكون الياء: حمزة وعلي وخلف وأبو عمرو وسهل ويعقوب، والوقف للجميع بالياء لا غير. يا حسرتاي بياء بعد الف: يزيد. الآخرون: بالألف وحدها وينجي الله بالتخفيف: روح بمفازاتهم على الجمع: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل تَأْمُرُونِّي بتشديد النون وفتح الياء: ابن كثير تأمرونني بنونين وسكون الياء: ابن عامر تأمروني بنون واحدة وفتح الياء: أبو جعفر ونافع. الباقون: بتشديد النون وسكون الياء. لنحبطن بالنون من الإحباط عملك بالنصب: يزيد. الآخرون: على الغيبة وفتح العين عَمَلُكَ بالرفع وسيق بضم السين وكسر الياء: ابن عامر وعلي ورويس فُتِحَتْ بالتخفيف: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل في الحرفين. الوقوف: إِذْ جاءَهُ ط لِلْكافِرِينَ هـ الْمُتَّقُونَ هـ عِنْدَ رَبِّهِمْ ط الْمُحْسِنِينَ هـ ج لاحتمال تعلق اللام بمحذوف كما يجيء. يَعْمَلُونَ هـ عَبْدَهُ ط مِنْ دُونِهِ ط مِنْ هادٍ هـ ج مُضِلٍّ ط انْتِقامٍ هـ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ط رَحْمَتِهِ ط حَسْبِيَ اللَّهُ ط الْمُتَوَكِّلُونَ هـ عامِلٌ ج لابتداء التهديد مع فاء التعقيب تَعْلَمُونَ هـ لا مُقِيمٌ هـ بِالْحَقِّ ج لاختلاف الجملتين فَلِنَفْسِهِ ج عَلَيْها ج للابتداء بالنفي مع العطف بِوَكِيلٍ هـ ج فِي مَنامِها ج مُسَمًّى ط يَتَفَكَّرُونَ هـ شُفَعاءَ ط يَعْقِلُونَ هـ جَمِيعاً ط وَالْأَرْضِ ط بناء على أن «ثم» لترتيب الأخبار تُرْجَعُونَ هـ بِالْآخِرَةِ ط ج فصلا بين الجملتين مع اتفاقهما نظما يَسْتَبْشِرُونَ هـ يَخْتَلِفُونَ هـ الْقِيامَةِ ط يَحْتَسِبُونَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ دَعانا ز فصلا بين تناقض الحالين مع اتفاق الجملتين مِنَّا لا لأن ما بعده جواب عَلى عِلْمٍ ط لا يَعْلَمُونَ هـ يَكْسِبُونَ هـ ما كَسَبُوا الأولى ط ما كَسَبُوا الثانية لا لأن الواو للحال بِمُعْجِزِينَ هـ وَيَقْدِرُ ط يُؤْمِنُونَ هـ رَحْمَةِ اللَّهِ ط جَمِيعاً ط الرَّحِيمُ هـ لا تُنْصَرُونَ هـ لا تَشْعُرُونَ هـ لا السَّاخِرِينَ هـ لا الْمُتَّقِينَ هـ لا الْمُحْسِنِينَ هـ الْكافِرِينَ هـ مُسْوَدَّةٌ ط لِلْمُتَكَبِّرِينَ هـ بِمَفازَتِهِمْ ز لاحتمال الاستئناف والحال أوجه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 يَحْزَنُونَ هـ كُلِّ شَيْءٍ ز للفصل بين الوصفين تعظيما مع اتفاق الجملتين وَكِيلٌ هـ وَالْأَرْضِ ط الْخاسِرُونَ هـ الْجاهِلُونَ هـ مِنْ قَبْلِكَ ج لحق القسم المحذوف الْخاسِرِينَ هـ الشَّاكِرِينَ هـ بِيَمِينِهِ ط يُشْرِكُونَ هـ مَنْ شاءَ اللَّهُ ج بيانا لتراخي النفخة الثانية عن الأولى مع اتفاق الجملتين يَنْظُرُونَ هـ لا يُظْلَمُونَ هـ يَفْعَلُونَ هـ زُمَراً ط هذا ط الْكافِرِينَ هـ فِيها ج الْمُتَكَبِّرِينَ هـ زُمَراً ط خالِدِينَ هـ نَشاءُ ج الْعامِلِينَ هـ رَبِّهِمْ ج لأن الماضي لا ينعطف على المستقبل ولاحتمال جعله حالا وقد قضى بين الزمرين الْعالَمِينَ هـ. التفسير: لما ضرب لعبدة الأصنام مثلا أشار إلى نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو أنهم يضمون على كذبهم على الله بإضافة الشريك والولد إليه تكذيبهم بالصدق يعني الأمر الذي هو الصدق بعينه أي القرآن. ومعنى إِذْ جاءَهُ أنه لم يراع طريقة أهل الإنصاف والتدبر لكنه لما سمع به فاجأه بالتكذيب. واللام في قوله لِلْكافِرِينَ لهؤلاء المعهودين الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق. قال جار الله: ويحتمل أن يكون للعموم فيشملهم وغيرهم من الكفرة. وحين بين وعيدهم عقبه بوعد الصادقين المصدّقين وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقيل: الرسول وأبو بكر والتعميم أولى لقوله أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ قوله لِيُكَفِّرَ ظاهره تعلقه ب يَشاؤُنَ فتكون لام العاقبة. ويحتمل تعلقه بمحذوف أي جزاؤهم وإكرامهم لأجل ذلك. قال جار الله: الأسوأ هاهنا ليس للتفضيل وإنما هو كقولهم: الأشج أعدل بني مروان. وفائدة صيغة التفضيل استعظامهم المعصية حتى إن الصغائر عندهم أسوأ أعمالهم. وقال بعض المفسرين: أراد به الكفر السابق الذي يمحوه الإيمان. واستدل مقاتل- وكان شيخ المرجئة- بهذه الآية فإنها تدل على أن من صدّق الأنبياء فإنه تعالى يكفر عنه أسوأ الأعمال التي أتى بها بعد الإيمان والوصف بالتقوى وفيه نظر. ثم إنهم كانوا يخوّفون المؤمنين والنبي صلى الله عليه وسلم برفض آلهتهم وتحقيرها. ويروى أنه بعث خالدا إلى العزى ليكسرها فقال له سادنها: أحذركها يا خالد، إن لها شدّة. فعمد خالد إليها فهشم أنفها فأنزل الله تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ أي نبيه بدليل قوله وَيُخَوِّفُونَكَ ومن قرأ على الجمع فهي للعموم. والآيات إلى قوله بِوَكِيلٍ ظاهرة مع أنها تعلم مما سبق ذكرها مرارا. والعذاب الخزي عذاب يوم بدر، والعذاب المقيم العذاب الدائم في الآخرة، ومدار هذه الآي على تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أكد كون الهداية والضلال من الله تعالى بقوله اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ وذلك أن الحياة واليقظة تشبه الهداية، والموت والنوم يضاهي الضلال. فكما أن الحياة والموت واليقظة والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله وتكوينه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 فكذلك الهداية والضلال، والعارف بهذه الدقيقة عارف بسر الله في القدر، ومن عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب، فقيه تسلية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل في وجه النظم: إنه تعالى أراد أن يذكر حجة أخرى على إثبات الإله العليم القدير ليعلم أنه أحق بالعبادة من كل ما سواه فضلا عن الأصنام. ومعنى الآية أن الله تعالى يتوفى الأنفس حين موتها. قال جار الله: أراد بالأنفس الجملة كما هي لأنها هي التي تنام وتموت وَيتوفى الأنفس الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي يتوفاها حين تنام تشبيها للنائمين بالموتى كقوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام: 60] والحاصل أنه يتوفى الأنفس مرتين، مرة عند موتها ومرة عند نومها فتكون «في» متعلقة ب يَتَوَفَّى والتوفي مستعمل في الأول حقيقة وفي الثاني مجازا، ولم يجوّزه كثير من أئمة الأصول. وقال الفراء: «في» متعلقة بالموت وتقديره: ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها عند انقضاء حياتها. ثم بين الفرق بين الحالين بقوله فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى من غير غلط. وقال حكماء الإسلام: النفس الإنسانية جوهر مشرق نوراني إذا تعلق بالبدن حصل ضوءه في جميع الأعضاء ظاهرها وباطنها وهو الحياة واليقظة. وأما في وقت النوم فإن ضوءه لا يقع إلا على باطن البدن وينقطع عن ظاهره، فتبقى نفس الحياة التي بها النفس وعمل القوى البدنية في الباطن ويفنى ما به التمييز والعقل، وإذا نقطع هذا الضوء بالكلية عن البدن فهو الموت، ومثل هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلا من القدير الخبير الذي لا شريك له في ملكه ولا نظير، ولهذا ختم الآية بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ثم كان لمشرك أن يقول: إنما نعبد الأصنام لأنها تماثيل أشخاص كانوا عند الله مقربين فنحن نرجو شفاعتهم فأنكر الله عليهم بقوله أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من دون إذنه شُفَعاءَ و «أم» بمعنى «بل» ، والهمزة الإنكارية وتقرير الإنكار أن هؤلاء الكفار إما أن يطعموا في شفاعة تلك التماثيل وإما في شفاعة من هذه التماثيل تماثيلهم. والأول باطل لأن هذه الأصنام جمادات لا تملك شيئا ولا تعقل وأشار إلى هذا المعنى بقوله قُلْ أَوَلَوْ كانُوا يعني أيشفعون ولو كانوا بحيث لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ والثاني أيضا مستحيل لأن يوم القيامة لا يشفع أحد إلا بإذن الله وهو المراد بقوله قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ وانتصب جَمِيعاً على الحال. ولو كان تأكيدا للشفاعة لقيل جمعاء. وحين قرر أن لا شفاعة لأحد إلا بإذن الله برهن على ذلك بقوله لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة ولا ملك في ذلك اليوم إلا له. ثم ذكر نوعا آخر من قبائح أفعال المشركين فقال وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ أي منفردا ذكره عن ذكر آلهتهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 اشْمَأَزَّتْ أي نفرت وانقبضت منه قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ سواء ذكر الله معهم أو لم يذكر إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي فاجأ وقت ذكر آلهتهم وقت استبشارهم. وفي الآية طباق ومقابلة لأن الاستبشار أن يمتلىء قلبه سرورا حتى يظهر أثره في بشرته، والاشمئزاز أن يمتلىء غما وغيظا حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه وذلك لاحتباس الروح الحيواني في القلب. وقيل: معنى الآية أنه إذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نفروا لأن فيه نفيا لآلهتهم. وفي بعض التفاسير أن هذا إشارة إلى ما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة النجم وسوس الشيطان إليه بقوله «تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى» فاستبشر المشركون وسجدوا. ولما حكى عنهم هذا الجهل الغليظ والحمق الشديد وهو الاشمئزاز عن ذكر من ذكره رأس السعادات وعنوان الخيرات والاستبشار بذكر أخس الأشياء وهي الجمادات، أمر رسوله بهذا الدعاء اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهو وصفه بالقدرة التامة عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وهو نعته بالعلم الكامل. وإنما قدم وصفه بالقدرة على وصفه بالعلم لأن العلم بكونه قادرا متقدم على العلم بكونه عالما كما بين في أصول الدين وقد أشرنا إلى ذلك فيما سلف أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يعني أن نفرتهم عن التوحيد وفرحهم بالشرك أمر معلوم الفساد ببديهة العقل فلا حيلة في إزالته إلا باستعانة القدير العليم. عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح صلاته بالليل فيقول: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما أختلف فيه من الحق بإذنك إنك لتهدي إلى صراط مستقيم. وعن الربيع بن خثيم. وكان قليل الكلام أنه أخبر بقتل الحسين عليه السلام وقالوا: الآن يتكلم، فما زاد على أن قال آه أوقد فعلوا وقرأ هذه الآية. وروي أنه قال على أثره: قتل من كان النبي صلى الله عليه وسلم. يجلسه في حجره ويضع فاه في فيه. ثم ذكر وعيدهم على ذلك المذهب الباطل بقوله وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي بالشرك وقد مر نظير الآية مرارا أوّلها في آل عمران وفيه قوله وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ نظير قوله في أهل الوعد فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] وقيل: عملوا أعمالا حسبوها حسنات فإذا هي سيئات. يروى أن محمد بن المنكدر جزع عند موته فقيل له في ذلك فقال: أخشى آية من كتاب الله وتلاها، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم يكن في حسباني. وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء. ثم صرح بما أبهم قائلا وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا و «ما» موصولة أو مصدرية أي ظهرت لهم سيئات أعمالهم التي اكتسبوها، أو سيئات كسبهم وذلك عند عرض الصحائف أو غير ذلك من المواقف. وجوّز أهل البيان أن يراد بالسيئات جزاء أفعالهم كقوله وَجَزاءُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ [الشورى: 40] وإنما قال في الجاثية سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا [الجاثية: 33] لمناسبة ألفاظ العمل، وهاهنا قد وقع من ألفاظ الكسب. ثم حكى نوعا آخر من قبيح أعمالهم قائلا فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ وقد مر مثله في مواضع أقر بها أول السورة إلا أنه ذكر هاهنا بفاء التعقيب لأن هذا مناقض لما حكى عنهم عن قريب وهو أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده فكيف التجئوا إليه وحده عند ضر يصيبهم. ومعنى أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ أوتيته على علم الله بكوني مستحقا لذلك أو على علم عندي صار سببا لهذه المزية ككسب وصنعة ونحو ذلك. ولا شك أن هذا نوع من الغرور فلهذا قال سبحانه بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ بلاء واختبار يتميز بها الشاكر عن الكافر. ذكر الضمير أوّلا بتأويل المخوّل وأنثه ثانيا بتأويل النقمة. ثم أشار بقوله قَدْ قالَهَا أي مجموع الكلمة التي صدرت عنهم والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم قارون وقومه حيث قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص: 78] وقومه راضون بها فكأنهم قالوها. ويجوز أن يكون في الأمم الخالية قائلون مثلها فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من الأموال أو من المعاصي وأشار بقوله هؤُلاءِ إلى أهل مكة أصابهم قتل في يوم بدر وغيره وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين فقيل لهم: أو لم يعلموا أن الباسط والقابض هو الله وحده؟ وذلك أن انتهاء الحوادث المتسلسلة يجب أن يكون إلى إرادته ومشيئته، ولا ينافي هذا توسيط عالم الأسباب وأن يكون للكواكب كلها تأثيرات في عالمنا هذا بإذن مبدعها وفاطرها. وقول الشاعر: فلا السعد يقضي به المشتري ... ولا النحس يقضي علينا زحل ولكنه حكم رب السماء ... وقاضي القضاة تعالى وجل كلام من غير تبين واستبصار بسر القدر. والذي يشكك به الإمام فخر الدين الرازي من أنه قد يولد إنسانان في طالع واحد ثم يصير أحدهما في غاية السعادة والآخر في غاية الشقاوة كلام غير محقق، لأنا لو سلمنا وقوع ذلك فلاختلاف القابل، وليس تأثير العامل السماوي في طالع ولد السلطان مثله في طالع ولد الحمامي، وكذا اختلافات أخر لا نهاية لها. نعم لو ادعى عسر إدراك جميع الجزئيات فلا نزاع في ذلك إلا المنتفع بما ينتفع به عليه أن يقنع بما يصل إليه فهمه فلكل شيء حد وفوق كل ذي علم عليم. وحين أطنب في الوعيد أردفه ببيان كمال رحمته ومغفرته فقال يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ عن ابن عباس أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لن يغفر له ونحن قد عبدنا الأوثان وقتلنا الأنفس فأنزل الله هذه الآية. وعن ابن عمر: نزلت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين أسلموا ثم عذبوا فارتدوا فنزلت فيهم، وكان عمر كاتبا فكتبها إلى عياش والوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا. وقيل: نزلت بالمدينة في وحشيّ وقد سبق. ثم إن قلنا: العباد عام فالإسراف على النفس يعم الشرك، ولا نزاع أن عدم اليأس من الرحمة يكون مشروطا بالتوبة والإيمان. وإن قلنا: العباد المضاف في عرف القرآن مختص بالمؤمنين فالإسراف إما بالصغائر ولا خلاف في أنها مكفرة ما اجتنبت الكبائر، وأما بالكبائر وحينئذ يبقى النزاع بين الفريقين. فالمعتزلة شرطوا التوبة، والأشاعرة العفو وقد مر مرارا. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية فقال رجل: يا رسول الله ومن أشرك؟ فسكت ساعة ثم قال: ألا ومن أشرك ثلاث مرات» رواه في الكشاف. وعلى هذا يكون مخصوصا بشرط الإيمان. ولا يخفى ما في الآية من مؤكدات الرحمة: أوّلها تسمية المذنب عبدا والعبودية تشعر بالاختصاص مع الحاجة، واللائق بالكريم الرحيم إفاضة الجود والرحمة على المساكين. وثانيها من جهة الإضافة الموجبة للتشريف. وثالثها من جهة وصفهم بقوله الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ كأنه قال يكفيهم من تلك الذنوب عود مضرتها عليهم لا عليّ. ورابعها نهاهم عن القنوط، والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم. وخامسها قوله مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مع إمكان الاقتصار على الضمير بأن يقول «من رحمتي» فإيراد أشرف الأسماء في هذا المقام يدل على أعظم أنواع الكرم واللطف. وسادسها تكرير اسم الله تعالى في قوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً مع تصدير الجملة ب «إن» ، ومع إيراد صيغة المضارع المنبئة عن الاستمرار، ومع تأكيد الذنوب بقوله جَمِيعاً أي حال كونها مجموعة. وسابعها إرداف الجملة بقوله إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ومع ما فيه من أنواع المؤكدات ومع جميع ذلك لم يخل الترغيب عن الترهيب ليكون رجاء المؤمن مقرونا بخوفه فقال وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ وذلك أن الأشاعرة أيضا يجوّزون أن يدخل صاحب الكبيرة النار مدة ثم يخرج منها. ومع احتمال هذا العذاب يجب الميل إلى الإنابة والإخلاص لله في العمل على أن الخوف للتقصير في الطاعة يكفي عن الخوف للتصريح بالمعصية، وللصديقين في الأول مندوحة عن الثاني. وقال بعضهم: إن الكلام قد تم على الآية الأولى، ثم خاطب الكفار بهذه الآيات من قوله وَأَنِيبُوا والمراد بالعذاب إما عذاب الدنيا كما للأمم السابقة، وإما الموت لأنه أول أهول الآخرة. وقوله أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ كقوله يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وقد مر الأقوال فيه. وحين خوّفهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 بالعذاب حكى عنهم أنهم بتقدير نزول العذاب ماذا يقولون؟ فذكر ثلاثة أنواع من الكلمات: الأوّل أن تقول والتقدير أنذرناكم العذاب المذكور كراهة أن تقول أو لئلا. تقول. قال جار الله: إنما نكرت نفس لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر، أو نوع من الأنفس متميزة بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم. وجوز أن يكون التنكير لأجل التكثير كقوله «رب وفد أكرمته» . يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ أي قصرت. والتفريط إهمال ما ينبغي أن يقدّم فِي جَنْبِ اللَّهِ واعلم أن بعض أهل التجسيم يحكمون بورود هذا اللفظ على إثبات هذا العضو لله سبحانه ولا يدري أنه بعد التسليم لا معنى للتفريط فيه ما لم يصر إلى التأويل. والصحيح ما ذهب إليه علماء البيان أن هذا من باب الكناية، لأنك إذا أثبت الشيء في مكان الرجل وحيزه وجانبه وناحيته فقد أثبته كقوله: إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج وتقول: لمكانك فعلت كذا. أي لأجلك. وفي الحديث «من الشرك الخفي أن يصلى الرجل لمكان الرجل» «1» ولا بد من تقدير مضاف سواء ذكر الجنب أو لم يذكر، وللمفسرين فيه عبارات. قال ابن عباس: أي ضيعت من ثواب الله. وقال مقاتل: ضيعت من ذكر الله. وقال مجاهد: في أمر الله. وقال الحسن: في طاعة الله. وعن سعيد بن جبير: في حق الله. وقيل: في قرب الله من الجنة من قوله وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء: 36] وقال ابن جبير: في جانب هدى الله لأن الطريق متشعب إلى الهدى والضلال فكل واحد جانب وجنب. والتحقيق في المسألة أن الذي يكون من لوازم الشيء ومن توابعه كأنه حدّ من حدوده وجانب من جوانبه، فلما حصلت المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازما للشيء وتابعا له، لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب في الآية على أحد هذه المضافات. قال الشاعر وهو سابق البربري: أما لتقين الله في جنب عاشق ... له كبد حرّى عليك تقطع؟ ثم زاد في التحسر بقوله وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي المستهزئين بالقرآن والنبي والمؤمنين. «إن» مخففة، واللام فارقة، والواو تحتمل العطف والحال. قال قتادة. لم يكفه ما ضيع من أمر الله حتى سخر من المصدّقين. النوع الثاني من كلمات النفس المعذبة   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الزهد باب 21. أحمد في مسنده (3/ 30) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي يجوز أن يقول مرة هذا ومرة ذلك، أو يكون قائل كل من الكلمتين بعد أخرى والمعنى لو أرشدني إلى دينه. لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ النوع الثالث قوله عند رؤية العذاب لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قال جار الله: لما حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب وهو الثاني، صح أن تقع «بلى» جوابا له مع أنه غير منفي، لأن قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي في معنى ما هديت. قلت: هذا يصلح جوابا للقولين الثاني والثالث أي بلى قد هديت بالوحي فكذبت واستكبرت عن قبوله فلا فائدة في الرجعة، فإن عدم القابلية وكونه واقعا في جانب القهر لن يزول عنه. ثم صرح ببعض أنواع العذاب قائلا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وقبوله وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ مفعول ثان إن كانت الرؤية القلبية وإلا فموضعه نصب على الحال. والظاهر أن الكذب على الله هو المشار إليه في قوله فَكَذَّبْتَ بِها ويشمل الكذب عليه باتخاذ الشريك والوالد، ونسبته إلى العجز عن الإعادة، ونسبة القرآن إلى كونه مختلفا ونحو ذلك. وأما المسائل الاجتهادية التي يختلف فيها كل فريق إسلامي ولا سيما الفروعية، فالظاهر أنها لا تدخل فيها والله أعلم. وأما سواد الوجه فإن كان في الصورة فظاهر ويكون كسائر أوصاف أهل النار من زرقة العيون وغيره، وإن كان المراد به الخجل وشدّة الحياء ونحو ذلك فالله تعالى أعلم بمراده. ولا ريب أن الجهل والإخبار على خلاف ما عليه الأمر ونحو ذلك من الأخلاق الذميمة كلها ظلمات كما أن العلم والصدق ونحو هما أنوار كلها وفي ذلك العالم تظهر حقيقة كل شيء على المكلف هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ [يونس: 30] . ثم حكى حال المتقين يومئذ قائلا وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك أو المعاصي كبائر وصغائر بِمَفازَتِهِمْ هي «مفعلة» من الفوز. فمن وحد فلأنه مصدر، ومن جمع فلاختلاف أجناسها فلكل متق مفازة وهي الفلاح. ولا شك أن الباء هي التي في نحو قولك «كتبت بالقلم» . فقال جار الله: تارة تفسير المفازة هي قوله لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فلا محل للجملة لأنه كأنه قيل: وما مفازتهم؟ فقيل: لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ أي في أبدانهم. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يتألمون قلبا على ما فات. وقال: أخرى يجوز أن يراد بسبب فلاحهم أو منجاتهم وهو العمل الصالح، وذلك أن العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة. ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه مفازة لأنه سببها. وعلى هذه الوجوه يكون قوله لا يَمَسُّهُمُ منصوبا على الحال. وعن الماوردي أن المفازة هاهنا البرية أي بما سلكوا مفازة الطاعات الشاقة وهو غريب. وحين تمم الوعد والوعيد أتبعه شيئا من دلائل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 المالكية قائلا اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ وقد مر في «الأنعام» . ثم أكده بقوله لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهو كقوله في «الأنعام» وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الآية: 59] والمقاليد المفاتيح أيضا فقيل: لا واحد لها من لفظها. وقيل: مقليد أو مقلد أو إقليد. والظاهر أنه في الأصل فارسي والتعريب جعله من قبيل العربي. ويروى أنه سأل عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير الآية فقال: يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك، تفسير المقاليد لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وقال العلماء: يعني أن هذه الكلمات مفاتيح خيرات السموات والأرض وقد يوحد الله بها ويمجد. قال أهل العرفان: بيده مفاتيح خزائن اللطف والقهر، فيفتح على من يشاء أبواب خزائن لطفه في قلبه فتخرج ينابيع الحكمة وجواهر الأخلاق الحسنة وللآخر بالضد. قال في الكشاف قوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا متصل بقوله وَيُنَجِّي وما بينهما اعتراض دل على أنه خالق الأشياء كلها مهيمن عليها، لا يخفى عليه أعمال المكلفين وجزاؤها فإن كل شيء في السموات والأرض فإن مفتاحه بيده. هذا والظاهر أنه لا حاجة إلى هذا التقدير البعيد حتى يعطف جملة اسمية على جملة فعلية. والأقرب أنه لما وصف نفسه بصفات المالكية والقدرة ذكر بعده وَالَّذِينَ كَفَرُوا بدلائل ملكه وملكه مع كونها ظاهرة باهرة فلا أخسر منهم لأنهم عمي في الدارين فاقدون لأشرف المطالب ولذلك وبخ أهل الشرك بقوله قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أي قل لهم بعد هذا البيان أفغير الله وهو منصوب ب أَعْبُدُ وتَأْمُرُونِّي اعتراض والمعنى أفغير الله أَعْبُدُ بأمركم. وذلك أن المشركين دعوه إلى دين آبائه. وجوز جار الله: أن ينصب بما يدل عليه جملة قوله تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ لأنه في معنى تعبدونني غير الله وتقولون لي اعبد. والأصل تأمرونني أن أعبد فحذف أن ورفع الفعل. ويمكن أن يعترض عليه بأن صلة «أن» كيف تتقدّم عليه. ويحتمل أن يجاب بأن العامل هو ما دل عليه الجملة كما قلنا لا قوله أن أعبد وقيل: التقدير أفبعبادة غير الله تأمروني؟. وقوله أَيُّهَا الْجاهِلُونَ لا يكون أليق بالمقام منه لأنه لا جهل أشدّ من جهل من نهى عن عبادة أشرف الأشياء وأمر بعبادة أخس الأشياء. ثم هددّ الأمة على الشرك مخاطبا نبيه بقوله وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ من الأنبياء مثله لَئِنْ أَشْرَكْتَ فاقتصر على الأول ويجوز أن يراد ولقد أوحى إليك وإلى كل واحد ممن قبلك لئن أشركت كما تقول: كسانا حلة أي كل واحد منا وقد مر نظير هذه الآية بقوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ [البقرة: 120] وبينا أن ذلك على سبيل الفرض والشرطية لا حاجة في صدقها إلى صدق جزأيها، أو المراد الأمة كما قلنا. وفي قوله وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ إشارة إلى أن منصب النبوة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 الذي هو أشرف مراتب الإنسانية وأقربها من الله إذا بدل بضدّه الذي هو البعد عن الحضرة الإلهية لم يكن خسران وراء ذلك. ثم ردّه صلى الله عليه وسلم إلى ما هو الحق الثابت في نفس الأمر وهو تخصيص الله بالعبادة فقال بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على ذلك لأن توفيق العبادة منه وحده ولذا جعله مظهر اللطف حتى صار سيد ولد آدم. ثم بين أنهم لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة في العبادة ما عرفوا الله حق معرفته وقد مر في «الأنعام» و «الحج» . ثم أردفه بما يدل على كمال عظمته قائلا وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ قال جار الله: الغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة حقيقة أو إلى جهة مجاز. وكذلك حكم ما يروى عن عبد الله بن مسعود أن رجلا من أهل الكتاب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السموات يوم القيامة على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال وأنزل الله الآية تصديقا له. وقال جار الله: وإنما ضحك أفصح العرب وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا أصبع ولا هز ولا شيء من غير ذلك، ولكن فهمه وقع أول شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التي لا تكتنهها الأوهام هينة عليه، ثم ذكر كلاما آخر طويلا. واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازي بأن هذا الكلام الطويل لا طائل تحته لأنه هل يسلم أن الأصل في الكلام حمله على حقيقته أم لا. وعلى الثاني يلزم خروج القرآن بكليته عن كونه حجة فإن لكل أحد حينئذ أن يؤوّل الآية بما شاء. وعلى الأول وهو الذي عليه الجمهور يلزمه بيان أنه لا يمكن حمل اللفظ الفلاني على معناه الحقيقي لتعين المصير إلى التأويل. ثم إن كان هناك مجازان وجب إقامة الدليل على تعيين أحدهما، ففي هذه الصورة لا شك أن لفظ القبضة واليمين مشعر بهذه الجوارح إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع الأعضاء والجوارح لله تعالى فوجب المصير إلى التأويل صونا للنص عن التعطيل. ولا تأويل إلا أن يقال: المراد كونها تحت تدبيره وتسخيره كما يقال: فلان في قبضة فلان. وقال تعالى وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الأحزاب: 50] ويقال: هذه الدار في يد فلان ويمينه، وفلان صاحب اليد. وأنا أقول: هذا الذي ذكره الإمام طريق أصولي، والذي ذكره جار الله طريق بياني، وأنهم يحيلون كثيرا من المسائل إلى الذوق فلا منافاة بينهما. ولا يرد اعتراض الإمام وتشنيعه وقد مر لنا في هذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 الكتاب الأصل الذي كان يعمل به السلف في باب المتشابهات في مواضع فتذكر. ولنرجع إلى الآية. قوله وَالْأَرْضُ قالوا: المراد بها الأرضون لوجهين: أحدهما قوله جَمِيعاً فإنه يجعله في معنى الجمع كقوله كُلُّ الطَّعامِ [آل عمران: 93] وقوله وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ [ق: 10] والثاني قوله وَالسَّماواتُ ولقائل أن يقول: كل ما هو ذو أجزاء حسا أو حكما فإنه يصح تأكيده بالجميع. وعطف السموات على الأرض في القرآن كثير. نعم قيل: إن الموضع موضع تعظيم وتفخيم فهو مقتض للمبالغة وليس ببعيد. والقبضة بالفتح المرة من القبض يعني والأرضون جميعا مع عظمهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته فهن ذوات قبضته. وعندي أن المراد منه تصرفه يوم القيامة فيها بتبديلها كقوله يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إبراهيم: 48] وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ كقوله يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: 104] وقيل: معنى مطويات كونها مستولى عليها استيلاءك على الشيء المطوي عندك بيدك. وقيل: معنى مطويات كونها مستولى عليها بيمينه أي بقسمه لأنه تعالى حلف أن يطويها ويفنيها في الآخرة. وفي الآية إشارة إلى كمال استغنائه، وأنه إذا حاول تخريب الأرض والسموات وتبديلها. وذلك في يوم القيامة سهل عليه كل السهولة، ولذلك نزه نفسه عن الشركاء بقوله سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم ذكر سائر أهوال القيامة وأحوالها بقوله وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ الظاهر أن نفخ الصور مرتان، وبعضهم روى أنه ثلاث نفخات الأولى للفزع كما جاء في «النمل» ، والثانية للموت وهو معنى الصعق، والثالثة للإعادة. والأظهر أن الفزع يتقدم الصعق فلا يلزم منه إثبات نفختين، وقد مر في «النمل» تفسير باقي الآية. قال جار الله: تقدير الكلام ونفخ في الصور نفخة واحدة ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى وإنما حذفت لدلالة أخرى عليها ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان. ومعنى يَنْظُرُونَ يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجاه خطب، أو ينظرون ماذا يفعل بهم. ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجهود تحيرا. ثم وصف أرض القيامة بقوله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها الظاهر أن هذا نور تجليه سبحانه. وقد مر شرح هذا النور في تفسير قوله اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية: 35] وفي غيره من المواضع. وقال علماء البيان: افتتح الآية بذكر العدل كما اختتم الآية بنفي الظلم. ويقال للملك العادل: أشرقت الآفاق بنور عدلك وأضاءت الدنيا بقسطك، وفي ضدّه أظلمت الدنيا بجوره. وأهل الظاهر من المفسرين لم يستبعدوا أن يخلق الله في ذلك اليوم للأرض نورا مخصوصا. وقيل: أراد أرض الجنة. ثم إن أهل البيان أكدوا قولهم بأنه أتبعه قوله وَوُضِعَ الْكِتابُ إلى آخره. وكل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 ذلك من الأمور الدالة على غاية العدل. والمراد بالكتاب إما اللوح المحفوظ يقابل به صحف الأعمال أو الصحف نفسها ولكنه اكتفى باسم الجنس. وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ ليسألهم ربهم عن تبليغ الرسالة ويجيب قومهم بما يجيبون. والمراد بالشهداء الذين يشهدون للأمم وعليهم من الحفظة والأخيار ومن الجوارح والمكان والزمان أيضا. وقيل: هم الذين قتلوا في سبيل الله ولعله ليس في تخصيصهم بالذكر فائدة. وحين بين أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الخصومات ذكر أنه يوصل أهل النار، وختم السورة بذكر أهل الجنة فقال وَسِيقَ وهو على عادة إخبار الله تعالى. والزمر الأفواج المتفرقة واحدها زمرة وكذلك في صفة أهل الجنة، وذلك أنه يحشر أمة بعد أمة مع إمامها إلى الجنة أو النار، أو بعضهم قبل الحساب وبعضهم بعد الحساب على اختلاف المراتب والطبقات، فلا ريب أن الناس محقين أو مبطلين فرق ذاهبون في طرق شتى جماعة جماعة. والخزنة جمع خازن، والمراد بكلمة العذاب قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [السجدة: 13] أو علم الله السابق وكان القياس التكلم إلا أنه عدل إلى الظاهر فقيل على الكافرين ليعلم سبب العذاب. سؤال السوق في الكفار له وجه لأنهم أهل الطرد والعنف فما وجهه في أهل الجنة؟ الجواب من وجوه: قال جار الله: المضاف هنا محذوف أي وسيق مراكب الذين اتقوا لأنهم لا يذهبون إلا راكبين كالوافدين على ملوك الدنيا، وحثها إسراع لهم إلى دار الكرامة والرضوان. وقيل: طباق. وقيل: أكثر أهل الجنة البله فيحتاجون إلى السوق لأنهم لا يعرفون ما فيه صلاحهم. وقيل: إنهم يقولون لا أدخلها حتى يدخلها أحبائي فيتأخرون لهذا السبب وحينئذ يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة. وقال أهل العرفان: المتقون قد عبدوا الله لله لا للجنة فيصير شدة استغراقهم في مشاهدة مطالع الجمال والجلال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة، فلا جرم يفتقرون إلى السوق. وقال الحكيم: كل خصلة ذميمة أو شريفة في الإنسان فإنها تجره من غير اختياره شاء أم أبى إلى ما يضاهيه حاله فذاك معنى السوق. سؤال آخر: لم قيل في صفة أهل النار فُتِحَتْ أَبْوابُها من غير واو وفي صفة أهل الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها بالواو؟ والجواب البحث عن مثل هذه الواو قد يقال له واو الثمانية قد مر في قوله التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ [التوبة: 112] وفي سورة الكهف إلا أن الذي اختص بالمقام هو أن بعضهم قالوا: إن أبواب جهنم مغلقة لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها لقوله جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: 50] فلذلك جيء بالواو كأنه قيل: حتى إذا جاؤها وقد فتحت أبوابها، وعلى هذا فجواب حَتَّى إِذا محذوف وحق موقعه ما بعد خالِدِينَ أي كان ما كان من أصناف الكرامات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 والسعادات. وقيل: حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها أي مع فتح أبوابها. وقيل: لأهل التأويل أن يقولوا: إن أبواب الجنة وهي أسباب حصول الكمالات مفتوحة بمعنى أنها غير ممنوع عنها بل مندوب إليها مرغب فيها، وأبواب جهنم مغلقة بمعنى أن أسبابها ممنوع عنها على لسان الشرع والعقل جميعا. ومعنى تسليم الخزنة الإكرام والتهنئة بأنهم سلموا من أحوال الدنيا وأهوال القيامة. ومعنى طِبْتُمْ قيل: إخبارهم عن كونهم طيبين في الدنيا بالأفعال الصالحة والأخلاق الفاضلة، أو طبتم نفسا بما نلتم من الجنة ونعيمها. وقيل: إن أهل الجنة إذا انتهوا إلى بابها وجدوا عنده عينين تجريان من ساق شجرة فيتطهرون من إحداهما فتجري عليهم نضرة النعيم فلن تتغير أبشارهم بعدها أبدا، ويشربون من الأخرى فيذهب ما في بطونهم من أذى وقذى فيقول لهم الخزنة: طبتم. وقال جار الله: أرادوا طبتم من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا، ولهذا عقبه بقوله فَادْخُلُوها خالِدِينَ ليعلم أن الطهارة عن المعاصي هي السبب في دخول الجنة والخلود فيها لأنها دار طهرها الله من دنس فلا يدخلها إلا من هو موصوف بصفتها رزقنا الله تعالى بعميم فضله وحسن توفيقه نسبة توجب ذلك. ثم حكى قول المتقين في الجنة فقال وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ أي الوعد بدخول الجنة وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أرض الجنة عبر عن التمليك بالإيراث وقد مرّ مرارا نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ لأن لكل متق جنة توصف سعة فيتبوّأ من جنته كما يريد من غير منازع. وقال حكماء الإسلام: الجنات الجسمانية كذلك، أما الروحانية فلا مانع فيها من المشاركة وأن يحصل لغيره ما يحصل لبعض الأشخاص. ثم وصف مآب الملائكة المقربين بعد بعثهم فقال وَتَرَى أيها الرائي أو النبي الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ محدّقين وهو نصب على الحال. قال الفراء: لا واحد له لأنه لا بد فيه من الجمعية. وأقول: لعله عني من حيث الاستعمال. وقيل: الحاف بالشيء الملازم له. وقوله مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ «من» زائدة أو ابتدائية أي مبتدأ خوفهم من هناك إلى حيث شاء الله أو متصل بالرؤية يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ تلذذا لا تعبدا. وكان جوانب العرش دار ثواب الملائكة وإنها ملاصقة لجوانب الجنة. والضمير في قوله وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ للعباد كلهم لقرائن ذكر القيامة فإن إدخال بغضهم النار وبعضهم الجنة لا يكون الإقضاء بينهم بالحق والعدل. وقيل: بين الأنبياء وأممهم. وقيل: تكرار لقوله وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وقيل: هو حال وقد مقدرة معه أي يسبحون بحمد ربهم وقد قضى بينهم يعني بين الملائكة على أن ثوابهم ليس على سنن واحد. ويحتمل عندي أن يعود الضمير إلى البشر والملائكة جميعا، والقضاء بينهم هو إنزال البشر مقامهم من الجنة أو النار، وإنزال الملائكة حول العرش. ثم ختم السورة بقوله وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ والقائل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 المقضي بينهم وهم جميع العباد كقوله وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [يونس: 10] جميع الملائكة حمدوا الله على إنزال كلّ منزلته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 (سورة المؤمن وهي مكية إلا آية قوله إن الذين يجادلون حروفها أربعة آلاف وتسعمائة وسبعون كلمها الف ومائتان غير كلمة آياتها خمس وثمانون) . [سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 22] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 القراآت: حم وما بعده بالإمالة: حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب وذلك طبعا لا اختلافا لمعان مذكورة في «ص» . كلمات ربك على الجمع: أبو جعفر ونافع وابن عامر لتنذر بالتاء الفوقانية على أن الضمير للروح، وقد تؤنث، أو على خطاب الرسول: يعقوب غير رويس التلاقي بالياء في الحالين: ابن كثير ويعقوب وأفق يزيد وورش وسهل وعباس في الوصل. والذين تدعون على الخطاب: نافع وهشام غير الرازي وابن مجاهد والنقاش وابن ذكوان أشد منكم ابن عامر. الباقون مِنْهُمْ. الوقوف: حم ط كوفي الْعَلِيمِ هـ لا الطَّوْلِ ط إِلَّا هُوَ ط الْمَصِيرُ هـ الْبِلادِ هـ مِنْ بَعْدِهِمْ ص لعطف الجملتين المتفقتين فَأَخَذْتُهُمْ ط للإبتداء بالتهديد عِقابِ هـ النَّارِ م لئلا يتوهم أن ما بعده صفة أصحاب النار آمَنُوا ج لحق القول المحذوف الْجَحِيمِ هـ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ط الْحَكِيمُ هـ وقد يوصل للعطف السَّيِّئاتِ ط رَحِمْتَهُ ط الْعَظِيمُ هـ فَتَكْفُرُونَ هـ سَبِيلٍ هـ كَفَرْتُمْ ج للابتداء بالشرط مع العطف تُؤْمِنُوا ط الْكَبِيرِ هـ رِزْقاً ط يُنِيبُ هـ الْكافِرُونَ هـ ذُو الْعَرْشِ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال التَّلاقِ هـ لا بارِزُونَ ج لاحتمال الاستئناف وتعلقه بالظرف شَيْءٌ ط الْيَوْمَ ط فصلا بين السؤال والجواب الْقَهَّارِ هـ كَسَبَتْ ط الْيَوْمَ ط الْحِسابِ هـ كاظِمِينَ ط يُطاعُ هـ ط الصُّدُورُ هـ بِالْحَقِّ ط بِشَيْءٍ ط الْبَصِيرُ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ط واقٍ هـ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ ط الْعِقابِ هـ. التفسير: حم اسم الله الأعظم. وقيل: حم ما هو كائن أي قدّر. وروي أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما حم؟ فقال: أسماء وفواتح سور. وقد تقدم القول في حواميم في مقدمات الكتاب وفي أول «البقرة» . ومن جملة تلك التقادير أن يقال: السورة المسماة بحم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وقد مر نظيره في أول «الزمر» . ثم وصف نفسه بما يجمع الوعد والوعيد فقال غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ قالت المعتزلة: معناه أنه غافر الذنب إذا استحق غفرانه إما بالتوبة إن كان كبيرا، أو طاعة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 أعظم منه ثوابا إن كان صغيرا. وقال الأشعري: إنه قد يعفو عن الكبائر بدون التوبة لئلا يلزم التكرار بقوله قابِلِ التَّوْبِ وليفيد المدح المطلق ويؤيده إدخال الواو بين هذين الوصفين فقط كأنه قيل: الجامع بين المغفرة إن كانت بدون توبة وبين القبول إن كانت بتوبة فقد جمع للمذنب بين رحمتين بحسب الحالتين. وقيل: غافر الذنب الصغير وقابل التوب عن الكبير، أو غافر الذنب بإسقاط العقاب وقابل التوب بإيجاب الثواب. ثم إن قبول التوبة واجب على الله أم لا؟ فيه بحث أيضا للفريقين. فالمعتزلة أوجبوه، والأشعري يقول: إنه على سبيل التفضيل وإلا لم بتمدّح به. والظاهر أن التوب مصدر. وقيل: جمع توبة أي ما ذنب تاب منه العبد إلا قبل توبته. وقد ذكر أهل الإعراب هاهنا سؤالا وهو أن غافر الذنب وقابل التوب يمكن بوجيههما بأنهما معرفتان كما سبق في مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 3] وهو أنهما بمعنى الماضي أو الاستمرار فيصح وقوعهما صفتين لله إلا أن قوله شَدِيدِ الْعِقابِ لا يمكن فيه هذا الوجه لأنه في معنى شديد عقابه. فإن قلنا إنه صفة لزم وقوع النكرة صفة للمعرفة، وإن قلنا إنه بدل لزم نبوّ ظاهر للزوم بدل واحد فيما بين صفات كثيرة. وأجيب على تقدير أن لا يكون الكل أبدالا بأن الألف واللام من شديد محذوف لمناسبة ما قبله مع الأمن من اللبس ومن جهالة الموصوف، أو تعمد تنكيره من بين الصفات للإبهام والدلالة على فرط الشدة. وجوزوا أن تكون هذه النكتة سببا لجعله بدلا من بين سائر أخواته. هذا ما قاله صاحب الكشاف. وعندي أنه لا مانع من جعل شَدِيدِ الْعِقابِ أيضا للاستمرار والدوام حتى يصير إضافة حقيقة. قوله ذِي الطَّوْلِ أي ذي الفضل بسبب ترك العقاب وقد مر في قوله وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [النساء: 25] وإنما أورد هذا الوصف بعد وصفه نفسه بشدة العقاب ليعلم أن خاتمة أمره مبنية على التفضل كما أن فاتحته مبنية على الغفران وقبول التوبة وقد تقع عقوبة في الوسط أعاذنا الله منها، إلا أنه لا يبقى مؤمن في النار خالدا ببركة قوله لا إله إلا الله وهو المبدأ وسبب علمه أنه إليه المصير وهو المعاد. وفيه أن من آمن بالمبدأ والمعاد فإن أخل في الوسط ببعض التكاليف كان مرجوا أن يغفر الله له ويقبل توبته. ثم بين أحوال من لا يقبل هذه التقريرات ولا يخضع لها فقال ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا والجدال في آياته نسبتها إلى الشعر تارة وإلى السحر أخرى إلى غير ذلك من المطاعن وفضول الكلام. فأما البحث عنها لاستنباط حقائقها والوقوف على دقائقها وحل مشكلاتها فنوع من الجهاد في سبيل الله، ولمكان الفرق بين هذين الجدالين قال صلى الله عليه وسلم «إن جدالا في القرآن كفر» «1» فنكر الجدال   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 258، 478، 494) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 ليشمل أحد نوعيه فقط وهو الجدال بالباطل كما يجيء في قوله وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ثم عقب الكلام بقوله فَلا يَغْرُرْكَ ليعلم أن جدالهم الصادر عن البطر والأشر والجاه والخدم لا اعتبار به وكذا تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ للتجارات والمكاسب فإن قريشا كانت أصحاب أموال متجرين إلى الشام واليمن مترفين بأموالهم مستكبرين عن قبول الحق لذلك. ثم مثل حالهم بحال الأمم السالفة الذين تحزبوا على الرسل وكادوا يقتلونهم فأهلكهم الله ودمرهم ونجى الرسل. ثم بين بقوله وَكَذلِكَ حَقَّتْ أنهم في الآخرة أيضا معذبون. وقوله أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ بدل من كَلِمَةُ رَبِّكَ أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم في الآخرة من أصحاب النار. وجوّز جار الله أن يكون أَنَّهُمْ في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل. وقوله الَّذِينَ كَفَرُوا قريش أي كما وجب إهلاك أولئك الأمم كذلك وجب إهلاك هؤلاء لأن العلة الجامعة وهي أنهم أصحاب النار واحدة في الفريقين. ومن قرأ كلمات على الجمع أراد بها علم الله السابق أو معلوماته التي لا نهاية لها، أو الآيات الواردة في وعيد الكفار. وحين بين أن الكفار بالغوا في إظهار عداوة المؤمنين حكى أن أشرف طبقات أكثر المخلوقات وهم حملة العرش، والحافون حوله يبالغون في محبتهم ونصرتهم كأنه قيل: إن كان هؤلاء الأراذل يعادونهم فلا تبال بهم ولا تقم لهم وزنا فإن الأشراف يحابونهم. روى صاحب الكشاف أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق من الملائكة فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع وهو طائر صغير شبه العصفور» وروى أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة. وقيل: خلق الله العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام، وعدد حملة العرش يوم القيامة ثمانية لقوله عز وجل وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقّة: 17] أما في غير ذلك الوقت فلا يعلم به إلا الله. أما الذين حول العرش فقيل: سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير، ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وهذه الآثار كلها منقولة من كتاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 الكشاف. سؤال: ما فائدة قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ولا يخفى أن حملة العرش ومن حوله مؤمنون؟ أجاب في الكشاف بأن فائدته التنبيه على شرف الإيمان والترغيب فيه. وأيضا فيه تكذيب المجسمة فإن الأمر لو كان على زعمهم لكانت الملائكة يشاهدونه فلا يوصفون بالإيمان به لأنه لا يوصف بالإيمان إلا الغائب، فعلم أن إيمانهم كإيمان أهل الأرض والكل سواء في أن إيمانهم بطريق النظر والاستدلال. واستحسن هذا الكلام الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير حتى ترحم عليه وقال: لو لم يكن في كتابه إلا هذه النكتة لكفى به فخرا وشرفا. وأنا أقول: لا نسلم أن الإيمان لا يكون إلا بالغائب وإلا لم يكن الإيمان بالنبي وقت تحديه بالقرآن. وإن شئت فتأمل قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فلو لم يكن إيمان بالشهادة لم يكن لقوله بِالْغَيْبِ فائدة. على أنه يحتمل أن يشاهد الرب وينكر كونه إلها، ويمكن أن يكون محمول الشيء محجوبا عن ذلك الشيء فمن أين يلزم تكذيب المجسمة؟ وقال بعضهم في الجواب: أراد أنهم يسبحون تسبيح تلفظ لا تسبيح دلالة. وزعم فخر الدين أن في الآية دلالة أخرى على إبطال قول أهل التجسيم إن الإله على العرش فإنه لو كان كما زعموا وحامل الشيء حامل لكل ما على ذلك الشيء لزم أن تكون الملائكة حاملين لإله العالم حافظين له، والحافظ أولى بالإلهية من المحفوظ. قلت: لا شك أن هذه مغالطة فإن جاز الحمل لأجل العظمة وإظهار الكبرياء على ما يزعم الخصم في المسألة كيف يلزم منه ذلك؟ وهل يزعم عاقل أن الحمار أشرف من الإنسان الراكب عليه من جهة الركوب عليه؟ وإنما ذكرت ما ذكرت لكونه واردا على كلام الإمامين مع وفور فضلهما وبعد غورهما، لا لأني مائل في المسألة على ما يزعم الخصم إلى غير معتقدهما. قال جار الله: وقد روعي التناسب في قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا كأنه قيل: ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم، وفيه أنهم بعد التعظيم لأمر الله يقبلون على الشفقة على خلق الله ولا سيما المؤمنين لأن الإيمان جامع لا أجمع منه يجذب السماوي إلى الأرضي، والروحاني إلى العنصري. احتج كثير من العلماء بالآية على أفضلية الملك قالوا: لأنها تدل على أنه لا معصية للملائكة وإلا لزم بحكم «ابدأ بنفسك» أن يستغفروا أوّلا لأنفسهم قال الله تعالى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد: 19] وقال نوح رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً [نوح: 28] قلت: لا نزاع بالنسبة إليهم وإلى غير المعصومين من البشر وإنما النزاع بينهم وبين المعصومين فلا دليل في الآية، ولا يلزم من طلب الاستغفار لأحد. لو سلم أن قوله لِلَّذِينَ آمَنُوا عام أن يكون المستغفر له عاصيا على أنه قد خص الاستغفار في قوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وهذا فيه بحث يجيء. وفي قولهم رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً ولو بإعطاء الوجود وَعِلْماً وقد مر في «الأنعام» إشارة إلى أن الحمد والثناء ينبغي أن يكون مقدما على الدعاء. وفي لفظ رَبَّنا خاصية قوية في تقديم الدعاء كما ذكرنا في آخر «آل عمران» كأن الداعي يقول: كنت نفيا صرفا وعدما محض فأخرجتني إلى الوجود وربيتني فاجعل تربيتك لي شفيعا إليك، ولا ريب أن ذكر الله أول كل شيء بمنزلة الإكسير الأعظم للنحاس من حيث إنه يقوّي جوهر الروح ويكسبه إشراقا وصفاء. وفي تقديم الرحمة على العلم فائدة هي أن مطلوب الملائكة في هذا المقام هو أن يرحم المؤمنين فكأنهم قالوا: ارحم من علمت منه التوبة واتباع الدين. قالت علماء المعتزلة: الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون، طلب مزيد الكرامة والثواب فهو بمنزلة الشفاعة، وإذا ثبت شفاعة الملائكة لأهل الطاعة فكذلك شفاعة الأنبياء ضرورة أنه لا قائل بالفرق. وقال علماء السنة: إن مراد الملائكة فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا عن الكفر وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ الإيمان وهذا لا ينافي كون المستغفر لهم مذنبين ومما يؤيد ما قلنا أن الاستغفار طلب المغفرة والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العذاب، أما طلب النفع الزائد فإنه لا يسمى استغفارا. قال أهل التحقيق: هذا الاستغفار من الملائكة يجري مجرى الاعتذار من قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] أما قوله وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ فتصريح بالمطلوب بعد الرمز لأن دلالة المغفرة على الوقاية من العذاب كالضمنية. وحين طلبوا لأجلهم إسقاط العذاب ضمنا وصريحا طلبوا إيصال الثواب إليهم بقولهم رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ قال علماء السنة: كل أهل الإيمان موعودون بالجنة وإن كانوا من أهل الكبائر غاية ذلك أنهم يعذبون بالنار مدّة إن لم يكن عفوا وشفاعة ثم يخرجون إلى الجنة. قال الفراء والزجاج: قوله وَمَنْ صَلَحَ يجوز أن يكون معطوفا على الضمير في وَأَدْخِلْهُمْ فيكون دعاء من الملائكة بإدخال هؤلاء الأصناف الجنة تكميلا لأنس الأولين وتتميما لابتهاجهم وإشفاقا على هؤلاء أيضا. ويجوز أن يكون عطفا على الضمير في وَعَدْتَهُمْ لأنه تعالى قال في سورة الرعد أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الآية: 23] وعلى هذا لا يشمل دعاء الملائكة هؤلاء الأصناف اللهم إلا ضمنا. قال أهل السنة: المراد بمن صلح أهل الإيمان منهم وإن كانوا ذوي كبائر. ثم ختم الآية بقوله إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لأنه إن لم يكن غالبا على الكل لم يصح منه وقوع المطلوب كما يراد، وإن لم يكن حكيما أمكن منه وضع الشيء في غير موضعه. ثم قالوا وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ فقيل: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 يعني العقوبات أو عذاب السيئات على حذف المضاف. واعترض بأنهم قالوا مرة وقهم عذاب الجحيم فيلزم التكرار. وأجيب بأن الأوّل دعاء للأصول وهذه لفروعهم وهم الأصناف الثلاثة، أو الأول مخصوص بعذاب النار وهذا شامل لعذاب الموقف وعذاب الحساب وعذاب السؤال، أو المراد بالسيئات العقائد الفاسدة والأعمال الضارة، وعلى هذا يكون يَوْمَئِذٍ في قوله وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ إشارة إلى الدنيا. وقوله فَقَدْ رَحِمْتَهُ يجوز أن يكون في الدنيا وفي الآخرة. قال في الكشاف: السيئات هى الصغائر والكبائر المتوب عنها، والوقاية منها التكفير أو قبول التوبة. ثم إنه تعالى عاد إلى شرح أحوال الكفرة المجالدين في آياته وأنهم سيعترفون يوم القيامة بما كانوا ينكرونه في الدنيا من البعث، وذلك إذا عاينوا النشأة وتذكروا النشأة الأولى فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ أي يوم القيامة. وفي الآية حذف وفيها تقديم وتأخير. أما الحذف فالتقدير لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم، فاستغنى بذكرها مرة. وأما التقديم والتأخير فهو أن قوله إِذْ تُدْعَوْنَ منصوب بالمقت الأول. وفي المقت وجوه: الأول كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون، وذلك أشد من مقتكم أنفسكم اليوم في النار إذ أوقعتكم فيها باتباعكم هواهنّ وفيه توبيخ. ولا ريب أن سخط الله وبغضه الشديد لا نسبة له إلى سخط غيره ولهذا أوردهم النار. الثاني عن الحسن: لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم فنودوا بلسان خزنة جهنم لمقت الله وهو قريب من الأول. الثالث قال محمد بن كعب: إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إلى قوله وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم: 22] وفي هذه الحالة مقتوا أنفسهم. فلعل المعنى. لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض ومن لعنه إياه. وأما قول الكفرة في الجواب رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ أي إماتتين اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا إحياءتين اثْنَتَيْنِ فللعلماء في تعيين كل من الاثنتين خلاف. أما في الكشاف فذهب إلى أن الإماتتين إحداهما خلقهم أوّلا أمواتا ثم نطفة ثم علقة إلخ كما في الآية الأخرى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً [البقرة: 28] ونسب هذا القول إلى ابن عباس ووجهه بأنه كقولك للحفار: ضيق فم الركية ووسع أسفلها وليس ثم نقل من كبر إلى صغر أو بالعكس، وإنما أردت الإنشاء على هذه الصفة. والسبب في صحته أن كلا النعتين جائز على المصنوع الواحد وللصانع أن يختار أحدهما. قلت: ومما يؤيد قوله أنه بدأ بالإماتة وإلا كان الأظهر أن يبدأ بالإحياء. قال: والإماتة الثانية هي التي في الدنيا والإحياءة الأولى هي التي في الدنيا، والثانية هي التي بعد البعث. وأورد على هذا القول أنه يلزم أن لا تكون الإحياءة في القبر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 والإماتة فيه مذكورتين في القرآن بل تكونان منفيتين مع ورودهما في الحديث. أجاب بعضهم بأن حياة القبر والإماتة ممنوعة لأنه تعالى لم يذكرها، والأحاديث الواردة فيها آحاد، ولأن الذي افترسه السبع لو أعيد حيا لزم نقصان شيء من السبع وليس بمحسوس، ولأن الذي مات لو تركناه ظاهره بحيث يراه كل أحد لم يحس منه حياة وتجويز ذلك مع عدم الرؤية سفسطة وفتح لباب الجهالات. وزيف هذا الجواب أهل الاعتبار بأن عدم ذكر الشيء لا يدل على عدمه، والأحاديث في ذلك الباب صحيحة مقبولة. وإذا كان الإنسان جوهرا نورانيا مشرقا مدبرا للبدن في كل طور على حد معلوم كما ورد في الشريعة الحقة زالت سائر الإشكالات، ولا يلزم قياس ما بعد الموت على ما قبله وللشرع في إخفاء هذه الأمور عن نظر المكلفين حكم ظاهرة حققناها لك مرات. وقال بعضهم: في الجواب هذا كلام الكفار فلا يكون حجة. وضعف بأنه لو لم يكن صادقا لأنكر الله عليهم. وقيل: إن مقصودهم تعديد أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة: الموتة الأولى، والحياة في القبر، والموتة الثانية، والحياة في القيامة. فأما الحياة في الدنيا فإنها وقت ترفههم وتنعمهم فلهذا السبب لم يذكروها. وقيل: أهملوا ذكر حياة القبر لقصر مدتها أو لأنهم لم يموتوا بعد ذلك بل يبقون أحياء في الشقاوة حتى اتصل بها حياة القيامة وكانوا من جملة المستثنين في قوله فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال متكلفة ولا سيما الأخير فإن قوله الَّذِينَ كَفَرُوا عام. ولو فرض أنه مخصوص بكفار معهودين فتخصيصهم بالحياة في القبر حتى يكونوا من المستثنين بعيد جدا. وقد يدور في الخلد أن هذا النداء يحتمل أن يكون في القبر، وعلى هذا لا يبقى إشكال لأن الإماتة والإحياء التي بعد ذلك تخرج من غير تكلف وثبت سؤال القبر كما جاء في الحديث والله تعالى أعلم بمراده. وقوله فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ أي إلى نوع من الخروج والرد من القبر إلى الدنيا خروج سريع أو بطيء من سبيل قط أم اليأس الكلي واقع، وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط. وكان الجواب الصريح أن يقال: لا أو نعم إلا أنه سبحانه رمز إلى عدم الخروج بقوله ذلِكُمْ أي ذلكم اليأس وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم في وقت التمكن من التوحيد أوان التكليف فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ حيث حكم عليكم بالعذاب السرمدي وكما يناسب عظمته وكبرياءه. قيل: إن تحكيم الحرورية وهو قولهم «لا حكم إلا لله» مأخوذ من هذه الآية. ثم أراد أن يذكر طرفا من دلائل وحدانيته وكماله فقال هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ من الريح والسحاب والرعد والبرق وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماء هو سبب الرزق وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أي ما يعتبر إلا الذي أناب إلى الله وأعرض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 عن الشرك لينفتح عليه أبواب الأنوار والمكاشفات. ثم قال للمنيبين فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ قال جار الله: قوله رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ ثلاثة أخبار لقوله هو مترتبة على الأول وهو قوله الَّذِي يُرِيكُمْ أو أخبار مبتدأ محذوف وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا أوسطها معرفة. ثم إن الرفيع إما أن يكون بمعنى الرافع أو بمعنى المرتفع، وعلى الأول فإما أن يراد رافع درجات الخلق في العلم والأخلاق الفاضلة كما قال يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة: 11] وكذا في الرزق والأجل بل جعل للملائكة مقامات معينة وللأجسام البسيطة العلوية والسفلية درجات معينة كما يشهد به علم الهيئة، وقد أشرنا إلى ذلك في أثناء هذا الكتاب. أو يراد رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة. وأما على الثاني فلا ريب أنه سبحانه أشرف الموجودات وأجلها رتبة من جهة استغنائه في وجوده وفي جميع صفات وجوده عن كل ما سواه، وافتقار كل ما سواه إليه في الوجود وفي توابع الوجود. واعلم أن كمال كبرياء الله لا يصل إليه عقول البشر فالطريق في تعريفه أن يؤيد المعقول بنحو من المحسوس، فلهذا عقب الله تعالى هذه الصفة بصفتين أخريين، وذلك أن ما سوى الله إما جسمانيات وإما روحانيات. أما الجسمانيات فأعظمها العرش فأشار بقوله ذُو الْعَرْشِ إلى استيلائه على كلية عالم الأجسام، وأما الروحانيات فأشار إلى كونها تحت تسخيره بقوله يُلْقِي الرُّوحَ أي الوحي مِنْ أَمْرِهِ أي من عالم أمره عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وقد مر نظيره في الآية في أول سورة النحل. وقيل: من أمره حال ثم بين الغرض من الإلقاء بقوله لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ووجه التسمية ظاهر لتلاقي الأجساد والأرواح فيه، أو لتلاقي أهل السماء والأرض كما قال عز من قائل وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] ولأن كل واحد يلاقي جزاء عمله. وقال ميمون بن مهران: يوم يلتقي فيه الظالم والمظلوم، فربما ظلم رجل رجلا وانفصل عنه ولم يمكن التلاقي أو استضعف المظلوم ففي يوم القيامة لا بد أن يتلاقيا. وقوله يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ بدل من الأول. ومعنى البروز ما مر في آخر سورة إبراهيم في قوله وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [الآية: 48] وقوله لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ تأكيد لذلك وهذا، وإن كان عاما في جميع الأحوال وشاملا للدنيا والآخرة إلا أنه خصص بالآخرة لأنهم في الدنيا كانوا يظنون أن بعض الأعمال تخفى على الله عند الاستتار بالحجب كما قال وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ فهو نظير قوله مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 3] ثم أكد تفرّده في ذلك اليوم بالحكم والقضاء بقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ولا ريب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 أن الكلام مشتمل على جواب وسؤال وليس في لفظ الآية ما يدل على تعيين السائل ولا المجيب. فقال جم من المفسرين ومن أرباب القلوب: إذا هلك كل من في السموات ومن في الأرض يقول الرب تعالى: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد. فهو سبحانه يجيب عن نفسه فيقول: لله الواحد القهار. وأما الذين ألغوا صرف المعقول من أهل الأصول فقد أنكروا هذا القول إنكارا شديدا لأنه تعالى بين أن هذا النداء في يوم التلاقي والبروز يوم تجزى كل نفس بما كسبت، وكل هذا ينافي في كون الخلق هالكين وقتئذ، ولأن التكلم من غير سامع ولا مجيب عبث إلا أن يكون هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء لكن المفروض فناء كل المخلوقين، فأما أن يكون حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به وذلك أن ينادي مناد فيقول: لمن الملك اليوم؟ فيجيبه أهل المحشر لله الواحد القهار، يقوله المؤمن تلذذا والكافر هوانا وتحسرا على أن فاتتهم هذه المعرفة في الدنيا فإن الملك كان له من الأزل إلى الأبد. وفائدة تخصيص هذا النداء يوم القيامة كما عرفت في مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 3] يحكى أن نصر بن أحمد لما دخل نيسابور وضع التاج على رأسه ودخل عليه الناس فخطر بباله شيء فقال: هل فيكم من يقرأ آية؟ فقرأ رجل روّاس رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ فلما بلغ قوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ نزل الأمير عن سريره ورفع التاج عن رأسه وسجد لله تعالى وقال: لك الملك لا لي. فلما توفي الروّاس رؤي في المنام فقيل له ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وقال لي إنك عظمت ملكي في عين عبدي فلان يوم قرأت تلك الآية فغفرت لك وله. ومما يدل على تفرده سبحانه قوله لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ فإن كل واحد من الأسماء الثلاثة ينبىء عن غاية الجلال والعظمة كما مر مرارا، وباقي الآية أيضا مما سلف تفسيره مرات. ثم وصف يوم القيامة بأنواع أخر من الصفات الهائلة فقال وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ وهي فاعلة من أزف الأمر أزوفا إذا دنا، ولا ريب أن القيامة قريبة وإن استبعد الناس مداها لأن كل ما هو كائن فهو قريب. قال جار الله: يجوز أن يريد بيوم الآزفة وقت لحظة الآزفة وهي مشارفتهم دخول النار فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارّها فتلصق بحناجرهم فلا هي تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا. وقال أبو مسلم: يوم الآزفة يوم المنية وحضور الأجل لأنه تعالى ذكر يوم القيامة في قوله يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ فناسب أن يكون هذا اليوم غير ذلك اليوم، ولأنه تعالى وصف يوم الموت بنحو هذه الصفة في مواضع أخر قال فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة: 83] كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ [القيامة: 26] ولا ريب أن الرجل عند معاينة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 أمارات الموت يعظم خوفه، فلو جعلنا كون القلوب لدى الحناجر كناية عن شدّة الخوف جاز، ولو حملناه على ظاهره فلا بأس. وقوله كاظِمِينَ أي مكروبين. والكاظم الساكت حال امتلائه غما وغيظا قال عز من قائل وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران: 134] وانتصابه على أنه حال عن أصحاب القلوب كأنه قيل: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها، أو عن القلوب. وجمع جمع السلامة بناء على أن الكظم من أفعال العقلاء كقوله فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء: 4] أو عن ضمير المفعول في وَأَنْذِرْهُمْ أي وأنذرهم مقدّرين أو مشارفين الكظم فيكون حالا مقدّره. وفي قوله ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ بحث بين الأشاعرة والمعتزلة حيث حمله الأوّلون على أهل الشرك، والآخرون على معنى أعم حتى يشمل أصحاب الكبائر. وقد مرّ مرارا ولا سيما في قوله وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [آل عمران: 192] ومعنى قوله يُطاعُ يجاب أي لا شفاعة ولا إجابة كقوله: ولا ترى الضب بها ينجحر وذلك أنه لا يشفع أحد في ذلك اليوم إلا بإذن الله، فإن أذن له أجيب وإلا فلا يوجد شيء من الأمرين. والفائدة في ذكر هذه الصفة أن يعلم أن الغرض من الشفيع منتف في حقهم وإن فرض شفيع على ما يزعم أهل الشرك من أن الأصنام يشفعون لهم. وقوله يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ خبر آخر لقوله هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ إلا أنه فصل بالتعليل وهو قوله لِيُنْذِرَ وذكر وصف القيامة استطرادا، قال جار الله: هي صفة للنظرة أو مصدر بمعنى الخيانة كالعافية، والمراد استراق النظر إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الريب. قال: ولا يحسن أن تكون الخائنة صفة للأعين مضافة إليها نحو «جرد قطيفة» أي يعلم العين الخائنة لأن قوله وَما تُخْفِي الصُّدُورُ لا يساعد عليه. قلت: يعني أن عطف العرض على الجوهر والمعنى على العين غير مناسب. وقيل: هي قول الإنسان رأيت ولم ير وما رأيت ورأى. ومضمرات الصدور أي القلوب فيها لأنها فيها. قيل: هي ما يستره الإنسان من أمانة وخيانة. وقيل: الوسوسة. وقال ابن عباس: ما تخفي الصدور بعد النظر إليها أيزني بها أم لا. أقول: والحاصل أنه تعالى أراد أن يصف نفسه بكمال العلم فإن المجازاة تتوقف على ذلك. ففي قوله يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ إشارة إلى أنه عالم بجميع أفعال الجوارح، وفي قوله وَما تُخْفِي الصُّدُورُ دلالة على أنه عالم بجميع أفعال القلوب. وإذا علمت هذه الصفة وقد عرفت من الأصناف السابقة كمال قدرته واستغنائه لم يبق شك فى حقيّة قضائه فلذلك قال وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ثم وبخهم على عبادة من لا قضاء له ولا سمع ولا بصر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 بقوله وَالَّذِينَ يَدْعُونَ إلخ. ثم وعظهم بالنظر في أحوال الأمم السالفة وقد مر نظير الآية في مواضع. وإنما قال في هذه السورة ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ وفي «التغابن» ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ [الآية: 6] موافقة لضمير الفصل في قوله كانُوا هُمْ أَشَدَّ. التأويل: الحاء والميم حرفان من وسط اسم الرحمن ومن وسط اسم محمد ففي ذلك إشارة إلى سر بينه وبين حبيبه صلى الله عليه وسلم لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل غافِرِ الذَّنْبِ للظالم وَقابِلِ التَّوْبِ للمقتصد شَدِيدِ الْعِقابِ للكافر ذِي الطَّوْلِ للسابق وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي عن موجباتها كالرياء واتباع الهوى لَمَقْتُ اللَّهِ إياكم حين حكم عليكم بالبعد والحرمان أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ لو كنتم تمقتونها في الدنيا فإنها أعدى عدوّكم. ومقتها منعها من هواها، ولا ريب أن عذاب البعد الأبديّ أشدّ من رياضة أيام معدودة قلائل. ذُو الْعَرْشِ عرش القلوب استوى عليها بجميع الصفات وهم العلماء بالله المستغرقون في بحر معرفته. [سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 50] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 القراآت: ذروني بفتح الياء: ابن كثير إني أخاف بفتح الياء: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو. أو بصيغة الترديد: عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب. الباقون: بواو العطف. يُظْهِرَ بضم الياء وكسر الهاء من الإظهار الفساد بالنصب: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب والمفضل وحفص. الآخرون: بفتحهما ورفع الفساد عُذْتُ مدغما: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف ويزيد وإسماعيل وهشام التنادى بالياء في الحالين: ابن كثير ويعقوب وأفق يزيد وورش وسهل وعباس في الوصل قلب متكبر بالتنوين فيهما عل الوصف: أبو عمرو وقتيبة وابن ذكوان. الباقون: على الإضافة. لعلي أبلغ الأسباب بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر فَأَطَّلِعَ بالنصب: حفص. اتبعوني بالياء في الحالين: سهل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 وابن كثير ويعقوب وأفق أبو عمرو ويزيد والأصفهاني عن ورش وإسماعيل وأبو نشيط عن قالون في الوصل. ما لي بفتح الياء: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع أمري إلى الله بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو تَقُومُ بتاء التأنيث: الرازي عن هشام أَدْخِلُوا من الإدخال: أبو جعفر ونافع ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وحفص. وعلى هذه القراءة الخطاب للزبانية. وانتصب آلَ وأَشَدَّ على أنهما مفعول بهما. وعلى القراءة الأخرى هو لآل فرعون، وانتصب آلَ على النداء لا على أنه مفعول به. الوقوف: مُبِينٍ هـ لا كَذَّابٌ هـ نِساءَهُمْ ط ضَلالٍ هـ رَبَّهُ ج لاحتمال اللام مؤمن قف قد قيل: بناء على أن الجار يتعلق بالفعل بعده والوصل أصح لأنه كان من القبط، ولو فرض أنه لم يكن منهم فالجملة وصف له من ربكم ج لانتهاء الاستفهام إلى الابتداء بالشرط كَذِبُهُ ج للعطف والشرط يَعِدُكُمْ ط كَذَّابٌ هـ فِي الْأَرْضِ ز لابتداء الاستفهام والوجه الوصل لأن المقصود الوعظ به جاءَنا ط الرَّشادِ هـ الْأَحْزابِ هـ لا لأن ما بعده بدل بَعْدِهِمْ ط لِلْعِبادِ هـ التَّنادِ هـ ط لأجل البدل مُدْبِرِينَ ج لأن ما بعده يصلح حالا واستئنافا مِنْ عاصِمٍ ج لاحتمال كون ما بعده ابتداء إخبار من الله سبحانه وكونه من كلام المؤمن مِنْ هادٍ هـ جاءَكُمْ بِهِ ط رَسُولًا ط مُرْتابٌ هـ ج لاحتمال البدل فإن «من» في معنى الجمع أو الاستئناف أي هم الذين أو أعني أنهم آمَنُوا ط جَبَّارٍ هـ الْأَسْبابَ هـ لا كاذِباً ط السَّبِيلِ ط تَبابٍ هـ الرَّشادِ ج لأن النداء يبدأ به مع أنه تكرار للأول مَتاعٌ ز للفصل بين تنافي الدارين مع اتفاق الجملتين الْقَرارِ هـ مِثْلَها ج لعطف جملتي الشرط حِسابٍ هـ النَّارِ هـ ج لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار ولاحتمال ابتداء استفهام آخر الْغَفَّارِ هـ النَّارِ هـ لَكُمْ ط إِلَى اللَّهِ ط بِالْعِبادِ هـ الْعَذابِ هـ ج لاحتمال البدل والابتداء وَعَشِيًّا ج لاحتمال ما بعده العطف والاستئناف السَّاعَةُ قف لحق القول المحذوف أي يقال لهم أو للزبانية الْعَذابِ هـ مِنَ النَّارِ هـ الْعِبادِ هـ مِنَ الْعَذابِ هـ بِالْبَيِّناتِ ط بَلى ط فَادْعُوا ج لاحتمال أن ما بعده من قول الخزنة أو ابتداء إخبار من الله تعال ضَلالٍ هـ. التفسير: لما وبخ الكفار بعدم السير في الأرض للنظر والاعتبار أو بعدم النظر في أحوال الماضين مع السير في الأقطار وقد وصف الماضين بكثرة العدد والآثار الباقية، أراد أن يصرح بقصة واحدة من قصصهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وزيادة توبيخ وتذكير لهم. وكان في قصة موسى وفرعون من العجائب ما فيها، فلا جرم أوردها هاهنا مع فوائد زائدة على ما في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 المواضع الأخر منها: ذكر مؤمن من آل فرعون وما وعظ ونصح به قومه. ولأن القصة قد تكررت مرارا فلنقتصر في التفسير على ما يختص بالمقام. قوله بِالْحَقِّ أي بالمعجزات الظاهرة. وقوله اقْتُلُوا يريد به إعادة القتل كما مر في «الأعراف» في قوله سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ [الآية: 127] قوله إِلَّا فِي ضَلالٍ أي في ضياع واضمحلال. فإن كان اللام في الْكافِرِينَ للجنس فظاهر لأن وبال كيدهم يعود بالآخرة عليهم حين يهلكون ويدخلون النار، وإن كان للعهد وهم فرعون وقومه فأظهر كما قص عليك من حديث إغراقهم واستيلاء موسى وقومه على ديارهم. قوله ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ظاهره مشعر بأن قومه كانوا يمنعونه من قتله وفيه احتمالات: الأول لعله كان فيهم من يعتقد نبوّة موسى فيأتي بوجوه الحيل في منع فرعون. الثاني قال الحسن: إن أصحابه قالوا لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكنه أن يغلب سحرتك، وإن قتلته أدخلت الشبهة على الناس وقالوا: إنه كان محقا وعجزوا عن جوابه فقتله. الثالث: لعل مراد أمرائه أن يكون فرعون مشغول القلب بأمر موسى حتى إنهم يكونون في أمن وسعة. قال جار الله: إن فرعون كان فيه خب وجريرة وكان قتالا سفاكا للدماء في أهون شيء فكيف لا يقصد قتل من أحس بأن في وجوده هدم ملكه وتغيير ما هو عليه من عبادة أصنامه كما قال إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ الآية. ولكنه كان قد استيقن أنه نبي وكان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك. قال: وقوله وَلْيَدْعُ رَبَّهُ شاهد صدق على فرط خوفه من دعوة ربه. وقال غيره: هو على سبيل الاستهزاء يعني إن أقتله فليقل لربه الذي يدّعي وجوده حتى يخلصه. ومعنى تبديل الدين تغيير عبادة الأصنام كما مر في «الأعراف» في قوله وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الآية: 127] والفساد التهارج والتنازع واختلاف الآراء والأهواء، أراد أنه يحدث لا محالة من إبقائه فساد الدين والدنيا جميعا، أو أحد الأمرين على القراءتين. ثم حكى ما ذكره موسى في دفع شر فرعون وهو العوذ بالله. وفي تصدير الجملة بان دلالة على أن الطريق المعتبر في دفع الآفات الاستغاثة والاستعاذة برب الأرض والسموات. وفي قوله بِرَبِّي إشارة إلى أن الذي رباني وإلى درجات الخير رقاني سيعصمني من شر هذا المارد الجاني. وفي قوله وَرَبِّكُمْ احتراز عن أن يظن ظانّ أنه يريد به فرعون لأنه رباه في صغره أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشعراء: 18] وفيه بعث لقوم موسى على أن يقتدوا به في الاستعاذة فإن اجتماع النفوس له تأثير قوي. وفي قوله مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ أي متكبر عن قبول الحق على سبيل العموم فائدتان: إحداهما شمول الدعاء فيدخل فيه فرعون بالتبعية. والثانية أن فرعون رباه في الصغر فلعله راعى حسن الأدب في عدم تعيينه. وأما وصف المتكبر بقوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ فلأن الموجب لإيذاء الناس أمران: أحدهما قسوة القلب. والثاني عدم اعتقاد بالجزاء والحساب. ولا ريب أنه إذا اجتمع الأمران كان الخطب أفظع لاجتماع المقتضى وارتفاع المانع. ثم شرع في قصة مؤمن آل فرعون. والأصح أنه كان قبطيا ابن عم لفرعون آمن بموسى سرا واسمه سمعان أو حبيب أو خربيل. وقيل: كان إسرائيليا. وزيف بأن المؤمنين من بني إسرائيل لو يعتلوا ولم يعزوا لقوله اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فما الوجه في تخصيصه؟ ولقائل أن يقول: الوجه تخصيصه بالوعظ والنصيحة إلا أن قوله: فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وقوله يا قَوْمِ على رأس كل نصيحة يغلب على الظن أنه يتنصح لقومه. ومعنى أَنْ يَقُولَ لأجل قوله أو وقت أن يقول كأنه قال منكرا عليهم أترتكبون الفعلة الشنعاء وهي قتل نفس محرمة أي نفس كانت لأجل كلمة حقة وهي قوله رَبِّيَ اللَّهُ والدليل على حقيقتها إظهار الخوارق والمعجزات. وفي قوله مِنْ رَبِّكُمْ استدراج لهم إلى الاعتراف بالله. ثم احتج عليهم بالتقسيم العقلي أنه لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا. على الأول يعود وبال كذبه عليه، وعلى الثاني أصابكم ما يتوعدكم به من العقاب. واعترض على الشق الأوّل بأن الكاذب يجب دفع شره بإمالته إلى الحق أو بقتله، ولهذا أجمع العلماء على أن الزنديق الذي يدعو الناس إلى دينه يجب قتله. وعلى الشق الثاني بأنه أوعدهم بأشياء والنبي صادق في مقالته لا محالة فلم قال يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ولم يقل «كل الذي» ؟ والجواب عن الأوّل أنه إنما ردّد بين الأمرين بناء على أن أمره مشكوك فيما بينهم، والزمان زمان الفترة والحيرة، فأين هذا من زماننا الذي وضح الحق فيه وضوح الفجر الصادق بل ظهور الشمس في ضحوة النهار؟ وعن الثاني أنه من كلام المنصف كأنه قال: إن لم يصبكم كل ما أوعد فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، أو أراد عذاب الدنيا وكان موسى أوعدهم عذاب الدنيا والآخرة جميعا. وعن أبي عبيدة: أن البعض هاهنا بمعنى الكل وأنشد قول لبيد: ترّاك أمكنه إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها وخطأه جار الله وكثير من أهل العربية وقالوا: إنه أراد ببعض النفوس فقط. ثم أكد حقية أمر موسى بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ وقد هداه الله إلى المعجزات الباهرة فهو إذن ليس بمتجاوز عن حدّ الاعتدال ولا بكذاب. وقيل: إنه كلام مستأنف من الله عز وجل، وفيه تعريض بأن فرعون مسرف في عزمه على قاتل موسى كذاب في ادّعاء الإلهية فلا يهديه الله إلى شيء من خيرات الدارين ويزيل ملكه ويدفع شره، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 وقد يلوح من هذه النصيحة وما يتلوها من المواعظ أن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه إلى أن قصدوا قتل موسى وعند ذلك أظهر الإيمان وترك التقية مجاهدا في سبيل الله بلسانه. ثم ذكرهم نعمة الله عليهم وخوّفهم زوالها بقوله يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ أي غالبين على أرض مصر ومن فيها من بني إسرائيل والقبط فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ من يخلصنا من عذابه إِنْ جاءَنا وذلك لشؤم تكذيب نبيه قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى أي ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قبله وَما أَهْدِيكُمْ بهذا الرأي إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ وصلاح الدين والدنيا، أو ما أعلمكم من الصواب ولا أسر خلاف ما أظهر. قال جار الله: وقد كذب فقد كان مستشعرا للخوف الشديد من جهة موسى ولكنه كان يتجلد. وحكى أبو الليث أن الرشاد اسم من أسماء أصنامه. قوله مِثْلَ دَأْبِ قال جار الله صاحب الكشاف: لا بد من حذف مضاف أي مثل جزاء دأبهم وهو عادتهم المستمرة في الكفر والتكذيب. ثم قال: إنه عطف بيان للأوّل لأن آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح. ولو قلت أهلك الله الأحزاب قوم نوح وعاد وثمود لم يكن إلا عطف بين لإضافة قوم إلى أعلام فسرى ذلك الحكم إلى أوّل المضافات. قلت: لا بأس من جعله بدلا كما مرّ. وقوله وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ أبلغ من قوله وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] لأن نفي الإرادة آكد من نفي الفعل ولتنكير الظلم في سياق النفي. وفيه أن تدميرهم كان عدلا وقسطا. وقيل: معناه أنه لا يريد لهم أن يظلموا فدمرهم لكونهم ظالمين. وحين خوّفهم عذاب الدنيا خوّفهم عذاب الآخرة أيضا فقال وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ أما اليوم فيمكن انتصابه على الظرفية كأنه أخبر عن خوفه في ذلك اليوم لما يلحقهم من العذاب، والأولى أن يكون مفعولا به أي أحذركم عذاب ذلك اليوم. وفي تسمية يوم القيامة يوم التناد وجوه منها: أن أهل الجنة ينادون أهل النار وبالعكس كما مر في سورة الأعراف. ومنها أنه من قوله يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: 71] ومنها أن بعض الظالمين ينادي بعضا بالويل والثبور قائلين يا ويلنا. ومنهما أنهم ينادون إلى المحشر. ومنهما أنه ينادي المؤمن هاؤم اقرؤا كتابيه والكافر يا ليتني لم أوت كتابيه. ومنها أنه يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح وينادي في أهل القيامة لا موت فيزداد أهل الجنة فرحا على فرح، وأهل النار حزنا على حزن. وقال أبو علي الفارسي: التناد مخفف من التنادّ مشددا وأصله من ندّ إذا هرب نظيره يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ [عبس: 34] إلخ. ويؤيده قراءة ابن عباس مشددا وتفسيره بأنهم يندون كما تند الإبل. وقوله بعد ذلك يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ أنهم إذا سمعوا زفير النار ندّوا هاربين فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه. وقال قتادة: معنى تولون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 مدبرين انصرافهم عن موقف الحساب إلى النار. ثم أكد التهديد بقوله ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ الآية. ثم ذكر مثالا لمن لا يهديه الله بعد إضلاله وهو قوله وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ وفيه أقوال ثلاثة أحدها: أنه يوسف بن يعقوب، وفرعون موسى هو فرعون يوسف، والبينات إشارة إلى ما روي أنه مات لفرعون فرس قيمته ألوف فدعا يوسف فأحياه الله. وأيضا كسفت الشمس فدعا يوسف فكشفها الله ، ومعجزاته في باب تعبير الرؤيا مشهورة، فآمن فرعون ثم عاد إلى الكفر بعد ما مات يوسف. والثاني هو يوسف بن ابن إبراهيم بن يوسف ابن يعقوب، أقام فيهم عشرين سنة قاله ابن عباس. والثاني هو يوسف بن ابن إبراهيم بن يوسف إليهم رسولا من الجن اسمه يوسف وأورده أقضى القضاة أيضا وفيه بعد. قال المفسرون في قوله لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ليس إشارة إلى أنهم صدّقوا يوسف لقوله فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ وإنما الغرض بيان أن تكذيبهم لموسى مضموم إلى تكذيب يوسف ولهذا ختم الآية بقوله كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ قلت: هذا إنما يصح إذا لم يكن فرعون يوسف قد آمن به لكنه مروّي كما قلنا اللهم إلا أن يقال: لولا شكه في أمره لما كفر بعد موته قال جار الله: فاعل كبر ضمير عائد إلى من هو مسرف لأنه موحد اللفظ وإن كان مجموع المعنى. وجوّز أن يكون الَّذِينَ يُجادِلُونَ مبتدأ على تقدير حذف المضاف أي جدال الذين يجادلون كبر. وجوّز آخرون أن يكون التقدير الذين يجادلون كبر جدالهم على حذف الفاعل للقرينة. وفي قوله وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا إشارة إلى أن شهادة المؤمنين عند الله بمكان حتى قرنها إلى شهادة نفسه. والمقصود التعجب والاستعظام لجدالهم وخروجه عن حدّ أشكاله من الكبائر، ووصف القلب بالتكبر والتجبر لأنه مركزهما ومنبعهما، أو باعتبار صاحبه. ومن قرأ بالإضافة فظاهر إلا أنه قيل: فيه قلب والأصل على قلب كل متكبر كما يقال: فلان يصوم كل يوم جمعة أي يوم كل جمعة. ثم أخبر الله سبحانه عن بناء فرعون ليطلع على السماء وقد تقدّم ذكره في سورة القصص. قال أهل اللغة: الصرح مشتق من التصريح الإظهار، وأسباب السموات طرقها كما مر في أوّل «ص» فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ [الآية: 10] فائدة بناء الكلام على الإبدال هي فائدة الإجمال ثم التفصيل والإبهام ثم التوضيح من تشويق السامع وغيره. من قرأ فَأَطَّلِعَ بالرفع فعلى العطف أي لعلي أبلغ فأطلع. ومن قرأ بالنصب فعلى تشبيه الترجي بالتمني. والتباب الخسران والهلاك كما مر في قوله وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101] استدل كثير من المشبهة بالآية على أن الله في السماء قالوا: إن بديهة فرعون قد شهدت بأنه في ذلك الصوب وأنه سمع من موسى أنه يصف الله بذلك وإلا لما رام بناء الصرح. والجواب أن بديهة فرعون لا حجة فيها، وسماعه ذلك من موسى ممنوع. وقد يطعن بعض اليهود بل كلهم في الآية بأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 تواريخ بني إسرائيل تدل على أن هامان لم يكن موجودا في زمان موسى وفرعون وإنما ولد بعدهما بزمان طويل، ولو كان مثل هذا الشخص موجودا في عصرهما لنقل لتوفرت الدواعي على نقله. والجواب أن الطعن بتاريخ اليهود المنقطع الوسط لكثرة زمان الفترة أولى من الطعن في القرآن المعجز المتواتر أولا ووسطا وآخرا. ثم عاد سبحانه إلى حكاية قول المؤمن وأنه أجمل النصيحة أوّلا بقوله اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ ثم استأنف مفصلا قائلا إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ يتمتع به أياما قلائل ثم يترك عند الموت إن لم يزل نعيمها قبل ذلك وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ المنزل الذي يستقر فيه. ثم بين أنه كيف تحصل المجازاة في الآخرة وفيه إشارة إلى أن جانب الرحمة أرجح. ومعنى الرزق بغير حساب أنه لا نهاية لذلك الثواب، أو أنه يعطى بعد الجزاء شيئا زائدا على سبيل التفضل غير مندرج تحت الحساب. ثم صرح بأنهم يدعونه إلى النار وهو يدعوهم إلى الخلاص عنها وفسر هذه الجملة بقوله تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ الآية. ليعلم أن الشرك بالله أعظم موجبات النار والتوحيد ضدّه. وفي قوله ما لِي أَدْعُوكُمْ من غير أن يقول «ما لكم» مع أن الإنكار يتوجه في الحقيقة إلى دعائهم لا إلى المجموع ولا إلى دعائه سلوك لطريق الإنصاف. ووجه تخصيص العزيز الغفار بالمقام أنه غالب على من أشرك به غفور لمن تاب عن كفره. قوله لا جَرَمَ لا ردّ لكلامهم، وجرم بمعنى كسب أو وجب أو لا بد وقد سبق في «هود» و «النحل» . ومعنى لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ أنه لا يقدر في الدنيا على أن يدعو الناس إلى نفسه لأنه جماد، ولا في الآخرة لأنه إذا أنطقه الله فيها تبرأ من عابديه. ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي ليس له استجابة دعوة كقوله وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ [الرعد: 14] عن قتادة: المسرفين هم المشركون. ومجاهد: السفاكون للدماء بغير حلها. وقيل: الذين غلب شرهم خيرهم. وقيل: الذين جاوزوا في المعصية حدّ الاعتدال كما بالدوام والإصرار وكيفا بالشناعة وخلع العذار فَسَتَذْكُرُونَ أي في الدنيا عند حلول العذاب أو في الآخرة عند دخول النار وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ قاله لأنهم توعدوه. وفيه وفي قوله فَوَقاهُ اللَّهُ دليل واضح على أنه أظهر الإيمان وقت هذه النصائح. قال مقاتل: لما تمم هذه الكلمات قصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه. قوله وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ معناه أنه رجع وبال مكرهم عليهم فأغرقوا ثم أدخلوا نارا. ولا يلزم منه أن يكونوا قد هموا بإيصال مثل هذا السوء إليه، ولئن سلّم أن الجزاء يلزم فيه المماثلة لعل فرعون قد همّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 بإغراقه أو بإحراقه كما فعل نمرود. قوله يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي يحرقون بها. يقال: عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به. وقوله غُدُوًّا وَعَشِيًّا إما للدوام كما مر في صفة أهل الجنة وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] وإما لأنه اكتفى في القبر بإيصال العذاب إليهم في هذين الوقتين. وفي سائر الأوقات إما أن يبقى أثر ذلك وألمه عليهم، وإما أن يكون فترة وإما أن يعذبوا بنوع آخر من العذاب الله أعلم بحالهم. وفي الآية دلالة ظاهرة على إثبات عذاب القبر لأن تعذيب يوم القيامة يجيء في قوله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بعرض النار عرض النصائح عليهم في الدنيا لأن سماع الحق مرّ طعمه؟ قلنا: عدول عن الظاهر من غير دليل. ولما انجر الكلام إلى شرح أحوال أهل النار عقبة بذكر المناظرات التي تجري فيها بين الرؤساء والأتباع والمعنى: اذكر يا محمد وقت تحاجهم وقد مر نظير ذلك مرارا. وفي قولهم إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ أي قضى لكل فريق بما يستحقه إشارة إلى الإقناط الكليّ، ولهذا رجعوا عن محاجة المتبوعين إلى الالتماس من خزنة النار أن يدعوا الله بتخفيف العذاب عنهم زمانا. قال المفسرون: إنما لم يقل لخزنتها لأن جهنم اسم قعر النار فكأن لخزنتها قربا من الله وهم أعظم درجة من سائر الخزنة فلذلك خصوهم بالخطاب. أما قول الخزنة لهم ف ادْعُوا ودعاء الكافر لا يسمع، فالمراد به التوبيخ والتنبيه على اليأس كأنهم قالوا: الشفاعة مشروطة بشيئين: كون المشفوع له مؤمنا والشافع مأذونا له فيها، والأمر إن هاهنا مفقودان على أن الحجة قد لزمتهم والبينة ألجأتهم. ثم أكدوا ذلك بقولهم وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي لا أثر له البتة. [سورة غافر (40) : الآيات 51 الى 85] إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 القراآت لا يَنْفَعُ على التذكير: نافع وحمزة وعلي وخلف وعاصم تَتَذَكَّرُونَ بتاء الخطاب: عاصم وحمزة وعلي وخلف. ادْعُونِي أَسْتَجِبْ بفتح الياء: ابن كثير. سيدخلون من الإدخال مجهولا: ابن كثير ويزيد وعباس ورويس وحماد وأبو بكر غير الشموني شيوخا بكسر الشين: ابن كثير وابن عامر وحمزة وعلي وهبيرة والأعشى ويحيى وحماد. الوقوف الْأَشْهادُ هـ لا لأن يَوْمَ بدل من الأول الدَّارِ هـ الْكِتابَ هـ لا الْأَلْبابِ هـ وَالْإِبْكارِ هـ أَتاهُمْ لا ن ما بعده خبر «إن» ما هُمْ بِبالِغِيهِ ج لاختلاف الجملتين بِاللَّهِ ط الْبَصِيرُ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ وَلَا الْمُسِيءُ ط يتذكرون هـ لا يُؤْمِنُونَ هـ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ط داخِرِينَ هـ مُبْصِراً ط لا يَشْكُرُونَ هـ شَيْءٍ لا لئلا يوهم أن ما بعده صفة شيء وخطؤه ظاهر إِلَّا هُوَ ز لابتداء الاستفهام ورجحان الوصل لفاء التعقيب ولتمام مقصود الكلام يؤفكون هـ يَجْحَدُونَ هـ الطَّيِّباتِ ط الْعالَمِينَ هـ الدِّينَ هـ الْعالَمِينَ هـ شُيُوخاً ج لاختلاف الجملتين تَعْقِلُونَ هـ وَيُمِيتُ ج لأجل الفاء مع الشرط فَيَكُونُ هـ فِي آياتِ اللَّهِ ط لانتهاء الاستفهام وابتداء آخر يُصْرَفُونَ هـ ج لاحتمال كون الَّذِينَ بدلا من الضمير في يُصْرَفُونَ رُسُلَنا قف إن لم تقف على يُصْرَفُونَ. يَعْلَمُونَ هـ لا لتعلق الظرف وَالسَّلاسِلُ ط لأن ما بعده مستأنف. وقيل: وَالسَّلاسِلُ مبتدأ والعائد محذوف أي والسلاسل يجرون بها في الحميم يُسْجَرُونَ هـ ج للآية مع العطف مِنْ دُونِ اللَّهِ ط شَيْئاً ط الْكافِرِينَ هـ تَمْرَحُونَ هـ خالِدِينَ فِيها ج الْمُتَكَبِّرِينَ هـ حَقٌّ هـ للشرط مع الفاء يُرْجَعُونَ هـ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ط بِإِذْنِ اللَّهِ ج الْمُبْطِلُونَ هـ تَأْكُلُونَ هـ ز للآية مع العطف وشدّة اتصال المعنى تُحْمَلُونَ هـ ط لأن ما بعده مستأنف ولا وجه للعطف. نْكِرُونَ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ط للفصل بين الاستخبار والأخبار يَكْسِبُونَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ مُشْرِكِينَ هـ بَأْسَنا الثاني ط فِي عِبادِهِ ج لأن الفعل المعطوف عليه مضمر وهو سن الْكافِرُونَ هـ. التفسير: هذا من تمام قصة موسى وعود إلى مقام انجر الكلام منه وذلك أنه لما قيل فَوَقاهُ اللَّهُ وكان المؤمن من أمة موسى علم منه ومما سلف مرارا أن موسى وسائر قومه قد نجوا وغلبوا على فرعون وقومه فلا جرم صرح بذلك فقال إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا الآية. ونصرتهم في الدنيا بإظهار كلمة الحق وحصول الذكر الجميل واقتداء الناس بسيرتهم إلى مدة ما شاء الله، وقد ينصرون بعد موتهم كما أن يحيى بن زكريا لما قتل به سبعون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 ألفا. وأما نصرهم في الآخرة فمن رفع الدرجات والتعظيم على رؤوس الأشهاد من الحفظة والأنبياء والمؤمنين وقد مر باقي تفسير الأشهاد في أوائل «هود» . ثم بين أن يوم القيامة لا اعتذار فيه لأهل الظلم والغواية وإن فرض اعتذار فلا يقبل وسوء الدار عذاب الآخرة. ثم أخبر عن إعطاء موسى التوراة وإيراثها قومه بعده. والمراد بكون الكتاب هدى أنه دليل في نفسه، وبكونه ذكرى أن يكون مذكرا للشيء المنسيّ. وحين فرغ من قصة موسى وما تعلق بها خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم مسليا له بقوله فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالنصر وإعلاء كلمة الحق حَقٌّ كما قص عليك من حال موسى وغيره. ثم أمره باستغفار لذنبه وقد سبق البحث في مثله مرارا. والعشيّ والإبكار صلاتا العصر والفجر أو المراد الدوام. قوله إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ عود إلى ما انجر الكلام إليه من أول السورة إلى هاهنا. وفيه بيان السبب الباعث لكفار قريش على هذا الجدال وهو الكبر والحسد وحب الرياسة، وأن يكون الناس تحت تصرفهم وتسخيرهم لا أن يكونوا تحت تصرف غيرهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن تكون الأمة تحت أمره ونهيه وذلك تخيل فاسد لأن الغلبة لدين الإسلام ولهذا قال ما هُمْ بِبالِغِيهِ ثم أمره أن يستعيذ في دفع شرورهم بالله السميع لأقوالهم البصير بأحوالهم فيجازيهم على حسب ذلك. ثم إنهم كانوا أكثر ما يجادلون في أمر البعث فاحتج الله تعالى عليهم بقوله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ومن قدر على الأصعب في نظر المخالف وقياسه كان على الأسهل أقدر، فظاهر أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا برهان بل لمجرد الحسد والكبير بل لا يعرفون ما البرهان وكيف طريق النظر والاستدلال ولهذا قال وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. ثم نيه على الفرق بين الجدال المستند على العناد والتقليد وبين الجدال المستند إلى الحجة والدليل قائلا وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وحين بين التفاوت بين الجاهل والعالم أراد أن يبين التفاوت بين المحسن والمسيء ثم قال قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ وفيه مزيد توبيخ وتقريع، وفيه أن هذا التفاوت مما يعثر عليه المكلف بأدنى تأمل لو لم يكن معاندا مصرا. ثم صرح بوجود القيامة قائلا إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ أدخل اللام في الخبر بخلاف ما في «طه» لأن المخاطبين هاهنا شاكون بخلاف المخاطب هناك وهو موسى، وهذه الآية كالنتيجة لما قبلها. ومعنى لا يُؤْمِنُونَ لا يصدّقون بالبعث. ثم إنه كان من المعلوم أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بالطاعة فلا جرم أشار إليها بقوله وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أكثر المفسرين على أن الدعاء هاهنا بمعنى العبادة، والاستجابة بمعنى الإنابة بقوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 كقوله إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً [النساء: 117] روى النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الدعاء العبادة» وقرأ هذه الآية. وجوّز آخرون أن يكون الدعاء والاستجابة على ظاهرهما، ويراد بعبادتي دعائي لأن الدعاء باب من العبادة يصدّقه قول ابن عباس: أفضل العبادة الدعاء. وقد مرّ تحقيق الدعاء في سورة البقرة في قوله أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الآية: 186] وقد فسره ابن عباس بمعنى آخر قال: وحدوني أغفر لكم. وفي الدعاء. قال جار الله: وهذا تفسير للدعاء بالعبادة ثم للعبادة بالتوحيد. ومعنى داخِرِينَ صاغرين. وقال أهل التحقيق: كل من دعا الله وفي قلبه مثقال ذرة من المال والجاه وغير ذلك فدعاؤه لساني لا قلبي ولهذا قد لا يستجاب لأنه اعتمد على غير الله. وفيه بشارة هي أن دعاء المؤمن وقت حلول أجله يكون مستجابا البتة لانقطاع تعلقه وقتئذ عما سوى الله. ثم إنه تعالى ذكر نعمته على الخلائق بوجود الليل والنهار وقد مر نظير الآية مرارا ولا سيما في أواخر «يونس» وأواسط «البقرة» . وكرر ذكر الناس نعيا عليهم وتخصيصا لكفران النعمة بهم من بين سائر المخلوقات. وأما وجه النظم فكأنه يقول: إني أنعمت عليك بهذه النعم الجليلة قبل السؤال فكيف لا أنعم عليك بما هو أقل منه بعد السؤال؟ ففيه تحريض على الدعاء. وأيضا الاشتغال بالدعاء مسبوق بمعرفة المدعوّ فلذلك ذكر في عدّة آيات دلائل باهرة من الآفاق والأنفس على وحدانيته واتصافه بنعوت الكمال. قوله ذلِكُمُ اللَّهُ إلى قوله إِلَّا هُوَ قد مر في «الأنعام» . قوله كَذلِكَ يُؤْفَكُ أي كل من حجد بآيات الله ولم يكن طالبا للحق فإنه مصروف عن الحق كما صرفوا. قوله فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ كقوله وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4] قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إما استئناف مدح من الله تعالى لنفسه، وإما بتقدير القول أي فادعوه مخلصين قائلين الحمد لله. قوله لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ شامل لأدلة العقل والنقل جميعا. قوله ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ متعلق بمحذوف أي ثم يبقيكم لتبلغوا وكذلك لتكونوا. وأما قوله وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى فمتعلق بفعل آخر تقديره ونفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى هو الموت أو القيامة، ورجاء منكم أن تعقلوا ما في ذلك من العبر. وحيث انجر الكلام إلى ذكر الأجل وصف نفسه بأن الإحياء والإماتة منه، ثم أشار بقوله فَإِذا قَضى إلخ إلى نفاذ قدرته في الكائنات من غير افتقار في شيء ما إلى آلة وعدّة. وأشار إلى أن الإحياء والإماتة ليسا من الأشياء التدريجية ولكنهما من الأمور الدفعية المتوقفة على أمر كن فقط، وذلك أن الحياة تحصل بتعلق النفس الناطقة بالبدن، والموت يحدث من قطع ذلك التعلق، وكل من الأمرين يحصل في آن واحد. ويمكن أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 يكون فيه إشارة إلى خلق الإنسان الأوّل وهو آدم كقوله خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] ثم عاد إلى ذم المجادلين وذكر وعيدهم قائلا أَلَمْ تَرَ الآية والكتاب القرآن. وما أرسل به الرسل سائر الكتب. وقوله فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ليس كقول القائل: سوف أصوم أمس. بناء على أن سوف للاستقبال وإذ للمضي، لأن «إذ» هاهنا بمعنى «إذا» إلا أنه ورد على عادة أخبار الله نحو وَسِيقَ [الزمر: 73] وَنادى [الأعراف: 48] وقال المبرد: إذ صارت زمانا قبل سوف لأن العلم وقع منهم بعد ثبوت الأغلال. والمعنى علموا من الأغلال الذي كانوا أو عدوه من بعد أن حق بالوجود. ومعنى يُسْجَرُونَ قال جار الله: هو من سجر التنور إذا ملأه بالوقود، ومعناه أنهم في النار فهي محيطة بهم وهم مسجورون بها مملوءة أجوافهم منها. والحاصل أنهم يعذبون مرة بالماء الشديد الحرارة ومرة بالنار. وقال مقاتل: في الحميم يعني في حر النار ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ على سبيل التوبيخ أَيْنَ ما كُنْتُمْ «ما» موصولة مبتدأ و «أين» خبرها. ومعنى ضَلُّوا غابوا وضاعوا ولم يصل إلينا ما كنا نرجوه من النفع والشفاعة، وأكدوا هذا المعنى بقوله بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً يعتدّ به كما تقول: حسبت أن فلانا شيء فإذا هو ليس بشيء أي ليس عنده خير. ومن جوّز الكذب على الكفار لم يحتج إلى هذا التأويل وقال: إنهم أنكروا عبادة الأصنام. ثم قال كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ قالت الأشاعرة: أي عن الحجة والإيمان. وقالت المعتزلة: عن طريق الجنة بالخذلان. وقال في الكشاف: أي مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يجد أحدهما الآخر. واعترض عليه بأنهم مقرونون بآلهتهم في النار لقوله إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] والجواب أن كون الجميع في النار لا ينافي غيبة أحدهما عن الآخر. وأجاب في الكشاف باختلاف الزمان وبتفسير الضلال بعدم النفع. ذلِكُمْ العذاب بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح أي النشاط بِغَيْرِ الْحَقِّ وهو الشرك وعبادة الصنم. ويجوز أن يكون القول محذوفا أي يقال لهم ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكل طائفة مقدّرين الخلود فيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ يعني الذين مر ذكرهم في قولهم إن في صدوركم إلّا كبر والمخصوص بالذم محذوف وهو مثواكم أو جهنم. قال جار الله: إنما لم يقل «فبئس مدخل المتكبرين» حتى يكون مناسبا لقوله ادْخُلُوا كقولك: زر بيت الله فنعم المزار. لأن الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثواء. وحين زيف طريقة المجادلين مرة بعد مرة أمر رسوله بالصبر على إيذائهم وإيحاشهم إلى إنجاز الوعد بالنصرة قال فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من عذاب الدنيا فذاك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ هذا التقدير ذكره جار الله، وقد مر في «يونس» مثله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 وأقول: لا بأس أن يعطف قوله أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ على نُرِيَنَّكَ ويكون الرجوع إلى الله جزاء لهما جميعا ومعناه: إنا نجازيهم على أعمالهم يوم القيامة سواء عذبوا في الدنيا أو لم يعذبوا. ثم سلاه بحال الأنبياء السابقة ليقتدي بهم في الصبر والتماسك فقال وَلَقَدْ أَرْسَلْنا الآية. ذهب بعض المفسرين إلى أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. وقيل: ثمانية آلاف، نصف ذلك من بني إسرائيل والباقي من سائر الناس. ولعل الأصح أن عددهم لا يعلمه الا الله لقوله تعالى أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ [إبراهيم: 9] لكن الإيمان بالجميع واجب. عن علي رضى الله عنه: بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته. ثم إن قريشا كانوا يقترحون آيات تعنتا كما مر في أواخر «سبحان» وأول «الفرقان» وغيرهما فلا جرم قال الله تعالى وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بعذاب الدنيا أو بالقيامة. وقال ابن بحر: أمر الله الآية التي اقترحوها وذلك أنه يقع الاضطرار عندها وَخَسِرَ هُنالِكَ أي في ذلك الوقت استعير المكان للزمان الْمُبْطِلُونَ وهم أهل الأديان الباطلة. ثم عاد إلى نوع آخر من دلائل التوحيد قائلا اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا قال جار الله: ظاهر النظم يقتضي إدخال لام الغرض في القرائن الأربع أو خلو الكل عنها فيقال: لتركبوا ولتأكلوا ولتصلوا إلى منافع ولتبلغوا. أو يقال: منها تركبون ومنها تأكلون وتصلون وتبلغون إلا أنه ورد على ما ورد لأن الركوب قد يجب كما في الحج والغزو، وكذلك السفر من بلد إلى بلد لهجرة أو طلب علم لا أقل من الندب فصح أن يكونا غرضين. وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباح الذي لا تتعلق به إرادته كثير تعلق شرعا. وإنما قال عَلَى الْفُلْكِ ولم يقل «وفي الفلك» مع صحته إذ هي كالوعاء إزدواجا لقوله عَلَيْها [المؤمنون: 22] والحمل محمول على الظاهر. وقيل: هو من قول العرب: حملت فلانا على الفرس إذا وهب له فرسا. ثم وبخهم بقوله يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ. ثم حرضهم وزاد توبيخهم بقوله أَفَلَمْ يَسِيرُوا الآية. وقد سبق. وقوله فَما أَغْنى عَنْهُمْ «ما» نافية أو استفهامية ومحلها النصب. وقوله ما كانُوا مصدرية أو موصولة أي كسبهم أو الذي كسبوا. قوله فَرِحُوا لا يخلو إما أن يكون الضمير عائدا إلى الكفار أو إلى الرسل. وعلى الأول فيه وجوه منها: أنه تهكم بعلمهم الذي يزعمون كقولهم وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً [الكهف: 36] اإذا كنا ترابا وعظاما اانا لفي خلق جديد [ق: 4] ومنها أنه أراد بذلك شبهات الدهرية وبعض الفلاسفة كقولهم وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] وكانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وحقروا علم الأنبياء بالنسبة إلى علمهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 كما يحكى عن سقراط أنه سمع بموسى عليه السلام فقيل له: لو هاجرت إليه؟ فقال: نحن قوم مهديون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا. ويروى أن جالينوس قال لعيسى عليه السلام: بعثت لغيرنا. ومنها أن يراد علمهم بظاهر المعاش كقوله يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الروم: 7] وذلك مبلغهم من العلم فرحوا به وأعرضوا عن علم الديانات. وعلى الثاني يكون معناه أن الرسل لما رأوا جهل قومهم وسوء عاقبتهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم. ووجه آخر وهو أن يكون ضمير فَرِحُوا للكفار وضمير عِنْدَهُمْ للرسل أي فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء. ثم بين أن إيمان البأس وهو حالة عيان العذاب أو أمارات نزول سلطان الموت غير نافع وقد مر مرارا. ومعنى فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ لم يصح ولم يستقم لأن الإلجاء ينافي التكليف. وترادف الفاءات في قوله فَما أَغْنى فَلَمَّا جاءَتْهُمْ فَلَمَّا رَأَوْا فَلَمْ يَكُ لترتيب الأخبار ولتعاقب المعاني من غير تراخ. وقال جار الله: فما أغنى نتيجة قوله كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وقوله فَلَمَّا جاءَتْهُمْ جار مجرى البيان والتفسير لقوله فلما أغنى وقوله فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا تابع لقوله فَلَمَّا جاءَتْهُمْ كأنه قال: فكفروا كقولك: رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء. وقوله فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا آمنوا وكذلك فَلَمْ يَكُ تابع لإيمانهم بعد البأس. قال أهل البرهان: وإنما قال هاهنا وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ وفيما قبل الْمُبْطِلُونَ لأنه قال هناك قُضِيَ بِالْحَقِّ ونقيض الحق الباطل، وهاهنا ذكر أن إيمان البأس غير مجد ونقيضه الكفر والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 (سورة فصلت) (وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون كلمها سبعمائة وأربع وتسعون آياتها 54) [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 24] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 القراآت: سواء بالرفع: يزيد. وقرأ يعقوب بالجر. الباقون: بالنصب نحسات بسكون الحاء: ابن كثير وأبو عمرو ونافع وسهل ويعقوب وأما ثمود بالنصب: المفضل نحشر بالنون أعداء بالنصب: نافع ويعقوب. الآخرون: بالياء مجهولا أَعْداءُ مرفوعا. الوقوف: حم كوفي الرَّحِيمِ هـ ج لأن قوله كِتابٌ يصلح أن يكون بدلا من تَنْزِيلٌ وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب. ويجوز أن يكون تَنْزِيلٌ هو مع وصفه مبتدأ وكِتابٌ خبره يَعْلَمُونَ هـ ج لأن وبَشِيراً صفة أخرى ل قُرْآناً وَنَذِيراً هـ ج لاختلاف الجملتين لا يَسْمَعُونَ هـ عامِلُونَ هـ وَاسْتَغْفِرُوهُ ج لِلْمُشْرِكِينَ هـ لا كافِرُونَ هـ مَمْنُونٍ هـ وأَنْداداً ط الْعالَمِينَ هـ لا للآية مع العطف أَيَّامٍ ط لمن نصب سَواءً أو رفع ومن خفض لم يقف لِلسَّائِلِينَ هـ كَرْهاً ط طائِعِينَ هـ أَمْرَها ج للعدول بِمَصابِيحَ ج لحق المحذوف أي وحفظناها حفظا ولعل الوصل أولى لما يجيء وَحِفْظاً هـ الْعَلِيمِ هـ وَثَمُودَ هـ بناء على أن «إذ» يتعلق بمحذوف هو أذكر أو بمعنى الفعل في الصاعقة أي يصعقون إذ ذاك، ولا يجوز أن يتعلق ب أَنْذَرْتُكُمْ إِلَّا اللَّهَ ط كافِرُونَ هـ مِنَّا قُوَّةً ط مِنْهُمْ قُوَّةً ط للفصل بين الإخبار والاستخبار يَجْحَدُونَ هـ الدُّنْيا ج لا يُنْصَرُونَ هـ يَكْسِبُونَ هـ يَتَّقُونَ هـ يُوزَعُونَ هـ يَعْمَلُونَ هـ عَلَيْنا ط تُرْجَعُونَ هـ تَعْمَلُونَ هـ الْخاسِرِينَ هـ مَثْوىً لَهُمْ ط الْمُعْتَبِينَ هـ التفسير: حم قال بعضهم: الحاء من الحكمة، والميم من المنة أي منّ على عباده بتنزيل الحكمة من الرحمن في الأزل، الرحيم في الأبد وهي كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ أي ميزت أمثالا ومواعظ وأحكاما وقصصا إلى غير ذلك. وقد مر في أوّل «هود» . وانتصب قُرْآناً على المدح والاختصاص أو على الحال الموطئة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لقوم عرب يفهمون معانيه يعنى بالإصالة وللباقين بعدهم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم منهم فالدعوة تحصل أوّلا لهم. والأظهر عندي أنه كقوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] وذلك أنه لا ينتفع بالقرآن إلا أهل العلم به. قال أهل السنة: الصفات المذكورة هاهنا للقرآن توجب شدة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 الاهتمام بمعرفته. والوقوف على معانيه بيانه أن كونه نازلا من الرحمن الرحيم دليل على أن تنزيله رحمة للعالمين، وفيه شفاء لأمراض القلوب، وكونه كتابا. والتركيب يدور على الجمع كما سبق في أول الكتاب يدل على أن فيه علوم الأوّلين والآخرين. وقوله فُصِّلَتْ آياتُهُ دليل على أنه في غاية الكشف والبيان وكونه قُرْآناً عَرَبِيًّا ولغة العرب أفصح اللغات مما يوجب أن تتوفر عليه الرغبات ولا سيما للعرب ومن داناهم. وكونه بَشِيراً وَنَذِيراً يدل على أن الاحتياج إليه من أهم المهمات لأنه سعي في معرفة ما يوصل إلى الثواب الأبديّ، ويخلص من العقاب السرمدي. فإذا علم المخاطبون هذه الفوائد ثم أعرض أكثرهم عن القرآن ولم يسمعوه سماع قبول دل ذلك على أن المهديّ من هداه الله ومن يضلله فلا هادي له. ثم أكد بيان إعراضهم بقوله وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ ولا يخفى أنه سبحانه ذكر هذا في معرض الذم فوجه الجمع بينه وبين قوله وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الأنعام: 25] هو أن الذم إنما يتوجه على اعتقادهم أنهم إذا كانوا كذلك لم يجز تكليفهم ولا خطابهم بالأمر والنهي، أو أنهم قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء. قال جار الله: فائدة «من» في قوله وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ دون أن يقول «وبيننا» هو أن العبارة الثانية تدل على مطلق الحجاب، ولكن العبارة الواردة في القرآن تفيد أن المسافة التي بينهم وبين رسول الله مملوءة من الحجاب لا فراغ فيها كأنه قيل: إن الحجاب ابتدأ منا ومنك. ثم حكى عنهم ما قالوا على سبيل التهديد أو التحلية فَاعْمَلْ أي على دينك أو في إبطال ديننا إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا أو في إبطال أمرك. ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن شبهتهم بقوله إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وتوجيه النظم إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبرا فإني بشر مثلكم ولا امتياز إلا أني أوحي إليّ التوحيد والأمر به، فعليّ البلاغ وحده. ثم إن قبلتم قولي أثابكم الله وإلا عاقبكم. قال في الكشاف: أراد إن نبوّتي صحت بالوحي وإذا صحت وجب اتباعي ومن جملة ذلك القول بالتوحيد. ثم بين أن خلاصة الوحي ترجع إلى أمرين: الاستقامة والإقامة على التوحيد المتوجهين إلى الله والاستغفار من تقصير قد يقع في الطاعة. ثم هددّ أهل الشرك بقوله وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ وقرن منع الزكاة بالكفر بالله أوّلا وبالآخرة ثانيا، لأن المال شقيق الروح، وبه وببذله في سبيل الله يعرف الموافق من المنافق، ففيه بعث شديد لأهل الإيمان على أداء الزكاة، وفيه أن الشفقة على خلق الله قرينة التعظيم لأمر الله. وقيل: كانت قريش يطعمون الحاج ولا يطعمون المؤمنين فنزلت قاله الفراء. وقيل: أراد بالزكاة هاهنا الإيمان لأنه يزكي النفس من دون الشرك. ثم ذكر جزاء المطيعين وهو ظاهر. والممنون المقطوع. وقيل: هو من المنة. قال جمع من المفسرين: نزلت في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون. لما حكى بعض قبائح المشركين وسائر الكفرة أراد أن يورد دليلا على التوحيد فأمر رسوله أن يوبخهم بقوله أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي سمعتم ممن تصدّقونهم من أهل الكتاب غيركم أنه خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً عمم الكفر أوّلا ثم خصص بنوع الشرك وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ ومعنى مِنْ فَوْقِها أي بالنسبة إلى سكان المعمورة تذكيرا لنعمة فوق نعمة فإن الجبال منافعها أكثر من أن تحصى يعرف بعضها أهلها ولعلنا قد عددنا في أوّل «البقرة» طرفا منها. وَبارَكَ فِيها بوضع الخيرات الكثيرة فيها. قال ابن عباس: يريد شق الأنهار وخلق الجبال والأشجار والحيوانات وكل ما يحتاج إليه وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها عن مجاهد: يعني المطر فإنه بمنزلة الغذاء للأرض به حياتها. وعن محمد بن كعب: أراد أقوات أهلها ومعايشهم وما يصلحهم. وقيل: لا حاجة إلى الإضمار فإن الإضافة تحسن لأدنى ملابسة أي وقدر فيها أقواتها التي يختص حدوثها بها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يعني مع اليومين الأوّلين فيكون إيجاد نفس الأرض في يومين وإيجاد هذه الأشياء في يومين آخرين والمجموع أربعة أيام وخلق السماء في تتمة ستة فتكون هذه الآية موافقة لسائر الآيات، وقد سبق هذا المعنى في أوّل سورة البقرة. من قرأ سَواءً بالرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو سواء. ثم إن كان الضمير للأربعة فمعناه أن تلك الأيام مستوية في الطول والقصر كأيام خط الاستواء، أو هي تامة غير ناقصة بشيء فقد يطلق لفظ الكل على الأكثر، وهذه إحدى فوائد العدول عن العبارة الصريحة وهي أن لو قال في يومين آخرين. وقال بعضهم: من فوائده أنه لا يجوز عطف قوله وَجَعَلَ على خَلَقَ لأن قوله وَتَجْعَلُونَ معطوف على لَتَكْفُرُونَ ولا يجوز أن يحال بين صلة الموصول وما يعطف عليه بأجنبي لا يقال: جاءني الذي يكتب وجلس ويقرأ فلا بدّ من إضمار فعل مثل الأول فتقدير الكلام: ذلك أن رب العالمين خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام، وهو كلام لا يرد عليه سؤال أصلا. ومن قرأ بالجر فعلى وصف الأربعة بالاستواء والمعنى كما مر. ومن قرأ بالنصب فعلى المصدر أي استوت استواء. ثم إن كان الضمير للأربعة فالمعنى كما قلنا، وإن كان للأقوات. وكذا في قراءة الرفع احتمل أن يكون لِلسَّائِلِينَ متعلقا به أي الأقوات والأرزاق سواء لمن سأل ولمن لم يسأل لما روى عن ابن عباس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا رديفه يقول: خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة، وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة سواء لمن سأل ولمن لم يسأل، وأنا من الذين لم يسألوا الله الرزق، ومن سأل فهو جهل منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 واحتمل أن يكون قوله لِلسَّائِلِينَ متعلقا بقوله وَقَدَّرَ أي قدّر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها وهم في الاحتياج سواء. وقيل: إنه متعلق بمحذوف كأنه قيل: هذا الحصر والبيان لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها، لأن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قوله ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي توجه بداعي الحكمة بعد خلق الأرض لا دحوها إلى خلق السماء، وقد مر في أول «البقرة» . قوله وَهِيَ دُخانٌ ذكر أصحاب الأثر وجاء في أوّل توراة اليهود أن عرش الله قبل خلق السموات والأرض كان على الماء فأحدث في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان، أما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله منه الأرض، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السموات. وزعم المتكلمون أن الله سبحانه خلق الأجزاء التي لا تتجزأ فكانت مظلمة عديمة النور، ثم ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمسا وقمرا وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة فصحت تسمية تلك الأجزاء قبل استنارتها بالدخان، لأنه لا معنى للدخان إلا أنها أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور. واعلم أن ظاهر قوله ثُمَّ اسْتَوى يدل على أن خلق السماء متأخر عن خلق الأرض وقد جاء مثله في آيات أخر. وفي الآثار، إلا أن الواحدي نقل في البسيط عن مقاتل أنه قال: خلق الله السماء قبل الأرض فتأوّل الآية بأن لفظة كان مضمرة أي ثم كان قد استوى كما في قوله تعالى إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ [يوسف: 77] أي إن يكن يسرق. وزيف بأن الجمع بين «ثم» الدال على التأخر وبين إضمار «كان» الدال على التقدم جمع بين النقيضين. ويمكن أن يجاب بأن «ثم» هاهنا لترتيب الأخبار. وقال الإمام فخر الدين الرازي: المختار عندي أن تكوين السماء مقدم على تكوين الأرض والخلق الوارد في الآية بمعنى التقدير كقوله خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] فإن إيجاد الموجود محال. فمعنى الآية أنه قضى بحدوث الأرض في يومين أي حكم بأنه سيحدث كذا في مدة كذا. قلت: لو لم يكن قوله تعالى وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها إلى قوله أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لكان هذا التأويل له وجه. وقال بعض الصوفية: خلق أرض البشرية في يومي الهواء والطبيعة وهما من الأنداد، وجعل لها رواسخ العقل من فوقها لتستقر بها، وبارك فيها بالحواس الخمسة، وقدر فيها أقواتها من سائر القوى البشرية في تتمة أربعة أيام يعني في يومي الروح الحيواني والطبيعي، ثم استوى إلى سماء القلب وهي دخان نار الروحانية فقضى سماء القلب أطوارا سبعة كقوله وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً [نوح: 15] أوّلها الوسوسة ثم الهواجس ثم الرؤية ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: 11] ثم الحكمة «ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه» ثم ظهور المغيبات ثم المحبة ثم التجلي في يومي الروح والإلهام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 الرباني. قوله فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا الآية. للمفسرين فيه قولان: الأول إجراء الكلام على ظاهره فإنه ليس بمستبعد من الله إنطاق أيّ جسم فرض بل إيداع الحياة والفهم فيه ولهذا قال طائِعِينَ على لفظ جمع المذكر السالم، فإن جمع المؤنث السالم لا يختص بالعقلاء. ووجه الجمع أن أقل الجمع اثنان أو لأن كل واحد منهما سبع. ومن هؤلاء من قال: نطق من الأرض موضع الكعبة، ومن السماء ما بحذائها، فجعل الله لها حرمة على سائر الأرض. وعلى هذا القول لا بد أن يكون هذا التخاطب بعد الوجود فقالوا: معناه ائتيا بما خلقت فيكما أما أنت يا سماء فأطلعي الشمس والقمر والنجوم، وأما أنت يا أرض فاخرجي ما خلقت فيك من النبات فقالتا: جئنا بما أحدثت فينا مستجيبين لأمرك. ومعنى الإتيان الحصول والوقوع كما يقال: أتى عمله مرضيا. ويجوز أن يراد لتأت كل منكما صاحبتها الإتيان الذي تقتضيه الحكمة من كون الأرض قرارا والسماء سقفا لها. وقوله طَوْعاً أَوْ كَرْهاً إظهار لكمال القدرة والتقدير أبيتما أو شئتما كما يقول الجبار لمن تحت يده: لتفعلن هذا شئت أو أبيت، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو كارهين. والقول الثاني أن هذا تمثيل لنفوذ قدرته فيهما ولا قول ثمة، وعلى هذا لا يبعد أن يكون المقصود إيجادهما على وفق إرادته وهما في حيز العدم، وأن يكون المراد ما تقدم. وقال بعضهم: الطوع يرجع إلى السماء لأن أحوالها على نهج واحد لا يختلف. وشبه مكلف مطيع والكره يعود إلى الأرض لأنها مكان تغيير الأحوال ومحل الحوادث والمكاره. قلت: لعل هذين الوصفين لهما باعتبار سكانهما. قوله فَقَضاهُنَّ قضاء الشيء إتمامه والفراغ منه مع الإتقان. والضمير إما راجع إلى السماء على المعنى لأنها سموات سبع. وانتصب سَبْعَ سَماواتٍ على الحال. وإما مبهم مميز بما بعده. يروى أنه خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين، وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم وأسكنه الجنة وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة. وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها أي أمر أهلها من العبادة والتكليف الخاص بكل منهم، فبعضهم وقوف وبعضهم ركوع وبعضهم سجود، وعلى هذا احتمل أن يكون خلق الملائكة مع السموات وقبلها. وقيل: الإيحاء هاهنا التكوين والإيجاد وأمرها شأنها وما يصلحها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ أي بالنيرات المضيئة كالمصباح وَحَفِظْناها حفظا من الشياطين المسترقة للسمع كما مرّ مرارا. وجوّز جار الله أن يكون حِفْظاً مفعولا له على المعنى كأنه قال: وخلقنا المصابيح زينة وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فلكمال عزته قدر على خلق ما خلق ولشمول علمه دبر ما دبر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 ثم قال لنبيه عليه السلام فَإِنْ أَعْرَضُوا عن التوحيد بعد هذا البيان الباهر والبرهان القاهر فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً لأن الإصرار على الجهل بعد وضوح الحق عناد، ولا علاج للمعاند سوى التأديب بما يناسبه. يروى أن أبا جهل قال في ملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان عن أمره. فقال عتبة بن ربيعة: أنا ذاك. فأتاه وقال: أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فبم تشتم آلهتنا وتضللنا. وعرض عليه الرياسة والنساء والأموال إن ترك ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم إلى قوله مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فهال عتبة بذاك وناشده بالرحم ورجع ولم يأت قريشا. فلما احتبس عنهم قالوا: ما نرى عتبة إلا قد صبأ. فانطلقوا إليه فقال: والله لقد كلمته فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ولما بلغ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ناشدته بالرحم أن يكف. ولقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب. فإن قيل: كيف يصح هذا الإنذار وقد أخبر الله سبحانه في قوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] وإن هذه الأمة آمنون من العذاب؟ قلنا: الأنفال مدينة وهذه مكية. قوله إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ قيل: الضميران عائدان إلى الرسل أي جاءهم رسل بعد الرسل. وقيل: من بين أيديهم أي حذروهم الدنيا وَمِنْ خَلْفِهِمْ الآخرة. وقيل: من بين أيديهم الذين عاينوهم، ومن خلفهم الذين وصل إليهم خبرهم وكتبهم. وحقيقة بين يديه أن يستعمل للشيء الحاضر، ومجازه أن يستعمل للشيء الماضي بزمان قريب. وقال بعض المحققين: معناه أتاهم الرسل من كل جهة وأعملوا في إرشادهم كل حيلة أَلَّا تَعْبُدُوا ويجوز أن تكون «أن» مفسرة أو مخففة وضمير الشأن مقدر. والفاء في قوله فَإِنَّا للجزاء كأنه قيل: فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة فانا لا نؤمن بكم. وقولهم رَبُّنا وكذا بما أرسلتم أي على زعمكم، أو أرادوا التهكم. ثم فصل حال كل فريق قائلا فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وهذا إخلال بالشفقة على الخلق وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً لأن الفاعل والعلة أقوى من القابل والمعلول، والقوة في الإنسان نتيجة صحة البنية والاعتدال وحقيقتها زيادة القدرة فلذلك جاز أن يقال: الله أقوى منهم كما صح أن يقال: الله أقدر، الله أكبر. وإن كان لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي. وقوله وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ معطوف على قوله فَاسْتَكْبَرُوا وقالوا: إن التوبيخ المذكور وقع اعتراضا في البين. ثم أخبر عن إهلاكهم والصرصر الريح الباردة الشديدة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 ضوعفت من الصر بالكسر وهو البرد الذي يصر أي يجمع ويقبض، أو من صرير الباب. والتركيب يدور على الضم والجمع. عن ابن عباس أن الله تعالى ما أرسل على عاد من الريح إلا قدر خاتمي ومع ذلك أهلكت الكل. والأيام النحسات هي التي فسرها الله سبحانه في الحاقة سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ [الآية: 7] والنحس بالسكون ضد السعد وهو إما مخفف نحس بالكسر أو هو أصل في نفسه كضخم، أو وصف لمصدر. واستدل به بعض الأحكاميين على أن بعض الأيام يصح وصفه بالسعادة وبعضها يضدها. وأجاب بعض المتكلمين بأن المراد بالنحوسة كونها ذات غبار وتراب وبرد. والإنصاف أنه تكلف خارج عن قانون اللغة. والإضافة في قوله عَذابَ الْخِزْيِ كهي في قولك: رجل صدق. وقوله وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى من الإسناد المجازي فإن الذل والهوان لصاحبه. قوله وَأَمَّا ثَمُودُ مرتفع على الابتداء. قوله فَهَدَيْناهُمْ خبره قال سيبويه: هذا أفصح لأن أما من مظان وقوع المبتدأ بعده. وقرىء بالنصب إضمارا على شريطة التفسير. واتفقوا على أن المراد بالهداية هاهنا الدلالة المجردة لقوله بعده فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى يعني عمى البصيرة وهي الضلالة عَلَى الْهُدى إلا أن المعتزلة تأوّلوه بأنه إنما شاع استعماله في الدلالة المجردة لأنه مكنهم وأزاح علتهم فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها. على أن المراد المعقولة ونقيضها، وقد مر هذا البحث في أول «البقرة» في قوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الآية: 2] وصاعقة العذاب داهيته وقارعته، والهون مصدر بمعنى الهوان وصف به العذاب مبالغة، أو أبدله منه وكسبهم شركهم وتكذيبهم صالحا وعقرهم الناقة. ثم بين أحوال الذين آمنوا واتقوا المعاصي بقوله وَنَجَّيْنَا الآية. وحين بين عقوبتهم في الدنيا أخبر عن عذابهم وعذاب أمثالهم في الآخرة فقال وَيَوْمَ يُحْشَرُ الآية. والعامل فيه «اذكر» محذوفا، أو هو ظرف لما يدل عليه يُوزَعُونَ كأنه قيل: يمنعون يوم يحشر فيحبس أوائلهم حتى يلحق بهم أواخرهم. قال جار الله: هو عبارة عن كثرة أهل النار. قلت: وذلك لأن الإيزاع لا يحتاج إليه إلا عند كثرة العدد كما مر في «النحل» . وما الإبهامية في قوله حَتَّى إِذا ما جاؤُها تفيد التأكيد. وهو أن عند وقت مجيئهم لا بد أن تحصل هذه الشهادة وشهادة الجلود بملامسة ما هو محرم. وعن ابن عباس: المراد شهادة الفروج فيكون كناية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أوّل ما يتكلم من الآدميّ فخذه وكفه» «1» وفيه وعيد شديد في فعل الزنا لأن مقدمته تحصل بالكف ونهايته تكون بمساعدة الفخذ. قوله أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ من العمومات المخصوصة أي ممن يصح النطق منه. والمراد أن القادر على خلقكم   (1) رواه أحمد في مسنده (4/ 151) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 وإنطاقكم في المرة الأولى في الدنيا، ثم خلقكم وإنطاقكم مرة أخرى، وثالثة في القبر وفي القيامة، كيف يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء؟ وقد مر تمام البحث في «يس» . عن ابن مسعود قال: كنت مستترا بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر ثقفيان وقرشيّ فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال آخر: إذا رفعنا أصواتنا يسمع وإلا لم يسمع. وقال الآخر: إن كان يسمع إذا رفعنا أصواتنا يسمع إذا خفضنا. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ الآية. وذلك أنهم كانوا يستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب القبائح فقيل لهم: ما كان استتاركم ذلك خفية أن تشهد عليكم جوارحكم هذه، لأن ذلك غير ممكن فإنها متصلة بكم وهي أعوانكم ومع ذلك لم يكن استتاركم في اعتقادكم أنها تشهد عليكم ولكنكم استترتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما كنتم تعملون وهو الخفيات من أعمالكم. وفيه ردّ على بعض الجهلة الذين يستخفون من الناس ولا يمكنهم الاستخفاء من الله، وفيه تنبيه على أن المؤمن يجب عليه أن يكون في أوقات خلواته أهيب لربه وأوفر احتشاما ومراقبة. ثم أخبر فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ولا ينتج الصبر لهم فرجا وخلاصا وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا يطلبوا من الله الرضا عنهم فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أي من المرضيين. والمراد أنهم باقون في مكروههم أبدا، سكتوا أو نطقوا. قال الضعيف مؤلف الكتاب: إذا كان هذا وعيد من ظن أنه يمكن إخفاء بعض الأعمال من الله بالأستار والحجب فما ظنكم بوعيد من جزم أنه سبحانه غير عالم بالجزئيات نعوذ بالله من هذا الاعتقاد والله أعلم. تم الجزء الرابع والعشرون ويليه الجزء الخامس والعشرون أوله: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ ... الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الخامس والعشرون من أجزاء القرآن الكريم [سورة فصلت (41) : الآيات 25 الى 54] وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 القراآت: ربنا أرنا بسكون الراء: ابن كثير وابن عامر وأبو بكر ورويس أبو عمرو بالاختلاس. الآخرون: بكسر الراء. الذين بتشديد النون: ابن كثير. يلحدون بفتح الياء والحاء: حمزة. الباقون: بضم الياء وكسر الحاء أعجمي بهمزة واحدة: هشام. وقرأ بتحقيق الهمزتين: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص إلا الخزاز. الباقون: بالمد ثَمَراتٍ على الجمع: أبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص والمفضل. شركاي مثل من وراي على وزن عَصايَ قد مر في سورة مريم إلى ربي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وَنَأى بِجانِبِهِ وقد مر في سورة سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى. الوقوف: وَالْإِنْسِ ج للإبتداء بأن مع احتمال كونه جواب القسم في حق خاسِرِينَ هـ تَغْلِبُونَ هـ يَعْمَلُونَ هـ النَّارُ ج لأن ما بعده يصلح مستأنفا وحالا أي كائنا لهم فيها دارُ الْخُلْدِ ج يَجْحَدُونَ هـ الْأَسْفَلِينَ هـ تُوعَدُونَ هـ وَفِي الْآخِرَةِ ج لانقطاع النظم بتقدير الجار مع اتحاد المقول تَدَّعُونَ هـ ط لحق المحذوف أي أصبتم أو وجدتم نزلا رَحِيمٍ هـ الْمُسْلِمِينَ هـ السَّيِّئَةُ ط حَمِيمٌ هـ صَبَرُوا ج لاتفاق الجملتين مع تكرارها للتوكيد عَظِيمٍ هـ بِاللَّهِ ط الْعَلِيمُ هـ وَالْقَمَرُ ط الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 تَعْبُدُونَ هـ يَسْأَمُونَ هـ سجدة اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ط الْمَوْتى ط قَدِيرٌ هـ عَلَيْنا ط الْقِيامَةِ ط شِئْتُمْ هـ لا ليكون ما بعده دالا على أنه أمر تهديد بَصِيرٌ هـ لَمَّا جاءَهُمْ ج لأن خبر أن محذوف فيتقدر هاهنا أو بعد قوله مِنْ خَلْفِهِ كما يجيء عَزِيزٌ هـ لا لاتصال الصفة مِنْ خَلْفِهِ ط حَمِيدٍ هـ مِنْ قَبْلِكَ ط أَلِيمٍ هـ آياتُهُ ط وَعَرَبِيٌّ ط وَشِفاءٌ ط عَمًى ط بَعِيدٍ هـ فِيهِ ط بَيْنَهُمْ ط مُرِيبٍ هـ فَعَلَيْها ط لِلْعَبِيدِ هـ السَّاعَةِ ط بِعِلْمِهِ ط ج شُرَكائِي لا لأن قالُوا عامل يَوْمَ آذَنَّاكَ لا لأنه في معنى القول وقع على الجملة بعده مِنْ شَهِيدٍ هـ ج للآية مع العطف مَحِيصٍ هـ الْخَيْرِ ز لاختلاف الجملتين إلا أن مقصود الكلام يتم بهما قَنُوطٌ هـ هذا لِي لا تحرز إعمالا يقوله مسلم قائمة كذلك لَلْحُسْنى هـ ج لابتداء الأمر بالتوكيد مع فاء التعقيب عَمِلُوا إمهالا للتذكر في الحالتين مع اتفاق الجملتين غَلِيظٍ هـ بِجانِبِهِ ج فصلا بين تناقض الحالين مع اتفاق الجملتين عَرِيضٍ هـ بَعِيدٍ هـ الْحَقُّ ط شَهِيدٌ هـ رَبِّهِمْ ج مُحِيطٌ هـ. التفسير: لما ذكر وعيد الكفار أردفه بذكر السبب الذي لأجله وقعوا في ذلك الكفر. ومعنى قَيَّضْنا سببنا لهم من حيث لا يحتسبون أو قدرنا أو سلطنا وأصله من القيض وهو البدل، والمقايضة المعاوضة كأن القرينين يصلح كل منهما أن يقوم مقام الآخر. والقرناء إخوانهم من الشياطين جمع قرين فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وهو الدنيا وما فيها من الشهوات وَما خَلْفَهُمْ وهو الآخرة بأن لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب وقيل: ما بين أيديهم أعمالهم التي عملوها، وما خلفهم ما عزموا على فعله وزينوا لهم فعل مفسدي زمانهم والذين تقدم عصرهم. والآية على مذهب الأشاعرة واضحة. وقالت المعتزلة: معناها أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين. ومعنى فِي أُمَمٍ كائنين في جملة أمم وقد مر في أوائل لاعراف كانوا يقولون إذا سمعتم القرآن من محمد فارفعوا أصواتكم باللغو وهو الساقط من الكلام فنزلت وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية. يقال: لغى بكسر الغين يلغى بالفتح، ولغا يلغو فلهذا قرىء بالضم أيضا، والمقصود أنهم علموا أن القرآن كلام كامل لفظا ومعنى، وكل من سمعه ووقف على معانيه وأنصف حكم بأنه واجب القبول فدبروا هذا التدبير الفاسد وهو قول بعضهم لبعض لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ إذا قرىء وتشاغلوا عن قراءته برفع الصوت بالمكاء والهذيان والرجز لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ القارئ على قراءته فلا يحصل غرضه من التفهيم والإرشاد. وحين حكى حيلتهم ذكر وعيدهم بقوله فَلَنُذِيقَنَّ الآية. والمضاف في قوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 أَسْوَأَ محذوف أي جزاء أسوأ الذي ولذلك أشار اليه بقوله ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ وقوله النَّارُ بدل من الجزاء أو خبر مبتدأ مضمر. ودارُ الْخُلْدِ موضع المقام. قال الزجاج: هو كما يقول لك في هذه الدار دار السرور وأنت تعني الدار بعينها وقد وضع قوله بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ موضع أن لو قال بما كانوا يلغون إقامة للسبب مقام المسبب ثم حكى عنهم ما سيقولون في النار وهو قولهم رَبَّنا أَرِنَا أي أبصرنا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وذلك أن الشياطين ضربان: جني وإنسي، وقد ورد في القرآن كثيرا، وقيل: هما إبليس الذي سن الكفر، وقابيل الذي سن القتل. ومن قرأ بسكون الراء فلثقل الكسرة. وقد يقال: معناه إذ ذاك أعطناه. وحكوا عن الخليل أنك إذا قلت أرني ثوبك بالكسر فمعناه بصرنيه، وإذا قلت بالسكون فهو بمعنى الإعطاء ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء وأصله الإحضار. نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا أي نطأهما إذلالا وإهانة لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ الأذلين وقيل: في الدرك الأسفل. وتأوله بعض حكماء الإسلام بأنهما الشهوة والغضب المشار إليهما في قوله أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30] كأنهم سألوا توفيق أن يجعلوا القرينين تحت قدم النفس الناطقة. وحين أطنب في الوعيد أردفه بالوعد على العادة المستمرة فقوله رَبُّنَا اللَّهُ إشارة إلى العلوم النظرية التي هذه المسألة رأسها وأصلها. وقوله ثُمَّ اسْتَقامُوا إشارة إلى الحكمة العملية وجملتها الاستقامة على الوسط دون الميل إلى أحد شقي الإفراط والتفريط كما سبق تقرير ذلك في تفسير قوله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 5] ومعنى «ثم» تراخي الاستقامة في الرتبة عن الإقرار، وفيه أن حصول العلوم النظرية بدون القسم العملي كشجرة بلا ثمرة. وقال أهل العرفان: قالوا ربنا الله يوم الميثاق في عالم الأرواح، ثم استقاموا على ذلك في عالم الأشباح. وعن أبي بكر الصديق: معناه لم يلتفتوا إلى إله غيره. تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ عند الموت أو عنده وفي القبر وفي القيامة. و «أن» مفسرة أو مخففة. ولقد فسرنا الخوف والحزن مرارا والإبشار لازم. قال الجوهري: يقال بشرته بمولود فأبشر إبشارا. وقوله أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا إشارة إلى رفع المضار في المآل وفي الحال. وقوله وَأَبْشِرُوا إخبار عن حصول المنافع. وقوله نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يقابل قوله وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فللملائكة تأثيرات في الأرواح بالإلهامات الحسنة والخواطر الشريفة كما للشياطين تأثيرات بإلقاء الوساوس والهواجس، وقد تقدم في أول الكتاب في تفسير الاستعاذة. وإذا كانت هذه الولاية ثابتة في الدنيا بحكم المناسبة النورية كانت بعد الموت أقوى وأظهر لزوال العلائق الجسمانية. وقيل: في الحياة الدنيا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 بالاستغفار. وَفِي الْآخِرَةِ بالشفاعة. وقيل: كنا نحفظكم في الدنيا ولا نفارقكم في الآخرة حتى تدخلوا الجنة وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ يعني الحظوظ الجسمانية وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ أي تمنون من المواهب الروحانية، وقد مر في «يس» سائر الوجوه. والنزل ما يهيأ للضيف وقد مر. وفي ذكر الغفور الرحيم هاهنا مناسبة لا تخفى. قال أهل النظم إن القوم لما أتوا بأنواع السفاهة والإيذاء كقولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ [البقرة: 88] لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ حرض سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على مواظبة التبليغ والدعوة واحتمال أعباء الرسالة والتزام السيرة الفاضلة إظهارا لمزيته على الجهال وتحصيلا للغرض بالرفق واللطف ما أمكن فقال وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا ووجه آخر في النظم وهو أنه لما مدح الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وذكر جزاءهم وهم أهل الكمال، أراد أن يبين حال المشتغلين بتكميل الناقصين. زعم بعض المفسرين أن المراد بهذا الدعاء الأذان، والعمل الصالح الصلاة بين الأذان والإقامة، ورفعوه إلى عائشة. والأصح أنه عام لجميع الأئمة والدعاة إلى طاعة الله وتوحيده، ولا ريب أن مصطفاهم ومقتداهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وبعده العلماء بالله وهم الحكماء المتألهون، وبعدهم العلماء بصفات الله وهم الأصوليون، ثم العلماء بأحكام الله وهم الفقهاء، ثم الملوك العادلون الذين يدعون إلى الله بالسيف والسبب. وفي الاستفهام الإنكاري دلالة على أنه لا قول أحسن من الدعاء إلى الله فمن زعم أنه الأذان ذهب إلى أنه واجب وإلا لكان الواجب أحسن منه. ونوقض بأنا نعلم بالدلائل اليقينية أن الدعوة إلى الدين القويم بالحجة أو السيف أحسن من الأذان فلا يدخل الأذان تحت الآية. قال جار الله: ليس معنى قوله وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أنه تكلم بهذا الكلام، ولكن المراد أنه جعل دين الإسلام مذهبه ومعتقده كما تقول: هذا قول أبي حنيفة. وقال آخرون: أراد به التلفظ به تفاخرا بالإسلام وتمدحا. وزعموا أن فيه إبطال قول من جوز: أنا مسلم إن شاء الله. فإنه لو كان ذلك معتبرا لورد في الآية كذلك ولا يخفى ضعفه، فإن التجويز غير الإيجاب. ثم صبر رسوله صلى الله عليه وسلم على سفاهة الكفار وعلمه الأدب الجميل في باب الدعاء أي الدين بل في مطلق أمور التمدن فقال وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ «لا» زائدة لتأكيد نفي الاستواء، والمعنى لا تستوي الحسنة والسيئة قط ومثالهما الإيمان والشرك والحلم والغضب والطاعة والمعصية واللطف والعنف ثم إن سائلا كأنه سأل: فكيف نصنع؟ فأجيب ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فإن الحسنة أحسن من السيئة كما يقال: الصيف أحر من الشتاء وذهب صاحب الكشاف إلى أن «لا» غير مزيدة والمعنى أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة. مثاله: رجل أساء إليك فالحسنة أن تعفو عنه والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إسائته. قال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 ومن جعل «لا» مزيدة فالقياس على تفسيره أن يقال: ادفع بالتي هي حسنة. ولكنه وضع أحسن موضع الحسنة ليكون أبلغ لأن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما هو دونها. قال العارفون: الحسنة التوجه إلى الله بصدق الطلب، والسيئة الالتفات إلى غيره. فَإِذَا الَّذِي إذا فعلت ذلك انقلب عدوك وليا مصافيا. قال مقاتل: نزلت في أبي سفيان وكان مؤذيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصار يتحاب بعد ذلك لما رأى من لطف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعطفه. ثم مدح هذه السيرة وأهلها بقوله وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أي لا يعمل بها إلا كل صبار على تجرع المكاره. وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من قوة جوهر النفس الناطقة بحيث لا يتأثر من الواردات الخارجية، وقد يفسر الحظ العظيم بالثواب الجزيل. وعن الحسن: ما عظم حظ دون الجنة. ثم ذكر طريقا آخر في دفع الغضب والانتقام قائلا وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ وقد مر في آخر الأعراف. والمعنى إن صرفك الشيطان عما أمرت به فاستعذ بالله من شره وإنما قال هاهنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بالفصل وتعريف الخبر ليكون مناسبا لما تقدّمه من قوله وَما يُلَقَّاها مؤكدا بالتكرار وبالنفي والإثبات ولم يكن هذا المقتضى في الأعراف فجاء على أصل الاسم معرفة والخبر نكرة. وحين ذكر أن أحسن الأقوال هو الدعوة إلى الله بين الدلائل على وجوده فقال وَمِنْ آياتِهِ إلخ. والضمير في خَلَقَهُنَّ للآيات أو الليل وما عطف عليه. ولم يغلب المذكر لأن ذلك قياس مع العقلاء. وفي قوله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ تزييف لطريقة الصابئين وسائر عبدة الكواكب جهلا منهم وزعما أنها الواسطة بين الخلق والإله، فنهوا عن هذا التوسيط لأن ذلك مظنة العبادة المستقلة لرفعة شأنها وارتفاع مكانها، وهذا بخلاف التوجه في الصلاة إلى القبلة فإن الحجر قلما يظن به أنه معبود بالحق والجزم حاصل بأنه لتوحيد متوجهات المصلين عند صلاتهم مع أن للبيت شرفا ظاهرا في نفسه فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس والقمر فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ عندية بالشرف والرتبة وهم الملائكة المقربون يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي على الدوام والاستمرار وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ من السامة والملالة. والحاصل أنهم إن لم يمتثلوا ما أمروا به ونهوا عنه وأبوا إلا الواسطة فدعهم وشأنهم فإن ربك لا يعدم عابدا مخلصا. ولما فرغ من تقرير الآيات السماوية شرع في الدلائل الأرضية فقال وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً وأصل الخشوع التذلل فاستعير للأرض التي لا خضرة بها ولا نفع كما وصفها بالهمود وقد مرّ في سورة الحج، وذلك أنها إذا اهتزت وربت أي انتفخت حين يهم النبت بالخروج منها كانت بمنزلة المختال في زيه وهي قبل ذلك كالفقير الكاسف البال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 المتلبس بثوب أطمار. وبعد تقرير الدلائل الباهرة ذكر وعيد الملحدين في آياته المنحرفين عن الجادة والوعيد قوله لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا وكفى به وعيدا. ثم أكده بالاستفهام على سبيل التقرير وهو قوله أَفَمَنْ يُلْقى إلخ. وقوله يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف لآمنا أو ليأتي. ثم هددهم بقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إلخ. ثم أبدل من قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ أي القرآن لأنهم بكفرهم به طعنوا فيه وحرفوا معانيه، وعلى هذا فالخبر هو ما تقدم من قوله لا يَخْفَوْنَ وإنه كلام مستأنف. وعلى هذا فاختلفوا في خبر «إن» . فالأكثرون على أنه أُولئِكَ يُنادَوْنَ وما بينهما اعتراض من تتمة الذكر. وقيل: خبره ما يقال إذ التقدير ما يقولون لك. وقيل: هو محذوف. ثم اختلفوا فقال قوم: إن الذين كفروا بالذكر كفروا لما جاءهم. وقال آخرون: هلكوا أو يجازون بكفرهم ونحو ذلك، وهذا يمكن تقديره بعد قوله لَمَّا جاءَهُمْ وبعد قوله مِنْ خَلْفِهِ وبعد قوله حَمِيدٍ والعزيز معناه الغالب القاهر بقوة حجته على ما سواه من الكتب، والمراد أنه عديم النظير لأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته. ثم أكد هذا الوصف بقوله لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ قال جار الله: وهو تمثيل أي لا يتطرق البطلان إليه بجهة من الجهات فلا ينقص منه شيء ولا يزاد عليه شيء. وقيل: أراد أنه لا تكذبه الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل ولن يجيء بعده ما يخالفه. وقد يحتج أبو مسلم بالآية على عدم وقوع النسخ في القرآن زعما منه أن النسخ نوع من البطلان، ولا يخفي ضعفه فإن بيان انتهاء حكم لا يقتضي إبطاله فإنه حق في نفسه ومأمور به في وقته. تَنْزِيلٌ أي هو منزل مِنْ إله حَكِيمٍ في جميع أفعاله حَمِيدٍ إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه. ثم سلى نبيه عليه السلام بقوله ما يُقالُ لَكَ وفيه وجهان: أحدهما ما يقول لك كفار قريش إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من المطاعن فيهم وفي كتبهم. إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ للمحقين وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ للمبطلين، ففوض الأمر إلى الله واشتغل بما أمرت به من الدعاء إلى دينه. وثانيهما ما يقول لك الله إلا مثل ما قال لغيرك من الرسل من الصبر على سفاهة الأقوام وإيذائهم. ويجوز أن يكون المقول هو قوله إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخشاه أهل عصيانه. كانوا يقولون: لولا أنزل القرآن بلغة العجم تعنتا منهم فأجابهم الله بقوله وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا معترضين منكرين لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أي بينت بلسان نفهمه. أقرآن أعجمي ورسول عربي أو مرسل إليه عربي؟ وإنما جاز هذا التقدير الثاني مع أن المرسل إليهم كثيرون وهم غير أمة العرب، لأن الغرض بيان تنافر حالتي القرآن، والذين أنزل القرآن إليهم من العجمية والعربية لا بيان أنهم جمع أو واحد كما تقول: وقد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة اللباس طويل واللابس قصير. ولو قلت: واللابسة قصيرة جئت بما هو أفضل. ومن قرأ بغير همزة الاستفهام فعلى حذفها أو على الإخبار بأن القران أعجمي والرسول أو المرسل إليه عربي، والغرض أنهم لعنادهم لا ينفكون عن المراء والاعتراض سواء كان القرآن عربيا أو أعجميا. وفيه إفحام لهم وجواب عن قولهم قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ فإن القرآن إذا كان بلغتهم وهم فصحاء وبلغاء فكيف لا يفهمونه إلا إذا كان هناك مانع إلهي ولذلك قال قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ لداء الجهل وَالَّذِينَ أي وللذين لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وهذا التقدير عند من يجوز العطف على عاملين، ومن لم يجوز زعم أن الرابط محذوف تقديره: والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر أو في آذانهم منه. وقرأ والذين لا يؤمنون به إلخ. والحاصل أنهم لعدم انتفاعهم بالقرآن كأنهم صم عمي. ثم أكد هذا المعنى بقوله أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ فلهذا لا يسمعون النداء أي مثلهم كمثل الشخص الذي ينادي من بعد فلا يسمع، وإن سمع لم يفهم. ثم شبه حال القرآن بحال الكتب المتقدمة في أنها اختلف فيها كما اختلف فيه إلا أنه خص كتاب موسى بالذكر لكثرة أحكامه وعجيب قصته. والكلمة السابقة هي العدة بالقيامة وتأخر العذاب والقضاء بين المصدقين والمكذبين إلى وقتئذ. ثم ذكر أن جزاء كل أحد يختص به سواء كان له أو عليه وأن الله لا يظلم أحدا ثم كان لسائل أن يسأل: متى القيامة التي يتعلق بها الجزاء فقال إِلَيْهِ لا إلى غيره يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي إذا سأل عنها. قيل: لا يعلمها إلا هو. ثم عمم بعد هذا التخصيص وذكر مثالين يعرف منهما أن علم جميع الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا له سبحانه. والكم بكسر الكاف وعاء الثمرة. ثم ذكر من أحوال القيامة طرفا آخر فقال وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي وهو نداء تهكم أو توبيخ كما مر مرارا قالُوا آذَنَّاكَ قال ابن عباس: أي أسمعناك من أذن بالكسر أذنا بالفتح إذا استمع. وقال الكلبي: أعلمناك قال الإمام فخر الدين الرازي: هو بعيد لأن أهل القيامة يعلمون أنه تعالى يعلم الأشياء علما واجبا، فالإعلام في حقه محال. قلت: لو أريد أظهرنا معلومك أين الاستبعاد؟ والمعنى ظهر وحصل في الواقع من جهة قولنا ما كان ثابتا في علمك القديم أنا سنقوله كقوله وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا [آل عمران: 142] أي لم يحصل بعد معلومه في الواقع وقد مر. وقولهم آذَنَّاكَ ماض في معنى المستقبل على عادة القرآن أو إنشاء للإيذان أو إخبار عما قيل لهم قبل ذلك فإنه يمكن أن يعاد عليهم هذا الاستفهام مرات لمزيد التوبيخ. ومعنى ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ليس منا من يشهد اليوم بأنهم شركاؤك لأنا عرفنا عيانا أنه لا شريك لك. أو هو كلام الشركاء أحياها الله وأنطقها فتبرأ مما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 أضيف إليها من الشركة. ومعنى الضلال على هذا التفسير عدم النفع، ويجوز أن يراد ما منا من أحد يشاهدهم لأنهم غابوا عنا. ومعنى يَدْعُونَ يعبدون. والظن بمعنى اليقين، والمحيص المهرب. وحين بين أن الكفار تبرؤا في الآخرة من شركائهم بعد أن كانوا مصرين في الدنيا على عبادتهم، بين أن الكفار تبدله في حالاته كلي أو أكثري. ففي حالة الإقبال لا يسأم من طلب الجاه والمال، في حالة الإدبار يصير في غاية اليأس والانكسار، وإن عاودته النعمة بعد يأسه فلا بد أن يقول هذا إنما وجدته باستحقاق لي وهذا لا يزول عني ويبقى علي وعلى عقبي وأنكر البعث، وعلى فرض وجوده زعم بل جزم أن له عند الله الحالة الحسنى قائسا أمر الآخرة على أمر الدنيا، ونظير الآية ما سبق في سورة الكهف وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً [الآية: 36] فلا جرم خيب الله أمله وعكس ما تصوره بقوله فَلَنُنَبِّئَنَّ وحين حكى قول الكافر أخبر عن أفعاله بقوله وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ أي تعظم وتجبر. وقد سلف في «سبحان» . واستعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه، وقد يستعار الطول لكثرة الدعاء ودوامه أيضا وإن لم يكن الشيء ذا جزم كما استعير الغلظ لشدة العذاب. فإن قيل: كيف قال أولا فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ ثم قال فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ؟ قلنا: أراد أنه يؤس بالقلب دعاء باللسان، أو قنوط من الصنم دعاء الله، أو الأول في قوم والثاني في آخرين. ولما ذكر مرات في السورة مبالغة الكفار في العداوة والنفرة من اتباع الرسول والقرآن أرشدهم إلى طريق أحوط مما فيه فقال قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية. وتقريره أنكم كما سمعتم القرآن أعرضتم عنه ثم كفرتم به حتى قلتم قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: 5] لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ومن المعلوم أن هذا ليس ببديهي فقبل الدليل يحتمل أن يكون صحيحا وحينئذ يلزم أن يكون بعدم قبوله العقاب الأبدي. وقوله مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ من وضع الظاهر مقام المضمر وهو منكم بيانا لبعد شوطهم في الشقاق والخلاف قاله في الكشاف. وأقول: جواب الشرط بالحقيقة محذوف وهو قوله مثلا فمن أضل منكم. وإنما قال في الأحقاف وَكَفَرْتُمْ [الآية: 10] بالواو لأن معناه في السورة كان عاقبة أمركم بعد الإمهال للنظر الكفر فحسن دخول «ثم» مع أنها تفيد التراخي في الرتبة، وهناك عطف عليه قوله وَشَهِدَ شاهِدٌ فلم يحسن إلا الواو. ثم بين أن الإسلام يعلو ولا يعلى وأن الغلبة والنصرة تكون لذويه فقال سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وهي الفتوح الواقعة على أيدي الخلفاء الراشدين والتي ستقع على أيدي أنصار دينه إلى يوم القيامة. وَفِي أَنْفُسِهِمْ وهي فتح مكة وسائر الفتوح التي وجدت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ أي محمدا أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 القرآن أو الدين الْحَقُّ ووجه التبين أن هذا إخبار عن الغيب فإذا وقع مطابقا دل على صدق المخبر بل إعجازه. وواحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض والسماء. وعند المحققين الآيات الآفاقية هي الخارجة عن حقيقة الإنسان وبدنه كالأفلاك والكواكب والظلم والأنوار والعناصر والمواليد سواه. ولا ريب أن العجائب المودعة في هذه الأشياء مما لا نهاية لها، وإنما يوقف عليها حينا بعد حين. وقد أكثر الله تعالى من تقرير تلك الدلائل في القرآن، بعضها في السور المكيات وكثير منها في المدنيات، والآيات النفسية هي التي أودعها في تركيب الإنسان وفي ربط روحه العلوي ببدنه السفلي كقوله وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] وفي قوله سَنُرِيهِمْ دلالة على أن رؤية الأدلة إنما تكون بإراءة الله. قال جار الله: معنى قوله أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ هو أن هذه الآيات الموعودة تكفيهم دلالة على أن القرآن منزل من عالم الغيب المطلع على كل شيء. وقال حكماء الإسلام: أراد بقوله أَوَلَمْ يَكْفِ توبيخ من ليس له رتبة الاستدلال بنفس الوجود على واجب الوجود، فإن هذا هو طريقة الصديقين، وأما غيرهم فإنهم يستدلون بالممكن على الواجب فيفتقرون إلى النظر في الآفاق. وقال أهل المعرفة: النظر في الآفاق لأجل العوام والأنفس للخواص وقوله أَوَلَمْ يَكْفِ لخواص الخواص. وقيل: أو لم يكف الإنسان من الزاجر والرادع عن المعاصي كون الله شهيدا عليهم. وقيل: أراد أنه لا يخلف ما وعد لاطلاعه على الأشياء كلها. ثم ختم السورة بتوبيخ الشاكين في أمر البعث وبالنعي عليهم وأوعدهم بأنه عالم بكل شيء فيجازي كلا على حسب ما يستحقه والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 (سورة حمعسق وهي مكية إلا أربع آيات قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلى آخرهن حروفها ثلاثة آلاف وثمانية وثمانون كلمها ثمانمائة وست وستون آياتها ثلاث وخمسون) [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 23] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 القراآت: يوحي على البناء للمفعول: ابن كثير وعباس يكاد بالياء التحتانية: نافع وعلي تنفطرن بالنون: أبو عمرو وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد والمفضل إبراهام كنظائره. يبشر الله مخففا من البشارة: ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعلي. الوقوف: حم عسق كوفي مِنْ قَبْلِكَ ط لمن قرأ يوحى مجهولا كأنه قيل: من الموحي فقال الله أي هو الله الْحَكِيمُ هـ فِي الْأَرْضِ ط الْعَظِيمُ هـ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ط الرَّحِيمُ هـ عَلَيْهِمْ ز والوصل أوجه لأن نفي ما بعده تقرير لإثبات ما قبله بِوَكِيلٍ هـ لا رَيْبَ فِيهِ ط السَّعِيرِ هـ رَحْمَتِهِ ط نَصِيرٍ هـ أَوْلِياءَ ج للفصل بين الاستخبار والأخبار مع دخول الفاء الْمَوْتى ط فصلا بين المقدور المخصوص وبين القدرة على العموم مع اتفاق الجملتين قَدِيرٌ هـ إِلَى اللَّهِ ط أُنِيبُ هـ وَالْأَرْضِ ط أَزْواجاً الثاني ط لأن ضمير فِيهِ يحتمل أن يعود إلى الأزواج الذي في مدلول الأزواج أو إلى التدبير وإن لم يسبق ذكره فِيهِ ط شَيْءٌ ج لعطف الجملتين المختلفتين الْبَصِيرُ هـ وَالْأَرْضِ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال والعامل معنى الفعل في له أو في الملك. وَيَقْدِرُ ط عَلِيمٌ هـ فِيهِ ط إِلَيْهِ ط يُنِيبُ هـ بَيْنَهُمْ ط كذلك ما بعده ط مُرِيبٍ هـ فَادْعُ ج كَما أُمِرْتَ ج أَهْواءَهُمْ ج كِتابٍ ج كل ذلك للترتيل في القراءة وإن اتفقت الجملتان بَيْنَكُمُ ط وَرَبُّكُمْ ط أَعْمالُكُمْ ط وَبَيْنَكُمُ ط بَيْنَنا ج الْمَصِيرُ هـ شَدِيدٌ هـ وَالْمِيزانَ ط قَرِيبٌ هـ بِهَا ج لعطف الجملتين المختلفتين مِنْها ج للعطف أو الحال الْحَقُّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 ط بَعِيدٍ هـ مَنْ يَشاءُ ج لاحتمال عطف وهو على جملة قوله اللَّهُ لَطِيفٌ وهما متفقتان الْعَزِيزُ هـ فِي حَرْثِهِ ج لعطف جملتي الشرط نَصِيبٍ هـ بِهِ اللَّهُ ط بَيْنَهُمْ ط أَلِيمٌ هـ بِهِمْ ط الْجَنَّاتِ ط لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال رَبِّهِمْ ط الْكَبِيرُ هـ الصَّالِحاتِ ط فِي الْقُرْبى ط حُسْناً ط شَكُورٌ هـ. التفسير: الكلام في حم كما سبق وأما عسق فقد قيل: إنه مع حم اسم للسورة. وقيل: رموز إلى فتن كان عليّ يعرفها. وقيل: الحاء حكم الله، والميم ملكه، والعين علمه، والسين سناؤه، والقاف قدرته. وقيل: الحاء حرب علي ومعاوية، والميم ولاية المروانية، والعين ولاية العباسية، والسين ولاية السفيانية، والقاف قدرة المهدي. وهذه الأقاويل مما لا معول عليها. وقال أهل التصوف: حاء حبه، وميم محبوبية محمد، وعين عشقه، وقاف قربه إلى سيده. أقسم أنه يوحي إليه وإلى سائر الأنبياء من قبله أنه محبوبه في الأزل وبتبعيته خلق الكائنات. والأولى تفويض علمها إلى الله كسائر الفواتح. وإنما فصل حم من عسق حتى عدا آيتين خلاف كهيعص [مريم: 1] لتقدم حم قبله واستقلالها بنفسها، ولأن جميعها ذكر الكتاب بعدها صريحا إلا هذه فإنها دلت عليه دلالة التضمن بذكر الوحي الذي يرجع إلى الكتاب. روي عن ابن عباس أنه لا نبي صاحب كتاب إلا أوحى الله إليه حم عسق والله أعلم بصحة هذه الرواية. والأظهر أن يقال: مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك والى الأنبياء قبلك. والمراد المماثلة في أصول الدين كالتوحيد والعدل والنبوة والمعاد وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في الآخرة كقوله إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الأعلى: 18، 19] وفي ورود لفظ يُوحِي مستقبلا لا ماضيا إشارة إلى أن إيحاء مثله عادته. ثم بين سعة ملكه وأخبر عن غاية جلاله بقوله لَهُ ما فِي السَّماواتِ إلخ. ثم أخبر عن فظاعة ما ارتكبه أهل الشرك فقال تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ وقد سبق في آخر سورة مريم. ومعنى مِنْ فَوْقِهِنَّ أن الانفطار يبتدىء من أعلى السموات أو ما فوقها من العرش والكرسي إلى أن ينتهي إلى السفلي، وفي الابتداء من جهة الفوق زيادة تفظيع وتهويل. قال جار الله: كأنه قيل يتفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهن. وقيل: معناه من الجهة التي حصلت هذه السموات فيها وفيه ضعف لأنه كقول القائل: السماء فوقنا. وقيل: الضمير للأرض وقد تقدم ذكرها أي من فوق الأرضين وروى عكرمة عن ابن عباس: يتفطرن من ثقل الرحمن. فإن صحت الرواية كان في الظاهر دليل المجسمة. ولأهل السنة أن يتأولوا الثقل بالهيبة والجلال أو يقدروا مضافا محذوفا أي من ثقل ملائكة الرحمن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 كقوله صلى الله عليه وسلم «أطت السماء أطا وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد.» «1» ثم انتقل من وصف الجسمانيات إلى ذكر الروحانيات، وأنهم بالوجه الذي لهم إلى عالم الأرواح يسبحون وبالوجه الذي لهم إلى عالم الأجسام يستغفرون فقال وَالْمَلائِكَةُ قيل: هو عام. وقيل: حملة العرش كما مر في أول سورة المؤمن إلا أنه عمم هاهنا فقال لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي يطلبون أم لا يعاجل الله أهل الأرض بالعذاب طمعا في توبة الكفار والفساق منهم. وقيل: هو مخصوص بما مر أي يستغفرون للمؤمنين منهم. ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن المشركين إنما يحاسبهم الله وما عليك إلا البلاغ. قوله وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا قال ابن بحر: هو الكلام الأول أعيد لما اعترض بين الكلامين ما اعترض. وقال جار الله: الكاف مفعول به لأوحينا، وَكَذلِكَ إشارة إلى المذكور قبله من أن الله هو عليهم الرقيب وما أنت عليهم برقيب. وقد كرر الله هذا المعنى في كتابه في مواضع. وقُرْآناً عَرَبِيًّا حال. والمعنى مثل ذلك المذكور أوحينا إليك وهو قرآن عربي بين لا لبس فيه ليفهم معناه ولا يتجاوز حد الإنذار. ويجوز أن يكون كَذلِكَ إشارة إلى الإيحاء أي كما أوحينا إلى الرسل قبلك وأوحينا إليك، فيجوز أن تكون المماثلة بالحروف المفردة وأن تكون بأصول الدين كما مر. قال أهل اللغة: يقال أنذرته كذا وبكذا. فمن الاستعمال الثاني قوله لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى أي أهل مكة على حذف المضاف، والمفعول الثاني وهو القرآن محذوف. ومن الاستعمال الأول قوله وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ والمفعول الأول محذوف وتنذر الناس يوما تجمع فيه الخلائق أو يجمع فيه بين الأرواح والأجساد أو بين كل عامل وعمله. قلت: ومن الجائز أن يكون الكل من الاستعمال الأول ولا حذف إلا ان قوله وَتُنْذِرَ يكون مكررا للمبالغة والتقدير الأصلي: لتنذر أم القرى يوم الجمع. وقد مر في القصص في قوله حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها [الآية: 59] أن مكة لم سميت أم القرى. وقوله وَمَنْ حَوْلَها يحتمل عموم أطراف الأرض لأن مكة في وسطها، ويحتمل أن يكون المراد به سائر جزيرة العرب ويدخل باقي الأمم بالتبعية أو بنص آخر كقوله وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ: 28] وقوله لا رَيْبَ فِيهِ اعتراض لا محل له أو صفة للجمع بناء على أن التعريف الجنسي قريب من النكرة. وقوله فَرِيقٌ مبتدأ محذوف الخبر أي منهم فريق كذا ومنهم فريق كذا، أي هذا مآل حالهم بعد الحشر والاجتماع. ثم بين بقوله وَلَوْ شاءَ اللَّهُ إلخ. أن السعادة والشقاوة والهداية والضلالة متعلق   (1) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب 9 ابن ماجه في كتاب الزهد باب 19 أحمد في مسنده (5/ 173) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 بمشيئته وإرادته. وهذا على مذهب أهل السنة ظاهر، وتأوله المعتزلة بمشيئة القسر والإلجاء، وقد مر نظائره مرارا. والظاهر أن المراد بكونهم أمة واحدة أن يكونوا مسلمين كلهم. وقيل: أن يكونوا أهل ضلالة قياسا على قوله وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [الزخرف: 33] ثم أنكر على أهل الشرك بأم المنقطعة قائلا أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ إن أرادوا أولياء بحق فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ الذي يجب أن يعتقد أنه المولى والسيد لا ولي سواه ومن شأنه أنه يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وهو الحقيق بأن يتخذ وليا. وحين منع الرسول صلى الله عليه وسلم من التحزن على من كفر أراد أن يمنع المؤمنين من الاختلاف والتنازع فقال وَمَا اخْتَلَفْتُمْ والتقدير: قل يا محمد كذا بدليل قوله ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي الآية. والمراد أن الذي اختلفتم أنتم والكفرة فيه من أمور الدين فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله وهو إثابة المحقين ومعاقبة المبطلين. وقيل: وما اختلفتم فيه فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] وقيل: وما اختلفتم فيه من الآيات المتشابهات فارجعوا في بيانه إلى المحكمات أو إلى الظاهر من السنة. وقيل: ما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بالتكاليف فقولوا: الله أعلم كمعرفة الروح وغيره. قال في الكشاف: ولا يندرج فيه اختلاف المجتهدين لأن الاجتهاد لا يجوز بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم. قلت: إن لم يجز بحضرته فإنه جائز بعده. وقوله وَمَا اخْتَلَفْتُمْ شامل لجميع الأمة إلى يوم القيامة مثل يا أَيُّهَا النَّاسُ ومثل أَقِيمُوا الصَّلاةَ والأظهر أن اختلافهم يدخل فيه، وأن المراد بحكمه تعريفه من بيان الله سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس أو بالاجتهاد. فإن قيل: المقصود من التحاكم قطع الاختلاف ولا قطع مع القياس ولا مع الاجتهاد. قلنا: إذا كان القياس مأمورا به وكذا الاجتهاد بل يكون كل مجتهد مصيبا، كانت المخالفة في حكم الموافقة ولهذا قال «اختلاف أمتي رحمة» ثم وصف نفسه بأوصاف الكمال ونعوت الجلال تأكيدا لصحة أحكامه فقال فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهو أحد أخبار ذلكم أو خبر مبتدأ محذوف. ومعنى وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أنه خلق للأنعام أيضا من أنفسها أزواجا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يكثركم في هذا التدبير وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا حتى حصل بين الذكور والإناث التوالد والتناسل. والضمير في يَذْرَؤُكُمْ راجع إلى المخاطبين وإلى الأنعام وهو من الأحكام ذوات العلتين، وذلك أن فبه تغليبين تغليب المخاطبين على الغائبين وهم من سيوجد إلى يوم القيامة، وتغليب العقلاء على غيرهم. وعلة الأول الخطاب، وعلة الثاني العقل. وإنما قال يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ولم يقل به لأنه جعل التدبير منبعا ومعدنا للتكثير كقوله وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179] ولأن حروف الجر يقام بعضها مقام البعض ومعنى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ نفي المثلية عنه بطريق الالتزام وذلك أنه لو كان له مثل والله تعالى شيء لكان مثل مثله شيء وهو خلاف نص المخبر الصادق وهذا المحال إنما لزم من فرض وجود المثل له فوجود المثل محال وهو المطلوب، ولعل هذا التقرير مختص بنا. قال في الكشاف: إنه من باب الكناية كقولهم: مثلك لا يبخل. يعنون أنت لا تبخل. وكذا هاهنا يريد ليس كالله شيء. وجوز أن يكون تكرير حرف التشبيه للتأكيد. وقد يستدل بالآية على نفي الجسمية ولوازمها عنه تعالى لأن الأجسام متماثلة في حقيقة الجسمانية. قوله لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له مفاتيح خزائنها وقد مر في الزمر والباقي واضح وقد سبق أيضا. وحين عظم وحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بقوله كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ إلى آخره ذكر تفصيل ذلك فقال شَرَعَ لَكُمْ أي أوجب وبين لأجلكم مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وهو أقدم الأديان بعد الطوفان وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وهو ختمها وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى وهي الملل المعتبرة المتوسطة. ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأكابر من رسله فيه بقوله أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ الحنيفي ومحله نصب بدلا من مفعول شَرَعَ أو رفع على الاستئناف كأنه قيل: وما ذلك المشروع؟ فقيل: هو إقامة الدين. يعني إقامة أصوله من التوحيد والنبوة والمعاد ونحو ذلك دون الفروع التي تختلف بحسب الأوقات لقوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48] وفي بناء الكلام على الغيبة ثم الالتفات إلى التكلم في أَوْحَيْنا والخطاب في إِلَيْكَ تفخيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم حكى حسد أهل الشرك بقوله كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أي شق وعظم عليهم ما تدعوهم إليه من الدين المبرأ من عبادة غير الله. ثم أجاب عن شبهتهم بأن الاجتباء والاصطفاء يتعلق بمشيئة الله لا بتمني كل واحد ولا بكثرة المال والجاه. يقال: اجتباه إليه أي اصطفاه لنفسه، والتركيب يدل على الجمع والضم، ويحتمل أن يراد يجتبي إلى الدين. ثم أخبر عن وقت تفرق كلمة أهل الكتاب وعن سبب ذلك فقال وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ ببعث محمد صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته كقوله في آل عمران وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [الآية: 19] وقيل: وما تفرق الأمم الذين تقدم ذكرهم إلا بعد العلم بصحة ما أمروا به. قال أهل البرهان: لما ذكر مبدأ كفرهم وهو قوله إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ حسن ذكر نهاية إمهالهم وهو قوله إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ليكون محدودا من الطرفين. وإنما ترك ذكر النهاية في السورة المتقدمة لعدم ذكر البداية وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ هم العرب ورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتابين كتابهم أوهم أهل الكتاب المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: جاءهم أسباب العلم فلم ينظروا فيها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 لأنه حكم عليهم في آخر الآية بأنهم في شك من كتابهم وهو مع العلم غير مجتمعين فَلِذلِكَ أي فلأجل تشعب الملل وتفرق الكلم فَادْعُ إلى الملة الحنيفية. وقيل: اللام بمعنى «إلى» والإشارة إلى القرآن وَاسْتَقِمْ عليها كما أمرت وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ المختلفة وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ أي كِتابٍ كان وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي في التبليغ أو إذا تحاكمتم إليّ حتى لا أفرق بين نفسي ونفس غيري. ثم أشار إلى ما هو أصل في الدين فقال اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا جزاء أَعْمالُنا وَلَكُمْ جزاء أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ وليس المراد منه تحريم المحاجة فإنه لولا الأدلة لما توجه التكليف بل المراد أنهم بعد أن وقفوا على الحجج الباهرة والدلائل الظاهرة على حقية دين الإسلام لم يبق معهم حجة لسانية وإنما بقي السيف. وقيل: إنه منسوخ بآية القتال وقوله اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا إشارة إلى المهاجرة التي اقتضاها إصرارهم على الباطل وتفويض للأمر إلى المجازي المنتقم. ثم أخبر عن وعيد المخاصمين في أمر دين الله مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ أي من بعد ما استجاب له الناس وقبلوا دينه، أو بعد ما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ أي باطلة زائلة عِنْدَ رَبِّهِمْ وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون: كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فأنتم أولى باتباعنا. وأيضا أنتم تقولون الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه، ونبوة موسى وحقية التوراة متفق عليها ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم مختلف فيها. والجواب أن نبوّة موسى إنما صحت بالمعجزة فإن كانت المعجزة في حقه مصححة للنبوة ففي حق محمد صلى الله عليه وسلم كذلك وإلا فأنتم القادحون في نبوة نبيكم أيضا. ثم حث على سلوك طريقة العدل حذرا من عقاب يوم القيامة فقال اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ أي جنسه متلبسا بالغرض الصحيح وَالْمِيزانَ أي أنزل العدل والسوية في كتبه أو ألهم اتخاذ الميزان. وقيل: هو العقل. وقيل: الميزان نفسه وذلك في زمن نوح. وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم يقضي بينهم بالكتاب وَما يُدْرِيكَ يا محمد أو أيها المكلف لَعَلَّ السَّاعَةَ أي مجيئها قَرِيبٌ أو ذكر بتأويل البعث أو الحشر ونحوه، أو أراد شيء قريب. ومتى كان الأمر كذلك وجب على العاقل أن يجتهد في أداء ما عليه من التكاليف. ولا يتأنى في سلوك سبيل الإنصاف مع الخالق والخلق فإنه لا يعلم أن القيامة متى تفاجئه. ثم قبح طريقة منكري الساعة فقال يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها يقولون على سبيل السخرية: متى تقوم الساعة؟ وليتها قامت حتى تظهر لنا جلية الحال. ثم مدح المقربين بأنهم يخافون القيامة هيبة من الله وإجلالا له أو حذرا من تقصير وخلل وقع في العمل إلا أن خوفهم يجب أن يكون ممتزجا بالرجاء، وقد مر تحقيقه مرارا. ثم هدد الشاكين المجادلين في أمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 البعث بقوله أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ وأصله من المرية الشك لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الصواب لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب على فضله أو في حكمه، ولأن في إنكاره نسبة الله سبحانه إلى ضد العلم والقدرة. ثم إنه لا ريب في أن إنزال الكتاب والميزان لطف من الله على خلقه فلذلك قال اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ عمم البر ثم خصص بقوله يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ يعني الزائد على مقدار الضرورة، فلكم من إنسان فاق أقرانه في المال أو الجاه أو الأولاد أو في العلم أو في سائر أسباب المزية إلا أن أحدا منهم لا يخلو من بره الذي يتعيش به كقوله أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] وقيل: معنى لطيف يرزقهم من حيث لا يعلمون، أو يلطف بهم فلا يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا. وقد مر معناه في الأنعام بوجه آخر في قوله وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الآية: 103] وأما قوله الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ففيه إشارة إلى أن لطفه مقرون بقهره. وحين ذكر أنه يرزق من يشاء الزائد على مقدار كفايته وكان فيه كسر قلوب أرباب الضنك والضيق جبر كسرهم بقوله مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ سماه حرثا تشبيها للعامل الطالب لثواب الآخرة أضعافا مضاعفة بالزارع الذي يلقي البذر في الأرض طلبا للزيادة والنماء، ومن فضائل حرث الآخرة أن طالبها قد يحصل له الدنيا بالتبعية ويرى ثواب عمله أضعافا مضاعفة، وطالب الدنيا لا تحصل له المطالب بأسرها ولهذا قال نُؤْتِهِ مِنْها أي بعض ذلك وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ قط وفي زيادة لفظ الحرث فائدة أخرى وهي أن يعلم أن شيئا من القسمين لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاق. عن النبي صلى الله عليه وسلم «من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه همه وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله همه وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة» «1» هذا لفظه أو لفظ هذا معناه. وعن قتادة إن الله يعطي الدنيا على نية الآخرة ولا يعطي الآخرة على نية الدنيا. وفي ظاهر اللفظ دلالة على أن من صلى لطلب الثواب أو لدفع العقاب فإنه تصح صلاته لأنه صلى لأجل ما يتعلق بالآخرة. قال بعض أصحاب الشافعي: إذا توضأ بغير نية لم يصح لأن هذا الإنسان غفل عن الآخرة وعن ذكر الله، والخروج عن عهدة الصلاة من باب منافع الآخرة فلا يحصل بالوضوء العاري عن النية، وحيث بين القانون الأعظم والقسطاس الأقوم في أعمال الدارين نبه على أحوال الضلال بقوله أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ وهي المنقطعة عند بعضهم. وقال آخرون: هي المعادلة لألف الاستفهام تقديره أفيقبلون ما شرع الله لهم   (1) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 30 ابن ماجه في كتاب الزهد باب 2 الدارمي في كتاب المقدمة باب 32 أحمد في مسنده (4/ 183) [ ..... ] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 من الدين أم لهم آلهة. شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ أي لم يأمرهم به أو لم يعلمه كقوله أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ [يونس: 18] والأذن بالفتح العلم بالمسموعات وتحقيقه شرعوا ما ليس بشريعة إذ لو كان شريعة لعلمها الله وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي القضاء السابق بتأخير الجزاء لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ والضمير للمؤمنين والكافرين أو المشركين والشركاء تَرَى الظَّالِمِينَ في القيامة مُشْفِقِينَ خائفين مِمَّا كَسَبُوا من الجرائم وَهُوَ أي وبال ذلك واقِعٌ بِهِمْ واصل إليهم لا محالة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ أي منتزهاتها. قالت الأشاعرة: فيه دليل على أن غيرها من الأماكن في الجنة لغير المذكورين وغيرهم ليس إلا الذي آمن ولم يعمل صالحا وهو الفاسق. ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون إضافة الروضات إلى الجنات من إضافة العام إلى الخاص فيكون الجنات كلها روضات، ولكن الروضات قد لا تكون في الجنة لثبوتها في الدنيا. والفضل الكبير قد تقدم في «فاطر» . ذلِكَ المذكور أو الثواب أو التبشير هو الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ به عِبادَهُ ثم حذف الجار، ثم الراجع إلى الموصول، ثم أمر رسوله بأن يقول لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على هذا التبليغ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ الكائنة فِي الْقُرْبى جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها ولهذا لم يقل «مودة القربى» أو «المودة للقربى» وهي مصدر بمعنى القرابة أي في أهل القربى وفي حقهم. فإن قيل: استثناء المودة من الأجر دليل على أنه طلب الأجر على تبليغ الوحي وذلك غير جائز كما جاء في قصص سائر الأنبياء ولا سيما في «الشعراء» . وقد جاء في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أيضا قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ: 47] وقُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86] والمعقول منه أن التبليغ واجب عليه وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بالمروءة. وأيضا أنه يوجب التهمة ونقصان الحشمة. قلنا: إن من جعل الآية منسوخة باللتين لا استثناء فيهما فلا إشكال عليه، وأما الآخرون فمنهم من قال: الاستثناء متصل ولكنه من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب والمعنى لا أطلب منكم أجرا، إلا هذا وهو في الحقيقة ليس أجرا لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب ولا سيما في حق الأقارب كما قال عز من قائل وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [الرعد: 21] ومنهم من قال: الاستثناء منقطع أي لا أسألكم عليه أجرا البتة، ولكن أذكركم المودة في القربى، وفي تفسير الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أربعة أقوال: الأول قال الشعبي: أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 ذلك فأجاب بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واسطة النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد كان بينهم وبينه قرابة فقال الله: قل لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجرا إلا أن تودوني لقرابتي منكم يعني أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذونني ولا تهيجوا عليّ. القول الثاني: روى الكعبي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تنوبه نوائب وحقوق وليس في يده سعة فقال الأنصار: إن هذا الرجل قد هداكم الله على يده وهو ابن أختكم وجاركم في بلدكم، فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا. ثم أتوه فرده عليهم ونزلت الآية بحثهم على مودة أقاربهم وصلة أرحامهم. القول الثالث: عن الحسن: إلا أن توددوا إلى الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح. الرابع: عن سعيد بن جبير: لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم لقرابتك؟ فقال: علي وفاطمة وابناهما. ولا ريب أن هذا فخر عظيم وشرف تام، ويؤيده ما روي أن عليا رضي الله عنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسد الناس فيه فقال: أما ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذرياتنا خلف أزواجنا وعنه صلى الله عليه وسلم «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة» وكان يقول «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» «1» وثبت بالنقل المتواتر أنه كان يحب عليا والحسن والحسين، وإذا كان ذلك وجب علينا محبتهم لقوله فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] وكفى شرفا لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخرا ختم التشهد بذكرهم والصلاة عليهم في كل صلاة. قال بعض المذكرين: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها غرق» وعنه صلى الله عليه وسلم «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» فنحن نركب سفينة حب آل محمد صلى الله عليه وسلم ونضع أبصارنا على الكواكب النيرة أعني آثار الصحابة لنتخلص من بحر التكليف وظلمة الجهالة ومن أمواج الشبه والضلالة. ثم أكد إيصال الثواب على المودة بقوله وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً أي يكتسب طاعة، قال بعض أهل اللغة: الاقتراف مستعمل في الشر فاستعاره هاهنا للخير. عن السدي أنها المودة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت في أبي بكر الصديق ومودته فيهم، والظاهر العموم في كل حسنة ولا شك أن هذه مرادة قصدا أوليا لذكرها عقيبها. ومعنى زيادة حسنها تضعيف ثوابها إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن أذنب شَكُورٌ لمن أطاع الله والله أعلم.   (1) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب 12، 16 مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث 93، 94 أبو داود في كتاب النكاح باب 12 الترمذي في كتاب المناقب باب 60 ابن ماجه في كتاب النكاح باب 56 أحمد في مسنده (4/ 5، 326) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 [سورة الشورى (42) : الآيات 24 الى 53] أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 القراآت: ما تَفْعَلُونَ على الخطاب: حمزة وعلي وحفص يُنَزِّلُ الْغَيْثَ بالتشديد: أبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم ينزل بالتخفيف: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بما كسبت بدون فاء الجزاء: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون فَبِما كَسَبَتْ بالفاء الجواري بالياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وأفق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو في الوصل. وقرأ قتيبة ونصير وأبو عمرو بالإمالة. الرياح نافع. على الجمع: أبو جعفر ونافع. ويعلم الذين بالرفع: ابن عامر وأبو جعفر ونافع. الباقون: بالنصب كبير الإثم على التوحيد: حمزة وعلي وخلف. أو يرسل بالرفع فَيُوحِيَ بالإسكان: نافع وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الآخرون: بالنصب فيهما. الوقوف: كَذِباً ج للشرط مع فاء التعقيب قَلْبِكَ ط لأن ما بعده مستأنف بِكَلِماتِهِ ط الصُّدُورِ هـ تَفْعَلُونَ هـ لا فَضْلِهِ ط شَدِيدٌ هـ يَشاءُ ط بَصِيرٌ هـ رَحْمَتَهُ ط الْحَمِيدُ هـ دابَّةٍ ط قَدِيرٌ هـ كَثِيرٍ هـ فِي الْأَرْضِ ط وَلا نَصِيرٍ هـ كَالْأَعْلامِ هـ ط عَلى ظَهْرِهِ ط شَكُورٍ هـ لا كَثِيرٍ هـ لا لمن رفع وَيَعْلَمَ ومن نصب فوقفه مجوز آياتِنا ط مَحِيصٍ هـ الدُّنْيا ج لعطف جملتي الشرط، ويحتمل أن يكون الوقف مطلقا بناء على أن الثانية أخبار مستأنف يَتَوَكَّلُونَ هـ ط يَغْفِرُونَ هـ ج الصَّلاةَ ص لانقطاع النظم واتصال المعنى واتحاد المقول بَيْنَهُمْ ص لذلك يُنْفِقُونَ هـ ج يَنْتَصِرُونَ هـ مِثْلُها ج عَلَى اللَّهِ ط الظَّالِمِينَ هـ سَبِيلٍ هـ ط الْحَقِّ ط أَلِيمٌ هـ الْأُمُورِ هـ بَعْدِهِ ط مِنْ سَبِيلٍ هـ ج للآية مع العطف خَفِيٍّ ط الْقِيامَةِ ط مُقِيمٍ هـ مِنْ دُونِ اللَّهِ ط سَبِيلٍ ط مِنَ اللَّهِ ط نَكِيرٍ هـ حَفِيظاً ط الْبَلاغُ ط بِها ج كَفُورٌ هـ وَالْأَرْضِ ط ما يَشاءُ ط الذُّكُورَ هـ لا وَإِناثاً ج لاحتمال ما بعده العطف والاستئناف أي وهو يجعل عَقِيماً هـ قَدِيرٌ هـ ما يَشاءُ ط حَكِيمٌ هـ أَمْرِنا ط عِبادِنا ط مُسْتَقِيمٍ هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط الْأُمُورُ هـ. التفسير: لما ذكر في أول السورة أن هذا القرآن إنما حصل بوحي الله وانجر الكلام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 إلى هاهنا حكى شبهة القوم وهي زعمهم أنه مفترى وليس بوحي فقال أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى قال جار الله: «أم» منقطعة، ومعنى الهمزة فيه التوبيخ كأنه قيل: أيتمالكون أن ينسبوا مثله إلى أعظم أنواع الفرية وهو الافتراء على الله، ثم أجابهم بقوله فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ أي يجعلك من المختوم على قلوبهم فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم. والغرض المبالغة في استبعاد الافتراء من مثله والتعريض بأن من ينسبه إلى الافتراء فهو مختوم على قلبه. وقيل: لأنساك ما أتاك من القرآن ولكنه لم يشأ فأثبته فيه، وقيل: لأماتك فإن قلب الميت كالمختوم عليه ومثله لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 46] قاله قتادة. وقال مجاهد ومقاتل: يربط على قلبك بالصبر على أذاهم فلا يدخل قلبك حزن مما قالوه. ثم استأنف فقال وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ أي من عادته ذلك فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم مبطلا لفضحه وكشف عن باطله، وحذف الواو من الخط لا للجزم كما في قوله وَيَدْعُ الْإِنْسانُ [الإسراء: 11] سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18] وفي تفسير الجبائي أن الواو حذف للجزم، والمعنى إن افتريت ختم على قلبك ومحا الباطل المفترى، فالاستئناف على هذا من قوله وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ [يونس: 82] أي يثبت ما هو الحق في نفسه بوحيه أو بقضائه. ويجوز أن يكون وعدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب ويظهر الحق الذي أنت عليه وهو القرآن بحكمه السابق وبعلمه القديم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فيجازي المبطل والمحق على حسب حاليهما وحين وبخهم على البهت والتكذيب ندبهم إلى التوبة وعرفهم أنه يقبلها من كل مسيء والآية واضحة مما سلف تارات ولا سيما في أوائل البقرة في توبة آدم. أما الضمير في قوله وَيَسْتَجِيبُ فعائد إلى الله سبحانه وأصله ويستجيب لهم فحذف الجار، والمراد أنه إذا دعوه استجاب لهم وأعطاهم ما طلبوا وزادهم على مطلوبهم تفضلا. وقيل: لا ضمير فيه وإنما الظاهر بعده فاعله. قال سعيد بن جبير: أراد أن المؤمنين يجيبونه إذا دعاهم. وعن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قيل: ما بالنا ندعو فلا نجاب؟ قال: لأنه دعاكم فلم تجيبوه وقرأ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا [يونس: 25] وحيث وعد الاستجابة للمؤمنين كان لسائل أن يقول: إنا نرى المؤمن في شدة وبلية وفقر ثم إنه يدعو الله فلا يشاهد أثر الإجابة فلا جرم قال وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي ظلم بعضهم بعضا وعصوا الله. وهذه ليست بقضية كلية دائمة ولكنها أكثرية، فإن المال معين قوي على تحصيل المطالب ودفع ما لا يلائم النفس، وإذا كانت الآلة موجودة وداعية الشر في طبع الإنسان مجبولة فقلما لا يقع مقتضاه في الخارج وأيضا إن أكثر الناس إنما يخدم مثله ويتسخره طمعا في ماله أو جاهه التابع للمال غالبا، فلو تساويا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 في المال استنكف كل منهما من الانقياد لصاحبه فارتفعت رابطة التعاون وانقطعت سلسلة التمدن، وقيل: إن الآية نزلت في العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا وأغار بعضهم على بعض ولبعضهم شعر قوم إذا نبت الربيع بأرضهم ... نبتت عداوتهم مع البقل وقال محمد بن جرير: نزلت في أصحاب الصفة تمنوا سعة الرزق والغنى. وقوله بِقَدَرٍ أي على قدر المصلحة ووفق حال الشخص كقوله وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21] وحين بين أن حكمته اقتضت عدم توسيع الرزق على كل الخلق أراد أن يبين أنه لا يترك ما يحتاجون إليه وإن بلغ أمرهم إلى حد اليأس والقنوط فقال وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ الآية. ونشر الرحمة عموم المطر الأرض أو هي عامة في كل رحمة سوى المطر وَهُوَ الْوَلِيُّ الذي يتولى أمور عباده الْحَمِيدُ على كل ما يفعله. ولا ريب أن هذه من جملة دلائل القدرة فلذلك عطف عليها قوله وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ومحل قوله وَما بَثَّ إما مجرور عطفا على السموات أو مرفوع عطفا على خلق. وإنما قال فِيهِما مِنْ دابَّةٍ مع أن الدواب في الأرض وحدها لأن الشيء قد ينسب إلى جميع المذكور وإن كان متلبسا ببعضه كما يقال: «بنو فلان فعلوا كذا» ولعله قد فعله واحد منهم فقط. ويجوز أن يكون للملائكة مع الطيران مشى فيتصفوا بالدبيب كالإنسان، أو يكون في السموات أنواع أخر من الخلائق يدبون كما يدب الحيوان في الأرض. وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ أي إحيائهم بعد الموت إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ وإذا يدخل على الماضي ومعنى الاستقبال في يَشاءُ يعود إلى تعلق المشيئة لا إلى نفس المشيئة القديمة. ثم بين حال المكلفين وأن ما يصيبهم من ألم ومكروه وبلاء فهو عقوبة للمعاصي التي اكتسبوها، وأن الله يعفو عن كثير من الذنوب أو الناس فلا يعاجلهم بالعقوبة رحمة أو استدراجا. قال الحسن: أراد إقامة الحدود على المعاصي وأنه لم يجعل لبعض الذنوب حدا. وقيل: إن هذه في يوم القيامة فإن الدنيا دار تكليف لا دار جزاء. ولقائل أن يقول: كون الجزاء الأوفى على الإثم مخصوصا بالقيامة لا ينافي وصول بعض الجزاء إلى المكلف في الدنيا، ولهذا قال علي رضي الله عنه: هذه أرجى آية للمؤمنين في كتاب الله. وذلك أنه تعالى قسم ذنوب المؤمنين صنفين: صنف يكفره عنهم بالمصائب، وصنف يعفو وهو كريم لا يرجع في عفوه، نعم لو عكست القضية وقيل ما كسبت أيديكم فإنه يصيبكم به ألم وعذاب في الدنيا لكان هذا منافيا لكون الجزاء في الآخرة ولحصول العفو أيضا. روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: ما عفا الله عنه. فهو أعز وأكرم من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 أن يعود إليه في الآخرة وما عاقب عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يعيد عليه العذاب في الآخرة. قال أهل التناسخ: لولا أن الأطفال والبهائم لهم حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة ما كانوا ليتألموا فإنهم لا ذنوب لهم الآن. وأجيب بالتزام أنهم لا يتألمون من المصائب والآلام وفيه بعد، وبأن الخطاب في الآية لذوي العقول البالغين، وبأنها في البالغين عقوبة أو زيادة درجة، وفي الأطفال مثوبة لهم أو لوالديهم. ثم خاطب المشركين بقوله وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ الآية ثم ذكر دليلا آخر قائلا ومن آياته الجواري أي السفن الجواري فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي كالجبال في العظم. ولا شك أن جريانها بواسطة هبوب الرياح فلذلك قال إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ أي فيصرن واقفة على ظهر ماء البحر إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على البلاء شَكُورٍ على الآلاء أو صبار في السفينة شكور إذا خرج منها أَوْ أن يشأ يُوبِقْهُنَّ أي يهلك السفينة بما فيها بالغرق أو الكسر لعصوف الريح وغيره بِما كَسَبُوا من كفران نعم الله وعصيانه وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ من الذنوب فلا يجازي عليها في الدنيا ولا في الآخرة. والحاصل أنه إن يشأ يسكن الريح فتبقى الجواري واقفة على متن البحر، أو أن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على طريق العفو عنهم. من رفع وَيَعْلَمَ فعلى الاستئناف، ومن نصب فللعطف على تعليل محذوف أي لينتقم منهم ويعلم قاله في الكشاف. وقال الكوفيون ومنهم الزجاج: النصب بإضمار «أن» لأن قبلها جزاء. تقول: ما تصنع أصنع وأكرمك. ووجهه أن هذا في تأويل المصدر معطوف على مصدر أصنع مقدرا. ثم استأنف قوله ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي لا مهرب للمجادلين عن عقابه. ثم رغب المكلفين عن الدنيا وفي الدنيا وفي الآخرة وقد مر نظيره في القصص إلا أنه ذكر هاهنا أن هذه الخيرية تحصل للموصوفين بصفات إحداها الإيمان، والثانية التوكل على الرب، والثالثة الاجتناب عن الكبائر والفواحش كقوله إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: 31] إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ [الأعراف: 33] ومن قرأ كبير على التوحيد فللجنس، وفسره ابن عباس بالشرك، الرابعة الغفران عند الغضب «وهم» تأكيد للضمير أو مبتدأ ما بعده خبره. قال بعض العلماء: يحتمل أن يراد بالكبائر ما يتعلق بالبدع والعقائد الفاسدة وهي من فساد القوة العقلية، وبالفواحش فساد القوة الشهوية، وبالأخيرة ما يتعلق بالقوة الغضبية. قال المفسرون: نزل قوله وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ في الأنصار دعاهم الله ورسوله إلى التوحيد فأطاعوا ورضوا بقضائه وواظبوا على الصلوات الخمس، وكانوا قبل الإسلام متشاورين في كل أمر دهمهم غير منفردين برأي، والشورى مصدر كالفتيا، والمضاف محذوف أي ذو التشاور. وليس بين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 قوله هُمْ يَنْتَصِرُونَ أي ينتقمون وبين قوله يَغْفِرُونَ منافاة، فإن هذه أخص من الأولى إذ البغي هو الذي يؤدي إلى الفساد ولا يصير عفوه سببا لتسكين ثائرة الفتنة ولرجوع الجاني عن جنايته، ويجوز أن يتوجه المدح في الانتصار إلى كون المظلوم بحيث يراعي حد الشرع ولا يتجاوزه حتى لو زاد عليه لم يكن منتصرا ولا يستحق المدح، فهذه خمس صفات أخرى للراغبين في الدار الآخرة. ثم بين أن شرعة الانتصار مشروطة برعاية المماثلة فقال وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها حتى لو قال أخزاه الله لا يزيد في الجواب عليه شيئا. وسمى الثاني سيئة ازدواجا للكلام أو لأن السيئة هي التي يكرهها الإنسان طبعا كالقصاص والقطع وسائر الحدود. وقد لا يمكن رعاية المماثلة كما في قتل الأنفس بنفس واحدة أو كقطع الأيدي بواحدة إذا تعاونوا على قطعها ذلك في الفقه. وإنما عرف ذلك بنص آخر أو بقياس جلي. ثم حث مع ذلك على العفو والصبر قائلا فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ ما بينه وبين خصمه بالإغضاء والعفو فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فإن الانتصار حسن في نفسه ولا سيما إذا كان فيه مصلحة دينية كزجر وارتداع إلا أن العفو أحسن لأنه لا يكاد يؤمن في الانتصار والتجاوز عن حد الاعتدال ولهذا حذر منه بقوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له أجر على الله فليقم فيقوم خلق فيقال لهم: ما أجركم على الله؟ فيقولون: نحن الذين عفونا عمن ظلمنا. فيقال لهم: ادخلوا الجنة بإذن الله» ثم كرر أن الانتصار لا يؤاخذ به ولا سبيل للوم إليه لئلا يظن أن وعد الأجر على العفو يقتضي قبح الانتصار في نفسه فقال وَلَمَنِ انْتَصَرَ الآية. وقوله بَعْدَ ظُلْمِهِ من إضافة المصدر إلى المفعول والباقي واضح إلى قوله الْأُمُورِ وإنما أدخل اللام في الخبر خلاف ما في لقمان لأن الصبر على المكروه الذي هو ظلم أشد من الصبر على الذي ليس بظلم، وتكرير الحث على الصبر لمزيد التأكيد أيضا، ثم ذكر أن الإضلال والهداية التي هي نقيضه إنما تتعلق بمشيئته. والمعتزلة يتأولون الإضلال بالخذلان أو بالإضلال عن طريق الجنة. ثم حكى أن الكفار عند معاينة عذاب النار يتمنون الرجعة إلى الدنيا، ثم عقبه بذكر حالهم حين يعرضون على النار. الخشوع بمعنى الهوان ولهذا علق بقوله مِنَ الذُّلِّ وقد يعلق ب يَنْظُرُونَ أي لهذا السبب يبتدىء نظرهم من تحريك أجفانهم وهو ضعيف فإن الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها، وقد يفسر الطرف الخفي بمعنى البصيرة بناء على أن الكفار يحشرون عميا فلا ينظرون إلا بقلوبهم والأكثرون أجابوا عنه فقالوا: لعلهم يكونون في الابتداء هكذا ثم يجعلون عميا، أو لعل هذا في قوم وذاك في قوم. ثم حكى قول المؤمنين فيهم ويَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف ل خَسِرُوا كما في «الزمر» فيحتمل أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 يكون قول المؤمنين فيه أو في الدنيا. وجوز في الكشاف أن يكون ظرفا لقال. والنكير الإنكار أي ما لكم من مخلص ولا من قدرة أن تنكروا شيئا مما دوّن في صحائف أعمالكم أو مالكم من ينكر علينا حتى يغير شيئا من أحوالكم. ثم سلى نبيه بقوله فَإِنْ أَعْرَضُوا ثم ذكر سبب إصرارهم على عقائدهم الفاسدة وهو الضعف الذي جبل عليه الإنسان من البطر عند الغنى، والفراغ في زمن الصحة، والأمن في زمن الكفران، ونسيان نعم الله عند البلاء. وإنما جمع قوله وَإِنْ تُصِبْهُمْ لأن الإنسان جنس يشمل أهل الغفلة كلهم. وقوله فَإِنَّ الْإِنْسانَ من وضع الظاهر موضع الضمير وفائدته التسجيل على أن هذا الجنس من شأنه ذلك إلا إذا أدّب النفس وراضها. ثم بين كمال قدرته بقوله لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية. والمقصود أن الإنسان لا يغتر بما يملكه من الجاه والمال ولا يعتقد أنه حصل بجد أوجده فيعجب به ويعرض عن طاعة ربه. ثم ذكر من أقسام تصرفه في ملكه أنه يخص البعض من الحيوان بالأولاد الإناث، والبعض بالذكور، والبعض بالصنفين، والبعض يجعله عديم الولد. وقدم ذكر الإناث تطييبا لقلوب آبائهن أو لأنهن مكروهات عند العرب فناسب أن يقرن اللفظ الدال عليهن باللفظ الدال على البلاء. أو لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء الإنسان فكان ذكر الإناث التي هي من جملة ما لا يشاء الإنسان أهم. وفيه نقل الإنسان من الغم إلى الفرح. ولا ريب أن هذا أولى من العكس. وفيه أن الإنسان إذا رضي بالأنثى فإذا أعطاه الذكر علم أنه فضل من الله. وفيه أن العجز كلما كان أتم كانت عناية الله بحاله أوفر. ثم أراد أن يتدارك تأخيرهم وهم أحقاء بالتقديم فعرف الذكور لأنه مع رعاية الفاصلة تنويه وتشهير كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام. ثم قال أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً فأعطى كلا الجنسين حقه. ونصبهما على الحال، والضمير للأولاد أو على المفعولية، والضمير لمن يشاء أي يجمع لهم كلا الصنفين سواء كانا متساويين في العدد أم لا. وقيل: معناه أن تلد ذكرا وأنثى في بطن واحد قاله ابن الحنفية. وعن ابن عباس أن الآية نزلت في الأنبياء، وهب لشعيب ولوط أناثا، ولإبراهيم عليه السلام ذكورا، ولمحمد صلى الله عليه وسلم ذكورا وهم القاسم والطاهر وعبد الله وإبراهيم، وإناثا هن فاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم، وجعل يحيى وعيسى عقيما. والحق أن هذا التقسيم وإن كان مطابقا لحال هؤلاء الأنبياء إلا أن في التخصيص ضيق عطن. وإن صحت الرواية عن ابن عباس فالعبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب، وحمل بعض أهل التأويل الإناث على أمور الدنيا والذكور على أمور الآخرة، وتزويج الصنفين على الجامع بين الأمرين، والعقيم على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 من لا دين له ولا دنيا ثم أكد كمال القدرة بقوله وَما كانَ لِبَشَرٍ أي وما صح لأحد أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا على أحد ثلاثة أنحاء: الأول الوحي وهو الإلهام أو المنام كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده. وعن مجاهد أن داود عليه السلام ألهمه الزبور فكتبه حفظا. الثاني التكليم بلا واسطة ولكن من وراء حجاب. والمجسمة استدلوا به على أنه تعالى في جهة فإن الاحتجاب لا يصح إلا من ذي جهة ومكان. وأجيب بأن هذا مثل لأنه إذا سمع الصوت ولا يرى الشخص كان بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب كما كلم موسى ويكلم الملائكة. وقيل: حجاب عن إدراك ذلك الكلام لا المتكلم. وقيل: حجاب لموضع الكلام. الثالث أن يرسل رسولا كجبرائيل فيوحي الملك بإذن الله إلى النبي ما يشاؤه الله. والأقسام الثلاثة كلها من قبيل الوحي ولكنه سبحانه جعل الوحي في الآية خاصا بالأول، وتقدير الكلام: وما صح أن يكلم أحدا إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا أو إلا وحيا أو إسماعا أو إرسالا، أو إلا أن يوحى أو يسمع أو يرسل. ومن قرأ بالرفع فعلى الاستئناف بمعنى أو هو يرسل أو على الحال بمعنى مرسلا عطفا على وَحْياً بمعنى موحيا. وقيل: الوحي هو الوحي إلى الرسل بواسطة الملائكة، وإرسال الرسل إرسال الأنبياء إلى الأمم، فإن الصحيح عند أهل الحق أن الشيطان لا يقدر على إلقاء الباطل في أثناء الوحي. وقد يقال: إن توجيه التكليف إلى العبد لا يتم إلا بثلاث مراتب من المعجزات، وذلك أن التسلسل محال فلا بد من سماع الملك كلام الله بلا واسطة. فالملك يحتاج إلى معجزة تدل على أن ذلك الكلام كلام الله، وإذا بلغ الملك ذلك الكلام إلى النبي فلا بد للنبي من مشاهدة معجزة تدل على صدقه، وإذا بلغ الرسول لأمته فالأمر كذلك. وهذا الثالث مشهور متفق عليه، وأما الأولان فعلهما يعرفان بنور الباطن ولا يفتقر إلى المعجزة لا في أول الأمر ولا كل مرة. قال أهل التصديق: إن الأقسام الثلاثة اجتمعت لنبينا صلى الله عليه وسلم، لأنه في بدء الإسلام كان يرى الرؤيا الصادقة كفلق الصبح، وسمع الكلام من وراء الحجاب ليلة المعراج، وكان يأتيه جبرائيل إلى آخر عمره فلهذا قال عز من قائل وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ويحتمل أن يراد كما أوحينا إلى سائر الأنبياء أوحينا إليك يعني بالطريق الأكثري وهو القسم الثالث. ومعنى رُوحاً مِنْ أَمْرِنا قرآنا من عندنا أو من عالم أمرنا كقوله يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ [غافر: 15] وما كُنْتَ تَدْرِي في المهد أو قبل البلوغ أو قبل الوحي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ يعني ما يتعلق بكمال الإيمان مما لا يكفي في معرفته مجرد العقل والنظر ويتوقف على النقل وإذن الشرع. وقيل: أراد أهل الإيمان يعني من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن. والضمير في جَعَلْناهُ للقرآن أو الإيمان أولهما جميعا. ووحد كقوله وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 11] وهداية الله خاصة، وهداية النبي عامة وهي الدعوة، وصراط الله دينه، ومصير الكل إليه عبارة عن رجوعهم إلى حيث لا حكم لأحد سواه والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 (سورة الزخرف) (وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وأربعمائة كلمها ثمانمائة وثلاث وثلاثون آياتها تسع وثمانون آية) [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 30] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 القراآت: في إم الكتاب بكسر الهمزة: حمزة وعلي إن كنتم بالكسر: أبو جعفر ونافع وعلي وحمزة وخلف. الآخرون: بالفتح أي لأن كنتم مَهْداً: عاصم وحمزة وعلي وخلف وروح. الباقون مهاد ميتا بالتشديد: يزيد. يخرجون من الخروج: حمزة وعلي وخلف وابن ذكوان. الآخرون: من الإخراج يُنَشَّؤُا من باب التفعيل: حمزة وعلي وخلف وحفص. الباقون: بالتخفيف والياء مفتوحة والنون ساكنة عِبادُ الرَّحْمنِ جمع عبد أو عابد: أبو عمرو وعاصم وحمزة وعلي وخلف، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر عند الرحمن بالنون كقوله فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [فصلت: 38] الآخرون: عبيد الرحمن أو شهدوا بقلب همزة الإشهاد واوا مضمومة: ورش وإسماعيل. وقرأ يزيد وقالون مثله ولكن بالمد. وقرأ المفضل بتحقيق الهمزتين. الباقون: بهمزة واحدة للاستفهام والشين مفتوحة قالَ أَوَلَوْ بالألف: ابن عامر وحفص والمفضل جئناكم يزيد. الوقوف: حم هـ كوفي الْمُبِينِ هـ لا ومن لم يقف على حم وقف على الْمُبِينِ لأن القسم متعلق بما قبله وهو هذه حم تَعْقِلُونَ هـ ج حَكِيمٌ هـ ط مُسْرِفِينَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ الْعَلِيمُ هـ لا بناء على أن ما بعده وصف ولو كان نصبا أو رفعا على المدح فالوقف تَهْتَدُونَ هـ بِقَدَرٍ ج للالتفات مع الفاء مَيْتاً ج لانقطاع النظم مع تعلق التشبيه تُخْرَجُونَ هـ تَرْكَبُونَ هـ لا مُقْرِنِينَ هـ لا لأن ما بعده من تمام المقول لَمُنْقَلِبُونَ هـ جُزْءاً ط مُبِينٌ هـ ط بِالْبَنِينَ هـ كَظِيمٌ هـ مُبِينٍ هـ إِناثاً ط خَلْقَهُمْ ط وَيُسْئَلُونَ هـ ما عَبَدْناهُمْ ط يَخْرُصُونَ هـ ط مُسْتَمْسِكُونَ هـ مُهْتَدُونَ هـ مُقْتَدُونَ هـ آباءَكُمْ ط كافِرُونَ هـ الْمُكَذِّبِينَ هـ تَعْبُدُونَ هـ لا سَيَهْدِينِ هـ يَرْجِعُونَ هـ مُبِينٌ هـ كافِرُونَ هـ التفسير: أقسم بجنس الكتاب أو بالقرآن الظاهر الإعجاز أو المفصح عن كل حكم يحتاج المكلف إليه أنه جعل القرآن بلغة العرب ليعقلوه. وفي نسبة الجعل إلى نفسه إشارة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 إلى أنه ليس بمفترى كما زعمه الكفرة. وقيل: أراد ورب الكتاب وقيل: الكتاب اللوح المحفوظ. وقال ابن بحر: هو الخط أقسم به تعظيما لنعمته فيه، وقال ابن عيسى: البيان ما يظهر به المعنى للنفس عند الإدراك بالبصر والسمع وذلك على خمسة أوجه: لفظ وخط وإشارة وعقد وهيئة، كالأعراض وتكليح الوجه. وأم الكتاب بكسر الهمزة وبضمها اللوح المحفوظ لأنه أصل كل كتاب والتقدير: وإنه لعلي حكيم في أم الكتاب لدينا. والعلو علو الشأن في البلاغة والإرشاد وغير ذلك والحكيم المشتمل على الحكمة. ثم أنكر على مشركي قريش بقوله أَفَنَضْرِبُ قال جار الله: أراد أنهملكم فنضرب عَنْكُمُ الذِّكْرَ يقال: ضرب عنه الذكر إذا أمسك عنه وأعرض عن ذكره من ضرب في الأرض. إذا أبعد وصَفْحاً مصدر من غير لفظ الفعل والأصل فيه أن تولي الشيء صفحة عنقك، وجوز جار الله أن يكون بمعنى جانبا من قولهم: «نظر إليه بصفح وجهه» فينتصب على الظرف ويكون الذكر بمعنى الوعظ والقرآن والفحوى أفننحيه عنكم. وقيل: ضرب الذكر رفع القرآن عن الأرض أي أفنرفع القرآن عن الأرض أي أفنرفع القرآن من بين أظهركم لإشراككم مع علمنا بأنه سيأتي من يقبله ويعمل به. قال السدي: أفنترككم سدى لا نأمركم ولا ننهاكم وهو قريب من الأول. وقيل: الذكر هو أن يذكروا بالعقاب ولا يخلو من مناسبة لقوله فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً ومن قرأ إن كنتم بالكسر فكقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفني حقي. يخيل في كلامه أن تفريطه في الخروج عن عهدة الأجر فعل من يشذ في الاستحقاق مع تحققه في الخارج. ثم سلى نبيه بقوله وَكَمْ أَرْسَلْنا الآيتين. قوله أَشَدَّ مِنْهُمْ قيل: «من» زائدة والمراد أشدهم بَطْشاً كعاد وثمود وقيل: الضمير لقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصله أشد منكم إلا أنه ورد على طريقة الالتفات كقوله حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] قوله وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي سلف ذكرهم وقصتهم العجيبة في القرآن غير مرة ويحتمل أن يكون معناه كقوله وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ [الحجر: 13] ثم بين بقوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أن كفرهم كفر عناد ولجاج لأنهم يعرفون الله ثم ينكرون رسوله وكتابه وقدرته على البعث. وهذه الأوصاف من كلام الله لا من قول الكفار بدليل قوله لَكُمُ ولم يقل «لنا» ولقوله فَأَنْشَرْنا والمراد لينسبن خلقها إلى الذي هذه أوصافه وقد مر في «طه» مثله. وقوله تَهْتَدُونَ أي في الأسفار أو إلى الإيمان بالنظر والاعتبار. وقوله بِقَدَرٍ أي بمقدار الحاجة لا مخربا مغرقا كما في الطوفان. وقوله مَيْتاً تذكيره بتأويل المكان. والأزواج الأصناف وقد مر في قوله سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ [يس: 36] والعائد إلى ما في قوله ما تَرْكَبُونَ محذوف فلك أن تقدره مؤنثا أو مذكرا باعتبارين. قال في الكشاف: يقال: ركبت الأنعام وركبت في الفلك إلا أنه غلب المتعدي بغير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 واسطة على المتعدي بواسطة. قلت: يجوز أن يكون كقوله «ويوم شهدناه» والضمير في ظهوره عائد إلى ما. والاستواء في الآية بمعنى التمكن والاستقرار وذكر النعمة بالقلب ويحتمل كونه باللسان وهو تقديم الحمد لله. يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع رجله في الركاب قال: الحمد لله على كل حال سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا إلى قوله لَمُنْقَلِبُونَ وكبر ثلاثا وهلل ثلاثا. وإذا ركب في السفينة قال بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود: 41] ومعنى مُقْرِنِينَ مطيقين أو ضابطين مع صعوبة خلقه وخلقه. وقيل: لا يطيق أن يقرن بعضها ببعض حتى يسيرها إلى حيث يريد وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي في آخر عمرنا كأنه يتذكر ركوب الجنازة أو عثور الدابة أو انكسار السفينة فليستعد للقاء الله عز وجل بخلاف من يركب الخيول والزوارق لأجل التنزه والاشتغال بالملاهي والمناهي فيكون غافلا عن المبدأ والمعاد. عن بعضهم أنه أدخل في الخبر هاهنا خلاف ما في «الشعراء» لأن ركوب الدابة أو السفينة أو الجنازة عام لكل أحد. وما في «الشعراء» خاص بالسحرة. ثم عاد إلى ما انجر الكلام منه وهو قوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ والمقصود التنبيه على سخافة عقولهم وقلة محصولهم فإنهم مع الإقرار بأن خالق السموات والأرض هو الله جعلوا له من عباده جزءا أي أثبتوا له ولدا، وذلك أن ولد الرجل جزء منه. قال صلى الله عليه وسلم «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» » وفي قوله مِنْ عِبادِهِ إشارة إلى أن ما عداه ممكن الوجود فإن الولد متأخر في الوجود عن الأب والمتأخر عن الواجب ممكن، والممكن مفتقر إلى الواجب في الوجود والبقاء والذات والصفات. وقيل: هو إنكار على مثبتي الشركاء لأنهم جعلوا بعض العبادة لغير الله، وفيه نوع تكلف. والكفور البليغ الكفران لأنه يجحد ربه وخالقه ولا يجتهد في تنزيهه وتقديسه. وحين وبخهم على إثبات الولد زاد في توبيخهم وتجهيلهم والتعجيب من حالهم حيث جعلوا ذلك الولد بنتا مع أنها مكروهة عندهم فقال أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ وفائدة تنكير بَناتٍ وتعريف البنين كما مر في آخر السورة المتقدمة في تنكير إِناثاً وتعريف الذُّكُورَ [الشورى: 49] وقوله بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي بالجنس الذي جعله شبها لله لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد، والمراد أنه إذا بشر بالأنثى كما سبق في «النحل» اغتم ويسود وجهه وملىء غيظا وكربا. ثم زاد في الإنكار بتعديد طرف من نقصان الإناث قائلا أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا والتقدير أهو كضده. قال جار الله: تقديره أو يجعل للرحمن من الولد من له هذه الصفة الدنيئة الذميمة وهي أنه   (1) المصدر السابق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 يربى أو يتربى في الزينة والنعومة، وهو إذا احتاج إلى المخاصمة لا يبين ولا يعرف عما في ضميره لعجزه عن البيان ولقلة عقله. قالت العقلاء: قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تعرب عن حجتها إلا نطقت بما هو حجة عليها. وفيه أن النشء في الزينة والإمعان في التنعم من خصائص ربات الحجال لا من خواص الرجال. وإنما ينبغي أن يكون تلبسهم بلباس التقوى وتزينهم باستعداد الزاد للدار الأخرى. ثم خصص أن البنات التي نسبن إليه تعالى من أي جنس من بعد ما عمم في قوله مِمَّا يَخْلُقُ فقال وَجَعَلُوا أي سموا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً وفي إثبات العبودية لهم نفي الجزئية عنهم كما مر آنفا. وقوله أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ كقوله ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الكهف: 51] وفيه تهكم بهم لأنه لم يدل على ذلك عقل ولا نقل صحيح فلم يبق إلا الإخبار عن المشاهدة يعني مشاهدتهم خلق الله إياهم أو مشاهدة صور الملائكة. ثم أوعدهم بقوله سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ على أنوثية الملائكة وَيُسْئَلُونَ ثم حكى نوعا آخر من كفرهم وشبهاتهم وهو أنهم قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ أي الملائكة والأصنام نظير ما مر في آخر الأنعام سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [الآية: 148] . واستدلال المعتزلة به ظاهر لأنه ذمهم بقوله ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أجاب الزجاج عنه بأن قوله ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ عائد إلى قولهم الملائكة بنات الله، والمراد لو شاء الرحمن ما أمرنا بعبادتهم كقولهم وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف: 28] فلهذا أنكر الله عليهم قاله الواحدي في بسيطه. وقيل: قالوها استهزاء، وزيفه جار الله بأنه لا يتمشى في أقوالهم المتقدمة وإلا كانوا صادقين مؤمنين. وجعل هذا الأخير وحده مقولا على وجه الهزء دون ما قبله تعويج لكتاب الله. وتمام البحث بين الفريقين مذكور في «الأنعام» وإنما قال في الجاثية إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ لأن هذا كذب محض وهناك خلطوا الصدق بالكذب، صدقوا في قولهم نَمُوتُ وَنَحْيا وكذبوا في قولهم وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] وكانوا شاكين في أمر البعث، ثم زاد في الإنكار عليهم بقوله أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن أو الرسول فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ثم أضرب عن ذلك وأخبر أنه لا مستند لهم في عقائدهم وأقوالهم الفاسدة الا التقليد. والأمة الدين والطريقة التي تؤم أي تقصد. ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هذا دأب أسلافهم وداء قديم في جهال بني آدم. وإنما قال أولا مُهْتَدُونَ وبعده مُقْتَدُونَ لأن العرب كانوا يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعمون الاهتداء، ولعل الأمم قبلهم لم يزعموا إلا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء. ثم أخبر أن النذير قالَ أو أمر النذير أو محمدا أن يقول أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ أي أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم فأصروا على التكذيب ولم يقبلوا فانتقم الله منهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 ثم بين بقصة إبراهيم عليه السلام أن القول بالتقليد يوجب المنع من التقليد، وذلك أن إبراهيم عليه السلام كان أشرف آباء العرب وأنه ترك دين الآباء لأجل الدليل، فلو كانوا مقلدين لآبائهم وجب أن يتبعوه في الاعتماد على الدليل لا على مجرد التقليد. والبراء بالفتح مصدر أي ذو براء. وقوله إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي قيل: متصل، وكان فيهم من يعبد الله مع الأصنام. وقيل: منقطع بمعنى لكن، ويحتمل أن يكون مجرورا بدلا من ما أي إلا من الذي وجوز في الكشاف أن تكون «إلا» صفة بمعنى غير و «ما» موصوفة تقديره إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أي يثبتني على الهداية أو يرشدني إلى طريق الجنة، ولا ريب أن قوله إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ بمنزلة لا إله وقوله إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي بمثابة «إلا الله» وهي كلمة التوحيد فلذلك أنّث الضمير في قوله وَجَعَلَها أي وجعل إبراهيم أو الله كَلِمَةً التوحيد باقِيَةً فِي عَقِبِهِ فلا يزال في ذريته من يوحد الله عز وجل ويدعو إلى توحيده نظيره وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة: 132] لَعَلَّهُمْ أي لعل من أشرك منهم يرجع إلى التوحيد أو عن الشرك بدعاء الموحدين منهم. ثم أضرب عن رجاء الرجوع منهم إلى أن تمتيعهم بالعمر وسعة الرزق صار سببا لعظم كفرهم وشدة عنادهم. قال جار الله: أراد بل اشتغلوا عن التوحيد حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وهو القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ الرسالة واضحها فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها من غفلتهم لاقتضائها التنبيه. ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق قائلا وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ جاؤا بما هو شر من غفلتهم وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق ومكابرة الرسول وإنكار القرآن والله أعلم. [سورة الزخرف (43) : الآيات 31 الى 56] وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 القراآت: سقفا بالفتح فالسكون: ابن كثير وأبو عمرو ويزيد. الباقون: بضمتين على الجمع كرهن ورهن. قال أبو عبيدة: لا ثالث لهما (لما) بالتشديد: عاصم وحمزة بمعنى إلا ف إِنْ نافية. الآخرون: بالتخفيف ف «إن» مخففة واللام فارقة كما مر في آخر هود يقيض على الغيبة والضمير للرحمن: يعقوب وحماد. الآخرون: بالنون جاءَنا على الوحدة والضمير للعاشي: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد ويعقوب. الباقون: بألف التثنية والضمير للعاشي والقرين أنكم في العذاب بالكسر: ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان أيه الساحر بضم الهاء مثل أيه المؤمنون وقد مر في «النور» تحتي بفتح الياء: أبو عمرو وابن كثير ونافع وأبو جعفر أَسْوِرَةٌ كأجربة: حفص وسهل ويعقوب. الآخرون أساورة كأشاعرة وهو جمع أسوار بمعنى السوار. وأصله أساوير. إلا أنه عوض من الياء هاء في آخره سلفا بضمتين: حمزة وعلي وهو جمع سليف. الباقون: بفتحتين جمع سالف كخادم وخدم. الوقوف: عَظِيمٍ هـ رَحْمَتَ رَبِّكَ ط سُخْرِيًّا ط يَجْمَعُونَ هـ يَظْهَرُونَ هـ لا يَتَّكِؤُنَ هـ لا وَزُخْرُفاً ط الدُّنْيا ط لِلْمُتَّقِينَ هـ قَرِينٌ هـ مُهْتَدُونَ هـ الْقَرِينُ هـ مُشْتَرِكُونَ هـ مُبِينٍ هـ مُنْتَقِمُونَ هـ لا مُقْتَدِرُونَ هـ إِلَيْكَ ط لاحتمال التعليل مُسْتَقِيمٍ هـ وَلِقَوْمِكَ ج للتعليق مع سين التهديد تُسْئَلُونَ هـ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 يُعْبَدُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ يَضْحَكُونَ هـ مِنْ أُخْتِها ز لنوع عدول يَرْجِعُونَ هـ لَمُهْتَدُونَ هـ يَنْكُثُونَ هـ تَحْتِي ج للاستفهام مع اتحاد الكلام تُبْصِرُونَ هـ لأن «أم» منقطعة مُقْتَرِنِينَ هـ فَأَطاعُوهُ ط فاسِقِينَ هـ أَجْمَعِينَ هـ لِلْآخِرِينَ هـ. التفسير: هذه حكاية شبهة لكفار قريش، وذلك أنهم ظنوا أن الفضيلة في المال والجاه الدنيوي فقالوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ وفي الإشارة هاهنا نوع استخفاف منهم لكتاب الله عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أي من إحداهما يعنون مكة أو الطائف. قال المفسرون: الذي بمكة هو الوليد بن المغيرة، والذي بالطائف هو عروة بن مسعود الثقفي. ومنهم من قال غير ذلك. وأرادوا بعظم الرجل رياسته وتقدمه في الدنيا فألزمهم الله تعالى بأجوبة أوّلها قوله على سبيل الإنكار أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ أي النبوّة فيضعوها حيث شاؤا نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أي خدما وتابعا ومملوكا. واللام لام العاقبة فإن الإنسان خلق مدنيا بالطبع. وقالت المعتزلة: للغرض وإذا كانت المعايش الدنيوية مع حقارتها وخساستها مفوّضة إلى تدبير الله وتسخيره وتقديره دون أحد من خلقه، فالأمور الدينية والمناصب الحقيقية الأخروية أولى بذلك. وقيل: الرحمة الرزق. ومعنى الآية إنكار أن الرزق منهم فكيف تكون النبوّة منهم؟ واستدلال السني بالآية ظاهر في أن كل الأرزاق من الله حلالا كانت أو حراما. وقالت المعتزلة: الله تعالى قاسم ولكن العباد هم الذين يكسبونها صفة الحرمة بسوءتنا ولهم. والجواب أنه كما قسم الرزق عين الجهة التي بها يصل الرزق إليه فكل بقدره. وثانيها قوله وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ لأن الدنيا منقضية فانية ودين الله وما يتبعه من السعادات باق لا يزول، فكيف يجعل العاقل ما هو الأخس أفضل مما هو الأشرف؟ وثالثها قوله وَلَوْلا كراهة أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً مجتمعين على الكفر لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ هو بدل اشتمال وقيل: هما كقولك: وهبت له ثوبا لقميصه في أن اللام للغرض. والمعارج المصاعد أو المراقي جمع معرج كمخلب عَلَيْها أي على المعارج يَظْهَرُونَ يعلون السطوح. والزخرف الزينة أي جعلنا لهم زينة عظيمة في كل باب. وقيل: الذهب أي جعلنا لهم مع ذلك ذهبا كثيرا. أو وجه آخر على هذا التفسير وهو أن يكون معطوفا على قوله مِنْ فِضَّةٍ إلا أنه نصب بنزع الخافض أي بعضها من فضة وبعضها من ذهب. والحاصل أنه سبحانه إن وسع على الكافرين كل التوسعة أطبق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها مع حقارة الدنيا عند الله تعالى، وفي معناه قول نبينا صلى الله عليه وسلم «لو كانت الدنيا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 كافرا منها شربة ماء» «1» وإنما لم يوسع على المسلمين كلهم لتكون رغبة الناس في الإسلام لمحض الإخلاص لا لأجل الدنيا. ثم بشر المؤمنين بقوله وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ إلى آخره. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن اللطف من الله تعالى واجب، وفيه أنه تعالى لما لم يفعل بالناس التوسعة لئلا يجتمعوا على الكفر، فلأن لا يخلق فيهم الكفر أولى. والجواب أن وقوع كل الناس في طريق القهر محذور، وأما وقوع البعض فضروري كما مر في أول البقرة، فشتان بين الممتنع الوجود والضروري الوجود فكيف يقاس أحدهما على الآخر؟ ثم بين أن مادة كل الآفات وأصل جميع البليات هو السكون إلى الدنيا والركون إلى أهلها فإن ذلك بمنزلة الرمد للبصر ويصير بالتدريج كالعشى ثم كالعمى فقال وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ أي عن القرآن أي يعرف أنه الحق ولكنه يتجاهل. قال جار الله: قرىء بفتح الشين أيضا. والفرق أنه إذا حصلت آفة في بصره يقال عشي بالكسر أي عمى يعشى بالفتح، وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به قيل عشا أي تعامى. وفيه معنى الإعراض فلهذا عدي ب «عن» ومعنى نُقَيِّضْ نقدر كما مر في «حم السجدة» وَإِنَّهُمْ أي الشياطين لَيَصُدُّونَهُمْ أي العشي عن دين الله وَيَحْسَبُونَ أي الكفار أن الشياطين والكافرين مُهْتَدُونَ وإنما جمع الضميرين لأن مَنْ عام وشَيْطاناً تابع له. ولا شك أن هذا القرين ملازم له في الآخرة لقوله حَتَّى إِذا جاءَنا الآية وأما في الدنيا فمحتمل بل لازم لقوله صلى الله عليه وسلم «كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون» ويروى أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطان بيده ولم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار فذلك حيث يقول يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي بعد ما بين المشرق والمغرب فغلب كالقمرين. وقيل: المغرب أيضا مشرق بالنسبة إلى الحركة الثانية وهذا قول أهل السنة. وقيل: مشرق الصيف ومشرق الشتاء وفيه ضعف لأنه لا يفيد مبالغة، فبين الله تعالى أن ذلك التمني لا ينفعهم وعلله بقوله أَنَّكُمْ من قرأ بالكسر فظاهر، ومن قرأ بالفتح فعلى حذف اللام أي لن ينفعكم تمنيكم لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه وهو الكفر، ويحتمل أن يكون أن في قراءة الفتح فاعل ينفع أي لن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب. وإن قيل: المصيبة إذا عمت طابت وذلك أن كل أحد مشغول في ذلك اليوم عن حال غيره بحال نفسه. وإِذْ بدل من اليوم ومعناه إذ ظلمكم تبين ووضح لكل أحد.   (1) رواه البخاري في تفسير سورة 18 باب 6 مسلم في كتاب المنافقين حديث 18 ابن ماجه في كتاب الزهد باب 3 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 ثم إنه صلى الله صلى الله عليه وسلم كان يتحزن على فقد الإيمان منهم فسلاه بقوله أَفَأَنْتَ إلى آخره. وقوله فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ أراد به قبض روحه كقوله في «يونس» وفي «المؤمن» فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ [الآية: 77] الانتقام إما في الآخرة وهو قول الجمهور أو في الدنيا. عن جابر أنه قال: لما نزلت فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ قال النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أورده في تفسير اللباب. وقيل: فأما نذهبن بك من مكة فإنا منهم منتقمون يوم بدر. والحاصل أنه تعالى توعد الكفار بعذاب الدنيا والآخرة جميعا. ثم قال لنيه صلى الله عليه وسلم سواء عجلنا لك الظفر والغلبة أو أخرناه إلى الآخرة فكن متمسكا بما أوحينا إليك فإنه الدين الذي لا عوج له، وإنه لشرف لك ولقومك أي لجميع أمتك أو لقريش وسوف تسألون هل أديتم شكر هذه النعمة أم لا. قال أهل التحقيق: في الآية دلالة على أن الذكر الجميل أمر مرغوب فيه لعموم أثره وشموله كل مكان وكل زمان خلاف الحياة المستعارة فإن أثرها لا يجاوز مسكن الحي. قلت: الذكر الجميل جميل ولكن الذكر الحاصل من القرآن أجمل رزقنا الله طرفا من ذلك بعميم فضله. ثم إن السبب الأقوى في بغض الكفار وعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم إنكاره لأصنامهم، فبين تعالى أنه غير مخصوص بهذه الدعوة وهذا الإنكار ولكنه دين أطبق كل الأنبياء على الدعاء إليه. وفي الآية أقوال: أحدها أن المضاف محذوف تقديره واسأل يا محمد أمم من أرسلنا. وقال القفال: المحذوف صلة التقدير واسأل من أرسلنا إليهم من قبلك رسولا من رسلنا. والمراد أهل الكتابين لأنهم كانوا يرجعون إليهم في كثير من أمورهم نظيره فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس: 94] ثانيها أن حقيقة السؤال هاهنا ممتنعة ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم. وثالثا أن التقدير: واسأل جبرائيل عمن أرسلنا. ورابعها أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع له الأنبياء ليلة المعراج في السماء أو في بيت المقدس فأمهم. وقيل له صلى الله عليه وسلم: سلهم. فلم يسأل. وقد قال صلى الله عليه وسلم «إني لا أشك في ذلك» قاله ابن عباس. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاني ملك فقال: يا محمد سل من أرسلنا من قبلك من رسلنا علام بعثوا؟ قال: قلت علام بعثوا؟ قال: على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه رواه الثعلبي. ولكنه لا يطابق قوله سبحانه أَجَعَلْنا الآية. وجوز بعضهم أن يكون مَنْ مبتدأ والاستفهامية خبره والعائد محذوف أي على ألسنتهم، ومعنى الجعل التسمية والحكم. واعلم أن كفار قريش إنما طعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة كونه فقيرا خاملا وكان فرعون اللعين قد طعن في موسى بمثل ذلك حيث قال أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ إلى قوله مَهِينٌ [الزخرف: 52] فلا جرم أورد قصة موسى هاهنا تسلية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 للنبي صلى الله عليه وسلم. قوله فَلَمَّا جاءَهُمْ معطوف على محذوف تقديره فقال إني رسول رب العالمين. فطالبوه إقامة البينة على دعواه فلما جاءهم إلى آخره. قال جار الله: فعل المفاجأة مع إذا مقدر وهو عامل النصب في محلها كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجأ وقت ضحكهم استهزاء أو سخرية. قوله وَما نُرِيهِمْ حكاية حال ماضية. وفي قوله هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وجهان: أحدهما أن كلا منها مثل شبيهتها التي تقدمت، وكل من رأى واحدة منها حكم بأنها حكم كبراها لتكافؤ كل منها في الكبر. وإذا كان هذا الحكم صادقا على كل منها فكلها كبار كما قال الحماسي: من تلق منهم تقل لا قيت سيدهم. مثل النجوم التي يسري بها الساري وثانيها أن يقال: إن الآية الأولى كبيرة والتي تليها أكبر من الأولى، والثالثة أكبر من الثانية، وكذلك ما بعدها. هذا القدر مستفاد من الآية، وأما تفصيل هذا التفضيل فلعله لا يطلع عليه إلا خالقها ومظهرها. وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ السنين ونقص من الثمرات إلى سائر ما ابتلوا به. قالت المعتزلة: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي إرادة أن يرجعوا فورد عليهم أنه لو أراد رجوعهم لكان. وأجابوا بأنه لو أراد قسرا لكان ولكنه أراد مختارا، وزيف بأنه لو أراد أن يقع طريق الاختيار لزم أن يقع أيضا مختارا. أما الفرق فالصواب أن يقال: «لعل» للترجي ولكن بالنسبة إلى المكلف كما مر مرارا. وقالوا يا أيه الساحر أي العالم الماهر ولم يكن السحر عندهم ذما بل كانوا يستعظمونه ولهذا قالوا إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ وقيل: كانوا بعد على كفرهم فلهذا سموه ساحرا. وقولهم إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ وعد منوي إخلافه. وقولهم ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بعهده عندك من أن دعوتك مستجابة وققد مر في «الأعرف» وَنادى فِرْعَوْنُ أي أمر بالنداء فِي مجامع قَوْمِهِ أو رفع صوته بذلك فيما بين خواصه فانتشر في غيرهم. والأنهار أنهار النيل. قال المفسرون: كانت ثلاثمائة وستين نهرا ومعظمها أربعة: نهر الملك ونهر طالوت ونهر دمياط ونهر منفيس. كانت تجري تحت قصره وقيل: تحت سريره لارتفاعه. وقيل: بين يدي في جناتي وبساتيني. وعن عبد الله ابن المبارك الدينوري في تفسيره: أنه أراد بالأنهار الجياد من الخيل وهو موافق لما جاء في الحديث في فرس أبي طلحة «وإن وجدناه لبحرا» وقال الضحاك: معناه وهذه القواد والجبابرة تحت لوائي. قال النحويون: إما أن تكون الواو عاطفة للأنهار على ملك مصر وتَجْرِي نصب على الحال، أو الواو للحال وما بعده جملة محلها نصب. وفي «أم» أقوال منها قول سيبويه إنها متصلة تقديره أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وضع قوله أَنَا خَيْرٌ موضع تُبْصِرُونَ لأنهم إذا قالوا له أنت خير فهم عنده بصراء، فهذا من إنزال السبب منزلة المسبب لأن الإبصار سبب لهذا القول بزعمه. ومنها أنها منقطعة لأنه عدد عليهم أسباب الفضل ثم أضرب عن ذلك ثانيا. أثبت عندكم أني خير. ومنها أن التقدير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 أفلا تبصرون أني خير أم أبصرتم ثم استأنف فقال أنا خير، والمهين من المهانة أي الحقارة والضعف أراد أنه فقير ولا عدد معه ولا عدد وَلا يَكادُ يُبِينُ الكلام لأن عقدته لم تزل بالكلية كما شرحنا في «طه» . وإلقاء الأسورة عليه عبارة عن تفويض مقاليد الملك إليه، كانوا إذا أرادوا تشريف الرجل سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب وغيره أي ليس معه آلات الملك والسياسة، أو ليس معه حلية وزي حسن كما أن الملوك يشهرون رسلهم بالخلع والمكرمات وبأشخاص يتبعونهم فلذلك قالوا أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ به أو يقترن بعضهم ببعض فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ أي حملهم على أن يخفوا له في الطاعة أو استخف عقولهم واستجهلهم فَأَطاعُوهُ وهذه من عادة اللئام كما قيل: العبد لا يردعه إلا العصا: وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ومعنى آسَفُونا أغضبونا وأغضبوا رسلنا فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً أي متقدمين وعبرة للمتأخرين ليعتبروا من حالهم فلا يقدموا على مثل أفعالهم وإليه المآب. [سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 89] وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 القراآت: يا عبادي بالياء في الحالين: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو. وقرأ حماد وأبو بكر بفتح الياء. الباقون بغير ياء في الحالين تَشْتَهِيهِ بهاء الضمير: ونافع وأبو جعفر وابن عامر وحفص. الآخرون: بحذفها وإليه يرجعون بياء الغيبة: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بتاء الخطاب. وَقِيلِهِ بالكسرة: حمزة وعاصم غير المفضل: الآخرون: بالنصب. تعلمون على الخطاب: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الوقوف: يَصِدُّونَ هـ أَمْ هُوَ ط جَدَلًا ط خَصِمُونَ هـ إِسْرائِيلَ هـ ط يَخْلُفُونَ هـ وَاتَّبِعُونِ ط مُسْتَقِيمٌ هـ الشَّيْطانُ ج للابتداء بان مع اتصال المعنى مُبِينٌ هـ فِيهِ ج لعطف الجملتين مع الفاء وَأَطِيعُونِ هـ فَاعْبُدُوهُ ط مُسْتَقِيمٌ هـ مِنْ بَيْنِهِمْ ج للابتداء مع الفاء أَلِيمٍ هـ لا يَشْعُرُونَ هـ الْمُتَّقِينَ هـ تَحْزَنُونَ هـ ج لاحتمال كون ما بعده وصفا مُسْلِمِينَ هـ ج لاحتمال أن يكون الَّذِينَ إلى آخر الآية مبتدأ وقوله ادْخُلُوا إلى آخره خبرا، والقول محذوف لا محالة تُحْبَرُونَ هـ وَأَكْوابٍ ج الْأَعْيُنُ ج للعدول مع العطف خالِدُونَ هـ تَعْمَلُونَ هـ تَأْكُلُونَ هـ خالِدُونَ هـ ج لأحتمال ما بعده صفة أو حالا له لا مستأنفا مُبْلِسُونَ هـ ج لاحتمال أن يكون ما بعده مستأنفا أو حالا الظَّالِمِينَ هـ رَبُّكَ ط ماكِثُونَ هـ ج كارِهُونَ هـ مُبْرِمُونَ هـ ج لأن «أم» يصلح جواب الأولى ويصلح استفهاما آخر وَنَجْواهُمْ ط يَكْتُبُونَ هـ الْعابِدِينَ هـ يَصِفُونَ هـ يُوعَدُونَ هـ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ط الْعَلِيمُ هـ بَيْنَهُما ج السَّاعَةِ ج تُرْجَعُونَ هـ يَعْلَمُونَ هـ يُؤْفَكُونَ هـ ج فالوقف بناء على قراءة النصب، والوصل بناء على قراءة الجر وسيأتي تمام البحث عن إعرابها لا يُؤْمِنُونَ هـ لئلا يوهم أن ما بعده من قيل الرسول سَلامٌ ط للابتداء بالتهديد. قال السجاوندي: من قرأ تعلمون على الخطاب فوقفه لازم لئلا يصير التهديد داخلا في الأمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 بقوله قُلْ قلت: لا محذور فيه لأن السلام سلام توديع لا تعظيم. التفسير: هذا نوع آخر من قبائح أقوال كفرة قريش. وفي تفسير المثل وجوه للمفسرين: أحدها أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا: إذا جاز أن يكون عيسى ابن الله جاز أن تكون الملائكة بنات الله. وانتصب مَثَلًا على أنه مفعول ثان لضرب أي جعل مثلا فالضارب للمثل كافرو إِذا قَوْمُكَ أي المؤمنون مِنْهُ أي من المثل أو من ضربه يَصِدُّونَ أي يجزعون ويضجون وَقالُوا أي الكفار أهذا خير أم هو يعنون الملائكة خير من عيسى. وثانيها ما مر في آخر الأنبياء أنه حين نزل إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الآية: 98] قال ابن الزبعري للنبي صلى الله عليه وسلم: قد علمت أن النصارى يعبدون عيسى وأمه وعزيرا، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وخرج القوم وضحكوا وصيحوا فأنزل الله تعالى قوله إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الأنبياء: 101] ونزلت هذه الآية أيضا. والمعنى ولما ضرب ابن الزبعري عيسى ابن مريم مثلا إذا قومك قريش من هذا المثل يصدون بالكسر والضم أي يرتفع لهم جلبة وصياح فرحا وسرورا بما رأوا من سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العادة قد جرت بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الآخر الفرح. وَقالُوا أَآلِهَتُنا وهي الأصنام خَيْرٌ أَمْ عيسى فإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا أهون. وقيل: من قرأ بالضم فمن الصدود أي من أجل هذا المثل يمنعون عن الحق. وثالثها أنه صلى الله عليه وسلم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح إلها وأن مثله عند الله كمثل آدم، قال كفار مكة: إن محمدا يريد أن نتخذه إلها كما اتخذ النصارى المسيح إلها وضجروا وضجوا وقالوا: آلهتنا خير أم هو يعنون محمدا، وغرضهم أن آلهتهم خير لأنها مما عبدها آباؤهم وأطبقوا عليها فأبطل الله تعالى كلامهم بقوله ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي لم يضربوا هذا المثل لأجلك إلا للجدال والغلبة دون البحث عن الحق بَلْ هُمْ قَوْمٌ من عادتهم الخصومة واللدد. ثم قرر أمر عيسى عليه السلام بقوله إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بأن خلقناه من غير أب وصيرناه عبرة وحاله عجيبة وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ أي بدلا منكم مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ يقومون مقامكم. وقيل: أراد لولدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم. والغرض بيان كمال القدرة وأن كون الملائكة في السموات لا يوجب لهم الإلهية ولا نسبا من الله. ثم بين مآل حال عيسى عليه السلام بقوله وَإِنَّهُ يعني عيسى لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ لعلامة من علامات القيامة كما جاء في الحديث «أنا أولى الناس بعيسى ليس بيني وبينه نبي وأنه أول نازل يكسر الصليب ويقتل الخنزير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 ويقاتل الناس على الإسلام» «1» وقيل: إذا نزل عيسى رفع التكليف. وقيل: ان عيسى كان يحيي الموتى فعلم بالساعة والبعث. وقيل: الضمير في وَإِنَّهُ للقرآن أي القرآن يعلم منه وفيه ثبوت الساعة فَلا تَمْتَرُنَّ بِها فلا تشكن فيها واتبعوني هذه حكاية قول النبي صلى الله عليه وسلم، أو المراد واتبعوا رسولي وشرعي والباقي واضح إلى قوله هَلْ يَنْظُرُونَ وقد مر في آل عمران وفي «مريم» . وقوله أَنْ تَأْتِيَهُمْ بدل من الساعة والْأَخِلَّاءُ جمع خليل ويَوْمَئِذٍ ظرف عَدُوٌّ وهو كقوله إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة: 166] ولكن خلة المتقين ثابتة لأن المحبة في الله لا تزول. ومعنى تُحْبَرُونَ تسرون والحبور السرور، والصحاف جمع صحفة وهي القصعة فيها طعام، والأكواب جمع كوب وهو الإبريق لا عروة له. وقد يدور في الخلد أن العروة للكوز أمر زائد على مصلحة الشرب وإنما هو لدفع حاجة كتعليق وتعلق وأهل الجنة فيها براء من أمثال ذلك فلهذا كانت أكوازها أكوابا والله أعلم بأسراره. وَفِيها أي في الجنة. قال القفال: جمع بهاتين اللفظتين ما لو اجتمع الخلق كلهم على تفصيله لم يخرجوا عنه. ثم يقال لهم وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ إلى آخره. ثم وصف حال أهل الجرائم من الكفار أو منهم ومن الفساق على اختلاف بين السني والمعتزلي. ومعنى لا يُفَتَّرُ لا يخفف من الفتور ومبلسون آيسون ساكتون تحيرا ودهشا. ولما أيسوا من فتور العذاب نادَوْا يا مالِكُ وهو اسم خازن النار لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي ليمتنا كقوله فَقَضى عَلَيْهِ [القصص: 15] قال مالك: بعد أربعين عاما أو بعد مائة أو ألف أو قال الله بدليل قوله لَقَدْ جِئْناكُمْ فإنه ظاهر من كلام الله وإن كان يحتمل أن يكون قول الملائكة. قال أهل التحقيق: سمى خازن النار مالكا لأن الملك علقة والتعلق من أسباب دخول النار كما سمى خازن الجنة رضوانا لأن الرضا بحكم الله سبب كل راحة وسعادة وصلاح وفلاح. ثم عاد إلى توبيخ قريش وتجهيلهم والتعجيب من حالهم فقال أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً والإبرام الإحكام والمعنى أنهم كلما أحكموا أمرا في المكر بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنا نحكم أمرا في مجازاتهم. وقال قتادة: أجمعوا على التكذيب وأجمعنا على التعذيب، وذلك أنهم اجتمعوا في دار الندوة وأطبقوا على الاغتيال بمحمد صلى الله عليه وسلم وتناجوا في ذلك فكف عنه شرهم وأوعدهم عليه بأنه يعلم سرهم وهو ما حدّث   (1) رواه البخاري في كتاب المظالم باب 31 مسلم في كتاب الإيمان حديث 242، 343 أبو داود في كتاب الملاحم باب 14 الترمذي في كتاب الفتن باب 54 ابن ماجه في كتاب الفتن باب 33 أحمد في مسنده (2/ 240، 272) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال. ونجواهم وهي ما تكلموا به فيما بينهم على سبيل الخفية أيضا. ثم أكد علمه بأن حفظة الأعمال يكتبونه، ثم برهن على نفي الولد عن نفسه فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ وهذه قضية شرطية جزآها ممتنعان إلا أن الملازمة صادقة نظيره قولك: إن كانت الخمسة زوجا فهي منقسمة بمتساويين. وهذا على سبيل الفرض والتقدير، وبيان الملازمة أن الولد يجب محبته وخدمته لرضا الوالد وتعظيمه، فلو كان المقدم حاصلا في الواقع لزم وقوع التالي عادة وإنما ادعى أوليته في العبادة لأن النبي متقدم في كل حكم على أمته خصوصا فيما يتعلق بالأصول كتعظيم المعبود وتنزيهه، لكن التالي غير واقع فكذا المقدم وهذا الكلام ظاهر الإلزام، واضح الإفحام، قريب من الأفهام، لا حاجة فيه إلى تقريب المرام. وأما المفسرون الظاهريون لا دراية لهم بالمعقول فقد ذكروا فيه وجوها متكلفة منها: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الموحدين لله. ومنها إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد. يقال: عبد بالكسر يعبد بالفتح إذا اشتد أنفه. ومنها جعل «إن» نافية أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال بذلك، ووحد ثم نزه نفسه عما لا يليق بذاته، ثم أمر نبيه أن يتركهم في باطلهم واللعب بدنياهم حتى يلاقوا القيامة. ثم مدح ذاته بقوله وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ أي معبود كما مر في قوله وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام: 3] والتقدير وهو الذي هو في السماء إله إلا أنه حذف الراجع لطول الكلام. ثم أبطل قول الكفرة إن الأصنام تنفعهم. وقوله إِلَّا مَنْ شَهِدَ استثناء منقطع أي لكن من شهد بالتوحيد عن علم وبصيرة هو الذي يملك الشفاعة، ويجوز أن يكون متصلا لأن من جملة من يدعونهم الملائكة وعيسى وعزيزا. وجوز أن تكون اللام محذوفة لأن الشفاعة تقتضي مشفوعا له أي لمن شهد بالحق وهم المؤمنون قال بعض العلماء وَهُمْ يَعْلَمُونَ دلالة على أن إيمان المقلد وشهادته غير معتبر. ثم كرر ما ذكر في أول السورة قائلا وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ والغرض التعجيب من حالهم أنهم يعترفون بالصانع ثم يجعلون له أندادا. وقيل: الضمير في سَأَلْتَهُمْ للمعبودين. من قرأ وَقِيلِهِ بالنصب فعن الأخفش أنه معطوف على سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ أو المراد وقال قيله أي قوله، والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره بالكناية في قوله قُلْ إِنْ كانَ وعن أبي علي أنه يعود إلى عيسى، وفيه تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون النصب بالعطف على محل الساعة أي وعنده علم الساعة وعلم قيله كقراءة من قرأ بالجر. ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأعمال الخلق الحسن معهم إلى أوان النصر وهو ظاهر والله أعلم بالتوفيق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 (سورة الدخان) (مكية حروفها ألف وأربعمائة وأربعون كلماتها ثلاثمائة وأربعون آياتها تسع وخمسون) [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 59] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 القراآت: رَبِّ السَّماواتِ بالجر على البدل مِنْ رَبِّكَ: عاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بالرفع أني آتيكم بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ترجموني فاعتزلوني بالياء في الحالين: يعقوب وأفق ورش وسهل وعباس في الوصل لي بالفتح: ورش فكهين بغير الألف: يزيد يَغْلِي على التذكير والضمير للطعام: ابن كثير وحفص والمفضل ورويس وابن مجاهد عن ابن ذكوان. الباقون: بتاء التأنيث والضمير للشجرة فاعتلوه بضم التاء: ابن كثير ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب. الآخرون: بالكسر ذق أنك بفتح الهمزة على حذف لام التعليل. في مقام بضم الميم من الإقامة: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الوقوف: حم كوفي هـ الْمُبِينِ هـ لا ومن لم يقف على حم وقف على الْمُبِينِ مُنْذِرِينَ هـ حَكِيمٍ هـ ط بناء على أن التقدير أمرنا أمرا مِنْ عِنْدِنا ط مُرْسِلِينَ هـ ج لاحتمال أن رَحْمَةً مفعول له أو به أو التقدير رحمنا رحمة مِنْ رَبِّكَ ط الْعَلِيمُ هـ لا لمن خفض رَبِّ بَيْنَهُما ط مُوقِنِينَ هـ وَيُمِيتُ ط الْأَوَّلِينَ هـ يَلْعَبُونَ هـ مُبِينٍ هـ ط النَّاسَ ط أَلِيمٌ هـ مُؤْمِنُونَ هـ مُبِينٌ هـ لا للعطف مَجْنُونٌ هـ لئلا يوهم أن ما بعده من قول الكفار عائِدُونَ هـ م لئلا يظن أن ما بعده ظرف للعود الْكُبْرى ج لاحتمال التعليل مُنْتَقِمُونَ هـ كَرِيمٌ هـ لا عِبادَ اللَّهِ ط أَمِينٌ هـ عَلَى اللَّهِ ج مُبِينٍ هـ ج تَرْجُمُونِ هـ فَاعْتَزِلُونِ هـ مُجْرِمُونَ هـ مُتَّبَعُونَ هـ لا رَهْواً ط مُغْرَقُونَ هـ وَعُيُونٍ هـ لا كَرِيمٍ هـ لا فاكِهِينَ هـ لا لأن المعنى تركوها مهيأة كما كانت آخَرِينَ هـ مُنْظَرِينَ هـ الْمُهِينِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 هـ لا مِنْ فِرْعَوْنَ ط الْمُسْرِفِينَ هـ الْعالَمِينَ هـ ج مُبِينٌ هـ لَيَقُولُونَ هـ لا بِمُنْشَرِينَ هـ صادِقِينَ هـ تُبَّعٍ لا للعطف مِنْ قَبْلِهِمْ ط لتناهي الاستفهام إلى ابتداء الأخبار أَهْلَكْناهُمْ ج لأن التعليل أوضح مُجْرِمِينَ هـ لاعِبِينَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ أَجْمَعِينَ هـ لا لأن ما بعده بدل وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ هـ لا رَحِمَ اللَّهُ ط الرَّحِيمُ هـ الْأَثِيمِ هـ ج لاحتمال أن يكون كَالْمُهْلِ خبرا بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف فِي الْبُطُونِ لا الْحَمِيمِ هـ الْجَحِيمِ هـ الْحَمِيمِ هـ ط لأن التقدير قولوا أو يقال له ذق الْكَرِيمُ هـ تَمْتَرُونَ هـ أَمِينٍ هـ لا عُيُونٍ هـ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال مُتَقابِلِينَ هـ ج لاحتمال أن يراد كما ذكرنا من حالهم قبل أو يكون التقدير الأمر كذلك عِينٍ هـ ج لئلا يوهم أن ما بعده صفة للحور آمِنِينَ هـ لا لأن ما بعده صفة فإن الأمن لا يتم إلا به الْأُولى ج لأن ما بعده يصلح استئنافا وحالا بإضمار قد الْجَحِيمِ هـ لا لأن فَضْلًا مفعول له مِنْ رَبِّكَ ط الْعَظِيمُ هـ يَتَذَكَّرُونَ هـ مُرْتَقِبُونَ هـ. التفسير: أقسم بالقرآن إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ لأن من شأننا الإنذار والتخويف من العقاب وإنما أنزل في هذه الليلة خصوصا لأن إنزال القرآن أشرف الأمور الحكمية، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر ذي حكمة فالجملتان- أعني قوله إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ كالتفسير لجواب القسم قال صاحب النظم: ليس من عادتهم أن يقسموا بنفس الشيء إذا أخبروا عنه فجواب القسم إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ وقوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ اعتراض. والجمهور على الأول ولا بأس لأن المعنى إنا أنزلنا القرآن على محمد ولم يتقوله، ويحتمل أن القسم وقع على إنزاله في ليلة مباركة. وأكثر المفسرين على أنها ليلة القدر لقوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] وليلة القدر عند الأكثرين من رمضان. ونقل محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن قتادة أنه قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، والتوراة لست ليال منه، والزبور لاثنتي عشرة مضت، والإنجيل لثمان عشرة منه، والفرقان لأربع وعشرين مضت، والليلة المباركة هي ليلة القدر. وزعم بعضهم كعكرمة وغيره أنها ليلة النصف من شعبان. وما رأيت لهم دليلا يعوّل عليه. قالوا: وتسمى ليلة البراءة أيضا وليلة الصك لأن الله تعالى يكتب لعباده المؤمنين البراءة من النار في هذه الليلة. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله تعالى إليه مائة ملك ثلاثون يبشرونه بالجنة وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا وعشرا يدفعون عنه مكايد الشيطان.» وقال «إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 شعر أغنام بني كلب.» وقال: «إن الله يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن أو ساحر أو ساخر أو مدمن خمر أو عاق للوالدين أو مصر على الزنا» ومما أعطى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم تمام الشفاعة وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطى الثلث منها، ثم سأل ليلة الرابع عشر منها فأعطى الثلثين، ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطى الجميع إلا من شرد على الله شراد البعير. ومن عادة الله عز وجل في هذه الليلة أن يزيد فيها ماء زمزم زيادة ظاهرة. وبعضهم أراد أن يجمع بين القولين فقال: ابتدئ بانتساخ القرآن من اللوح المحفوظ ليلة البراءة ووقع الفراغ في ليلة القدر. والمباركة الكثيرة الخير ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن لكفى به بركة. ومعنى يُفْرَقُ يفصل ويكتب كُلُّ أَمْرٍ هو ضد النهي أو كل أمر له شأن من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم إلى العام القابل، فيدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروب والزلازل والصواعق والخسوف إلى جبرائيل، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، ونسخة المصائب إلى ملك الموت. وقيل: يعطى كل عامل بركات أعماله فيلقى على ألسنة الخلق مدحه وعلى قلوبهم هيبته. وفي انتصاب أَمْراً وجوه: إما أن يكون حالا من أَمْرٍ حَكِيمٍ لأنه قريب من المعرفة أو من الهاء في أَنْزَلْناهُ أو من الفاعل أي آمرين، أو على المصدر لأمر، أو على الاختصاص لأن كونه من عند الله يوجبه مزيد شرف وفخامة، أو يكون مصدرا من غير لفظ الفعل وهو يُفْرَقُ لأنه إذا حكم بالشيء وفصله وكتبه فقد أوجبه وأمر به قوله إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ يجوز أن يكون بدلا من قوله تعالى إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي أنزلنا القرآن لأن من شأننا إرسال الرسل وإنزال الكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة، ويحتمل كونه تعليلا ليفرق، أو لقوله أَمْراً مِنْ عِنْدِنا وقوله مِنْ رَبِّكَ وضع للظاهر موضع الضمير إيذانا بأن الربوبية تقتضي الرحمة. ثم حقق ربوبيته بقوله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ إلى قوله الأولين. ومعنى الشرط في قوله إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ نظير ما هو في أول الشعراء وذلك أنهم كانوا مقرين بأنه رب السموات والأرض. قيل لهم: إن كنتم على بصيرة وإيقان من ذلك فلا تشكوا فيه، أو إن كنتم موقنين بشيء فأيقنوا بما أخبرتكم، أو إن كنتم تريدون اليقين فاعلموا ذلك. وقيل: إن نافية ثم رد أن يكونوا موقنين بقوله بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ في الدنيا أو يستهزؤن بنا فلا جرم أوعدهم بقوله فَارْتَقِبْ ويَوْمَ مفعول به أي انتظره. والأكثرون على أن هذا الدخان من أمارات القيامة فإن الدنيا ستصير كبيت لاخصاص له مملوء دخانا يدخل في أنوف الكفار وآذانهم فيكونون كالسكارى، ويصيب المؤمن فيه كالزكام فيبقى ذلك أربعين. وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 «أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر» «1» أبين بكسر الهمزة وفتحها اسم رجل بنى هذه البلدة ونزل بها. وقيل: الدخان يكون في القيامة إذا خرجوا من قبورهم يحيط بالخلائق ويغشاهم. وقيل: الدخان الشر والفتنة. وعن ابن مسعود: خمس قد مضت الروم والدخان والقمر والبطشة واللزام. وذلك أن قريشا لما استصعبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني ويوسف. فأصابهم اللزام وهو القحط حتى أكلوا الجيف، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان فيسمع كلام صاحبه ولا يراه من الدخان. فمشى إليه صلى الله عليه وسلم أبو سفيان ونفر معه وناشدوه الله والرحم، وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا. فلما كشف عنهم من الدخان رجعوا إلى شركهم وذلك قوله هذا عَذابٌ أي قائلين هذا إلى آخره. ثم استبعد منهم الاتعاظ بقوله أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ ما هو أعظم من كشف الدخان وهو القرآن المعجز وغيره فلم يتذكروا وتَوَلَّوْا عَنْهُ واتهموه صلى الله عليه وسلم بأنه إنما يعلمهن بشر ونسبوه إلى الجنون. ومعنى «ثم» تبعيد الحالتين. ثم بين أنهم يعودون إلى الكفر عقيب كشف العذاب عنهم زمانا قليلا. واعلم أن ارتدادهم إلى الكفر أمر ممكن سواء يجعل الدخان من أمارات القيامة أو يقال إنه قد مضى. والبطشة الكبرى القيامة أو يوم بدر على التفسيرين. ويَوْمَ ظرف لما دل عليه منتقمون فإن ما بعد «أن» لا يعمل فيما قبله. وقيل: بدل من يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقصة موسى. ومعنى فَتَنَّا امتحنا وقد وصفه بالكرم لأنه كان حبيبا في قومه أو بكرم خلقه، أو المراد أنه لم يخاشنهم في التبليغ كما قال فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] و «أَنْ» مفسرة لأن مجيء الرسول يتضمن القول، أو مخففة من الثقيلة، أو مصدرية والياء محذوف. وعِبادَ اللَّهِ مفعول به لقوله فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ [طه: 47] أو منادى والمعنى أدوا إليّ يا عباد الله ما هو واجب عليكم من الإيمان والطاعة. والقصة مذكورة في «الشعراء» وغيرها وأَنْ تَرْجُمُونِ أن تقتلون أو تشتمون بالنسبة إلى الكذب والسحر وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي أي لم تصدقوني ففارقوني وكونوا بمعزل عني لا عليّ ولا لي فَدَعا رَبَّهُ شاكيا أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ مصرون على الكفر فَأَسْرِ أي فأجبنا دعاءه وقلنا له أسر وكان من دعائه اللهم عجل لهم   (1) رواه مسلم في كتاب الفتن باب 39 أبو داود في كتاب الملاحم باب 12 ابن ماجه في كتاب الفتن باب 28 أحمد في مسنده (4/ 6) بلفظ «ترون عشر آيات: الدخان والدجال .... ونزول عيسى .... » الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 ما يستحقونه بإجرامهم. ويحتمل أن يكون الدعاء وهو ما في «يونس» رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ [الآية: 88] وفي رَهْواً وجهان: أحدهما ساكنا أي لا تضربه. ثانيا واتركه على هيئته من انتصاب الماء وكون الطريق يبسا. وذلك أن موسى أراد أن يضربه ثانيا حتى ينطبق ويزول الانفاق خوفا من أن يدركهم قوم فرعون، والله تعالى أراد أن يدخل القبط البحر ثم يطبقه عليهم، وثانيهما أن الرهو الفجوة الواسعة أي اتركه مفتوحا منفجرا على حاله. والنعمة بفتح النون التنعم والباقي مذكور في «الشعراء» . وقوله فَما بَكَتْ كان إذا مات الرجل الخطير قالوا في تعظيم مصيبته بكت عليه السماء والأرض وأظلمت الدنيا، ومنه الحديث «وما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء» وفيه تمثيل وتخييل وتهكم بهم أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم ويعتقدون أنهم لو ماتوا لقال الناس فيهم ذلك، فأخبر ما كانوا في هذا الحد بل كانوا أنهم دون ذلك. وجوز كثير من المفسرين أن يكون البكاء حقيقة وجعلوا الخسوف والكسوف والحمرة التي تحدث في السماء وهبوب الرياح العاصفة من ذلك. قال الواحدي في البسيط: روي أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما من عبد إلا له في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل فيه عمله، فإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية.» ثم إن هؤلاء الكفار لم يكن لهم عمل صالح يصعد إلى السماء فلا جرم لم تبك عليهم. وعن الحسن: أراد أهل السماء والأرض أي ما بكت عليهم الملائكة والمؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ أي لما جاء وقت هلاكهم لم يمهلوا إلى الآخرة بل عجل لهم في الدنيا. قوله مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من العذاب بل جعل في نفسه عذابا مهينا لشدة شكيمته وفرط عتوه. وقيل: المضاف محذوف أي من عذابه. وقيل: تقديره المهين الصادر من فرعون، وفي قراءة ابن عباس مِنْ فِرْعَوْنَ على الاستفهام أي ما ظنكم بعذاب من تعرفونه أنه عال قاهر عات مجاوز حد الاعتدال. ثم ثنى على بني إسرائيل بقوله وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ بإيتاء الملك والنبوة عَلى عِلْمٍ منا باستحقاقهم ذلك وقيامهم بالشكر عليه على عالمي زمانهم. ولا ريب أن هذا قبل التحريف. وقيل: أي على علم منا بأنه يبدو منهم بوادر وتفريطات والبلاء النعمة أو المحنة، والآيات هي التسع وغيرها. ثم عاد إلى ما انجر الكلام فيه وهو قوله بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ فقال إِنَّ هؤُلاءِ يعني كفار قريش لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى قال المفسرون: يؤل إلى ما حكى عنهم في موضع آخر إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [المؤمنون: 37] وذلك أن النزاع إنما وقع في موتة تعقبها حياة فأنكروا أن تكون موتة بهذا الوصف إلا الموتة الأولى وهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 حال كونهم نطفا. ويحتمل أن يراد إن هي أي الصفة أو النهاية أو الحالة أو العاقبة إلا الموتة الأولى، وليست إثباتا لموتة ثانية إنما هو كقولك: حج فلان الحجة الأولى، ومات وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أنشر الله الموتى أحياهم فَأْتُوا أيها النبي والذين آمنوا معه بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يروى أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله لهم إحياء الموتى فينشر كبيرهم قصي بن كلاب ليشاوروه في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة البعث، فلم يجبهم الله تعالى إلى ذلك ولكنه أوعدهم بقوله أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ أي ليسوا بخير منهم في العدد والعز والمنعة. ابن عباس: تبع نبي. أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا أدري تبع نبيا كان أم غير نبي» رواه الثعلبي عن عائشة كان رجلا صالحا ذم الله قومه ولم يذمه. وإنما خصهم بالذكر لقربهم من العرب زمانا ومكانا. وعن سعيد بن جبير كسا البيت. وقال قتادة: كان من حمير سار فبنى الحيرة وسمرقند. وقال أبو عبيدة: هم ملوك اليمن يسمى كل واحد منهم تبعا لكثرة تبعه، أو لأنه يتبع صاحبه وهو بمنزلة الخليفة للمسلمين، وكسرى للفرس، وقيصر للروم، وجمعه تبابعة، وكان يكتب إذا كتب بسم الذي ملك برا وبحرا. ثم برهن على صحة البعث بقوله وما خَلَقْناهُما إلى آخره، وقد مر في «الأنبياء» وفي «ص» نظيره. وإنما جمع السموات هاهنا لموافقة قوله في أول السورة رَبِّ السَّماواتِ وسمى يوم القيامة يوم الفصل لأنه يفصل بين عباده في الحكم والقضاء، أو يفصل بين أهل الجنة وأهل النار، أو يفصل بين المؤمنين وبين ما يكرهون وللكافرين بينهم وبين ما يشتهونه فيفصل بين الوالد وولده والرجل وزوجته والمرء وخليله. والمولى في الآية يحتمل الولي والناصر والمعين وابن العم، والمراد أن أحدا منهم بأي معنى فرض لا يتوقع منه النصرة. والضمير في لا هُمْ يُنْصَرُونَ للمولى الثاني لأنه جمع في المعنى لعمومه وشياعه. وقوله إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ في محل الرفع على البدل أو في محل النصب على الاستثناء إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على من عصى الرَّحِيمُ لمن أطاع. ثم أراد أن يختم السورة بوعيد الفجار ووعد الأبرار فقال إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ وقد مر تفسيرها في الصافات. والْأَثِيمِ مبالغة الآثم ولهذا يمكن أن يقال: إنه مخصوص بالكافر. والمهل دردي الزيت وقد مر في «الكهف» . ولعل وجه التشبيه هو بشاعة الطعم كما أن الوجه في قوله طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [الصافات: 65] هو كراهة المنظر ثم وصفه بشدة الحرارة قائلا يَغْلِي إلى آخره. ثم أخبر أنه سبحانه يقول للزبانية خُذُوهُ أي خذوا الأثيم فَاعْتِلُوهُ جروه بعنف وغلظة كأن يؤخذ بتلبيبه فيجر إلى وسط النار. ومنه العتل للجافي الغليظ. وقوله مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ دون أن يقول «من الحميم» تهويل سلوك لطريق الاستعارة لأنه إذا صب عليه الحميم فقد صب عليه عذابه وشدته. يروي أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 جبليها أعز ولا أمنع مني فو الله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي «شيئا» فنزلت الآية. أي يقال له ذق لأنك أنت العزيز الكريم عند نفسك وفيه من التهكم ما فيه إِنَّ هذا العذاب ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ تشكون. ثم شرع في وعد الأبرار والمقام الأمين ذو الأمن، أو أصله من الأمانة لأن المكان المخيف كأنما يخوف صاحبه بما يلقى فيه من المكاره. وقوله وَزَوَّجْناهُمْ اختلفوا في أن هذا اللفظ هل يدل على حصول عقد التزوج أم لا. والأكثرون على نفيه، وأن المراد قرناهم بهن. وقيل: زوجته امرأة وزوجته بامرأة لغتان. وهكذا اختلفوا في الحور. فعن الحسن: هن عجائزكم ينشئهن الله خلقا آخر. وقال أبو هريرة: لسن من نساء الدنيا. يَدْعُونَ أي يحكمون ويأمرون في الجنة بإحضار ما يشتهون من الفواكه في أي وقت ومكان آمِنِينَ من التخم والتبعات، ثم أخبر عن خلودهم بقوله لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى قال جار الله: هو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها. وقيل: الاستثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها. وقال أهل التحقيق: إن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس وفرحها بمعرفة الله وبمحبته. فالإنسان الكامل هو في الدنيا في الجنة. وفي الآخرة أيضا في الجنة فقد صح أنه لم يذق في الجنة إلا الموتة الأولى. ثم ختم الكلام بفذلكته والمعنى ذكرناهم بالكتاب المبين فأسهلناه حيث أنزلناه بلغتك إرادة تذكرهم فانتظر ما يحل فإنهم يتربصون بك الدوائر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 (سورة الجاثية) (مكية حروفها ألفان ومائة وأحد وستون كلمها أربعمائة وثمان وثمانون آياتها سبع وثلاثون) [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 37] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 القراآت: وَفِي خَلْقِكُمْ مدغما: عباس. آيات بالنصب في الموضعين: حمزة وعلي ويعقوب الريح على التوحيد: حمزة وعلي وخلف يُؤْمِنُونَ على الغيبة: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وسهل وحفص أَلِيمٌ مذكور في «سبأ» لنجزي بالنون: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف لِيَجْزِيَ بالياء مبنيا للمفعول قوم بالرفع: يزيد. الباقون: مبنيا للفاعل قَوْماً سواء بالنصب: حمزة وعلي وخلف وحفص وروح وزيد غشاوة بفتح الغين وسكون الشين من غير ألف: حمزة وعلي وخلف 3 كل أمة تدعي بالنصب على الإبدال من الأول: يعقوب الساعة بالنصب: حمزة لا يُخْرَجُونَ من الخروج حمزة وعلي وخلف. الوقوف: حم كوفي هـ الْحَكِيمِ هـ لِلْمُؤْمِنِينَ هـ ط ومن نصب، آياتٌ لم يقف لأنه عطف المفردين على المفردين وهما الخبر واسم أن المفردين يُوقِنُونَ هـ لا للعطف على عاملين كما يجيء يَعْقِلُونَ هـ بِالْحَقِّ ج للاستفهام مع الفاء يُؤْمِنُونَ هـ أَثِيمٍ هـ يَسْمَعْها ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب أَلِيمٍ هـ هُزُواً ط مُهِينٌ هـ ط لأنه لو وصل اشتبه بأنها وصف عَذابٌ جهنم ج لعطف المختلفين أَوْلِياءَ ج لذلك عَظِيمٌ هـ هُدىً ط لأن ما بعده مبتدأ مع العاطف أَلِيمٌ هـ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 تَشْكُرُونَ هـ ج للآية مع العطف مِنْهُ ط يَتَفَكَّرُونَ ج يَكْسِبُونَ هـ فَلِنَفْسِهِ ج فَعَلَيْها ز لأن «ثم» لترتيب الأخبار مع اتحاد القصة تُرْجَعُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ ج للآية والعطف مِنَ الْأَمْرِ ج لعطف المختلفين بَيْنَهُمْ ط يَخْتَلِفُونَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ شَيْئاً ج بَعْضٍ ج للتمييز بين الحالين المختلفين مع اتفاق الجملتين الْمُتَّقِينَ هـ يُوقِنُونَ هـ الصَّالِحاتِ قف ومن نصب سَواءً لم يقف. وَمَماتُهُمْ ط يَحْكُمُونَ هـ لا يُظْلَمُونَ هـ غِشاوَةً ط مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ط تَذَكَّرُونَ هـ الدَّهْرُ ج لاحتمال الواو الحال مِنْ عِلْمٍ ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى يَظُنُّونَ هـ صادِقِينَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط الْمُبْطِلُونَ هـ جاثِيَةً قف لمن قرأ كُلَّ بالرفع كِتابِهَا ط تَعْمَلُونَ هـ بِالْحَقِّ هـ ط تَعْمَلُونَ هـ فِي رَحْمَتِهِ ط الْمُبِينُ هـ مُجْرِمِينَ هـ مَا السَّاعَةُ لا تحرزا عن الابتداء بقول الكفار بِمُسْتَيْقِنِينَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ ناصِرِينَ هـ الدُّنْيا ج للعدول عن الخطاب إلى الغيبة يُسْتَعْتَبُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ وَالْأَرْضِ ص لعطف الجملتين المتفقتين الْحَكِيمُ هـ. التفسير: إعراب أول السورة وتفسيرها كإعراب أول «المؤمن» وتفسيره وقوله إِنَّ فِي السَّماواتِ إما أن يكون على ظاهره وآياتها الشمس والقمر والنجوم وحركاتها وأوضاعها وكذا العناصر والمواليد التي في الأرض مما يعجز الحاصر عن إدراك أعدادها، وإما أن يراد إن في خلق السموات والأرض فالآيات تشمل ما عددنا مع زيادة هيئتهما وما يتعلق بتشخيصهما. استدل الأخفش بالآية الثالثة على جواز العطف على عاملين مختلفين وهما في قراءة النصب «أن» وفي أقيمت الواو مقامهما فعملت الجر في اختلاف الليل، والنصب في آيات وهما في قراءة الرفع الابتداء وفي. وخرج لسيبويه في جوابه وجهان: أحدهما أن قوله لَآياتٍ تكرار محض للتأكيد فقط من غير حاجة إلى ذكرها كما تقول: إن في الدار زيدا وفي الحجرة زيدا والمسجد زيدا، وأنت تريد أن في الدار زيدا والحجرة والمسجد. والثاني إضمار في لدلالة الأول عليه، ويحتمل أن ينتصب لَآياتٍ على الاختصاص. ويرتفع بإضمار هي. وتفسير هذه الآيات قد مر في نظائرها مرارا ولا سيما في أواسط «البقرة» ومما يختص بالمقام أنه خص المؤمنين بالذكر أولا ثم قال لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ثم يَعْقِلُونَ فما سبب هذا الترتيب؟ قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: أراد إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإلا فإن كنتم طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين، فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل، وقال جار الله: معناه إن المنصفين من العباد إذا نظروا في السموات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 والأرض النظر الصحيح علموا أنها لا بد لها من صانع فآمنوا به وأقروا، فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال. وفي خلق ما بث من الدواب على ظهر الأرض، ازدادوا إيمانا وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس، وإذا نظروا في سائر الحوادث كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار التي هي سبب الأرزاق وحياة الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا، عقلوا واستحكم عقلهم وخلص يقينهم. وأقول: الدلائل المذكورة في هذه الآيات قسمان: نفسية وخارجية. فالنفسية أولى بالإيقان لأنه لا شيء أقرب إلى الإنسان من نفسه، والخارجية بعضها فلكية وبعضها آثار علوية. فالفلكية لبعدها عن الإنسان اكتفى فيها بمجرد التصديق، وأما الآثار العلوية فكانت أولى بالنظر والاستدلال لقربها وللإحساس بها فلا جرم خصت بالتعقل والتدبر، وأما تقديم السموات على الأرض فلشمولها ولتقدمها في الوجود. تِلْكَ مبتدأ والتبعيد للتعظيم والمشار إليها الآيات المتقدمة ونَتْلُوها في محل الحال. وقوله بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ كقولهم: أعجبني زيد وكرمه. وأصله بعد آيات الله. والمعنى أن من لم يؤمن بكلام الله فلن يؤمن بحديث سواه. وقيل: معناه القرآن آخر كتب الله، ومحمد آخر رسله. فإن لم يؤمنوا به فبأي كتاب بعده يؤمنون ولا كتاب بعده ولا نبي. ثم أوعد الناس المبالغين في الإثم وقد مر ما في الآية في سورة لقمان. قوله وَإِذا عَلِمَ أي شعر وأحس بأنه من جملة القرآن المنزل خاض في الاستهزاء، وإذا وقف على آية لها محل في باب الطعن والقدح افترضه وحمله على الوجه الموجب للطعن كاعتراض ابن الزبعري في قوله إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء: 98] وإنما أنّث الضمير في قوله اتَّخَذَها لأن الشيء في معنى الآية أو لأنه أراد أن يتخذ جميع الآيات هزوا ولا يقتصر على الاستهزاء بما بلغه. قوله مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ كل ما توارى عنك فهو وراء تقدم أو تأخر، وقد مر في سورة إبراهيم عليه السلام هذا هُدىً أي هذا القرآن كامل في باب الهداية والإرشاد. ثم ذكر دليلا آخر على الوحدانية وهو تسخير البحر لبني آدم وقد سبق وجه الدلالة مرارا. وقوله وَلِتَبْتَغُوا أي بسبب التجارة أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان أو باستخراج اللحم الطري. ثم عمم بعد التخصيص وقوله مِنْهُ في موضع الحال أي سخر جميع ما في السموات والأرض كائنة منه، يريد أنه أوجدها بقدرته وحكمته ثم سخرها لخلقه، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه النعم كلها منه. عن ابن عباس برواية عطاء أن الصحابة نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر- يقال لها المريسيع- فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر قعد على رأس البئر فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 وقرب أبي بكر وملأ لمولاه. فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك فبلغ قوله عمر فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني عمر يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لا يتوقعون وقائعه بأعداء الله أو لا يأملون قوة المؤمنين في أيام الله الموعودة لهم، والمراد الصفح والإعراض. عن عبد الله بن أبي وفي رواية ميمون بن مهران عن ابن عباس: لما نزلت مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [البقرة: 245] قال اليهودي فنحاص بن عازوراء: احتاج رب محمد فبلغ ذلك عمر فأخذ سيفه فخرج في طلبه، فجاء جبرائيل وأنزل الآية هذه. وليس المقصود أن لا تقتلوا ولا تقاتلوا حتى يلزم نسخها بآية القتال كما ذهب إليه كثير من المفسرين، ولكن الأولى أن يحمل على ترك المنازعة في المحقرات وفي أفعالهم الموحشة المؤذية، وإنما نكر قَوْماً مع أنه أراد بقوم الذين آمنوا وهم معارف ليدل على مدحهم والثناء عليهم كأنه قيل: لنجزي قوما كاملين في الصبر والإغضاء على أذى الأعداء بما يكسبون من الثواب العظيم بكظم الغيظ واحتمال المكروه، وقيل: القوم هم الكافرون الكاملون في النفاق. ثم فصل الجزاء وعمم الحكم بقوله مَنْ عَمِلَ صالِحاً الآية. ثم بين أن للمتأخرين من الكفار أسوة بالمتقدمين منهم والكتاب التوراة والحكم بيان الشرائع والبينات من الأمر أدلة أمور الدين. وقال ابن عباس: يريد أنه تبين لهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مهاجر من تهامة إلى يثرب. وقيل: هي المعجزات القاهرة على صحة نبوة موسى. فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ فيه احتمالان: أحدهما علموا ثم عاندوا، والثاني جاءهم أسباب المعرفة التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق ولكنهم أظهروا النزاع حسدا. ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ أي منهاج وطريقة مِنَ الْأَمْرِ أمر الدين وقيل: من الأمر الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا. قال الكلبي: إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ارجع إلى ملة آبائك وهم كانوا أفضل منك وأسن فزجره الله تعالى عن ذلك بقوله وَلا تَتَّبِعْ إلى آخره أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة لصرت مستحقا للعذاب وهم لا يقدرون على دفعه عنك. ثم أشار بعد النهي عن اتباع أهوائهم بقوله وَلا تَتَّبِعْ أتباعهم إلى الفرق بين ولاة الظالمين وهم أشكالهم من الظلمة، وبين ولي المتقين وهو الله سبحانه. ومن جملة آثار ولايته وبركة عنايته هذا القرآن. وقيل: ما تقدم من اتباع الشريعة وترك طاعة الظالم وجعل القرآن مشارا إليه أولى لقوله بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ إلى آخره. وقد مر في آخر «الأعراف» مثله. ثم بين الفرق بين الظالمين والمتقين من وجه آخر قائلا أَمْ حَسِبَ قال جار الله: «أم» منقطعة والآية نظيرة ما سلف في «ص» أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ [الآية: 28] والاجتراح الاكتساب. من قرأ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 سَواءً بالنصب فمعناه مستويا والظاهر بعده فاعله ويكون انتصابه على البدل من ثاني مفعولي نَجْعَلَهُمْ وهو الكاف. ومن قرأ بالرفع فخبر ومَحْياهُمْ مبتدأ والجملة بدل أيضا لأن الجملة تقع مفعولا ثانيا. والمعنى إنكار أن يستوي الفريقان حياة وموتا، لأن المحسنين عاشوا على الطاعة وإنهم عاشوا على المعصية ومات أولئك على البشرى والرحمة، ومات هؤلاء على الضد. وقيل: معناه إنكار أن يستويا في الممات كما استووا في الحياة من حيث الصحة والرزق، بل قد يكون الكافر أرجح حالا من المؤمن. فالفرق المقتضي لسعادة المؤمن وشقاوة الكافر إنما يظهر بعد الوفاة. وقيل: إنه كلام مستأنف، والمراد أن كلا من الفريقين يموت على حسب ما عاش عليه لقوله صلى الله عليه وسلم «كما تعيشون تموتون» وحين أفتى بأن المؤمن لا يساويه الكافر في درجات السعادات استدل على صحة هذه الدعوى بقوله وَخَلَقَ اللَّهُ الآية. قال جار الله: وَلِتُجْزى معطوف على بِالْحَقِّ لأنه في معنى التعليل أي للعدل، أو ليدل بها على قدرته وللجزاء. ويجوز أن يكون المعلل محذوفا وهو فعلنا ونحوه. والحاصل أن الغاية من خلق السماء والأرض كان هو الإنسان الكامل فكيف يترك الله جزاءه وجزاء من هو ضده والتميز بينهما بموجب العدالة. ثم قرر أسباب ضلال المضلين قائلا أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي يتبع ما تدعو إليه نفسه الأمارة وقد مر في الفرقان وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ بحاله أنه من أهل الخذلان والقهر، أو على علم الضلال في سابق القضاء، أو على علم بوجوه الهداية وإحاطته بالألطاف المحصلة لها. وقيل: أراد به المعاند لأن ضلاله عن علم فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ إضلال اللَّهُ قال بعض العلماء: قدم السمع على القلب في هذه الآية وبالعكس في «البقرة» لأن كفار مكة كانوا يبغضونه بقلوبهم وما كانوا يستمعون إليه وكفار المدينة، كانوا يلقون إلى الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن وأنه يطلب الملك والرياسة، فالسامعون إذا سمعوا ذلك أبغضوه ونفرت قلوبهم عنه. ففي هذه الصورة على هذا التقدير كان الأثر يصعد من البدن إلى جوهر النفس، وفي الصورة الأولى كان الأثر ينزل من جوهر النفس إلى قرار البدن، فورد ما في كل سورة على ترتيبه. ثم ذكر من أسباب الضلال سببا آخر وهو إنكارهم البعث معتقدين أن لا حياة إلا هذه. وليس قولهم الدنيا تسلما لثانية وإنما هو قول منهم على لسان المقرين وبزعمهم نَمُوتُ وَنَحْيا فيه تقديم وتأخير على أن الواو لا توجب الترتيب. وقيل: يموت الآباء وتحيا الأبناء وحياة الأبناء حياة الآباء، أو يموت بعض، ويحيا بعض، أو أرادوا بكونهم أمواتا حال كونهم نطفا، أو هو على مذهب أهل التناسخ أي يموت الرجل ثم تجعل روحه في بدن آخر. ثم إنهم لم يقنعوا بإنكار المعاد حتى ضموا إليه إنكار المبدأ قائلين وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ اعتقدوا أن تولد الأشخاص وكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 الممتزجات وفسادها ليس إلا بسبب مزاوجات الكواكب. ولا حاجة في هذا الباب إلى مبدىء المبادئ فأجاب الله عن شبهتهم بقوله وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي ليس لهم على ما قالوه دليل وإنما ذكروا ذلك ظنا تخمينا واستبعادا فلا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى قولهم، لأن الحجة قامت على نقيض ذلك وهي دليل المبدأ والمعاد المذكور مرارا وأطوارا. وليس قولهم ائْتُوا بِآبائِنا من الحجة في شيء لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال فإنه يمتنع حصوله في الاستقبال بدليل الحادث اليومي الممتنع حصوله في الأمس، فوجه الاستثناء أنه في أسلوب قوله: تحية بينهم ضرب وجيع وحين بكتهم وسكتهم صرح بما هو الحق وقال قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ إلى آخره. ثم أراد أن يختم السورة بوصف يوم القيامة وما سيجري على الكفار فيه فقال وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ العامل فيه يخسر وقوله يَوْمَئِذٍ بدل من يَوْمَ وفيه تأكيد للحصر المستفاد من تقديم الظرف. قال ابن عباس: الجاثية المجتمعة للحساب المترقبة لما يعمل بها. وقيل: باركة جلسة المدعي عند الحاكم. وقيل: مستوفزا لا يصيب الأرض إلا ركبتاه وأطراف أنامله. والجثو للكفار خاصة. وقيل: عام بدليل قوله بعد ذلك فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا تُدْعى إِلى كِتابِهَا يريد كتاب الحفظة ليقرؤه. وقال الجاحظ: إلى كتاب نبيها فينظر هل عملوا به أم لا. ويقال: يا أهل التوراة يا أهل القرآن. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ بتقدير القول ومما يؤيد القول الأول قوله هذا كِتابُنا إلى قوله إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ أي نأمر بالنسخ. وإضافة الكتاب تارة إليهم وأخرى إلى الله عز وجل صحيحة لأن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة، فأضيف إليهم لأن أعمالهم مثبتة فيه، وأضيف إلى الله سبحانه لأنه أمر ملائكته بكتبه. قوله أَفَلَمْ تَكُنْ القول فيه مقدر أي فيقال لهم ذلك قوله إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا قال أبو علي والأخفش: هذا الكلام جار على غير الظاهر لأن كل من يظن فإنه لا يظن إلا الظن، فتأويله أن ينوي به التقديم أي ما نحن إلا نظن ظنا. وقال المازني: تقديره إن نظن نحن إلا ظنا منكم أي أنتم شاكون فيما تزعمون وما نحن بمستيقنين أنكم لا تظنون. وقال جار الله: أصله نظن ظنا ومعناه إثبات الظن فحسب. فأدخل أداة الحصر ليفيد إثبات الظن مع نفي ما سواه وأقول: الظن قد يطلق على ما يقرب من العلم، ولا ريب أن لهذا الرجحان مراتب وكأنهم نفوا كل الظنون إلا الذي لا ثبوت علم فيه وأكدوا هذا المعنى بقوله وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وباقي السورة واضح مما سلف والله أعلم. تم الجزء الخامس والعشرون ويليه الجزء السادس والعشرون أوله تفسير سورة الأحقاف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء السادس والعشرون من أجزاء القرآن الكريم (سورة الأحقاف) (مكية غير آية نزلت في عبد الله بن سلام قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية حروفها ألفان وثلاثمائة كلماتها ثلاثمائة وأربع وأربعون آياتها خمس وثلاثون) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 القراآت: لتنذر على الخطاب: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وسهل ويعقوب. الباقون: على الغيبة. والضمير للكتاب إِحْساناً: حمزة وعلي وخلف وعاصم. الباقون: حسنا كرها في الموضعين بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وجبلة وهشام. الباقون: بالضم وفصله يعقوب. الآخرون وفصاله أَوْزِعْنِي أَنْ بالفتح: ابن كثير غير القوّاس والنجاري عن ورش وقالون غير الحلواني نَتَقَبَّلُ بالنون أَحْسَنَ بالنصب وَنَتَجاوَزُ بالنون: حمزة وعلي وخلف وحفص. الآخرون بياء الغيبة مبنيا للمفعول في الفعلين أحسن بالرفع أُفٍّ بالكسر والتنوين: أبو جعفر ونافع وحفص والمفضل. وقرأ ابن كثير بالفتح من غير تنوين. الباقون: بالكسر ولا تنوين أتعدانني أن بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وقرأ هشام مدغمة النون وَلِيُوَفِّيَهُمْ بالياء: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم. الباقون: بالنون أأذهبتم بتحقيق الهمزتين: ابن ذكوان آذهبتم بالمدّ: ابن كثير ويزيد وسهل ويعقوب وهشام. الباقون: بهمزة واحدة. الوقوف: حم هـ كوفي الْحَكِيمِ هـ مُسَمًّى ط مُعْرِضُونَ هـ السَّماواتِ هـ لانتهاء الاستفهام إلى الخطاب صادِقِينَ هـ غافِلُونَ هـ كافِرِينَ هـ مُبِينٌ هـ لأن «أم» تتضمن استفهام إنكار افْتَراهُ ط شَيْئاً ط فِيهِ ط وَبَيْنَكُمْ ط الرَّحِيمُ هـ بِكُمْ ط مُبِينٌ هـ ط وَاسْتَكْبَرْتُمْ ط الظَّالِمِينَ هـ إِلَيْهِ ط قَدِيمٌ هـ وَرَحْمَةً ط لِلْمُحْسِنِينَ هـ يَحْزَنُونَ هـ فِيها ج لأن جَزاءً يصلح مفعولا له ومفعول فعل محذوف أي يجزون جزاء يَعْمَلُونَ هـ إِحْساناً ط وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ط شَهْراً ط سَنَةً لا لأن ما بعده جواب «إذا» ذُرِّيَّتِي ط للابتداء بإن مع اتحاد الكلام الْمُسْلِمِينَ هـ الْجَنَّةِ ط لأن التقدير وعد الله وعدا صدقا وهو مصدر مؤكد لأن قوله نَتَقَبَّلُ في معنى الوعد يُوعَدُونَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ وَالْإِنْسِ ط خاسِرِينَ هـ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 عَمِلُوا ج لأن الواو تكون مقحمة ويتصل اللام بما قبله وقد يكون المعلل محذوفا كأنه قيل: وليوفيهم أعمالهم قدّر جزاءهم على مقادير أعمالهم لا يُظْلَمُونَ هـ ط لتقدير القول وهو العامل في يوم بِها ج لابتداء التهديد مع الفاء تَفْسُقُونَ هـ. التفسير: إنما كرر تنزيل الكتاب لأنه بمنزلة عنوان الكتب ثم ذكر ما أنزل فقال ما خَلَقْنَا إلى قوله وَأَجَلٍ مُسَمًّى وقد مر في أوّل «الروم» أنه الوقت الذي عينه لإفناء الدنيا. وحين بين الدليل على وجود الإله ووقوع الحشر فرع عليه الردّ على عبدة الأوثان بقوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ وقد مر في «فاطر» . والمراد أنهم لا يستحقون العبادة أصلا لأنهم ما خلقوا شيئا في هذا العالم لا في الأرض ولا في السماء، ولم يدل وحي من الله على عبادتهم لأن هذا القرآن ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك وما من كتاب قبله إلا هو ناطق بمثل ذلك. فقوله ائْتُونِي من باب إرخاء العنان وتوسيع المجال على الخصم أي إن كنتم في شك مما قلت فقد أمهلتكم حتى تأتوني بعد الاستقراء بِكِتابٍ فيه شيء من ذلك أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال الواحدي: كلام أهل اللغة في تفسير هذا الحرف يدور على ثلاثة أوجه: أحدها البقية من قولهم «سمنت الناقة على إثارة من شحم» أي على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب. والثاني أنه من الأثر بمعنى الرواية. والثالث من الأثر بمعنى العلامة والمراد ما بقي أو روي عن أسلافهم ويعدّونه علما. عن ابن عباس مرفوعا أنه الخط. قال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن صادف مثل خطه علم علمه. ثم زاد في تبكيتهم وتوبيخهم بقوله وَمَنْ أَضَلُّ الآية. وبالجملة فالدليل الأوّل دل على نفي القدرة عنهم من كل الوجوه، وهذا الدليل دل على نفي العلم عنهم من كل الوجوه، فإذا انتفى العلم والقدرة عن الجسم لم يكن إلا جمادا وعبادة الجماد محض الضلال. وقوله إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ تأبيد على عادة العرب، ويحتمل أن يكون توقيتا بدليل قوله وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وهذا التبري والتخاطيب نوع من الاستجابة. ثم قرر غاية عنادهم بقوله وَإِذا تُتْلى ثم عجب من حالهم بقوله أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ الآية أي إن كذبت على الله كما زعمتم عاجلني بالعقوبة فلا تقدرون على دفع عذابه عني فأي فائدة لي في الافتراء. ثم فوّض أمرهم إلى الله قائلا هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ أي تتدفعون فيه من القدح في الوحي، وتسميته سحرا تارة وافتراء أخرى وفي قوله وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ إشارة إلى أنهم لو رجعوا إلى الحق وتابوا عن الشرك قبل الله توبتهم، وفيه إشعار بحلم الله عنهم مع عظم ما ارتكبوه. ثم أراد أن يزيل شبهتهم بنوع آخر من البيان فقال قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً هو بمعنى البديع كالخف بمعنى الخفيف أي لست بأوّل رسول أرسله الله ولا جئتكم بأمر بديع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 لم يكن إلى مثله سابق. وفيه إن اقتراح الآيات الغريبة فيه غير موجه لأنه لا يتبع إلا الوحي وما هو إلا نذير وليس إليه أن يأتي بكل ما يقترح عليه، وفيه أنه غير عالم بالمغيبات إلا بطريق الوحي فلا وجه لاستدعاء الغيوب عنه سواء تتعلق بأحوال الدنيا أو بأحوال الآخرة من الأحكام والتكاليف وما يؤل أمر المكلفين إليه، وفيه أنه لا وجه لتعييره بالفقر وبأكل الطعام والمشي في الأسواق لأن الرسل كلهم أو جلهم كانوا كذلك. قال ابن عباس في رواية الكلبي: لما اشتدّ البلاء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك، ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك فقالوا: يا رسول الله ما رأينا الذي قلت ومتى تهاجر؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله الآية. وعنه في رواية أخرى أنه لما نزلت هذه الآية فرح المشركون والمنافقون واليهود وقالوا: كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بأمته، فأنزل الله تعالى إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً إلى قوله فَوْزاً عَظِيماً [الفتح: 1] فبين الله تعالى ما يفعل به وبأمته ونسخت هذه الآية. والأصح عند العلماء أنه لا حاجة إلى التزام النسخ، فإن الدراية المفصلة غير حاصلة، وعلى تقدير حصولها فإنه لم ينف إلا الدراية من قبل نفسه، وما نفي الدراية من جهة الوحي. وقوله وَلا بِكُمْ في حيز النفي ولا أدري ما يفعل بكم. و «ما» موصولة أو استفهامية، ومحل الأولى نصب، والثانية رفع. ثم قرر أنه لا أظلم منهم فقال قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية. وقد مر نظيره في آخر «حم السجدة» إلا أنه زاد هاهنا حديث الشاهد وفيه أقوال: أحدها أنه عبد الله بن سلام لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نظر إلى وجهه وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر فآمن به. وعن سعد بن أبي وقاص: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه نزل وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ على مثل القرآن. والمعنى وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة للقرآن من التوحيد والمعاد. وعلى هذا فقوله عَلى مِثْلِهِ يتعلق بشاهد أي ويشهد على صحة القرآن. ويجوز أن يعود الضمير في مِثْلِهِ إلى المذكور وهو كونه من عند الله، فيكون الجار متعلقا ب شَهِدَ قال جار الله: الواو الأخيرة عاطفة ل اسْتَكْبَرْتُمْ على شَهِدَ وأما الواو في وَشَهِدَ فقد عطفت جملة قوله وَشَهِدَ إلى آخره على جملة قوله كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ والمعنى أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله وإيمانه به مع استكباركم عنه، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ يدل على هذا الجواب المحذوف قوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قلت: هذا كلام حسن. ويجوز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 أن يكون قوله وَاسْتَكْبَرْتُمْ معطوفا على قوله فَآمَنَ. ويجوز أن يكون الواو في وَشَهِدَ للحال بإضمار «قد» . قال: وقد جعل الإيمان في قوله فَآمَنَ مسببا عن الشهادة لأنه لما علم أن مثله أنزل على موسى وأنصف من نفسه اعترف بصحته وآمن. القول الثاني ما ذكر الشعبي في جماعة أن السورة مكية وقد أسلم ابن سلام بالمدينة، فالشاهد هو موسى وشهادته هو ما في التوراة من بعث محمد صلى الله عليه وسلم وإيمانه تصديقه ذلك. القول الثالث أن الشاهد ليس شخصيا معينا وتقدير الكلام لو أن رجلا منصفا عارفا بالتوراة أقر بذلك واعترف به ثم آمن بمحمد واستكبرتم أنتم، ألم تكونوا ظالمين ضالين؟ والمقصود أنه ثبت بالمعجزات القاهرة أن هذا الكتاب هو من عند الله، وثبت بشهادة الثقات أن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ثبوت هذين الأمرين كيف يليق بالعاقل إنكار نبوته؟ ثم ذكر شبهة أخرى لهم وهي أنهم قالوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي لأجلهم وفي حقهم لَوْ كانَ ما أتى به محمد خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وقيل: اللام كما في قولك «قلت له» . وضعف بأنه لو كان كذلك لقيل ما سبقتمونا إليه. وأجيب بأنه وارد على طريقة الالتفات، أو المراد أن الكفار لما سمعوا أن جماعة آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبوا جماعة من المؤمنين الحاضرين بأنه لو كان هذا الدين خيرا لما سبقنا إليه أولئك الغائبون. قال المفسرون: لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع: لو كان ما دخل فيه هؤلاء من الدين خيرا ما سبقونا إليه، ونحن أرفع منهم حالا وأكثر مالا وهؤلاء رعاة الغنم. وقيل: قاله أغنياء قريش للفقراء المؤمنين كعمار وصهيب وابن مسعود. وقيل: هم اليهود قالوه عند إسلام عبد الله بن سلام وأصحابه. والعامل في قوله وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ محذوف وهو ظهر عنادهم وذلك أن «إذ» للمضي، والسين للاستقبال وبينهما تدافع. والإفك القديم كقولهم أساطير الأوّلين. وقيل: كذب ككذب عيسى عليه السلام قوله وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى خبر ومبتدأ وقوله إِماماً أي قدوة يؤتم به في أصول شرائع الله، نصب على الحال كقولك «في الدار زيد قائما» . وقوله لِساناً عَرَبِيًّا حال من ضمير الكتاب في مُصَدِّقٌ أي لما بين يديه وهو العامل فيه ويجوز أن يكون حالا من كِتابُ لأنه موصوف والعامل معنى الإشارة. وجوز أن يكون مفعولا ل مُصَدِّقٌ على حذف المضاف أي يصدّق ذا لسان عربي هو الرسول. قوله وَبُشْرى معطوف على محل لتنذر لأنه مفعول له. وحين قرر دلائل التوحيد والنبوة وذكر شبه المنكرين مع أجوبتها، أراد أن يذكر طريقة المحقين فقال إِنَّ الَّذِينَ قالُوا الآية. وقد مر في «حم السجدة» إلا أنه رفع واسطة الملائكة هاهنا من البين. ثم إن أعظم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 أنواع الاستقامة كان هو الشفقة على خلق الله ولا سيما على الوالدين فلذلك قال وَوَصَّيْنَا الآية. وقد مرّ في «الروم» و «لقمان» . والكره بالضم، والفتح المشقة أي ذات كره أو حملا ذاكره. والفصل والفصال كالفطم والفطام بناء ومعنى، والمقصود بيان مدّة الرضاع. ولما كان منتهيا بالفصال صح التعبير عن آخر الرضاع بالفصال، والفائدة فيه الدلالة على الرضاع التام المنتهي بالفصال. وقد يستدل من هذه الآية ومن قوله وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [البقرة: 233] أن مدة الحمل ستة أشهر. وعن عمر أن امرأة ولدت لستة أشهر فرفعت إليه فأمر برجمها، فأخبر عليا رضى الله عنه بذلك فمنعه محتجا بالآية فصدّقه عمر وقال: لولا علىّ لهلك عمر. قال جالينوس: إني كنت شديد الفحص عن مقادير أزمنة الحمل فرأيت امرأة ولدت في المائة والأربع والثمانين ليلة. وزعم أبو علي بن سينا أنه شاهد ذلك. وذكر أهل التجارب قاعدة كلية قالوا: إن لتكوّن الجنين زمانا مقدّرا، فإذا تضاعف ذلك الزمان تحرك الجنين، ثم إذا انضاف إلى المجموع مثلاه انفصل الجنين. وعلى هذا فلو تمت خلقة الجنين في ثلاثين يوما فإذا أتى عليه مثل ذلك أي تصير مدة علوقه ستين تحرك، فإذا انضاف إلى هذا المقدار مثلاه وهو مائة وعشرون وصار المبلغ مائة وثمانين انفصل، ولو تمت خلقته في خمسة وثلاثين يوما تحرك في سبعين وانفصل في مائتين وعشرة وهو سبعة أشهر، ولو تمت خلقته في أربعين تحرك في ثمانين وانفصل في مائتين وأربعين وهو ثمانية أشهر، وقلما يعيش هذا المولود إلا في بلاد معينة مثل مصر، وقد مرّ هذا المعنى في هذا الكتاب. ولو تمت في خمسة وأربعين تحرك في تسعين وانفصل في مائتين وسبعين وهي تسعة أشهر وهو الأكثر، أما أكثر مدّة الحمل فليس يعرف له دليل من القرآن. وذكر أبو علي بن سينا في كتاب الحيوان من الشفاء في الفصل السادس من المقالة التاسعة، أن امرأة ولدت بعد الرابع من سني الحمل ولدا قد نبتت أسنانه وعاش. وعن أرسطاطاليس أن زمان الولادة لكل الحيوان مضبوط سوى الإنسان. هذا وقد روى الواحدي في البسيط عن عكرمة أنه قال: إذا حملت تسعة أشهر أرضعته أحدا وعشرين شهرا. وعلى هذا قوله حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ أكثر المفسرين كما مر في آخر «الأنعام» وأوّل «يوسف» و «القصص» . على أن وقت الأشد هو زمان الوصول إلى آخر سن النشوء والنماء وهو ثلاث وثلاثون سنة تقريبا، وإن في الأربعين يتم الشباب وتأخذ القوى الطبيعية والحيوانية في الانتفاص، والقوّة العقلية والنطقية في الاستكمال، وهذا أحد ما يدل على أن النفس غير البدن ومن جملة الكمال أنه حينئذ يقول رَبِّ أَوْزِعْنِي أي ألهمني ووفقني كما مر في «النمل» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 قال علماء المعاني: قوله فِي ذُرِّيَّتِي كقوله «يجرح في عراقيبها نصلي» فكأنه سأل أن يجعل ذرّيته موقعا للصلاح ومظنة له. وقوله أَحْسَنَ ما عَمِلُوا إما بمعنى الحسن أو المراد الواجب والندب دون المباح. وقوله فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ في موضع الحال أي معدودين فيهم. عن ابن عباس وجم غفير من المفسرين أن الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق، وفيه أبيه أبي قحافة وأمه أم الخير، وفي أولاده واستجابة دعائه فيهم، ولم يكن أحد من الصحابة المهاجرين والأنصار أسلم هو ووالده وبنوه وبناته غير أبي بكر. قالوا: ومما يؤيد هذا القول أنه سبحانه حكى عن ذلك الإنسان أنه قال بعد أربعين سنة رب أوزعني إلخ. ومعلوم أنه ليس كل إنسان قد يقول هذا القول. والأظهر أن هذا عام لهذا الجنس، وأن الإنسان قد يقول هذا القول ولا أقل من أن يكون واردا على طريقة الإرشاد والتعليم. سلمنا ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله وَالَّذِي قالَ مبتدأ خبره أُولئِكَ والمراد بالذي جنس القائل فلذلك أورد الخبر مجموعا. ويجوز أن يكون الخبر عاما في القائل وفي أمثاله فيندرج فيه القائل. وقيل: تقديره واذكر الذي ومن القائل. عن الحسن وقتادة: هو الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث. وذهب السدّي إلى أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه وأنه كان يقول لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما وهي كلمة تضجر وتبرم كما مر في «سبحان» و «الأنبياء» أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ من القبر وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي فلم يرجع أحدهم وَهُما يعني أبويه يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي بالله فحذف الجار وأوصل الفعل والمراد يسألانه أن يوقفه للإيمان ويقولان له وَيْلَكَ آمِنْ بالله وبالبعث. والمراد بالدعاء عليه الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك. قال السدّي: فاستجاب الله دعوة أبي بكر فيه فأسلم وحسن إسلامه ولما أسلم نزل فيه وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وأكثر المفسرين ينكرون هذا القول لأنه سبحانه قال فيه أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ كائنين فِي أُمَمٍ إلى آخره. وأن عبد الرحمن لم يبق كافرا بل كان من سادات المسلمين. وروي عن عائشة إنكاره أيضا. وذلك أنه حين كتب معاوية إلى مروان بن الحكم ابن أبي العاص بأن يبايع الناس ليزيد، ردّ عليه عبد الرحمن وقال مروان: يا أيها الناس هو الذي قال الله فيه وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ فسمعت عائشة فغضبت وقالت: والله ما هو به ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه. ثم ميز حال المؤمن من حال الكافر بقوله وَلِكُلٍّ أي من الجنسين دَرَجاتٌ من جزاء ما عملوا فغلب أهل الدرجات على أهل الدركات، أو الدرجات هي المراتب متصاعدة أو متنازلة، والباقي واضح مما مرّ. والاستكبار عن قبول الحق ذنب القلب، والفسق عمل الجوارح، والأوّل أولى بالتقديم لعظم موقعه. وقد يحتج بالآية على أن الكفار مخاطبون بالفروع. قال مؤلف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 الكتاب: والأشياء الطيبة اللذيذة غير منهي عنها لقوله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32] ولكن التقشف وترك التكلف دأب الصالحين لئلا يشتغل بغير المهم عن المهم، ولأن ما عدا الضروري لا حصر له وقد يجر بعضه بعضا إلى أن يقع المرء في حدّ البعد عن الله. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها ورقاعا فقال: أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى ويستر البيت كما تستر الكعبة؟ قالوا: نحن يومئذ خير. قال: بل أنتم اليوم خير. وعن عمر لو شئت لكنت أطيبكم طعاما وأحسنكم لباسا ولكنني أستبقي طيباتي لأن الله وصف قوما فقال أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ وعنه أن رجلا دعاه إلى طعام فأكل ثم قدّم شيئا حلوا فامتنع وقال: رأيت الله نعى على قوم شهواتهم فقال أَذْهَبْتُمْ الآية. فقال الرجل: اقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا ولست منهم فأكل وسرّه ما سمع. والتحقيق أن المراد هو أنه ما كتب للكافر حظ من الطيبات إلا الذي أصابه في دنياه، وليس في الآية إن كل من أصاب الطيبات في الدنيا فإنه لا يكون له منها حظ في الآخرة والله أعلم بالصواب. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 35] وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 القراآت: إني أخاف بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وخلف. لا يُرى بالياء التحتانية مبنيا للمفعول إِلَّا مَساكِنُهُمْ بالرفع: عاصم وحمزة وخلف وسهل ويعقوب. الباقون لا ترى على خطاب كل راء مساكنهم بالنصب بَلْ ضَلُّوا بإدغام اللام في الضاد: عليّ. وَإِذْ صَرَفْنا بإدغام الذال في الصاد وكذا ما يشبهه: أبو عمرو وعليّ وهشام وحمزة في رواية خلاد وابن سعدان وأبي عمرو يقدر فعلا مضارعا من القدرة: سهل ويعقوب. الوقوف: عادٍ ط لأن «إذ» يتعلق بأذكر محذوفا وهو مفعول به. هذا قول السجاوندي، وعندي أن لا وقف. وقوله «إذ» بدل الاشتمال من أَخا عادٍ. إِلَّا اللَّهَ ط عَظِيمٍ هـ آلِهَتِنا ج لتناهي الاستفهام مع تعقيب الفاء الصَّادِقِينَ هـ عِنْدَ اللَّهِ ز لاختلاف الجملتين لفظا ولكن التقدير وأنا أبلغكم تَجْهَلُونَ هـ مُمْطِرُنا ط لتقدير القول بِهِ ط لأن التقدير هذه ريح أَلِيمٌ هـ لا لأن ما بعده صفة مَساكِنُهُمْ ط الْمُجْرِمِينَ هـ وَأَفْئِدَةً ز لعطف الجملتين المختلفتين والوصل أولى للفاء واتحاد الكلام يَسْتَهْزِؤُنَ هـ يَرْجِعُونَ هـ آلِهَةً ج لتمام الاستفهام عَنْهُمْ ج لعطف الجملتين يَفْتَرُونَ هـ الْقُرْآنَ ج لكلمة المجازاة مع الفاء أَنْصِتُوا ج لذلك مُنْذِرِينَ هـ مُسْتَقِيمٍ هـ أَلِيمٍ هـ أَوْلِياءُ ط مُبِينٍ هـ الْمَوْتى ط قَدِيرٌ هـ النَّارِ ط لتقدير القول بِالْحَقِّ ط وَرَبِّنا ط تَكْفُرُونَ هـ لَهُمْ ط يُوعَدُونَ هـ لا لأن ما بعده خبر «كأن» نَهارٍ ط بَلاغٌ ج للاستفهام مع الفاء الْفاسِقُونَ هـ. التفسير: إنه سبحانه بعد حكاية شبه المكذبين والأجوبة عنها، وبعد إتمام ما انجر الكلام إليه، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر قومه بقصة هود أعني أخا عاد لأنه واحد منهم. والأحقاف جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوج، ويقال له الشحر من بلاد اليمن. وقيل: بين عمان ومهرة. والنذر جمع نذير مصدر أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 صفة. الواو في قوله وَقَدْ خَلَتِ إما أن تكون للحال والمعنى أنذرهم وهم عالمون بإنذار الرسل من قبل ومن بعده، وإما أن يكون اعتراضا والمعنى واذكروا وقت إنذار هود قومه أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك فأذكرهم قوله لِتَأْفِكَنا أي لتصرفنا عن عبادة آلهتنا. قوله إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أي لا علم لي بالوقت الذي عينه الله لتعذيبكم فلا معنى لاستعجالكم ولهذا نسبهم إلى الجهالة، وأيّ جهل أعظم من نسبة نبي الله إلى الكذب. ومن ترك طريقة الاحتياط ومن استعجال ما فيه هلاكهم، والضمير في قوله فَلَمَّا رَأَوْهُ عائد إلى الموعود، أو هو مبهم يوضحه قوله عارِضٌ أي سحاب عرض في نواحي السماء. والإضافة في قوله مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ومُمْطِرُنا لفظية ولهذا صح وقوعها صفة للنكرة. والتدمير الإهلاك والاستئصال. وفي قوله بِأَمْرِ رَبِّها إشارة إلى إبطال قول من زعم أن مثل هذه الآثار مستند إلى تأثيرات الكواكب بالاستقلال. ثم زاد في تخويف كفار مكة وذكر فضل عاد في القوة الجسمانية وفي الأسباب الخارجية عليهم فقال وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ قال المبرد: «ما» موصولة و «إن» نافية أي في الذي لم نمكنكم فيه. وقال ابن قتيبة: «إن» زائدة وهذا فيه ضعف لأن الأصل حمل الكلام على وجه لا يلزم منه زيادة في اللفظ، ولأن المقصود فضل أولئك القوم على هؤلاء حتى يلزم المبالغة في التخويف، وعند تساويهما يفوت هذا المقصود. وقيل: «إن» للشرط والجزاء مضمر أي في الذي إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر. قوله مِنْ شَيْءٍ أي شيئا من الإغناء وهو القليل منه. وقوله إِذْ كانُوا ظرف لما أغنى وفيه معنى التعليل كقولك «ضربته إذ أساء» . قوله مِنَ الْقُرى يريد من قريات عاد وثمود ولوط وغيرهم بالشام والحجاز واليمن، وتصريف الآيات أي تكريرها. قيل: للعرب المخاطبين والأظهر أنه للماضين لقوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن شركهم، والأوّلون حملوه على الالتفات. ثم وبخهم بأن أصنامهم لم يقدروا على نصرتهم وشفاعتهم. فقوله آلِهَةً مفعول ثان ل اتَّخَذُوا والمفعول الأول محذوف وهو الراجع إلى الَّذِينَ وقُرْباناً حال أو مفعول له أي متقربين إلى الله، أو لأجل القربة بزعمهم. والقربان مصدر أو اسم لما يتقرب به إلى الله عز وجل. ويجوز أن يكون قُرْباناً مفعولا ثانيا وآلِهَةً بدلا أو بيانا. قوله وَذلِكَ إِفْكُهُمْ أي عدم نصرة آلهتهم وضلالهم عنهم وقت الحاجة محصول إفكهم وافترائهم، أو عاقبة شركهم وثمرة كذبهم على الله. وحين بيّن أن الإنس من آمن وفيهم من كفر، أراد أن يبين أن نوع الجن أيضا كذلك. وفي كيفية الواقعة قولان: أحدهما عن سعيد بن جبير وعليه الجمهور: كانت الجن تسترق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 فلما رجموا قالوا: هذا إنما حدث في السماء لشيء حدث في الأرض. فذهبوا يطلبون السبب فوافوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يصلي بأصحابه أو منفردا. فمنهم من قال صلاة العشاء الآخرة ومنهم من قال صلاة الصبح، فقرأ فيها سورة «اقرأ» فسمعوا القرآن وعرفوا أن ذلك هو السبب. وعلى هذا لم يكن ذلك بعلم منه صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه. والقول الثاني أنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك فقال لأصحابه: إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجن فأيكم يتبعني؟ فأتبعه ابن مسعود، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعب الحجون وخط على ابن مسعود وقال: لا تبرح حتى آتيك. قال: فسمعت لغطا شديدا حتى خفت على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم علا بالقرآن أصواتهم. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن اللغط فقال: اختصموا إليّ في قتيل كان بينهم فقضيت فيهم. وفي رواية أخرى عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمعك ماء؟ قلت: يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر. فاستدعاه فصببت على يده فتوضأ فقال: تمرة طيبة وماء طهور. واختلفوا في عددهم: عن ابن عباس: كانوا تسعة من جن نصيبين أو نينوى. وقال عكرمة: كانوا عشرة من جزيرة الموصل، وزر بن حبيش: كانوا تسعة ومنهم زوبعة. وقيل: اثني عشر ألفا. ولنرجع إلى التفسير. قوله وَإِذْ صَرَفْنا معطوف على قوله اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ ومعنى صرفنا أملناهم إليك، والنفر ما دون العشرة ويجمع على أنفار. والضمير في حَضَرُوهُ للنبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن قالُوا أي قال بعضهم لبعض أَنْصِتُوا والإنصاف السكوت لاستماع الكلام فَلَمَّا قُضِيَ أي فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من القراءة. وإنما قالوا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى لأنهم كانوا يهودا أو لأنهم لم يسمعوا أمر عيسى قاله ابن عباس أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ عنوا رسول الله أو أنفسهم بناء على أنهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومهم، ومنه يعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى الجن أيضا وهذا من جملة خصائصه. وحين عمموا الأمر بإجابة الداعي خصصوه بقولهم وَآمِنُوا بِهِ لأن الإيمان أشرف أقسام التكاليف. و «من» في قوله مِنْ ذُنُوبِكُمْ للتبعيض فمن الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كالمظالم وقد مر في «إبراهيم» . واختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا؟ فقيل: لا ثواب لهم إلا النجاة من النار بقوله وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وهو قول أبي حنيفة. والصحيح أنهم في حكم بني آدم يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. وقد جرت بين مالك وأبي حنيفة مناظرة في هذا الباب. قوله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ أي لا يفوته هارب. قوله وَلَمْ يَعْيَ يقال: عييت بالأمر إذا لم يعرف وجهه. قوله بِقادِرٍ في محل الرفع لأنه خبر «أن» وإنما دخلت الباء لاشتمال الآية على النفي كأنه قيل: أليس الله بقادر؟ والمقصود تأكيد ما مر في أول السورة من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 دلائل البعث والنبوّة. ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ وقوله مِنَ الرُّسُلِ بيان لأن جميع الرسل أرباب عزم وجد في تبليغ ما أمروا بأدائه، أو هو للتبعيض فنوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم على النار وذبح الولد، وإسحق على الذبح، ويعقوب على فراق الولد، ويوسف على السجن، وأيوب على الضر، وموسى على سفاهة قومه وجهالاتهم، وأما يونس فلم يصبر على دعاء القوم فذهب مغاضبا، وقال الله تعالى في حق آدم وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي لا تدع لكفار قريش بتعجيل العذاب فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر، وإنهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى ظنوا أنها ساعة من نهار هذا الذي وعظهم به كفاية في بابه وقد مر في آخر سورة «إبراهيم» عليه السلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 (سورة محمد صلى الله عليه وآله) (وهي مدنية حروفها ألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون كلماتها خمسمائة وأربعون آياتها ثمان وثلاثون) [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 القراآت: وَالَّذِينَ قُتِلُوا مبنيا للمفعول ثلاثيا: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص. الباقون قاتلوا. ويثبت من الإثبات: المفضل. الباقون: بالتشديد أسن بغير الألف كحذر: ابن كثير أنفا بدون الألف كما قلنا: ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل. الوقوف: أَعْمالَهُمْ هـ بالَهُمْ هـ مِنْ رَبِّهِمْ ط أَمْثالَهُمْ هـ الرِّقابِ ط الْوَثاقَ لا للفاء ولتعلق بَعْدُ بما قبلها أي بعد ما شددتم الوثاق أَوْزارَها ج ذلِكَ ط أي ذلك كذلك، وقد يحسن اتصاله بما قبله لانقطاعه عن خبره أو عن المبتدأ أو الفعل أي الأمر ذلك، أو فعلوا ذلك بِبَعْضٍ ط أَعْمالَهُمْ هـ بالَهُمْ هـ ج للآية مع العطف واتحاد الكلام لَهُمْ هـ أَقْدامَكُمْ هـ أَعْمالَهُمْ هـ ج مِنْ قَبْلِهِمْ ط لتناهي الاستخبار عَلَيْهِمْ ج للابتداء بالتهديد مع الواو أَمْثالُها هـ لَهُمْ هـ الْأَنْهارُ ط لَهُمْ هـ أَخْرَجَتْكَ ج لاحتمال أن ما بعده صفة قَرْيَةٍ أو ابتداء إخبار لَهُمْ هـ أَهْواءَهُمْ هـ الْمُتَّقُونَ ط للحذف أي صفة الجنة فيما نقص عليكم ثم شرع في قصتها. آسِنٍ ج طَعْمُهُ ج لِلشَّارِبِينَ هـ ج لتفصيل أنواع النعم مع العطف مُصَفًّى ج مِنْ رَبِّهِمْ ط لحذف المبتدأ والتقدير أفمن هذا حاله كمن هو خالد أَمْعاءَهُمْ هـ إِلَيْكَ ج لاحتمال أن يكون حتى للانتهاء وللابتداء آنِفاً ط أَهْواءَهُمْ هـ تَقْواهُمْ هـ بَغْتَةً هـ لتناهي الاستفهام مع مجيء الفاء بعده في الإخبار أَشْراطُها ج لعكس ما مر ذِكْراهُمْ هـ. التفسير: قال أهل النظم: إن أول هذه السورة مناسب لآخر السورة كأنه قيل: كيف يهلك الفاسق إن كان له أعمال صالحة؟ فأجاب الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا منعوا الناس عن الإيمان صدا أو امتنعوا عنه صدودا أَضَلَّ الله أَعْمالَهُمْ أي أبطل ثوابها وكانوا يصلون الأرحام ويطعمون الطعام ويعمرون المسجد الحرام. وعن ابن عباس أنها نزلت في المطعمين يوم بدر. وقيل: هم أهل الكتاب. والأظهر العموم. قال جار الله: حقيقة إضلال الأعمال جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يثيب عليها كالضالة من الإبل لا رب لها يحفظها، أو أراد أنه يجعلها ضالة في كفرهم ومعاصيهم مغلوبة بها كما يضل الماء في اللبن. وقيل: أراد إبطال ما عملوه من الكيد للإسلام وذويه بأن نصر المسلمين عليهم وأظهر دينه على الدين كله. وحين بيّن حال الكفار بيّن حال المؤمنين قائلا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بالهجرة والنصرة وغير ذلك وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ يعني القرآن وهو تخصيص بعد تعميم، ولم يقتصر على هذا التخصيص الموجب للتفضيل ولكنه أكده بجملة اعتراضية هي قوله وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ولأن الحق الثابت ففيه دليل على أن دين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 محمد صلى الله عليه وسلم لا يرد عليه النسخ أبدا. وتكفير السيئات من الكريم سترها بما هي خير منها فهو في معنى قوم فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان: 7] والبال الحال والشأن لا يثنى ولا يجمع. وقيل: هو بمعنى القلب أي يصلح أمر دينهم. والحاصل أن قوله وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ بإزاء قوله وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فأولئك امتنعوا عن اتباع سبيل محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء حثوا أنفسهم على إتباعه فلا جرم حصل لهؤلاء ضدّ ما حصل لأولئك فأضل الله حسنات أولئك وستر على سيئات هؤلاء، وقد أشير إلى هذا الحاصل بقوله ذلِكَ الإضلال والتكفير بسبب اتباع أولئك الباطل الشيطان وحزبه وأولئك الحق محمدا والقرآن كَذلِكَ أي مثل ذلك الضرب يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ كلهم أمثال أنفسهم أو أمثال المذكورين من الفريقين على معنى إنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم. وضرب المثل في الآية هو أن جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين، ولا ريب أن إخباره عن الفريقين بغير تصريح مثل لحالهما وهذا حقيقة ضرب المثل. وقيل: إن الإضلال مثل لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثل لفوز المؤمنين. وقيل: إن قوله كَذلِكَ لا يستدعي أن يكون هناك مثل مضروب، ولكنه لما بين حال الكافر وإضلال أعماله وحال المؤمن وتكفير سيئاته، وبين السبب فيهما كان ذلك نهاية الإيضاح فقال كَذلِكَ أي مثل ذلك البيان يضرب الله للناس أمثالهم ويبين أحوالهم. قال أصحاب النظم: لما بيّن أن عمل الكفار ضلال والإنسان حرمته باعتبار عمله نتج من ذلك قوله فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي في دار الحرب أو في القتال فَضَرْبَ الرِّقابِ وأصله فأضربوا الرقاب ضربا إلا أنه اختصر للتوكيد لأنه بذكر المصدر المنصوب دل على الفعل وكان كالحكم البرهاني. وليس ضرب الرقبة مقصودا بالذات ولكنه وقع التعبير عن القتل به لأنه أغلب أنواع القتل، ولما في ذكره من التخويف والتغليظ. وفيه ردّ على من زعم أن القتل بل إيلام الحيوان قبيح مطلقا لأنه تخريب البنيان، فبين الشرع أن أهل الكفر والطغيان يجب قتلهم لأن فيه صلاح نوع الإنسان كما أن الطبيب الحاذق يأمر بقطع العضو الفاسد إبقاء على سائر البدن. حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أكثرتم قتلهم وأغلظتموه من الشيء الثخين، أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى لا يمكنهم النهوض وقد مر في آخر «الأنفال» . فَشُدُّوا الْوَثاقَ وهو بالفتح والكسر اسم ما يوثق به والمراد فأسروهم وشدّوهم بالحبال والسيور. فإما تمنون منا وإما تفدون فداء، وهذا مما يلزم فيه حذف فعل المفعول المطلق لأنه وقع المفعول تفصيلا لأثر مضمون جملة متقدمة. وقال الشافعي: للإمام أن يختار أحد أربعة أمور هي: القتل والاسترقاق والمنّ وهو الإطلاق من غير عوض والفداء بأسارى المسلمين أو بمال. لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منّ على أبي عروة الجهني وعلى ابن أثال الحنفي، وفادى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 رجلا برجلين من المشركين. وذهب بعض أصحاب الرأي أن الآية منسوخة. وأن المنّ والفداء إنما كان يوم بدر فقط وناسخها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] وليس للإمام إلا القتل أو الاسترقاق. وعن مجاهد: ليس اليوم منّ ولا فداء إنما هو الإسلام أو ضرب العنق. وقوله حَتَّى تَضَعَ يتعلق بالضرب والشدّ أو بالمنّ والفداء. والمراد عند الشافعي أنهم لا يزالون على ذلك أبدا إلى أن لا يكون حرب مع المشركين وذلك إذا لم يبق لهم شوكة. وأوزار الحرب آلاتها وأثقالها التي لا تقوم الحرب إلا بها. قال الأعشى: وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا فإذا أنقضت الحرب فكأنها وضعت أسبابها. وقيل: أوزارها آثامها والمضاف محذوف أي حتى يترك أهل الحرب. وهم المشركون شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا. وعلى هذا جاز أن يكون الحرب جمع حارب كالصحب جمع صاحب فلا يحتاج إلى تقدير المضاف. وفسر بعضهم وضع الحرب أوزارها بنزول عيسى عليه السلام. عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى عليه السلام إماما هاديا وحكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير وتضع الحرب أوزارها حتى تدخل كلمة الإخلاص كل بيت من وبر ومدر» «1» وعند أبي حنيفة: إذا علق بالضرب والشدّ فالمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار، وذلك إذا لم تبق شوكة للمشركين. وإذا علق بالمنّ والفداء فالحرب معهودة وهي حرب بدر. ثم بين أنه منزه في الانتقام من الكفار عن الاستعانة بأحد فقال ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ بغير قتال أو بتسليط الملائكة أو أضعف خلقه عليهم وَلكِنْ أمركم بقتالهم لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ فيمتحن المؤمنين بالكافرين هل يجاهدون في سبيله حق الجهاد أم لا، ويبتلي الكافرين بالمؤمنين هل يذعنون للحق أم لا إلزاما للحجة وقطعا للمعاذير. ومعنى الابتلاء من الله سبحانه قد مر مرارا أنه مجاز أي يعاملهم معاملة المختبر، أو ليظهر الأمر لغيره من الملائكة أو الثقلين. ثم وعد الشهداء والمجاهدين بقوله وَالَّذِينَ قُتِلُوا أو قاتلوا على القراءتين فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ خلاف الكفرة سَيَهْدِيهِمْ إلى الثواب ويثبتهم على الهداية وَيُصْلِحُ بالَهُمْ أمر معاشهم في المعاد أو في الدنيا، وكرر لأن الأوّل سبب النعيم، والثاني نفس   (1) رواه البخاري في كتاب المظالم باب 31 مسلم في كتاب الإيمان حديث 242، 343 أبو داود في كتاب الملاحم باب 14 الترمذي في كتاب الفتن 54 ابن ماجه في كتاب الفتن باب 33 أحمد في مسنده (2/ 240) إلى قوله «ويقتل الخنزير» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 النعيم وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ جعل كل واحد بحيث يعرف ماله في الجنة كأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا. وعن مقاتل: يعرفها لهم الحفظة وعسى أنه عرفها بوصفها في القرآن. وقيل: طيبها لهم من العرف وهو طيب الرائحة. ثم حث على نصرة دين الله بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي دينه أو رسوله يَنْصُرْكُمْ على عدوّكم ويفتح لكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ في مواقف الحرب أو على جادّة الشريعة وَالَّذِينَ كَفَرُوا حالهم بالضد. يقال: تعسا له في الدعاء عليه بالعثار والتردّي. عن ابن عباس: هو في الدنيا القتل، وفي الآخرة الهويّ في جهنم. وهو من المصادر التي يجب حذف فعلها سماعا والتقدير: أتعسهم الله فتعسوا تعسا ولهذا عطف عليه قوله وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ثم بين سبب بقائهم على الكفر والضلال بقوله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من القرآن والتكاليف لألفهم بالإهمال وإطلاق العنان فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ التي لا استناد لها إلى القرآن أو السنة. ثم هدّدهم بحال الأقدمين وهو ظاهر. ودمر عليه ويقال دمره فالثاني الإهلاك مطلقا، والأوّل إهلاك ما يختص به من نفسه وماله وولده وغيره وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها الضمير للعاقبة أو العقوبة. والأوّل مذكور، والثاني مفهوم بدلالة التدمير فإن كان المراد الدعاء عليهم فاللام للعهد وهم كفار قريش ومن ينخرط في سلكهم، وإن كان المراد الإخبار جاز أن يراد هؤلاء. والقتل والأسر نوع من التدمير وجاز أن يراد الكفار الأقدمون ذلِكَ النصر والتعس بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي وليهم وناصرهم وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ بمعنى النصرة والعناية، وأما بمعنى الربوبية والمالكية فهو مولى الكل لقوله وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [يونس: 30] ثم برهن على الحكم المذكور وهو أن ولايته مختصة بالمؤمنين فقال إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الآية. فشبه الكافرين بالأنعام من جهة أن الكافر غرضه من الحياة التنعم والأكل وسائر الملاذ لا التقوى والتوسل بالغذاء إلى الطاعة وعمل الآخرة، ومن جهة أنه لا يستدل بالنعم على خالقها، ومن جهة غفلتهم عن مآل حالهم وأن النار مثوى لهم. ثم زاد في تهديد قريش بقوله وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي أهل قرية هم أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ أهل قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ تسببوا لخروجك. وقوله فَلا ناصِرَ لَهُمْ حكاية تلك الحال كقوله وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ [الكهف: 18] ثم بين الفرق بين أهل الحق وحزب الشيطان بقوله على طريق الإنكار أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ معجزة ظاهرة وحجة باهرة مِنْ رَبِّهِ يريد محمدا وأمته قوله وَاتَّبَعُوا محمول على معنى «من» وهو تأكيد للتزيين كما أن كون البينة من الرب تأكيد لها. وحين أثبت الفرق بين الفريقين أراد أن يبين الفرق بين جزائهما فقال مَثَلُ الْجَنَّةِ أي صفتها العجيبة الشأن. وفي إعرابه وجهان: أحدهما ما مر في الوقوف، والثاني قول الزمخشري في الكشاف أنه على حذف حرف الاستفهام، والتقدير: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 أمثل الجنة وأصحابها كمثل جزاء من هو خالد في النار، أو كمثل من هو خالد؟ وفائدة التعرية عن حروف الاستفهام زيادة تصوير مكابرة من يسوّي بين الفريقين. وقوله فِيها أَنْهارٌ كالبدل من الصلة أو حال. والآسن المتغير اللون أو الريح أو الطعم ومصدره الأسون والنعت آسن مقصورا، واللذة صفة أو مصدر وصف به كما مر في «الصافات» ، والباقي ظاهر. قال بعض علماء التأويل: لا شك أن الماء أعم نفعا للخلائق من اللبن والخمر والعسل فهو بمنزلة العلوم الشرعية لعموم نفعها للمكلفين كلهم، وأما اللبن فهو ضروري للناس كلهم ولكن في أوّل التربية والنماء فهو بمنزلة العلوم الغريزية الفطرية، وأما الخمر والعسل فليسا من ضرورات التعيش فهما بمنزلة العلوم الحقيقة السببية إلا أن الخمر يمكن أن تخص بالعلوم الذوقية. والعسل بسائرها وقد يدور في الخلد أن هذه الأنهار الأربعة يمكن أن تحمل على المراتب الإنسانية الأربع. فالعقل الهيولاني بمنزلة الماء لشموله وقبوله الآثار، والعقل بالملكة بمنزلة اللبن لكونه ضروريا في أوّل النشوء والتربية، والعقل بالفعل بمنزلة الخمر فإن حصوله ليس بضروري لجميع الإنسان إلا أنه إذا حصل وكان الشخص ذاهلا عنه غير ملتفت إليه كان كالخمر الموجب للغفلة وعدم الحضور، والعقل المستفاد بمنزلة العسل من جهة لذته ومن جهة شفائه لمرض الجهل ومن قبل ثباته في المذاق للزوجته ودسومته والتصاقه والله تعالى أعلم بمراده. وقوله وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ إن قدر ولهم مغفرة من الله قبل ذلك فلا إشكال، وإن قدر لهم فيها مغفرة أمكن أن يقال: إنهم مغفورون قبل دخول الجنة فما معنى الغفران بعد ذلك؟ والجواب أن المراد رفع التكليف يأكلون من غير حساب ولا تبعة وآفة بخلاف الدنيا فإن حلالها حساب وحرامها عذاب. ثم ذكر نوعا آخر من قبيح خصال الكافرين وقيل أراد المنافقين فقال وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ كانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم والجمعات ويسمعون كلامه ولا يعونه كما يعيه المسلم حَتَّى إِذا خَرَجُوا انصرفوا وخرج المسلمون مِنْ عِنْدِكَ يا محمد قال المنافقون للعلماء وهم بعض الصحابة كابن عباس وابن مسعود وأبي الدرداء: أيّ شيء قال محمد آنِفاً أي في ساعتنا هذه. وأنف كل شيء ما تقدمه ومنه فولهم «استأنفت الأمر» ابتدأته. ولا يستعمل منه فعل ثلاثي بهذا المعنى. وإنما توجه الذم عليهم لأن سؤالهم سؤال استهزاء وإعلام أنهم لم يلتقتوا إلى قوله، ولو كان سؤال بحث عما لم يفهموه لم يكن كذلك، على أن عدم الفهم دليل قلة الاكتراث بقوله. ثم مدح أهل الحق بقوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا بالإيمان زادَهُمْ الله هُدىً بالتوفيق والتثبيت وشرح الصدر ونور اليقين وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ أعانهم عليها أو أعطاهم جزاء تقواهم. وعن السدي: بين لهم ما يتقون. وقيل: الضمير في زادَهُمْ للاستهزاء أو لقول الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم خوف أهل الكفر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 والنفاق باقتراب القيامة. وقوله أَنْ تَأْتِيَهُمْ بدل اشتمال من السَّاعَةَ وأشراط الساعة إماراتها من انشقاق القمر وغيره. ومنه مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فإنه نبي آخر الزمان ولهذا قال «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى فَأَنَّى لَهُمْ من أين لهم إِذا جاءَتْهُمْ الساعة ذِكْراهُمْ أي لا ينفعهم تذكرهم وإيمانهم حينئذ فالذكرى مبتدأ وفَأَنَّى لَهُمْ الخبر. وقيل: فاعل جاءَتْهُمْ ضمير يعود إلى «الذكرى» . وجوّز أن يرتفع «الذكرى» بالفعل والمبتدأ مقدر أي من أين لهم التذكر إذا جاءتهم الذكرى؟ والقول هو الأول ولله المرجع والمآب وإليه المصير. [سورة محمد (47) : الآيات 19 الى 38] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 القراآت: وتقطعوا بالتخفيف من القطع: سهل ويعقوب. والآخرون: بالتشديد من التقطيع. وأملى لهم مبنيا للمفعول ماضيا: أبو عمرو ويعقوب وَأَمْلى مضارعا مبنيا للفاعل: سهل ورويس. الباقون: ماضيا مبنيا للفاعل إِسْرارَهُمْ بكسر الهمز على المصدر: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد وليبلونكم حتى يعلم ويبلوا بالياءات: أبو بكر وحماد. الآخرون: بالنون في الكل. وقرأ يعقوب ونبلو بالنون مرفوعا السلم بكسر السين: حمزة وخلف وأبو بكر وحماد. الوقوف: وَالْمُؤْمِناتِ ط وَمَثْواكُمْ هـ نُزِّلَتْ سُورَةٌ ج للشرط مع الفاء الْقِتالُ لا الْمَوْتِ ط للابتداء بالدعاء عليهم لَهُمْ هـ ج لاحتمال أن يكون الأولى بمعنى الأقرب كما يجيء مَعْرُوفٌ قف الْأَمْرُ ز لاحتمال أن التقدير فإذا عزم الأمر كذبوا وخالفوا خَيْراً لَهُمْ هـ ج لابتداء الاستفهام مع الفاء أَرْحامَكُمْ هـ أَبْصارَهُمْ هـ أَقْفالُها هـ الْهُدَى لا لأن الجملة بعده خبر «إن» سَوَّلَ لَهُمْ ط لأن فاعل وَأَمْلى ضمير اسم الله ويجوز الوصل على جعله حالا أي وقد أملى، أو على أن فاعله ضمير الشيطان من حيث أنه يمنيهم ويعدهم، والوقف أجوز وأعزم. والحال على قراءة وَأَمْلى بفتح الياء أجوز والوقف به جائز، ومن سكن الياء فالوقف به أليق لأن المستقبل لا ينعطف على الماضي. ومع ذلك لو جعل حالا على تقدير وأنا أملى جاز لَهُمُ هـ الْأَمْرِ ج لأن ما بعده يصلح استئنافا وحالا والوقف أجوز لأن الله يعلم الأسرار في الأحوال كلها إِسْرارَهُمْ هـ وَأَدْبارَهُمْ هـ أَعْمالَهُمْ هـ أَضْغانَهُمْ هـ بِسِيماهُمْ ط للابتداء بما هو جواب القسم الْقَوْلِ ط أَعْمالَكُمْ هـ وَالصَّابِرِينَ ط لمن قرأ وَنَبْلُوَا بسكون الواو أي ونحن نبلو أَخْبارَكُمْ هـ الْهُدى لا لأن ما بعده خبر «إن» شَيْئاً ط أَعْمالَهُمْ هـ أَعْمالَكُمْ هـ لَهُمْ هـ إِلَى السَّلْمِ قف قد قيل: على أن قوله وَأَنْتُمُ مبتدأ، وجعله حالا أولى الْأَعْلَوْنَ قف كذلك أَعْمالَكُمْ هـ قف وَلَهْوٌ ط أَمْوالَكُمْ هـ أَضْغانَكُمْ هـ سَبِيلِ اللَّهِ ج لانقطاع النظم مع الفاء مَنْ يَبْخَلُ ج لابتداء الشرط مع العطف عَنْ نَفْسِهِ ط الْفُقَراءُ هـ للشرط مع العطف غَيْرَكُمْ لا للعطف أَمْثالَكُمْ هـ. التفسير: لما ذكر حال الفريقين المؤمن والكافر من السعادة والشقاوة قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: فاثبت على ما أنت عليه من التوحيد ومن هضم النفس باستغفار ذنبك أو ذنوب أمتك. أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 المراد فاعلم خبرا يقينا على ما علمته نظرا واستدلالا. أو أراد فاذكر لا إله إلا الله. والهاء في أَنَّهُ لله أو للأمر والشأن، أو الأول إشارة إلى أصول الحكمة النظرية، والثاني إلى أصول الحكمة العملية، أمره بالحكمة العملية بعد الحكمة النظرية. عن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فتلا هذه الآية. وذلك أنه أمر بالعمل بعد العلم. والفاءات في هذه الآية وما تقدّمها لعطف جملة على جملة بينهما اتصال. وفي الآية نكتة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم له أحوال ثلاث: حال مع الله وهي توحيده، وحال مع نفسه وهي طلب العصمة من الذنوب وأن يستر الله عليه جنس الآثام حتى لا يقع فيها، وحال مع غيره وهي طلب ستر الذنوب عليهم بعد وقوعهم فيها أو أعم ويندرج فيها الشفاعة. ثم قال وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ فقيل: التقلب في الأسفار والمثوى في الحضر. وقيل: أراد منتشركم في النهار ومستقركم بالليل. وقيل: الأوّل في الدنيا والثاني في الآخرة. وقيل: لكل متقلب مثوى فيتقلب من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ثم إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم إلى الجنة أو النار. والمقصود بيان كمال علمه بحال الخلائق فعليهم أن لا يهملوا دقائق الطاعة والخشية ويواظبوا على طلب المغفرة خوفا من التقصير في العبودية. ثم ذكر طرفا آخر من نصائح أهل النفاق ومن ينخرط في سلكهم من ضعفة الإسلام، وذلك أنهم كانوا يدّعون الحرص على الجهاد ويقولون بألسنتهم لَوْلا نُزِّلَتْ سورة في باب القتال فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ مبينة غير متشابهة لا تحتمل النسخ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ عن قتادة: كل سورة ذكر فيها القتال فهي محكمة وهي أشدّها على المنافقين. قال أهل البرهان: نزل بالتشديد أبلغ من أنزل فخص بهم ليكون أدل على حرصهم فيكون أبلغ في باب التوبيخ. قوله فَأَوْلى لَهُمْ كلمة تحذير أي وليك شر فاحذره. هذه عبارة كثير من المفسرين. وقال المبرد: يقال للإنسان إذا كاد يعطب ثم يفلت: أولى لك. أي قاربت العطب ثم نجوت. وهو في الفرقان على معنى التحذير. وقال جار الله: هو وعيد معناه فويل لهم والمراد الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه. وقيل: أراد طاعة وقول معروف أولى من الجزع عند الجهاد فلا يكون للوعيد، وعلى هذا فلا وقف على لَهُمْ كما أشير إليه في الوقوف. واعترض عليه بأن الأفصح أن يستعمل وقتئذ بالباء لا مع اللام كما قال وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: 75] والأصح أنه فعل متعد من الولي وهو القرب أي أولاه الله المكروه فاقتصر لكثرة الاستعمال. ويحتمل أن يكون «فعلى» من آل يؤل أي يؤل أمرك إلى شر فاحذره. ثم حثهم على الامتثال بقوله طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي طاعة الله وقول حسن أو ما عرف صحته خير من الجزع عند فرض الجهاد فهو مبتدأ محذوف الخبر، أو أمرنا طاعة فيكون خبر مبتدأ محذوف كما مر في سورة النور في قوله طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 [الآية: 53] ويجوز أن يكون أمرا للمنافقين أي قولوا طاعة وقول معروف. فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي جدّ وصار معزوما عليه وهو إسناد مجازي لأن العزم لأصحاب أمر القتال. ثم التفت وخاطب كفار قريش بقوله فَهَلْ عَسَيْتُمْ هو من أفعال المقاربة وقد مر وجوه استعمالاته في «البقرة» في قوله عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [الآية: 216] فنقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب ليكون أبلغ في التوبيخ ومعناه هل يتوقع منكم إِنْ تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم عن الدين أو توليتم أمور الناس أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالمعاصي والافتراق بعد الاجتماع على الإسلام وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ بالقتل والعقوق ووأد البنات وسائر ما كنتم عليه في الجاهلية من أنواع الإفساد، وفي سلوك طريقة الاستخبار المسمى في غير القرآن بتجاهل العارف، إمالة لهم إلى طريق الإنصاف وحث لهم على التدبر وترك العصبية والجدال، فقد كانوا يقولون كيف يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالقتال والقتال إفناء لذوي أرحامنا وأقاربنا، فعرض الله سبحانه بأنهم إن ولوا أمور الناس أو أعرضوا عن هذا الدين لم يصدر عنهم إلا القتل والنهب وسائر أبواب المفاسد كعادة أهل الجاهلية. ثم صرح بما فعل الله بهم واستقر عليه حالهم فقال أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بعدهم عن رحمته. ثم بين نتيجة اللعن قائلا فَأَصَمَّهُمْ أي عن قبول الحق بعد استماعه وهذا في الدنيا وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ أي في الآخرة أو عن رؤية الحق والنظر إلى المصنوعات. قال بعض العلماء: إنما لم يقل فأصم آذانهم لأن الأذن عبارة عن الشحمة المعلقة، والسمع لا يتفاوت بوجودها وعدمها، ولذلك يسمع مقطوع الأذن. وأما الرؤية فتتعلق بالبصر نفسه، فالتأكيد هناك إنما يحصل بترك ذكر الأذن وهاهنا بذكر الأبصار والله أعلم. قال جار الله: يجوز أن يريد بالذين آمنوا المؤمنين الخلص الثابتين وذلك أنهم كانوا يأنسون بالوحي. فإذا أبطأ عليهم التمسوه، فإذا نزلت سورة في معنى الجهاد رأيت المنافقين يضجرون منها. سؤال: لما أثبت لهم الصمم والعمى فكيف وبخهم بقوله أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟ وأجيب على مذهب أهل السنة بأن تكليف ما لا يطاق جائز. ويمكن أن يقال: لما أخبر عنهم بما أخبر حكى أنهم بين أمرين: إما أن لا يتدبروا القرآن لأن الله أبعدهم عن الخير، وإما أن يدبروا لكن لا يدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة. قال جار الله: إنما نكرت القلوب لأنه أريد البعض وهو قلوب المنافقين أو أريد على قلوب قاسية مبهم أمرها. وإنما أضيفت الأقفال إلى ضمير القلوب لأنه أريد الأقفال المختصة بها وهي أقفال الكفر والعناد التي استغلقت فلا تنفتح. ثم أخبر عن حال المنافقين أو اليهود الذين غيروا حالهم من بعد ما تبين لهم حقيقة الإسلام أو نعت محمد في التوراة فقال إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا الآية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 ذلِكَ الإملاء أو الإضلال أو الارتداد بسبب أنهم قالوا للذين كرهوا أي قال اليهود للمنافقين، أو قال المنافقون ليهود قريظة والنضير، أو قاله اليهود أو المنافقون للمشركين سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ الذي يهمكم كالتظافر على عداوة محمد والقعود عن الجهاد معه أو في بعض ما تأمرون به، وهو ما يتعلق بتكذيب محمد لا في إظهار الشرك واتخاذ الأصنام وإنكار المعاد وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ فلذلك أفشى الذي قالوه سرا فيما بينهم وسيجازيهم على حسب ذلك يدل عليه قوله فَكَيْفَ يعملون وما حيلتهم حين توفتهم ملائكة الموت يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ التي كانوا يتقون أن يصيبها آفة في القتال، أو يضربون وجوههم عند الموت وأدبارهم عند السوق إلى النار. وقيل: يضربون وجوههم عند الطلب وأدبارهم حين الهرب ذلِكَ الإذلال والإهانة بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ كأنهم ضربوا وجوههم لأنهم أقبلوا على مواجب السخط، وضربوا أدبارهم لأنهم أعرضوا عما فيه رضا الله. وقد يخص السخط بكتمان نعت الرسول ومعاونة أهل الشرك والرضا بالإيمان به والنصرة للمؤمنين. وإنما قال ما أَسْخَطَ اللَّهَ ولم يقل «ما أرضى الله» لأن رحمته سبقت غضبه، فالرضا كالأمر الحاصل والإسخاط كالأمر المترتب على شيء. ثم زاد في تعيير المنافقين بقوله أَمْ حَسِبَ وهي منقطعة. والضغن إضمار سوء يتربص به إمكان الفرصة. وإخراج الأضغان إبرازها للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين كما قال وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ أي لو شئنا أريناك أماراتهم فَلَعَرَفْتَهُمْ كررت لام جواب «لو» في المعطوف لأجل المبالغة بِسِيماهُمْ بعلامتهم. عن أنس أنه ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين، ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة منهم يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب «هذا منافق» . ومعنى لحن القول نحوه وأسلوبه وفحواه أي يقولون ما معناه النفاق كقولهم لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ [المنافقون: 8] إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الأحزاب: 13] أو لتعرفنهم في فحوى كلام الله حيث قال ما يعلم منه حال المنافقين كقوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ [البقرة: 8] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ [التوبة: 75] وحقيقة اللحن ذهاب الكلام إلى خلاف جهته. وقيل: اللحن أن تميل كلامك إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية قال: ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا ... واللحن يعرفه ذوو الألباب ويقال للمخطئ لاحن لأنه يعدل بالكلام عن الصواب. وقال الكلبي: لحن القول كذبه. ولم يتكلم بعد نزولها منافق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عرفه. وعن ابن عباس هو قولهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 ما لنا إن أطعنا من الثواب ولا يقولون ما علينا إن عصينا من العقاب وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ فيميز خيرها من شرها وإخلاصها من نفاقها وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي لنأمرنكم بما لا يكون متعينا للوقوع بل يحتمل الوقوع واللاوقوع كما يفعل المختبر حتى يظهر المجاهد والصابر من المنافق والمضطرب. وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ التي تحكي عنكم كقولكم آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة: 8] أو عهودكم كقوله وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ [الأحزاب: 15] أو أسراركم أو ما ستفعلونه أو أخباركم الأراجيف كقوله وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ [الأحزاب: 60] عن الفضل أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا. ثم أنزل في اليهود من قريظة والنضير أو في رؤساء قريش المطعمين يوم بدر إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية. وأعمالهم طاعاتهم في زمن اليهودية، ومكايدهم التي نصبوها في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم أو إطعامهم. ثم أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله بالتوحيد والتصديق مع الإخلاص وأن لا يبطلوا إحسانهم بالمعاصي والرياء وبالمن والأذى. عن أبي العالية قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون إنه لا يضر مع «لا إله إلا الله» ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت الآية، فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم. وعن قتادة: رضي الله عن عبد لم يحبط عمله الصالح بعمله السيء. ثم أراد أن يبين أن أعمال المكلف إذا بطلت فإن فضل الله باق يغفر له إن شاء ما لم يمت على الكفر فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية. قال مقاتل: نزلت في رجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن والده وقال: إنه كان محسنا في كفره. وعن الكلبي: نزلت في رؤساء أهل بدر. فَلا تَهِنُوا لا تضعفوا ولا تجبنوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح. ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار «أن» بعد الواو في جواب النهي وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ الغالبون المستولون عليهم وَاللَّهُ مَعَكُمْ بالنصرة والكلاءة وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ أي لن ينقصكم جزاء أعمالكم من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو قريب أو سلبت ماله وأصله من الوتر وهو الفرد، كأنك أفردته من قريبه أو ماله. وفي الحديث «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» «1» وهو من فصيح الكلام. ثم زادهم حثا على الجهاد بتحقير الدنيا في أعينهم وبأنه سبحانه إنما يحثهم على الإيمان والجهاد وسائر أبواب التقوى لتعود   (1) رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 14 مسلم في كتاب المساجد حديث 200، 201 أبو داود في كتاب الصلاة باب 5 الترمذي في كتاب المواقيت باب 14 النسائي في كتاب الصلاة باب 17 ابن ماجه في كتاب الصلاة باب 6 الدارمي في كتاب الصلاة باب 27 الموطأ في كتاب الوقوت حديث 21 أحمد في مسنده (2/ 8، 13) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 فائدتها عليهم كما قال «خلقتكم لتربحوا عليّ لا لأربح عليكم» قوله وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أي كل أموالكم ولكنه يقتصر منها على ربع العشر، أو لا يسألكم أموالكم لنفسه ولكن لتكون زادا لكم في المعاد. وقيل: لا يسألكم أموالكم رسولي لنفسه. وقيل: إنهم لا يملكون شيئا وإن المال مال الله وهو المنعم بإعطائه. والقول هو الأوّل لقوله إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ أي يجهد كم يبلغ الغاية فيها من أحفى شاربه استأصله كأنه جعله حافيا مما في ملكه أي عاريا تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ الإحفاء أو الله تعالى على طريق التسبب أَضْغانَكُمْ أي تضطغنون على الرسل وتظهرون كراهة هذا الدين. ثم بين أنه كيف يأمركم بإخراج كل المال وقد دعاكم إلى إنفاق البعض فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ و «ها» للتنبيه وكرر مع أولاء للتوكيد وأنتم أولاء جملة مستقلة أي أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون. ثم استأنف وصفهم كأنهم قالوا وما وصفنا فقيل تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهو الزكاة أو الغزو، فمنكم ناس يبخلون به. وقيل: هؤُلاءِ موصول صلته تُدْعَوْنَ وهو مذهب الكوفيين وقد سلف في «البقرة» و «آل عمران» . ثم قبح أمر البخل بقوله وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي وباله على نفسه أو عن داعى ربه. قال في الكشاف: يقال بخلت عليه وعنه. وفيه نظر لأن البخل عن النفس لا يصح بهذا التفسير. نعم لو قال عن ماله كان تفسيره مطابقا. ثم مدح نفسه بالغنى المطلق وبين بقوله وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ أنه لا يأمر بالإنفاق لحاجته ولكن لفقركم إلى الثواب. ثم هددهم بقوله وَإِنْ تَتَوَلَّوْا وهو معطوف على وَإِنْ تُؤْمِنُوا ومعنى يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يخلق قوما سواكم راغبين فيما ترغبون عنه من الإيمان والتقوى كقوله إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر: 16] ومعنى «ثم» التراخي في الرتبة أي لا يكونون أشباهكم في حال توليكم. وقيل: في جميع الأحوال. وعن الكلبي: شرط في الاستبدال توليهم لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل قوما وهم العرب أهل اليمن أو العجم. قاله الحسن وعكرمة لما روي أو رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه وقال: هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس والله تعالى أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 (سورة الفتح) (مدنية حروفها ألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون كلماتها خمسمائة وستون آياتها تسع وعشرون) [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 29] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 القراآت: ليؤمنوا ويعزروه ويوقروه ويسبحوه بياءات الغيبة: ابن كثير وأبو عمرو. وعليه الله بضم الهاء: حفص فسنؤتيه بالنون: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر. الآخرون: بالياء التحتانية والضمير لله سبحانه شغلتنا بالتشديد: قتيبة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 ضرا بالضم كلم الله على الجمع: حمزة وعلي وخلف بَلْ ظَنَنْتُمْ بالإدغام: علي وهشام بَلْ تَحْسُدُونَنا مدغما: حمزة وعلي وهشام. ندخله ونعذبه بالنون فيهما: أبو جعفر ونافع وابن عامر بما يعملون بصيرا بياء الغيبة: أبو عمرو الرُّؤْيا بالإمالة: ابن عامر وعلي وهشام شطأه بفتح الطاء من غير مد: ابن ذكوان والبزي والقواس. الباقون: ساكنة الطاء. الوقوف: مُبِيناً هـ لا مُسْتَقِيماً هـ لا على احتمال الجواز هاهنا لتكرار اسم الله بالتصريح عَزِيزاً هـ إِيمانِهِمْ ط وَالْأَرْضِ ط حَكِيماً هـ لا لتعلق اللام سَيِّئاتِهِمْ ط عَظِيماً هـ لا للعطف ظَنَّ السَّوْءِ ط دائِرَةُ السَّوْءِ ج لعطف الجملتين المختلفتين جَهَنَّمَ ط مَصِيراً هـ وَالْأَرْضِ ط حَكِيماً هـ وَنَذِيراً هـ لا وَتُوَقِّرُوهُ ط للفصل بين ضمير اسم الله وضمير الرسول في المعطوفين فيمن لم يجعل الضمائر كلها لله وَأَصِيلًا هـ يُبايِعُونَ اللَّهَ ط أَيْدِيهِمْ ج ط للشرط مع الفاء عَلى نَفْسِهِ ج للعطف مع الشرط عَظِيماً هـ فَاسْتَغْفِرْ لَنا ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال قُلُوبِهِمْ ط نَفْعاً ط خَبِيراً هـ بُوراً هـ سَعِيراً هـ الْأَرْضِ ط مَنْ يَشاءُ ط رَحِيماً هـ نَتَّبِعْكُمْ ج لأن ما بعده حال عامله سَيَقُولُ أو مستأنف كَلامَ اللَّهِ ط مِنْ قَبْلُ ج للسين مع الفاء تَحْسُدُونَنا ط قَلِيلًا هـ يُسْلِمُونَ هـ حَسَناً ج أَلِيماً هـ الْمَرِيضِ حَرَجٌ ط لأن الواو للاستئناف الْأَنْهارُ ج أَلِيماً هـ قَرِيباً هـ لا يَأْخُذُونَها ط حَكِيماً هـ عَنْكُمْ ج لأن الواو مقحمة أو المعلل محذوف والواو داخلة في الكلام المعترض، أو عاطفة على تقدير ليستيقنوا ولتكون مُسْتَقِيماً هـ لا للعطف بِها ج قَدِيراً هـ نَصِيراً هـ تَبْدِيلًا هـ عَلَيْهِمْ ط بَصِيراً هـ مَحِلَّهُ ط بِغَيْرِ عِلْمٍ ج لحق المحذوف أي قدر ذلك ليدخل مَنْ يَشاءُ ج لاحتمال أن جواب «لولا» محذوف وأن يكون هذه مع جوابها جوابا للأولى أَلِيماً هـ وَأَهْلَها ط عَلِيماً هـ بِالْحَقِّ ج لحق حذف القسم آمِنِينَ لا مُقَصِّرِينَ لا لأنها أحوال متابعة لا تَخافُونَ ط لأن قوله فَعَلِمَ بيان حكم الصدق كالأعذار فلا ينعطف على قوله صَدَقَ اللَّهُ قَرِيباً هـ كُلِّهِ ط شَهِيداً هـ رَسُولُ اللَّهِ ج لأن ما بعده مستأنف وَرِضْواناً ز لأن سِيماهُمْ مبتدأ غير أن الجملة من حد الأولى في كون الكل خبر والذين السُّجُودِ ط الْإِنْجِيلِ ج لاحتمال أن التقدير هم كزرع الْكُفَّارِ ط عَظِيماً هـ. التفسير: الفتح في باب الجهاد هو الظفر بالبلد بصلح أو حرب لأنه منغلق ما لم يظفر به. والجمهور على أن المراد به ما جرى يوم الحديبية. عن أنس قال: لما رجعنا عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا فنحن بين الحزن والكآبة، أنزل الله إِنَّا فَتَحْنا فقال صلى الله عليه وسلم: لقد أنزل عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا كلها. والحديبية بئر سمي المكان بها وكان قد غاض ماؤها فتمضمض فيها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء بالماء حتى عمهم. وعن ابن شهاب: لم يكن في الإسلام فتح أعظم من فتح الحديبية وضعت الحرب وأمن الناس. وقال الشعبي: أصاب النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غيرها، بويع فيها بيعة الرضوان تحت الشجرة، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وظهرت الروم على فارس، وكان صلى الله عليه وسلم وعد به فصح صدقه وأطعم نخل خيبر. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة أحب أن يزور بيت الله الحرام بمكة فخرج قاصدا نحوه في سنة ست من الهجرة، وخرج معه أولو البصيرة وتخلف من كان في قلبه مرض ظنا منه أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا. واستصحب سبعين بدنة لينحرها بمكة، ولما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأحرم بالعمرة لتعلم قريش أنه لم يأت لقتال وكانوا ألفا وثلاثمائة أو أربعمائة أو خمسمائة فبايعوه إلا جد بن قيس فإنه اختبأ تحت إبطي ناقته، فجاءه عروة بن مسعود لإيقاع صلح. فلما رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله على أني أرى وجوها وأسرابا خليقا أن يفروا ويدعوك؟ فشتمه أبو بكر. فلما عاد إلى قريش قال: لقد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم من الملوك وما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا. والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم، وما يحدّون النظر إليه تفخيما، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها منه. فلما اتفقوا على الصلح جاء سهيل بن عمرو المخزومي وتصالحوا على أن لا يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة سنته بل يعود في القابل ويقيم ثلاثة أيام ثم ينصرف، فلما كتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه «بسم الله الرحمن الرحيم» . قال سهيل: ما نعرف «الرحمن الرحيم» اكتب في قضيتنا ما نعرف «باسمك اللهم» . ولما كتب «هذا ما صالح محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم» . قال: لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، اكتب محمد بن عبد الله. فتنازع المسلمون وقريش في ذلك وكادوا يتواثبون، فمنعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالإجابة فكتب «هذا ما صالح محمد بن عبد الله قريشا على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجا أو معتمرا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة مجتازا إلى مصر والشام أو يبتغي من فضل الله فهو على دمه وأهله آمن، وعلى أنه من جاء محمدا من قريش فهو إليهم ردّ، ومن جاءهم من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 أصحاب محمد فهو لهم» فاشتدّ ذلك على المسلمين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من جاءهم منا فأبعده الله، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم، فإن علم الله منه الإسلام جعل له مخرجا. فلما فرغوا من الهدنة نحر النبي صلى الله عليه وسلم وحلق وفعل أصحابه ذلك فنزل عليه في طريقه في هذا الشأن إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً يريد ما كان من أمر الحديبية والفتح قد يكون بالصلح. وقيل: كان هذا الفتح عن ترام بالحجارة ولم يكن قتال شديد. وقيل: المراد به فتح مكة، وعده الله ذلك بلفظ الماضي على عادة إخبار الله. وقال ابن عيسى: الفتح الفرج المزيل للهم ومنه فتح المسألة إذا انفرجت عن بيان يؤدّي إلى الثقة. وقيل وهو قول قتادة: الفتح القضاء والحكم، والفتاح القاضي، والفتاحة الحكومة أي حكمنا لك بهذه المهادنة وأرشدناك إلى الإسلام ليغفر لك الله. قال أهل النظم: لأوّل هذه السورة مناسبة تامة مع آخر السورة المتقدّمة وذلك أنه قال ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا [محمد: 38] إلى آخره فبين بعد ذلك أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاعت عنهم هذه الفوائد. وأيضا لما قال وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [محمد: 35] بين برهانه بصلح الحديبية أو بفتح مكة وكان في قوله وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [محمد: 35] إشارة إلى ما جرى يوم الحديبية من أن المسلمين صبروا إلى أن طلب المشركون الصلح. سؤال: ما المناسبة بين الفتح والمغفرة حتى جعلت غاية له؟ الجواب الغاية هي مجموع المغفرة وما ينعطف عليها كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة وغيره من الفتوح ليجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل. ويجوز أن تكون الفتوح من حيث إنها جهاد للعدّو سببا للغفران والثواب. قال جار الله: وقيل: تقدير الكلام إنا فتحنا لك فاستغفره ليغفر لك كقوله إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلى قوله وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر: 1- 3] وقيل: إن فتح مكة كان سببا لتطهير البيت من رجس الأوثان، وتطهير بيته سبب لتطهير عبده. وأيضا بالفتح يحصل الحج وبالحج تحصل المغفرة كما ورد في الأخبار «خرج كيوم ولدته أمه» . «1» وأيضا إن الناس قد علموا عام الفيل أن مكة لا يتسلط عليها عدوا لله، فلما فتحت للرسول صلى الله عليه وسلم عرف أنه حبيب الله المغفور له. أما الذنب فقيل: أراد به ذنب المؤمنين من أمته، أو أريد به ترك الأفضل والصغائر سهوا أو عمدا. ومعنى ما تَأَخَّرَ أي عن الفتح أو ما تقدم عن النبوّة وتأخر عنها. وقيل ما تَقَدَّمَ ذنب أبويه آدم وحواء وَما تَأَخَّرَ ذنب   (1) رواه البخاري في كتاب المحصر باب 9، 10 النسائي في كتاب الحج باب 4 ابن ماجه في كتاب المناسك باب 3 الدارمي في كتاب المناسك باب 7 أحمد في مسنده (2/ 229، 410) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 أمته. وقيل: أراد جميع الذنوب فحدّ أوّلها وآخرها، أو هو على وجه المبالغة كما تقول: أعطى من رأى ومن لم يره. وقيل: ما تقدم من أمر مارية وما تأخر من أمر زينب وهو قول سخيف لعدم التئام الكلام ظاهرا. والأولى أن يقال: ما تقدم النبوّة بالعفو وما تأخر عنها بالعصمة وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعلاء دينك وفتح البلاد على يدك لقوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] ومن إتمام النعمة تكليف الحج وقد تم يومئذ ولم يبق للنبي صلى الله عليه وسلم عدوّ من قريش، فإن كثيرا منهم وقد أهلكوا يوم بدر، والباقين آمنوا واستأمنوا يوم الفتح. وقيل: إتمام النعمة في الدنيا باستجابة الدعاء في طلب الفتح وفي الآخرة بقبول الشفاعة وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي يثبتك ويهديك عليه فإن الفتح لا يكون إلا لمن هو على صراط الله، ولعل المراد بهذا الخطاب هو أمته. والنصر العزيز ذو العزة وهو الذي لا ذل بعده، أو هو بمعنى المعز أو الممتنع على الغير وهو النفيس الذي لا يناله كل أحد. وفي الآية تفخيم شأن الفتح والنصر من وجوه: أحدها لفظ (إنا) الدال على التعظيم. وثانيها لفظ (لك) الدال على الاختصاص. وثالثها إعادة اسم الله في الموضعين أوّلا وآخرا. ثم بين سبب النصر بقوله هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ وهي السكون والوقار والطمأنينة والثقة بوعد الله كما مر في «البقرة» وفي «التوبة» لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي يقينا مع يقينهم أو إيمانا بالشرائع مع إيمانهم بالله. وعن ابن عباس أن أول ما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة ثم الزكاة ثم الجهاد ثم الحج، أو ازدادوا إيمانا استدلاليا مع إيمانهم الفطري. وعلى هذا ففائدة قوله مَعَ إِيمانِهِمْ أن الفطرة تشهد بالإيمان، فلما عرفوا صحة الإيمان بالنظر والاستدلال انضم هذا الثاني إلى الأول. وجنود السموات والأرض ملائكتهما، ويمكن أن يراد بمن في الأرض الثقلان والحيوان غير الإنسان. ويحتمل أن يراد بالجنود معنى أعم وهو الأسباب الأرضية والسماوية فيدخل فيهما الصيحة والرجفة. وظن السوء هو ظنهم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم، أو أن الله تعالى لا ينصرهم على أعدائهم، أو أن لله شريكا، أو أنه لا يقدر على إحياء الموتى. ومعنى دائرة السوء أن ضرر ظنهم يعود إليهم ويدور عليهم وقد مر في سورة التوبة. قال بعض العلماء: ضم المؤمنات هاهنا إلى المؤمنين بخلاف قوله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1] وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب: 47] ونحو ذلك. والسر فيه أن كل موضع يوهم اختصاص الرجال به مع كون النساء مشاركات لهم ذكرهن صريحا نفيا لهذا التوهم، وكل موضع لا يوهم ذلك اكتفى فيه بذكر الرجال لأنهم الأصل في أكثر الأحكام والتكاليف. مثلا من المعلوم أن البشارة والنذارة عامة للناس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 قاطبة فلم يحتج فيهما إلى ذكر النساء بخلاف هذه الآية فإن إدخال الجنة يوهم أنه لأجل الجهاد مع العدوّ والفتح على أيديهم والمرأة لا جهاد عليها، فكان يظن أنهن لا يدخلن الجنات فنفى الله تعالى هذا الوهم، وكذا الكلام في تعذيب المنافقات والمشركات. نكتة الجنود المذكورة أوّلا هي جنود الرحمة فكانوا سببا لإدخال المؤمنين الجنة بالإكرام والتعظيم ثم إلباسهم خلع الكرامة لقوله وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ثم تشريفهم بالفوز العظيم من الله كما قال وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وأما الكافر فعكس منه الترتيب: أخبر بتعذيبهم أوّلا على الإطلاق، ثم فصل بأنه يغضب عليهم أوّلا ثم يوبقهم في خبر اللعن والبعد عن الرحمة، ثم يسلط عليهم ملائكة العذاب الذين هم جنوده كما قال عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ [التحريم: 6] ولا ريب أن كل ذلك على قانون الحكمة إلا أنه قرن العلم في الأول إلى الحكمة تنبيها على أن إنزال السكينة وازدياد إيمان المؤمنين وترتيب الفتح على ذلك كانت كلها ثابتة في علم الله، جارية على وفق الحكمة. وقرن العز بالحكمة ثانيا لأن العذاب والغضب وسلب الأموال والغنائم يناسب ذكر العزة والغلبة والقهر زادنا الله إطلاعا على أسرار قرآنه الكريم وفرقانه العظيم. ثم مدح رسوله صلى الله عليه وسلم وذكر فائدة بعثته ليرتب عليه ذكر البيعة فقال إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على أمتك وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وقد مر في سورة الأحزاب مثله إلا أن قوله لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قائم مقام قوله هناك وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ [الآية: 46] من قرأ على الغيبة فظاهر، وأما من قرأ على الخطاب فلتنزيل خطاب النبي منزلة خطاب المؤمنين. وقوله وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ كلاهما بمعنى التعظيم من العز والوقار ينوب منابه. قوله هناك وَسِراجاً مُنِيراً وذلك أن النور متبع والتبجيل والتعظيم دليل المتبوعية. وقال جار الله: الضمائر كلها لله عز وجل وتعظيم دينه ورسوله. وقوله وَتُسَبِّحُوهُ من التسبيح أو من السبحة وهي صلاة التطوع. وبُكْرَةً وَأَصِيلًا للدوام أو المراد صلاة الفجر والعصر وحدها أو مع الظهر قاله ابن عباس. إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ هي بيعة الرضوان تحت الشجرة كما يجيء في السورة. وقيل: ليلة العقبة وفيه بعد. وسماها مبايعة تشبيها بعقد البيع نظيره إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ [التوبة: 111] إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ لأن طاعة الرسول هي طاعة الله في الحقيقة. ثم أكد هذا المعنى بقوله يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ قال أهل المعاني: هذا تمثيل وتخييل ولا جارحة هناك. وقيل: اليد النعمة أي نعمة الله عليهم بالهداية فوق إحسانهم إلى الله بإجابة البيعة كما قال يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ [الحجرات: 17] قال القفال: هو من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 قوله صلى الله عليه وسلم «اليد العليا خير من اليد السفلى» «1» يريد بالعليا المعطية أي الله يعطيهم ما يكون له به الفضل عليهم. وقيل: اليد القوة أي نصرته إياهم فوق نصرتهم لرسوله. وقيل: يد الله بمعنى الحفظ فإن المتوسط بين المتبايعين يضع يده فوق يدهما فلا يترك أن تتفارق أيديهما حتى يتم البيع، والمراد أن الله تعالى يحفظهم على بيعتهم. ثم زجرهم من نقض العهد وحثهم على الوفاء بقوله فَمَنْ نَكَثَ إلى آخره. والنكث والنقض أخوان. وقوله فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ أي لا يعود ضرر نكثه إلا عليه. قال جابر بن عبد الله: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت وعلى أن لا نفر، فما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس، وكان منافقا اختبأ تحت إبط ناقته ولم يثر مع القوم. ثم بين ما يعلم منه إعجاز القرآن لأنه أخبر عن الغيب وقد وقع مطابقا وله في السورة نظائر فقال سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ هم أسلم ومزينة وجهينة وغفار. وقيل: سموا مخلفين لأن التوفيق خلفهم ولم يعتدّ بهم. والظاهر أنهم سموا بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا استنفر الأعراب وأهل البوادي حذرا من قريش أن يصدّوه عن البيت، فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا: يذهب إلى قوم قصدوه في داره بالمدينة وظنوا أنه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة فاعتلوا. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا وقالوا شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا سل الله أن يغفر لنا تخلفنا عنك وإن كان عن عذر فكذبهم الله بقوله يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وقوله شيئا من الضر كقتل وهزيمة ولا يوصل إليهم نفعا إلا ما شاء الله. وإنما قال هاهنا بزيادة لفظة لَكُمْ لأنه في قوم بأعيانهم بخلاف «المائدة» فإنه عام لقوله أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [المائدة: 17] ثم ردّ قولهم اللساني فقال بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ثم ردّ اعتذارهم الواهي بقوله بَلْ ظَنَنْتُمْ الآية. والبور جمع بائر أي هالك والباقي واضح إلى قوله رَحِيماً وفيه بيان كمال قدرته على تعذيب الكافرين مع أن مغفرته ذاتية ورحمته سابقة. وقوله سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إنما لم يقل هنا لك لأن المخاطبين هم المؤمنون كلهم لا النبي وحده. وجمهور المفسرين على أن هؤلاء هم المخلفون المذكورون فيما تقدم. وقوله إِلى مَغانِمَ هي مغانم خيبر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد أهل الحديبية أن غنائم أهل خيبر لهم خصوصا من غاب منهم ومن حضر بدل تعب السفر في العمرة التي   (1) رواه البخاري في كتاب الوصايا باب 9 مسلم في كتاب الزكاة حديث 94، 95 أبو داود في كتاب الزكاة باب 28 الترمذي في كتاب الزهد باب 32 النسائي في كتاب الزكاة باب 50، 52 الموطأ في كتاب الصدقة حديث 8 الدارمي في كتاب الزكاة باب 22 أحمد في مسنده (2/ 4، 67) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 صدّهم المشركون عنها. وزاد الزهري فقال: وإن حضرها من غيرهم من الناس. قالوا: ولم يغب منهم عنها أحد إلا جابر ابن عبد الله، فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضر. وكان انصراف النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم، ثم خرج إلى خيبر وخرج معه من شهد الحديبية ففتحها وغنم أموالا كثيرة وجعلها لهم خاصة، وكان قبل ذلك وعد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه غنائم خيبر فسمع المنافقون ذلك فقالوا للمؤمنين ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله أمره أن لا يخرج إلى خيبر إلا أهل الحديبية وذلك قوله يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ فقال الله لنبيه قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا أي في خيبر. وقيل: عامّ في غزواته كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أي قبل انصرافهم إلى المدينة فَسَيَقُولُونَ ردّا على النبي والمؤمنين إن الله لم يأمركم به بَلْ تَحْسُدُونَنا أن نشارككم في الغنيمة فرد الله عليهم ردّهم بقوله بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا فهما قَلِيلًا وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون أمور الدين، أو هو فهمهم من قوله قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا مجرد النهي فحملوه على الحسد ولم يعلموا أن المراد هو أن هذا الاتباع لا يقع أصلا لأن الصادق قد أخبر بنفيه. وذهب جماعة من المفسرين منهم الزجاج إلى أن كلام الله هاهنا هو قوله في سورة براءة لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [الآية: 83] واعترض بأن هذا في قصة تبوك التي كانت بعد الحديبية بسنتين بإجماع من أهل المغازي. وأجاب بعضهم بأن هذه الآية أعني سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ نزلت في غزوة تبوك أيضا. وعندي أن الاعتراض غير وارد ولا حاجة إلى الجواب المذكور. ثم إن الله سبحانه أخبر عن مخلفي الحديبية بأنهم سيدعون إلى قوم أولي قوة ونجدة في الحروب. وقيل: هم هوازن وغطفان. وقيل: هم الروم، غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك. والأكثرون على أن القوم أولي البأس الشديد هم بنو حنيفة قوم مسيلمة وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر الصدّيق لأنه تعالى قال تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ومشركو العرب والمرتدون هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، ومن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس تقبل منهم الجزية. هذا عند أبي حنيفة، وأما الشافعي فعنده لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، والمجوس دون مشركي العجم والعرب. وقد يستدل بهذا على إمامة أبي بكر فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بعد وفاته ولا سيما فيمن يزعم أنه نزل فيهم لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التوبة: 83] اللهم إلا أن يقال: المراد لن تخرجوا معي ما دمتم على حالكم من مرض القلوب والاضطراب في الدين، أو أنهم لا يتبعون الرسول إلا متطوّعين لا نصيب لهم في المغنم قاله مجاهد. وقوله أَوْ يُسْلِمُونَ رفع على الاستئناف يعني أو هم يسلمون. ويجوز أن يراد إلى أن يسلموا، فحين حذف «أن» رفع الفعل. وقيل: الإسلام هاهنا الانقياد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 فيشمل إعطاء الجزية أيضا. والأجر الحسن في الدنيا الغنيمة، وفي الآخرة الجنة. وقيل: الغنيمة فقط بناء على أن الآية في المنافقين، وعلى هذا لا يتم الاستدلال على إمامة الخلفاء. وقوله مِنْ قَبْلُ أي في الحديبية. قال ابن عباس: إن أهل الزمانة قالوا: يا رسول الله كيف بنا؟ فأنزل الله تعالى لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ أي إثم في التخلف لأنه كالطائر الذي قص جناحه لا يمتنع على من قصده. وقدم الأعمى لأن عذره مستمر ولو حضر القتال، والأعرج قد يمكنه الركوب والرمي وغير ذلك. نعم يتعسر عليه الحرب ماشيا وكذا جودة الكر والفر راكبا. وقد يقاس الأقطع على الأعرج، ويمكن أن لا يكون الأقطع معذورا لأنه نادر الوجود. والأعذار المانعة من الجهاد أكثر من هذا وقد ضبطها الفقهاء بأن المانع إما عجز حسي أو عجز حكمي. فمن الأول الصغر والجنون والأنوثة والمرض المانع من الركوب للقتال لا كالصداع ووجع السن، ومنه العرج البين وإن قدر على الركوب لأن الدابة قد تهلك. وعند أبي حنيفة لا أثر للعرج في رجل واحدة، ومنه فقد البصر ولا يلحق به العور والعشي، ومنه عدم وجدان السلاح وآلات القتال. ومن الثاني الرق والدين الحالّ بلا إذن رب الدين ومن أحد أبويه في الحياة ليس له الجهاد إلا بإذنه إلا إذا كان كافرا. والباقي واضح إلى قوله لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ وبه سميت بيعة الرضوان ويبايعونك حكاية الحال الماضية والشجرة كانت سمرة. وقيل: سدرة روي أنها عميت عليهم من قابل فلم يدروا أين ذهبت. وعن جابر بن عبد الله: لو كنت أبصر لأريتكم مكانها فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ من خلوص النية فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ الطمأنينة والأمن عليهم وَأَثابَهُمْ جازاهم عن الإخلاص في البيعة فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر غب انصرافه من الحديبية كما ذكرناه. وقيل: هو فتح مكة وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها هي مغانم خيبر وكانت أرضا ذات عقار وأموال فقسمها عليهم وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً هي التي أصابوها مع النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده إلى يوم القيامة فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يعني غنيمة خيبر وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ يعني أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان جاؤا لنصرتهم فقذف الله الرعب في قلوبهم وقيل: أيدي أهل مكة بالصلح. وقيل: أيدي اليهود حين خرجتم وخلفتم عيالكم بالمدينة وهمت اليهود بهم فمنعهم الله قوله وَلِتَكُونَ آيَةً أي لتكون هذه الغنيمة المعجلة دلالة على ما وعدهم الله من الغنائم، أو دلالة على صحة النبوة من حيث إنه أخبر بالفتح القريب وقد وقع مطابقا. وقيل: الضمير للكف والتأنيث لأجل تأنيث الخبر، أو بتقدير الكفة ويهديكم ويثبتكم ويزيدكم بصيرة. قوله وَأُخْرى أي وعدكم الله مغانم أخرى. عن ابن عباس: هي فتوح فارس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 والروم. أو يقال: مغانم هوازن في غزوة حنين لم يظنوا أن يقدروا عليها لما فيها من الهزيمة، ثم الرجوع مرة بعد أخرى قد أحاط الله بها علما أنها ستصير لكم. قال جار الله: يجوز في أُخْرى النصب بفعل مضمر يفسره قَدْ أَحاطَ أي وقضى الله أخرى قد أحاط بها. ويجوز فيها الرفع على الابتداء لكونها موصوفة بالجملة وقَدْ أَحاطَ خبره. وجوز الجر بإضمار «رب» . ثم بين أن نصر الله إياهم في صلح الحديبية أو في فتح خيبر لم يكن اتفاقيا بل كان إلهيا سماويا فقال وَلَوْ قاتَلَكُمُ إلى آخره. والسر فيه أن الله كتب وأوجب غلبة حزبه ونصر رسله كما قال سُنَّةَ اللَّهِ إلى آخره. عن أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم من جبل التنعم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم واستحياهم فأنزل الله تعالى وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ وهو الحديبية لأنها من أرض الحرم. وقيل: هو التنعيم. وقيل: إظفاره دخوله بلادهم بغير إذنهم. وعن عبد الله بن مغفل المزني قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي ذكرها الله في القرآن، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله تعالى بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم صلى الله عليه وسلم: هل كنتم في عهد أحد وهل جعل لكم أحد أمانا فقالوا: اللهم لا، فخلى سبيلهم فأنزل الله الآية. وإنما قدم كف أيدي الكفار عن المؤمنين لأنهم أهم. وقيل: كف أيديكم بأن أمركم أن لا تحاربوا، وكف أيديهم بإلقاء الرعب أو بالصلح وقيل: إن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد: هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل. فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله ارم بي حيث شئت. فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد فهزمه حتى أدخله جوف مكة. فأنزلت الآية. وسمي خالد يومئذ سيف الله. وروي أن كفار مكة خرجوا يوم الحديبية يرمون المسلمين فرماهم المسلمون بالحجارة حتى أدخلوهم بيوت مكة. ثم ذم قريشا بقوله هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ يعني يوم الحديبية عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أن تطوفوا به للعمرة وَصدّوا الْهَدْيَ أو صدّوكم مع الهدى حال كونه مَعْكُوفاً أي محبوسا ممنوعا موقوفا عن أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ المعهود وهو مني وقد مر تفسير الهدي ومحله والبحث عنه في «البقرة» . ثم بين حكمة المصالحة بقوله وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ وقوله لَمْ تَعْلَمُوهُمْ صفة الرجال والنساء جميعا على جهة التغليب. وأَنْ تَطَؤُهُمْ بدل الاشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في تَعْلَمُوهُمْ والوطء كالدّوس عبارة عن الإيقاع والإهلاك. وقوله فَتُصِيبَكُمْ جواب النفي أو عطف على أَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 تَطَؤُهُمْ والمعرة «مفعلة» من العر العيب كالجرب ونحوه. وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ متقدم في النية متعلق ب أَنْ تَطَؤُهُمْ والفحوى أنه كان بمكة ناس من المسلمين فقال سبحانه: ولولا كراهة أن تهلكوا ناسا من المؤمنين فيما بين المشركين وأنتم غير عالمين بحالهم فتصيبكم بإهلاكهم تبعة في الدين لوجوب الدية والكفارة أو عيب بسوء قالة أهل الشرك، إنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا، أو أثم إذا جرى دينهم منكم بعض التقصير لما كف أيديكم عنهم. والكلام يدل على هذا الجواب وفي حذفه فخامة وذهاب للوهم كل مذهب، ويعلم منه أنه يفعل بهم إذ ذاك ما لا يدخل تحت الوصف. وجوّزوا أن يكون لَوْ تَزَيَّلُوا كالتكرير لقوله وَلَوْلا رِجالٌ لرجعهما إلى معنى واحد. والتنزيل التميز والتفرق ويكون لَعَذَّبْنَا هو الجواب. وقوله لِيُدْخِلَ تعليل لما دلت عليه الآية من كف الأيدي عن قريش صونا لأهل الإيمان المختلطين بهم كأنه قيل: كان الكف ومنع التعذيب ليدخل الله مؤمنيهم في حيز توفيق الخير والطاعة، أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من المشركين. وحكى القفال أن اللام متصل بالمؤمنين والمؤمنات أي آمنوا لكذا. وقوله إِذْ جَعَلَ يجوز أن ينتصب بإضمار «اذكر» أو يكون ظرفا لَعَذَّبْنَا أو ل صَدُّوكُمْ وفاعل جَعَلَ يجوز أن يكون اللَّهُ وقوله فِي قُلُوبِهِمُ بيان لمكان الجعل كما مر في قوله وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93] ويجوز أن يكون الَّذِينَ كَفَرُوا ومفعولاه الحمية والظرف فيكون جعلهم في قلبهم بإزاء أنزل الله. والحمية في مقابلة السكينة، والحمية الأنفة والاستكبار الذي كان عليها أهل الجاهلية، ومن ذلك عدم إقرارهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ومنه ما جرى في قصة الحديبية من إبائهم أن يكتب في كتاب العهد «بسم الله الرحمن الرحيم» وأن يكتب «محمد رسول الله» يقال: حميت أنفي حمية كأنها «فعلية» بمعنى «مفعول» من الحماية اسم أقيم مقام المصدر كالسكينة بمعنى السكون فأنزل الله على رسوله السكينة والوقار حتى أعطاهم ما أرادوا. وكلمة التقوى التسمية والتوحيد والاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، اختارها الله للمؤمنين. ومعنى الإضافة إنها سبب التقوى وأساسها، أو المراد كلمة أهل التقوى الذين يتقون بها غضب الله. وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها لأنهم خيار الأمم. وقيل: أراد وكانوا يعني أهل مكة أحق بهذه الكلمة لتقدّم إنذارهم إلا أن بعضهم سلبوا التوفيق. وحكى المبرد أن الذين كانوا قبلنا لم يكن لأحد أن يقول «لا إله إلا الله» في اليوم والليلة إلا مرة واحدة لا يستطيع أن يقول أكثر من ذلك. وكان قائلها يمدّ بها صوته إلى أن ينقطع نفسه تبركا بذكر الله، وقد جعل الله لهذه الأمة أن يقولوها متى شاؤا وهو قوله وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى أي ندبهم إلى ذكرها ما استطاعوا. ثم قص رؤيا نبيه صلى الله عليه وسلم بيانا لإعجازه فإن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 وقصته أنه رأى في المنام أن ملكا قال له لَتَدْخُلُنَّ إلى قوله لا تَخافُونَ فأخبر أصحابه بها ففرحوا وجزموا بأنهم داخلوها في عامهم، فلما صدّوا عن البيت واستقر الأمر على الصلح قال بعض الضعفة: أليس كان يعدنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نأتي البيت فنطوف به؟ فقال لهم أهل البصيرة: هل أخبركم أنكم تأتونه العام؟ فقالوا: لا. قال: فإنكم تأتونه وتطوفون بالبيت فأنزل الله تصديقه. ومعنى صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا صدقه في رؤياه ولم يكذبه. وقوله بِالْحَقِّ إما أن يكون متعلقا ب صَدَقَ أي صدقه فيما رأى صدقا متلبسا بالحق وهو أن يكون ما أراه كما أراه، وإما أن يكون حالا من الرؤيا أي متلبسة بالحق يعني بالغرض الصحيح وهو الابتلاء، وتميز المؤمن المخلص من المنافق المرائي. وجوّز أن يكون بِالْحَقِّ قسما لأنه اسم من أسماء الله سبحانه، أو لأن المراد الحق الذي هو نقيض الباطل فتكون اللام في لَتَدْخُلُنَّ جواب القسم لا للابتداء فيحسن الوقف على الرُّؤْيا. والبحث عن الحلق والتقصير وسائر أركان الحج والعمرة وشرائطهما استوفيناها في سورة البقرة فليتذكر. وفي ورود إِنْ شاءَ اللَّهُ في خبر الله عز وجل أقوال أحدها: أنه حكاية قول الملك كما روينا. والثاني أن ذلك خارج على عادة القرآن من ذكر المشيئة كقوله يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ والمعنى إن الله يفعل بالعباد ما هو الصلاح فيكون استثناء تحقيق لا تعليق. والثالث أنه أراد لتدخلن جميعا إن شاء ولم يمت أحد أو لم يغب. والرابع أنه تأديب وإرشاد إلى استعمال الاستثناء في كل موضع لقوله صلى الله عليه وسلم وقد دخل البقيع «وأنا إن شاء الله بكم لا حقون» «1» وليس في وقوع الموت استثناء. الخامس أنه راجع إلى حالة الأمن وعدم الخوف. ثم رتب على الصدق وعلى سوء ظن القوم قوله فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا من الحكمة في تأخير الفتح إلى العام القابل فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ الفتح فَتْحاً قَرِيباً وهو فتح خيبر. ثم أكد صدق الرؤيا بل صدق الرسول في كل شيء بقوله هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الآية. وذلك أنه كذب رسوله كان مضلا ولم يكن إرساله سببا لظهور دينه وقوة ملته، وقد مر نظير الآية في سورة التوبة. ومن استعلاء هذا الدين أنه لا ترى أهل ملة إلا والمسلم غالب عليه إلا أن يشاء الله. وقد يقال: إن كمال العز والغلبة عند نزول عيسى عليه السلام فلا يبقى على الأرض كافر وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على أن هذا الدين يعلو ولا يعلى.   (1) رواه مسلم في كتاب الطهارة حديث 39 أبو داود في كتاب الجنائز باب 79 النسائي في كتاب الطهارة، باب 109 ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 36 أحمد في مسنده (2/ 300، 375) (5، 353) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 ثم أكد الشهادة وأرغم أنف قريش الذين لمن يرضوا بهذا التعريف في كتاب العهد فقال مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فهو مبتدأ وخبر. وجوز أهل الإعراب أن يكون المبتدأ محذوفا لتقدم ذكره في قوله أَرْسَلَ رَسُولَهُ أي هو محمد فيكون رَسُولُ اللَّهِ صفة أو عطف بيان، وجوزوا أن يكون مُحَمَّدٌ مبتدأ ورَسُولُ اللَّهِ صفته أو بيانا. وقوله وَالَّذِينَ مَعَهُ وهم الصحابة عطفا على مُحَمَّدٌ وخبر الجميع أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ جمع شديد كما قال وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم: 9] أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة: 54] عن الحسن: بلغ من تشدّدهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم فكيف بأبدانهم، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صحافه وعانقه. والمصافحة جائزة بالاتفاق، وأما المعانقة والتقبيل فقد كرههما أبو حنيفة رضي الله عنه وإن كان التقبيل على اليد. ومن حق المؤمنين أن يراعوا هذه السنة أبدا فيتشدّدوا على مخالفيهم ويرحموا أهل دينهم تَراهُمْ يا محمد أو يا من له أهلية الخطاب رُكَّعاً سُجَّداً راكعين ساجدين يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ بالعفو عن تقصيرهم وَرِضْواناً منه عن أعمالهم الصالحة بأن يتقبلها الله منهم سِيماهُمْ علامتهم فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ فيجوز أن تكون العلامة أمرا محسوسا وأن السجود بمعنى حقيقة وضع الجبهة على الأرض، وكان كل من عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام وعليّ بن عبد الله بن عباس أبي الأملاك يقال له ذو الثفنات، لأن كثرة سجودهما أحدثت في مواضع السجود منهما أشباه ثفنات البعير. والذي جاء في الحديث «لا تعلبوا صوركم» أي لا تخدشوها. وعن ابن عمر أنه رأى رجلا أثر في وجهه السجود فقال: إن صورة وجهك أنفك فلا تعلب وجهك ولا تشن صورتك محمول على التعمد رياء وسمعة. وعن سعيد بن المسيب هي ندى الطهور وتراب الأرض. ويجوز أن يكون أمرا معنويا من البهاء والنور. وعن عطاء: استنارت وجوههم من التهجد كما قيل «من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» وإن الذي يبيت شاربا يتميز عند أرباب البصيرة من الذي يبيت مصليا وفيه قال بعضهم: عيناك قد حكتا مبي ... تك كيف كنت وكيف كانا ولرب عين قد أرت ... ك مبيت صاحبها عيانا قال المحققون: إن من توجه إلى شمس الدنيا لا بد من أن يقع شعاعها على وجهه، فالذي أقبل على شمس عالم الوجود وهو الله سبحانه كيف لا يستنير ظاهره وباطنه ولا سيما يوم تبلى السرائر ويكشف الغطاء ذلِكَ مَثَلُهُمْ أي ذلك الوصف وصفهم العجيب الشأن في الكتابين: ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله كَزَرْعٍ إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 آخره. كقوله وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ [الحجر: 66] وقد يقال: تم الكلام عند قوله ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ ثم ابتدأ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ لما روى أنه مكتوب في الإنجيل: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر عرفوا إلى بني إسرائيل بهذا الوصف ليعرفوهم إذا أبصروهم. والشطء بالتسكين والتحريك فراخ الزرع التي تنبت إلى جانب الأصل، ومنه شاطئ النهر. فَآزَرَهُ من المؤازرة المعاونة. ويجوز أن يكون أفعل من الأزر القوة أي أعان الزرع الشطء أو بالعكس. فَاسْتَغْلَظَ الزرع أو الشطء أي صار من الرقة إلى الغلظ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ فاستقام على قصبته أي تناهى وصار كالأصل بحيث يعجب الزارعين. والسوق جمع ساق وقد يخص الساق بالشجر فيكون ساق الزرع مجازا مستعارا. ووجه التشبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وحده ثم أتبعه من هاهنا قليل ومن هاهنا حتى كثروا وقوي أمرهم. وقوله لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ تعليل لوجه التشبيه أو للتشبيه أي ضرب الله ذلك المثل وقضى وحكم بذلك ليغيظ بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه كفار مكة والعجم. وقيل: هذا الزرع يغيظ بكثرته الكفار أي سائر الزرّاع الذين ليس لهم مثل زرعهم وفيه بعد، ولكن الكلام لا يخلو عن فصاحة لفظية من قبل المناسبة بين الزراع والكفار لاشتراكهما بالجملة في معنى من المعاني وإن لم يكن مقصودا هاهنا. وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله وَالَّذِينَ مَعَهُ أبو بكر أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ عمر رُحَماءُ بَيْنَهُمْ عثمان تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً علي عليه السلام يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً طلحة والزبير سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ سعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة ابن الجراح. وعن عكرمة: أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعليّ. وقوله مِنْهُمْ لبيان الجنس. ويجوز أن يكون قوله لِيَغِيظَ تعليلا للوعد لأن الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما حصل لهم في الدنيا من الغلبة والاستعلاء غاظهم ذلك والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 (سورة الحجرات) (مدنية حروفها ألف وأربعمائة وستة وسبعون كلماتها ثلاثمائة وأربعون آياتها ثمان عشرة) [سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 القراآت: لا تُقَدِّمُوا بالفتحات من التقدّم: يعقوب الحجرات بفتح الجيم: يزيد. إخوتكم على الجمع: يعقوب وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان وَلا تَجَسَّسُوا وَلا تَنابَزُوا ولِتَعارَفُوا بالتشديدات للإدغام: البزي وابن فليح ميتا مشدّدا: أبو جعفر ونافع يألتكم بالهمز: أبو عمرو وسهل ويعقوب وقد لا يهمز في رواية. الآخرون: بالحذف بما يعملون على الغيبة: ابن كثير. الوقوف: وَاتَّقُوا اللَّهَ ط عَلِيمٌ هـ ج لا تَشْعُرُونَ هـ لِلتَّقْوى ط عَظِيمٌ هـ لا يَعْقِلُونَ هـ خَيْراً لَهُمْ ط رَحِيمٌ هـ نادِمِينَ هـ رَسُولَ اللَّهِ ط وَالْعِصْيانَ ط الرَّاشِدُونَ هـ لأن فَضْلًا مفعول له وَنِعْمَةً ط حَكِيمٌ هـ بَيْنَهُما ج للشرط مع الفاء أَمْرِ اللَّهِ ج لذلك وَأَقْسِطُوا ط الْمُقْسِطِينَ هـ تُرْحَمُونَ هـ مِنْهُنَّ ج للعدول عن الغيبة إلى الخطاب بِالْأَلْقابِ ط بَعْدَ الْإِيمانِ هـ ج لابتداء الشرط مع احتمال وَمَنْ لَمْ يَتُبْ عما ذكر من اللمز والنبز الظَّالِمُونَ هـ مِنَ الظَّنِّ ز للابتداء بأن إلا إنه للتعليل أي لأن بَعْضاً ج فَكَرِهْتُمُوهُ ط وَاتَّقُوا اللَّهَ ط رَحِيمٌ هـ لِتَعارَفُوا ط أَتْقاكُمْ ط خَبِيرٌ هـ آمَنَّا ط قُلُوبِكُمْ ط شَيْئاً ط رَحِيمٌ هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ط الصَّادِقُونَ هـ فِي الْأَرْضِ ط عَلِيمٌ هـ أَسْلَمُوا ط إِسْلامَكُمْ ج لأن «بل» للإضراب عن الأول صادِقِينَ هـ وَالْأَرْضِ ط تَعْمَلُونَ هـ. التفسير: لما بين محل النبي صلى الله عليه وسلم وعلو منصبه بقوله هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ إلى آخر السورة افتتح الآن بقوله لا تُقَدِّمُوا الآية. ففيه تأكيد لما ذكر هناك من وجوب إتباعه والإذعان له. والأظهر أن هذا إرشاد عام. وذكر المفسرون في أسباب النزول وجوها منها ما روي عن ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبر أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّر القعقاع بن معبد وقال عمر: بل أمر الأقرع بن جابس. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك. فتماريا حتى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 ارتفعت أصواتهما فأنزل الله الآية. وقال الحسن والزجاج: نزلت في رجل ذبح الأضحية قبل الصلاة وقبل ذبح النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بإعادتها وهو مذهب أبي حنيفة إلى أن تزول الشمس. وعند الشافعي يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة. وعن عائشة أنها نزلت في صوم يوم الشك. وروي أنها في القتال أي لا تحملوا على الكفار في الحرب قبل أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم. وقدّم إما متعد وحذف المفعول للعموم حتى يتناول كل فعل وقول، أو ترك مفعوله كما في قوله «فلان يعطي ويمنع» لأن النظر إلى الفعل لا إلى المفعول كأنه قيل: يجب أن لا يصدر منكم تقدم أصلا في أيّ فعل كان. وإما لازم نحو بين وتبين بمعنى يؤيده قراءة يعقوب. قال جار الله: حقيقة قولهم «جلست بين يدي فلان» أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله حتى ينظر إليك من غير تقليب حدقة وذكر الله للتعظيم. وفيه أن التقديم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كالتقديم بين يدي الله. قال ابن عباس: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه بل عليهم أن يصغوا ولا يتكلموا. وقيل: معناه لا تخالفوا كتاب الله وسنة رسوله. وعن الحسن في رواية أخرى: لما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل فنهوا أن يبتدؤه بالمسألة حتى يكون هو المبتدئ وَاتَّقُوا اللَّهَ في التقديم أو أمرهم بالتقوى ليحملهم على ترك التقدمة فإن المتقي حذر عن كل ما فيه تبعة وريب إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بنياتكم وأفعالكم. ثم أعاد النداء عليهم مزيدا للتنبيه، وفيه نوع تفصيل بعد إجمال وتخصيص بعد تعميم. وعن ابن عباس أن ثابت ابن قيس بن شماس كان في أذنه وقر وكان جهوريّ الصوت وكان يتأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوته إذا كلمه، فحين نزلت الآية فقد ثابت فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذر بأنه رجل جهير الصوت يخاف أن تكون الآية نزلت فيه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لست هناك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة. وعن الحسن: نزلت في المنافقين كانوا يرفعون بأصواتهم فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم استخفافا واستهانة وليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهى المؤمنون عن ذلك. وعلى هذا فإما أن يكون الإيمان أعم من أن يكون باللسان أو به وبالقلب، وإما أن يكون الإيمان حقيقة فيكون تأديبا للمؤمنين الخلص حتى يكون حالهم بخلاف حال أهل النفاق، ويكون كلامهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخفض من كلامه لهم رعاية لحشمته وصيانة على مهابته. قوله وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ أي جهرا مثل جهر بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ قيل: تكرار للمعنى الأوّل لأجل التأكيد فإن الجهر هو رفع الصوت والجمهور على أن بين النهيين فرقا. ثم اختلفوا فقيل: الأول فيما إذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا في أثناء كلامه فنهوا أن يكون جهرهم باهر الجهر. والثاني فيما إذا سكت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 ونطقوا فنهوا عن جهر مقيد بما اعتادوه فيما بينهم وهو الخالي عن مراعاة أبهة النبوّة. وقيل: النهي الأول أعم مما إذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا والمراد بالنهي الثاني أن لا ينادي وقت الخطاب باسمه أو كنيته كنداء بعضهم لبعض فلا يقال: يا أحمد يا محمد يا أبا القاسم ولكن يا نبي الله يا رسول الله. ثم علل كلا من النهيين بقوله أَنْ تَحْبَطَ أي كراهة حبوط أعمالكم وذلك أن الرفع والجهر إذا كان عن استخفاف وإهانة كان كفرا محبطا للأعمال السابقة. والمفعول له يتعلق بالفعل الأول في الظاهر عند الكوفيين وبالعكس عند البصريين. وجوز في الكشاف أن يقدر الفعل في الثاني مضموما إليه المفعول له كأنهما شيء واحد ثم يصب عليهما الفعل جميعا صبا واحدا، والمعنى أنهم نهوا عن الفعل الذي فعلوه لأجل الحبوط لأنه كان بصدد الأداء إليه فجعل كأنه سبب في إيجاده كقوله لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] وفي قوله وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إشارة إلى أن ارتكاب المآثم يجر الأعمال إلى الحبوط من حيث لا يشعر المرء به. ومثله قول الحكيم: إن كلا من الأخلاق الفاضلة والرذيلة تكون أوّلا حالا ثم تصير ملكة راسخة وعادة مستمرة. ومنه قول أفلاطون: لا تصحب الشرير فإن طبعك يسرق وأنت لا تدري. فالعاقل من يجتهد في الفضائل أن تصير ملكات، وفي الرذائل أن تزول عنه وهي أحوال. قال ابن عباس: لما نزلت الآية قال أبو بكر: يا رسول الله والله لا أكلمك إلا السرار أو كأخي السرار حتى ألقى الله فأنزل الله فيه وفي أمثاله إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ هو افتعل من المحنة وهو اختبار بليغ يقال: امتحن فلان لأمر كذا أي جرب له فوجد قويا عليه، أو وضع الامتحان موضع المعرفة لأن تحقق الشيء باختباره فكأنه قيل: عرف الله قلوبهم كائنة للتقوى فاللام متعلقة بالمحذوف كقولك: أنت لهذا الأمر. أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف لأجل التقوى وحصولها فيها سابقة ولا حقة لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ عَظِيمٌ لطاعتهم. وفي تنكير الوعد وغير ذلك من مؤكدات الجملة تعريض بعظم ما ارتكب غيرهم واستحقاقهم أضداد ما استحق هؤلاء. يروى أنه كان إذا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد أرسل إليهم أبو بكر من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار. قال العلماء: إن النهي لا يتناول رفع الصوت الذي ليس باختيار المكلف كما مر في حديث ثابت بن قيس، ولا الذي نيط به صلاح في حرب أو جدال معاند أو إرهاب عدوّ. ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس ابن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين: أصرخ بالناس وكان العباس أجهر الناس صوتا. وفيه قال نابغة بني جعدة: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 زجر أبي عروة السباع إذا ... أشفق أن يختلطن بالغنم وأبو عروة كنية العباس. زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيشق مرارة السبع في جوفه. ويروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس يا صباحاه فأسقطت الحوامل لشدّة صوته. ثم علمهم أدبا أخص فقال إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أي من جانب البر والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض. والحجرة البقعة التي يحجرها المرء لنفسه كيلا يشاركه فيها غيره من الحجر وهو المنع «فعلة» بمعنى مفعولة، وجمعت لأن كلا من أمهات المؤمنين لها حجرة. روي أن وفدا من بني تميم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو سبعون رجلا منهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن. فدخلوا المسجد ونادوا النبي صلى الله عليه وسلم من خارج حجراته كأنهم تفرقوا على الحجرات أو أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها أو نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها، ولكنها جمعت إجلالا له صلى الله عليه وسلم. والفعل وإن كان مستندا إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم لأن رضا الباقين به كالتولي له. وحكى الأصم أن الذي ناداه عيينة والأقرع قالا: أخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين منا شين. فتأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فخرج إليهم وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين. فقال لهم: فيم جئتم؟ فقالوا: جئنا بخطيبنا وشاعرنا نفاخرك ونشاعرك. فقال: ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ولكن هاتوا. فقام خطيبهم فخطب وقام شاعرهم وأنشد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس فقام وخطب وأمر حسانا فقام وأنشد. فلما فرغوا قام الأقرع وقال: والله ما أدري ما هذا، تكلم خطيبنا وكان خطيبهم أحسن قولا، وأنشد شاعرنا وكان شاعرهم أشعر. ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله. وعن زيد بن أرقم أنهم قالوا: نمتحنه فإن يكن ملكا عشنا في جنابه، وإن يكن نبيا كان أولى بأن نكون أسعد الناس به. وقيل: إنهم وفدوا شافعين في أسرى بني العنبر. أما إخبار الله تعالى عنهم بأن أكثرهم لا يعقلون فإما لأن الأكثر أقيم مقام الكل على عادة الفصحاء كيلا يكون الكلام بصدد المنع، وإما لأن الحكم بقلة العقلاء فيهم عبارة عن العدم فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم، وإما لأن فيهم من رجع وندم على صنيعه فاستثناه الله تعالى. وإنما حكم عليهم بعدم العقل لأنهم لم يعقلوا أن هذا النحو من النداء خارج عن قانون الأدب ومنبئ عن عدم الوقار والأناة ولا سيما في حق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن يحتجب عن الناس إلا عند الخلوة والاشتغال بمهامّ أهل البيت فلذلك قال وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ وفائدة قوله إِلَيْهِمْ أنه لو خرج لا لأجلهم لزمهم الصبر إلى أن يكون خروجه إليهم لأجلهم لَكانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 الصبر خَيْراً لَهُمْ في دينهم وهو ظاهر وفي دنياهم بأن ينسبوا إلى وفور العقل وكمال الأدب. وقيل: بإطلاق أسرائهم جميعا فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق النصف وفادى النصف وَاللَّهُ غَفُورٌ مع ذلك لمن تاب رَحِيمٌ في قبول التوبة. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وفد بني تميم فقال: إنهم جفاة بني تميم ولولا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم. ويحكى عن أبي عبيدة وهو المشهور بالعلم والزهادة وثقة الرواية أنه قال: ما وقفت بباب عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه. ثم أرشدهم إلى أدب آخر فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ وقد أجمع المفسرون على أنها نزلت في الوليد بن عقبة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق مصدقا وكان بينهما إحنة، فلما سمعوا به ركبوا إليه فلما سمع بهم خافهم فرجع فقال: إن القوم هموا بقتلي ومنعوا صدقاتهم. فهم النبي صلى الله عليه وسلم بغزوهم، فبيناهم في ذلك إذ قدم وفدهم وقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فاتهمهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لتنتهن أو لأبعثن إليكم رجلا هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلتكم ويسبي ذراريكم، ثم ضرب بيده على كتف علي رضي الله عنه فقالوا: نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. وقيل: بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين فسلموا إليه الصدقات فرجع. قال جار الله: في تنكير الفاسق والنبأ عموم كأنه قيل: أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبأ فتوقفوا فيه واطلبوا البيان لأن من لا يتجافى جنس الفسوق لا يتجافى بعض أنواعه الذي هو الكذب. والفسوق الخروج عن الشيء والانسلاخ منه فسقت الرطبة عن قشرها، ومن مقلوبه «فقست البيضة» إذا كسرتها وأخرجت ما فيها. ومن تقاليبه أيضا «قفست الشيء» بتقديم القاف إذا أخرجته من يد مالكه غصبا. والنبأ الخبر الذي يعظم وقعه. واختبر لفظة «إن» التي هي للشك دون «إذا» تنبيها على أنه صلى الله عليه وسلم ومن معه بمنزلة لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب إلا على سبيل الفرض والندرة، فعلى المؤمنين أن يكونوا بحيث لا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور. ثم علل التبين بقوله أَنْ تُصِيبُوا أي كراهة إصابتكم قَوْماً حال كونكم جاهلين بحقيقة الأمر. والندم ضرب من الغم وهو أن تغتم على ما وقع منك متمنيا أنه لم يقع ولا يخلو من دوام وإلزام. ومن مقلوباته «أدمن الأمر» إذا دام عليه. ومدن بالمكان أقام به. قال الأصوليون من الأشاعرة: إن خبر الواحد العدل يجب العمل به لأن الله تعالى أمر بالتبين في خبر الفاسق، ولو تبينا في خبر العدل لسوّينا بينهما. وضعف بأنه من باب التمسك بالمفهوم. واتفقوا على أن شهادة الفاسق لا تقبل لأن باب الشهادة أضيق من باب التمسك بمفهوم الخبر. وأكثر المفسرين على أن الوليد كان ثقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 فاسقا بكذبه. وقيل: إن الوليد لم يقصد الكذب ولكنه ظن حين اجتمعوا لإكرامه أن يكونوا هموا بقتله. ولقائل أن يقول: لفظ القرآن وسبب النزول يدل على خلافه. نعم لو قيل: إنه تاب بعد ذلك لكان له وجه. ثم أرشدهم إلى أمر آخر قائلا وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ وليس هذا الأمر مقصودا بظاهره لأنه معلوم مشاهد فلا حاجة إلى التنبيه عليه، وإنما المراد ما يستلزم كونه فيهم كما يقال لمن يغلط في مسألة أو يقول فيها برأيه: اعلم أن الشيخ حاضر. ثم قيل: المراد لا تقولوا الباطل والكذب فإن الله يخبره ويوحي إليه. وقيل: أراد أن الرأي رأيه فلا تعدوا رأيه وقد صرح بهذا المعنى في قوله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ لوقعتم في العسر والمشقة والحرج لأنه أعلم منكم بالحنيفية السهلة السمحاء، ومن جملة ذلك قصة الوليد فإنه لو أطاعه وقبل قوله لقتل وقتلتم وأخذ المال وأخذتم فاتهمتم. قال جار الله: الجملة المصدّرة بلو ليس كلاما مستأنفا لاختلال النظم حينئذ ولكنها حال من أحد الضميرين في فِيكُمْ وهو المستتر المرفوع أو البارز المجرور. والمعنى أن فيكم رسول الله على حالة يجب تغييرها وهي أنكم تطلبون منه اتباع آرائكم. قلت: قد ذكرنا في وجه النظم بيانا آخر. ثم قال: فائدة تقديم خبر «أن» هو أن يعلم أن التوبيخ ينصب إلى هذا الغرض. وفائدة قوله يُطِيعُكُمْ بلفظ الاستقبال الدلالة على ما أرادوه من استمرار طاعته لهم وأنه لا يخالفهم في كثير مما عنّ لهم من الآراء والأهواء. وفي قوله فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ مراعاة لجانب المؤمنين حيث لم ينسب جميع آرائهم إلى الخطأ، وفيه أيضا تعليم حسن وتأديب جميل في باب التخاطب. ويمكن أن يكون إشارة إلى تصويب رأي بعضهم لا إلى تصويب بعض رأيهم فقد قيل: إن بعضهم زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد، وبعضهم كانوا يرون التحلم عنهم إلى أن يتبين أمرهم، وقد أشار إلى هذا البعض بقوله وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ أي إلى بعضكم وإلا لم يحسن الاستدراك يعني ب لكِنَّ فإن من شرطه مخالفة ما بعده لما قبله. فلو كان المخاطبون في الطرفين واحدا لم يكن للاستدراك معنى بل يؤدّي إلى التناقض لأنه يكون قد أثبت لهم في ثاني الحال محبة الإيمان وكراهة العصيان، وذكر أوّلا أنه توجب إجابتهم الوقوع في العنت. قال أهل اللغة: الطاعة موافقة الداعي غير أن المستعمل في حق الأكابر الإجابة، وفي حق الأصاغر الطاعة، وقد ورد القرآن على أصل اللغة. استدلت الأشاعرة بقوله حَبَّبَ وكَرَّهَ على مسألة خلق الأفعال. وحملها المعتزلة على نصب الأدلة أو اللطف والتوفيق أو الوعد والوعيد. والمعنى ولكن الله حبب إليكم الإيمان فأطعتموه فوقاكم العنت والكفر واضح. وأما الفسوق والعصيان فقيل: الأوّل الكبائر والثاني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 الصغائر. ويحتمل أن يكون الكفر مقابل التصديق بالجنان، والفسوق مقابل الإقرار باللسان لأن الفسق هاهنا أمر قولي بدليل قوله إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ سماه فاسقا لكذبه والعصيان مقابل العمل بالأركان أُولئِكَ البعض المتبينون هُمُ الرَّاشِدُونَ وهذه جملة معترضة. وقوله فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً كل منهما مفعول له والعامل فيهما حَبَّبَ وكَرَّهَ ويجوز أن يكونا منصوبين عن الراشدين لأن الرشد عبارة عن التحبيب والتكريه المستندين إلى الله، فكأن الرشد أيضا فعله فاتحد الفاعل في الفعل والمفعول له بهذا الاعتبار. ويجوز أن يكونا مصدرين من غير لفظ الفعل وهو الرشد فكأنه قيل: فأولئك هم الراشدون رشدا لأن رشدهم إفضال وإنعام منه. قال بعض العلماء: الفضل بالنظر إلى جانب الله الغنيّ، والنعمة بالنظر إلى جانب العبد الفقير وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الخلق وما بينهم من التمايز والتفاضل حَكِيمٌ في تدابيره وأفضاله وأنعامه. ثم علمهم حكما آخر. في الصحيحين عن أنس أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله لو أتيت عبد الله بن أبيّ. فانطلق إليه على حمار وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فبال الحمار فقال: إليك عني فو الله لقد آذاني نتن حمارك. فقال عبد الله بن رواحة: والله إن بول حماره أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجل من قومه وغضب لكل واحد منهما أصحابه فوقع بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال فأنزل الله فيهم وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا جمع لأن الطائفتين في معنى القوم، أو الناس، أو لأن أقل الجمع اثنان فرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم. وعن مقاتل: قرأها عليهم فاصطلحوا. وقال ابن بحر: القتال لا يكون بالنعال والأيدي وإنما هذا في المنتظر من الزمان. والطائفة الجماعة وهي أقل من الفرقة لقوله فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: 122] وارتفاعها بمضمر دل عليه ما بعده أي إن اقتتلت طائفتان واختير «أن» دون «إذا» مع كثرة وقوع القتال بين المؤمنين ليدل على أنه مما ينبغي أن لا يقع إلا نادرا وعلى سبيل الفرض والتقدير، ولهذه النكتة بعينها قال طائِفَتانِ ولم يقل «فريقان» تحقيقا للتقليل كما قلنا. وفي تقديم الفاعل على الفعل إشارة أيضا إلى هذا المعنى لأن كونهما طائفتين مؤمنين يقتضي أن لا يقع القتال بينهما ولهذا اختير المضيّ في الفعل ولم يقل يقتتلون لئلا ينبئ عن الاستمرار. وفيه أيضا من التقابل ما فيه. وإنما قدم الفعل في قوله إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ليعلم أن المجيء بالنبإ الكاذب يورث كون الجائي به فاسقا سواء كان قبل ذلك فاسقا أم لا، ولو أخر الفعل لم تتناول الآية إلا مشهور الفسق قبل المجيء بالنبإ. قال بعض العلماء: إنما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 قال اقْتَتَلُوا على الجمع ولم يقل «فأصلحوا بينهم» لأن عند القتال يكون لكل منهم فعل برأسه، أما عند العود إلى الصلح فإنه تتفق كلمة كل طائفة وإلا لم يتحقق الصلح فكان كل من الطائفتين كنفس واحدة فكانت التثنية أقعد. والبغي الاستطالة وإباء الصلح، والفيء الرجوع وبه سمي الظل لأنه يرجع بعد نسخ الشمس، أو لأن الناس يرجعون إليه، والغنيمة لأنها ترجع من الكفار إلى المسلمين. ومعنى قوله إِلى أَمْرِ اللَّهِ قيل: إلى طاعة الرسول أو من قام مقامه من ولاة الأمر بقوله أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] وقيل: إلى الصلح لقوله وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال: 1] وقيل: إلى أمر الله بالتقوى فإن من خاف الله حق خشيته لا تبقى له عداوة إلا مع الشيطان. وإنما قال فَإِنْ بَغَتْ ولم يقل «فإذا» بناء على أن بغي إحداهما مع صلاح الأخرى كالنادر، وكذا قوله فَإِنْ فاءَتْ لأن الفئة الباغية مع جهلها وعنادها وإصرارها على حقدها كالأمر النادر نظيره قول القائل لعبده: «إن مت فأنت حر» . مع أن الموت لا بد منه وذلك لأن موته بحيث يكون العبد حيا باقيا في ملكه غير معلوم. واعلم أن الباغية في اصطلاح الفقهاء فرقة خالفت الإمام بتأويل باطل بطلانا بحسب الظن لا القطع، فيخرج المرتد لأن تأويله باطل قطعا، وكذا الخوارج وهم صنف من المبتدعة يكفرون من أتى بكبيرة ويسبون بعض الأئمة. وهكذا يخرج مانع حق الشرع لله أو للعباد عنادا لأنه لا تأويل له. ولا بد أن يكون له شوكة وعدد يحتاج الإمام في دفعهم إلى كلفة ببذل مال أو إعداد رجال، فإن كانوا أفرادا يسهل ضبطهم فليسوا بأهل بغي. والأكثرون على أن البغاة ليسوا بفسقة ولا كفرة لقوله تعالى وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا وعن عليّ رضي الله عنه: إخواننا بغوا علينا ولكنهم يخطؤن فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل كما وقع للخارجة عن عليّ رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص لمواطأته إياهم. وكما قال مانعو الزكاة لأبي بكر: أمرنا بدفع الزكاة إلى من صلاته سكن لنا وصلاة غير النبي صلى الله عليه وسلم ليست بسكن لنا. واتفقوا على أن معاوية ومن تابعه كانوا باغين للحديث المشهور «إن عمارا تقتله الفئة الباغية» «1» وقد يقال: إن الباغية في حال بغيها ليست بمؤمنة وإنما سماهم المؤمنين باعتبار ما قبل البغي كقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ [المائدة: 54] والمرتد ليس بمؤمن   (1) رواه البخاري في كتاب الصلاة باب 63 مسلم في كتاب الفتن حديث 70 الترمذي في كتاب المناقب باب 34 أحمد في مسنده (2/ 161) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 بالاتفاق. أما الذي يتلفه العادل على الباغي وبالعكس في غير القتال فمضمون على القاعدة الممهدة في قصاص النفوس وغرامة الأموال، وأما في القتال فلا يضمن العادل لأنه مأمور بالقتال ولا الباغي على الأصح، لأن في الوقائع التي جرت في عصر الصحابة والتابعين لم يطلب بعضهم بعضا بضمان نفس ومال، ولأنه لو وجبت الغرامة لنفرهم ذلك عن العود إلى الطاعة. والأموال المأخوذة في القتال تردّ بعد انقضاء الحرب إلى أربابها من الجانبين. والمراد من متلف القتال ما يتلف بسبب القتال ويتولد منه هلاكه حتى لو فرض إتلاف في القتال من غير ضرورة القتال كان كالإتلاف في غير القتال، والذين لهم تأويل بلا شوكة لزمهم ضمان ما أتلفوا من نفس ومال وإن كان على صورة القتال، وحكمهم حكم قطاع الطريق إذا قاتلوا، ولو أسقطنا الضمان لأبدت كل شرذمة من أهل الفساد تأويلا وفعلت ما شاءت وفي ذلك إبطال السياسات، ولهذه النكتة قرن بالإصلاح. والثاني قوله بِالْعَدْلِ لأن تضمين الأنفس والأموال يحتاج فيه إلى سلوك سبيل العدل والنصفة لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة مرة أخرى. واحتج الشافعي لوجوب الضمان إذا لم يكن قتال بأن ابن ملجم قتل عليا رضي الله عنه زاعما أن له شبهة وتأويلا فأمر بحبسه وقال لهم: إن قتلتم فلا تمثلوا به فقتله الحسن بن علي رضي الله عنه وما أنكر عليه أحد. وأما الذين لهم شوكة ولا تأويل فالظاهر عند بعضهم نفي الضمان وعند آخرين الوجوب. وأما كيفية قتال الباغين فإن أمكن الأسر لم يقتلوا، وإن أمكن الإثخان فلا يذفف عليه كدفع الصائل إلا إذا التحم القتال وتعسر الضبط. قوله وَأَقْسِطُوا أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين. قال أهل اللغة: القسط بالفتح والسكون الجور من القسط بفتحتين وهو اعوجاج في الرجلين. وعود قاسط يابس، والقسط بالكسر العدل والهمزة في أقسط للسلب أي أزال القسط وهو الجور. وحين بين إصلاح الخلل الواقع بين الطائفتين أراد أن يبين الخلل الواقع بين اثنين بالتشاتم والسباب ونحو ذلك فقال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ أي حالهم لا يعدو الأخوة الدينية إلى ما يضادّها فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ بإيصال المظلوم إلى حقه وبدفع إثم الظلم عن الظالم. والتثنية بحسب الأغلب، ويحتمل أن يقال: إنه شامل لما دون الطائفتين. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يعيبه ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره ثم قال احفظوا ولا يحفظ منكم إلا قليل» وَاتَّقُوا اللَّهَ في سائر الأبواب راجين أن يرحمكم ربكم. ثم شرع في تأديبات أخر. والقوم الرجال خاصة لقيامهم على الأمور. قال جمهور المفسرين: إن ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنيه وقر وكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول. فجاء يوما وقد أخذ الناس مجالسهم فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول: تفسحوا تفسحوا. فقال له رجل: أصبت مجلسا فاجلس. فجلس ثابت مغضبا ثم قال للرجل: يا فلان ابن فلانة يريد أمّا كان يعير بها في الجاهلية فسكت الرجل استحياء فنزلت. وقيل: نزلت في الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات واستهزؤا بالفقراء. وقيل: في كعب بن مالك قال لعبد الله: يا أعرابي. فقال له عبد الله: يا يهودي. وقيل: نزلت وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ في عائشة وقد عابت أم سلمة بالقصر. ويروى أنها ربطت حقويها بثوب أبيض وأسدلت طرفها خلفها وكانت تجره فقالت عائشة لحفصة: انظري ماذا تجر خلفها كأنه لسان كلب. وعن عكرمة عن ابن عباس: أن صفية بنت حييّ أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد. وتنكير القوم والنساء للبعضية أو لإفادة الشياع. وإنما لم يقل «رجل من رجل ولا امرأة من امرأة» زيادة للتوبيخ وتنبيها على أن السخرية قلما تصدر عن واحد ولكن ليشاركه في ذلك جمع من الحاضرين لأن ميل الطباع إلى التلهي والدعابة والازدراء بالضعفاء وأهل السآمة أكثريّ. وإنما لم يقل «رجل من امرأة» وبالعكس لأن سخرية الجنس من الجنس أكثر فاقتصر على ذلك والباقي فيه بالأولى. وقوله عَسى أَنْ يَكُونُوا كلام مستأنف ينبىء عن سبب النهي. عن عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبا. قوله سبحانه وَلا تَلْمِزُوا تأديب آخر واللمز الطعن باللسان. والمعنى حضوا أنفسكم بالانتهاء عن الطعن في أمثالكم من أهل هذا الدين ولا عليكم أن تعيبوا غير أهل دينكم. قيل: اللمز والسب خلف الإنسان، والهمز العيب في وجهه الإنسان. وقيل: بل الأمر بالعكس لأن من تقاليب همز هزم، وهو يدل على البعد، ومن مقلوب اللمز اللزم وهو يدل على القرب فيشمل العيب بالإشارة أيضا. قوله وَلا تَنابَزُوا تأديب آخر والنبز بالسكون القذف بالمكروه من الألقاب، واللقب من الأعلام ما دل على مدح أو ذم، والنبز بالفتح اللقب القبيح فهو أخص من اللقب كما أن اللقب أخص من العلم. وإنما قال وَلا تَنابَزُوا ولم يقل ولا تنبزوا على منوال وَلا تَلْمِزُوا لأن النبز لا يعجز الإنسان عن جوابه غالبا فمن ينبز غيره بالحمار كان لذلك الغير أن ينبزه بالثور مثلا ولا كذلك اللمز فإن الملموز كثيرا ما يغفل عن عيب اللامز فلا يحضره في الجواب شيء فيقع اللمز من جانب واحد فقط. ثم أكد النهي عن التنابز بقوله بِئْسَ الِاسْمُ أي الذكر الْفُسُوقُ وفي قوله بَعْدَ الْإِيمانِ وجوه أحدها: استقباح الجمع بين الأمرين كما تقول «بئس الشأن الصبوة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 بعد الشيخوخة» أي معها. وثانيها بئس الذكر أن يذكروا الرجل بالفسق أو باليهودية بعد إيمانه، وكانوا يقولون لمن أسلم من اليهود يا يهودي يا فاسق فنهوا عنه. وثالثها أن يجعل الفاسق غير مؤمن كما يقال للمتحوّل عن التجارة إلى الفلاحة «بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة» فمعنى بعد الإيمان بدلا عن الإيمان وَمَنْ لَمْ يَتُبْ عما نهي عنه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأن الإصرار على المنهي كفر إذ جعل المنهي. كالمأمور فوضع الشيء في غير موضعه قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ فيه تأديب آخر. ومعنى اجتنبوا كونوا منه في جانب. وإنما قال كَثِيراً ولم يقل الظن مطلقا لأن منه ما هو واجب كحسن الظن بالله وبالمؤمنين كما جاء في الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي» «1» قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» «2» وقال «إن حسن الظن من الإيمان» ومنه ما هو محظور وهو سوء الظن بالله وبأهل الصلاح. عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء» . وهو الذي أمر في الآية باجتنابه. ومنه ما هو مندوب إليه وهو إذا كان المظنون به ظاهر الفسق وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم «من الحزم سوء الظن» وعن النبي صلى الله عليه وسلم «احترسوا من الناس بسوء الظن» ومنه المباح كالظن في المسائل الاجتهادية. قال أهل المعاني: إنما نكر كَثِيراً ليفيد معنى البعضية المصرح بها في قوله إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ولو عرّف لأوهم أن المنهي عنه هو الظن الموصوف بالكثرة والذي يتصف بالقلة مرخص فيه. والهمزة في الإثم عوض عن الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه. تأديب آخر وَلا تَجَسَّسُوا وقد يخص الذي بالحاء المهملة بتطلب الخبر والبحث عنه كقوله فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ [يوسف: 87] فبالجيم تفعل من الجس، وبالحاء من الحس. قال مجاهد: معناه خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته «يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو كان في جوف بيته» «3» وهذا الأدب كالسبب لما قبله. فلما نهى عن ذلك نهى عن سببه أيضا. تأديب آخر وَلا يَغْتَبْ يقال غابه واغتابه بمعنى، والاسم الغيبة بالكسر وهي ذكر العيب بظهر الغيب، وسئل   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15، 35 مسلم في كتاب التوبة حديث 1 الترمذي في كتاب الزهد باب 51 ابن ماجه في كتاب الأدب باب 58 الدارمي في كتاب الرقاق باب 22 أحمد في مسنده (2/ 251، 315) (2) رواه مسلم في كتاب الجنة حديث 81- 82 أبو داود في كتاب الجنائز باب 13 ابن ماجه في كتاب الزهد باب 14 أحمد في مسنده (3/ 293، 315) (3) رواه أحمد في مسنده (4/ 421، 424) [ ..... ] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال «أن تذكر أخاك بما يكره فإن كنت صادقا اغتبته وإن كنت كاذبا فقد بهته» «1» ثم مثل ما يناله المغتاب من عرض صاحبه على أفظع وجه فقال أَيُحِبُّ إلى آخره. وفيه أنواع من المبالغة منها الاستفهام للتقرير ومحبة المكروه، ومنها إسناد الفعل إلى أَحَدُكُمْ ففيه إشعار بأنه لا أحد يحب ذلك، ومنها تقييد المكروه بأكل لحم الإنسان، ومنها تقييد الإنسان بالأخ، ومنها جعل الأخ أو اللحم ميتا ففيه مزيد تنفير للطبع. وإنما مثل بالأكل لأن العرب تقول لمن ذكر بالسوء إن الناس يأكلون فلانا ويمضغونه، وفلان مضغة للماضغ. شبهوا إدارة ذكره في الفم بالأكل. والميت لمزيد التنفير كما قلنا، أو لأن الغائب كالميت من حيث لا يشعر بما يقال فيه. أما الفاء في قوله فَكَرِهْتُمُوهُ ففصيحة أو نتيجة لأنها للإلزام أي بل عافته نفوسكم فكرهتموه. أو فتحققت بوجوب الإقرار وبحكم العقل وداعي الطبع كراهتكم للأكل أو اللحم أو الميت فليتحقق أيضا أن تكرهوا لما هو نظيره وهي الغيبة. وقال ابن عباس: هي إدام كلاب الناس. وعنه أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوما فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فعند ذلك قالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة «لبئر من آبار مكة» لغار ماؤها. فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ فقالا: ما تناولنا لحما. فقال: إنكما قد اغتبتما فنزلت. قلت: قد تبين في الحديث أن في الآية مبالغة أخرى وهي أنه أراد باللحم الميت المدوّد المنتن المخضر، وقد عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر الحسي عن الأمر المعنوي الذي أدركه بنور النبوّة منهما. واعلم أن الغيبة وإن كانت منهية إلا أنها مباحة في حق الفاسق. ففي الحديث «اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس» وروي «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له واتقوا الله فيما نهاكم وتوبوا فيما وجد منكم» . وحين علم المؤمنين تلك الآداب الجميلة عمم الخطاب منعا من السخرية واللمز وغير ذلك على الإطلاق فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية. قال بعض الرواة: إن ثابت بن قيس حين قال «فلان ابن فلانة» قال النبي صلى الله عليه وسلم: من الذاكر فلانة؟ فقام ثابت فقال: أنا يا رسول الله. فقال: انظر في وجوه القوم فنظر فقال: ما رأيت يا ثابت؟ قال: رأيت أبيض وأسود وأحمر. قال: فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى والدين، فأنزل الله هذه الآية. وعن مقاتل: لما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا حتى أذن على ظهر الكعبة فقال عتاب بن أسيد:   (1) رواه أحمد في مسنده 2/ 230، 384، 386) مسلم في كتاب البر حديث 70 أبو داود في كتاب الأدب باب 35 الترمذي في كتاب البر باب 23 الدارمي في كتاب الرقاق باب 6. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحرث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا. وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره. وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء. فأتى جبريل عليه السلام فأخبره. وأقول: الآية تزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي في سوق المدينة غلاما أسود يقول: من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف النبي صلى الله عليه وسلم: فاشتراه رجل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عند كل صلاة ففقده يوما فسأل عنه صاحبه فقال: محموم. فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقيل: هو في ذمائه. فجاءه وتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت. وقوله مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى فيه وجهان: أحد هما من آدم وحوّاء فيدل على أنه لا تفاخر لبعض على بعض لكونهم أولاد رجل واحد وامرأة واحدة، والثاني كل واحد منكم أيها الموجودون وقت النداء خلقناه من أب وأم، والتفاوت في الجنس دون التفاوت في الجنسين كالذباب والذئاب مثلا، لكن التفاوت بين الناس بالكفر والإيمان كالتفاوت الذي بين الجنسين، لأن الكافر كالأنعام بل أضل، والمؤمن هو الناس وغيره كالنسناس. والحاصل أن الشيء إما أن يترجح على غيره بأمر يلحقه ويترتب عليه بعد وجوده، وإما أن يترجح عليه بأمر هو قبله. وهذا القسم إما أن يرجع إلى القابل أو إلى الفاعل كما يقال «كان هذا من النحاس وهذا من الفضة وهذا عمل فلان» فذكر الله سبحانه أنه لا ترجح بحسب الأصل القابل لأنكم كلكم من ذكر وأنثى، ولا بحسب الفاعل فإن الله هو خالقكم. فإن كان تفاوت فبأمور لاحقة وأحقها بالتمييز هو التقوى لما قلنا، ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان دينا عالما، ولا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان دينا عالما، ولا يصلح لشيء منها فاسق وإن كان قرشي النسب قارونيّ النشب. ثم بين الحكمة التي من أجلها رتبهم على شعوب وقبائل وهي أن يعرف بعضهم نسب بعض فلا يعتزى إلى غير آبائه فقال وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا أي ليقع بينكم التعارف بسبب ذلك لا أن تتفاخروا بالأنساب. قيل: الشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب. وقال جار الله: الشعب بالفتح الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب. أوّلها شعب وهي أعم سمي بذلك لأن القبيلة تنشعب منها، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم فصيلة وهي الأخص مثال ذلك: خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة. فائدة: لا ريب أن الخلق يستعمل في الأصول أكثر، والجعل يستعمل فيما يتفرع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 عليه، ولهذ قال خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] وقال في الآية خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ ولكنه قال في موضع آخر وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] فبين أن الأصل في الخلق والغرض الأقدم هو العبادة ليعلم منه أن اعتبار النسب وغيره مؤخر عن اعتبار العبادة فلهذا قال إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وفيه معنيان: أحد هما أن التقوى تفيد الإكرام عند الله. والثاني أن الإكرام في حكم الله يورث التقوى والأول أشهر كما يقال «ألذ الأطعمة أحلاها» أي اللذة بقدر الحلاوة لا أن الحلاوة بقدر اللذة. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال «الحمد لله الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها. يا أيها الناس إنما الناس رجلان: مؤمن تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ثم قرأ الآية» وعنه صلى الله عليه وسلم «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله» «1» قال ابن عباس: كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بظواهركم خَبِيرٌ ببواطنكم وحق مثله أن يخشى ويتقى. وحين حث عموم الناس على تقواه وبخ من في إيمانه ضعف. قال ابن عباس: إن نفرا من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر، وأفسدوا طريق المدينة بالقذاة، وأغلوا أسعارها وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه فأنزل الله هذه الآيات. أي قالوا آمنا بشرائطه فأطلع الله نبيه على مكنون ضمائرهم وقال: لن تؤمنوا إيمانا حقيقيا وهو الذي وافق القلب فيه اللسان. وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا يعني إسلاما لغويا وهو الخضوع والانقياد خوفا من القتل ودخولا في زمرة أهل الإيمان والسلم. ثم أكد النفي المذكور بقوله وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وفيه فائدة زائدة هي أن يعلم أن الإيمان متوقع منهم لأن «لما» حرف فيه توقع وانتظار. ثم حثهم على الطاعة بقوله وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ أي لا ينقصكم مِنْ ثواب أَعْمالِكُمْ شَيْئاً يعني الثواب المضاعف الموعود في نحو قوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: 160] ألت يألت بالهمز إذا نقص وهي لغة غطفان. يقال ألته السلطان حقه أشدّ الألت. ولغة أسد وأهل الحجاز لأته ليتا. وقال قطرب: ولته يلته بمعنى صرفه عن وجهه. فيكون يَلِتْكُمْ على وزن «يعدكم» ، وعلى الوجه المتقدم على وزن «يبعكم» . إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب وأخلص نيته. ثم وصف المؤمنين المحقين بقوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ومعنى «ثم» في قوله ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا كما في قوله رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: 30] وارتاب مطاوع رابه   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 524) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 إذا أوقعه في الشك مع التهمة أي ثم لم يقع في قلوبهم شك فيما آمنوا به ولا اتهام لمن صدّقوه وذلك بتشكيك بعض شياطين الجن والإنس. وقال جار الله: وجه آخر لما كان زوال الريب ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيها على مزيته وإشعارا بأنهم مستقرون على ذلك في الأزمنة المتطاولة غضا جديدا. وفي قوله أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ تعريض بأن المذكورين أولا كاذبون ولهذا قال قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا إشارة إلى كذبهم في دعواهم ورب تعريض لا يقاومه التصريح. ثم أراد تجهيلهم بقوله قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ والباء قيل للسببية والأظهر أنه الذي في قولهم ما علمت بقدومك أي ما شعرت ولا أحطت به. وذكر في أسباب النزول أنه لما نزلت الآية الأولى جاءت هؤلاء الأعراب وحلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية. والاستفهام للتوبيخ أي كيف تعلمونه بعقيدتكم وهو عالم بكل خافية والتعليم إفادة العلم على التدريج والمعالجة؟ وقيل: تعريض من لا يعلم بإفهام المعنى لأن يعلم قوله يَمُنُّونَ عَلَيْكَ نزلت في المذكورين وفي أمثالهم. يقال: منّ عليه صنعه إذا اعتدّه عليه منة وإنعاما. قال أهل العربية: اشتقاق المنة من المن الذي هو القطع لأنه إنما يسدي النعمة إليه ليقطع بها حاجته لا غير من غير أن يعمل لطلب مثوبة وعوض. ثم قال بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ حيث هداكم للإيمان الذي ادّعيتموه. وفي إضافة الإسلام إليهم ازدراء بإسلامهم، وفي إيراد الإيمان مطلقا غير مضاف إشارة إلى الإيمان المعهود الذي يجب أن يكون المكلف عليه. وجواب الشرط محذوف أي إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادعاء الإيمان الحقيقي فلله المنة عليكم. ثم عرض بأنهم غير صادقين فقال إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الآية والمراد أنه لا يخفي عليه ضمائرهم والله أعلم بالصواب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 (سورة ق) (مكية حروفها ألف وأربعمائة وسبعة وسبعون كلماتها ثلاثمائة وخمس وسبعون آياتها خمس وأربعون) [سورة ق (50) : الآيات 1 الى 45] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 القراآت: ميتا بالتشديد: يزيد وعيدي وما بعده مثل التي في «إبراهيم» يوم يقول بالياء: نافع وأبو بكر وحماد امْتَلَأْتِ بإبدال الهمزة ألفا: أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف يوعدون على الغيبة: ابن كثير وإدبار بكسر الهمزة: أبو جعفر ونافع وابن كثير وحمزة وخلف وجبلة المنادي بالياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وأفق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وفي الوصل. الوقوف: ق ط كوفي ولو جعل قسما فلا يوقف للعطف الْمَجِيدِ هـ ج لأن «بل» قد يجعل جواب القسم تشبيها بأن في التحقيق وفي توكيد ما بعده، وقد يجعل جوابه محذوفا أي لتبعثن تُراباً ج لأن ذلك مبتدأ إلا أن المقول واحد بَعِيدٌ هـ مِنْهُمْ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف حَفِيظٌ هـ مَرِيجٍ هـ فُرُوجٍ هـ بَهِيجٍ هـ لا لأن تَبْصِرَةً مفعول لأجله مُنِيبٍ هـ الْحَصِيدِ هـ لا لأن النخل معطوف على الجنات والحب نَضِيدٌ هـ لا لأن المراد أنبتناها لأجل الرزق لِلْعِبادِ ط للعطف مَيْتاً ط الْخُرُوجُ هـ وَثَمُودُ هـ لُوطٍ هـ لا تُبَّعٍ ط وَعِيدِ هـ الْأَوَّلِ ط جَدِيدٍ هـ نَفْسُهُ ج وجعل ما بعدها حالا أولى من الاستئناف فيوقف على الوريد و «إذ» يتعلق بمحذوف وهو «أذكر» أو بقوله ما يَلْفِظُ فلا يوقف على قَعِيدٌ. عَتِيدٌ هـ بِالْحَقِّ ط تَحِيدُ هـ الصُّورِ ط الْوَعِيدِ هـ وَشَهِيدٌ هـ حَدِيدٌ هـ عَتِيدٌ هـ لتقدير القول عَنِيدٍ هـ لا مُرِيبٍ هـ لا بناء على أن ما بعده صفة أخرى ولو جعل مبتدأ لتضمنها معنى الشرط أو نصبا على المدح فالوقف الشَّدِيدِ هـ بَعِيدٍ هـ بِالْوَعِيدِ هـ لِلْعَبِيدِ هـ مَزِيدٍ هـ بَعِيدٍ هـ حَفِيظٍ هـ ج لاحتمال أن تكون «من» شرطية جوابها القول المقدر قبل أدخلوها أو موصولة بدلا من لكل مُنِيبٍ هـ بِسَلامٍ ط الْخُلُودِ هـ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 ط مَزِيدٌ هـ الْبِلادِ ط للاستفهام. قال السجاوندي: وعندي أن عدم الوقف أولى لأن النقب وهو البحث والتفتيش وأقع على جملة الاستفهام. مَحِيصٍ هـ شَهِيدٌ هـ لُغُوبٍ هـ الْغُرُوبِ ج لاحتمال تعلق الجار بما قبله وبما بعده السُّجُودِ هـ قَرِيبٍ هـ لا لأن ما بعده بدل بِالْحَقِّ ط الْخُرُوجِ هـ الْمَصِيرُ هـ لا لتعلق الظرف سِراعاً ط يَسِيرٌ هـ وَعِيدِ هـ. التفسير: قيل: إن قاف اسم جبل من زبرجد أخضر محيط بالأرض وخضرة السماء منه. وقيل: قادر أو قاهر ونحو ذلك من أسماء الله مما أوله قاف. وقيل: قضي الأمر. وقيل: قف يا محمد على أداء الرسالة. والأقوال المشتركة بين الفواتح مذكورة، وإعراب فاتحة هذه السورة كإعراب أول «ص» ، وبينهما مناسبة أخرى من قبل وقوع الإضراب بعد القسم ووجهه ما مر. ومن قبل أن أكثر مباحث تلك السورة في المبدأ والتوحيد. وفي أوّل خلق البشر، وأكثر أبحاث هذه السورة في الحشر والخروج ولهذا سنت قراءتها في صلاة العيد لأنه يوم الاجتماع وخروج الناس إلى الفضاء. والمجيد ذو المجد حقيقة في القرآن لأنه أشرف من سائر الكتب أو مجاز باعتبار قارئه وعالمه والعامل به. ومعنى مُنْذِرٌ مِنْهُمْ أي من جنسهم أو من بينهم فتوجه العجب إلى الإنذار بالبعث أوّلا ثم إلى كون المنذر منهم، ولعل الأول أدخل عندهم في استحقاق التعجب منه فلهذا أشاروا إليه بقولهم هذا الرجع أو البعث شَيْءٌ عَجِيبٌ أبهم الضمير أوّلا في عَجِبُوا ثم فسره ثانيا في قوله فَقالَ الْكافِرُونَ أو اقتصر على الضمير أوّلا للتعليم بهم ثم وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالكفر. ثم زادوا في التعجب والتعجيب بقولهم أَإِذا مِتْنا والتقدير انبعث وقت الموت والصيرورة ترابا ذلِكَ الرجع أي البعث رَجْعٌ بَعِيدٌ أي يستبعد في العقول. وقيل: إنه من كلام الله عز وجل. والرجع بمعنى الجواب أي جواب هؤلاء الكفار في دعوى المنذر جواب بعيد عن حيز العقل لدلالة البراهين الساطعة على وجود الحشر والنشر منها شمول علم الله تعالى بأجزاء الميت على التفصيل، وإلى هذا أشير بقوله قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ من أجساد الموتى وتأكل من لحومهم وعظامهم. عن النبي صلى الله عليه وسلم «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب» «1» وعن السدي: ما تنقص الأرض منهم   (1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 39 باب 2 مسلم في كتاب الفتن حديث 141- 143 أبو داود في كتاب السنّة باب 22 النسائي في كتاب الجنائز باب 117 الموطأ في كتاب الجنائز حديث 49 أحمد في مسنده (2/ 322) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 بالموت ويدفن في الأرض منهم. وَعِنْدَنا كِتابٌ هو اللوح المحفوظ من التغيير ومن الشياطين. ثم أتبع الإضراب الأول إضرابا آخر فقال بَلْ كَذَّبُوا والمقصود أن تكذيبهم بِالْحَقِّ الذي هو محمد أو القرآن أو الأخبار بالبعث في أوّل وهلة من غير تدبر أفظع من تعجبهم. والمريج أمر دينهم المضطرب المخلوط بالشبهات والشكوك ولهذا نسبوا القرآن تارة إلى السحر وأخرى إلى الشعر أو الكهانة وقالوا في حق محمد صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. ثم استدل على حقية المبدأ والمعاد بوجوه أخر: منها بناء السماء ورفعها بلا عمد ولا فروج أي شقوق وفتوق ولكنها صحيحة الاستدارة من جميع الجوانب. وليس في الآية دلالة على امتناع الخرق على السماء لأن الإخبار عن عدم الوقوع لا ينافي إمكانه. نعم إنه مناف لوجود نحو الأبواب فيها ظاهرا اللهم إلا أن تدعي المغايرة بين الفروج والأبواب. وفي قوله فَوْقَهُمْ مزيد توبيخ لهم ونداء عليهم بغاية الغباوة. ومنها مدّ الأرض أي دحوها. ومنها خلق الجبال الرواسخ. ومنها خلق أصناف النبات مما يبتهج به ويروق الناظر لخضرته ونضرته كل ذلك ليتبصر به ويتذكر من يرجع إلى ربه ويفكر في بدائع المخلوقات ويرتقي إلى الصانع من المصنوعات. ومنها إنزال ماء المطر الكثير المنافع المنبت للجنات والحبات. والحصيد صفة موصوف محذوف أي وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالحنطة وغيرها من الأقوات ونحوها. والباسقات التي طالت في السماء، والطلع أوّل ما يبدو من ثمر النخيل، والنضيد الذي نضد بعضه فوق بعض، والمراد كثرة الطلع وتراكمه المستتبع لكثرة الثمر. ثم شبه بإحياء الأرض خروج الموتى كما قال في الروم وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الآية: 19] ثم هدّدهم بأحوال الأمم السالفة وقد مر قصصهم مرارا. وأما حديث أصحاب الرس فلم يذكر إلا في «الفرقان» وحديث تبع في «الدخان» . وأراد بفرعون قومه لأن المعطوف عليه أقوام فَحَقَّ وَعِيدِ مثل فَحَقَّ عِقابِ [ص: 14] وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم دل على الحشر بضرب آخر من البيان وهو أن الذي لم يعي أي لم يعجز عن الخلق الأول بالنسبة إلى أيّ مخلوق فرض كيف يعجز عن الإعادة؟ واللبس الخلط والشبهة، وتنكير اللبس والخلق الجديد للتعظيم أي لبس عظيم، وخلق له شأن وحق عليه أن يهتم به ولا يغفل عنه. ثم شرع في تقرير خلق الإنسان الدال على شمول علم الله سبحانه وعظيم قدرته على بدئه وإعادته. والوسوسة الصوت الخفي. والباء في بِهِ للتعدية و «ما» مصدرية أي نعلم جعل نفسه إياه موسوسا. والقرب مجاز عن العلم التام كقولهم «هو منى مقعد القابلة ومعقد الإزار» وما في الآية أدل على الإفراط في القرب لأن الوريد جزء من بدن الإنسان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 يريد أن علمه ينفذ في بواطن الأشياء نفوذ الدم في العروق. والوريد العرق الحامل للدم سوى الشرايين، سمي وريدا لأن الروح أو الدم يرده. والوريدان عرقان يكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها يتشعبان من الرأس يتصلان بالوتين. والحبل العرق أيضا شبه بواحد الحبال والإضافة للبيان كإضافة العام إلى الخاص. قال جار الله: «إذ» منصوب ب أَقْرَبُ والمراد أنه أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به. وفيه أن كتابة الملكين لا حاجة إليها لعلام الغيوب وإنما هي لأغراض أخر كإلزام العبد واستحيائه منهما. عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن مقعد ملكيك على- ثنييك أي عطفيك- ولسانك قلمهما وريقك مداد هما وأنت تجري فيما لا يعنيك لا تستحي من الله ولا منهما» ويجوز أن يكون تلقى الملكين بيانا للقرب فكأنه قيل: لا يخفى عليه شيء لأن حفظته موكلون به. والتلقي التلقن بالحفظ والكتبة، والقعيد المقاعد كالجليس بمعنى المجالس، والتقدير عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فاختصر المفاعلة. وإما بالنسبة إلى الملك الآخر وإما بالإضافة إلى الإنسان، والعتيد الحاضر. قال أكثر المفسرين: إنهما يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه. وقيل: لا يكتبان إلا الحسنات والسيئات. وقيل: إن الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه وعند جماعه. وحين حكى إنكارهم البعث واحتج عليهم بالدلائل الباهرة أخبر عن قرب القيامتين الصغرى والكبرى بأن عبر عنهما بلفظ الماضي وهو قوله وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ ونفخ في الصور وسكرات الموت حالاته الذاهبة بالعقل. والباء في بِالْحَقِّ للتعدية أي أحضرت السكرة حقيقة الأمر وجلبة الحال من تحقق وقوع الموت أو من سعادة الميت أو ضدّها كما نطق بها الكتاب والسنة، أو المراد وجاءت ملتبسة بالغرض الصحيح الذي هو ترتب الجزاء على الأعمال ذلِكَ المجيء ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي تميل وتهرب أيها الإنسان. ولا ريب أن هذا الهرب للفاجر يكون بالحقيقة وللبر يكون بسبب نفرة الطبع إلا أنه إذا فكر في أمر نفسه وما خلق هو لأجله علم أن الموت راحة وخلاص عن عالم الآفات والبليات. قوله ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ إشارة إلى النفخ والمضاف محذوف أي وقت النفخ الثاني آن زمان الوعيد. والسائق والشاهد ملكان، أحد هما يسوقه إلى المحشر أو إلى الجنة أو النار كما قال وَسِيقَ والآخر يشهد عله بأعماله ويجوز أن يكون ملكا واحدا جامعا بين الأمرين. ويجوز أن يكون الرقيب المذكور والجملة حال من كل لأنه لعمومه كالمعرفة. ثم يقال للإنسان. لَقَدْ كُنْتَ في الدنيا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا الأمر فَكَشَفْنا عَنْكَ بقطع العلائق الحسية ومفارقة النفس الناطقة غِطاءَكَ وهو الاشتغال بعالم المحسوسات فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ غير كليل متيقظ غير نائم. وقال ابن زيد: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52] أي كنت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 قبل الوحي في غفلة من هذا العلم. ثم بين أن الشيطان الذي هو قرين كل فاجر لقوله وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً [الزخرف: 36] يقول لأهل المحشر أو لسائر القرناء قد أعتدت قريني لجهنم وهيأته لها. إن جعلت «ما» موصوفة ف عَتِيدٌ صفة لها وإن جعلتها موصولة ف عَتِيدٌ بدل أو خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف. ويحتمل أن يقول الشيطان لقرينه هذا البلاء النازل بك مما أعددته لك أَلْقِيا خطاب من الله للملكين السائق والشهيد أو للواحد على عادة قول العرب «خليلي» و «قفا» . وذلك أن أكثر الرفقاء يكون ثلاثة. وقال المبرد: التثنية للتأكيد كأنه قيل: ألق ألق: نزلت تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل لاتحادهما. وجوز أن يكون الألف بدلا من نون التأكيد الخفيفة إجراء للوصل مجرى الوقف يؤيده قراءة الحسن ألقين. عَنِيدٍ ذي عناد أو معاند مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ كثير المنع للمال عن حقوقه أو مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة كان يمنع بني أخيه من الإسلام وكان يقول: من دخل منكم في الإسلام لم أنفعه بخير ما عشت. مُعْتَدٍ ظالم مُرِيبٍ مشكك أو شاك في دين الله. قوله قالَ قَرِينُهُ جاء على طريقة الاستئناف بخلاف ما تقدّم فإنه جاء على طريق العطف كأن قرينه- وهو الفاجر- قال: يا رب إنه أطغاني فأجاب القرين وهو الشيطان رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ ما أوقعته في الطغيان وَلكِنْ كانَ في الأزل فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ وقالت المعتزلة: ولكنه اختار الضلالة على الهدى. ثم ذكر كلاما آخر مستأنفا كأن سائلا سأل فماذا قال الله؟ فقيل: قالَ لا تَخْتَصِمُوا وهذا هو الذي دل على أن ثمة مقاولة من الكافر لكنها طويت لدلالة الاختصام عليها والمعنى لا تختصموا في موقف الحساب وَالحال أني قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ وفيه أن اختصامهم كان يجب أن يكون قبل ذلك في الدنيا كما قال إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6] والباء في بِالْوَعِيدِ إما مزيدة أو للتعدية على أن قدّم بمعنى تقدّم أو هو حال والمفعول جملة. قوله ما يُبَدَّلُ إلى آخره. أي قدّمت إليكم هذا الكلام مقرونا بالوعيد. قال في الكشاف: فإن قلت: إن قوله وَقَدْ قَدَّمْتُ حال من ضمير لا تَخْتَصِمُوا فاجتماعهما في زمان واحد واجب وليس كذلك لأن التقديم في الدنيا والاختصام في الآخرة. قلت: معناه لا تختصموا وقد صح عندكم أني قدّمت إليكم بالوعيد وصحة ذلك عندهم في الآخرة. وأقول: لا حاجة إلى هذا التكلف والسؤال ساقط بدونه لأن مضيّ الماضي ثابت في أيّ حال فرض بعده. وقوله لَدَيَّ إما أن يتعلق بالقول أي ما يبدّل القول الذي هو لديّ يعني ألقيا في جهنم، أو لأملأن جهنم، أو الحكم الأزلي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 بالسعادة والشقاوة. وإما أن يتعلق بقوله ما يُبَدَّلُ أي لا يقع التبديل عندي. والمعاني كما مرت. ويجوز أن يراد لا يكذب لديّ ولا يفتري بين يديّ فإني عالم بمن طغى وبمن أطغى. ويحتمل أن يراد لا تبديل للكفر بالإيمان فإن إيمان اليأس غير مقبول. فقولكم «ربنا وإلهنا» لا يفيدكم. يَوْمَ نَقُولُ منصوب ب بِظَلَّامٍ أو ب «أذكر» قال أهل المعاني: سؤال جهنم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد به تقرير المعنى في النفس. وقوله هَلْ مِنْ مَزِيدٍ أي من زيادة، أو هو اسم مفعول كالمبيع لبيان استكثار الداخلين كما أن من يضرب غيره ضربا مبرحا أو شتمه شتما فاحشا يقول له المضروب: هل بقي شيء آخر يدل عليه قوله سبحانه لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ فلا بدّ أن يحصل الامتلاء فكيف يبقى في جهنم موضع خال حتى تطلب المزيد؟ ويحتمل أنها تطلب الزيادة بعد امتلائها غيظا على العصاة وتضيقا للمكان عليهم، أو لعل هذا الكلام يقع قبل إدخال الكل. وفيه لطيفة وهي أن جهنم تغيظ على الكفار فتطلبهم، ثم يبقى فيها موضع لعصاة المسلمين فتطلب الامتلاء من الكفار كيلا ينقص إيمان العاصي حرها، فإذا أدخل العصاة النار سكن غيظها وسكن غضبها وعند هذا يصح ما ورد في الأخبار، وإن جهنم تطلب الزيادة حتى يضع الجبار فيها قدمه والمؤمن جبار يتكبر على ما سوى الله تعالى ذليل متواضع لله. وروي أنه لا يلقى فيها فوج إلا ذهب ولا يملؤها شيء فتقول: قد أقسمت لتملأني فيضع تعالى فيها قدمه أي ما قدّمه في قوله «سبقت رحمتي غضبي» «1» أي يضع رحمته فتقول: قط قط ويزوي بعضها إلى بعض ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقا فيسكنون فضول الجنة. قلت: لا ريب أن جهنم الحرص والشهوة والغضب لا تقر ولا تسكن ولا تنتهي إلى حدّ معلوم، بل تقول دائما بلسان الحال هل من مزيد إلا أن يفيض الله سبحانه عليها من سجال هدايته ورحمته فيتنبه صاحبها وينتهي عن طلب الفضول ويقف في حدّ معين ويقنع بما تيسر، وكذا الترقي في مدارج الكمالات ليس ينتهي إلى حدّ معلوم إلا إذا استغرق في بحر العرفان وكان هنالك ما كان كما قال وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ أي قربت للمتقين يحتمل أن تكون الواو للاستئناف وأن تكون للعطف على نَقُولُ والمضي لتحقيق الوقوع المستدعي لمزيد البشارة ولم يكن المنذرون مذكورين في الآية المتقدّمة فلم يحتج إلى تحقيق الإنذار. وقوله غَيْرَ بَعِيدٍ نصب على الظرف أي مكانا غير بعيد عنهم، أو على الحال. ووجه تذكيره مع   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15، 22، 28 مسلم في كتاب التوبة حديث 14- 16 الترمذي في كتاب الدعوات باب 99 ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13 أحمد في مسنده (2/ 242، 258) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 تأنيث ذي الحال كما تقرر في قوله إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الأعراف: 56] أنه على زنة المصدر كالزفير والصهيل، أو هو على حذف الموصوف أي شيئا غير بعيد. قال جار الله: معناه التوكيد كما تقول هو قريب غير بعيد وعزيز غير ذليل، وذلك أنه يجوز أن يتناول العزيز ذلّ ما من بعض الوجوه إلا أن الغالب عليه العز فإذا قيل عزيز غير ذليل أزيل ذلك الوهم، وهكذا في كل تأكيد. فمعنى الآية أن الجنة قريب منهم بكل الوجوه وجميع المقايسات. وقال آخرون: إنه صفة مصدر محذوف أي إزلافا غير بعيد عن قدرتنا، وذلك إن المكان لا يقرب وإنما يقرب منه فذكر الله سبحانه إن إزلاف المكان ليس ببعيد عن قدرتنا بطيّ المسافة وغير ذلك. ويحتمل أن يقال: الإزلاف بمعنى قرب الحصول كمن يطلب من الملك أمرا خطيرا فيقول الملك بعيد عن ذلك أو قريب منه، ولا ريب أن الجنة بعيدة الحصول للمكلف لولا فضل الله ورحمته ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «ما من عبد يدخل الجنة إلا بفضل الله. فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» «1» وقوله غَيْرَ بَعِيدٍ يراد به القرب المكاني كأنه تعالى ينقل الجنة من السماء إلى الأرض فيحصل فيها المؤمن. ومما سنح لهذا الضعيف وقت كتبه تفسير هذه الآية أن الشيء ربما يقرب من شخص ولكن لا يوهب منه، وقد يملكه ولكن لا يكون قريبا منه فذكر الله سبحانه في الآية إن الجنة تقرب لأجل المتقين غير بعيد الحصول لهم بل كما قربت دخلوها وحصلوا فيها لا كما قيل: على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس بذي ود وفي المثل البعيد القريب خير من القريب البعيد وذلك لأنهم حصلوا استعداد دخول الجنة وهو التقوى بخلاف الفاجر فإنه لا ينفعه القرب من الجنة لأن ملكاته الذميمة تحول بينه وبينها. ولك أن تشبه حالهما بحال الكبريت الجيد والحطب الرطب إذا قربا من الجمر، وذلك أن تعتبر هذه الحالة في الدنيا فإن أهل الصلاح وأرباب النفوس المطمئنة يقبلون بل يستقبلون كل خير يعرض عليهم، وأهل الشقاوة وأصحاب النفوس الأمارة يكون حالهم بالعكس يفرون من الخيرات والكمالات ويألفون الشرور واللذات الزائلات. ووجه آخر وهو أن الجنة قربت لهم حال كون كل واحد منهم غير بعيد عن لقاء الله ورضاه، وفيه أن المتقين هم أهل الله وخاصته ليسوا بمن شغلوا بالجنة عن الاستغراق في لجة العرفان بل   (1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 18 مسلم في كتاب المنافقين حديث 71- 73 ابن ماجه في كتاب الزهد باب 20 الدارمي في كتاب الرقاق باب 24 أحمد في مسنده (2/ 235، 256) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 لهم مع النعيم المقيم لقاء الرب الكريم. قوله عز من قائل هذا ما تُوعَدُونَ قال جار الله: إنه جملة معترضة. وقوله لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ بدل من قوله لِلْمُتَّقِينَ قلت: ولو جعل خبرا ثانيا لهذا لم يبعد. والمشار إليه الثواب أو الإزلاف. والأوّاب الرجاع إلى الله بالإعراض عما سواه، والحفيظ الحافظ لحدود الله أو لأوقات عمره أو لما يجده من المقامات والأحوال فلا ينكص على عقبيه فيصير حينئذ مريدا لطريقه. قوله مَنْ خَشِيَ قد مر وجوه إعرابه في الوقوف. وجوز أن يكون منادى كقولهم «من لا يزال محسنا أحسن إليّ» وحذف حرف النداء للتقريب والترحيب، وقرن بالخشية اسمه الدال على وفور الرحمة للثناء على الخاشي من جهة الخشية أوّلا ومن جهة خشيته مع علمه بسعة جوده ورحمته ومن جهة الخشية مع الغيب وقد مر مرارا، وقد يقال: إنها الخشية في الخلوة حيث لا يراه أحد. قال أهل الاشتقاق: إن تركيب خ ش ى يلزمها الهيبة ومنه للسيد ولكبير السن وتركيب الخوف يدل على الضعف ومنه الخفاء، وكل موضع ذكر فيه الخشية أريد بها معنى عظمة المخشي عنه، وكل موضع ذكر فيه الخوف فإنه أريد ضعف الخائف كقوله يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50] أو ضعف المخوف منه كقوله لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ [العنكبوت: 33] يريد أنه لا عظمة لهم وقال إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً [الإنسان: 10] لأن عظمة اليوم بالنسبة إلى عظمة الله هينة. ووصف القلب بالمنيب باعتبار صاحبه أو لأن الإنابة المعتبرة هي الرجوع إلى الله بالقلب لا اللسان والجوارح ادْخُلُوها بِسَلامٍ أي سالمين من الآفات أو مع سلام من الله وملائكته ذلِكَ إشارة إلى قوله يَوْمَ نَقُولُ أي ذلك اليوم يَوْمُ تقدير الْخُلُودِ في النار أو في الجنة ويجوز أن يكون إشارة إلى وقت القول أي حين يقال لهم ادخلوها هو وقت تقدير الخلود في الجنة يؤيده قوله بعده لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ مما لم يخطر بالقلوب. ويجوز أن يراد به الذي ذكر في قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] ويروى أن السحاب تمر بأهل الجنة فتمطر عليهم الحور فتقول الحور: نحن المزيد الذي قال الله تعالى وَلَدَيْنا مَزِيدٌ. ثم عاد إلى التهديد بوجه أجمل وأشمل قائلا وَكَمْ أَهْلَكْنا الآية. ومعنى الفاء في قوله فَنَقَّبُوا للتسبيب عما قبله من الموت كقوله «هو أقوى من زيد فغلبه» أي شدّة بطشم أقدرتهم على التنقيب وأورثتهم ذلك وساروا في أقطار الأرض وسألوا هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي مهرب من عذاب الله فعلموا أن لا مفر إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من أوّل السورة إلى هاهنا أو من حديث النار والجنة أو من إهلاك الأمم الخالية لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ واع فإن الغافل في حكم عديم القلب وإلقاء السمع الإصغاء إلى الكلام وفي قوله وَهُوَ شَهِيدٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 إشارة إلى أن مجرد الإصغاء لا يفيد ما لم يكن المصغي حاضرا بفطنته وذهنه. وفي الآية ترتيب حسن لأنه إن كان ذا قلب ذكيّ يستخرج المعاني بتدبره وفكره فذاك وإلا فلا بد أن يكون مستمعا مصغيا إلى كلام المنذر ليحصل له التذكير. قال المفسرون: زعمت اليهود أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، أوّلها الأحد وآخرها الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش فردّ الله عليهم بقوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا إلى قوله وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ أي إعياء. ثم سلى رسوله فأمره بالصبر على أذى الكفار. وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى مع كمال قدرته واستغنائه صبر على أذى الجهلة الذين نسبوه إلى اللغوب والاحتياج إلى الاستراحة، فكيف لا يصبر رسوله على إيذاء أمته؟ بل كيف لا يصبر أحدنا على أذى أمثالنا وخاصة إن كانوا مسلطين علينا؟ اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا وادفع عنا بقدرتك شر كل ذي شر وواغوثاه وواغوثاه وواغوثاه. وقد سبق نظير الآية في آخر «طه» ودلالتها على الصلوات الخمس ظاهرة وَأَدْبارَ السُّجُودِ أعقاب الصلوات فإن السجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة، والأظهر أنه الأدعية والأذكار المشتملة على تنزيه الله تعالى وتقديسه. وقيل: النوافل بعد المكتوبات. وعن ابن عباس: هي الوتر بعد العشاء. ومن قرأ بكسر الهمزة أراد انقضاء الصلاة وإتمامها وهو مصدر وقع موقع الظرف أي وقت انقضاء السجود كقولك «آتيك خفوق النجم» . قال أهل النظم: إن النبي صلى الله عليه وسلم له شغلان: أحدهما عبادة الله، والثاني هداية الخلق. فإذا هداهم ولم يهتدوا قيل له: اصبر واقبل على شغلك الآخر وهو العبادة. ثم بين غاية التسبيح بقوله وَاسْتَمِعْ يعني اشتغل بتنزيه الله وانتظر المنادي كقوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99] ومفعول اسْتَمِعْ متروك أي كن مستمعا لما أخبرك به من أهوال القيامة ولا تكن مثل هؤلاء المعرضين. قال جار الله: وفي ترك المفعول وتقديم الأمر بالاستماع تعظيم لشأن المخبر به والمحدّث عنه كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل: يا معاذ اسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك. وانتصب يوم ينادي بما دل عليه ذلك يوم الخروج أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور. والمنادي قيل الله كقوله وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ [القصص: 32] احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22] والأظهر أنه إسرافيل صاحب الصيحة ينفخ في الصور فينادي أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وقيل: إسرافيل ينفخ وجبرائيل ينادي بالحشر. والمكان القريب صخرة بيت المقدس. يقال إنها أقرب إلى السماء باثني عشر ميلا. وقيل: من تحت أقدامهم. وقيل: من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة أيتها العظام البالية وهذا يؤيد القول بأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 المنادي هو الله لقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ والصيحة النفخة الثانية كما قال إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ [يس: 53] وقوله بِالْحَقِّ متعلق بالصيحة والمراد به البعث للجزاء أي بسبب الحق الذي هو البعث. ويجوز أن يتعلق بالسماع أي أي يسمعونها باليقين. وقيل: الباء للقسم أي بالله الحق. قوله سِراعاً حال من المجرور أي ينكشف عنهم مسرعين ذلِكَ الشق أو الحشر حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ لا على غيرنا وهو ردّ على قولهم ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ أي من المطاعن والإنكار وفيه تهديد لهم وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي بمسلط حتى تقسرهم على الإيمان وإنما أنت داع. ولعل في تقديم الظرف إشارة إلى أنه كالمسلط على المؤمنين ولهذا وقع إيمانهم وهذا مما يقوّي طرف المجبرة. وقيل: أراد إنك رؤوف رحيم بهم لست فظا غليظا. والأول أولى بدليل قوله فَذَكِّرْ إلى آخره أي اترك هؤلاء وأقبل على دعوة من ينتفع بتذكيرك والله أعلم. تم الجزء السادس والعشرون ويليه الجزء السابع والعشرون أوله تفسير سورة الذاريات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء السابع والعشرون من أجزاء القرآن الكريم (سورة الذاريات) (وهي مكية وحروفها ألف ومائتان وستة وثمانون كلماتها ثلاثمائة وسبعون آياتها ستون) [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 60] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 القراآت: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً بإدغام التاء في الذال: حمزة وأبو عمرو ومثل ما بالضم: حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص. الباقون: مِثْلَ بالفتح على البناء لإضافته إلى غير متمكن، أو على أنه لحق حقا مثل نطقكم سلم بكسر السين وسكون اللام: حمزة علي وخلف والمفضل والصعقة بسكون العين للمرة: علي وقوم نوح بالجر: أبو عمرو وعلي وخلف. الوقوف: ذَرْواً ط وِقْراً هـ لا يُسْراً هـ لا أَمْراً هـ ط لَصادِقٌ هـ لا لَواقِعٌ هـ الْحُبُكِ هـ لا مُخْتَلِفٍ هـ لا أُفِكَ هـ ط الْخَرَّاصُونَ هـ لا ساهُونَ هـ لا لأن يَسْئَلُونَ صلة بعد صلة، الدِّينِ هـ ط بناء على أن عامل يوم منتظر أي يقال لهم ذوقوا يُفْتَنُونَ هـ فِتْنَتَكُمْ ط تَسْتَعْجِلُونَ هـ وَعُيُونٍ هـ لا رَبُّهُمْ ط مُحْسِنِينَ هـ ط يَهْجَعُونَ هـ يَسْتَغْفِرُونَ هـ وَالْمَحْرُومِ هـ لِلْمُوقِنِينَ هـ ط للعطف أَنْفُسِكُمْ ط تُبْصِرُونَ هـ تُوعَدُونَ هـ تَنْطِقُونَ هـ الْمُكْرَمِينَ هـ م لأن عامل «إذ» محذوف وهو «اذكر» ولو وصل لأوهم أنه ظرف للإتيان سَلاماً ط سَلامٌ ج لحق المحذوف مع اتحاد القائل أي أنتم قوم مُنْكَرُونَ هـ سَمِينٍ هـ لا للعطف تَأْكُلُونَ هـ للآية مع العطف خِيفَةً ط لا تَخَفْ هـ عَلِيمٍ هـ عَقِيمٌ هـ كَذلِكَ لا للتعلق بما بعده رَبُّكِ ط الْعَلِيمُ هـ الْمُرْسَلُونَ هـ مُجْرِمِينَ هـ طِينٍ هـ لِلْمُسْرِفِينَ هـ الْمُؤْمِنِينَ هـ ج للآية مع العطف بالفاء واتصال المعنى الْمُسْلِمِينَ هـ ط كذلك الْأَلِيمَ هـ لتناهي القصة وحكم العربية الوصل للعطف على قوله وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ مُبِينٍ هـ مَجْنُونٌ هـ لِيمٌ هـ كما مر الْعَقِيمَ هـ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال أي غير تاركته كَالرَّمِيمِ هـ حِينٍ هـ يَنْظُرُونَ هـ مُنْتَصِرِينَ هـ لا على القراءتين فيما بعده للعطف أي وفي قوم نوح أو وأخذنا قوم نوح ولو قدر واذكر قوم نوح فالوقف قَبْلُ ج فاسِقِينَ هـ لَمُوسِعُونَ هـ الْماهِدُونَ هـ تَذَكَّرُونَ هـ إِلَى اللَّهِ ط مُبِينٌ هـ للآية مع العطف آخَرَ ط مُبِينٌ هـ أَوْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 مَجْنُونٌ هـ أَتَواصَوْا بِهِ ج لأن «بل» للإضراب معنى مع العطف لفظا طاغُونَ هـ بِمَلُومٍ هـ لا للآية مع اتفاق الجملتين الْمُؤْمِنِينَ هـ لِيَعْبُدُونِ هـ يُطْعِمُونِ هـ الْمَتِينُ هـ يَسْتَعْجِلُونِ هـ يُوعَدُونَ هـ التفسير: لما بين في آخر السورة أنهم بعد إيراد البراهين الساطعة عليهم مصرون على إنكار الحشر، ولهذا سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45] لم يبق إلا توكيد الدعوى بالإيمان فلذلك افتتح بذلك. عن علي كرم الله وجهه أنه قال على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني وإن لا تسألوني لا تسألوا بعدي مثلي. فقال ابن الكواء فقال: ما الذاريات؟ قال: الرياح. وقد مر في الكهف في قوله تَذْرُوهُ الرِّياحُ [الآية: 45] قال: فَالْحامِلاتِ وِقْراً؟ قال رضي الله عنه: السحاب لأنها تحمل المطر. وإنما لم يقل أوقارا باعتبار جنس المطر وهو واحد. قال: فَالْجارِياتِ يُسْراً؟ قال رضي الله عنه: الفلك والمراد جريان اليسر. قال: فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً؟ قال رضي الله عنه: الملائكة لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها، أو تفعل التقسيم مأمورة بذلك فيكون مصدرا في موضع الحال. ومعنى الفاء فيها ظاهر لأنه تعالى أقسم بالرياح فبالسحاب الذي تسوقه فبالفلك التي تجريها بهبوباتها كأن ماء البحر أو مدده من السحاب فلذلك أخر. ثم أقسم بالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر. وقيل: إن الأوصاف الأربعة كلها للرياح لأنها تذرو التراب وغيره أولا، ثم تنشئ السحاب وتحمله. ولا ريب أن السحاب حمل ثقيل ولا سيما إذا كان فيه مطر ثم تجري- أعني الرياح- في الجو جريا سهلا في نفسها أي لا يصعب عليها الجري أو بالنسبة إلينا بخلاف الصرصر والعاصف ونحوها فتبسط السحاب في السماء ثم تقسم الأمطار في الأقطار بتصريف السحاب، وقد روعي في ذكر هذه الأوصاف لطيفة فإن الحشر يتم إمكانه بها لأن أجزاء بدن المكلف إن كانت في الأرض فتميز الريح بينها بالذرو، وإن كانت في الهواء فتحملها بالنقل، وإن كانت في البحر فتخرجها بإنشاء السحاب منها إذ الذي قدر على إجراء السفن في البحار يقدر على إخراج تلك الأجزاء منها إلى البر. وبعد ذلك تقسم الملائكة أرواح الخلائق على أجسادها بإذن الله تعالى. وقيل: المقسمات الكواكب السبعة. وجواب القسم إِنَّ ما تُوعَدُونَ و «ما» مصدرية أو موصولة لَصادِقٌ في نفسه كما يقال «خبر صادق» أو «ذو صدق» كعيشة راضية. ثم صرح بالموعود قائلا وَإِنَّ الدِّينَ أي الجزاء لَواقِعٌ أي حاصل. وحين أقسم على صدق موعوده أقسم على جهلهم وعنادهم، والحبك الطرائق كطرائق الرمل، والماء إذا ضربته الريح ويقال: إن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 خلقة السماء كذلك واحدها حباك، وقال الحسن: حبكها نجومها لأنها تزينها كما تزين الموشىّ يكون بطرائق الوشي. وقيل: حبكها صفاقتها وإحكامها يقال للثوب الصفيق «ما أحسن حبكه» . وعلى القول الأول يكون بين القسم والمقسم عليه مناسبة لأن القول المختلف له أيضا طرائق، قال الضحاك: قول الكفرة لا يكون مستويا وإنما هو متناقض مختلف ولهذا قالوا للرسول شاعر مجنون، وللقرآن مثل ذلك، وعن قتادة: أراد منكم مصدّق ومكذب ومقر ومنكر. والضمير في يُؤْفَكُ عَنْهُ للقرآن أو النبي أي يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا صرف بعده لأنه غاية ونهاية. ويمكن أن يقال: يصرف عنه من صرف في سابق علم الله، ويجوز أن يكون الضمير للموعود أقسم بالذاريات وغيرها أن وقوعه حق، ثم أقسم بالسماء أنهم مختلفون في وقوعه يؤفك عن الإقرار به من هو عديم الاستعداد، مغمور في الجهل والعناد. وجوّز جار الله أن يرجع الضمير إلى قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ويكون «عن» كما في قوله ينهون عن أكل وعن شرب أي يتناهون في السمن من كثرة الأكل والشرب وحقيقته يصدر تناهيهم في السمن من الأكل والشرب وكذلك يصدر إفكهم عن القول المختلف. ثم دعا عليهم بقوله قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أي الكذابون المقدرون ما لا يصح وهم المعهودون وأعم فيشملهم شمولا أوليا. ولا يراد بهذا الدعاء وقوع القتل بعينه بل اللعن وما يوجب الهلاك بأي وجه كان. وقد لا يراد إلا تقبيح حال المدعو كقوله قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ والغمرة كل ما يغمر الإنسان أي إنهم في جهل يغمرهم غافلون عما أمروا به أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي متى وقوعه؟ ثم أجاب بقوله يَوْمَ هُمْ أي يقع في ذلك اليوم. ومعنى يُفْتَنُونَ يحرقون ويعذبون. ثم وبخهم وتهكم بهم قائلا ذُوقُوا إلى آخره. وحين حكى حال الفاجر الشقي أراد أن يبين حال المؤمن التقي فقال إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي في جنات فيها عيون حال كونهم آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قال جار الله: قابلين لكل ما أعطاهم راضين به لا كمن يأخذ شيئا على سخط وكراهية. وقال غيره: أراد أنهم يأخذونه شيئا فشيئا ولا يستوفون ذلك بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له. وقيل: الأخذ بمعنى التملك يقال: بكم أخذت هذا كأنهم اشتروها بأنفسهم وأموالهم. قال: إن فيض الله تعالى لا ينقطع أصلا وإنما يصل إلى كل مكلف بقدر ما استعد له، فكلما ازداد قبولا ازداد تأثرا من الفيض والأخذ في هذا المقام لعله إشارة إلى كمال قبولهم للفيوض الإلهية، وذلك لما أسلفوا من حسن العبادة ووفور الطاعة ولهذا علله بقوله إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ أي في الدنيا وظهر عليهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 بعد قطع التعلق آثار الإحسان ونتيجته. وقوله ما آتاهُمْ على المضي لتحقق الإيتاء مثل وَنادى [الأعراف: 38] وَسِيقَ [الزمر: 72] وقال أهل العرفان: ما آتاهم في الأزل يأخذون نتائجه في الأبد. ثم فسر إحسانهم بقوله كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ «ما» صلة أي كانوا ينامون في طائفة قليلة من الليل أو يهجعون هجوعا قليلا. وجوز أن تكون ما مصدرية أو موصولة. وارتفع «ما» مع الفعل على أنه فاعل قليلا من الليل هجوعهم أو الذي يهجعون فيه. وفيه أصناف من المبالغة من جهة لفظ الهجوع وهو النوم اليسير، ومن جهة لفظ القلة، ومن جهة التقييد بالليل لأنه وقت الاستراحة فقلة النوم فيه أغرب منها في النهار، ومن جهة ما المزيدة على قول. ولا يجوز أن تكون «ما» نافية لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها. وصفهم بأنهم يحيون أكثر الليل متهجدين فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار وكأنهم باتوا في معصية الملك الجبار. وهذا سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم. ثم يستقله ويعتذر، واللئيم بالعكس يأتي بأقل شيء ثم يمن به ويستكثر. ومثله المطيع يأتي بغاية مجهوده من الخدمة ثم ينسب نفسه إلى التقصير فيستغفر. ويمكن أن يقال: إنهم يستغفرون من الهجوع كأنهم أرادوا أن يقوموا على إحياء الليل كله. ويجوز أن يكون الاستغفار بمعنى الصلاة لقوله بعده فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ فيكون كقوله يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ [البقرة: 3] ووجه أغرب وهو أن يكون السين في استغفر مثله في استحصد الزرع أي حان أن يحصد فكأن وقت السحر وهو الأولى بحصول المغفرة. قال جار الله: في قوله هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ إشارة إلى أنهم هم المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرين. وقيل: إبراز الضمير لدفع وهم من يظن أن التقدير وبالأسحار قليلا يستغفرون على قياس الفعل السابق. وحيث ذكر جدهم في التعظيم لأمر الله أردفه بذكر شفقتهم على خلق الله. والمشهور في الحق أنه القدر الذي علم إخراجه من المال شرعا وهو الزكاة قيل: إنه على هذا لم يكن صفة مدح لأن كل مسلم كذلك بل كل كافر وذلك إذا قلنا إنه مخاطب بالفروع إلا أنه إذا سلم سقط عنه. وأجيب بأن السائل من له الطلب شرعا. والمحروم من الحرمة وهو الذي منع الطلب فكأنه قيل: في أموالهم حق للطالب- وهو الزكاة- ولغير الطالب وهو الصدقة المتطوع بها التي تتعلق بفرض صاحب المال وإقراره وليس عليه فيها مطالبة. ويمكن أن يقال: أراد في أموالهم حق في اعتقادهم وسيرتهم كأنهم أوجبوا على أنفسهم أن يعطوا من المال حقا معلوما وإن لم يوجبه الشرع. وفي السائل والمحروم وجوه أحدها ما مر. الثاني السائل هو الناطق والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوان كما قال صلى الله عليه وسلم «لكل كبد حرى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 أجر» . «1» الثالث وهو الأظهر أن السائل هو الذي يستجدي والمحروم الذي يحسب غنيا فيحرم الصدقة لتعففه قال صلى الله عليه وسلم «ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان والتمرة والتمرتان قالوا: فما هو قال: الذي لا يجد ولا يتصدق عليه.» «2» وتقديم السائل على ترتيب الواقع لأنه يعرف حاله بمقاله فيسد خلته، وأما المحروم فلا تندفع حاجته إلا بعد الاستكشاف والبحث. وقيل: المحروم الذي لا ينمى له مال. وقيل: هو المنقوص الحظ الذي لا يكاد يكسب. ثم أكد وقوع الحشر والدلالة على قدرته بقوله وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ كقوله وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً إلى قوله إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى [فصلت: 39] ومن عجائب الأرض ما هي في جرمها من الاستدارة والألوان المختلفة وطبقاتها المتباينة، ومنها ما عليها وفيها من الجبال والمواليد الثلاثة، ومنها ما هي واردة عليها من فوقها كالمطر وغيره. وخص الآيات الأرضية بالذكر لقربها من الحواس، وخص كونها آيات بالمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بذلك، ومن لم يتأمل في المصنوعات لم يزد يقينه بالصانع. ثم استدل بالأنفس فقال وَفِي أَنْفُسِكُمْ آيات. وذلك أن الإنسان عالم صغير فيه تشابه من العالم الكبير وقد مر تقرير ذلك مرارا. وقيل: هي الأرواح أي وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات. قال أهل النظم: هذه الآية مؤكدة لما قبلها فإن من وقف على هذه الآيات الباهرة تبين له جلال الله وعظمته فيتقيه ويعبده ويستغفره من تقصيره ولا يهجع إلا قليلا، وهكذا من عرف أن رزقه في السماء لم يبخل بماله ويعطيه السائل والمحروم. وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه رزقكم يعني المطر ولكنكم تحرمونه. وَما تُوعَدُونَ هي الجنة فوق السماء السابعة وتحت العرش. وقيل: إن أرزاقكم في الدنيا وما توعدون في العقبى كلها مقدرة مكتوبة في السماء. ثم أنتج من الأخبار السالفة من أول السورة إلى هاهنا حقيقة القرآن أو النبي أو الموعود، وأقسم عليه برب السماء الأرض ترقيا من الأدنى وهي المربوبات كالذاريات وغيرها إلى الرب تعالى. و «ما» مزيدة بنص الخليل حكاه جار الله يقال في الأمر الظاهر غاية الظهور أن هذا الحق أنك ترى   (1) رواه البخاري في كتاب المساقاة باب 9 مسلم في كتاب السلام حديث 103 أبو داود في كتاب الجهاد باب 44 ابن ماجه في كتاب الأدب باب 8 الموطأ في كتاب صفة النبي حديث 33 أحمد في مسنده (2/ 222، 375) (2) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 2 باب 48 أبو داود في كتاب الزكاة باب 24 النسائي في كتاب الزكاة باب 76 الدارمي في كتاب الزكاة باب 2 الموطأ في كتاب صفة النبي حديث 7 أحمد في مسنده (1/ 384، 446) (2/ 260، 316) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 وتسمع مثل ما أنك هاهنا. قال الأصمعي: أقبلت خارجا من البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال: من الرجل؟ قلت: من بني أصمع. قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن. فقال: اتل علي فتلوت وَالذَّارِياتِ فلما بلغت قوله وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ فقال: حسبك. فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على الناس وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى. فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح وقال: وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ثم قال: فهل غير هذا؟ فقرأت فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ فصاح فقال: يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه. ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقصة إبراهيم وغيرها قد مرت في «هود» و «الحجر» وفي قوله هَلْ أَتاكَ تفخيم لشأن الحديث. والضيف واحد. وجمع والمكرمون إما باعتبار إكرامه إياهم حتى خدمهم بنفسه وبامرأته، أو لأنهم أهل الإكرام عند الله كقوله بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: 26] وجوز أن يكون نصب إِذْ دَخَلُوا بالمكرمين إذا فسر بإكرام إبراهيم أو بما في ضيف من معنى الفعل. قال المفسرون: أنكرهم للسلام الذي هو علم الإسلام أو أراد تعرف حالهم لأنهم لم يكونوا من معارفه فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فذهب إليهم في خفية من ضيوفه وهو نوع أدب للمضيف كيلا يستحيوا منه ولا يبادروا بالاعتذار والمنع من الضيافة. وفي قوله فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ دلالة على أن نقل الطعام إلى الضيف أولى من العكس لئلا يتشوش المكان عليهم. قالَ أَلا تَأْكُلُونَ سلوك لطريقة الاستئناف ولهذا حذف الفاء خلاف ما في «الصافات» وقد مر. والاستفهام لإنكار ترك الأكل أو للحث عليه فَأَوْجَسَ فأضمر وقد تقدم سائر الأبحاث في «هود» وفي «الصافات» . واعلم أنه سبحانه ذكر في «هود» أنه لما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وقال هاهنا سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ولا تنافي بين الحديثين لأنه أنكرهم أولا بالسلام الذي لم يكن من عادة تلك الشريعة، ثم زاد إنكاره حين رآهم لا يأكلون الطعام فذكر أحد الإنكارين في تلك السورة والآخر في هذه. قوله فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ أي في صيحة ومنه صرير القلم. قال الحسن: كانت في زاوية تنظر إليهم فوجدت حرارة الدم فأقبلت إلى بيتها صارة فلطمت وجهها من الحياء والتعجب كعادة النسوان وَقالَتْ أنا عَجُوزٌ فأجابت الملائكة كَذلِكَ أي مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به قالَ رَبُّكِ فلا تستبعدي. وروي أن جبرائيل قال لها: انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة فحينئذ أحس إبراهيم صلوات الرحمن عليه بأنهم ملائكة. قالَ فَما خَطْبُكُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 شأنكم وطلبكم؟ فأجابوا بأنهم أرسلوا إلى قوم لوط ليرسلوا عليهم السجيل كما قصصنا في «هود» . والضمير في قوله فِيها للقرية وإن لم يجر لها ذكر لأنه معلوم، قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن الإيمان والإسلام واحد. وقال غيرهم: المسلم أعم من المؤمن وإطلاق العام على الخاص مما لا منع فيه ولا يدل على اتحادهما وهذا كقوله القائل من في البيت من الناس؟ فيقول له: ما في البيت من الحيوان أحد غير زيد. فيكون مخبرا له بخلو البيت عن كل إنسان غير زيد. وقوله وَتَرَكْنا فِيها آيَةً كقوله في «العنكبوت» وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً [الآية: 35] أي علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم وهي الحجارة المسومة أو ماء أسود. قوله وَفِي مُوسى قيل: الأقرب أن يكون معطوفا على قوله وَتَرَكْنا فِيها أي وجعلنا في موسى آية. قال جار الله: هو كقوله من قال: علفتها تبنا وماء باردا ويمكن أن يقال: إن قصة موسى أيضا آية متروكة باقية على وجه الدهر فلا حاجة إلى هذا التكلف. قوله فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ كقوله وَنَأى بِجانِبِهِ [الإسراء: 83] وقيل: الباء للمصاحبة. والركن القوم أي فازور وأعرض مع ما كان يتقوى به من جنوده وملكه. وقيل: ركنه هامان وزيره قال العلماء: وصفه فرعون بالمليم مع أنه وصف يونس النبي به صلى الله عليه وسلم كما مر في «الصافات» لا يوجب اشتراكهما في استحقاق الملامة، لأن موجبات اللوم تختلف. فراكب الكبيرة ملوم على قدرها، ومقترف الصغيرة ملوم بحسبها، وبينهما بون، العقيم ريح لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر. والرميم ما رم وتفتت. قال في الكشاف: تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ تفسيره في قوله تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود: 65] قلت: هذا سهو منه فإن قوله فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ لا يطابقه إذ العتو لم يترتب على هذا الأمر لحصوله قبله. وإنما الصواب أن يكون التمتع المأمور به في هذه الآية هو الذي في قصة قوم يونس فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [الصافات: 148] فكأن قوم ثمود أمروا أن يؤمنوا كي يمهلوا إلى انقضاء آجالهم الطبيعة والأمر أمر تكليف لا تكوين فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ بالإصرار على كفرهم. فقيل: على سبيل التكوين تمتعوا في داركم ثلاثة أيام وكان ذلك علامة العذاب والصاعقة النازلة نفسها وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي كانت نهارا يعاينونها أو كانوا منتظرين لها إذ قيل لهم تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ عبارة عن جثومهم كما مر مرارا وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ممتنعين من العذاب وقصة نوح واضحة وقد مر إعرابه في الوقوف. ثم عاد إلى دلائل القدرة فقال وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وفي لفظ البناء إشارة إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 كونها محكمة البنيان. وفي قوله بِأَيْدٍ أي بقوة تأكيد لذلك. وفي قوله وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ مزيد تأكيد والمعنى لقادرون من الوسع الطاقة والموسع القوي على الإنفاق ومنه قال الحسن: أراد إنا لموسعون الرزق بالمطر. وقيل: جعلنا بين السماء وبين الأرض سعة. وإنما أطلق الفرش على الأرض ولم يطلق البناء لأنها محل التغييرات كالبساط يفرش ويطوى وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ من الحيوان خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ذكرا وأنثى. وعدد الحسن أشياء كالسماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والبر والبحر والموت والحياة. قال: كل اثنين منها زوج والله تعالى فرد لا مثل له. وقد يدور في الخلد أن الآية إشارة إلى أن كل ما سوى الله تعالى فإنه مركب نوع تركيب لا أقل من الوجود والإمكان أو الجنس والفصل أو المادة والصورة ولذلك قال لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ له إرادة ترقيكم من المركب إلى البسيط ومن الممكن إلى الواجب ومن المصنوع. وإذا عرفتم الله فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي التجئوا إليه ولا تعبدوا غيره أمر بالإقبال عليه وبالإعراض عما سواه. وكرر قوله إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ للتأكيد. وبعد توضيح البيانات وذكر القصص وتقرير الدلائل سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله كَذلِكَ أي الأمر مثل الذي تقرر من تكذيب الرسل وإصرار الكفرة على الإنكار والسب. ثم فسر ما أجمله بقوله ما أَتَى إلى آخره وقوله أَتَواصَوْا بِهِ استفهام على سبيل التعجب من تطابق آرائهم على تكذيب أنبيائهم. ثم أضرب عن ذلك لأن تطابق المتقدم والمتأخر على أمر واحد غير ممكن فنبه على جلية الحال قائلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ يعني أن اشتراك علة التكذيب وهو الطغيان أشركهم في المعلول فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فإن تكذيبهم لا يوجب ترك الدعوة العامة فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على إعراضك عنهم بعد التبليغ لأنك قد بذلت مجهودك واستفرغت وسعك وَذَكِّرْ مع ذلك فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أراد أن الإعراض عن طائفة معلومة لعدم قابليتهم لا يوجب ترك البعض الآخر. ثم بين الغاية من خلق الثقلين وهي العبادة. وللمعتزلة فيه دليل ظاهر على أن أفعال الله معللة بغرض. وقال أهل السنة: إن العبادة المعرفة والإخلاص له في ذلك فإن المعرفة أيضا غاية صحيحة، وإنما الخلاص عن الإشكال بما سلف مرارا أن استتباع الغاية لا يوجب كون الفعل معللا بها، وإذا لم يكن الفعل معللا بذلك فقد يكون الفعل، وتتخلف الغاية لمانع كعدم قابلية ونحوه. ثم ذكر أنه خلقهم ليربحوا عليه لا ليربح هو عليهم. والمتين الشديد القوة. ثم هدد مشركي مكة وأضرابهم بقوله فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً أي نصيبا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ المهلكين، والذنوب في الأصل الدلو العظيمة قال أهل البيان: وهذا تمثيل وأصله من تقسيم الماء يكون لهذا دلو ولهذا دلو. واليوم الموعود القيامة أو يوم بدر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 (سورة الطور) (مكية حروفها ألف وخمسمائة كلمها ثلاثمائة واثنتا عشرة آياتها تسع وأربعون) [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 49] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 القراآت: فكهين مقصورا: يزيد وأتبعناهم من باب الأفعال: أبو عمرو وذريتهم على التوحيد مرفوعا ذرياتهم على الجمع: أبو جعفر ونافع. وقرأ أبو عمرو على الجمع فيهما منصوبا. وقرأ ذُرِّيَّتُهُمْ ابن عامر وسهل ويعقوب على الجمع أيضا ولكن برفع الأول. الباقون: على التوحيد فيهما الأول مرفوعا والثاني منصوبا ألتناهم بكسر اللام ثلاثيا. ابن كثير لُؤْلُؤٌ بتليين الهمزة الأولى: شجاع ويزيد وأبو بكر وحماد وحمزة في الوقف كما مر في الحج أنه هو البر بفتح الهمزة: أبو جعفر ونافع وعلي أنا كنا من قبل ندعوه إِنَّهُ المسيطرون بالسين: ابن كثير في رواية. وابن عامر والآخرون: بالصاد. وقرأ حمزة في رواية بإشمام الراء يُصْعَقُونَ مبنيا للمفعول: ابن عامر وعاصم وإدبار النجوم بالفتح: زيد عن يعقوب. الوقوف: وَالطُّورِ هـ لا مَسْطُورٍ هـ لا مَنْشُورٍ هـ لا الْمَعْمُورِ هـ لا الْمَرْفُوعِ هـ لا الْمَسْجُورِ هـ لا لَواقِعٌ هـ لا مِنْ دافِعٍ هـ لا مَوْراً هـ لا سَيْراً ط لِلْمُكَذِّبِينَ هـ لا يَلْعَبُونَ هـ م دَعًّا ط لأن التقدير يقال لهم هذه النار تُكَذِّبُونَ هـ لا تُبْصِرُونَ هـ تَصْبِرُوا هـ لاختلاف الجملتين مع اتفاق المعنى عَلَيْكُمْ ط تَعْمَلُونَ هـ وَنَعِيمٍ هـ لا آتاهُمْ رَبُّهُمْ ج لاحتمال العطف واتضاح وجه الحال أي وقد وقاهم الْجَحِيمِ هـ تَعْمَلُونَ هـ لا مَصْفُوفَةٍ ج عِينٍ هـ شَيْءٍ هـ رَهِينٌ هـ يَشْتَهُونَ هـ وَلا تَأْثِيمٌ هـ مَكْنُونٌ هـ يَتَساءَلُونَ هـ مُشْفِقِينَ هـ السَّمُومِ هـ ط لمن قرأ إِنَّهُ بالكسر الرَّحِيمُ هـ مَجْنُونٍ هـ لأن «أم» ابتداء استفهام وتوبيخ الْمَنُونِ هـ الْمُتَرَبِّصِينَ هـ ط لما قلنا طاغُونَ هـ ج لاحتمال ابتداء الاستفهام والجواب بقوله بل لا يُؤْمِنُونَ هـ ج للآية مع الفاء صادِقِينَ هـ ط الْخالِقُونَ هـ ط وَالْأَرْضَ ج لأن «بل» للإضراب مع العطف لا يُوقِنُونَ هـ المسيطرون هـ ط فِيهِ ج لتناهي الاستفهام مع فاء التعقيب مُبِينٍ هـ ط الْبَنُونَ هـ ط مُثْقَلُونَ هـ يَكْتُبُونَ ط كَيْداً ط الْمَكِيدُونَ هـ ط والضابط فيما تقدم أن كلما وصل «أم» فهو للجواب وما قطع فهو بمعنى ألف الاستفهام غَيْرُ اللَّهِ ط يُشْرِكُونَ هـ مَرْكُومٌ هـ يُصْعَقُونَ هـ لا لأن يَوْمَ بدل ما تقدمه يُنْصَرُونَ هـ ط لا يَعْلَمُونَ هـ تَقُومُ هـ لا النُّجُومِ هـ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 التفسير: لما ختم السورة المتقدمة بوقوع اليوم الموعود أقسم على ذلك بالطور وهو الجبل الذي مر ذكره مرارا في قصة موسى. والكتاب المسطور التوراة ظاهرا لأنه هو المناسب للطور. وقيل: اللوح المحفوظ. وقيل: صحيفة الأعمال. والرق الصحيفة أو الجلد الذي يكتب عليه. والمنشور خلاف المطوي كقوله وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الإسراء: 13] وقيل: هو القرآن ونكر لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الكعبة أو الضراح في السماء السابعة سمي معمورا لكثرة زواره من الحجاج أو الملائكة وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ السماء وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ المملوء أو الموقد من قوله وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [الانفطار: 3] وقد سبق في «المؤمن» في قوله ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [الآية: 72] عن جبير بن مطعم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلمه في الأسارى فألفيته في صلاة الفجر يقرأ سورة وَالطُّورِ فلما بلغ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ أسلمت خوفا من أن ينزل العذاب يَوْمَ تَمُورُ تضطرب وتجيء وتذهب وقد يقال: المور تحرك في تموج كحركة الزئبق ونحوه. قلت: لأهل التأويل أن يقولوا: الطور القوة العقلية، وكتاب مسطور هي الجلايا القدسية والمعارف الإلهية الثابتة فيها كالحرف في الرق، والبيت المعمور بيت القلب، والسقف المرفوع الرأس، والبحر المسجور الدماغ المملوء من الخيالات والأوهام. إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ بالحرمان عن الإكرام لازدحام ظلم الآثام لواقع يوم القيامة الصغرى إذ تمور سماء الأرواح حين قطع العلائق وحيلولة العوائق مورا، وتسير جبال النفوس الحيوانية الأمارة التي أثقلت ظهر صاحبها لانتهاء سيرانها وانقضاء سلطانها سيرا. والدع الدفع العنيف. قال المفسرون: إن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم وزجا في أقفيتهم. والاستفهام في قوله أَفَسِحْرٌ للتقريع والتهكم، والفاء مؤكد له أي كنتم تقولون للوحي إنه سحر فهذا أيضا سحر أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ هذا المخبر عنه في الآخرة كما كنتم لا تصدقون الخبر عنه في الدنيا. وقوله فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا كقوله سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا [إبراهيم: 21] ثم علل الاستواء بقوله إِنَّما تُجْزَوْنَ يعني أن الجزاء لا بد من حصوله فلا مزية للصبر على عدمه. قوله وَوَقاهُمْ معطوف على متعلق قوله فِي جَنَّاتٍ أي استقروا في جنات ونعيم ووقاهم العذاب. وجوز أن يعطف على آتاهُمْ على أن «ما» مصدرية أي فاكهين بالإيتاء والوقاية كُلُوا على إرادة القول أي يقال لهم كلوا وَاشْرَبُوا أكلا وشربا هَنِيئاً أو طعاما وشرابا هنيئا لا تنغيص فيه. وقد مر في أول «النساء» . وجوز جار الله أن يكون صفة في معنى المصدر القائم مقام الفعل أي هنأكم الأكل والشرب بسبب ما عملتم، أو الباء مزيدة أي هنأكم جزاء ما عملتم. قوله وَالَّذِينَ آمَنُوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 ظاهره أنه مبتدأ خبره أَلْحَقْنا قال جار الله: هو معطوف على بِحُورٍ عِينٍ أي قرناهم بحور عين والذين آمنوا من رفقائهم وجلسائهم وأتبعناهم ذرياتهم كي يجتمع لهم أنواع السرور بملاعبة الحور وبمؤانسة الإخوان المؤمنين وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم. وقوله بِإِيمانٍ أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل وهو إيمان الآباء. أَلْحَقْنا بدرجاتهم ذُرِّيَّتُهُمْ ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل كما جاء في الحديث «إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه ثم تلا هذه الآية» وَما أَلَتْناهُمْ اي وما نقصنا من ثوابهم شيئا بعطية الأبناء ولا بسبب غيرها ولكن وفرنا عليهم جميع ما ذكرنا تفضلا وإحسانا. ثم بين أن الجزاء بمقدار العمل فقال كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أي مرهون. قال جار الله: كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به كما يرهن الرجل عبده بدين عليه. فإن عمل صالحا فكها وخلصها وإلا أوبقها. وقيل: هذا يعود إلى الكفار. والرهين المرهون المأخوذ المحبس على أمر يؤدي عنه. وقيل: بمعنى راهن وهو المقيم أي كل إنسان مقيم في جزاء ما يقدم. وَأَمْدَدْناهُمْ وزدناهم وقتا بعد وقت يَتَنازَعُونَ يتعاطون هم وقرناؤهم لا لَغْوٌ فِيها أي لا حديث باطل في أثناء شربها. ونفى اللغو لانتفاء الغول الذي هو من تعاكسيه وَلا تَأْثِيمٌ أي لا يفعلون ما ينسب صاحبه إلى الإثم لو فعله في دار التكليف، وإنما يتكلمون بالكلام الحسن المفيد وذلك أنهم حكماء علماء. والغلمان الخدام المختصون بهم، واللؤلؤ المكنون المستور في الصدف أو في الدرج وذلك أنه أصفى وأرطب وأثمن. وقيل لقتادة: هذا هو الخادم فكيف المخدوم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وعنه صلى الله عليه وسلم «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه لبيك لبيك» يَتَساءَلُونَ يتحادثون مُشْفِقِينَ أرقاء القلوب من خشية الله وعذاب السموم عذاب النار لأنها تدخل المسام ومنه الريح السموم مِنْ قَبْلُ أي في الدنيا فَذَكِّرْ فاثبت على ما أنت عليه من التذكير والدعوة العامة فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أي بسبب حمد الله وإنعامه عليك بِكاهِنٍ كما يزعمون وَلا مَجْنُونٍ فلعله كان لهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوال، فبعضهم ينسبونه إلى الكهانة نظرا إلى إخباره عن المغيبات، وبعضهم يرمونه بالجنون حيث لا يسمعون منه ما يوافق هواهم ويطابق مغزاهم، وبعضهم يرون أن تأثير كلامه فيهم من باب التخييل لا الإعجاز كما قال أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ وهو ما يقلق النفوس ويزعجها من حوادث الدهر، وقيل: المنون الموت «فعول» من منه إذا قطعه لأن الموت قطوع ولذلك سمي شعوب. وقد قالوا: ننتظر به نوائب الزمان فيهلك كما هلك الشعراء قبله. والأحلام العقول وكانت قريش يدعون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 أنهم أهل النهي والأحلام. وكون الأحلام أمرتهم مجاز لأدائها إلى تلك الأقوال الفاسدة، وفيه تقريع وتوبيخ إذ لو كان لهم عقل لميزوا بين الحق والباطل والمعجز وغيره تَقَوَّلَهُ اختلقه من تلقاء نفسه بَلْ لا يُؤْمِنُونَ جحودا وعنادا وقد صح عندهم إعجاز القرآن وإلا فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ. ثم وبخهم على إنكار الصانع بقوله أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ من غير خالق أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أنفسهم. وقيل: أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء وحساب. والأول أقوى لقوله أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ثم احتج عليهم بالأنفس ثم بالآفاق ثم قال بَلْ لا يُوقِنُونَ وذلك أنه حكى عنهم وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] فتبين أنهم في هذا الاعتراف شاكون إذ لو عرفوه حق معرفته لم يثبتوا له ندا ولم يحسدوا من اختاره للرسالة كما وبخهم عليه بقوله أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ حتى يختاروا للنبوة من أرادوه أم هم المسيطرون المسلطون الغالبون حتى يدبروا أمر العالم على حسب مشيئتهم أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ الوحي صاعدين فِيهِ إلى السماء عالمين بالمحق والمبطل ومن له العاقبة. والمغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ المحفوظ في اللوح فَهُمْ يَكْتُبُونَ ما فيه من أحوال المبدأ والنبوة والمعاد فيحكمون بحسبها أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً وهو كيدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة وفي غيرها فَالَّذِينَ كَفَرُوا اللام لهؤلاء أو للجنس فيشملهم هُمُ الْمَكِيدُونَ المغلوبون الذين يعود وبال الكيد عليهم فقتلوا ببدر وأظهر الله دين الإسلام. ثم صرح بالمقصود الكلي فوبخهم على إشراكهم ونزه نفسه عن ذلك بقوله سُبْحانَ اللَّهِ ثم أجاب عن بعض مقترحهم وهو قولهم أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً والمراد أنهم لفرط عنادهم لا يفيد معهم شيء من الدلائل فلو أسقطنا عليهم قطعة من السماء لقالوا هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض. ومعنى يصعقون يموتون وذلك عند النفخة الأولى. قوله عَذاباً دُونَ ذلِكَ أي قبل يوم القيامة وهو القتل ببدر القحط سبع سنين وعذاب القبر وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم وتبليغ الرسالة فَإِنَّكَ محفوظ بِأَعْيُنِنا وهو مجاز عن الكلاءة التامة والجمع للتعظيم والمبالغة وحِينَ تَقُومُ أي من أي مكان قمت أو من منامك. وإدبار النجوم بالكسر غروبها آخر الليل وهو بالحقيقة تلاشي نورها في ضوء الصبح، وبالفتح أعقابها. والمعنى مثل ما قلنا. وقيل: التسبيح التهجد. ومن الليل صلاة العشاءين، وإدبار النجوم صلاة الفجر. أمره بالإقبال على طاعته بعد الفراغ عن دعوة الأمة فليس له شأن إلا هذين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 (سورة النجم) (مكية حروفها ألف وأربعمائة وخمسة كلماتها ثلاثمائة وستون آياتها اثنتان وستون) [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 62] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 القراآت: هَوى وسائر آياته بالإمالة اللطيفة: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة المفرطة كما سبق في «طه» ما كذب بالتشديد: يزيد وهشام ما زاغَ الْبَصَرُ بالإمالة: حمزة ونصير وَمَناةَ بالمد: ابن كثير والشموني أفتمرونه ثلاثيا: يعقوب وحمزة وعلي وخلف ضِيزى بالهمزة: ابن كثير في رواية كبير الإثم على التوحيد: حمزة وعلي وخلف والمفضل إبراهام هشام عادا لولي مدغما غير مهموز: أبو عمرو ويزيد ويعقوب والنجاري عن ورش. وقرأ إسماعيل والأصبهاني عن ورش وأبو نشيط عن قالون بإظهار الغنة غير مهموز. وكذلك روي عن أبي عمرو فعلى مذهبهم إذا وقف القارئ على عاد ابتدأ ب لولي ولو شاء الولي بتخفيف الهمزة والأولى أحسن. وقرأ قالون غير أبي نشيط بالهمزة وإظهار الغنة، وإذا وقف على عاد ابتدأ لولي ولو شاء الولي والباقون عاد الأولى بالألف قبل اللام وبعد اللام في الحالين وثمود في الحالين بغير تنوين: حمزة وعاصم غير ابن غالب والبرجمي والمفضل وسهل ويعقوب ربك تمارى بتشديد التاء: رويس عن يعقوب. الوقوف هَوى هـ لا غَوى هـ ج للآية مع العطف على جواب القسم الْهَوى هـ ط يُوحى هـ لا الْقُوى هـ لا لذلك ذُو مِرَّةٍ ط لتمام الصفة فَاسْتَوى هـ لا لأن الواو للحال الْأَعْلى هـ ط فَتَدَلَّى هـ لا لأن ما بعده من تمام المقصود أَوْ أَدْنى هـ ج وإن اتفقت الجملتان لأن ضمير فَأَوْحى لله لا للنبي ما أَوْحى هـ ج ما رَأى هـ أُخْرى هـ لا الْمُنْتَهى هـ الْمَأْوى هـ لأن عامل إذ زاغ البصر فلا وقف على ما يَغْشى طَغى هـ الْكُبْرى هـ وَالْعُزَّى هـ لا الْأُخْرى هـ الْأُنْثى هـ ضِيزى هـ سُلْطانٍ ط الْأَنْفُسُ ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف الْهُدى هـ ط لأن أم ابتداء استفهام إنكار ما تَمَنَّى هـ ز لتناهى الاستفهام والوصل أولى للفاء واتصال المعنى وَالْأُولى هـ وَيَرْضى هـ الْأُنْثى هـ عِلْمٍ ط إِلَّا الظَّنَّ هـ ج لاختلاف الجملتين شَيْئاً ط لذلك الدُّنْيا هـ ط مِنَ الْعِلْمِ ط اهْتَدى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط بِالْحُسْنَى هـ ج لأن الَّذِينَ يصلح خبر مبتدأ محذوف وبدلا من الَّذِينَ أَحْسَنُوا اللَّمَمَ ط الْمَغْفِرَةِ ط أُمَّهاتِكُمْ ج أَنْفُسَكُمْ هـ ط اتَّقى هـ تَوَلَّى ج وَأَكْدى هـ يَرى هـ مُوسى هـ وَفَّى هـ لا أُخْرى هـ لا سَعى هـ لا يُرى هـ ص لوقوع العارض بين المعطوف على أن الْأَوْفى هـ لا الْمُنْتَهى هـ لا وَأَبْكى هـ لا وَأَحْيا هـ لا وَالْأُنْثى هـ تُمْنى هـ ص لما مر الْأُخْرى هـ لا وَأَقْنى هـ لا الشِّعْرى هـ ط الْأُولى هـ لا أَبْقى هـ لا وَأَطْغى هـ ط لأن الْمُؤْتَفِكَةَ منصوب بما بعده أَهْوى هـ لا ما غَشَّى هـ ج لابتداء الاستفهام مع الفاء تَتَمارى هـ الْأُولى هـ لا الْآزِفَةُ هـ للاستئناف والحال كاشِفَةٌ هـ تَعْجَبُونَ هـ لا وَلا تَبْكُونَ هـ لا سامِدُونَ هـ لا وَاعْبُدُوا هـ سجدة. التفسير: لما ختم السورة المتقدمة بالنجوم خص الأقسام في أول هذه السورة بالنجم. واللام فيه للعهد أو للجنس. والأول قول من قال: إنه الثريا وهو اسم غالب لها وصورتها في السماء كعنقود عنب. وأظهر كواكبها سبعة وهي المنزل الثالث من منازل القمر. قال: إذا طلع النجم عشاء ابتغى الراعي كساء. وذلك أن الشمس تكون في أول العقرب حينئذ في مقابلتها فتطلع بغروبها. وعلى الثاني فيه وجوه أحدها. نجوم السماء وهويها غروبها. وفائدة هذا القيد أن النجم إذا كان في وسط السماء لم يهتد به الساري لأنه لا يعلم المغرب من المشرق والجنوب من الشمال، فإذا مال إلى الأفق عرف به هذه الجهات والميل إلى أفق المغرب أولى بالذكر من الناظر إليه حينئذ يستدل بغروبها على أفوله في حيز الإمكان فيتم له اهتداء الدين مع اهتداء الدنيا. وقيل: هويها انتثارها يوم القيامة. وثانيها النجم هو الذي يرجم به الشياطين وهويها انقضاضها. وثالثها النجم النبات إذا هوى إذا سقط على الأرض وهو غاية نشوه. ورابعها النجم أحد نجوم القرآن وقد نزل منجما في عشرين سنة فيكون كقوله وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يس: 2، 3] وعلى القول الآخر فالثريا أظهر النجوم عند الناظرين وأشهر المنازل للسائرين وأنها تطلع عشاء في وقت إدراك الثمار. والنبي صلى الله عليه وسلم تميز من سائر الأنبياء بالمعجزات الباهرات ولا سيما فإنه حين ظهر زال يبس الشكوك وحرارة الحمية الجاهلية وأدرك الحكمة ورجم به شياطين الإنس المضلين لعباد الله في أرضه، ونبت بوجوده أصناف الأغذية الروحانية تامة كاملة. قال جار الله: الضلال نقيض الهدى، والغي نقيض الرشد، والخطاب لقريش. قلت: هذا صادق من حيث الاستعمال لقوله قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 مِنَ الْغَيِ [البقرة: 256] مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الأعراف: 186] إلا أنه ينبغي أن يتبين الفرق بين الضلال والغواية. والظاهر أن الضلال أعم وهو أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقا أصلا، والغواية أن لا يكون له إلى المقصد طريق مستقيم ولهذا لا يقال للمؤمن من إنه ضال أو غير مهتد ويقال له إنه غوي غير رشيد. قال عز من قائل فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء: 6] فكأنه سبحانه نفى الأعم أولا ثم نفى الأخص ليفيد أنه على الجادة غير منحرف عنها أصلا. ويحتمل أن يكون قوله ما ضَلَّ نفيا لقولهم هو كاهن أو مجنون لأن الكهانة أيضا من مسيس الجن. وقوله وَما غَوى نفي لقولهم هو شاعر والشعراء يتبعهم الغاوون. ويحتمل أن يكون الأول عبارة عن صلاحه في أمور المعاد، والثاني إشارة إلى رشده في أمور المعاش ومنه يعلم أن أقواله كلها على سنن الصواب إلا أنه كان يمكن أن تكون مستنبطة من العقل أو العرف أو العادة، فأسندها الله سبحانه إلى طريق أخص وأشرف وهو أن تكون مستندة إلى الوحي فقال بصيغة تفيد الاستمرار وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أي ليس كل ما ينطق به ولا بعضه بصادر عن الرأي والتشهي إنما وحي يوحى إليه من الله، واستدل به بعض من لا يرى الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام، وأجيب بأن الله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد كان لك من قبيل الوحي أيضا. وأما من يخص النطق بالقرآن فلا اعتراض عليه. قال أهل اللغة: الهوى المحبة النفسانية، والتركيب يدل على النزول والسقوط ومنه الهاوية. ومبة النفس الأمارة لا أصل لها ولا تصدر إلا عن خسة ودناءة، وقوله إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ أبلغ مما لو قيل هو «وحي» وهو ظاهر. وقوله يُوحى لتحقيق الحقيقة كقوله وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] فإن الفرس الشديد العدو بما يقال إنه طائر، فإذا قيل يطير بجناحيه زال جواز ذلك المجاز فكذلك هاهنا ربما يقال للكلام الصادق الفصيح هو وحي أو سحر حلال. فلما قيل يُوحى اندفع التجوز. ثم بين طريق الوحي بقوله عَلَّمَهُ أي الموحي أو محمدا شَدِيدُ الْقُوى وهو جبرائيل عليه السلام أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة مدح المعلم ليلزم منه فضيلة المتعلم. ولو قال «علمه جبرائيل عليه السلام» لم يفهم منه فضل المتعلم ظاهرا. وفيه رد على من زعم أنه يعلمه بشر لأن الإنسان خلق ضعيفا وما أوتي من العلم إلا قليلا. وفيه أن جبرائيل عليه السلام أمين موثوق به من حيث قوته المدركة والحافظة ولو كان مختل الذهن أو الحفظ لم يوثق بروايته، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كيلا يضيق صدره حين علم بواسطة الملك فكأنه قيل له: ليس لك في ذلك نقص لأنه شديد القوى على أنه قال في موضع آخر وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء: 113] وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حاله فقال «أدبني ربي فأحسن تأديبي» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 والمرة القوة. والظاهر أنها القوة الجسمانية كقوله وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة: 247] فمن قوته أنه قلع قريات قوم لوط وقلبها بجناحه، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، وكان ينزل إلى الأنبياء ويصعد في لمحة. ويجوز أن يراد بقوله شَدِيدُ الْقُوى قواه الجسمانية وبقوله ذُو مِرَّةٍ القوى العقلية. والتنكير للتعظيم. قوله فَاسْتَوى المشهور أن فاعله جبرائيل عليه السلام أي فاستقام على صورته الحقيقية دون صورة دحية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها فاستوى له في الأفق الأعلى أي الأشرف وهو الشرقي ثُمَّ دَنا جبرائيل من الرسول الله صلى الله عليه وسلم على الصورة المعتادة فَتَدَلَّى قيل: فيه تقديم وتأخير أي فتعلق عليه في الهواء ثم دنا منه. وقيل: دنا أي قصد القرب من محمد أو تحرك من المكان الذي كان فيه، فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. يقال: تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير وقد يقال: الدنو والتدلي بمعنى واحد فلا يفيد إلا التأكيد. ثم زاد تأكيدا بقوله فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ قال أهل العربية. هو من باب حذف المضافات أي فكان مقدار مسافة قرب جبرائيل عليه السلام مثل «قاب قوسين» . والقاب والقيب والقاد والقيد والقيس كلها المقدار. والعرب تقدر الأشياء بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع وغيرها. وفي الحديث «لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين» «1» وقال صلى الله عليه وسلم «لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها» «2» والقد السوط. وقوله أَوْ أَدْنى أي في تقديركم كقوله مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات 147] وقال بعضهم: الضمير في فَاسْتَوى لمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن تعليم جبرائيل إياه كان قبل كماله واستوائه، فحين تكاملت قواه النظرية والعلمية وصار بالأفق الأعلى أي بالرتبة العليا من المراتب الإنسانية دنا من الأمة فتدلى أي لان لهم ورفق بهم حتى قال إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف: 110] فكان الفرق بينه وبين جبرائيل قليلا جدا. وعلى هذا يمكن أن يكون الرجحان في الكمال للنبي صلى الله عليه وسلم كما يقول أكثر أهل السنة، أو بالعكس كما تزعم طائفة منهم ومن غيرهم، ويحتمل على هذا القول أن يكون الضمير في دَنا لجبريل والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن زال عن الصفات البشرية من الشهوة والغضب والجهل وبلغ الأفق الأعلى الإنساني، ولكن نوعيته لم تزل عنه وكذلك جبرائيل.   (1) رواه أبو داود في كتاب التطوع باب 10 (2) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 5 كتاب بدء الخلق باب 8 الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب 17 أحمد في مسنده (2/ 482، 483) (3/ 141، 153) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 وإن ترك اللطافة المانعة من الرؤية ونزل إلى الأفق الأدنى من الآفاق الملكية ولكن لم يخرج عن كونه ملكا فلم يبقى بينهما إلا اختلاف حقيقتهما نظيره وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 23] أي رأى جبرائيل وهو أي محمد بالأفق الفارق بين درجة الإنسان ومنزلة الملك كقول القائل: «رأيت الهلال على السطح» أي وأنا على السطح. وقد يجعل ذكر القوس عبارة عن معنى آخر هو أن العرب كانوا إذا عاهدوا فيما بينهم طرحوا قوسا أو قوسين لتأكيد العهد بين الاثنين، فأخبر الله سبحانه أنه كان بين جبرائيل ومحمد عليه الصلاة والسلام من المحبة وقرب المنزلة مثل ما تعرفونه فيما بينكم عند المعاقدة. وقيل: الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لله والمراد قرب المكان بينهما. وهذا يشبه مذهب المجسمة إلا أن يقال: دنا دنو ألفة ولا دنو زلفة. دنا دنو إكرام لا دنو أجسام، دنا دنو أنس لا دنو نفس. والقوسان أحدهما صفة الحدوث والأخرى صفة القدم. أخبر بالقصة إكراما وكتم الإسرار عظاما. قوله فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى الضمير في الفعلين إما لله أو لجبرائيل، والمراد بالعبد إما محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل عليه السلام فيحصل تقديرات أحدها: فأوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم عبده ما أوحى وفيه تفخيم لشأن الوحي. وقيل: أوحى إليه الصلاة. وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها. وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك. والظاهر أنها أسرار وحقائق ومعارف لا يعلمها إلا الله ورسوله. ثانيها فأوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى أولا جبرائيل يعني أن الوحي كان ينزل عليه أولا بواسطة جبرائيل وقد ارتفعت الآن تلك الواسطة. وعلى هذا يحتمل أن يقال «ما» مصدرية أي أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم الإيحاء أي العلم بالإيحاء كي يفرق بين الملك والجن، أو كلمه أنه وحي أو خلق فيه علما ضروريا. ثالثها فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى. رابعها فأوحى الله إلى جبرائيل ما أوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء قبله. وفيه إشارة إلى أن جبريل عليه السلام أمين لم يجن قط في شيء مما أوحى إلى الأنبياء. خامسها فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى الله إليه. سادسها فأوحى جبرائيل إلى عبد الله ما أوحى هو. وفي هذين الوجهين لا يمكن أن يراد بالعبد إلا محمد صلى الله عليه وسلم. قوله ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى الأشهر أن اللام للعهد وهو فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك. ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه. ومن قرأ بالتشديد فظاهر أي صدق فؤاده ما عاينه ولم يشك في ذلك. وقيل: اللام للجنس والمراد أن جنس الفؤاد لا ينكر ذلك وإن كان الوهم والخيال ينكره. والمقصود نفي الجواز لا نفي الوقوع كقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ [الأنعام: 132] بخلاف قوله إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة: 12] لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] فإنه لنفي الوقوع. والظاهر أن فاعل رأى محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: الفؤاد أو البصر أي ما رآه الفؤاد ولم يقل له إنه جن أو شيطان أو لم يكذب الفؤاد ما رآه بصر محمد صلى الله عليه وسلم. وما المرئي فيه أقوال: أحدها ما مر وهو أنه رأى جبريل في صورته بالأفق الشرقي. والثاني الآيات العجيبة الإلهية. والثالث الرب تعالى والمسألة مبنية على جواز الرؤية وقد تقدم البحث عن ذلك في قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] ثم على وقوع الرؤية وقد تقدم خلاف الصحابة فيه في حديث معراج النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في أول «سبحان الذي» . ولعل القول الأول أصح. يروي أنه ما رأى جبريل أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء، وإليه إشارة بقوله أَفَتُمارُونَهُ من المراء أي أتجادلونه عَلى ما يَرى ومن قرأ أفتمرونه فمعناه أتغلبونه في المراء يقال: ماريته فمريته. ولما فيه من معنى الغلبة عدي ب «على» وقيل: معناه أفتجحدونه. ولا بد من تضمين معنى الغلبة. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى أي مرة أخرى فانتصبت على الظرف لأن الفعلة صيغة المرة فكانت النزلة في حكم المرة أي نزل عليه جبريل في صورته تارة أخرى في ليلة المعراج ووجه الاستفهام الإنكاري أنه لما رآه وهو على بسيط الأرض احتمل أن يقال: إنه كان من الجن احتمالا بعيدا فلما رآه عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى لم يحتمل أن يكون هناك جن ولا إنس فلم يبق للجدال مجال. أما القائل بالقول الثالث فزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين. والنزلة إما لله بمعنى الحركة والانتقال عند من يجوز ذلك، أو بمعنى قرب الرحمة والإفضال، وإما للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه نزل عن متن الهوى ومركب النفس. وقيل: أراد بالنزلة ضدها وهي العرجة، واختير هذه العبارة ليعلم أن هذه عرجة تتبعها النزلة ليست عرجة لا نزلة لها وهي عرجة الآخرة. وعلى القول الأول أيضا يحتمل أن تكون النزلة لمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن جبرائيل تخلف عنه في مقام «لو دنوت أنملة لاحترقت» ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم إليه. ومعنى أخرى أنه صلى الله عليه وسلم تردد في أمر الصلاة مرارا فلعله كان ينزل إلى جبرائيل كل مرة لا أقل من نزلتين. أما السدرة فالأكثرون على أنها شجرة في السماء السابعة: وقيل: في السادسة. «نبقها كقلال هجر وورقها كآذان الفيلة، يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها» «1» وقد ورد الحديث بذلك. فعلى هذا عِنْدَ ظرف مكان. ثم إن كان المرئي جبريل فلا إشكال، وإن كان هو الله تعالى فكقول القائل   (1) رواه البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب 42 النسائي في كتاب الصلاة باب 1 أحمد في مسنده (3/ 128، 164) (4/ 207) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 «رأيت الهلال على السطح» وقد مر. وقال بعضهم عِنْدَ ظرف زمان كما يقال: صليت عند طلوع الفجر. والمعنى رآه عند الحيرة القصوى أي في وقت تحار عقول العقلاء فيه ولكنه ما حار ولم يعرض له سدر. وإضافة سدرة إلى المنتهى إما من إضافة الشيء إلى مكانه كما يقال «أشجار البلدة الفلانية كذا» وأشجار الجنة لا تيبس ولا تخلو من الثمار. فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك ولا يعلم ما وراءه أحد وإليه ينتهي أرواح الشهداء. وإما من إضافة الملك إلى الحال كما يقال «ظرف المداد» أي سدرة هي محل انتهاء الجنة. وإما من إضافة الملك إلى مالكه كما يقال «دار زيد وأشجار عمرو» فيكون التقدير سدرة المنتهى إليه وهو الله سبحانه قال وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى فالإضافة للتشريف «نحو بيت الله وناقة الله» . وقال الحسن: جَنَّةُ الْمَأْوى هي التي يصير إليها المتقون. وقيل: يأوي إليها أرواح الشهداء والظاهر أن الضمير في عِنْدَها للسدرة. وقيل: للنزلة من ذهب إلى أن سدرة المنتهى معناها الحيرة القصوى. قال إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى معناه ورود حالة على حالة أي طرأ على محمد حين ما يحار العقل ما طرأ من فضل الله ومن رحمته. والأكثرون قالوا فيه تعظيم وتكثير لما يغشى الشجرة من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله مما لا يحيط بها الوصف. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت على كل ورقة من ورقها ملكا قائما يسبح الله» وعنه عليه السلام «يغشاها رفرف من طير خضر» والرفرف كل ما يبسط من أعلى إلى أسفل. وعن ابن مسعود وغيره: يغشاها فراش أو جراد من ذهب. والمحققون على أنها أنوار الله تعالى تجلى للسدرة كما تجلى للجبل لكن السدرة كانت أقوى من الجبل، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان أثبت من موسى فلم تضطرب الشجرة ولم يصعق محمد صلى الله عليه وسلم. قوله ما زاغَ الْبَصَرُ فيه وجهان: أشهرهما أنه بصر محمد صلى الله عليه وسلم أي لم يلتفت إلى ما يغشاها. فإن كان الغاشي هو الفراش أو الجراد من ذهب فمعناه ظاهر ويكون ذلك ابتلاء وامتحانا لمحمد صلى الله عليه وسلم بالأمور الدنيوية، وإن كان الغاشي أنوار الله فالمراد أنه لم يلتفت إلى غير المقصود ولم يشتغل بالنور عن ذي النور. أو المراد ما زاغ البصر بالصعقة بخلاف موسى عليه السلام. وفي الأول بيان أدب محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الثاني بيان مزيته. وذهب بعضهم إلى أن اللام للجنس أي ما زاغ بصره أصلا في ذلك الموضع هيبة وإجلالا. والظاهر أن الضمير في قوله وَما طَغى للبصر أي ما جاوز حده المعين المأمور برؤيته. ويحتمل أن يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم أي ما زاغ بصره بالميل إلى غير المقصود، وما طغى محمد بسبب الالتفات. قال بعض العلماء: فيه بيان لوصول محمد صلى الله عليه وسلم إلى سدرة اليقين الذي لا يقين فوقه إذ لم ير الشيء على خلاف ما هو عليه بخلاف الناظر إلى عين الشمس فإنه إذا نظر إلى شيء آخر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 رآه أبيض أو أصفر أو أخضر. قوله لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى الظاهر أن الكبرى صفة الآيات أي لقد رأى بعض آيات ربه الكبرى. وذلك البعض إما جبرائيل على صورته، وإما سائر عجائب الملكوت. ويحتمل أن يكون صفة لمحذوف أي لقد رأى من آيات ربه آية هي الكبرى. وعلى هذا لا تكون تلك الآية رؤية جبريل لما ورد في الاخبار أن لله ملائكمة أعظم منه كالملك الذي يسمى روحا. نعم لو قيل: إنها رؤية الله الأعظم كان له وجه عند من يقول بأنه صلى الله عليه وسلم رأى الله ليلة المعراج. وفيه خلاف تقدم. قوله أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى إلخ. أي عقيب ما سمعتم من عظمة الله تعالى ونفاذ أمره في الملأ الأعلى، وأن الذي سد الأفق ببعض أجنحته تخلف عند سدرة المنتهى، هل تنظرون إلى هذه الأصنام مع قلتها وفقرها حتى تعلموا فساد ما ذهبتم إليه وعولتم عليه؟ قال في الكشاف: اللات اسم صنم كان لثقيف بالطائف وأصله «فعلة» من لوى يلوي لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة، أو يتلوون عليها أي يطوفون فكأنه حذفت الياء تخفيفا وحركت الواو فانقلبت ألفا. والوقف عليه بالتاء كيلا يشبه اسم الله: وقيل: أصله اللات بالتشديد وقد قرئ به. زعموا أنه سمي برجل كان يلت عنده السمن بالزيت ويطعمه الحاج. وعن مجاهد: كان رجل يلت السويق بالطائف وكانوا يعكفون على قبره فجعلوه وثنا. والعزى تأنيث الأعز وكان لغطفان وهي شجرة سمرة بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد ابن الوليد فقطعها فخرجت منها شيطانة مكشوفة الرأس ناشرة الشعر تضرب رأسها وتدعو بالويل والثبور فجعل خالد يضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول: يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما فعل. فقال: تلك العزى ولن تعبد أبدا. وأما مناة فهي صخرة كانت لهذيل وخزاعة كأنها سميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق. ومن قرأ بالمد فلعلها «مفعلة» من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها. والْأُخْرى لا يطلق إلا إذا كان الأول مشاركا كالثاني فلا يقال: رأيت رجلا وامرأة أخرى. وإنما يقال رأيت رجلا ورجلا آخر. وهاهنا ليست عزى ثالثة فكيف قال وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى؟ وأجيب بأن الأخرى صفة ذم لها أي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ [الأعراف: 38] أي وضعاؤهم لرؤسائهم. ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى وذلك أن الأول كان على صورة آدمي، والعزى كانت من النبات ومناة من الجماد. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير أي ومناة الأخرى. الثالثة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 وقيل: إن الأصنام فيها كثرة فإذا أخذنا اللات والعزى مقدمين كانت لهما ثوالث كثيرة وهذه ثالثة أخرى. وقيل: فيه حذف والتقدير أفرأيتم اللات والعزى المعبودتين بالباطل ومناة الثالثة المعبودة الأخرى. ثم إنه تعالى حين وبخهم على الشرك فكأنهم قالوا نحن لا نشك في أن شيئا منها ليس مثلا لله تعالى ولكنا صورنا هذه الأشياء على صور الملائكة المعظمين الذين اعترف بهم الأنبياء وقالوا: إنهم يرتقون ويقفون عند سدرة المنتهى، ويرد عليهم الأمر والنهي ويصدر عنهم إلينا فوبخهم على قولهم إن هؤلاء الأصنام التي هي إناث أنداد الله تعالى، أو على قولهم الملائكة بنات الله فاستفهم منكرا أَلَكُمُ الذَّكَرُ الذي ترغبون فيه وَلَهُ الْأُنْثى التي تستنكفون عنها تِلْكَ القسمة إِذاً أي إذا صح ما ذكرتم قِسْمَةٌ ضِيزى أي جائزة غير عادلة من ضازه يضيزه إذا ضامه، وهي «فعلى» بالضم، وكان يمكن أن تقلب الياء واوا لتسلم الضمة إلا أنه فعل بالعكس أي قبلت الضمة كسرة لتسلم الياء فإن إبقاء الحرف أولى من إبقاء الحركة. ومن قرأ بالهمزة فمن ضأزه بالهمزة والمعنى واحد ولكنها «فعلى» بالكسر. قال بعضهم: إنهم ما قسموا ولم يقولوا لنا البنون وله البنات ولكنهم نسبوا إلى الله البنات وكانوا يكرهونهن، فلزم من هذه النسبة قسمة جائرة، فتقدير الكلام تلك النسبة قسمة غير عادلة إذ العدالة تقتضي أن يكون الشريف للشريف والوضيع للوضيع إِنْ هِيَ يعني ليس الأصنام أو أسماؤها المذكورات إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها وقد مر في «الأعراف» وفي «يوسف» . قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: اليتم يتم بقوله ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فإن إطلاق الاسم على المسمى إنما يجوز إذا لم يتبعه مفسدة دينية. وهاهنا يمكن أن يكون مرادهم من قولهم «الملائكة بنات الله» أنهم أولاد الله من حيث إنه لا واسطة بينهم وبينه في الإيجاد كما تقوله الفلاسفة. والعرب قد تستعمل البنت مكان الولد كما يقال «بنت الجبل وبنت الشفة» لما يظهر منهما بغير واسطة خصوصا إذا كان في اللفظ تاء التأنيث كالملائكة إلا أنه لم يجز في الشرع إطلاق هذا اللفظ على الملائكة لأنه يوهم النقص في حقه تعالى ثم قال: وهذا بحث يدق عن إدراك اللغوي إن لم يكن عنده من العلوم حظ عظيم. قلت: هذا البحث الدقيق يوجب أن يكون الذم راجعا إلى ترك الأدب فقط. وليس الأمر كذلك فإن الذم إنما توجه إلى المشرك لأنه ادعى الإلهية لما هو أبعد شيء منها. وما أمكن له على تصحيح دعواه حجة عقلية ولا سمعية. ومعنى ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها أي بسببها وصحتها. وقال الرازي: الباء للمصاحبة كقول القائل «ارتحل فلان بأهله ومتاعه» أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع. ومن قرأ إن تبعون على الخطاب فظاهر، ومن قرأ على الغيبة فإما للالتفات، واما لأن الضمير للآباء وصيغة الاستقبال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 حكاية الحال الماضية ويحتمل أن يكون المراد عامة الكفار. قوله وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ يجوز أن تكون «ما» مصدرية، وفائدة العدول عن صريح المصدر إلى العبارة الموجودة أن القاتل إذا قال: أعجبني صنعك. لم يعلم أن الإعجاب من أمر قد تتحقق أو من أمر هو فيه. وإذا قال: أعجبني ما تصنع. شمل الحال والاستقبال. ويجوز أن تكون «ما» موصولة والفرق أن المتبع في الأول الهوى وفي الثاني مقتضى الهوى. وقوله الْأَنْفُسُ من باب مقابلة الجمع بالجمع. والمعنى اتبع كل واحد منهم ما تهواه نفسه كقولك: خرج الناس بأهلهم أي كل واحد بأهله ولعل الظن يختص بالاعتقاد وهوى النفس بالعمل. ويجوز أن يكون الظن مقصودا به كل ماله محمل مرجوح والهوى يراد به ما لا وجه له أصلا. ويحتمل أن يراد بالظن ماله محمل راجح أيضا وهو إن كان واجب العمل به في المسائل الاجتهادية إلا أنه مذموم عند القدرة على اليقين وإلى هذا أشار بقوله وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى وهو القرآن أو الرسول أو المعجزة، وفي هذه الحالة لا يجوز البناء على الظن بل يجب التعويل على اليقين. قوله أَمْ لِلْإِنْسانِ أم منقطعة والهمزة فيها للإنكار والمراد تمنيهم شفاعة الآلهة وأن لهم عند الله الحسنى على تقدير البعث إذ تمنى أشرافهم أن يكونوا أنبياء دون محمد صلى الله عليه وسلم. قوله فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى رد عليهم أي هو مالكها فهو المعطي والمانع ولا حكم لأحد عليه. ومعنى الفاء أنه إذا تقرر أن شيئا من الأشياء ليس بتمني الإنسان فلا حكم إلا لله. ثم بين أن الشفاعة عند الله لا تكون إلا برضاه. وفيه أصناف من المبالغة من جهة أن «كم» للتكثير والعرب تستعمل الكثير وتريد الكل كما قد تستعمل الكل وتريد به الكثير كقوله تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الأحقاف: 25] ومن جهة لفظ الملك فإنهم أشرف المخلوقات سوى الأنبياء عند بعض، ومن قبل أنهم في السموات فإن ذلك يدل على علو مرتبتهم ودنو منزلتهم، ومن قبل اجتماعهم المدلول عليه بضمير الجمع في شفاعتهم وإذا كان حالهم هكذا فكيف يكون حال الجمادات؟ وقوله لِمَنْ يَشاءُ أي لمن يريد الشفاعة له وَيَرْضى أي ويراه أهلا أن يشفع له فههنا أيضا أنواع أخر من المبالغة. الأول توقيف الشفاعة على الإذن. والثاني تعليقها بالمشيئة فيهم منه أنه بعد أن يؤذن في مطلق الشفاعة يحتاج إلى الأذن في كل مرة معينة. والثالث رضا الله الشفاعة فقد يشاء ولكن لا يرضاه كقوله وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] وهذا عند أهل السنة واضح. ثم صرح بالتوبيخ على قولهم الملائكة بنات الله فقال إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ أي كل واحد منهم تَسْمِيَةَ الْأُنْثى لأنهم إذا جعلوا الكل بنات فقد جعلوا كل واحدة بنتا وبالعكس. وهاهنا سؤالان: أحدهما: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعم من هؤلاء المسمين فكان الأولى أن يقال: إن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 الذين يسمون لا يؤمنون. وثانيهما أنه كيف يلزم من عدم الإيمان بالآخرة هذه التسمية؟ والجواب عن الأول أن اللام للعهد وبه خرج الجواب عن الثاني أيضا لأنه بخير عن جميع معهود أنهم يسمون. ولا يلزم من حمل شيء على شيء أن يكون بينهما ملازمة. ولو سلم أن اللام للعموم فالمراد بمثل هذا التركيب المبالغة والتوكيد كما تقول: الإنسان زيد. وعلى هذا فإن أريد بالحمل مجرد الإخبار فلا إشكال وإن أريد الملازمة فمعناه المبالغة أيضا لأن غاية جهلهم بالآخرة وبالجزاء حملهم على ارتكاب مثل هذا الافتراء على الله، وإلى هذا أشار بقوله ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ واعلم أن الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه بحث مع هؤلاء المشركين الذين سموا الملائكة إناثا بحثا طويلا بناء على ظنه بهم أنهم رأوا في لفظ الملائكة تاء فلذلك جعلوه مؤنثا. وحاصل ذلك البحث يرجع إلى أن التاء لا يلزم أن تكون للتأنيث فقد تكون لتأكيد الجمع كحجارة وصقورة، أو لغير ذلك من المعاني، ونحن قد أسقطنا تلك البحوث لعدم فائدتها كما نبهناك عليه. ثم بين الله سبحانه قاعدة كلية فقال: وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي كل ما يجب أن يحصل منه المكلف على العلم واليقين فلا ينفع فيه الظن والتخمين، ومن جملته مسائل المبدأ والمعاد التي ينبني البحث فيها على البراهين العقلية والدلائل السمعية، ومن قنع في أمثالها بالوهم والظن لعدم الاستعداد أو لحفظ بعض المنافع الدنيوية وجب الإعراض عنه كما قال فَأَعْرِضْ أي إذا وقفت على قلة استعدادهم وعدم طلبهم للحق فأعرض يا محمد يا طالب الحق عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ويجوز أن يكون هذا الإعراض متضمنا للأمر بالقتال أي أعرض عن المقال وأقبل على القتال. وقوله ذلِكَ أي الذي ذكر من التسمية أو من اعتقاد كون الأصنام شفعاء مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ جملة معترضة. ثم بين علة الإعراض قائلا إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ إلى آخره، وفيه بيان أنه تعالى يجازي كل فريق بحسب ما يستحقه، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كيلا يتعب نفسه في تحصيل ما ليس يرجى حصوله وهو إيمان أهل العناد الذين قنعوا بالظن بدل العلم ووقفوا لدى الباطل دون الحق. ثم قرر أنه سوى الملك والملكوت لغرض الجزاء والإثابة. والحسنى صفة المثوبة والأعمال، وإضافة الكبائر إلى الإثم إضافة النوع إلى الجنس لأن الإثم يشمل الكبائر والصغائر. واختلف في الكبائر وقد أشبعنا القول فيها في سورة النساء في قوله إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [الآية: 31] والفواحش ما تزايد قبحه من الكبائر كأنها مع كبر مقدار عقابها قبيحة في الصورة كالشرك بالله. والمراد باللمم الصغائر، والتركيب يدل على القلة ومنه اللمم المس من الجنون وألم بالمكان إذا قل لبثه فيه قال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 ألمت فحيت ثم قامت فودعت وإلا صفة كأنه قيل: كبائر الإثم وفواحشه غير اللمم، أو استثناء منقطع لأن اللمم ليس من الفواحش. عن أبي سعيد الخدري: اللمم هي النظرة والغمزة والقبلة. عن السدي: الخطرة من الذنب. وعن الكلبي: كل ذنب لم يذكر الله عز وجل عليه حدا ولا عذابا. وعن عطاء: هي ما تعتاده النفس حينا بعد حين. قال جار الله: معنى قوله إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ أنه يكفر الصغائر باجتناب الكبائر ويكفر الكبائر بالتوبة. وأقول: فيه إشارة إلى أن اللمم ما لا يمكن فيه الاجتناب عنه لكل الناس أو لأكثرهم فالعفو عن ذلك يحتاج إلى سعة وكثرة، بل فيه بشارة أنه سبحانه يغفر الذنوب جميعا سوى الشرك لأن غفران اللمم لا يوجب الوصف بسعة المغفرة وإنما يوجب ذلك أن لو غفر معها الكبائر. وقوله هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إلى آخره. دليل على وجوب وقوع الغفران لأنه إذا كان عالما بأصلهم وفرعهم كان عالما بضعفهم ونقصهم فلا يؤاخذهم بما يصدر عنهم على مقتضى جبلتهم وطبعهم. فكل شيء يرجع إلى الأصل والأرض بطبعها تميل إلى الأسفل. والجنين أوله نطفة مذرة وآخره الاغتذاء بدماء قذرة، وإذا كان مبدأ حاله هكذا وهو في أوسط أمره متصف بالظلم والجهل والعاقبة غير معلومة وجب عليه أن لا يزكي نفسه فإن الله تعالى أعلم بالزكي والتقي أولا وآخرا باطنا وظاهرا، وما أحسن نسق هذه الجمل. وقد أبعد بعض أهل النظم فقال لما ذكر أنه أعلم بمن ضل كان للكافر أن يقول: كيف يعلم الله أمورا نعلمها في البيت الخالي وفي جوف الليل المظلم؟ فأجاب الله تعالى بأنا نعلم ما هو أخفى من ذلك وهو أحوالكم وقت كونكم أجنة. وقوله فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ للتأكيد فإنه إذا خرج من بطن الأم يدعى سقطا أو ولدا. وقيل: أراد أن الضال والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله وبأنه كتب عليهما في رحم أمهما أنه ضال أو مهتد. وقيل: فيه تقرير الجزاء وتحقيق الجزاء وتحقيق الحشر فإن العالم بأحوال المكلف وهو جنين القادر على إنشائه من الأرض أول مرة، عالم بأجزائه بعد التفرق، قادر على جمعه بعد التمزق. والعامل في «إذ» هو «اذكر» أو ما يدل عليه أَعْلَمُ أي يعلمكم وقت الإنشاء. والخطاب للموجودين وقت نزول الآية وللآخرين بالتبعية. ويجوز أن يكون الإنشاء من الأرض إشارة إلى خلق أبينا آدم. وقوله وَإِذْ أَنْتُمْ يكون خطابا لنا. قوله أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى قال بعض المفسرين: نزل في الوليد بن المغيرة جلس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع وعظه وأثرت الحكمة فيه تأثيرا قويا فقال له رجل: لم تترك دين آبائك؟ قال: أخاف. ثم قال له: لا تخف وأعطني كذا وأنا أتحمل عنك أوزارك فأعطاه ما ألزمه وتولى عن الوعظ واستماع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: نزل في عثمان بن عفان كان يعطي ماله عطاء فقال له أخوه من أمه عبد الله بن سعد بن أبي سرح. ويوشك أن يفنى مالك فأمسك فقال له عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا وإني أرجو أن يغفر الله لي بسبب العطاء. فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن الإعطاء ومعنى تولي ترك المركز يوم أحد فعاد عثمان إلى خير من ذلك. يقال: أكدى الحافر إذا لقيته كدية وهي أرض صلبة كالصخرة ونحوه «أجبل الحافر وأجبل الشاعر» إذا أفحم. ثم وبخه بأنه لا يعلم الغيب فكيف يعلم أن أوزاره محمولة عنه؟ وقيل: نزلت في أهل الكتاب وذلك أنه لما بين حال المشركين المعاندين شرع في قصة هؤلاء والمعنى: أفرأيت الذي تولى أي صار متوليا لكتاب الله وأعطى قليلا من الزمان حق الله فيه، ولما بلغ عصر محمد صلى الله عليه وسلم أمسك عن العمل به. قالوا: يؤيد هذا التفسير قوله أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى عينها أو جنسها وهو ما نبأهم به نبينا صلى الله عليه وسلم. وجمع الصحف إما لأن موسى له صحيفة وإبراهيم له صحيفة فذكر التثنية بصيغة الجمع، وإما لأن كل واحد منهما له صحف لقوله تعالى وَأَلْقَى الْأَلْواحَ [الأعراف: 15] وكل لوح صحيفة. وتقديم صحف موسى إما لأنها أقرب وأشهر وأكثر وإما لأنه رتب وصف إبراهيم عليه، وإما لحسن رعاية الفاصلة وقد راعى في آخر «سبح اسم ربك» هذا المعنى مع ترتيب الوجود. والتشديد في قوله وَفَّى للمبالغة في الوفاء، أو لأنه بمعنى وفر وأتم كقوله فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة: 124] وأطلق الفعل ليتناول كل وفاء وتوفية من ذلك تبليغه الرسالة واستقلاله بأعباء النبوة والصبر على ذبح الولد وعلى نار نمرود وقيامه بأضيافه بنفسه. يروى أنه كان يخرج كل يوم فيمشي فرسخا يطلب ضيفا فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم. وعن عطاء بن السائب: عهد أن لا يسأل مخلوقا فلما رمي في النار قال له جبريل وميكائيل: ألك حاجة؟ فقال: أما إليكم فلا. قالا: فسل الله. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. وروي في الكشاف عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار وهي صلاة الفجر والضحى. وروي «ألا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفى؟ كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى حين تظهرون» وعن الهزيل بن شرحبيل كان بين نوح وإبراهيم صلى الله عليه وسلم يؤخذ الرجل بجريرة غيره ويقتل الزوج بامرأته والعبد بسيده، وأول من خالفهم إبراهيم فلهذا قال سبحانه أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وهي مخففة من الثقيلة ولهذا لم ينصب الفعل وضمير الشأن محذوف ومحله الجر بدلا مما في صحف موسى، أو الرفع كأن قائلا قال: وما في صحف موسى وإبراهيم؟ فقيل: هو أنه لا تزر نفس من شأنها أن تزر وزر نفس أخرى إذا لم تحمل التي يتوقع منها ذلك فغيرها أولى بأن لا تحمل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 ثم عطف على قوله أَلَّا تَزِرُ قوله وَأَنْ لَيْسَ وحكمه حكم ما يتلوه من المعطوفات فيما مر. وفيه مباحث: الأول الإنسان عام وقيل: هو الكافر. وأورد عليه أن الله سبحانه قال لَيْسَ لِلْإِنْسانِ ولو أراد الكافر لقال «ليس على الإنسان» وهذا بالحقيقة غير وارد فإن اللام قد تستعمل في مثل هذا المعنى قال تعالى وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: 7] وورد على الأول أن الدعاء والصدقة والحج ينفع الميت كما ورد في الأخبار، وأيضا قال تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: 160] والأضعاف فوق ما سعى. وأجاب بعضهم بأن قوله لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى كان في شرع من تقدم ثم إنه تعالى نسخه في شريعتنا وجعل للإنسان ما سعى وما لم يسع. وقال المحققون: إن سعي غيره وكذا الأضعاف لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعي نفسه وهو أن يكون مؤمنا صالحا كان سعي غيره كأنه سعي نفسه. والثاني «ما» مصدرية والمضاف محذوف أي الأثواب أو جزاء سعيه. ويجوز أن تكون موصولة أي إلا الجزاء الذي سعى فيه. الثالث في صيغة المضي إشارة إلى أنه لا يفيد الإنسان إلا الذي قد حصل فيه ووجد، وأما مجرد النية مع التواني والتراخي فذلك مما لا اعتماد عليه ولعل ذلك من مكايد الشيطان يمنيه ويعده إلى أن يحل الأجل بغتة. قوله وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى إن كان من الرؤية فكقوله اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة: 105] وإن كان من الإراءة فالفائدة في إراءته وعرضه عليه أن يفرح به هو ويحزن الكافر والله قادر على إعادة كل معدوم عرضا كان أو جوهرا، والمراد أن يريه الله إياه على صورة جميلة إن كان عملا صالحا وبالضد إن كان بالضد. ويجوز أن يكون مجازا عن الثواب كما يقال «سترى إحسانك عند الملك» أي جزاءه إلا أن القول الأول أقوى لقوله ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى اللهم إلا أن يراد تراخي الرتبة والفائدة تعود إلى الوصف بالأوفى وهو الرؤية التي هي أوفى من كل واف أي يجزى العبد بسعيه الجزاء الأتم. وجوز أن يكون الضمير للجزاء ثم فسره بقوله الْجَزاءَ الْأَوْفى وأبدل عنه كقوله وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء: 3] ومن لطائف الآية أنه قال في حق المسيء أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ولا يلزم منه أن يبقى الوزر على المذنب بل يجوز أن يسقط عنه بالمحو والعفو، ولو قال «كل وازرة تزر وزر نفسها» لم يكن بد من بقاء وزرها عليها. وقال في حق المحسن «ليس له ما سعى» ولم يقل «ليس له ما لم يسع» إذ العبارة الثانية لا يلزمها أن له ما سعى، والعبارة الأولى يلزمها ذلك لأنها في قوة كلامين إثبات ونفي والحاصل أنه قال في حق المسيء بعبارة لا تقطع رجاءه، وفي حق المحسن بعبارة توجب رجاءه كل ذلك لأن رحمته سبقت غضبه. قوله وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى المشهور أن فيه بيان المعاد كقوله عز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 من قائل وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران: 28] أي للناس بين يدي الله وقوف وفيه بيان وقت الجزاء. وقد يقال: المراد به التوحيد وهو تأويل أهل العرفان. والحكماء يستدلون به على وجود الصانع فإن الممكن لا بد أن ينتهي إلى الواجب. وقيل: أراد أن البحث والإدراك ينتهي عنده كما قيل: إذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا ذكر الرب فانتهوا» والخطاب عام لكل سامع مكلف وفيه تهديد للمسيء ووعد للمحسن: وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه تسلية له. ثم بين غاية قدرته وهي إيجاده الضدين الضحك والبكاء والإماتة والإحياء في شخص واحد، وكذا الذكورة والأنوثة في مادة واحدة هي النطفة نطفت إذا تمنى تدفق في الرحم. يقال: منى وأمنى. وقال الأخفش: تخلق والمنى والتقدير وفيه إبطال قول الطبيعيين أن مبدأ الضحك قوة التعجب، ومبدأ البكاء رقة القلب، وإن الحياة مستندة إلى الطبيعة كالنبات، والموت أمر ضروري وهو تداعي الأجزاء العنصرية إلى الانفكاك بعد اجتماعها على سبيل الاتفاق أو لاقتضاء سبب سماوي من اتصال أو انفصال وذلك أن انتهاء كل ممكن إلى الواجب واجب. قوله أَماتَ وَأَحْيا إما لأجل الفاصلة أو لأنه اعتبر حالة كون الإنسان نطفة ميتة. قال الأطباء: الذكر أسخن وأجف والأنثى أبرد وأرطب. وقالوا في نبات شعر الرجل: إن الشعور تتكون من بخار دخاني منجذب إلى المسام فإذا كانت المسام في غاية الرطوبة والتحلل كما في مزاج الصبي والمرأة، لا ينبت الشعر لخروج تلك الأدخنة من المسام الرطبة بسهولة قبل أن يتكون شعرا. وإذا كانت في غاية اليبوسة والتكاثف لم ينبت لعسر خروجه من المخرج الضيق وإنما يندفع كثرة تلك الأبخرة إلى الرأس حتى رأس المرأة والصبي لأنه مخلوق كقبة فوق الأبخرة والأدخنة فيتصاعد إليها. وأما في الرجل فيندفع إلى صدره كثيرا لحرارة القلب. وإلى آلات التناسل لحرارة الشهوة، وإلى اللحيين لكثرة الحرارة بسبب الأكل والكلام ومع حرارة الأبخرة، ومن شأن الحرارة جذب الرطوبة كجذب السراج الزيت. هذا أقوى ما قالوا في هذا الباب. ويرد عليه أنه ما السبب لتلازم شعر اللحية وآلة التناسل فإنها لو قطعت لم تنبت اللحية، ولو سلم التلازم من حيث إن حرارة الخصيان تقل بسبب قطع آلة الشهوة فلا بد أن يعترفوا بانتهاء جميع الممكنات إلى الواجب بالذات. واعلم أنه سبحانه في هذه الآية وسط الفصل بين الاسم والخبر حيث كان توهم الحملية فيه أكثر وترك الفصل حيث لم يكن كذلك. ففي آيات الضحك والبكاء والإماتة والإحياء وسط الفصل للتوهمات المذكورة حتى قال نمرود أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 258] وأما خلق الذكر والأنثى فلم يتوهم أحد أنه بفعل المخلوقين فلم يؤكد بالفصل وعلى هذا القياس قوله وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى ظاهره وجوب وقوع الحشر في الحكمة الإلهية للمجازاة على الإحسان والإساءة وقال في التفسير الكبير: هو كقوله ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14] أي بعد خلقته ذكرا وأنثى نفخ فيه الروح الإنساني ثم أغناه بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره، ثم أقناه بالكسب بعد كبره أي أعطاه القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك، وبالجملة فالإغناء بكل ما تدفع به الحاجة والإقناء بما زاد عليه. وإنما وسط الفصل لأن كثيرا من الناس يزعم أن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده، فمن كسب استغنى ومن كسل افتقر. وذهب بعضهم إلى أنه بالبخت أو النجوم فقال ردا عليهم وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى وهما شعريان شامية ويمانية وهذه أنورهما. وخصت بالذكر لأن أبا كبشة أحد أجداد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أمه قال: لا أرى شمسا ولا قمرا ولا نجما تقطع السماء عرضا غيرها فليس شيء مثلها فعبدها وعبدتها خزاعة فخالفوا قريشا في عبادة الأوثان. وكانت قريش يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم «أبو كبشة» تشبيها له لمخالفته إياهم في دينهم. وحين ذكر أنه أغنى وأقنى وذلك كان بفضل المولى لا بعطاء الشعرى، ذكرهم حال الأقدمين الهلكى. وعاد الأولى قوم هود والأخرى، إرم ميزوا عن قوم كانوا بمكة. وقيل: أراد التقدم في الدنيا وأنهم كانوا أشرافا قوله وَثَمُودَ عطف على عاداً أي ما رحم عليهم. ومن المفسرين من قال فما أبقى أي ما ترك أحدا منهم كقوله فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحاقة: 8] وبه تمسك الحجاج على من زعم أن ثقيفا من ثمود. وإنما وصف قوم نوح بأنهم كانوا هم أظلم وأطغى فبالغ بتوسيط الفصل وبناء التفضيل لأن نوحا عليه السلام كان أول الرسل إلى أهل الأرض، وكان قومه أول من سن التكذيب وإيذاء النبي والبادي أظلم، ومن سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها. ولأنهم كانوا مجاوزين حد الاعتدال يضربون نبيهم حتى لم يربه حراك وينفرون عنه الناس ويخوفون صبيانهم وما نجع فيهم وعظه ألف سنة إلا خمسين عاما. وليس قوله إِنَّهُمْ كانُوا تعليلا للإهلاك حتى يرد عليه أن غيرهم من الظالمين والطاغين لا يلزم أن يهلكوا وإنما هي جملة معترضة بيانا لشدة طغيانهم وفرط ظلمهم. وَالْمُؤْتَفِكَةَ يعني قريات قوم لوط لأنها ائتفكت بأهلها أي انقلبت وقد مر في هود أَهْوى أي رفعها إلى السماء على جناح جبريل فأسقطها إلى الأرض فَغَشَّاها ما غَشَّى من الحجارة المسومة وفيه تهويل وتفخيم لما صب عليهم من العذاب. وجوز أن يكون «ما» فاعلا كقوله وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: 5] هذا كله حكاية ما في الصحف إلا فيمن قرأ وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى بالكسر على الابتداء وكذا ما بعده أما قوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى فقد قيل: هو أيضا مما في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 الصحف وقيل: هو ابتداء كلام، والخطاب لكل سامع ولرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] والمراد أنه لم يبق فيها إمكان الشك، وقد عد نعما ونقما وجعل كلها آلاء لأن النقم أيضا نعم إن أراد أن يعتبر. ويحتمل أن يقال لما عد نعمه على الإنسان من خلقه وإغنائه وإقنائه. ثم ذكر أنه أهلك من كفر بها، وبخ الإنسان على جحد شيء من نعمه فيصيبه مثل ما أصاب المتمارين: أو يقال: لما حكى الإهلاك قال للشاك: أنت ما أصابك الذي أصابهم وذلك بحفظ الله إياك فبأي آلاء ربك تتمارى وسيجيء له مزيد بيان في سورة الرحمن هذا القرآن أو الرسول نَذِيرٌ أي إنذار أو منذر من جنس الإنذارات أو المنذرين. وقال الْأُولى على تأويل الجماعة. وحين فرغ من بيان التوحيد والرسالة ختم السورة بذكر اقتراب الحشر فقال أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي قربت الموصوفة بالقرب في قوله اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء: 1] وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى: 17] وفيه تنبيه على أن قرب الساعة يزداد كل يوم وأنها تكاد تقوم لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ نفس كاشِفَةٌ للتأنيث كما مر، أو للمبالغة أي لا أحد يكشف حقيقتها، أو هي مصدر كالعافية، و «من» زائدة والتقدير ليس لها كاشفة دون الله، ويحتمل أن يراد ليس لها في الوجود نفس تكشف عنها من غير الله بل إنما يكشفها من عند الله ومن قبل علمه وإخباره. ثم وبخهم على التعجب من القرآن ومن حديث القيامة وضحكهم من استهزاء وإنكارا. وفي قوله وَلا تَبْكُونَ إلى آخره تنبيه على أن البكاء والخشوع وحضور القلب حق عليهم عند سماع القرآن كما قال إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا [مريم: 57] والسمود الغفلة وقد يكون مع اللهو. وعن مجاهد: كانوا يمرون بالنبي صلى الله عليه وسلم غضابا مبرطمين. وقال: البرطمة الإعراض ثم إنهم كانوا أنصفوا من أنفسهم وقالوا: لا نعجب ولا نضحك ولا نسمد بل نبكي ونخشع فلا جرم قال فَاسْجُدُوا أي إذا اعترفتم لله بالعبودية فاخضعوا له وأقيموا وظائف العبادة. وقد مر في سورة الحج في قوله أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الآية: 52] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة في الصلاة ثم سجد فسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس وذكرنا سببه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 (سورة القمر) (وهي مكية حروفها ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون كلماتها ثلاثمائة واثنتان وأربعون آياتها خمس وخمسون) [سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 55] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 القراآت مُسْتَقِرٌّ بالجر: يزيد الداعي إلى الداعي بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن كثير غير ابن فليح وزمعة وأفق أبو عمرو وأبو جعفر ونافع غير قالون في الوصل فيهما بالياء يَدْعُ الدَّاعِ بغير ياء في الحالين إِلَى الدَّاعِ في الوصل: قالون. الباقون: بغير ياء في الحالين شيء نكر بسكون الكاف: ابن كثير خاشعا بالألف: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف. الآخرون خُشَّعاً كركع. ففتحنا بالتشديد: ابن عامر ويزيد وسهل ويعقوب وفجرنا بالتخفيف: أبو زيد عن المفضل ونذري وما بعده بالياء في الحالين: يعقوب وأفق ورش وسهل وعباس في الوصل. أو لقي مثل أو «نبئكم» ستعلمون على الخطاب: ابن عامر وحمزة سنهزم بالنون الجمع بالنصب: روح وزيد عن يعقوب. الوقوف الْقَمَرُ هـ مُسْتَمِرٌّ هـ مُسْتَقِرٌّ هـ مُزْدَجَرٌ هـ لا بناء على أن قوله حِكْمَةٌ بدل من «ما» أو من مُزْدَجَرٌ النُّذُرُ هـ لا للعطف مع اتصاله المعنى عَنْهُمْ م لأنه لو وصل لأوهم أن الظرف متصل به وليس كذلك بل هو ظرف يَخْرُجُونَ نُكُرٍ هـ لا لاتصال الحال بالظرف من قبل اتحاد عاملهما مُنْتَشِرٌ هـ لا لأن مُهْطِعِينَ حال بعد حال الدَّاعِ ط عَسِرٌ هـ وَازْدُجِرَ هـ فَانْتَصِرْ هـ مُنْهَمِرٍ هـ ز للعطف مع اتحاد مقصود الكلام قُدِرَ هـ ج للعارض من الجملتين المتفقتين وللآية مع احتمال الحال أي وقد حملناه وَدُسُرٍ هـ لا لأن تَجْرِي صفة لها بِأَعْيُنِنا ج لأن جزاء مفعول له أو مصدر لفعل محذوف كُفِرَ هـ مُدَّكِرٍ هـ وَنُذُرِ هـ مُدَّكِرٍ هـ وَنُذُرِ هـ مُسْتَمِرٍّ هـ لا لأن ما بعده صفة الناس لا لأن كَأَنَّهُمْ حال مُنْقَعِرٍ هـ وَنُذُرِ هـ مُدَّكِرٍ هـ بِالنُّذُرِ هـ نَتَّبِعُهُ لا لتعلق «إذا» بها وَسُعُرٍ هـ أَشِرٌ هـ الْأَشِرُ هـ وَاصْطَبِرْ هـ لا للعطف بَيْنَهُمْ ج لأن كل مبتدأ مع أن الجملة من بيان ما تقدم مُحْتَضَرٌ هـ فَعَقَرَ هـ وَنُذُرِ هـ الْمُحْتَظِرِ هـ مُدَّكِرٍ هـ بِالنُّذُرِ هـ لُوطٍ ط الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 لأن الجملة لا تصلح صفة للمعرفة بِسَحَرٍ هـ لا عِنْدِنا ط شَكَرَ هـ بِالنُّذُرِ هـ وَنُذُرِ هـ مُسْتَقِرٌّ هـ ج للفاء أي فقيل لهم ذقوا وَنُذُرِ هـ مُدَّكِرٍ هـ النُّذُرُ هـ ج لاتصال المعنى بلا عطف مُقْتَدِرٍ هـ فِي الزُّبُرِ هـ ج لأن ما بعده يصلح استفهام إنكار مستأنف ويصلح بدلا عن «أم» قبلة مُنْتَصِرٌ هـ الدُّبُرَ هـ وَأَمَرُّ هـ وَسُعُرٍ ط بناء على أن يَوْمَ ليس ظرفا لضلال وإنما هو ظرف لمحذوف أي يقال لهم ذقوا وُجُوهِهِمْ ط سَقَرَ هـ بِقَدَرٍ هـ بِالْبَصَرِ ج مُدَّكِرٍ هـ الزُّبُرِ هـ مُسْتَطَرٌ هـ وَنَهَرٍ هـ لا لأن ما بعده بدل مُقْتَدِرٍ هـ. التفسير: أول هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [النجم: 57] إلا أنه ذكر هاهنا دليلا على الاقتراب وهو قوله وَانْشَقَّ الْقَمَرُ في الصحيحين عن أنس أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر مرتين. وعن ابن عباس: انفاق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت. وقال ابن مسعود: رأيت حراء بين فلقتي القمر. وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم صلى الله عليه وسلم هذا قول أكثر المفسرين. وعن بعضهم أن المراد سينشق القمر وصيغة الماضي على عادة إخبار الله.، وذلك أن انشقاق القمر أمر عظيم الوقع في النفوس فكان ينبغي أن يبلغ وقوعه حد التواتر وليس كذلك. وأجيب بأن الناقلين لعلهم اكتفوا بإعجاز القرآن عن تشهير سائر المعجزات بحيث يبلغ التواتر. وأيضا إنه سبحانه جعل انشقاق القمر آية من الآيات لرسوله ولو كانت مجرد علامة القيامة لم يكن معجزة له كما لم يكن خروج دابة الأرض وطلوع الشمس من المغرب وغيرهما معجزات له، نعم كلها مشتركة في نوع آخر من الإعجاز وهو الإخبار عن الغيوب. وزعم بعض أهل التنجيم أن ذلك كان حالة شبه الخسوف ذهب بعض جرم القمر عن البصر وظهر في الجو شيء مثل نصف جرم القمر نحن نقول: إخبار الصادق بأن يتمسك به أولى من قول الفلسفي. هذا مع أن استدلالهم على امتناع الخرق في السماويات لا يتم كما بينا في الحكمة. وكيف يدل انشقاق القمر على اقتراب الساعة نقول: من جهة إن ذلك يدل على جواز انخراق السماويات وخرابها خلاف ما زعمه منكرو الحشر من الفلاسفة وغيرهم. ومن هاهنا ظن بعضهم وإليه ميل الإمام فخر الدين الرازي أن المراد باقتراب الساعة ليس هو القرب الزماني وإنما المراد قربها في العقول وفي الأذهان كأنه لم يبق بعد ظهور هذه الآية للمنكر مجال. واستعمال لفظ الاقتراب هاهنا مع أنه مقطوع به كاستعمال «لعل» في قوله لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الأحزاب: 63] والأمر عند الله معلوم. قال: وإنما ذهبنا إلى هذا التأويل لئلا يبقى للكافر مجال الجدال فإنه قد مضى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 قرب سبعمائة سنة ولم تقم الساعة ولا يصح إطلاق لفظ القرب على مثل هذا الزمان. والجواب أن كل ما هو آت قريب وزمان العالم زمان مديد والباقي بالنسبة إلى الماضي شيء يسير قال أهل اللغة: في «افتعل» مزيد تشجم ومبالغة فمعنى اقترب دنا دنوا قريبا، وكذلك اقتدر أبلغ من قدر. ثم بين أن ظهور آيات الله لا يؤثر فيهم بل يزيد في عنادهم وتمردهم حتى سموها سحرا مستمرا أي دائما مطردا كأنهم قابلوا ترادف الآيات وتتابع المعجزات باستمرار السحر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي كل أوان بمعجزة قولية أو فعلية سماوية أو أرضية. وقيل: هو من قولهم «حبل مرير الفتل» من المرة وهي الشدة أي سحر قوي محكم. وقيل: من المرارة يقال: استمر الشيء إذا اشتد مراراته أي سحر مستبشع مر في مذاقنا. وقيل: مستمر أي مار ذاهب زائل عما قريب. عللوا أنفسهم بالأماني الفارغة فخيب الله آمالهم بإعلاء الدين وتكامل قوته كل يوم. والظاهر أن قوله وَإِنْ يَرَوْا إلى آخر الآية. جملة معترضة بيانا لما اعتادوه عند رؤية الآيات. وقوله وَكَذَّبُوا عطف على قوله اقْتَرَبَتِ كأنهم قابلوا الاقتراب والانشقاق بالتكذيب واتباع الأهواء. والمعنى وكذبوا بالأخبار عن اقتراب الساعة وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ في أن محمد صلى الله عليه وسلم ساحر أو كاهن أو كذبوا بانشقاق القمر واتبعوا آراءهم الفاسدة في أنه خسوف عرض للقمر وكذلك كل آية وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ صائر إلى غاية وأن أمر محمد صلى الله عليه وسلم سيصير إلى حد يعرف منه حقيقته وكذلك أمرهم مستقر على حالة البطلان والخذلان. ومن قرأ بالجر فلعطف كُلُّ على الساعة أي اقتربت الساعة واقترب كل أمر مستقر وبين حاله. ثم أشار بقوله وَلَقَدْ جاءَهُمْ إلى أن كل ما هو لطف بالعباد قد وجد فأخبرهم الرسول باقتراب القيامة وأقام الدليل على صدقه ووعظهم بأحوال القرون الخالية وأهوال الدار الآخرة. وفي كل ذلك مُزْدَجَرٌ لهم أي ازدجار أو موضع ازدجار ومظنة ادكار وهو افتعال من الزجر قلبت التاء دالا. وقوله حِكْمَةٌ يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذا الترتيب في إرسال الرسول وإيضاح الدليل والإنذار بمن مضى من القرون حكمة بالغة كاملة قد بلغت منتهى البيان فما تغنى نفي أو استفهام إنكار معناه أنك أتيت بما عليك من دعوى النبوة مقرونة بالآية الباهرة وأنذرتهم بأحوال الأقدمين فلم يفدهم فأي غناء تغنى النذر أي الإنذارات بعد هذا فَتَوَلَّ عَنْهُمْ لعلمك أن الإنذار لا يفيد فيهم ولا يظهر الحق لهم إلى يوم البعث والنشور. والداعي إسرافيل أو جبريل ينادي إلى شيء منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثله وهو هول يوم القيامة. وتخصيص المدعوين بالكافرين من حيث إنهم هم الذين يكرهون ذلك اليوم من ضيق العطن قوله خاشِعاً حال من الخارجين والفعل للأبصار. وليس قراءة من قرأ خُشَّعاً على الجمع من باب «أكلوني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 البراغيث» كما ظن في الكشاف، ولكنه أحسن من ذلك ولهذا تواترت قراءته لعدم مشابهة الفعل صورة. تقول في السعة «قام رجل قعود غلمانه» وضعف «قاعدون» وضعف منه «يقعدون» لأن زيادة الحرف ليست في قوة زيادة الاسم. وجوز أن يكون في خُشَّعاً ضميرهم ويقع أبصارهم بدلا عنه. وخشوع الأبصار سكونها على هيئة لا تلتفت يمنة ويسرة كقوله لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [إبراهيم: 43] والأجداث القبور شبههم بالجراد المنتشر للكثرة والتموج والذهاب في كل مكان. وقيل: المنتشر مطاوع أنشره إذا أحياه فكأنهم جراد يتحرك من الأرض ويدب فيكون إشارة إلى كيفية خروجهم من الأجداث وضعف حالهم. ومعنى مهطعين مسرعين وقد مر في إبراهيم عليه السلام. ثم إنه سبحانه أعاد بعض الأنباء وقدم قصة نوح على عاد وفائدة، قوله فَكَذَّبُوا عَبْدَنا بعد قوله كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ هي فائدة التخصيص بعد التعميم أي كذبت الرسل أجمعين فلذلك كذبوا نوحا. ويجوز أن يكون المراد التكرير أي تكذيبا عقيب تكذيب، كلما مضى منهم قرن تبعه قرن آخر مكذب. وقوله عَبْدَنا تشريف وتنبيه على أنه هو الذي حقق المقصود من الخلق وقتئذ ولم يكن على وجه الأرض حينئذ عابد لله سواه فكذبوه وَقالُوا هو مَجْنُونٌ وازدجروه أي استقبلوه بالضرب والشتم وغير ذلك من الزواجر عن تبليغ ما أمر به. وجوز أن يكون من جملة قولهم أي قالوا ازدجرته الجن ومسته وذهبت بلبه فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ غلبني قومي بالإيذاء والتكذيب. وقيل: غلبتني نفسي بالدعاء عليهم حين أيست من إجابتهم لي فَانْتَصِرْ منهم فانتقم منهم لي أو لدينك روي أن الواحد من قومه كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشيا عليه فيفيق وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وأبواب السماء وفتحها حقيقة عند من يجوز لها أبوابا وفيها مياها. وعند أهل البحث والتدقيق هو مجاز عن كثرة انصباب الماء من ذلك الصوب كما يقال في المطر الوابل «جرت ميازيب السماء وفتحت أفواه القرب» . والباء للآلة نحو: فتحت الباب بالمفتاح. ونظيره قول القائل «يفتح الله لك بخير» . وفيه لطيفة هي جعل المقصود مقدما في الوجود والتقدير يفيض الله لك خيرا يأتي ويفتح لك الباب. ويجوز أن يراد فتحنا أبواب السماء مقرونة بِماءٍ مُنْهَمِرٍ منصب في كثرة وتتابع أربعين يوما. قال علماء البيان: قوله فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أبلغ من أن لو قال «وفجرنا عيون الأرض» أي جعلنا الأرض كلها كأنها عيون منفجرة نظيره وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4] وقد مر فَالْتَقَى الْماءُ أي جنسه يعني مياه السماء والأرض يؤيده قراءة من قرأ فالتقى الماءان عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي على حال قدرها الله عز وجل كيف شاء، أو على حال جاءت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 مقدرة متساوية أي قدر ماء السماء كقدر ماء الأرض، ولعله إشارة إلى أن ماء الأرض ينبع من العيون حتى إذا ارتفع وعلا لقيه ماء السماء. ويحتمل أن يقال: اجتمع الماء على أمر هلاكهم وهو مقدر في اللوح وذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ هي السفينة وهي من الصفات التي تؤدي مؤدى الموصوف فتنوب منابه. وهذا الإيجاز من فصيح الكلام وبديعه. والدسر المسامير جمع دسار من دسره إذا دفعه لأنه يدسر به منفذه. فعلنا كل ما ذكرنا من فتح أبواب السماء وغيره جَزاءً أو جزيناهم جزاء لِمَنْ كانَ كُفِرَ وهو نوح عليه السلام لأن وجود النبي صلى الله عليه وسلم نعمة من الله وتكذيبه كفرانها. يحكى أن رجلا قال للرشيد: الحمد لله عليك. فسئل عن معناه قال: أنت نعمة حمدت الله عليها. والضمير في تَرَكْناها للسفينة أو للفعلة كما مر في «العنكبوت» فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الآية: 15] والمدكر المعتبر وأصله «مذتكر» افتعال من الذكر والاستفهام فيه وفي قوله فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي إنذاراتي للتوبيخ والتخويف وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ سهلناه للادّكار والاتعاظ بسبب المواعظ الشافية والبيانات الوافية. وقيل: للحفظ والأول أنسب بالمقام. وإن روي أنه لم يكن شيء من كتب الله محفوظا على ظهر القلب سوى القرآن. سؤال: ما الحكمة في تكرير ما كرر في هذه السورة من الآي؟ والجواب أن فائدته تجديد التنبيه على الادكار والاتعاظ والتوقيف على تعذيب الأمم السالفة ليعتبروا بحالهم، وطالما قرعت العصا لذوي الحلوم وأصحاب النهي وهكذا حكم التكرير في سورة الرحمن عند عد كل نعمة، وفي سورة المرسلات عند عد كل آية لتكون مصورة للأذهان محفوظة في كل أوان. ونفس هذه القصص كم كررت في القرآن بعبارات مختلفة أوجز وأطنب لأن التكرير يوجب التقرير والتذكير ينبه الغافل على أن كل موضع مختص بمزيد فائدة لمن يعرف من غيره، وإنما كرر قوله فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ مرتين في قصة عاد لأن الاستفهام الأول أورده للبيان كما يقول المعلم لمن لا يعرف كيف المسألة الفلانية ليصير المسئول سائلا فيقول: كيف هي؟ فيقول المعلم: إنها كذا وكذا. والاستفهام الثاني للتوبيخ والتخويف. فأما في قصة ثمود فاقتصر على الأول للاختصار وفي قصة نوح اقتصر على الثاني لذلك. ولعله ذكر الاستفهامين معا في قصة عاد لفرط عتوهم وقولهم مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: 15] وقد مر في حم السجدة تفسير الصرصر والأيام النحسات. وإنما وحد هاهنا لأنه أراد مبدأ الأيام ووصفه بالمستمر أغنى عن جمعه أي استمر عليهم ودام حتى أهلكهم. قيل: استمر عليهم جميعا على كبيرهم وصغيرهم حتى لم يبق منهم نسمة. وقيل: المستمر الشديد المرارة. تَنْزِعُ النَّاسَ تقلعهم عن أماكنهم فتكبهم وتدق رقابهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ منقلع عن مغارسه. وفي هذا التشبيه إشارة إلى جثثهم الطوال العظام، ويجوز أن الريح كانت تقطع رؤوسهم فتبقى أجسادا بلا رؤوس كأعجاز النخل أصولا بلا فروع. قال النحويون: اسم الجنس الذي تميز واحده بالتاء جاز في وصفه التذكير كما في الآية، والتأنيث كما في قوله أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة: 7] هذا مع أن كلا من السورتين وردت على مقتضى الفواصل. قوله أَبَشَراً من باب ما أضمر عامله على شريطة التفسير وإنما أولى حرف الاستفهام ليعلم أن الإنكار لم يقع على مجرد الاتباع ولكنه وقع على اتباع البشر الموصوف وأنه من جهات إحداها كونه بشرا وذلك لزعمهم أن الرسول لا يكون بشرا. الثانية كونه منهم وفيه بيان قوة المماثلة، وفيه بيان مزيد استكبار أن يكون الواحد منهم مختصا بالنبوة مع أنهم أعرف بحاله. الثالثة كونه واحدا، أي كيف تتبع الأمة رجلا أو أرادوا أنه واحد من الآحاد دون الأشراف. والسعر النيران جميع سعير للمبالغة، أو لأن جهنم دركات، أو لدوام العذاب كأن يقول: إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وفي سعر فعكسوا عليه قائلين: إن اتبعناك كنا إذا كما تقول. وقيل: الضلال البعد عن الصواب، والسعر الجنون ومنه «ناقة مسعورة» وفي قوله أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا تصريح بما ذكرنا من أن واحدا منهم كيف اختص بالنبوة. وفي الإلقاء أيضا تعجب آخر منهم وذلك أن الإلقاء إنزال بسرعة كأنهم قالوا: الملك جسم والسماء بعيدة فكيف نزل في لحظة واحدة؟ أنكروا أصل الإلقاء ثم الإلقاء عليه من بينهم. والأشر البطر المتكبر أي حمله بطره وشطارته على ادعاء ما ليس له. ثم قال سبحانه تهديدا لهم ولأمثالهم سَيَعْلَمُونَ غَداً أي فيما يستقبل من الزمان هو وقت نزول العذاب أو يوم القيامة مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ بالتشديد أي الأبلغ في الشرارة. وحكى ابن الأنباري أن العرب تقول: هو أخير وأشر. وذلك أصل مرفوض. ومن قرأ ستعلمون على الخطاب فإما حكاية جواب صالح أو هو على طريقة الالتفات. ثم إنه تعالى خاطب صالحا بقوله إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ أي مخرجوها من الصخرة كما سألوا فتنة وامتحانا لهم. فَارْتَقِبْهُمْ وتبصر ما هم فاعلون بها وَاصْطَبِرْ على إيذائهم وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ أي مقسوم بَيْنَهُمْ خص العقلاء بالذكر تغليبا كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ فيه يوم لها ويوم لهم كما قال عز من قائل لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء: 155] وقد مر في «الشعراء» . وقال في الكشاف: محضور لهم وللناقة وفيه إبهام. وقيل: يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في شربها فَنادَوْا صاحِبَهُمْ وهو قدار نداء المستغيث وكان أشجع وأهجم على الأمور أو كان رئيسهم. فَتَعاطى فاجترأ على الأمر العظيم فتناول العقر وأحدثه بها أو تعاطى الناقة أو السيف أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 الأجر. والهشيم الشجر اليابس المتهشم أي المتكسر والمحتظر الذي يعمل الحظيرة، ووجه التشبيه أن ما يحتظر به ييبس بطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتكسر وأنهم صاروا موتى جاثمين ملقى بعضهم فوق بعض كالحطب الذي يكسر في الطرق والشوارع. ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم وقودا للجحيم كقوله كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً والحاصب الريح التي ترميهم بالحجارة وقد مرّ في «العنكبوت» . ولعل التذكير بتأويل العذاب. والسحر القطعة من الليل وهو السدس الآخر كما مر في «هود» و «الحجر» . وصرف لأنه نكرة وإذا أردت سحر يومك لم تصرفه. والظاهر أن الاستثناء من الضمير في عَلَيْهِمْ لأنه أقرب ولأنه المقصود. وجوز أن يكون استثناء من فاعل كذبت وهو بعيد نِعْمَةً مفعول له أي إنعاما. وقوله كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ أكثر المفسرين على أنه إشارة إلى أنه تعالى يصون من عذاب الدنيا كل من شكر نعمة الله بالطاعة والإيمان. وقيل: إنه وعد بثواب الآخرة أي كما نجيناهم من عذاب الدنيا ننعم عليهم يوم الحساب بالثواب. وحين أجمل قصتهم فصلها بعض التفصيل قائلا وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ أي لوط بَطْشَتَنا شدة أخذنا بالعذاب فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ فتشاكوا بالإنذارات وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ معناها قريب من المطالبة كما مر في «يوسف» . والضمير للقوم باعتبار البعض لأن بعضهم راودوه وكان غيرهم راضين بذلك فكانوا جميعا على مذهب واحد. فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ مسخناها وجعلناها مع الوجه صفحة ملساء لا يرى لها شق. وإنما قال في «يس» وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [الآية: 66] بزيادة حرف الجر لأنه أراد به إطباق الجفنين على العين وهو أمر كثير الوقوع قريب الإمكان بخلاف ما وقع للمراودين من قوم لوط فإنه أنذر وأبعد والكل بالإضافة إلى قدرة الله تعالى واحد، إلا أنه حين علق الطمس بالمشيئة ذكر ما هو أقرب إلى الوقوع كيلا يكون للمنكر مجال كثير. ونقل عن ابن عباس أن المراد بالطمس المنع عن الإدراك فما جعل على بصرهم شيئا غير أنهم دخلوا ولم يروا هناك شيئا. ولعل في هذا النقل خللا لأنه لا يناسب قوله عقيب ذكر الطمس فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي فقلت لهم على ألسنة الملائكة ذوقوا ألم عذابي وتبعة إنذاراتي. ثم حكى العذاب الذي عم الكل بقوله وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ ولقائل أن يسأل: مع الفائدة في قوله بُكْرَةً مع قوله صَبَّحَهُمْ والجواب أن صَبَّحَهُمْ يشمل من أول الصبح إلى آخر الإسفار وأنه تعالى وعدهم أول الصبح كما قال إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود: 81] فأراد بقوله بُكْرَةً تحقيق ذلك الوعد. ويمكن أن يقال: قد يذكر الوقت المبهم لبيان أن تعيين الوقت غير مقصود كما تقول: خرجنا في بعض الأوقات ولا فائدة فيه إلا قطع المسافة. فإنه ربما يقول السامع متى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 خرجتم فيحتاج إلى أن تقول في وقت كذا أو في وقت من الأوقات. فإذا قال من أول الأمر في وقت من الأوقات أشار إلى أن غرضه بيان الخروج لا تعيين وقته وبمثله أجيب عن قوله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] ويحتمل أن يقال: صَبَّحَهُمْ معناه قال لهم بكرة عموا صباحا وهو بطريق التهكم كقوله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ [آل عمران: 21] ويجوز أن يكون التصبيح بمعنى الإغاثة من قولهم «يا صباحاه» والعذاب المستقر الثابت الذي لا مدفع له أو الذي استقر عليهم ودام إلى الاستئصال الكلي أو إلى القيامة وما بعدها. قوله وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ يعني موسى وهارون وغيرهما وأنهما عرضا عليه ما أنذر به المرسلون وهو بمعنى الإنذارات بِآياتِنا كُلِّها هي الآيات التسع أو جميع معجزات الأنبياء عليهم السلام لأن تكذيب البعض تكذيب الكل العزيز المقتدر الغالب الذي لا يعجزه شيء. ثم خاطب كفار أهل مكة بقوله أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ المكذبين وهو استفهام إنكار لأن الأقدمين كانوا أكثر عددا وقوة وبطشا أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ الكتب المتقدمة أن من كفر منكم كان آمنا من سخط الله فأمنتم بتلك البراءة كما أن البيداء وهو من في يده قانون أصل الخراج إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ جمع مجتمع أمرنا مُنْتَصِرٌ منتقم عن أبي جهل أنه ضرب فرسه يوم بدر فتقدم في الصف فقال: نحن ننصر اليوم من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فنزلت سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي الأدبار. عن عكرمة: لما نزلت هذه الآية قال عمر: أي جمع يهزم؟ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ عرف تأويلها بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى من أنواع عذاب الدنيا أو أدهى الدواهي. والداهية اسم فاعل من دهاه أمر كذا إذا أصابه ويختص بأمر صعب كالحادثة والنازلة. وَأَمَرُّ من المرارة. وقيل: من المرور أي أدوم وأكثر مرورا. وقيل: من المرة الشدة. قوله إِنَّ الْمُجْرِمِينَ الآية. روى الواحدي في تفسيره بإسناده عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مجوس هذه الأمة القدرية» وهو المجرمون الذين سماهم الله في قوله إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ عن الحق في الدنيا وَسُعُرٍ وهو نيران في الآخرة أو في ضلال وجنون في الدنيا لا يهتدون ولا يعقلون. أو في ضلال وسعر في الآخرة لأنهم لا يجدون إلى مقصودهم وإلى الجنة سبيلا. والنيران ظاهر أنها في الآخرة، وسقر علم لجهنم من سقرته النار وصقرته إذا لوحته، والمشهور بناء على الحديث المذكور أن قوله إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ متعلق بما قبله كأنه قال: إن مس النار جزاء من أنكر هذا المعنى وهو منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر. قال النحويون: النصب في مثل هذا الصور لازم لئلا يلتبس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 المفسر بالصفة، وذلك أن النصب نص في المعنى المقصود وأما الرفع فيحتمل معنيين: أحدهما كل شيء فإنه مخلوق بقدر وهو يؤدي مؤدى النصب، والآخر كل شيء مخلوق لنا فإنه بقدر وهذا غير مقصود بل فاسد إذ يفهم منه أن شيئا من الأشياء غير مخلوق لله ليس بقدر والقدر التقدير أي كل شيء خلقناه مرتبا على وفق الحكمة أو مقدرا مكتوبا في اللوح ثابتا في سابق العلم الأزلي. واعلم أنه قد مر في هذا الكتاب أن الجبري يقول القدرية التي ذمها النبي صلى الله عليه وسلم هو المعتزلي الذي ينفي كون الطاعة والمعصية بتقدير الله. والمعتزلة تقول: الجبري الذي يدعي أن الزنا والسرقة وغيرهما من القبائح كلها بتقدير الله تعالى. وكذا حال السني لأنه وإن كان يثبت للعبد كسبا إلا أنه يسند الخير والشر إلى القضاء والقدر وقال بعض العلماء: إن كل واحد من الفريقين لا يدخل في اسم القدرية إلا إذا كان النافي نافيا لقدرة الله لا أن يقول: هو قادر على أن يجلىء العبد إلى الطاعة ولكن حكمته اقتضت بناء التكليف على الاختيار وإلا كان المثبت منكرا للتكليف وهم أهل الإباحة القائلين بأن الكل إذا كان بتقدير الله فلا فائدة في التكليف. ولعل وجه تشبيههم بالمجوس أنهم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم كالمجوس فيما بين الكفار المتقدمين فكما أن المجوس نوع من الكفرة أضعف شبهة وأشد مخالفة للعقل فكذلك القدرية في هذه الأمة وبهذا التأويل لا يلزم الجزم بأنهم من أهل النار، وأيضا لعل اسم القدرية لأهل الإثبات أولى منه لأهل النفي كما تقول: دهري لأنه يقول بالدهر والثنوية لإثباتهم إلهين اثنين أو نورا وظلمة. وقال بعضهم: هذا الاسم بأهل النفي أولى لأن الآية نزلت في منكري القدرة وهم المشركون القائلون بأن الحوادث كلها مستندة إلى اتصالات الكواكب وانصرافاتها فلا قدرة لله على شيء من ذلك. قوله وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ أي إلا كلمة واحدة وهي «كن» تأكيد لإثبات القدرة له وقد مر مثله في «النحل» . وقوله كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ تأكيد على تأكيد وهذا تمثيل وإلا فتكوينه وإيجاده عين مشيئته وأرادته. ومعنى الخلق والأمر أيضا تقدم مشتبعا في «الأعراف» ثم هددهم مرة أخرى بقوله وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي أشباهكم في الكفر من الأمم. ثم ذكر نوعا آخر من التهديد مع بيان كمال القدرة والعلم فقال وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ أي في صحف الحفظة. قال النحويون: هذا مما التزم فيه الرفع لأن النصب يكون نصا في معنى غير مقصود بل فاسد إذ يلزم منه أن يكون كُلُّ شَيْءٍ مفعولا فِي الزُّبُرِ وهذا معنى غير مستقيم كما ترى. وأما الرفع فيحتمل معنيين. أحدهما صحيح مقصود وهو أن يقدر قوله فعلوهن صفة ل شَيْءٍ والظرف خبر أي كل شيء مفعول للناس فإنه في الزبر. والآخر أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 تقدر الجملة خبر أو يبقى الظرف لغوا فيؤدي الكلام حينئذ مؤدي النصب، ولا ريب أن الوجه الذي يصح المعنى فيه على أحد الاحتمالين أولى من الذي يكون نصا في المعنى الفاسد. ثم أكد المعنى المذكور بقوله وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ من الأعمال بل مما وجد ويوجد مُسْتَطَرٌ أي مسطور في اللوح. ثم ختم السورة بوعد المتقين. والنهر جنس أريد به الأنهار اكتفى به للفاصلة. ولما سلف مثله مرارا كقوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الذاريات: 15] وقيل: معناه السعة والضياء من النهار فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ وفي مكان مرضيّ من الجنة مقربين عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ لا يكتنه كنه عظمته واقتداره نظيره قول القائل «فلان في بلدة كذا في دار كذا مقرب عند الملك» . ويحتمل أن يكون الظرف صفة مَقْعَدِ صِدْقٍ كما يقال «قليل عند أمين خير من كثير عند خائن» . قال أهل اللغة: القعود يدل على المكث بخلاف الجلوس ولهذا يقال للمؤمن «مقعد دون مجلس» ومنه قواعد البيت، وكذا في سائر تقاليبه من نحو وقع أي لزق بالأرض وعقد. والإضافة في مَقْعَدِ صِدْقٍ كهي في قولك «رجل صدق» أي رجل صادق في الرجولية كامل فيها. ويجوز أن يكون سبب الإضافة أن الصادق قد أخبر عنه وهو الله ورسوله، أو الصادق اعتقد فيه وهو المكلف، أو يراد مقعد لا يوجد فيه كذب فإن من وصل إلى الله استحال عليه إلا الصدق وهو تبارك وتعالى أعلم وأجل وأكرم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 (سورة الرحمن) (مكية إلا قوله) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية. حروفها ألف وثلاثمائة وستة وثلاثون كلماتها ثلاثمائة وإحدى وخمسون آياتها ثمان وسبعون) [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 78] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 القراآت: والحب ذا العصف والريحان بالنصب فيهما: ابن عامر. والحب ذو العصف بالرفع فيهما والريحان بالجر: حمزة وعلي وخلف. الباقون: برفع الريحان يخرج مجهولا من الإخراج: أبو جعفر ونافع وأبو عمر وسهل ويعقوب اللُّؤْلُؤُ كنظائره والْجَوارِ ممالة: قتيبة ونصير وأبو عمرو وخلف طريق ابن عبدوس. المنشآت بكسر الشين. حمزة ويحيى طريق الصر يعيني سيفرغ بالياء: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بالنون على طريق الالتفات أيه الثقلان بضم الهاء مثل أيه المؤمنون [النور: 31] أيه الساحر [الزخرف: 49] شواظ بكسر الشين: ابن كثير ونحاس. بالجر: ابن كثير وأبو عمرو وسهل لم يطمثهن بضم الميم في إحداهما تخيرا: علي. وروى أبو الحرث عنه في الأولى بالضم مِنْ إِسْتَبْرَقٍ بنقل حركة الهمزة إلى النون: رويس وورش والشموني وحمزة في الوقف ذُو الْجَلالِ بالرفع: ابن عامر. الوقوف: الرَّحْمنُ هـ لا الْقُرْآنَ هـ ط الْإِنْسانَ هـ الْبَيانَ هـ بِحُسْبانٍ هـ ص لعطف الجملتين المتفقتين يَسْجُدانِ هـ الْمِيزانَ هـ لا لتعلق أن الْمِيزانِ هـ لِلْأَنامِ هـ لا لأن الجملة بعدها حال فاكِهَةٌ ص الْأَكْمامِ هـ ص وَالرَّيْحانُ هـ ج لابتداء الاستفهام مع دخول فاء التعقيب، والوقف أجوز لأن الابتداء بالاستفهام مبالغة في التنبيه وكذلك في جميع السورة تُكَذِّبانِ هـ كَالْفَخَّارِ هـ لا نارٍ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 الْمَغْرِبَيْنِ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ يَلْتَقِيانِ هـ لا لأن ما بعده حال من الضمير في يَلْتَقِيانِ ولا يَبْغِيانِ هـ حال بعد حال تُكَذِّبانِ هـ وَالْمَرْجانُ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ كَالْأَعْلامِ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ فانٍ هـ ج لعطف الجملتين المختلفتين والأولى الوصل لأن الكلام الأول يتم بالثاني. وَالْإِكْرامِ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ وَالْأَرْضِ ط شَأْنٍ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ الثَّقَلانِ هـ تُكَذِّبانِ هـ فَانْفُذُوا هـ ط بِسُلْطانٍ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ فَلا تَنْتَصِرانِ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ كَالدِّهانِ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ وَلا جَانٌّ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ وَالْأَقْدامِ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ م لأنه لو وصل صار ما بعده حالا من المجرمين وليس كذلك آنٍ ج تُكَذِّبانِ هـ جَنَّتانِ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ لا لأن قوله ذَواتا صفة أَفْنانٍ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ تَجْرِيانِ هـ تُكَذِّبانِ هـ زَوْجانِ هـ تُكَذِّبانِ هـ ج لأن مُتَّكِئِينَ حال إلا أن الكلام قد تطاول مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ط دانٍ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ الطَّرْفِ لا لأن لَمْ يَطْمِثْهُنَّ حال عنهن جَانٌّ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ وَالْمَرْجانُ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ إِلَّا الْإِحْسانُ ج تُكَذِّبانِ هـ جَنَّتانِ هـ تُكَذِّبانِ هـ مُدْهامَّتانِ هـ تُكَذِّبانِ هـ ضَّاخَتانِ هـ تُكَذِّبانِ هـ وَرُمَّانٌ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ ج حِسانٌ هـ تُكَذِّبانِ هـ فِي الْخِيامِ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ جَانٌّ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ ج حِسانٍ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ وَالْإِكْرامِ هـ. التفسير: افتتح السورة المتقدمة بذكر معجزة تدل على الهيبة والعظمة وهي انشقاق القمر. وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدل على الرحمة والعناية وهي القرآن الكريم الذي فيه شفاء القلوب والطهارة عن الذنوب، وهو أسبق الآلاء قدما وأجل النعماء منصبا. وبين السورتين مناسبة أخرى من جهة أنه ذكر هناك ما يدل على الانتقام والغضب كقوله فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ [القمر: 39] وقوله فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ [القمر: 21] وذكر في هذه السورة بعد تعداد كل نعمة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مرة بعد مرة وتذكير النعمة على نعمة لأنها مما توقظ الوسنان وتنبه أهل الغفلة والنسيان. قال جار الله الرَّحْمنُ مبتدأ والأفعال بعده مع ضمائرها أخبار مترادفة، وإخلاؤها عن العاطف إما لأن العائد قام مقام الصدر وإما لمجيئها على نمط التعديد كما تقول: زيد أغناك بعد فقر أعزك بعد ذل كثرك بعد قلة فعل بك ما لم يفعله أحد بأحد فما تنكر من إحسانه. قلت: فعلى هذا لو لم يوقف على الْقُرْآنَ جاز. وقيل: الرحمن خبر مبتدأ أي هو الرحمن. ثم استأنف قائلا عَلَّمَ الْقُرْآنَ وما مفعوله الأول؟ قيل: هو متعد إلى واحد والمعنى جعل القرآن علامة وآية للنبوة. وقيل: هو جبرائيل أي علم جبرائيل القرآن حتى نزل به على محمد. وقيل: علم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 محمدا أو الإنسان القرآن كما يليق بفهمهم على حسب استعدادهم ولعله يلزم من الوجه الأخير شبه تكرار من قوله خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ فالأول إشارة إلى قواه البدنية والثاني إشارة إلى قواه النطقية، ويلزم منه أيضا أن يكون التعليم قبل الخلق ظاهرا إلا أن يكون تفصيلا لما أجمله. وقد نقل عن ابن عباس أن الإنسان آدم علمه الأسماء كلها، أو محمد صلى الله عليه وسلم. والبيان القرآن فيه بيان ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة. قوله الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أي بحسبانه استغنى عن الوصل اللفظي بالربط المعنوي لرعاية الفاصلة يعني أنهما يجريان في بروجهما ومنازلهما بحساب معلوم وَالنَّجْمُ وهو النبات بغير ساق وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ بالانقياد له. وإنما وسط العاطف بين هاتين الجملتين لما بين العلوي والسفلي من تناسب التقابل، ولما بين الحسبان والسجود من تناسب التجانس، وذلك لأن سيرهما بحساب مقدّر مقرر وهو من جنس الانقياد لأمر الله وَالسَّماءَ رَفَعَها قال في الكشاف: أي خلقها مرفوعة مسموكة حيث جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه. قلت: إنه حمل الرفع على ارتفاع المنزلة ولعل المراد به الرفع الحسي ليطابق قوله وَالْأَرْضَ وَضَعَها أي خفضها في مركز العالم مدحوة محاطة بالماء. نعم لو جعل وضع الأرض عبارة عن ذلها وتسخيرها كقوله هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا [الملك: 15] صح تفسيره وإنما وسط قوله وَوَضَعَ الْمِيزانَ بين رفع السماء ووضع الأرض لأنه لا ينتفع بالميزان إلا إذا كان معلقا في الهواء بين الأرض والسماء وهذا أمر حسي، وأما العقلي فهو أنه بدأ أولا من النعم بذكر القرآن الذي هو بيان الشرائع والتكاليف، ثم أتبعه ذكر كيفية خلق الإنسان وقواه النفسانية وما يتم به معاشه من السماويات والأرضيات، ثم ذكر أنه خلق لأجلهم آلة الوزن بها يقيمون العدالة في ومعاملاتهم وأمور تمدنهم فصار كما مر في حم عسق اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ الشورى: 1] وكما يجيء في الحديد وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ [الآية: 25] وأن في قوله أَلَّا تَطْغَوْا مفسرة أو ناصبة أي لأن لا تتجاوز حد الاعتدال في شأن هذه الآية أي في شأن الوزن. ثم أكد بقوله إثباتا ونفيا وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ قوّموه أو قوموا لسان الميزان بالعدل وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أي لا تجعلوها سببا للخسران والتطفيف. وفي تكرير لفظ الميزان بل في ورود هذه الجمل المتقاربة الدلالة مكررة إشارة إلى الاهتمام بأمر العدل وندب إليه وتحريض عليه. وقيل: الأول ميزان الدنيا والثاني ميزان الآخرة والثالث ميزان العقل. وقيل: نزلت متفرقة فاقتضى الإظهار. قوله لِلْأَنامِ أي لكل ما على ظهر الأرض من دابة. وقيل: للإنسان. وخص بالذكر لشرفه ولأن الباقي خلق لأجله فِيها فاكِهَةٌ التنوين للتعظيم وهي كل ما يتفكه به. وقد أفرد النخل بالذكر للتفضيل ولأنه فاكهة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 غذائية. والأكمام جمع كم وهو وعاء الثمر. ثم ذكر أقوات البهائم والإنسان قائلا وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وهو ورق الزرع أو التبن. وقال الفراء والسدي: وهو أول ما ينبت من الزرع وَالرَّيْحانُ الورق. ومن رفع فعلى حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي وذو الريحان. وقال الحسن وابن زيد. على هذه القراءة وهو ريحانكم الذي يشم. ثم خاطب الجن والإنس بقوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ عن جابر بن عبد الله قال: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: مالي أراكم سكوتا؟ للجن كانوا أحسن منكم ردا ما قرأت عليهم هذه الآية مرة إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد. قال جار الله: الخطاب في رَبِّكُما للثقلين بدلالة الأنام عليهما قلت: ربما يصرح به قوله أيها الثقلان سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض أو بما سيذكر عقيبه من قوله خَلَقَ الْإِنْسانَ والجان خلقناه. وقيل: التكذيب إما باللسان والقلب معا وإما بالقلب دون اللسان كالمنافقين فكأنه قال: فيا أيها المكذبان بأي آلاء ربكما تكذبان. وقيل: أراد فيا أيها المكذبان بالدلائل السمعية والعقلية أو بدلائل الآفاق ودلائل الأنفس، والاستفهام للتوبيخ والزجر. قوله خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ قد مر في سورة «الحجر» إلا أنه شبهه هاهنا بالفخار وهو الخزف بيانا لغاية يبس طينته وكزازته، والتركيب يدل عليه ومنه الفخور ولولا يبس دماغه لم يفخر ومنه الفرخ لأنه تنشق البيضة عنه. وكل يابس عرضة للتشقق ومنه الخزف لغاية يبوسة مزاجه. والجان أبو الجن. وقيل: هو إبليس. والمارج اللهب الصافي الذي لا دخان فيه من مرج إذا اضطرب ولعلها المخلوطة بسواد النار من مرج الشيء اختلط. وقوله مِنْ نارٍ بيان لمارج كأنه قيل: من صاف من نار. ويجوز أن يكون نارا مخصوصة فيكون صفة رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ يعني مشرق الصيف ومشرق الشتاء، والأول مطلع أول السرطان، والثاني مطلع أول الجدي. هذا في بلادنا الشمالية والحال في الجنوبية بالعكس. قوله مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ وقد مر في «الفرقان» معناه أرسلهما ملحا وعذبا متلاقيين بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة يَخْرُجُ مِنْهُمَا أي من كل منهما. وقال في الكشاف: أعاد الضمير إلى البحرين لاتحادهما فالخارج من العذب كأنه خارج من الملح تقول: خرجت من البلد ولم تخرج إلا من محلة بل من دار. وقال أبو علي الفارسي: أراد من أحدهما فحذف المضاف. قلت: ونحن قد سمعنا أن الأصداف تخرج من البحر المالح ومن الأمكنة التي فيها عيون عذبة في مواضع من البحر الملح ويؤيده قوله سبحانه في «فاطر» وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [الآية: 12] فلا حاجة إلى هذه التكلفات. قال الفراء وغيره من أهل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 اللغة: اللؤلؤ الدر، والمرجان ما صغر منه. وعن مقاتل: بالضد. ويشبه أن يكون اللؤلؤ هذا الجنس المعروف والمرجان البسذ. يقال: إنه ينبت في بحر الروم والإفرنج كالشجر وهو الفصل المشترك بين المعدن والنبات، والجواري السفن الجارية حذف الموصوف للعلم به. ومن قرأ الْمُنْشَآتُ بفتح الشين فمعناها المرفوعات الشرع والتي رفع خشبها بعضها على بعض وركب حتى ارتفعت. والقارئ بالكسر أراد الرافعات الشرع أو اللائي يبتدئن في السير أو ينشئن الأمواج بجريهن، والأعلام الجبال الطوال شبههن في البحر بالجبال في البر. والضمير في عَلَيْها للأرض بدلالة المقال أو الحال. والوجه عبارة عن الذات كما مر في تفسير البسملة وفي قوله كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وقوله ذُو صفة للوجه وهو على القياس. وفيه دلالة على أن الوجه والرب ذات واحد بخلاف قوله في آخر السورة تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ فإن الاسم غير المسمى في الأصح فلهذا قال ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ومعناه ذو النعمة والتعظيم كما سبق في البسملة. والنعمة في فناء ما على الأرض هو مجيء وقت الجزاء يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة وَمن في الْأَرْضِ من الثقلين الملائكة لمصالح الدارين والثقلان لمصالح الدارين. وعن مقاتل: يسأل أهل الأرض الرزق والمغفرة وتسأل الملائكة أيضا الرزق والمغفرة للناس كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك الشأن فقال: من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين. قلت: هذا التفسير يطابق ما مر في الحكمة. وما ذكرنا في الكتاب مرارا من أن القضاء هو الحكم الكلي الواقع في الأزل، والقدر هو صدور تلك الأحكام في أزمنتها المقدرة. فبالاعتبار الأول قال «جف القلم بما هو كائن» «1» وبالاعتبار الثاني قال: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ وهذا بالنسبة إلى المقضيات ولا تغير في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. وبالجملة إنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها. وروى الواحدي في البسيط عن ابن عباس: إن مما خلق الله عز وجل لوحا من درة بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور، ينظر الله فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء. وحين بين أن كل زمان مقدر لأجل شأن قال سَنَفْرُغُ لَكُمْ قال أهل البيان: هو مستعار من قول الرجل لمن يتهدده «سأفرغ لك» . والمراد تجرد داعيته للإيقاع به من النكاية فيه. والمراد شؤونه ستنتهي إلى شأن الجزاء   (1) رواه البخاري في كتاب النكاح باب 8 النسائي في كتاب النكاح باب 4 بلفظ «قد جف القلم بما أنت لاق» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 وقصد المحاسبة. ثم هدد الثقلين بأنهم لا يستطيعون الهرب من أحكامه وأقضيته فيهما. نفذ من الشيء إذا خلص منه كالسهم ينفذ من الرمية. وأقطار السموات والأرض نواحيهما. واحدها قطر. وهو في الهندسة عبارة عن الخط المنصف للدائرة. والسلطان القوة والغلبة، أراد أنه لا مفر من حكمه إلا بتسلط تام ولا سلطان فلا مفر. قال الواحدي: أراد أنه لاخلاص من الموت. ويحتمل أن يخص هذا بيوم الجزاء المشار إليه بقوله سَنَفْرُغُ لَكُمْ ويؤيده ما روي أن الملائكة تنزل فتحيط بجميع الخلائق فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجها إلا وجدوا الملائكة أحاطت به، ويعضده قوله عقيبه يُرْسَلُ عَلَيْكُما الآية. جاء في الخبر: يحاط على الخلق بلسان من نار ثم ينادون يا معشر الجن والإنس الآية. وذلك قوله يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ وهو اللهب الذي لا دخان له معه. وقرأ ابن كثير بكسر الشين لغة أهل مكة يقولون صوار بالضم والكسر. والنحاس الدخان. ومن قرأ بالرفع فمعناه يرسل عليكما هذا مرة وهذا مرة. ويجوز أن يرسلا معا من غير أن يمزج أحدهما بالآخر. ومن قرأ بالجر فبتقدير وشيء من نحاس. وعن أبي عمرو أن الشواظ يكون من الدخان أيضا. وقيل: هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم. وعن ابن عباس: إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر فَلا تَنْتَصِرانِ فلا تمتنعان فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ لنزول الملائكة فَكانَتْ وَرْدَةً أي حمراء كَالدِّهانِ وهو جمع الدهن أو اسم ما يتدهن به كالحزام والإدام شبهها بدهن الزيت كقوله كَالْمُهْلِ [المعارج: 8] وهو دردي الزيت. وقيل: الدهان الأديم الأحمر. عن ابن عباس: نصير كلون الفرس الورد. وقيل: تحمر احمرار الورد ثم تذوب ذوبان الدهن. وقال قتادة: هي اليوم خضراء ولها يوم القيامة لون آخر يضرب إلى الحمرة. والفاء في قوله فَإِذَا للتعقيب وفي فَكانَتْ للعطف، والجواب محذوف كما سيجيء في قوله إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] والمراد أنهما لا ينتصران حين إرسال الشواظ عليهما فحين تنشق السماء وصارت الأرض والجو والهواء كلها نارا وتذوب السماء كما يذوب النحاس الأحمر كيف تنتصران؟ ويمكن أن يكون وجه تشبيه السماء يومئذ بالدهن هو الميعان والذوبان بسرعة وعدم رسوب الخبث كخبث الحديد ونحوه، والغرض بيان بساطة السماء وأنه لا اختلاف للأجزاء فيها. فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ وضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن كما يقال هاشم ويراد ولده. والضمير في ذَنْبِهِ عائد إلى الإنس لأن الفاعل رتبته التقديم وكأنه قيل: لا يسأل بعض الإنس عن ذنبه ولا بعض الجن. والجمع بين هذه الآية وبين قوله فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ [الحجر: 92] هو ما مرّ من أن المواطن مختلفة، أو لا يسأل سؤال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 استعلام وإنما يسأل سؤال توبيخ وتقريع. وعندي أن بيان عدم احتياج المذنب إلى السؤال عن حاله لأن كل ما هو اليوم فيه كامن فذلك في يوم القيامة يظهر ويبرز من ظلمة الطبيعة والعصيان، أو من نور الطاعة والإيمان وإليه الإشارة بقوله يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ من سواد الوجه وزرقة العين فَيُؤْخَذُ كل منهم أو جنس المجرم بِالنَّواصِي أي بسببها. ولعل المراد أن تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلفها أو من قدام ويلقون في النار. روى الحسن عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنم بألف عام فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يقبضوا من قبضوا عليه بالنواصي والأقدام» ويجوز أن يكون الفعل مسندا إلى قوله بِالنَّواصِي نحو ذهب بزيد. ثم ذكر أنهم يوبخون بقول الملائكة لهم هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ والأصل الخطاب والالتفات للتبعيد والتسجيل عليهم بالإجرام. والآني الذي بلغ منتهى حره. قال الزجاج: أني يأني أنا إذا انتهى في النضج والحرارة. والمعنى أنهم لا يزالون طائفين بين عذاب الجحيم وبين الحميم وذلك حين ما يستغيثون كقوله وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الكهف: 29] قال جار الله: نعمته فيما ذكره من الأهوال وأنواع المخاوف هي نجاة الناجي منه وما في الإنذار به من اللطف، ويمكن أن يراد بأي الآلاء المعدودة في أول السورة تكذبان فتستحقان هذه الأشياء المذكورة من العذاب. ثم شرع في ثواب أهل الخشية والطاعة قائلا وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وقد مر نظيره في «إبراهيم» قوله ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي [الآية: 14] قال المفسرون: الجنتان إحداهما للخائف الإنسي والثانية للخائف الجني، أو إحداهما لفعل الطاعات والثانية لترك المنكرات، أو إحداهما للجزاء والأخرى للزائد عليه تفضلا، أو هما جنة عدن وجنة النعيم، أو إحداهما جسمانية والأخرى روحانية. وقيل: التثنية للتأكيد كقوله أَلْقِيا [ق: 24] وهو ضعيف. والأفنان جمع الفنن وهو الغصن المستقيم طولا قاله مجاهد وعكرمة والكلبي وغيرهم، وإنما خصها بالكر لأنها هي التي تورق وتثمر وتظل والساق لأجل ضرورة القيام ولا ضرورة في الجنة ولا كلفة. وعن سعيد بن جبير: هي جمع فن والمعنى أنهما صاحبتا فنون النعم وعلى هذا يكون قوله فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ أي صنفان كتفصيل بعد إجمال والصنفان رطب ويابس أو معروف وغريب فِيهِما أي في كل منهما عَيْنانِ تَجْرِيانِ من جبل من مسك إحداهما في الأعالي والأخرى في الأسافل. وقال الحسن: تجريان بالماء الزلازل إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل مُتَّكِئِينَ حال من الخائفين المذكورين في قوله لِمَنْ خافَ وجوز أن يكون نصبا على المدح. قال المفسرون: إذا كان بطائن الفرش وهي التي تحت الظهارة مما يلي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 الأرض من إستبرق فما ظنك بظهائرها؟ ويجوز أن يكون ظهائرها السندس. والتحقيق أنه لا يعلمها إلا الله كقوله فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ [السجدة: 17] وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ أي ثمرها دانٍ قريب يناله القائم والقاعد والنائم. قال جار الله: فِيهِنَّ أي في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى. وقيل: في الفرش أي عليها. وقيل: في الجنان لأن ذكر الجنتين يدل عليه ولأنهما يشتملان على أماكن ومجالس ومتنزهات، وهذا الوجه عندي أظهر وسيجيء بيانه بنوع آخر عن قريب. قال الفراء: الطمث الاقتضاض وهو النكاح بالتدمية وقَبْلَهُمْ أي قبل أصحاب الجنتين واللفظ يدل عليه. قال مقاتل: هن من حور الجنة. وقال الكلبي والشعبي: هن من نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنسي ولا جني. قال في الكشاف: لم يطمث الإنسيات منهمن أحد من الإنس والجنيات أحد من الجن قلت: هذا التفصيل لعله لا حاجة إليه يعرف بأدنى تأمل. قال الزجاج: فيه دليل على أن الجن تطمث كما تطمث الإنس. ثم ذكر أنهن في صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ الصغار هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ في العمل إِلَّا الْإِحْسانُ في الجزاء. وخص ابن عباس فقال: هل جزاء من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله إلا الجنة. وحين فرغ من نعت جنتي المقربين شرع في وصف جنتين لأصحاب اليمين فقال وَمِنْ دُونِهِما أي ومن أسفل منهما في المكان أو في الفضل أو فيهما وهو الأظهر. روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم «جنتان من فضة أبنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب أبنيتهما وما فيهما» «1» مُدْهامَّتانِ هو من الادهيمام إدهام يدهام فهو مدهام نظير اسواد يسواد فهو مسواد في اللفظ وفي المعنى، وذلك أن كل نبت أخضر فتمام خضرته من الري أن يضرب إلى السوادضَّاخَتانِ فوارتان، والنضخ بالخاء المعجمة أكثر من النضح وهو الرش. قال ابن عباس: تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور، وانما خص النخيل والرمان بالذكر بعد اندارجهما في الفاكهة لفضلهما وشرفهما، فالنخل فاكهة وطعام والرمان فاكهة ودواء كامل ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث. وخالفه صاحباه ووافقهما الشافعي. والخيرات مخفف خيرات لأن الخير الذي هو بمعنى التفضيل لا يجمع جمع السلامة والمعنى أنهن فاضلات الأخلاق حسان الصور. واعلم أنه سبحانه قال في الموضعين عند ذكر الحور فِيهِنَّ وفي سائر المواضع   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 24 كتاب تفسير سورة 55 باب 1، 2 مسلم في كتاب الإيمان حديث 296 الترمذي في كتاب الجنة باب 3 ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 فِيهِما والسر فيه أن تمام اللذة عند اجتماع النسوان للرجل الواحد هو أن يكون لكل منهن مسكن على حدة فتباعد من مسكن الأخرى، واسع بحيث يسع ما يليق بحاله أو بحالها من الجواري والغلمان وسائر الأسباب، فيحصل هناك منتزهات كثيرة كل منها جنة، وكأن في ضمير الجمع إشارة إلى ذلك. وأما العيون والفواكه فلم يكن شيء منها بهذه المثابة من كمال اللذة فأكتفي فيها بعود الضمير إلى الجنتين فقط. والمقصورات اللواتي قصرن أي حبسن في خدورهن. امرأة مقصورة أي مخدرة. روى قتادة عن ابن عباس: الخيمة درة مجوفة فرسخ في فرسخ فيها أربعة آلاف مصراع من ذهب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون» «1» وقال أهل المعاني: كنى عن الجماع في الدنيا بنحو قوله مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 237] وذكر الجماع في الآخرة بلفظ يقرب من الصريح وهو الطمث فما الحكمة في ذلك؟ والجواب أن المباشرة في الدنيا قبيحة لما فيها من قضاء الشهوة وإسقاط القوى وهي في الآخرة بخلاف ذلك فإنها داعية روحانية ولذة حقيقية فلم يحتج إلى الكناية لأن الكنايات إنما تجري في الهنيئات. قال جار الله: مُتَّكِئِينَ نصب على الاختصاص. قلت: ويجوز أن يكون حالا والعامل مضمر يدل عليه قوله لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ أي يطمثونهم في حال الاتكاء. قال أبو عبيدة والضحاك ومقاتل والحسن: الرفرف ضرب من البسط. وقيل: كل ثوب عريض فهو رفرف. ويقال لأطراف البسط وفضول الفسطاط رفارف. وقال الزجاج: الرفرف هاهنا رياض الجنة. وقيل: الوسائد. قال جار الله ال عَبْقَرِيٍّ منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه بلد الجن فينسبون إليه كل شيء غريب عجيب. وعن أبي عبيدة: كل شيء من البسط عبقري وهو جمع واحدة عبقرية. ومما يدل على أن صفات هاتين الجنتين تقاصرت عن الأوليين قوله مُدْهامَّتانِ فإنه دون قوله ذَواتا أَفْنانٍ وذلك أن كمال الخضرة لا يوجب كون البستان ذا فنن ونضاختان دون تجريان وفاكهة دون كل فاكهة وكذلك صفة الحور والمتكأ. قال أهل العلم: كرر قوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إحدى وثلاثين مرة: ثمانية منها ذكرها عقيب تعداد عجائب خلقه وذكر المبدأ والمعاد، ثم سبعة منها عقيب ذكر النار وأهوالها على عدد أبواب جهنم، وبعد هذه السبعة أورد ثمانية في وصف الجنات وأهلها على عدد أبواب الجنة، وثمانية بعدها عقيب   (1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 55 باب 2 مسلم في كتاب الجنة حديث 23- 25 الترمذي في كتاب الجنة باب 3 الدارمي في كتاب الرقاق باب 109 أحمد في مسنده (3/ 103، 115) (4/ 400، 411) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 وصف الجنات التي هي دونهما. فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الثمانيتين من الله ووقاه السبعة السابقة. ثم نزه نفسه عما لا يليق بجلاله وختم السورة عليه. والاسم مقحم كما بينا وفائدة هذا التوسيط سلوك سبيل الكناية كما يقال «ساحة فلان بريئة عن المثالب» والله أعلم بحقائق كلامه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 (سورة الواقعة) (مكية غير آية وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ حروفها ألف وسبعمائة وثلاثة كلمها ثلاثمائة وثمان وتسعون آياتها ست وتسعون) [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 96] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 القراآت: يُنْزِفُونَ من باب الأفعال: عاصم وحمزة وخلف. الباقون: بفتح الزاء حور عين بجرهما: يزيد وعلي وحمزة عربا بالسكون: حمزة وخلف ويحيى وحماد وإسماعيل أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا كما في «الرعد» إلا ابن عامر فإنه تابع عاصما، وإلا يزيد فإنه تابع قالون شُرْبَ بضم الشين: أبو جعفر ونافع وعاصم وحمزة وسهل. الباقون: بالفتح وكلاهما مصدر قدرنا بالتخفيف: ابن كثير اانا لمغرمون بهمزتين: أبو بكر وحماد. الآخرون: بهمزة واحدة مكسورة على الخبر. بموقع على الوحدة: حمزة وعلي وخلف تكذبون بالتخفيف: المفضل فروح بضم الراء: قتيبة ويعقوب. الوقوف: الْواقِعَةُ هـ لا بناء على أن العامل في الظرف هو ليس ولو كان منصوبا بإضمار «أذكر» أو كان الجواب محذوفا أي إذا وقعت الواقعة كان كيت وكيت صح الوقف كاذِبَةٌ هـ م لئلا يصير ما بعدها صفة رافِعَةٌ هـ لا لتعلق الظرف بخافضة أو لكونه بدلا من الأول رَجًّا هـ لا بَسًّا هـ لا مُنْبَثًّا هـ ثَلاثَةً هـ ط ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ هـ ط لتناهي استفهام التعجب ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ هـ ط السَّابِقُونَ هـ لا بناء على أن السَّابِقُونَ تأكيد والجملة بعده خبر الْمُقَرَّبُونَ هـ ج لاحتمال أن ما بعده خبر مبتدأ محذوف أي هم في جَنَّاتِ النَّعِيمِ هـ الْأَوَّلِينَ هـ لا الْآخِرِينَ هـ لا مَوْضُونَةٍ هـ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 لا مُتَقابِلِينَ هـ مُخَلَّدُونَ هـ لا مَعِينٍ هـ لا وَلا يُنْزِفُونَ هـ لا يَتَخَيَّرُونَ هـ لا يَشْتَهُونَ هـ ط لمن قرأ وَحُورٌ عِينٌ بالرفع الْمَكْنُونِ هـ ج يَعْمَلُونَ هـ تَأْثِيماً هـ لا سَلاماً هـ ط ما أَصْحابُ الْيَمِينِ هـ ط مَخْضُودٍ هـ لا مَنْضُودٍ هـ لا مَمْدُودٍ هـ لا مَسْكُوبٍ هـ لا كَثِيرَةٍ هـ لا مَمْنُوعَةٍ هـ لا مَرْفُوعَةٍ هـ ط إِنْشاءً هـ لا أَبْكاراً هـ لا أَتْراباً هـ لا الْيَمِينِ هـ ط الْأَوَّلِينَ هـ الْآخِرِينَ هـ ط ما أَصْحابُ الشِّمالِ هـ ط وَحَمِيمٍ هـ لا يَحْمُومٍ هـ لا وَلا كَرِيمٍ هـ مُتْرَفِينَ هـ ج الْعَظِيمِ هـ ج لَمَبْعُوثُونَ هـ لا الْأَوَّلُونَ هـ وَالْآخِرِينَ هـ لا مَعْلُومٍ هـ الْمُكَذِّبُونَ هـ لا زَقُّومٍ هـ لا الْبُطُونَ هـ ج والوقف أجوز الْحَمِيمِ هـ ج الْهِيمِ هـ ط الدِّينِ هـ تُصَدِّقُونَ هـ تُمْنُونَ هـ ط الْخالِقُونَ هـ بِمَسْبُوقِينَ هـ لا تَعْلَمُونَ هـ تَذَكَّرُونَ هـ تَحْرُثُونَ هـ ط الزَّارِعُونَ هـ تَفَكَّهُونَ هـ لَمُغْرَمُونَ هـ لا مَحْرُومُونَ هـ تَشْرَبُونَ هـ الْمُنْزِلُونَ هـ تَشْكُرُونَ هـ تُورُونَ هـ ط الْمُنْشِؤُنَ هـ لِلْمُقْوِينَ هـ ج الْعَظِيمِ هـ النُّجُومِ هـ لا عَظِيمٌ هـ لا كَرِيمٌ هـ لا مَكْنُونٍ هـ الْمُطَهَّرُونَ هـ ط الْعالَمِينَ هـ مُدْهِنُونَ هـ تُكَذِّبُونَ هـ الْحُلْقُومَ هـ لا تَنْظُرُونَ هـ لا تُبْصِرُونَ هـ مَدِينِينَ هـ لا صادِقِينَ هـ الْمُقَرَّبِينَ هـ لا نَعِيمٍ هـ الْيَمِينِ هـ لا الْيَمِينِ هـ لا الضَّالِّينَ هـ لا حَمِيمٍ هـ لا جَحِيمٍ هـ الْيَقِينِ هـ الْعَظِيمِ هـ التفسير: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ نظير قولك حدثت الحادثة «وكانت الكائنة» وهي القيامة التي تقع لا محالة. يقال: وقع ما كنت أتوقعه أي نزل ما كنت أترقب نزوله. واللام في لِوَقْعَتِها للوقت أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله لأن الإيمان حينئذ بما هو غائب الآن ضروري إلا أنه غير نافع لأنه إيمان اليأس. ويجوز أن يراد ليس لها وقتئذ نفس تكذبها وتقول لها لم تكوني لأن إنكار المحسوس غير معقول. وجوز جار الله أن يكون من قولهم «كذبت فلانا نفسه في الخطب العظيم» إذا شجعته على مباشرته. وقالت له: إنك تطيقه. فيكون المراد أن القيامة واقعة لا تطاق شدة وفظاعة وأن الأنفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور. وقيل: هي مصدر كالعافية فيؤل المعنى إلى الأول. وقال في الكشاف: هو بمعنى التكذيب من قولهم «حمل على قرنه فما كذب» أي فما جبن وما تثبط، وحقيقته فما كذب نفسه فيما حدثته به من طاقته له. والحاصل من هذا التوجيه أنها إذا وقعت لم تكن لها رجعة ولا ارتداد خافِضَةٌ رافِعَةٌ أي هي تخفض أقواما وترفع آخرين إما لأن الواقعات العظام تكون كذلك كما قال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 وما إن طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا وإما لأن للأشقياء الدركات وللسعداء الدرجات وإما لأن زلزلة الساعة تزيل الأشياء عن مقارها فتنثر الكواكب وتسير الجبال في الجو يؤيده قوله إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ أي حركت تحريكا عنيفا حتى ينهدم كل بناء عليها وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي فتتت حتى تعود كالسويق أو سيقت من بس الغنم إذا ساقها فَكانَتْ أي صارت غبارا متفرقا. ثم ذكر أحوال الناس يومئذ قائلا وَكُنْتُمْ لفظ الماضي لتحقق الوقوع أَزْواجاً أي أصنافا ثَلاثَةً ثم فصلها فقال فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وهو تعجب من شأنهم كقولك «زيد ما زيد» سموا بذلك لأنهم يؤتون صحائفهم بأيمانهم، أو لأنهم أهل المنزلة السنية من قولهم «فلان مني باليمين» إذا وصفته بالرفعة عندك وذلك لتيمنهم بالميامن دون الشمائل وتبركهم بالسانح دون البارح، ولعل اشتقاق اليمين من اليمن والشمال من الشؤم، والسعداء ميامين على أنفسهم والأشقياء مشائيم عليها. روي أن أهل الجنة يؤخذ بهم إلى جانب اليمين وأهل النار يؤخذ بهم في الشمال وَالسَّابِقُونَ عرف الخبر للمبالغة كقوله الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه من التوحيد والإخلاص والطاعة هم السَّابِقُونَ عرف الخبر للمبالغة كقوله «وشعري شعري» يريد والسابقون من عرف حالهم وبلغك وصفهم، وعلى هذا يحسن الوقف السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ إلى مقامات لا يكشف المقال عنها من الجمال والعارفون يقولون لهم إنهم أهل الله، وفي لفظ السبق أشار إلى ذلك فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ إخفاء حالهم وبيان محل أجسادهم أو هي الجنة الروحانية النورانية ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ أي جماعة كثيرة من لدن آدم إلى أول زمان نبينا صلى الله عليه وسلم. قال أهل الاشتقاق: أصل الثلة من الثل وهو الكسر كما أن الأمة من الأم وهو الشج كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم، ثم اشتق الإمام منه إذ به يحصل الأمة المقتدية به. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي من هذه الأمة. قال الزجاج: الذين عاينوا جميع النبيين وصدقوا بهم أكثر ممن عاين النبي صلى الله عليه وسلم وهاهنا سؤال وهو أنه كيف قال هاهنا وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ وفيما بعده قال وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ والجواب أن الثلتين في آية أصحاب اليمين هما جميعا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. جواب آخر وهو أن يقال: الخطاب في قوله وَكُنْتُمْ أَزْواجاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم والأولون منهم هم الصحابة والتابعون كقوله وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ [التوبة: 1] والآخرون منهم هم الذين يلونهم إلى يوم الدين، ولا ريب أن السابقين يكونون في الأولين أكثر منهم في الآخرين. وأما أصحاب اليمين فيوجدون في كلا القبيلين كثيرا وعلى هذا يكون الترتيب المذكور ساقطا ولا نسخ لإمكان اجتماع مضموني الخبرين في الواقع. قال الزجاج وهو قول مجاهد والضحاك يعني جماعة ممن تبع النبي صلى الله عليه وسلم وعاينه وجماعة ممن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 آمن به وكان بعده. وروى الواحدي في تفسيره بإسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «جميع الثلتين من أمتي» وأجاب بعضهم بأنه لما نزلت الآية الأولى شق على المسلمين فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجع ربه حتى نزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ وزيفت هذه الرواية بظهور ورود الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين، وبأن النسخ لا يتضح بل لا يصح في الأخبار، وبأن الآية الأولى لا توجب الحزن ولكنها تقتضي الفرح من حيث إنه إذا كان السابقون في هذه الأمة موجودين وإن كانوا قليلين وقد صح أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم لزم أن يكون بعض الأمة مع محمد صلى الله عليه وسلم سابقين فيكونون في درجة الأنبياء والرسل الماضين، ولعل في قوله «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» إشارة إلى هذا. وأقول: عندي أن الجواب الصحيح هو أن السابقين في الأمم الماضية يجب أن يكونوا أكثر لأن فيض الله سبحانه المقدر للنوع الإنساني إذا وزع على أشخاص أقل يكون نصيب كل منهم أوفر مما لو قسم على أشخاص أكثر، ولعلنا قد كتبنا في هذا المعنى رسالة وعسى أن يكون هذا سببا لخاتمة نبينا صلى الله عليه وسلم أما أصحاب اليمين وهم أهل الجنة كما قلنا فإنهم كثيرون من هذه الأمة لأنهم كل من آمن بالله ورسوله وعمل صالحا هذا ما سنح في الوقت والله تعالى أعلم بمراده. ثم وصف حال المقربين بقوله عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ قال المفسرون: أي منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت وقد دوخل بعضها في بعض كما توضن حلق الدرع أي استقروا على السرر مُتَّكِئِينَ وقوله وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي غلمان لا يهرمون ولا يغيرون قال الفراء: والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط إنه لمخلد. قال: ويقال مخلدون مقرطون من الخلدة وهو القرط. وقيل: هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها، ولا سيئات فيعاقبوا عليها. قال جار الله: روي هذا عن علي رضي الله عنه. والحسن قال الحديث «أولاد الكفار خدام أهل الجنة» والأكواب الأقداح المستديرة الأفواه ولا آذان لها ولا عري، والأباريق ذوات الخراطيم الواحد إبريق وهو الذي يبرق لونه من صفائه. والباقي مفسر في «الصافات» إلى قوله مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي يختارون تخيرت الشيء أخذت خيره، قال ابن عباس: يخطر على قلبه الطير فيصير ممثلا بين يديه على ما اشتهى. ومن قرأ وَحُورٌ عِينٌ بالرفع فمعناه ولهم أو عندهم حور. ومن خفضهما فعلى العطف المعنوي أي يكرمون أو يتنعمون بأكواب وبكذا وكذا. والكاف في قوله كَأَمْثالِ للمبالغة في التشبيه. قوله جَزاءً مفعول له أي يفعل بهم ذلك لأجل الجزاء. قوله وَلا تَأْثِيماً أي لا يقول بعضهم لبعض أثمت لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم. وانتصب سَلاماً على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 البدل من قِيلًا أو على أنه مفعول به أي لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاما عقيبه سلام. ثم عجب من شأن أصحاب اليمين. والسدر شجر النبق والمخضود الذي لا شوك له كأنه خضد شوكه. وقال مجاهد: هو من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب كأنه من كثرة ثمره ثنى أغصانه والطلح شجر الموز أو أم غيلان كثير النور طيب الرائحة وعن السدي: شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل. وفي الكشاف أن عليا عليه السلام أنكره وقال: ما شأن الطلح إنما هو طلع وقرأ قوله لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ فقيل: أو نحو لها؟ قال: آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول قال: وعن ابن عباس نحوه. قلت: وفي هذه الرواية نظر لا يخفى. والمنضود الذي نضد بالحمل من أوله إلى آخره فليست له ساق بارزة وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أي ممتد منبسط كظلي الطلوع والغروب لا يتقلص. ويحتمل أن يراد أنه دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس، والعرب تقول لكل شيء طويل لا ينقطع إنه ممدود. والمسكوب المصبوب يسكب لهم أين شاؤا وكيف شاؤا، أو يسكبه الله في مجاريه من غير انقطاع، أو أراد أنه يجري على الأرض في خير أخدود لا مَقْطُوعَةٍ في بعض الأوقات وَلا مَمْنُوعَةٍ عن طالبيها بنحو حظيرة أو لبذل ثمن كما هو شأن البساتين والفواكه في الدنيا مَرْفُوعَةٍ أي نضدت حتى ارتفعت أو مرفوعة على الأسرة قاله علي رضي الله عنه. وقيل: هي النساء المرفوعة على الأرائك. والمرأة يكنى عنها بالفراش يدل على هذا قوله إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ وعلى التفسير الأول جعل ذكر الفرش وهي المضاجع دليلا عليهن. ومعنى الإنشاء أنه ابتدأ خلقهن من غير ولادة أو أعاد خلقهن إنشاء. روى الضحاك عن ابن عباس أنهن نساؤنا العجز الشمط يخلقهن الله بعد الكبر والهرم أَبْكاراً عُرُباً جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل أَتْراباً مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين كأزواجهن كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا من غير وجع. وقوله لِأَصْحابِ الْيَمِينِ متعلق بأنشأنا وجعلنا. ثم عجب من أصحاب الشمال. ومعنى فِي سَمُومٍ في حر نار ينفذ في المسام. والحميم الماء الكثير الحرارة. واليحموم الدخان الأسود «يفعول» من الأحم وهو الأسود. ثم نعت الظل بأنه حار ضار لا منفعة فيه ولا روح لمن يأوي إليه. قال ابن عباس: لا بارد المدخل ولا كريم المنظر. قال الفراء: العرب تجعل الكريم تابعا لكل شيء ينوي به المدح في الإثبات أو الذم في النفي تقول: هو سمين كريم وما هذه الدار بواسعة ولا بكريمة. ثم ذكر أعمالهم الموجبة لهذا العقاب فقال إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ أي في الدنيا مُتْرَفِينَ متنعمين متكبرين عن التوحيد والطاعة والإخلاص وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ وهو الذنب الكبير ووصفه بالعظم مبالغة على مبالغة تقول: بلغ الغلام الحنث أي الحلم ووقت المؤاخذة بالمئاثم وحنث في يمينه خلاف بر فيها. وخص جمع من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 المفسرين فقالوا. أعني به الشرك. وعن الشعبي: هو اليمين الغموس وذلك أنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون يدل عليه ما بعده وقد مر مثله في «الصافات» . واعلم أنه سبحانه ذكر في تفصيل الأزواج الثلاثة نسقا عجيبا وأسلوبا غريبا. وذلك أنه لم يورد في التفصيل إلا ذكر صنفين. أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة. ثم بعد ما عجب منهما بين حال الثلاثة السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فأقول وبالله التوفيق: هذا كلام موجز معجز فيه لطائف خلت التفاسير عنها منها: أنه طوى ذكر السابقين في أصحاب الميمنة لأن كلا من السابقين ومن أصحاب اليمين أصحاب اليمن والبركة كما أن أصحاب الشمال أهل الشؤم والنكد، وكأن في هذا الطي إشارة إلى الحديث القدسي «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري» ومنها أن ذكر السابقين وقع في الوسط باعتبار وخير الأمور أوسطها، وفي الأول باعتبار والأشراف بالتقديم أولى، وفي الآخر باعتبار ليكون إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم «نحن الآخرون السابقون» «1» ومنها أن مفهوم السابق متعلق بمسبوق، فما لم يعرف ذات المسبوق لم يحسن ذكر السابق من حيث هو سابق. فهذا ما سنح للخاطر وسمح به والله تعالى أعلم بمراده. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقرر لهم ما شكوا فيه فقال قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ أي ينتهي أمر جميعهم إلى وقت يَوْمٍ مَعْلُومٍ عند الله وفيه رجوع إلى أول السورة. ولما كرر ذكر المعاد بعبارات شتى ذكر طرفا من حال المكذبين المعاصرين ومن ضاهاهم فقال ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ عن الهدى الْمُكَذِّبُونَ بالبعث لَآكِلُونَ أي في السموم المذكور مِنْ شَجَرٍ هو للابتداء مِنْ زَقُّومٍ هو للبيان فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أنت الضمير بتأويل الشجرة قال جار الله: عطف الشاربين على الشاربين لاختلافهما اعتبارا وذلك أن شرب الماء المتناهي الحرارة عجيب وشربه كشرب الهيم أعجب. والهيم الإبل التي بها الهيام وإذا شربت فلا تروى واحدها أهيم والمؤنث هيماء وزنه «فعل» كبيض. وجوز أن يكون جمع الهيام بفتح الهاء وهو الرمل الذي لا يتماسك كسحاب وسحب. ثم خفف وفعل به ما فعل بنحو جمع أبيض والمعنى أنه يسلط عليهم الجوع حتى يضطروا إلى أكل الزقوم. ثم يسلط عليهم العطش إلى أن يضطروا إلى شرب الحمم كالإبل الهيم نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ بالبعث بعد الخلق فإن من قدر على البدء كان على الإعادة أقدر. ثم برهن على أنه لا خالق إلا هو فقال أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ   (1) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 68 كتاب الجنة باب 1، 12 مسلم في كتاب الجمعة حديث 19، 21 النسائي في كتاب الجمعة باب 1 الدارمي في كتاب المقدمة باب 8 [ ..... ] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 أي تقذفونه في الأرحام. يقال: أمنى النطفة ومناها وقد مر في قوله مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى [النجم: 46] أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ تقدّرونه وتصورونه. ووجه الاستدلال أن المني إنما يحصل من فضلة الهضم الرابع وهو كالطل المنبث في جميع الأعضاء ولهذا تشترك كل الأعضاء في لذة الوقاع ويجب اغتسال كلها لحصول الانحلال عنها جميعا. فالذي قدر على جمع تلك الأغذية في بدن الإنسان ثم على جمع تلك الأجزاء الطلية في أوعيتها ثم على تمكينها في الرحم إلى أن تتكون إنسانا كاملا يقدر على جمعها بعد تفريقها بالموت المقدر بينهم بحيث لا يفوته شيء منها وإلى هذا أشار بقوله وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أي نحن قادرون على ذلك لا يغلبنا عليه أحد. يقال: سبقته على الشيء إذا أعجزته عنه وغلبته عليه. والأمثال جمع المثل أي على أن نبدل مكانكم أشباهكم من الخلق وفِي ما لا تَعْلَمُونَ أي في خلق ما لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها، يريد بيان قدرته على إنشائنا في جملة خلق تماثلنا أو خلق لا تماثلنا. وجوز جار الله أن يكون جمع مثل بفتحتين والمعنى إنا قادرون على تغيير صفاتكم التي أنتم عليها وإنشاء صفات لا تعلمونها. ثم ذكرهم النشأة الأولى ليكون تذكيرا بعد تذكير فقال وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الآية. ثم دل على كمال عنايته ورحمته ببريته مع دليل آخر على قدرته قائلا أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ من الطعام أي تبذرون حبه أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أي تجعلونه بحيث يكون نباتا كاملا يستحق اسم الزرع. وفي الكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يقولن أحد زرعت وليقل حرثت» والحطام ما تحطم وتكسر من الحشيش اليابس. وقوله فَظَلْتُمْ أصله فظللتم حذفت إحدى اللامين للتخفيف وهو مما جاء مستعملا غير مقيس عليه. ومعنى تَفَكَّهُونَ تعجبون كأنه تكلف الفكاهة. وعن الحسن: تندمون على الإنفاق عليه والتعب فيه أو على المعاصي التي تكون سببا لذلك. من قرأ إِنَّا بالخبر فواضح ويحسن تقدير القول أو لا بد منه، ومن قرأ بالاستفهام فللتعجب ولا بد من تقدير القول أيضا. ومعنى لَمُغْرَمُونَ لمهلكون من الغرام الهلاك لهلاك الرزق، أو من الغرامة أي لملزمون غرامة ما أنفقنا بَلْ نَحْنُ قوم مَحْرُومُونَ لا حظ لنا ولو كنا مجدودين لما جرى علينا ما جرى ورفضوا العجب من حالهم، ثم أسندوا ذلك إلى ما كتب عليهم في الأزل من الإدبار وسوء القضاء نعوذ بالله منهما. ثم ذكر دليلا آخر مع كونه نعمة أخرى وهو إنزال الماء من المزن وهو السحاب الأبيض خاصة. والأجاج الماء الملح اكتفى باللام الأولى في جواب «لو» عن إشاعة الثانية وهي ثابتة في المعنى لأن «لو» شرطية غير واضحة ليس إلا أن الثاني امتنع لامتناع الأول وهذا أمر وهمي فاحتيج في الربط إلى الكلام التوكيدي. ويمكن أن يقال: إن المطعوم مقدم على أمر المشروب والوعيد بفقده أشد وأصعب فلهذا خصت آية المطعوم باللام المفيدة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 للتأكيد. وإنما ختم الآية بقوله فَلَوْلا تَشْكُرُونَ لأنه وصف الماء بقوله الَّذِي تَشْرَبُونَ ولم يصف المطعوم بالأكل أو لأنه قال أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ وهذا لا عمل للآدمي فيه أصلا بخلاف الحرث أو لأن الشرب من تمام الأكل فيعود الشكر إلى النعمتين جميعا ثم عد نعمة أخرى من قبيل ما مر. ومعنى تُورُونَ تقدحونها وتستخرجونها من الشجر وقد سبق ذكرها في آخر «يس» . وأعلم أنه سبحانه بدأ في هذه الدلائل بذكر خلق الإنسان لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم. ثم أعقبه بذكر ما فيه قوام الناس وقيام معايشهم وهو الحب، ثم أتبعه الماء الذي به يتم العجين، ثم ختم بالنار التي بها يحصل الخبز، وذكر عقيب كل واحد ما يأتي عليه ويفسده فقال في الأولى نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وفي الثانية لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً وفي الثالثة لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ولم يقل في الرابعة ما يفسدها بل قال نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً تتعظون بها ولا تنسون نار جهنم كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ناركم هذه التي يوقدها بنو آدم جزء من سبعين جزءا من جهنم» «1» وَمَتاعاً وسبب تمتع ومنفعة لِلْمُقْوِينَ للذين ينزلون القواء وهي القفر أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام في السفر من أقوى الرجل إذا لم يأكل شيئا من أيام. وفي نسق هذه الآيات بشارة للمؤمنين وذلك أنه سبحانه بدأ بالوعيد الشديد وهو تغيير ذات الإنسان بالكلية في قوله وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ ثم ترك ذلك المقام إلى أسهل منه وهو تغير قوته ذاتا فقال لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً ثم عقبه بأسهل وهو تغيير مشروبه نعتا لا ذاتا ولهذا حذف اللام في قوله لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ويحتمل عندي أن يكون سبب حذف اللام هو كون «لو» بمعنى «أن» وذلك أن الماء باق هاهنا فيكون التعليق حقيقة بخلاف الزرع فإنه بعد أن حصد صار التعليق المذكور وهميا فافهم. ثم ختم بتذكير النار وفيه وعد من وجه ووعيد من وجه. أما الأول فلأنه لم يبين ما يفسدها كما قلنا يدل على أن الختم وقع على الرأفة والرحمة. وأما الثاني فلأن عدم ذكر مفسدها يدل على بقائها في الآخرة. وفي قوله تَذْكِرَةً إشارة إلى ما قلنا. ثم أمر بإحداث التسبيح بذكره أو بذكر اسمه العظيم تنزيها له عما يقول الكافرون به وبنعمته وبقدرته على البعث، ثم عظم شأن القرآن بقوله فَلا أُقْسِمُ أي فأقسم والعرب تزيد لا قبل فعل أقسم كأنه ينفي ما سوى المقسم عليه فيفيد   (1) رواه الترمذي في كتاب جهنم باب 7 الموطأ في كتاب جهنم حديث 1 أحمد في مسنده (2/ 313، 467) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 التأكيد. ومواقع النجوم مساقطها ومغاربها ولا ريب أن لأواخر الليل خواص شريفة ولهذا قال سبحانه وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آل عمران: 17] وعن سفيان الثوري: إن لله تعالى ريحا تهب وقت الأسحار وتحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار. وقوله وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ اعتراض فيه اعتراض. ومواقعها منازلها ومسايرها في أبراجها أو هي أوقات نزول نجوم القرآن الكريم الحسن المرضي من بين جنس الكتب. أو كرمه نفعه للمكلفين. أو هو كرامته على الله عز وجل فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ مستورا لا على من أراد الله تعالى اطلاعه على أسراره من ملائكته المقربين وهو اللوح لا يَمَسُّهُ إن كان الضمير للكتاب فالمعنى أنه لا يصل إلى ما فيه إِلَّا عبيده الْمُطَهَّرُونَ من الأدناس الجسمية وهم الكروبيون، وإن كان للقرآن فالمراد أنه لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة الباطنة والظاهرة، فلا يمسه كافر ولا جنب ولا محدث. ومن الناس من حرم قراءة القرآن عند الحدث الأصغر أيضا. وعن ابن عباس في رواية وهو مذهب الإمامية إباحة قراءته في الجناية إلا في أربع سور فيها سجدة التلاوة لأن سجدتها واجبة عندهم. ثم وبخ المتهاونين بشأن القرآن فقال أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أي بالقرآن أو بهذا الكلام الدال على حقيقة القرآن أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ متهاونون من أدهن في الأمر إذا لان جانبه ولا يتصلب فيه وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أي شكر رزقكم أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بالبعث وبما دل عليه القرآن، ومن أظلم ممن وضع التكذيب موضع الشكر كأنه عاد إلى ما انجر منه الكلام وهو ذكر تعداد النعم من قوله أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ إلى قوله لِلْمُقْوِينَ وقيل: نزلت في الأنواء ونسبتهم الأمطار إليها يعني وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله عز وجل وتنسبونه إلى النجوم. ثم زاد في توبيخ الإنسان على جحد أفعال الله وآياته. وترتيب الآية بالنظر إلى أصل المعنى هو أن يقال: فلولا ترجعون الأرواح إلى الأبدان إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين فزاد في الكلام توكيدات منها تكرير فَلَوْلا التحضيضية لطول الفصل كما كرر قوله فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بعد قوله لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ [آل عمران: 188] ومنها تقديم الظرف وهو قوله إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ أي النفس. وإنما أضمرت للعلم بها كقوله ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها [فاطر: 45] وإنما قدم الظرف للعناية فإنه لا وقت لكون الإنسان أحوج إلى التصرف والتدبير منه، ولأنه أراد أن يرتب الاعتراضات عليه. ومنها زيادة الجمل المعترضة وهي قوله وَأَنْتُمْ يا أهل الميت حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ إليه وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ بالقدرة والعلم أو بملائكة الموت وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ لا بالبصر ولا بالبصيرة. ومعنى مدينين مربوبين مملوكين مقهورين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 ومنها قوله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فإنه شرط زائد على شرط أي إن كنتم صادقين إن كنتم غير مدينين فارجعوا أرواحكم إلى أبدانكم ممتنعين عن الموت، والحلقوم الحلق وهو مجرى النفس، والواو والميم زائدان، ووزنه «فعلوم» ويمكن أن يقال: إن فعل فَلَوْلا الأول محذوف يدل عليه ما قبله والمعنى تكذبون مدة حياتكم جاعلين التكذيب رزقكم ومعاشكم. فلولا تكذبون وقت الموت وأنتم في ذلك الوقت تعلمون الأحوال وتشاهدونها؟ ويحتمل أن يكون معنى مدينين مقيمين من مدن إذا أقام، والمعنى إن كنتم على ما تزعمون من أنكم لا تبقون في العذاب إلا أياما معدودة فلم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا إن لم تكن الآخرة دار الإقامة. ويجوز أن يكون من الدين بمعنى الجزاء والمعنى يؤول إلى الأول لأن الجزاء نوع من القهر والتسخير. ويحتمل عندي أن يكون الضمير في تَرْجِعُونَها عائدا إلى ملائكة الموت بدليل قوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ والمعنى فلولا تردون عن ميتكم ملائكة الموت إن كنتم غير مقهورين تحت قدرتنا وإرادتنا. وحين بين أنه لا قدرة لهم على رجع الحياة والنفس إلى البدن وأنهم مجزيون في دار الإقامة فصل حال المكلف بعد الموت قائلا فَأَمَّا إِنْ كانَ المتوفى مِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي من السابقين من الأزواج الثلاثة فَرَوْحٌ أي فله استراحة وهذا أمر يعم الروح والبدن وَرَيْحانٌ أي رزق وهذا للبدن وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وهذا للروح يتنعم بلقاء المليك المقتدر. ويروى أن المؤمن لا يخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليه بريحان من الجنة يشمه وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ أيها النبي مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي أنت سالم من شفاعتهم. هذا قول كثير من المفسرين. وقال جار الله: فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين كقوله وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يونس: 10] إِنَّ هذا القرآن أو الذي أنزل في هذه السورة لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي الحق الثابت من اليقين وهو علم يحصل به ثلج الصدر ويسمى ببرد اليقين. وقد يسمى العلم الحاصل بالبرهان فالإضافة بمعنى «من» كقولك «خاتم فضة» وهذا في الحقيقة لا يفيد سوى التأكيد كقولك «حق الحق» . «وصواب الصواب» أي غايته ونهايته التي لا وصول فوقه. أو المراد هذا هو اليقين حقا لا اليقين الذي يظن أنه يقين ولا يكون كذلك في نفس الأمر. هذا ما قاله أكثر المفسرين. وقيل: الإضافة فيه كما في «جانب الغربي» و «مسجد الجامع» أي حق الأمر اليقين. ويحتمل أن تكون الإضافة كما في قولنا «حق النبي أن يصلى عليه» و «حق المال أن تؤدى زكاته» ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 وأموالهم إلا بحقها» «1» أي إلا بحق هذه الكلمة. ومن حقها أداء الزكاة والصلاة فكذلك حق اليقين الاعتراف بما قال الله سبحانه في شأن الأزواج الثلاثة. وعلى هذا يحتمل أن يكون اليقين بمعنى الموت كقوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 92] وقال أهل اليقين: للعلم ثلاث مراتب: أولها علم اليقين وهو مرتبة البرهان، وثانيها عين اليقين وهو أن يرى المعلوم عيانا فليس الخبر كالمعاينة، وثالثها حق اليقين وهو أن يصير العالم والمعلوم والعلم واحدا. ولعله لا يعرف حق هذه المرتبة إلا من وصل إليها كما أن طعم العسل لا يعرفه إلا من ذاقه بشرط أن لا يكون مزاجه ومذاقه فاسدين. روى جمع من المفسرين أن عثمان بن عفان دخل على ابن مسعود في مرضه الذي مات فيه فقال له: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: ما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: أفلا ندعو الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: أفلا نأمر بعطائك؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: تدفعه إلى بناتك. قال: لا حاجة لهن فيه قد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من قرأ سورة الواقعة كل يوم لم تصبه فاقة أبدا»   (1) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 17، 28 مسلم في كتاب الإيمان حديث 32- 36 أبو داود في كتاب الجهاد باب 95 الترمذي في كتاب تفسير سورة 88 النسائي في كتاب الزكاة باب 3 ابن ماجه في كتاب الفتن باب 1- 3 الدارمي في كتاب السير باب 10 أحمد في مسنده (4/ 8) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 (سورة الحديد) (مدنية وقيل مكية حروفها ألف وأربعمائة وأربعة وسبعون كلماتها خمسمائة وأربعة وأربعون آياتها تسعة وعشرون) [سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 29] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 القراآت: أخذ مجهولا ميثاقكم بالرفع: أبو عمرو وكل بالرفع: ابن عامر انْظُرُونا من الأنظار: حمزة الأماني بسكون الياء: يزيد لا تؤخذ بالتأنيث: ابن عامر ويزيد وسهل ويعقوب وما نزل بالتشديد مجهولا: عباس نَزَلَ بالتخفيف من النزول: نافع وحفص. الباقون: بالتشديد ولا تكونوا على الخطاب: رويس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 المصدقين والمصدقات بتشديد الدال فقط: ابن كثير وأبو بكر وحماد بما أتاكم مقصورا من الإتيان: أبو عمرو فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ بغير الفصل: أبو جعفر ونافع وابن عامر إبراهام كنظائره. الوقوف: الْأَرْضِ ج لعطف الجملتين المختلفتين الْحَكِيمُ هـ وَالْأَرْضِ ج لاحتمال أن يكون قوله يُحْيِي مستأنفا لا محل له أو له محل بتقدير هو يحيى وأن يكون حالا من المجرور في قوله لَهُ والجار عاملا فيها. وَيُمِيتُ ج قَدِيرٌ هـ وَالْباطِنُ ج عَلِيمٌ هـ الْعَرْشِ ط فِيها ط كُنْتُمْ ط بَصِيرٌ هـ وَالْأَرْضِ ط الْأُمُورُ هـ فِي اللَّيْلِ ط الصُّدُورِ هـ فِيهِ ط كَبِيرٌ هـ بِاللَّهِ ط مُؤْمِنِينَ هـ إِلَى النُّورِ ط رَحِيمٌ هـ وَالْأَرْضِ ط وَقاتَلَ ط وَقاتَلُوا ط الْحُسْنى ط خَبِيرٌ هـ كَرِيمٌ ج لاحتمال تعلق الظرف بقوله وَلَهُ أَجْرٌ أو بقوله بُشْراكُمُ أي يقال لهم ذلك يومئذ أو هو مفعول «اذكر» فِيها ط الْعَظِيمُ هـ ج وإن وصل وقف على نُورِكُمْ لأن يَوْمَ قد يتعلق بالنور فيوقف على نُورِكُمْ وقد يتعلق بقوله قِيلَ ارْجِعُوا نُوراً ط بابٌ ط الْعَذابُ ط مَعَكُمْ ط الْغَرُورُ هـ كَفَرُوا ط النَّارُ ط مَوْلاكُمْ ط الْمَصِيرُ هـ الْحَقِّ ط إلا لمن قرأ ولا تكونوا على النهي قُلُوبُهُمْ ط فاسِقُونَ هـ مَوْتِها ط تَعْقِلُونَ هـ كَرِيمٌ هـ الصِّدِّيقُونَ هـ والوصل أولى ومن وقف على الصديقين لم يقف على رَبِّهِمْ وَنُورُهُمْ ط الْجَحِيمِ هـ وَالْأَوْلادِ ط حُطاماً ط وَرِضْوانٌ ط الْغُرُورِ هـ وَرُسُلِهِ ط مَنْ يَشاءُ ط الْعَظِيمِ هـ نَبْرَأَها ط يَسِيرٌ هـ ج لاحتمال تعلق اللام بما قبله أو بمحذوف أي ذلك لكيلا آتاكُمْ ط فَخُورٍ هـ لا لأن ما بعده بدل بِالْبُخْلِ ط الْحَمِيدُ هـ بِالْقِسْطِ ط هـ للعطف ظاهرا مع أن إنزال الحديد ابتداء إخبار غير مختص بالرسل بِالْغَيْبِ ط عَزِيزٌ هـ مُهْتَدٍ ج لأن الجملتين وإن اتفقتا لفظا إلا أن الأولى للبعض القليل والثانية للكثير فيبنى على الاستئناف فاسِقُونَ هـ وَرَحْمَةً ط لأن ما بعدها منصوب بابتدعوا المقدر رِعايَتِها ط لأن الجملتين وإن اتفقتا لفظا إلا أن قوله فَآتَيْنَا ليس جزاء ترك الرعاية إنما هو تمام بيان التفرقة بين الفريقين فيرجع إلى قوله فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ أَجْرَهُمْ هـ ط لما مر فاسِقُونَ هـ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ط رَحِيمٌ هـ لا وقد يجوز الوقف بناء على أن المراد ذلك ليعلم يَشاءُ ط الْعَظِيمِ هـ التفسير: معنى تسبيح الموجودات قد تقدم في قوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] والآن نقول: إنه بدأ في سورة بني إسرائيل بلفظ المصدر وهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 سُبْحانَ وفي هذه السورة وفي الحشر والصف بلفظ الماضي. وفي الجمعة والتغابن بلفظ المستقبل، وفي سورة الأعلى بلفظ الأمر استيعابا للأقسام وذلك دليل على أن التسبيح لله تعالى مستمر دائم في الأوقات كلها من الأزل إلى الأبد. وتفسير أسماء الله الحسنى المذكورة في أول هذه السورة قد سبق في البسملة فلا حاجة إلى إعادة كلها إلا أننا نذكر ما أورده الإمام فخر الدين هاهنا على سبيل الإيجاز مع تنقيح ما يجب تنقيحه. قال: هذا مقام مهيب والبحث فيه من وجوه: الأول أن تقدم الشيء على الشيء إما تقدم التأثير كتقدم حركة الإصبع على حركة الخاتم، وإما التقدم بالحاجة لا بالتأثير كتقدم الإمام على المأموم، أو معقول كما إذا جعلنا المبدأ هو الجنس العالي، وإما بالزمان كتقدم الأب على الابن قال: وتقدم بعض أجزاء الزمان على الزمان عندي ليس من هذه الأقسام الخمسة، أما التأثير والحاجة فلأنه لو كان كذلك لوجدا معا كما أن العلة والمعلول يوجدان معا وكذا الواحد والاثنان. وأما الشرف والمكان فظاهران، وأما بالزمان فإن الزمان لا يقع في الزمان وإلا تسلسل. قلت: لم لا يجوز أن يكون تقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض بالحاجة أي بالطبع فإن الزمان كما لا يخفى حين كان كما متصلا غير قار الذات اقتضت حقيقته أن يكون له وجود سيال يعقب بعض أجزائه بعضا لا تنتهي النوبة إلى جزء مفروض منه إلا وقد انقضى منه جزء مفروض على الاتصال. وقال: إذا عرفت ذلك فنقول: القرآن دال على أنه تعالى قبل كل شيء والبرهان أيضا يدل على هذا لأن انتهاء الممكنات لا بد أن يكون إلى الواجب إلا أن تلك القبلية ليست بالتأثير لأن المؤثر من حيث هو مؤثر مضاف إلى الأثر من حيث هو أثر والمضافان معا، والمعي لا يكون قبل ولا بالحاجة لأنهما قد يكونان معا كما قلنا، ولا لمحض الشرف فإن تلك القبلية ليست مرادة هاهنا ولا بالمكان وهو ظاهر، ولا بالزمان لأن الزمان بجميع أجزائه ممكن الوجود، والتقدم على جميع الأزمنة لا يكون بالزمان فإذن تقدم الواجب تعالى على ما عداه خارج عن هذه الأقسام الخمسة وكيفيته لا يعلمها إلا هو. قلت: إنه سبحانه متقدم على ما سواه بجميع أقسام التقدمات الخمسة. أما بالتأثير فظاهر قوله والمضافان معا. قلنا: إن أردت من الحيثية المذكورة فمسلم ولا محذور.، وإن أردت مطلقا فممنوع. وأما بالطبع فلأن ذات الواجب من حيث هو لا تفتقر إلى الممكن من حيث هو وحال الممكن بالخلاف، وأما بالشرف فظاهر، وأما بالمكان فلأنه وراء كل الأماكن ومعها لقوله فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115] وقد جاء في الحديث «لو أدليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله» «1»   (1) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة 57 أحمد في مسنده (2/ 370) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 ثم قرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهاهنا سر لعلنا قد رمزنا إليه في هذا الكتاب تفهمه بإذن الله إن كنت أهلا له. وأما بالزمان فأظهر قوله والتقدم على الزمن لا يكون بالزمان. قلنا: ممنوع لأن الزمان عند المحققين هو أمر وهمي، والزمان الذي يتكلم هو فيه إنما هو مقدار حركة الفلك الأعظم، ولا ريب أن قبل هذه الحركة لا يوجد لها مقدار إلا أن قبل كل شيء يوجد امتداد وهمي يحصل فيه وجود الواجب سبحانه، ومن هذا التحقيق يرتفع ما أشكل على الإمام من التمييز بين الأزل وما لا يزال فإن المبادئ الوهمية تتغير بتغير الاعتبارات وباختلافها تختلف حقائقها إذ ليس لها وجود سواها فقد يصير ما هو في جانب الأزل في جانب لا يزال، وبالعكس إذا تغيرت المبادئ المفروضة. قال: أما البحث عن كونه تعالى آخرا بمعنى أنه يبقى وكل شيء يفنى فمنهم من أوجب ذلك حتى يتقرر كونه آخرا وهو مذهب جهم فإنه زعم أنه سبحانه يوصل الثواب إلى أهل الثواب، والعقاب إلى أهل العقاب، ثم يفني الجنة وأهلها والنار وأهلها والعرش والكرسي والملك والفلك ولا يبقى مع الله شيء أصلا في أبد الآباد كما لم يكن قبله شيء في أزل الآزال قال: ومن حجج جهم أنه تعالى إما أن يكون عالما بعدد حركات أهل الجنة والنار أولا. فإن كان عالما لزم تناهيه فإن الإحاطة بما لا يتناهى مستحيلة. وإن لم يعلم لزم نسبة الجهل إليه تعالى وذلك محال. وأيضا الحوادث المستقبلة قابلة للزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك فهو متناه. وأجاب عن الأول بأن إمكان استمرار هذه الأشياء حاصل إلى الأبد، والدليل عليه أن هذه الماهيات لو زال إمكانها لزم انقلاب الممكن إلى الممتنع، ولزم أن تنقلب قدرة الله من صلاحية التأثير إلى امتناع التأثير. قلت: هذه مغالطة فإنه لا يلزم من الإمكان الذاتي للشيء وقوعه في الخارج ولا من عدم وقوعه في الخارج الامتناع الذاتي وأجاب عن الثاني بأنه لا يعلم أن عددها ليس بمعين وهذا لا يكون جهلا إنما الجهل أن يكون له عدد معين ولا يعلمه. قلت: الذي علمه متناه يجب أن يكون معلومه متناهيا، أما الذي لا نهاية لعلمه فلم يبعد بل يجب أن تكون معلوماته غير متناهية. وأجاب عن الثالث بأن الخارج منه إلى الوجود أبدا يكون متناهيا. قلت: الزيادة والنقصان لا يوجبان التناهي كتضعيف الألف والألفين مرارا غير متناهية قال: فالمتكلمون حين أثبتوا إمكان بقاء العالم عولوا في أبدية الجنة والنار على إجماع المسلمين. واختلفوا في معنى كونه تعالى آخرا على وجوه أحدها: أنه تعالى يفني جميع العالم ليتحقق كونه آخرا، ثم إنه يوجدها ويبقيها أبدا. قلت: هذا حقيق بأن لا يسمى آخرية بل يسمى توسطا. وثانيها أن صحة آخرية كل الأشياء مختصة به فلا جرم وصف بكونه آخرا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 أقول: هذا أول المسألة لأن الكلام لم يقع في اختصاص وجوده وعدمه وإنما النزاع في معنى قوله آخرا. وثالثها أنه أول في الوجود آخر في الاستدلال لأن المقصود من جميع الاستدلالات معرفة ذات الصانع وصفاته، وأما سائر الاستدلالات التي لا يراد بها معرفة الصانع فهي حقيرة خسيسة. قلت: أراد أنه غاية الأفكار ونهاية الأنظار وهذا معنى حسن في نفسه إلا أنه لا يطابق معنى الأول كل المطابقة. ورابعها أنه أول في ترتيب الوجود وآخر إذا عكس الترتيب. قلت: هذا تصور صحيح ينطبق على السلسلة المترتبة من العلل والمعلولات، وعلى المترتبة من الأشرف إلى الأخس. وعلى الآخذة من الوحدة إلى الكثرة، وكما يلي الأزل إلى ما يلي الأبد، ومما يلي المحيط إلى ما يقرب من المركز فهو سبحانه أول بالترتيب الطبيعي وآخر بالترتيب المنعكس فقد وضح بهذا البيان صحة إطلاق التقدمات الخمسة ومقابلاتها عليه تعالى، وهذا من غوامض الأسرار وقد وفقني الله تعالى لحلها وبيانها فالشكر على آلائه. أما تفسير الظاهر والباطن فالمحققون قالوا: إنه الظاهر بالأدلة الدالة على وجوده. والباطن لأنه جل عن إدراك الحواس والعقول إياه إما في الدنيا أو فيها وفي الآخرة جميعا. وقيل: معنى الظاهر الغالب، والباطن العالم بما بطن أي خفي. قال الليث: يقال أنت أبطن بهذا الأمر أي أخبر به. وباقي الآيات قد سبق تفسيرها في مواضع إلا قوله يَعْلَمُ ما يَلِجُ فإنه قد مر في أول «سبأ» فقط فلا حاجة إلى الإعادة. وقوله وَهُوَ مَعَكُمْ معية العلم والقدرة أو استصحاب المكان عند بعض قوله لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وبعده مثله ليس بتكرار لأن الأول في الدنيا لقوله يُحْيِي وَيُمِيتُ والثاني في العقبى لقوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ قوله مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أراد أن المال مال الله والعباد عباد الله إلا أنه قد جعل أرزاقهم متداولة بيد حكمته متعلقة بالوسائط والروابط، فالسعيد من وفقه الله تعالى لرعاية حق الاستخلاف فيتصرف فيما آتاه الله على وفق ما أمره الله من الإنفاق في سبيل الله قبل أن ينتقل منه إلى غيره بإرث أو حادث كما انتقل من غيره إليه بأحد السببين. قوله لا تُؤْمِنُونَ حال من معنى الفعل كقولك «مالك قائما» أي ما تصنع. والواو في قوله وَالرَّسُولُ للحال من ضمير لا تُؤْمِنُونَ فهما حالان متداخلتان. وأخذ الميثاق إشارة إلى الأقوال المذكورة في تفسير قوله وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ [الأعراف: 172] ، والمراد أنه قد تعاضدت الدلائل السمعية والبراهين العقلية على الإيمان بالله فأي عذر لكم في تركه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لموجب ما فإن هذا الموجب لا مزيد عليه ولا ريب أن الإيمان بالله شامل للتصديق بجميع أوامره وأحكامه ومن جملتها الإيمان بالرسول وبالقرآن وبما فيه. استدل القاضي بقوله وَما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 لَكُمْ على أن العبد قادر على الإيمان وعلى الاستطاعة قبل الفعل وإلا لم يصح التوبيخ كما لا يقال مالك لا تطول ولا تبيض. والبحث في أمثاله مذكور في مواضع. والضمير في قوله لِيُخْرِجَكُمْ لله تعالى أو لعبده والميراث مجاز عن بقائه بعد فناء الخلق وقد مر في «آل عمران» : قال المفسرون: إن أبا بكر أول من أنفق في سبيل الله فنزل فيه وفي أمثاله السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ أي فتح مكة وتمامه أن يقال: ومن أنفق بعد الفتح فحذف لدلالة قوله أُولئِكَ الذين أنفقوا قبل الفتح وهم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» «1» أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وسبب الفضل أنهم أنفقوا قبل عز الإسلام وقوة أهله فكانت الحاجة إلى الإنفاق حينئذ أمسّ مع أنه كان أصدق إنباء عن ثقة صاحبه بهذا الدين وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات. ومن قرأ بالرفع فتقديره وكل وعده الله والقرض مجاز عن إنفاق المال في سبيل الله. وقد مر في أواخر «البقرة» . قال أهل السنة: إنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ أن كل من صدر عنه الفعل الفلاني فله كذا من الثواب وهو الأجر الكريم، فإذا ضم إلى ذلك مثله فهو المضاعفة. وقال الجبائي: إن الأعواض تضم إلى الثواب فهو المضاعفة. وإنما وصف الأجر بالكريم لأنه جلب ذلك الضعف وبسببه حصلت لكل الزيادة فكان كريما من هذا الوجه. ثم أكد الإيمان بالله ورسوله والإنفاق في سبيله بتذكير يوم المحاسبة فقال يَوْمَ تَرَى يا محمد أو يا من له أهلية الخطاب وقد مر إعرابه. عن ابن مسعود وقتادة مرفوعا أن كل إنسان مؤمن فإنه يحصل له النور يوم القيامة على قدر ثوابه منهم من يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء، ومنهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه، وأدناهم نورا من يكون نوره على إبهامه ينطفئ مرة ويتقد أخرى. وقال مجاهد: ما من عبد إلا وينادى يوم القيامة يا فلان هذا نورك، ويا فلان لا نور لك. هذا وقد بينا لك في هذا الكتاب مرارا أن الكمالات والخيرات كلها أنوار وأكمل الأنوار معرفة الله سبحانه. وإنما قال بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ لأن ذلك جعل إمارة النجاة ولهذا ورد أن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم. ومعنى سعي النور سعيه بسعيهم جنيبا لهم ومتقدما   (1) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب 5 مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث 221، 222 أبو داود في كتاب السنة باب 10 الترمذي في كتاب المناقب باب 58 ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 11 أحمد في مسنده (3/ 11) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ قوله يَوْمَ يَقُولُ بدل من قوله يَوْمَ تَرَى ومنصوب ب «أذكر» مقدرا. قال جمع من العلماء: الناس كلهم يوم القيامة في الظلمات ثم إنه تعالى يعطي المؤمنين هذه الأنوار والمنافقون يطلبونها منهم قائلين انْظُرُونا لأنهم إذا نظروا إليهم والنور قدامهم استضاؤا بتلألؤ تلك الأنوار. قال الفارسي: حذف الجار وأوصل الفعل وأنشد أبو الحسن: ظاهرات الجمال والحسن ينظرن ... كما ينظر الأراك الظباء والمعنى ينظرن إلى الأراك فإن كانت هذه الحالة عند الموقف فالمراد انظروا إلينا، وإن كانت هذه الحالة عند سير المؤمنين إلى الجنة احتمل أن يكون النظر بمعنى الانتظار لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على الركاب وهؤلاء مشاة في القيود والسلاسل. ومن قرأ انْظُرُونا أي أمهلونا جعل استبطاءهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إمهالا لهم. قال الحسن: يعطى يوم القيامة كل أحد نورا على قدر عمله. ثم إنه يؤخذ من جمر جهنم وما فيه من الكلاليب والحسك وتلقى على الطريق فتمضي زمرة من المؤمنين وجوههم كالقمر ليلة البدر، ثم تمضي زمرة أخرى كأضواء الكواكب في السماء. ثم على ذلك ثم على ذلك، ثم تغشاهم الظلمة فينطفئ نور المنافقين فهناك يقول المنافقون للمؤمنين انظرونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ والاقتباس أخذ القبس أي الشعلة من النار قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ أي إلى الموقف حيث أعطينا هذا النور فاطلبوا نورا وهو تهكم بهم أو إلى الدنيا فَالْتَمِسُوا نُوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان والعمل الصالح أو اكتساب المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة كأنها خدعة خدع بها المنافقون كقوله يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [البقرة: 9] وعلى هذا فالسور هو امتناع العود إلى الدنيا وعلى الأول قالوا: إنهم يرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم فيجدون السور مضروبا بينهم وبين المؤمنين وهو حائط الجنة أو هو الأعراف باطِنُهُ أي باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ وهو ما ظهر لأهل النار مِنْ قِبَلِهِ أي من جهته الْعَذابُ قال أبو مسلم: المراد من قول المؤمنين ارْجِعُوا منع المنافقين عن الاستضاءة كقول الرجل لمن يريد القرب منه «وراءك أوسع لك» والمراد أنه لا سبيل لهم إلى هذا النور، والمراد من السور منعهم من رؤية المؤمنين قال الأخفش: الباء في قوله بِسُورٍ صلة وفائدته التوكيد وأرادوا بقوله أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ مرافقتهم في الظاهر. ومعنى فَتَنْتُمْ محنتم أَنْفُسَكُمْ بالنفاق وأهلكتموها وَتَرَبَّصْتُمْ بالمؤمنين الدوائر وَارْتَبْتُمْ وشككتم في وعيد الله أو في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو في البعث أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 في كل ما هو من عند الله وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ بكثرة الآمال وطول الآجال حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بالموت على النفاق ثم أوقعكم في النار وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الشيطان الْغَرُورُ فنفخ في خيشومكم إن الله غفور إن باب التوبة مفتوح فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ أيها المنافقون فِدْيَةٌ قيل أي توبة والأولى العموم ليشمل كل ما يفتدى به وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا في الظاهر. فالحاصل أنه لا فرق بين الذين أضمروه فإن كلا منكم مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وقيل: المراد أنها تتولى أموركم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار وقيل: أراد هي أولى بكم. قال جار الله حقيقته هي محراكم ومقمنكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل «إنه لكريم» . قال في التفسير الكبير: هذا معنى وليس بتفسير للفظ من حيث اللغة، وغرضه أن الشريف المرتضى لما تمسك في إمامة علي رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم «من كنت مولاه فعلى مولاه» فهذا علي مولانا احتج بقول الأئمة في تفسير الآية أن المولى معناه الأولى، وإذا ثبت أن اللفظ محتمل وجب حمله عليه لأن ما عداه بين الثبوت ككونه ابن العم والناصر، أو بين الانتفاء كالمعتق والمعتق فيكون على التقدير الأول عبثا، وعلى التقدير الثاني كذبا. قال: وإذا كان قول هؤلاء معنى لا تفسيرا بحسب اللغة سقط الاستدلال. قلت: في هذا الإسقاط بحث لا يخفى. وجوز أن يراد في الآية نفي الناصر لأنه إذا قال هي ناصركم على سبيل التهكم وليس لها نصرة لزم نفي الناصر رأسا كقوله تعالى يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الكهف: 29] ويقال ناصره الخذلان ومعينه البكاء. قوله سبحانه أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا من أنى الأمر يأني إذا جاء إناه أي وقته. قال جمع من المفسرين: نزل في المنافقين الذين أظهروا الإيمان وفي قلوبهم النفاق المباين للخشوع. وقال آخرون: نزل في المؤمنين المحقين. روى الأعمش أن الصحابة لما قدموا المدينة أصابوا لينا في العيش ورفاهية فغيروا بعض ما كانوا عليه فعوتبوا بهذه الآية. وعن أبي بكر الصديق أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من اليمامة فبكوا بكاء شديدا فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب. وعن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين. وعن ابن عباس أنه عاتبه على رأس ثلاث عشرة. وقوله لِذِكْرِ اللَّهِ من إضافة المصدر إلى الفاعل أي ترق قلوبهم لمواعظ الله التي ذكرها في القرآن وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وأراد أن القرآن جامع للوصفين الذكر والموعظة ولكونه حقا نازلا من السماء. ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول أي لذكرهم الله والقرآن كقوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 إِيماناً [الأنفال: 2] ويحتمل أن تكون اللام للتعليل أي يجب أن يورثهم الذكر خشوعا ولا يكونوا كمن يذكره بالغفلة. ومن قرأ ولا تكونوا بالتاء الفوقانية فهي الناهية. ومن قرأ بالياء التحتانية احتمل أن يكون منصوبا عطفا على أن تخشع والأمد الأجل والأمل أي طالت المدة بين اليهود والنصارى وبين أنبيائهم، أو طالت أعمارهم في الغفلة والأمل البعيد فحصلت القسوة في قلوبهم بسببه فاختلفوا فيما أحدثوا من التحريف والبدع. وقال مقاتل بن سليمان: طال عليهم أمد خروج النبي صلى الله عليه وسلم، أو طال عليهم عهدهم بسماع التوراة والإنجيل فزال وقعهما في قلوبهم قاله القرطبي، وقرئ الأمد بالتشديد أي الوقت الأطول وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين، وفيه إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسوق في آخر الأمر. قال الحسن: أما والله لقد استبطأ قلوب المؤمنين وهم يقرأون من القرآن أقل مما تقرءون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسوق. قوله اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ فيه وجهان: الأول أنه تمثيل والمعنى أن القلوب التي ماتت بسبب القساوة فالموظبة على الذكر سبب لعود حياة الخشوع إليها كما يحيي الله الأرض بالغيث، الثاني أنه زجر لأهل الفسق وترغيب في الخشوع لأنه يذكر القيامة وبعث الأموات. ثم استأنف وعد المنفقين ووعيد أضدادهم بقوله إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وأصله المتصدقين وعطف عليه قوله وَأَقْرَضُوا اللَّهَ لأن الألف واللام بمعنى الذي كأنه قال: إن الذين تصدقوا وأقرضوا. والظاهر أن الأول هو الواجب والثاني هو التطوع لأن تشبيهه بالقرض كالدلالة على ذلك. وأيضا ذكر الأول بلفظ اسم الفاعل الدال على الاستمرار ينبئ عن الالتزام والوجوب. ومن قرأ بتشديد الدال فقط فمعناه إن الذين صدقوا الله ورسوله وأقرضوا ويندرج تحت التصديق الإيمان وجميع الأعمال الصالحات إلا أنه أفرد الإنفاق بالذكر تحريضا عليه كما أنه أفرد الإيمان لتفضيله والترغيب فيه. وقال وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ الكاملون في الصدق إذ لا قول أصدق من التوحيد والاعتراف بالرسالة، أو هم الكثير والصدق من حيث إنهم ضموا صدقا إلى صدق وهو الإيمان بالله ورسوله أو به وبرسول رسوله. ثم حث على الجهاد بقوله وَالشُّهَداءُ وهو مبتدأ حبره عِنْدَ رَبِّهِمْ وفيه بيان أنهم من الله بمنزلة وسعة وقد بين ثوابهم الجسماني لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ويجوز أن يكون قوله عِنْدَ رَبِّهِمْ حالا أو صفة للشهداء كقوله «مررت على اللئيم يسبني» وما بعده خبر. وقال الفراء والزجاج: هم الأنبياء لقوله فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء: 41] ومن جعل الشُّهَداءُ عطفا على ما قبله قال: أراد أنهم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله. قال مجاهد: كل مؤمن فهو صديق وشهيد. وقال جار الله: المعنى أن الله يعطي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله حتى يساوي أجرهم مع أضعافه أجر أولئك. وقيل: أريد أنهم شهداء عند ربهم على أعمال عباده. وعن الحسن: كل مؤمن فإنه يشهد كرامة ربه. وعن الأصم. إن المؤمن قائم لله تعالى بالشهادة فيما تعبدهم به من الإيمان والطاعة. ثم ذكر ما يدل على حقارة أمور الدنيا وشبهها في سرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث ورباه إلى أن يتكامل نشؤه. ومعنى إعجاب الكفار أنهم جحدوا نعمة الله فيه بعد أن راق في نظرهم فبعث الله عليه العاهة فصيره كلا شيء كما فعل بأصحاب الجنتين في «الكهف» وفي «سبأ» وبأصحاب الجنة في «نون» . ومن جعل الكفار بمعنى الزراع فظاهر قاله ابن مسعود وصيرورته حطاما هي عودة إلى كمال حاله في النضج واليبس. ثم عظم أمور الآخرة بتنوين التنكير في قوله وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ للكافرين وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ للمؤمنين قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة. فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله ولقائه فنعم المتاع ونعم الوسيلة. ثم حث على المسابقة إلى المغفرة وإلى الجنة وقد مر نصير في «آل عمران» إلا أن البشارة هاهنا أعم لأنه قال هناك أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ [الآية: 133] إلى آخره. وهاهنا قال أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ولأن هؤلاء أدون حالا من أولئك جعل عرض الجنة هنا أقل فقال وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ فلم يجمع السماء وأدخل حرف التشبيه الدال على أن المشبه أدون حالا من المشبه به. وفي لفظ سابِقُوا هاهنا إشارة إلى أن مراتب هؤلاء مختلفة بعضها أسبق من بعض كالمسابقة في الخيل وفي لفظ سارِعُوا هنالك رمز إلى أن كلهم مستوون في القرب أو متقاربون لأن المرتبة العليا واحدة وهي مرتبة السابقين المقربين وإنها غاية الرتب الإنسانية فافهم هذه الأسرار فإن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قال الزجاج: لما أمرنا بالمسابقة إلى المغفرة بين أن الوصول إلى الجنة والحصول في النار بالقضاء والقدر فقال ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ أي لا يوجد مصيبة فِي الْأَرْضِ من القحط والوباء والبلاء وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ من المرض والفتن إِلَّا فِي كِتابٍ أي هو مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ وإنما قيد المصائب بكونها في الأرض والأنفس لأن الحوادث المطلقة كلها ليست مكتوبة في اللوح لأن حركات أهل الجنة والنار غير متناهية فإثباتها في الكتاب محال ولهذا قال «جف القلم بما هو كائن إلى يوم الدين» «1» ولم يقل إلى الأبد.   (1) رواه البخاري في كتاب النكاح باب 8 النسائي في كتاب النكاح باب 4 بلفظ «قد جف القلم بما أنت لاق» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 وفي الآية تخصيص آخر وهو أنه لم يذكر أحوال أهل السموات وفيه سر قال أهل البرهان: فصل في هذه السورة وأجمل في «التغابن» فقال ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [الحديد: 22] والتفصيل بهذه السورة أليق لأنه فصل أحوال الدنيا والآخرة بقوله اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إلى آخره قوله مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها من قبل أن نخلق المصائب والأنفس أو الأرض أو المخلوقات إِنَّ ذلِكَ الإثبات أو الحفظ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وإن كان عسيرا على غيره. ثم بين وجه الحكمة في ذلك الإثبات قائلا لِكَيْلا تَأْسَوْا أي لكيلا تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ نظيره ما ورد في الخبر: من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب لأنه لما علم وجوب وقوعه من حيث تعلق علم الله وحكمه وقدرته به عرف أن الفائت لا يرده الجزع والمعطى لا يكاد يثبت ويدوم لأنه عرضة للزوال ونهزة للانتقال فلا يشتد به فرحه. روى عكرمة عن ابن عباس: ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا للمصيبة صبرا وللخير شكرا أو المراد أنه لم ينف الأسى والفرح على الإطلاق ولكنه نفى ما بلغ الجزع والبطر ولا لوم على ما يخلو منه البشر. والباقي ظاهر وقد مر في النساء. والمقصود أن البخيل يفرح فرحا مطغيا لحبه المال ليفتخر به ويتكبر على الناس ويحمل غيره على إمساك المال لمقتضى شحه الطبيعي وَمَنْ يَتَوَلَّ عن أوامر الله ونواهيه ولا يعرف حق الله فما أعطاه فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن طاعة المطيعين الْحَمِيدُ في ذاته وإن لم يحمده الحامدون. وقيل: إن الآية نزلت في اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وبخلوا ببيان نعته. ثم أراد أن يبين الغرض من بعثة الرسل المؤيدين بالمعجزات ومن إنزال الكتاب والميزان معهم. يروى أن جبرائيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح فقال: مر قومك يزنوا به. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض. أنزل الحديد والنار والماء والملح. وعن الحسن: إنزالها تهيئتها كقوله وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: 6] وقال قطرب: هو من النزل يقال: أنزل الأمير على فلان نزلا حسنا منهم من قال: هو من باب «علفتها تبنا وماء باردا» . وللعلماء في المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد وجوه. أحدها أن مدار التكليف على فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي. والثاني لا يتم إلا بالحديد الذي فيه بأس شديد والأول إما أن يكون من باب الاعتقادات ولن يتم إلا بالكتاب السماوي ولا سيما إذا كان معجزا. وإما أن يكون من باب المعاملات ولا ينتظم إلا بالميزان فأشرف الأقسام ما يتعلق بالقوة النظرية الروحانية، ثم ما يتعلق بالعملية الجسمانية، ثم ما يتعلق بالزواجر وقد روعي في الآية هذا النسق. وثانيها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 المعاملات إما مع الخالق وطريقها الكتاب أو مع الخلق وهم، إما أحباب ويفتقر في نظام أمور تمدنهم إلى الميزان، وإما أعداء فيدفعون بالسيف. وثالثها السابقون يعاملون بمقتضى الكتاب فينصفون ولا ينتصفون ويحترزون عن مواقع الشبهات، والمقتصدون ينصفون وينتصفون فلا بد لهم من الميزان، والظالمون ينتصفون من غير إنصاف فلا بدّ لهم من السيوف الزواجر. ورابعها أن الإنسان في مقام الحقيقة وهو مقام النفس المطمئنة والمقربين لا يسكن إلا بكتاب الله أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] أو هو في مقام الطريقة وهو النفس اللوامة. وأصحاب اليمين لا بد لهم من الميزان في معرفة الأخلاق المتوسطة غير المائلة إلى طريق الإفراط والتفريط، أو هو في مقام الشريعة والنفس الأمارة لا تنزجر إلا بحديد المجاهدة وسيف الرياضة. وخامسها السالك إما أن يكون صاحب المكاشفة والوصول فانتبه بميزان الكتاب، أو صاحب الطلب والاستدلال فانتبه بميزان الدليل والحجة، وإن كان صاحب العناد واللجاج فلا بد له من الحديد. وسادسها الأقوال تصحح بالكتاب والأعمال تقوم بالميزان، وميزان العدل والأحوال يعتبر بحديد الرياضة. أو نقول: الأقوال تصحح بالكتاب والأعمال تقوّم بالميزان، والمنحرفون من أحد الموضوعين يولون بالسيف. وسابعها الكتاب للعلماء والميزان للعوام والسيف للملوك. قال أهل التجارب: في منافع الحديد ما من صناعة إلا والحديد آلة فيها. أو ما يعمل بالحديد بيانه أن أصول الصناعات أربعة: الزراعة والحياكة والبناء والإمارة. أما الزراعة فتحتاج إلى الحديد في كراية الأرض وإصلاحها وحفرها وتنقية آبارها. ثم الحبوب لا بد من طحنها وخبزها وكل منهما يحتاج إلى شيء من حديد وأكل الفواكه واللحوم وغيرها يفتقر أيضا في التغيير والتقطيع إلى الحديد وأما الحياكة فتحتاج إلى آلات الحراثة وإلى آلات الغزل وإلى أدوات الحياكة والخياطة، وأما البناء فلا يكمل الحال فيه إلا بآلات حديدية وأما الإمارة فلا تتم إلا بأسباب الحرب وآلات السياسة فظهر أن أكثر مصالح العالم لا تتم إلا بالحديد ولا يقوم الذهب ولا الجواهر في أكثرها مقام الحديد فلو لم يوجد الذهب والجواهر في الدنيا لم يختل شيء من المهمات ولو لم يوجد الحديد لاختلت المصالح فعند هذا يظهر أثر عناية الله بحال عبيده، فإن كل شيء تكون حاجاتهم إليه أكثر يكون وجوده أسهل. قال بعضهم: سبحان من خص الفلز بعزه ... والناس مستغنون عن أجناسه وأذل أنفاس الهواء وكل ذي ... نفس فمحتاج إلى أنفاسه نظيره الحاجة إلى الطعام ثم إلى الهواء، فالطعام قلما يوجد إلا بالثمن والماء قد يباع في بعض الأمكنة والزمان والهواء لا يباع أصلا لأن الحاجة إلى النفس أمس. قال بعض المحققين هاهنا إن العلم أبلغ ما يحتاج الإنسان إليه إذ به قوام روحه وصلاح معاده فلا جرم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 لا يقع في عرضة البيع وكثيرا ما يعطى الأجر على تعلمه قوله وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ ظاهره أنه معطوف على المعنى التقدير: وأنزلنا الحديد لأجل المنافع الدنيوية ولأجل المصالح الدينية وهو ظهور معلوم الله وتعلق علمه بما سيقع من نصرة دينه ورسله باستعمال السيوف والرماح وغيرها. ويجوز أن يكون المعطوف عليه محذوفا بدليل ما تقدمه أي وأنزلنا الحديد ليقوم الناس بالقسط خوفا من أن يجعل وليعلم الله ومعنى بِالْغَيْبِ غائبا عنهم. قال ابن عباس: ينصرونه ولا يبصرونه، وفيه إشارة إلى أن الجهاد المعتبر هو الذي يوجد عن إخلاص القلب خاليا من النفاق والرياء وفي قوله إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ رمز إلى أنه تعالى قادر على إهلاك أعداء الدين وإعلاء كلمته بدون واسطة الجهاد، ولكنه كلفهم ذلك ليتوسلوا به إلى نيل درجة الصديقين والشهداء. وحين حكى قصة الرسل مجملة أعقبها بنوع من التفصيل والكتاب ظاهره الوحي. عن ابن عباس هو الخط بالقلم والضمير في فَمِنْهُمْ للذرية أو للمرسل إليهم بدليل الإرسال. والفاسقون إما العاصون بارتكاب الكبائر، وإما الكافرون ولعل هذا أظهر لوقوعه في طباق المهتدين إلا أن يحمل الفاسق على الذي لا يهتدي لوجه رشده قال مقاتل: المراد بالرأفة والرحمة هو ما أوقع الله تعالى في قلوبهم من التواد والتعاطف كما جاء في نعت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] قال أبو علي الفارسي: الرهبانية لا يستقيم حمل نصبها على جَعَلْنا لأن ما يبتدعونه لا يجوز أن يكون مجعولا لله قال في التفسير الكبير: هذا الكلام إنما يتم لو ثبت امتناع مقدور بين قادرين من أين يليق بأبي علي أن يخوض في أمثال هذه الأشياء. قلت: الظن بالعلماء ينبغي أن يكون أحسن من هذا ولا حاجة إلى إحالة تمام الكلام على المسألة المذكورة ولكن يرد على أبي علي أنه إذا جاز أن يكون الكفر والفسوق وسائر المعاصي الصادرة عن العبد منسوبة إلى تخليق الله، فلم لا يجوز أن يكون الابتداع وهو إحداث أمر من عند نفسه لا على ألسنة الرسل. مجعولا لله سبحانه؟ قال المفسرون: إن الجبابرة ظهروا على أمة عيسى بعد رفعه فقاتلوهم ثلاث مرات فقتلوهم حتى لم يبق منهم إلا القليل، فترهبوا على رؤوس الجبال فارين من الفتنة متحملين كلفا ومشاق زائدة على العبادات المكتوبة عليهم من الخلوة والاعتزال والتعبد في الغيران والكهوف، روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يا ابن مسعود أما علمت أن بني إسرائيل تفرقوا سبعين فرقة كلها في النار إلا ثلاث فرق فرقة آمنت بعيسى عليه السلام وقاتلوا أعداءه في نصرته حتى قتلوا وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين فلبسوا العباء وخرجوا إلى القفار والفيافي وهو قوله وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً» الآية قال العلماء: لم يرد الله تعالى بقوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 ابْتَدَعُوها طريقة الذم ولكن المراد أنهم أحدثوها من عند أنفسهم ونذورها. والرهبانية بفتح الراء مصدر وهو الفعلة المنسوبة إلى الرهبان بالفتح أيضا وهو الخائف «فعلان» من رهب كخشيان من خشي. وقرئ بالضم وهو نسبة إلى الرهبان جمع الراهب. وقوله إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع عند الأكثر أي ما فرضناها نحن عليهم ولكنهم ابتدعوها طلب رضوان الله. وقال آخرون: إنه متصل والمعنى ما تعبدناهم بها إلا على وجه تحصيل مرضاة الله فتكون ندبا إن أتى بها ارتضاها الله وإن لم يأت بها فلا حرج. وفي قوله فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أقول: أحدها أنهم ما أقاموا على تلك السيرة ولكنهم ضموا إليه التثليث والإلحاد إلا أناسا منهم أقاموا على دين عيسى حتى أدرجوا محمد صلى الله عليه وسلم فآمنوا به، وثانيها أن أكثرهم لم يتوسلوا بها إلى مرضاة الله ولكنهم جعلوها سلما إلى المنافع الدنيوية. وثالثها أن يكون في الكلام إضمار أي لم نفرضها أولا عليهم بل كانت على جهة الاستحباب، ثم فرضناها عليهم فمارعوها إلا قليلا منهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد أن استقاموا على الطريقة. ورابعها أن الصالحين من قوم عيسى ابتدعوا الرهبانية وانقرضوا عليها ثم جاء بعدهم من لم يرعها كما رعاها الحواريون. ثم خاطب المؤمنين منهم بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أي بعيسى اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ محمد صلى الله عليه وسلم يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ لإيمانكم أولا بعيسى وثانيا بمحمد صلى الله عليه وسلم وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وهو النور المذكور في قوله يَسْعى نُورُهُمْ أو النور المذكور في قوله أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام: 122] ويجوز أن يكون الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم والمراد اثبتوا على إيمانكم برسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتكم ما وعد مؤمني أهل الكتاب في قوله أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ [القصص: 54] وذلك أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين وادعوا الفضل عليهم فنزلت وفيه أنهم مثلهم في الإيمانين لأنهم لا يفرقون بين أحد من رسله على أنه يجوز أن يكون النصيب الواحد من الأجر أزيد من نصيبين فإن المال إذا قسم نصفين كان الكفل الواحد نصفا، وإذا قسم عشرة أقسام كان الكفل الواحد جزءا من عشرة. ولا شك أن النصيب الواحد من القسمة الأولى أزيد من النصيب الواحد من القسمة الثانية. قوله لِئَلَّا يَعْلَمَ الآية. أكثر المفسرين والنحويين على أن «لا» زائدة والمعنى ليعلم أَهْلُ الْكِتابِ الذين لم يسلموا أن الشأن لا ينالون ولا يقدرون على شيء من الكفلين. والنور والمغفرة لأنهم لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فلم ينفعهم إيمانهم من قبله، أو المراد أنا بالغنا في هذا البيان وأمعنا في الوعد لهم والوعيد ليعلم أهل الكتاب أن الشأن هو أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين، ولا يمكنهم حصر الأجر في طائفة مخصوصين. وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 يَشاءُ وقيل: غير زائدة والضمير في أَلَّا يَقْدِرُونَ للرسول وأصحابه. والعلم بمعنى الاعتقاد والمعنى لئلا يعتقد أهل الكتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله، ولكي يعتقدوا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وقد خص بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم ومن آمن به وبالله التوفيق وإليه المرجع والمآب والله أعلم. تم الجزء السابع والعشرون ويليه الجزء الثامن والعشرون أوله تفسير سورة المجادلة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الثامن والعشرون من أجزاء القرآن الكريم (سورة المجادلة مدنية حروفها ألف وتسعمائة واثنان وتسعون كلمها أربعمائة وثلاث وتسعون آياتها اثنتان وعشرون) [سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 22] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 القراآت يظهرون من المظاهرة: عاصم يظهرون بتشديد الظاء والهاء من الظهر وأصله «يتظهرون» أدغمت التاء في الظاء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. والباقون يظهرون بتشديد الظاء وزيادة الألف من التظاهر وأصله «يتظاهرون» ما هن أمهاتهم بالرفع: المفضل. الآخرون: بكسر التاء على إعمال «ما» عمل ليس هذه هي الفصحى ما تكون بتاء التأنيث: يزيد وهو ظاهر. الآخرون: على التذكير بناء على أن التقدير ما يقع شيء من نجوى. ولا أكثر بالرفع: يعقوب إما على الابتداء كقولك «لا حول ولا قوة» أو للعطف على محل مِنْ نَجْوى الباقون: بالنصب على أن «لا» لنفي الجنس أو على أنهما مجروران عطفا على نَجْوى كأنه قيل: ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم. أو عطفا على العدد والتقدير: ما يكون من نجوى أكثر من ذلك وتَتَناجَوْا من باب الافتعال: حمزة ورويس وفَلا تَتَناجَوْا من الافتعال أيضا. رويس. الْمَجالِسِ على الجمع: عاصم انْشُزُوا بضم الشين فيهما: أبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم غير يحيى وحماد والخراز. الآخرون: بالكسر فيهما وهما لغتان مثل يَعْرِشُونَ ويَعْرِشُونَ ورسلي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن عامر عشيراتهم على الجمع: الشموني كتب مجهولا الإيمان بالرفع: المفضل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 الوقوف: تَحاوُرَكُما ط بَصِيرٌ هـ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ط وَلَدْنَهُمْ ط وَزُوراً ط غَفُورٌ هـ يَتَمَاسَّا ط بِهِ ط خَبِيرٌ هـ يَتَمَاسَّا ج مِسْكِيناً ط وَرَسُولِهِ ط اللَّهِ ط أَلِيمٌ هـ بَيِّناتٍ ق مُهِينٌ هـ ط لاحتمال تعلق الظرف بما قبله وكونه مفعولا لا ذكر عَمِلُوا ط وَنَسُوهُ ط شَهِيدٌ هـ وَما فِي الْأَرْضِ هـ كانُوا ج لأن «ثم» للعطف أو لترتيب الاخبار الْقِيامَةِ ط عَلِيمٌ هـ الرَّسُولِ ز لعطف الجملتين المتفقتين معنى مع أن جاؤُكَ فعل ماض لفظا بِهِ اللَّهُ لا لأن ما بعده حال أو عطف على جاؤُكَ لمستقبل معنى نَقُولُ ط جَهَنَّمُ ط لاحتمال الحال وكونه مستأنفا يَصْلَوْنَها ج الْمَصِيرُ هـ وَالتَّقْوى ج تُحْشَرُونَ هـ بِإِذْنِ اللَّهِ ط الْمُؤْمِنُونَ هـ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ج لابتداء شرط آخر مع العطف مِنْكُمْ لا للعطف دَرَجاتٍ ط خَبِيرٌ هـ صَدَقَةً ط وَأَطْهَرُ ط رَحِيمٌ هـ صَدَقاتٍ ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط وَرَسُولَهُ ط تَعْمَلُونَ هـ عَلَيْهِمْ ط لتناهي الاستفهام إلى الإخبار مِنْهُمْ لا بناء على أن ما بعده حال والعامل معنى الفعل في الجار أي وهم يحلفون قاله السجاوندي ولا يبعد عندي أن يكون مستأنفا فيحسن الوقف. يَعْلَمُونَ هـ شَدِيداً ط يَعْمَلُونَ هـ مُهِينٌ هـ شَيْئاً ط النَّارِ ط خالِدُونَ هـ عَلى شَيْءٍ ط الْكاذِبُونَ هـ ذِكْرَ اللَّهِ ط أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ ط الْخاسِرُونَ هـ هـ الْأَذَلِّينَ هـ وَرُسُلِي ط عَزِيزٌ هـ عَشِيرَتَهُمْ ط بِرُوحٍ مِنْهُ ط للعدول عن الماضي إلى المستقبل فِيها ط عَنْهُ ط أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ط الْمُفْلِحُونَ هـ. التفسير: عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد كلمت المجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت وأنا عنده لا أسمع وقد سمع الله لها. وعن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت عليه أكرمها وقال: قد سمع الله لها أي أجاب وهي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة. ورآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم فلما سلمت راودها فأبت فغضب وكان به حدة فظاهر منها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أوسا تزوّجني وأنا شابة مرغوب فيّ، فلما كبر سني ونثرت بطني أي كثر منه ولدي جعلني منه كأمه. وفي رواية أنها قالت: إن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا. فقال صلى الله عليه وسلم لها: ما عندي في أمرك شيء. وروي أنه قال لها مرارا: حرمت عليه. وهي تقول: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي فنزلت. ومعنى فِي زَوْجِها في شأنه ومعنى «قد» في قَدْ سَمِعَ اللَّهُ التوقع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله عز وجل مجادلتها وشكواها وينزل في شأنها ما يفرج عنها. والتحاور التراجع في الكلام وفي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 الآية دلالة على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق كفاه الله همه. يروى أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى زوجها وقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: الشيطان، فهل من رخصة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم وقرأ عليه الآيات الأربع وقال صلى الله عليه وسلم له: هل تستطيع العتق؟ فقال: لا والله. فقال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ فقال: لا والله يا رسول الله إلا أن تعينني منك بصدقة فأعانه بخمسة عشر صاعا وأخرج أوس من عنده مثله فتصدق به على ستين. وعلم أن الظهار كان من أشد طلاق الجاهلية لأنه في التحريم غاية فإن كان شرعا متقدما فالآية ناسخة له ولا سيما فيمن روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: حرمت عليه. وإن كان عادة الجاهلية فلا نسخ لأن النسخ لا يوجد إلا في الشرائع. ثم إنه سبحانه وبخ العرب أوّلا بقوله الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ ثم بين الحكم العام في الآية الثانية ولهذا لم يورد لفظة منكم ونحن نبني تفسير الآية على أبحاث الأول في معنى الظهار وهو عبارة عن قول الرجل لامرأته «أنت عليّ كظهر أمي» فاشتقاقه من الظهر. وقال صاحب النظم: ليس الظهر بذلك أولى في هذا المطلوب من سائر الأعضاء التي هي موضع التلذذ فهو مأخوذ من ظهر إذا علا وغلب وبه سمي المركوب ظهرا لأن راكبه يعلوه، وكذلك امرأة الرجل مركبه وظهر له. والدليل على صحة هذا المعنى أن العرب تقول في الطلاق: نزلت عن امرأتي أي طلقتها. وفي لفظ الظهار إضمار والتقدير: ظهرك عليّ أي علوي وركوبي عليك حرام علي كعلو أمي. ثم لا مناقشة بين العلماء في الصلات فلو قال: أنت معي أو عندي أو مني أو لي كظهر أمي صح ظهاره. وكذا لو ترك الصلات كلها وقال: أنت كظهر أمي كما أن قوله «أنت طالق» صريح وإن لم يقل «مني» أما إذا شبهها بغير الظهر فذهب الشافعي إلى أن ذلك العضو إن كان مشعرا بالإكرام كقوله أنت علي كروح أمي أو عين أمي صح ظهاره إن أراد الظهار لا الإكرام وإلا فلا. وإن لم ينو شيئا ففيه قولان، وإن لم يكن مشعرا بالكرامة كقوله أنت كرجل أمي أو كيدها أو بطنها ففي الجديد ظهار، وفي القديم لا، وقد يرجح هذا بالبراءة الأصلية. وقال أبو حنيفة: إن شبهها بعضو من الأم يحل له النظر إليه كاليد أو الرأس لم يكن ظهارا، وإن شبهها بعضو يحرم النظر إليه كالبطن والفخذ كان ظهارا. وفي التشبيه بالمحرمات الأخر من النسب أو الرضاع سوى الأم في الجديد وعليه أبو حنيفة أنه ظهار لعموم قوله يَظْهَرُونَ ومن قصره على الأم احتج بقوله بعده ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ وبأن حرمة الأم أشد. البحث الثاني في المظاهر وفيه مسائل: الأولى: قال الشافعي: كل من صح طلاقه صح ظهاره وإن كان خصيا أو مجبوبا، ويتفرع عليه أن ظهار الذمي صحيح. حجة الشافعي عموم قوله تعالى وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ وأيضا تأثير الظهار في التحريم والذمي أهل لذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 بدليل صحة طلاقه. وأيضا إيجاب الكفارة للزجر عن هذا الفعل الذي هو منكر من القول وزور وهذا المعنى قائم في حق الذمي. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يصح ظهاره. واحتج أبو بكر الرازي لهما بأن قوله الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ خطاب للمؤمنين. وأيضا من لوازم الظهار تصحيح وجوب الصوم على العائد العاجز عن الإعتاق وإيجاب الصوم على الذمي ممتنع لأنه مع الكفر باطل، وبعد الإسلام غير لازم لأنه يجب ما قبله. وأجيب عن الأول بأن قوله مِنْكُمْ خطاب للحاضرين فلم قلتم: إنه يختص بالمؤمنين؟ على أن التخصيص بالذكر عندكم لا يدل على نفي ما عداه. وأيضا العام عندكم إذا أورد بعد الخاص كان ناسخا للخاص. وعن الثاني أن من لوازم الظهار أيضا أنه حين عجز عن الصوم اكتفي منه بالإطعام فهو هاهنا إن تحقق العجز وجب أن يكتفي فيه بالإطعام، وإن لم يتحقق العجز زال السؤال. وأيضا الصوم بدل عن الإعتاق والبدل أضعف عن المبدل. ثم إن العبد عاجز عن الإعتاق مع أنه يصح ظهاره بالاتفاق فإذا كان فوات أقوى اللازمين لا يوجب منع الظهار ففوات الأضعف كيف يمنع؟ وقال القاضي حسين من أصحاب الشافعي في الجواب: نقول للذمي إن أردت الخلاص من التحريم فأسلم وصم قوله الإسلام يجب ما قبله. قلنا: إنه عام والتكفير خاص والخاص مقدّم على العام. الثانية قال مالك وأبو حنيفة والشافعي: لا يصح ظهار المرأة من زوجها وهو ظاهر ولو قال شهرا فقد قال أبو حنيفة والشافعي: بطل ظهاره بمضي المدة وكان قبل ذلك صحيحا لما روي أن سلمة بن صخر ظاهر من امرأته حتى ينسلخ رمضان ثم وطئها في المدة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتحرير رقبة. وأما بطلان ظهاره بعد المدة فلمقتضى اللفظ كما في الأيمان، فإذا مضت المدة حل الوطء لارتفاع الظهار وبقيت الكفارة في ذمته. وقال مالك وابن أبي ليلى: هو مظاهر أبدا. البحث الثالث في المظاهر عنها. ويصح الظهار عن الصغيرة والمجنونة والأمة المتزوّجة والذمية والرتقاء والحائض والنفساء، ولا يصح عن الأجنبية سواء أطلق أو علق بالنكاح فقال «إذا نكحتك فأنت عليّ كظهر أمي» . ويصح عن الرجعية ولا يصح عن الأمة وأم الولد عند أبي حنيفة والشافعي لأن قوله تعالى وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يتناول الحرائر دون الإماء كما في قوله أَوْ نِسائِهِنَّ [النور: 31] بدليل أنه عطف عليه قوله أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ [النور: 31] وقال مالك والأوزاعي: يصح لأن قوله مِنْ نِسائِهِمْ يشمل ملك اليمين لغة. وفي الآية سؤال وهو أن المظاهر شبّه الزوجة بالأم ولم يقل إنها أم فكيف أنكر الله عليه بقوله ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ وحكم بأنه منكر وزور؟ والجواب أن قوله «أنت عليّ كظهر أمي» إن كان إخبارا فهو كذب لأن الزوجة حلال والأم حرام وتشبيه المحللة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 بالمحرمة في وصف الحل والحرمة كذب، وإن كان إنشاء كان معناه أن الشرع جعله سببا في حصول الحرمة، ولما لم يرد الشرع بهذا السبب كان الحكم به كذبا وزورا ولهذا أوجب الله سبحانه الكفارة على صاحب القول بعد العود. سؤال آخر قوله تعالى إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ظاهره يقتضي أنه لا أم إلا الوالدة لكنه قال في موضع آخر وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء: 23] وقال وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] أجاب في الكشاف بأنه يريد أن الأمهات على الحقيقة إنما هن الوالدات وغير هن ملحقات بهن لدخولهن في حكمهن بسبب الإرضاع، أو لكونها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أبو الأمة. وأما الزوجات فلسن من أحد القبيلين وكان قول المظاهر منكرا لمخالفة الحقيقة وزورا لعدم موافقة الشرع. قوله ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا قال الفراء: لا فرق في اللغة بين قولك عاد لما قال وإلى ما قال وفيما قال. وقال أبو علي الفارسي: كلمة إلى واللام يتعاقبان قال الله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف: 43] وقال فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 23] وقال أهل اللغة: إذا قال قائل عاد لما فعل جاز أن يريد أنه فعله مرة أخرى وهذا ظاهر، وجاز أن يريد أنه نقض ما فعل لأن التصرف في الشيء بالإعدام لا يمكن إلا بالعودة إليه، وإلى هذا ذهب أكثر المجتهدين إلا أن الشافعي قال: معنى العود لما قالوا السكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلقها فيه، وذلك أنه لما ظاهر فقد قصد التحريم فإن وصل ذلك بالطلاق فقد تمم ما شرع فيه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه، فإذا سكت عن الطلاق دل على أنه ندم على ما ابتدأه من التحريم فحينئذ تجب عليه الكفارة. واعترض أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عليه من وجهين: الأول أنه تعالى قال ثُمَّ يَعُودُونَ وكلمة «ثم» تقتضي التراخي. وعلى قول الشافعي يكون المظاهر عائدا عقيب القول بلا تراخ وهذا خلاف مفهوم الآية. الثاني أنه شبهها بالأم والأم لا يحرم إمساكها فلا يكون إمساك الزوجة نقضا لما قال. وأجيب عن الأول بأنه يوجب أن لا يتمكن المظاهر من العود إليها بهذا التفسير عقيب فراغه من التلفظ بلفظ الظهار حتى يحصل التراخي مع أن الأمة مجمعة على أن له ذلك. والتحقيق أن العبرة بالحكم ونحن لا نحكم بالعود ما لم ينقض زمان يمكنه أن يطلقها فيه فقد تأخر كونه عائدا عن كونه مظاهرا بهذا القدر من الزمان وهذا يكفي في العمل بمقتضى كلمة «ثم» . وعن الثاني أن المراد إمساكها على سبيل الزوجية واللفظ محتمل لهذا وإمساك الأم بهذا الوجه محرم. وقال أبو حنيفة: معناه استباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة، وذلك أنه لما شبهها بالأم في حرمة هذه الأشياء ثم قصد استباحتها كان مناقضا لقوله «أنت عليّ كظهر أمي» . وقال مالك: العود إليها عبارة عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 العزم على جماعها، وضعف بأن العزم على جماعها لا يناقض كونها محرمة إنما المناقض لكونها محرمة هو القصد إلى استحلال جماعها فيرجع إلى قول أبي حنيفة. ولا يرد عليه إلا أنه خص وجه التشبيه من غير دليل، والذي ذكره الشافعي أعم وأقل ما يطلق عليه اسم العود فكان أولى. وعن طاوس والحسن أن العود إليها عبارة عن جماعها وخطئ لقوله فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا وإذا كان التكفير قبل الجماع والتكفير لا يثبت إلا بعد العود فالعود غير الجماع. وأما الاحتمال الأول وهو أن العود لما فعل هو فعله مرة أخرى ففيه أيضا وجوه: الأول: قول الثوري: إن العود هو الإتيان بالظهار في الإسلام وزيف بأنه يرجع حاصل المعنى إلى قوله وَالَّذِينَ كانوا يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ في الجاهلية ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا في الإسلام فَكَفَّارَتُهُ كذا وكذا وهذا إضمار من غير دليل مع أنه خلاف الأصل. الثاني قال أبو العالية: إذا كرر لفظ الظهار فهو عود وإلا فلا. وضعف بحديث أوس وحديث سلمة بن صخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لزمهما الكفارة مع أنهما لم يكررا الظهار. الثالثة: قال أبو مسلم الأصفهاني: العود هو أن يحلف على ما قال أوّلا من لفظ الظهار فإذا لم يحلف لم تلزمه الكفارة قياسا على ما لو قال في بعض الأطعمة «إنه حرام عليّ كلحم الآدمي» فإنه لا يلزمه الكفارة إلا إذا حلف عليه. ورد بأن الكفارة قد تجب بالإجماع في المناسك ولا يمين. وعندي أن هذا الرد مردود لأنه لا يلزم من وجوب الكفارة في الصورتين من غير يمين وجوبها في كل صورة بلا يمين. نعم يرد على أبي مسلم أن تفسير العود بالحلف إثبات اللغة بالقياس، ولا يخفى أن العود لما قالوا على هذا الاحتمال ظاهر لأنه أريد بالقول اللفظ. وأما الاحتمال الآخر فيحتاج إلى تأويل القول بالمقول فيه وهو ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار كما مر في قوله وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ [مريم: 81] أي المال والواو للحال. مسائل: الأولى: الجديد وأبو حنيفة أن الظهار يحرم جميع جهات الاستمتاعات لأن قوله سبحانه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا يعم جميع ضروب المس من المس بيد وغيرها. وروى عكرمة أن رجلا ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال: اعتزلها حتى تكفّر. الثانية: اختلفوا فيمن ظاهر مرارا فقال أبو حنيفة والشافعي: لكل ظهار كفّارة إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد التكرار للتأكيد. وقال مالك: من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة فليس عليه إلا كفّارة واحدة. حجتهما أنه تعالى رتب الكفّارة على التلفظ بكلمة الظهار والمعلول يتكرر بتكرر العلة، ويتفرع عليه أنه لو كانت تحته أربع نسوة وقال لهن: أنتن عليّ كظهر أمي لزمه أربع كفارات لأن الحكم يتكرر ويتعدّد بتعدّد المحل. حجته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 أنه رتب الكفارة على مطلق الظهار والمطلق شامل للمتعدد، ونوقض باليمين فإن الكفارة لازمة في كل يمين. الثالثة: دلت الآية على إيجاب الكفارة قبل التماس فإن جامع قبل أن يكفر لم يجب عليه إلا كفارة واحدة وهو قول أكثر أهل العلم كمالك وأبي حنيفة والشافعي وسفيان وأحمد وإسحق، لأن سلمة بن صخر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها. فقال عليه الصلاة والسلام: استغفر ربك ولا تعد حتى تكفّر. وقال بعضهم ومنهم عبد الرحمن بن مهدي: إذا واقعها قبل أن يكفر فعليه كفارتان. الرابعة: لا ينبغي للمرأة أن تدع الزوج يقربها حتى يكفّر فإن تهاون حال الإمام بينهما ويجبره على التكفير وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع. قال الفقهاء: ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة وامتناع من إيفاء حقها. الخامسة: قد ذكرنا أن الاستمتاعات محرمة عليه إلى أن يكفّر وذلك صريح في تحرير الرقبة وفي الصيام والآن نقول: إن التكفير بالإطعام أيضا كذلك وإن لم يتعرض للتماس في قوله فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً حملا للمطلق على المقيد عند اتحاد الواقعة، وللأقل وهو صورة واحدة على الأكثر وهذه من فصاحات القرآن. السادسة: مذهب أبي حنيفة أن هذه الرقبة تجزي وإن كانت كافرة لإطلاق الآية. وقال الشافعي: لا بد أن تكون مؤمنة قياسا على كفارة القتل. والجامع أن الإعتاق إنعام والمؤمن أولى به، ولأن المشركين نجس وكل نجس خبيث بالإجماع. وقال الله تعالى وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ [البقرة: 267] ولا تجزي أم الولد ولا المكاتب عند الشافعي لضعف الملكية فيه ولا يحصل الجزم بالخروج عن العهدة. وقال أبو حنيفة: إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئا جاز عن الكفارة لأنه رقبة بدليل قوله وَفِي الرِّقابِ [البقرة: 177] وإن أعتقه بعد أن يؤدي شيئا لم يجز. والمدبر يجزي عند الشافعي ولا يجزي عند أبي حنيفة. السابعة: يعتبر في الرقبة بعد الإيمان على خلاف فيه السلامة عن العيوب لا التي يثبت بها الرد في البيع ولكن التي تخل بالعمل والاكتساب لأن المقصود هناك المالية وهاهنا تكميل حاله ليتفرغ للعبادات والوظائف المخصوصة بالأحرار، فلا يجزي مقطوع اليدين أو الرجلين أو إحداهما ولا المجنون، ويجزي الأعور والأصم والأخرس ومقطوع الأذنين أو الأنف أو أصابع الرجلين لا أصابع اليد لأن البطش والعمل يتعلق بها. والعبد الغائب. إن انقطع خبره لا يجزي ولو أعتق عبده عن كفارته شرط أن يردّ دينارا أو غيره لم يجز بل يجب أن يكون الإعتاق خاليا عن شوائب العوض. الثامنة: كفارة الظهار مرتبة على ما في الآية. فإن كان في ملكه عبد فاضل عن حاجته فواجبه هو، وإن احتاج إلى خدمته لمرض أو كبر أو لأن منصبه يأبى أن يخدم نفسه لم يكلف صرفه إلى الكفارة، ولو وجد ثمن العبد فكالعبد. والشرط أن يفضل عن حاجة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 نفقته وكسوته ونفقة عياله وكسوتهم وعن المسكن وما لا بدّ له من الأثاث ولو كانت له ضيعة أو رأس مال يتجر فيه ويفي ما يحصل منهما بكفايته بلا مزيد ولو باعهما لارتدّ إلى حد المساكين لم يكلف صرفه إلى الكفارة. ولو وجد ثمن العبد فكالعبد والشرط بيعها وإن كان ماله غائبا أو لم يجد الرقبة في الحال لم يجز العدول إلى الصوم بل يصبر، وإن كان يتضرر بامتناع الابتياع لأنه تعالى قال فَمَنْ لَمْ يَجِدْ وهو واجد. أما من كان مريضا في الحال ولا يقدر على الصوم فإنه ينتقل إلى الإطعام لأنه تعالى قال فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ وهو غير مستطيع، والمآل غير معلوم ولا هو متعلق باختياره بخلاف إحضار المال أو تحصيل الرقبة فإن ذلك قد يمكنه. التاسعة: لو أطعم مسكينا واحدا ستين مرة لا يجزي عند الشافعي لظاهر الآية، ولأن إدخال السرور في قلب ستين أجمع وأقرب من رضا الله. وقال أبو حنيفة: يجزي. العاشرة: الشبق المفرط والغلمة عذر عند الأكثرين في الانتقال إلى الإطعام كما في قصة الأعرابي وهل أتيت إلا من قبل الصوم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أطعم. وحمله آخرون على خاصة الأعرابي. ولنكتف بهذا القدر من المسائل الفقهية في تفسير آية الظهار. قال الزجاج ذلِكُمْ تُوعَظُونَ أي ذلكم التغليظ وعظ لكم حتى تتركوا الظهار. وحين ذكر حكم الآية عقبه بقوله ذلك فيحتمل أن يعود إلى مطلق بيان كفارة الظهار، ويحتمل أن يعود إلى التخفيف والتوسيع لتصدقوا بالله ورسوله فإن التخفيف مناسب للتصديق والعمل بالشريعة وَلِلْكافِرِينَ الذين استمروا على أحكام الجاهلية عَذابٌ أَلِيمٌ وإنما قال في الآية الثانية عَذابٌ مُهِينٌ ليناسب قوله كُبِتُوا أي أخزوا وأهلكوا. قيل: أريد كبتهم يوم الخندق. وفي الحدود مع المحادة نوع من التجانس، والمحادّة المشاقة من الحد الطرف كأن كلا من المتخاصمين في طرف آخر كالمشاقة من الشق. وقال أبو مسلم: هي من الحديد كأن كلا منهما يكاد يستعمل الحديد أي السيف وهم المنافقون أو الكافرون على الإطلاق. قوله أَحْصاهُ اللَّهُ أي أحاط بما عمل كل منهم كما وكيفا وزمانا ومكانا وَنَسُوهُ لكثرته أو لقلة اكتراثهم بالمعاصي وإنما يحفظ معظمات الأمور. ثم قرر كمال علمه بقوله ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ نفر ويجوز أن يكون ثلاثة وصفا للنجوى على حذف المضاف أي من أهل نجوى، أو لأنهم جعلوا نجوى مبالغة وكذلك كل مصدر وصف به. قال الزجاج: هي مشتقة من النجوة المكان المرتفع لأن الكلام المذكور سرا يجل عن استماع الغير. سؤال: لم ذكر الثلاثة والخمسة وأهمل ذكر الاثنين والاربعة؟ الجواب من وجوه أحدها: أن الآية نزلت في قوم من المنافقين اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 وكانوا على هذين العددين فحص صورة الواقعة بالذكر. عن ابن عباس أن ربيعة وحبيبا ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوما ما يتحدثون فقال أحدهم: أترى أن الله يعلم ما نقول. فقال الآخر: يعلم بعضا ولا يعلم بعضا. وقال الثالث: إن كان يعلم بعضا فهو يعلم كله فنزلت. قالت جماعة: الحق مع الثالث فلعل الآخر كان فلسفي الاعتقاد القائل بأنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات. ثانيها أن العدد الفرد أشرف من الزوج لأن الله تعالى وتر ولأن الزوج يحتاج إلى الوتر دون العكس كالواحد. وثالثها أن المتشاورين الاثنين كالمتنازعين في النفي والإثبات، والثالث كالمتوسط الحكم وهكذا في كل زوج اجتمعوا للمشاورة فلا بد فيهم من واحد يكون حكما فذكر سبحانه الفردين الأولين تنبيها على الأفراد الباقية. ورابعها أن هذا إشارة إلى كمال المرحمة، وذلك أن الثلاثة إذا أخذ اثنان منهم في التناجي والمسارّة بقي الواحد ضائعا وحيدا فيضيق قلبه فيقول الله تعالى: أنا جليسك وأنيسك. وكذا الخمسة إذا اجتمع اثنان اثنان منهم بقي الخامس فريدا فنفس الله تعالى عنه ببشارة المعية. وهذا التأويل لا يتأتى في الاثنين والأربعة فأهمل ذكرهما. وفيه أن من انقطع عن الخلق لم يتركه الله ضائعا. وخامسها وهو من السوانح. أنه سبحانه لما أراد تكميل الكلام بقوله وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ لم يكن بد من الابتداء بالثلاثة مع أنها عدد أكثري في التشاور، ثم بالخمسة ليكون لكل من العددين طرفا قلة وكثرة. وفيه أيضا من الفصاحة أنه لم يقع حروف الأربعة مكررا إذ لو قال «ولا أربعة إلا وهو خامسهم» على ما وقع في مصحف عبد الله لكان في ذكر الرابع والأربعة شبه تكرار. ولعل في الآية إشارة إلى أن التناجي لا ينبغي أن يكون إلا بين اثنين إلى ستة لتكون الزيادة على الخمسة بقدر احتمال النقصان على الثلاثة، ويعضده ما روي أن عمر بن الخطاب ترك الأمر شورى بين ستة ولم يتجاوز بها إلى سابع، وهذه من نكت القرآن زادنا الله اطلاعا عليها. قال أكثر المفسرين: كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين يريدون بذلك غيظهم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فعادوا لمثله وكان تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمحالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فنزل أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ الآية منهم من قال: هم المنافقون ومنهم من قال: فريق من الكفار. والأول أقرب بدليل قوله وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ وذلك أنهم كانوا يقولون «السام عليك يا محمد» والله تعالى يقول وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: 59] و «يا أيها الرسول» و «يا أيها النبي» . وحديث عائشة مع اليهود في هذا المعنى مذكور مع شهرته وكانوا يقولون: ما له إن كان نبيا لا يدعو علينا حتى يعذبنا الله بما نقول، فأجاب الله تعالى عن قولهم بأن جهنم تكفيهم. قال أبو علي: التناجي والانتجاء بمعنى نحو اجتوروا واعتوروا في معنى تجاوروا وتعاوروا. ثم نهى المؤمنين عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 مثل تلك النجوى وهو ظاهر. وقال جمع من المفسرين: وهو خطاب للمنافقين الذين آمنوا باللسان دون مواطأة القلوب. وأعلم أن المناجاة إذا كانت على طريقة البر والتقوى فقلما تقع الداعية إلى كتمانها فلا تكره النجوى ولا يتأذى بها أحد إذا عرفت سيرة المناجي فلهذا أمر الله سبحانه أن لا يقع التناجي إلا على وجه البر. قوله إِنَّمَا النَّجْوى الألف واللام فيه لا يمكن أن تكون للاستغراق أو للجنس، فمن النجوى ما تكون ممدوحة لاشتمالها على مصلحة دينية أو دنيوية فهي إذن للعهد وهو التناجي بالإثم والعدوان زينه الشيطان لأجلهم لِيَحْزُنَ الشيطان، أو التناجي المؤمنين وكانوا يقولون ما نراهم متناجين إلا وقد بلغهم عن أقاربنا الذين خرجوا إلى الغزوات أنهم قتلوا أو هربوا. ثم بين أن الشيطان أو الحزن لا يضر المؤمن أصلا إلا بمشيئة الله وإرادته. عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه» «1» وفي رواية «دون الثالث» . وحين نهى تعالى عباده المؤمنين عما يكون سببا للتباغض والتنافر حثهم على ما يوجب مزيد المحبة والألفة. والتفسح في المجلس التوسع لله والمراد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتضامّون فيه تنافسا في القرب منه وحرصا على استماع كلامه. ومن قرأ على الجمع جعل لكل جالس مجلسا على حدة. وقيل: هو المجلس من مجالس القتال أي مراكز القتال. كان الرجل يأتي الصف فيقول: تفسحوا. فيأبون حرصا على الشهادة. والقول الأول أصح. قال مقاتل بن حيان: كان صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة في الصفة وفي المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام وشق ذلك على الرسول فقال لمن حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان قم يا فلان. فلم يزل كذلك حتى أقعد النفر الذين هم قيام بين يديه فعرفت الكراهية في وجه من أقيم من مجلسه، وطعن المنافقون في ذلك قالوا: والله ما عدل على هؤلاء وإن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم فأجلس من أبطأ عنه فنزلت وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا أي انهضوا للتوسعة على المقبلين فانشزوا ولا تملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالارتكاز فيه يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أيها الممتثلون والعالمين منهم خاصة دَرَجاتٍ قال بعض أهل العلم: المراد به الرفعة في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وهو مناسب للمقام لقوله «ليليني منكم أولو الأحكام   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 9، 43، 45، 430) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 والنهي» «1» والمشهور أنه الرفعة في درجات ثواب الآخرة وقد أطنبنا في فضيلة العلم في أوائل البقرة عند قوله وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31] والأمر يقتضي أن يقتدى بالعالم في كل شيء ولا يقتدى بالجاهل في شيء، وذلك أنه يعلم من كيفية الاحتراز عن الحرام والشبهات ومحاسبة النفس ما لا يعرفه الغير، ويعلم من كيفية التوبة وأوقاتها وصفاتها ما لا خبر فيه عند غيره، ويتحفظ فيما يلزمه من الحقوق ما لا يتحفظ غيره ولكنه كما تعظم منزلته عند الطاعة ينبغى أن يعظم عتابه عند التقصيرات حتى كاد تكون الصغيرة بالنسبة إليه كبيرة، اللهم ثبتنا على صراطك المستقيم ووفقنا للعمل بما فهمنا من كتابك الكريم. قال ابن عباس: كان المسلمون أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه وأراد الله أن يخفف عن نبيه، فلما نزلت آية النجوى شح كثير من الناس فكفوا عن المسألة. وقال مقاتل بن حيان: إن الأغنياء غلبوا الفقراء في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وأكثروا مناجاته فأمر الله بالصدقة عند المناجاة فازدادت درجة الفقراء وانحطت رتبة الأغنياء وتميز محب الآخرة عن محب الدنيا. قال بعضهم: هذه الصدقة مندوبة لقوله ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ ولأنه أزيل العمل به بكلام متصل وهو قوله أَأَشْفَقْتُمْ والأكثرون على أنها كانت واجبة لظاهر الأمر، والواجب قد يوصف بكونه خيرا ولا يلزم من اتصال الآيتين في القراءة اتصالهما في النزول. وقد يكون الناسخ متقدما على المنسوخ كما مر في آية الاعتداد بالحول في البقرة. واختلفوا في مقدار تأخرها: فعن الكلبي ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من نهار. وعن مقاتل بقي عشرة أيام. وعن علي رضي الله عنه: لما نزلت الآية دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقول في دينار؟ قلت: لا يطيقونه. قال: كم؟ قلت: حبة أو شعيرة. قال: إنك لزهيد أي إنك لقليل المال فقدرت على حسب مالك. وعنه عليه السلام: إن في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي. كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم فكنت إذا ناجيته تصدّقت بدرهم. قال الكلبي: تصدق به في عشر كلمات سألهن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال القاضي: هذا لا يدل على فضله على أكابر الصحابة لأن الوقت لعله لم يتسع للعمل بهذا الفرض. وقال فخر الدين الرازي: سلمنا أن الوقت قد وسع إلا أن الاقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير الذي لا يجد شيئا وينفر الرجل الغني ولم يكن في تركه مضرة. لأن   (1) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 122- 123. أبو داود في كتاب الصلاة باب 95. النسائي في كتاب الصلاة باب 54. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 45. الدارمي في كتاب الصلاة باب 51. أحمد في مسنده (1/ 457) (4/ 122) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 الذي يكون سببا للألفة أولى مما يكون سببا للوحشة. وأيضا الصدقة عند المناجاة واجبة: أما المناجاة فليست بواجبة ولا مندوبة بل الأولى ترك المناجاة لما بيّنا من أنها كانت سببا لسآمة النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: هذا الكلام لا يخلو عن تعصب ما ومن أين يلزمنا أن نثبت مفضولية علي رضي الله عنه في كل خصلة، ولم لا يجوز أن يحصل له فضيلة لم توجد لغيره من أكابر الصحابة. فقد روي عن ابن عمر كان لعلي رضي الله عنه ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليّ من حمر النعم: تزويجه فاطمة رضي الله عنها وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى. وهل يقول منصف إن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم نقيصة على أنه لم يرد في الآية نهي عن المناجاة وإنما ورد تقديم الصدقة على المناجاة فمن عمل بالآية حصل له الفضيلة من جهتين: سدّ خلة بعض الفقراء، ومن جهة محبة نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم ففيها القرب منه وحل المسائل العويصة وإظهار أن نجواه أحب إلى المناجي من المال والظاهر أن الآية منسوخة بما بعدها وهو قوله أَأَشْفَقْتُمْ إلى آخرها. قاله ابن عباس. وقيل: نسخت بآية الزكاة. أما أبو مسلم الذي يدعي أن لا نسخ في القرآن فإنه يقول: كان هذا التكليف مقدرا بغاية مخصوصة ليتميز الموافق من المنافق والمخلص من المرائي، وانتهاء أمد الحكم لا يكون نسخا له. ومعنى الآية أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق المنقص للمال الذي هو أحب الأشياء إليكم فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتم به وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ورخص لكم في أن لا تفعلوا فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات. ومن زعم أن العمل بآية النجوى لم يكن من الطاعات قال: إنه لا يمتنع أن الله تعالى علم ضيق صدر كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل لو دام الوجوب فقال: إذا كنتم تائبين راجعين إلى الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة فقد كفاكم هذا التكليف. قال المفسرون: كان عبد الله بن نبتل المنافق يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجراته إذ قال: يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان، فدخل ابن نبتل وكان أزرق فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل فعلت. فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزل أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا أي وادّوا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وهم اليهود ما هُمْ مِنْكُمْ لأنهم ليسوا مسلمين بالحقيقة وَلا مِنْهُمْ لأنهم كانوا مشركين في الأصل وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وهو ادعاء الإسلام. وفي قوله وَهُمْ يَعْلَمُونَ دلالة على إبطال قول الجاحظ إن الخبر الكذب هو الذي يكون مخالفا للمخبر عنه مع أن المخبر يعلم المخالفة وذلك أنه لو كان كما زعم لم يكن لقوله وَهُمْ يَعْلَمُونَ فائدة بل يكون تكرار صرفا. قال بعض المحققين: العذاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 الشديد هو عذاب القبر، والعذاب المهين الذي يجيء عقيبه هو عذاب الآخرة. وقيل: الكل عذاب الآخرة لقوله الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النحل: 88] قال جار الله: معنى قوله إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ إنهم كانوا في الزمان الماضي المتطاول مصرين على سوء العمل، أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة. ومعنى الفاء في فَصَدُّوا أنهم حين دخلوا في حماية الايمان بالأيمان الكاذبة وأمنوا على النفس والمال اشتغلوا بصدّ الناس عن الدخول في الإسلام بإلقاء الشبهات وتقبيح حال المسلمين. ويروى أن رجلا منهم قال: لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا فنزل لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ الآية. ثم أخبر عن حالهم العجيبة الشأن وهو أنهم يحلفون يوم المحشر لعلام الغيوب كما يحلفون لكم في الدنيا وأنتم بشر يخفى عليكم السرائر وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ من النفع. والمراد أنهم كما عاشوا على النفاق والحلف الكاذب يموتون ويبعثون على ذلك الوصف. قال القاضي والجبائي: إن أهل الآخرة لا يكذبون. ومعنى الآية أنهم يحلفون في الآخرة إنا ما كنا كافرين عند أنفسنا. وقوله أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ في الدنيا. ولا يخفى ما في هذا التأويل من التعسف وقد مر البحث في قوله وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ثم بين أن الشيطان هو الذي زين لهم ذلك. ومعنى استحوذ استولى وغلب ومنه قول عائشة في حق عمر: كان أحوذيا أي سائسا غالبا على الأمور وهو أحد ما جاء على الأصل نحو «استصوب واستنوق» احتج القاضي به في خلق الأعمال بأن ذلك النسيان لو حصل بخلق الله لكانت إضافتها إلى الشيطان كذبا، ولكانوا كالمؤمنين في كونهم حزب الله لا حزب الشيطان. والجواب ظاهر مما سلف مرارا فإن الكلام في الانتهاء لا في الوسط. قوله أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ قال أهل المعنى: إن ذل أحد الخصمين تابع لعز الخصم الآخر. ولما كانت عزة أولياء الله تعالى غير متناهية فذل أعدائه لا نهاية له فهم إذن أذل خلق الله. ثم قرر سبب ذلهم بقوله كَتَبَ اللَّهُ في اللوح لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إما بالحجة وحدها أو بها وبالسيف. قال مقاتل: إن المسلمين قالوا: إنا لنرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم. فقال عبد الله بن أبيّ: أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتموهم عليها؟ كلا والله إنهم أكثر عددا وعدّة فنزلت الآية. ثم بين أن الجمع بين الإيمان الخالص وموادّة من حادّ الله ورسوله غير ممكن ولو كان المحادّون بعض الأقربين. وقال جار الله: هذا من باب التمثيل والغرض أنه لا ينبغي أن يكون وحقه أن يمتنع ولا يوجد. قلت: لو اعتبر كل من الأمرين من حيث الحقيقة كان بينهما أشد التباين ولا حاجة إلى هذا التكلف إلا أن يحمل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 أحدهما على الحقيقة والآخر على الظاهر فحينئذ قد يجتمعان كما في حق أهل النفاق، وكما يوجد بعض أهل الإيمان يخالط بعض الكفرة ويعاشرهم لأسباب دنيوية ضرورية. عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة فإني أجد فيما أوحي إليّ» لا تَجِدُ قَوْماً يروى أنها نزلت في أبي بكر، وذلك أن أبا قحافة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصكه صكة سقط منها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو قد فعلته؟ قال: نعم. قال: لا تعد. قال: والله لو كان السيف قريبا مني لقتلته. وقيل: في أبي عبيدة بن الجراح فقتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد، وفي كثير من أكابر الصحابة أعرضوا عن عشائرهم وعادوهم لحب الله ورسوله. فذهب جمع من المفسرين إلى أنها نزلت في حاطب ابن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم عام الفتح وسيجيء في الممتحنة. والأظهر عندي نزولها في المؤمنين الخلص لقوله أُولئِكَ كَتَبَ أي أثبت فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ إثبات المكتوب في القرطاس. وقيل: معناه جمع. والتركيب يدور عليه أي استكملوا أجزاء الإيمان بحذافيرها ليسوا ممن يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض. قوله وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ قال ابن عباس: أي نصرهم على عدوّهم. وسمي النصرة روحا لأن الأمر يحيا بها، ويحتمل أن يكون الضمير للإيمان على أنه في نفسه روح فيه حياة القلوب والباقي ظاهر والله أعلم وإليه المصير وبيده التوفيق والإتمام بالصواب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 (سورة الحشر) (مدنية حروفها ألف وخمسمائة وثلاثون كلماتها أربعمائة وخمس وأربعون آياتها أربع وعشرون) [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 24] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 القراآت: يخربون بالتشديد: أبو عمرو. والباقون: بالتخفيف من الإخراب تكون بالتاء الفوقانية دولة بالرفع على «كان» التامة: يزيد. والآخرون: على التذكير والنصب جدار بالألف على التوحيد: ابن كثير وأبو عمرو. والآخرون: بضمتين من غير ألف. إني أخاف بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. والْبارِئُ بالإمالة: قتيبة ونصير وأبو عمرو طريق ابن عبدوس. الوقوف وَما فِي الْأَرْضِ ط الْحَكِيمُ هـ الْحَشْرِ ط الْأَبْصارِ ط فِي الدُّنْيا ط النَّارِ ط هـ وَرَسُولَهُ ج بناء على أن الشرط من جملة المذكور الْعِقابِ هـ الْفاسِقِينَ هـ مَنْ يَشاءُ ط قَدِيرٌ هـ السَّبِيلِ هـ مِنْكُمْ ط فَانْتَهُوا ج لابتداء من بعد جزاء الشرط مع اتفاق النظم وَاتَّقُوا اللَّهَ ط الْعِقابِ هـ لئلا يوهم أن قوله لِلْفُقَراءِ يتعلق ب شَدِيدُ ورَسُولِهِ ط الصَّادِقُونَ هـ ج بناء على أن ما بعده مستأنف أو معطوف ويجيء وجه كل منهما في التفسير. خَصاصَةٌ قف قيل: وقفة والأحسن الوصل لأن الاعتراض مؤكد لما قبله الْمُفْلِحُونَ هـ لمثل المذكور رَحِيمٌ هـ أَبَداً لا لأن ما بعده من تمام القول لَنَنْصُرَنَّكُمْ ط لَكاذِبُونَ هـ مَعَهُمْ ج لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 يَنْصُرُونَهُمْ ط للعطف فيهما مع الابتداء بالقسم لا يُنْصَرُونَ هـ مِنَ اللَّهِ ط لا يَفْقَهُونَ هـ جُدُرٍ ط شَدِيدٌ هـ لا يَعْقِلُونَ هـ ج لتعلق الكاف ب لا يَعْقِلُونَ أو بمحذوف أو مثلهم كمثل أَمْرِهِمْ ط لاحتلاف الجملتين أَلِيمٌ هـ ج لما قلنا اكْفُرْ ط الْعالَمِينَ هـ فِيها ط الظَّالِمِينَ هـ لِغَدٍ ج لاعتراض خصوص بين العمومين أي لم يتق الله كل واحد منكم فلتنظر لغدها نفس واحد منكم وَاتَّقُوا اللَّهَ هـ تَعْمَلُونَ هـ أَنْفُسَهُمْ ط الْفاسِقُونَ هـ الْجَنَّةِ الأولى ط الْفائِزُونَ هـ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ط يَتَفَكَّرُونَ هـ إِلَّا هُوَ ج لاحتمال كون ما بعده خبر مبتدأ محذوف وَالشَّهادَةِ ج لاحتمال كون الضمير بدلا من عالم أو مبتدأ الرَّحِيمُ هـ إِلَّا هُوَ ط لما قلنا الْمُتَكَبِّرُ ط يُشْرِكُونَ هـ الْحُسْنى ط وَالْأَرْضِ ط الْحَكِيمُ هـ. التفسير: قال المفسرون: صالح بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما غلب الكفار يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له رايه، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبين إلى مكة فعاهدوا قريشا عند الكعبة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعبا غيلة وكان أخا كعب من الرضاعة ثم صبحهم بالكتائب وهو على حمار مخطوم بليف فقال لهم: اخرجوا من المدينة فقالوا: الموت أحب إلينا من ذاك. فتنادوا بالحرب. وقيل: استمهلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام ليتجهزوا للخروج فأرسل إليهم عبد الله بن أبيّ المنافق وأصحابه لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولئن خرجتم لنخرجن معكم فدرّبوا على الأزقة وحصنوها، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة. فلما قذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصرة المنافقين طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤا من متاعهم، فذهبوا إلى اريحاء وأذرعات من الشام إلا أهل بيتين منهم ابن أبي الحقيق وحييّ بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة. واللام في قوله لِأَوَّلِ الْحَشْرِ بمعنى الوقت كقولك «جئت ليوم كذا» . وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام. فمعنى الحشر إخراج الجميع من مكان، ومعنى الأولية أنه لم يصبهم قبل ذلك مثل هذا الذل لأنهم كانوا أهل منعة هذا قول ابن عباس والأكثرين. وقيل: هذا أول حشرهم، وآخره حيث يحشر الناس للساعة إلى ناحية الشام كما جاء في الحديث «نار تخرج من المشرق وتسوق الناس إلى المغرب» «1» قاله   (1) رواه أبو داود في كتاب الملاحم باب 12. الترمذي في كتاب الفتن باب 21. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 28. أحمد في مسنده (2/ 8) (4/ 7) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 قتادة. وقيل: آخر حشرهم اجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام. وقيل: معناه لأول ما حشر بقتالهم لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال في الكشاف: الفرق بين النظم الذي جاء عليه وبين قول القائل «وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم» هو أن في تقديم الخبر على المبتدأ دليلا على فرط وثوقهم بحصانتها، وفي نصب ضميرهم اسما لأن إسناد الجملة إليه دليل على أنهم اعتقدوا عزة أنفسهم ومنعتها بحيث لا يمكن لأحد أن يتعرض لهم. قلت: حاصل كلامه رضي الله عنه الحصر. ومعنى إتيان الله إتيان أمره وهو النصر إن عاد إلى اليهود وهذا أظهر ليناسب قوله تعالى فِي قُلُوبِهِمُ ولاستعمال القرآن نظيره في مواضع أخر في معرض التهديد هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ [البقرة: 210] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام: 158] ومعنى لَمْ يَحْتَسِبُوا أنه لم يخطر ببالهم قتل كعب غيلة على يد أخيه. وقذف الرعب في قلوبهم وهذا من خواص نبينا صلى الله عليه وسلم كما مر في آل عمران سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران: 151] وفي لفظ القذف زيادة تأكيد ولهذا قالوا في صفة الأسد «مقذف» فكأنما قذف باللحم قذفا لاكتنازه وتداخل أجزائه. قال الفراء يُخْرِبُونَ بالتشديد يهدمون، وبالتخفيف يخرجون منها ويتركونها. وكان أبو عمرو ويقول: الإخراب أن يترك الشيء خرابا، والتخريب الهدم، وبنو النضير خربوا وما أخربوا. وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في بعض الأحكام نحو «فرحته» و «أفرحته» و «حسنه الله» و «أحسنه» . قال المفسرون: إنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربونها من داخل والمسلمون من خارج. قلت: ويحتمل أن يكون بعض التخريب لسدّ أفواه الازقة بالخشب والحجارة أو لنقل ما أرادوا حمله من جيد الخشب والساج. وأما المؤمنون فداعيهم إلى ذلك إزالة تحصنهم أو أن يتسع لهم في الحرب مجال، ومعنى تخريبهم بأيدي المؤمنين أنهم كانوا السبب فيه وأنهم عرضوا المؤمنين لذلك. ثم أمر أهل الابصار الباطنة بالاعتبار وهو العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ومنه العبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد، والتعبير لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول، والعبارة لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى فهم المستمع، والسعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه، أو القائس يعبر عن المقيس عليه إلى المقيس. ومعنى الاعتبار في الآية أنهم اعتمدوا على حصونهم وعدّتهم فأمر الله تعالى أرباب العقول بأن ينظروا في حالهم ولا يعتمدوا على شيء غير الله، أو المراد أن يعرف الإنسان عاقبة الكفر والغدر والطعن في النبوّة فإن أولئك اليهود وقعوا بشؤم الغدر والكفر في البلاء والجلاء. واعترض بأن رب شخص وكفر وما عذب في الدنيا، ورب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 ممتحن مبتلى هو نبي أو ولي. وأجيب بأن حاصل القياس والاعتبار يرجع إلى أن الغادر الكافر معذب أعم من أن يكون بالتخريب أو بالقتل أو في الدنيا أو في الآخرة والعكس لا يلزم. وقيل: معنى الاعتبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدهم أن يورثهم أرضهم وأموالهم بغير قتال فكان كما وقع فدل على صحة نبوّته. والجلاء أن لم يبق لهم بالمدينة دار ولا فيها منهم ديار وهذا عندهم أشدّ من الموت فلهذا قال وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بعد ما عاينوا في الدنيا عَذابُ النَّارِ ذلِكَ التخريب أو الجلاء أو العذاب بسبب مخالفتهم وعصيانهم الله ورسوله. قالت الفقهاء: فيه دليل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها فليس أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب. يروى أنه صلى الله عليه وسلم حين أمر أن يقطع نخلهم ويحرق قالوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء فأنزل الله تعالى ما قَطَعْتُمْ محله نصب ومِنْ لِينَةٍ بيان له كأنه قيل: أي شيء قطعتم من لينة وهي النخلة من الألوان ما خلا العجوة والبرنية وهما أجود النخل. وياؤها واو في الأصل كالديمة. وقيل: هي النخلة الكريمة من اللين فتكون الياء أصلية، فبين الله تعالى أن ذلك جائز غيظا لقلوب الكفرة. واحتج الفقهاء بها على جواز هدم حصون الكفار وقلع أشجارهم. وعن ابن مسعود: قطعوا منها ما كان موضعا للقتال. وروي أن رجلين كان يقطع أحدهما العجوة والآخر يترك فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا: تركتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال هذا: قطعتها غيظا للكفار. وقد يستدل بهذا على جواز الاجتهاد ولو بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أن كل مجتهد مصيب. قوله وَما أَفاءَ اللَّهُ أدخل العاطف هاهنا دون الأخرى لأن تلك بيان لهذه فهي غير أجنبية عنها والأولى معطوفة على ما قبلها. ومعنى أفاء جعله فيئا من فاء إذا رجع وذلك لرجوعه من ملك الكفار إلى ملك المسلمين. والإيجاف من الوجيف وهو السير السريع. وقوله عَلَيْهِ أي على ما أفاء. والركاب ما يركب من الإبل واحدتها راحلة ولا واحد لها من لفظها، وقلما تطلق العرب الراكب إلا على راكب البعير، بين الله سبحانه الفرق بين الغنيمة والفيء حين طلب الصحابة أن يقسم أموال أولئك اليهود بينهم اعترض بعضهم بأن أموال بني النضير أخذت بعد القتال لأنهم حوصروا أياما وقاتلوا وقتلوا ثم صالحوا على الجلاء فوجب أن تكون تلك الأموال من الغنيمة لا من الفيء. وأجاب المفسرون من وجهين: الأول أنها لم تنزل في بني النضير وإنما نزلت في فدك ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على نفسه وعلى عياله من غلة فدك ويجعل الباقي في السلاح والكراع. الثاني تسليم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 أنها نزلت فيهم ولكن لم يكن للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب، ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة، وإنما كانوا على ميلين من المدينة فمشوا على أرجلهم ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان راكب جمل، فلما كانت المعاملة قليلة ولم يكن خيل ولا ركاب أجراه الله مجرى ما لم يكن قتال ثمة. ثم روي أنه قسمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهو أبو دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن أبرهة قال الواحدي: كان الفيء مقسوما في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم: أربعة منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وكذا خمس الباقي، والأسهم الأربعة من هذا الباقي لذي القربى ولد بني هاشم والمطلب، واليتامى والمساكين وابن السبيل. وأما بعد الرسول فللشافعي فيه قولان: أحدهما أنه للمجاهدين المترصدين للقتال في الثغور لأنهم قاموا مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رباط الثغور. والثاني أنه يصرف إلى مصالح المسلمين من سدّ الثغور وحفر الأنهار وبناء القناطر الأهم فالأهم. هذا في الأربعة الأخماس التي كانت له، وأما السهم الذي كان له من خمس الفيء فإنه لمصالح المسلمين بلا خلاف وقد مر سائر ما يتعلق بقسمة الغنائم في سورة الأنفال. ثم بين الغرض من قسمة الفيء على الوجه المذكور فقال كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً قال المبرد: هي اسم للشيء الذي يتداوله الناس بينهم يكون لهذا مرة ولهذا مرة كالغرفة اسم لما يغرف. والدولة بالفتح انتقال حال سارة إلى قوم عن قوم. قال جار الله: هي بالضم ما يدول للانسان أي يدور من الجد يقال دالت له الدولة. فعلى قول المبرد معناه كيلا يكون الفيء شيئا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه فلا يصيب الفقراء، وعلى قول جار الله: كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى الفقراء جدا بين الأغنياء يتكاثرون به، أو لكيلا يكون الفيء دولة جاهلية كان الرؤساء منهم يستأثرون بالغنائم لأنهم أهل الرياسة والجد والغلبة وكانوا يقولون من عزبر ومنه قول الحسن «اتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولا» يريد من غلب منهم أخذه واستأثر به. ومن قرأ على «كان» التامة فالمعنى كيلا يقع شيء متعاورا بينهم غير مخرج إلى الفقراء، أو كيلا تقع دولة جاهلية أي ينقطع أثرها. قوله وَما آتاكُمُ الآية. قيل: يختص بأنه يقسم الغنائم وأن على المؤمنين أن يرضوا بما يعطيهم الرسول صلى الله عليه وسلم منها، والأولى عند المحققين العموم. قوله لِلْفُقَراءِ بدل من قوله وَلِذِي الْقُرْبى إلى آخر الأصناف الأربعة. ولا يجوز أيضا أن يكون ابتداء البدل من قوله فَلِلَّهِ لأنه يخل بتعظيم الله على ظاهر اللفظ وإن كان المعنى للرسول صلى الله عليه وسلم. ولا يجوز أيضا أن يكون الابتداء من قولهم وَلِلرَّسُولِ لأنه تعالى أخرجه عن الفقراء بقوله وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ولترفع منصبه عن التسمية بالفقير. ولئن صح أنه صلى الله عليه وسلم قال «الفقر فخري» فذاك معنى آخر وهو غنى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 القلب وانقطاع التعلق عما سوى الله وجعل الهموم هما واحدا وهو الافتقار بالكلية إلى الله. استدل بعض العلماء بقوله أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ على إمامة أبي بكر لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يقولون له يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلو لم تكن خلافته حقة لزم كذبهم وهو خلاف الآية. وقال في الكشاف: أراد صدقهم في إيمانهم وجهادهم. قوله وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ معطوف على المهاجرين وكذا قوله وَالَّذِينَ جاؤُ وذلك عند من يجعل الغنائم حلا للمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان أو التابعين لهم إلى يوم القيامة وعلى هذا يكون قوله يُحِبُّونَ ويَقُولُونَ حالين أي الغنائم لهم محبين قائلين. ومن جعل المراد بيان غنائم بني النضير وقف على هُمُ الصَّادِقُونَ والْمُفْلِحُونَ وجعل الفعلين خبرين. وعلى هذا يكون الآيتان ثناء على الأنصار على الإيثار، وللتابعين على الدعاء. قال مقاتل: أثنى على الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء إذ جعل للمهاجرين دونهم. وهاهنا سؤالان أحدهما: أنه لا يقال تبوؤا الإيمان. الثاني بتقدير التسليم أن الأنصار ما تبوؤا الإيمان قبل المهاجرين. والجواب عن الأول أن المراد تبوؤا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله: «علفتها تبنا وماء باردا» أو هو مجاز من تمكنهم واستقامتهم على الإيمان كأنهم جعلوه مستقرا لهم كالمدينة أو هو مجاز بالنقصان. والمعنى تبوّؤا دار الهجرة ودار الإيمان فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه وحذف المضاف من الثاني، أو سمى المدينة بالإيمان لأنها مكان ظهور الإيمان وهذا يؤل بالحقيقة إلى الوجه الذي تقدمه. وعن الثاني أن المراد من قبل هجرتهم أو هو من تمام تبوء الدار، ولا شك أن الأنصار سبقوهم في ذلك وإن لم يسبقوهم في الإيمان وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً أي حسدا وغيظا مما أوتى المهاجرون من الفيء وغيره. وإطلاق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة من إطلاق اسم اللازم على الملزوم لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة. وقال جار الله: المحتاج إليه يسمى حاجة يعني أن نفوسهم لم تتبع ما أعطوا ولم تطمح إلى شيء منه يحتاج إليه وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي خلة فهي من خصاص البيت أي فرجه، وكل خرق في منخل أو باب أو سحاب أو برقع فهي خصاص الواحد خصاصة. ومفعول يُؤْثِرُونَ محذوف أي يؤثرونهم ويخصونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم. عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لكم من الفيء كما قسمت لهم، وإن شئتم كان لهم القسم ولكم دياركم وأموالكم. فقالوا: لا بل نقسهم لهم من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالقسمة ولا نشاركهم فيها فنزلت. والشح المنع الذاتي الذي تقتضيه الحالة النفسانية ولهذا أضيف إلى النفس، والبخل المنع المطلق من غير اعتبار صيرورته غريزة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 وملكة. قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئا نهاه الله عن أخذه ولم يمنع شيئا أمره الله بإعطائه فقد وقي شح نفسه. وذكر المفسرون أنواعا من إيثار الأنصار الضيف بالطعام وتعللهم عنه حتى شبع الضيف. والظاهر أنها نزلت في الفيء كما مر ويدخل فيه غيره. قوله وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي هاجروا بعد المهاجرين الأوّلين. وقيل: هم التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، فتشمل الآيات الثلاث جميع المؤمنين. ثم عجب من أحوال أهل النفاق من أهل المدينة كعبد الله بن أبيّ وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن زيد، كانوا في الظاهر من الأنصار ولكنهم يوالون اليهود في السر فصاروا إخوانهم في الكفر وقالوا لهم لا نطيع في قتالكم أو خذلانكم أحدا. ثم شهد إجمالا عليهم بأنهم كاذبون، ثم فصل ذلك قائلا لَئِنْ أُخْرِجُوا إلى قوله وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ وهذا على سبيل الفرض لأنه تعالى كما يعلم ما يكون فهو يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون. والمعنى لو فرض نصر المنافقين اليهود ليهزمن المنافقون ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بعد ذلك أي لا يمنعهم من عذاب الله مانع لظهور كفرهم. وقيل: ليهزمن اليهود ثم لا تنفعهم نصرة المنافقين. وعلى هذا يكون «ثم» لترتيب الأخبار كقوله ثُمَّ اهْتَدى [طه: 82] ثم بيّن الحكمة في الغزو فقال لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً قال في الكشاف: أي مرهوبية هي مصدر رهب المبني للمفعول. وقوله فِي صُدُورِهِمْ دلالة على نفاقهم يعني أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله خوفا شديدا ورهبتهم في السر منكم أشد من ذلك لأنهم لا يفقهون عظمة الله فلا يخشونه حق خشيته. وجوز أن يكون المراد أن اليهود يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله وكانوا يتشجعون للمسلمين مع إضمار الخيفة في صدورهم. قلت: الأظهر أن المراد أنتم فيه أكثر مكانة من مواعظ الله أو لثمرة جهادكم معهم أوفر من ثمرة ترهبهم بعقاب الله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ من سر التكاليف وتبعة الكفر والنفاق في الآخرة فلا يرتدعون إلا خوفا من العقوبة العاجلة. ومن هذا أخذ عمر فقال: ما يزع السلطان أي يمنع أكثر مما يزع القرآن. وقال الشاعر: السيف أصدق إنباء من الكتب وقيل: العبد لا يردعه إلا العصا. ثم شجع المسلمين بقوله لا يُقاتِلُونَكُمْ أي لا يقدرون على قتالكم مجتمعين إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ غاية التحصين أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ لا مبارزين مكشوفين في الأراضي المستوية بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ لا بينكم لأنكم منصورون بنصرة الله مؤيدون بتأييده، أو لأنهم يحسبون في أنفسهم وفيما بينهم أمورا يعلم الله أنها لا تقع في الخارج على وفق حسبانهم وعن ابن عباس: معناه بعضهم لبعض عدوّ يؤيده قوله تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً مجتمعين ذوي تآلف ومحبة وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى متفرقة وهو فعلى من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 الشت. وإنما قال هاهنا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ وفي الأوّل لا يَفْقَهُونَ لأن الفقه معرفة ظاهر الشيء وغامضه فنفي عنهم ذلك كما قلنا، وأراد هاهنا أنهم لو عقلوا لاجتمعوا على الحق ولم يتفرقوا فتشتتهم دليل عدم عقلهم لأن العقل يحكم بأن الاجتماع معين على المطلوب والتفرق يوهن القوى ولا سيما إذا كانوا مبطلين. ثم شبه حالهم بحال من قتلوا قبلهم ببدر في زمان قريب. قال جار الله: انتصب قَرِيباً بمحذوف أي كوجود مثل أهل بدر قريبا. قلت: لا يبعد أن يتعلق بصلة الذين. ثم ضرب مثلا آخر لإغراء المنافقين اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر، والمراد إما عموم دعوة الشيطان للإنسان إلى الكفر وإما خصوص إغراء إبليس قريشا يوم بدر كما مر في الأنفال في قوله سبحانه وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ إلى قوله إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ [الأنفال: 48] قال مقاتل: وكان عاقبة اليهود والمنافقين مثل عاقبة الشيطان والإنسان حتى صار إلى النار. قال جار الله: كرر الأمر بالتقوى تأكيدا أو لأن الأول في أداء الواجبات لأنه قرن بما هو عمل والثاني في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد. وسمى القيامة بالغد تقريبا لمجيئها. عن الحسن: لم يزل بقربه حتى جعله كالغد. وقيل: جعل مجموع زمان الدنيا كنهار عند الآخرة. قال أهل المعاني: تنكير نَفْسٌ للتقليل كما مر في الوقوف وتنكير لِغَدٍ للتعظيم والتهويل. قال مقاتل: ونسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم حتى لم يشعروا لها بما ينفعها، أو فأراهم يوم القيامة من الأحوال ما نسوا فيه أنفسهم. قلت: يجوز أن يراد نسوا ذكر الله فأورثهم القسوة وفساد الاستعداد بالكلية. وحين نهى المؤمنين عن كونهم مثل الناسين الغافلين ذكرهم بأنه لا استواء بين الفريقين ففيه شبه قرع العصا كأنهم غفلوا عن هذا الواضح البين كما تقول لمن يعصي أباه «هو أبوك» . استدل أصحاب الشافعي بالآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي وإلا استويا، وأن الكافر لا يملك مال المسلم بالقهر وإلا استويا. واحتج بعض المعتزلة بها على أن صاحب الكبيرة لو دخل الجنة وهو من أهل النار لزم خلاف الآية. والجواب ظاهر لأنه على تقدير إمكان العفو لا يحكم أنه من أهل النار. ثم عظم أمر القرآن الذي يعلم منه هذا البيان. قال الكشاف: هو مثل وتخييل بدليل قوله وَتِلْكَ الْأَمْثالُ يعني هذا وغيره من أمثال التنزيل. وقال غيره: المعنى إشارة إلى قوله كَمَثَلِ الَّذِينَ كَمَثَلِ الشَّيْطانِ ولما وصف القرآن بما وصف عظم شأنه بوجه آخر وهو التنبيه على أوصاف منزله، وقد سبق شرح أكثر هذه الأسماء في هذا الكتاب ولا سيما في البسملة. والقدّوس مبالغة القدس وهو التبليغ في الطهارة والبراءة عما يشين وهذا بالنسبة إلى زمان الماضي والحال. والسلام إشارة إلى كونه سالما عن الآفات والعاهات والنقائص في زمان الاستقبال، ويجوز أن يراد أنه المعطي للسلامة. المؤمن الواهب الأمن والمصدق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 لأنبيائه بالمعجزات. وقد مر معنى المهيمن وأصل اشتقاقه في المائدة في قوله وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الآية: 48] وأن معناه الرقيب الحافظ لكل شيء. ولمكان تعداد هذه الأوصاف كرر قوله يُسَبِّحُ لَهُ إلى آخر السورة. فمن عزته كان منزها عن النقائص أهلا للتسبيح، ومن حكمته أمر المكلفين في السموات والأرضين بأن يسبحوا له ليربحوا لا ليربح هو عليهم وهو تعالى أعلم بمراده وبالله التوفيق للخير وإليه المآب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 (سورة الممتحنة) (وهي مدنية حروفها ألف وخمسمائة وعشرة كلماتها ثلاثمائة وثمان وأربعون آياتها ثلاث عشرة) [سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 القراآت يَفْصِلُ ثلاثيا معلوما: عاصم غير المفضل وسهل ويعقوب يفصل بالتشديد: حمزة وعلي وخلف. مثله ولكن مجهولا: ابن ذكوان. الآخرون: ثلاثيا مجهولا في إبراهام كنظائره أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بتشديد التاء: البزي وابن فليح تمسكوا بالتشديد: أبو عمرو وسهل ويعقوب. الوقوف مِنَ الْحَقِّ ج لأن ما بعده يحتمل الحال من ضمير كَفَرُوا والاستئناف بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ط أَعْلَنْتُمْ ط السَّبِيلِ هـ تَكْفُرُونَ هـ أَوْلادُكُمْ ج لاحتمال تعلق الظرف ب لَنْ تَنْفَعَكُمْ أو يفصل يَوْمَ الْقِيامَةِ ج بناء على المذكور بَيْنَكُمْ ط بَصِيرٌ هـ وَالَّذِينَ مَعَهُ ج لأن الظرف قد يتعلق باذكر محذوفا أو أسوة مِنْ دُونِ اللَّهِ ط لأن ما بعد مستأنف في النظم وإن كان متصلا في المعنى مِنْ شَيْءٍ ط الْمَصِيرُ هـ لَنا رَبَّنا هـ للإبتداء بأن مع أن التقدير فإنك الْحَكِيمُ هـ الْآخِرَ ط الْحَمِيدُ هـ مَوَدَّةً ط قَدِيرٌ هـ رَحِيمٌ هـ إِلَيْهِمْ ط الْمُقْسِطِينَ هـ تَوَلَّوْهُمْ ج للشرط مع العطف الظَّالِمُونَ هـ فَامْتَحِنُوهُنَّ ط بِإِيمانِهِنَّ ط الْكُفَّارِ ط لَهُنَّ ط ما أَنْفَقُوا ط أُجُورَهُنَّ ط ما أَنْفَقُوا ط حُكْمُ اللَّهِ ط بَيْنَكُمْ ط حَكِيمٌ هـ ز ما أَنْفَقُوا ط مُؤْمِنُونَ هـ لَهُنَّ اللَّهَ ط رَحِيمٌ هـ الْقُبُورِ هـ. التفسير: يروى أن مولاة أبي عمرو ابن صيفي بن هاشم يقال لها سارة، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو متجهز لفتح مكة فعرضت حاجتها، فحث بني المطلب على الإحسان إليها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردا واستحملها كتابا إلى أهل مكة هذه نسخته «من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة. اعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم» . فخرجت سارة ونزل جبريل عليه السلام بالخبر، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه وعمارا وعمرو فرسانا أخر وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فإن أبت فاضربوا عنقها. فأدركوها فجحدته وحلفت فهموا بالرجوع فقال علي رضي الله عنه: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسل سيفه وقال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك فأخرجته من عقاص شعرها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب: ما حملك عليه؟ فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكني كنت غريبا في قريش وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يدا، وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا فصدّقه وقبل عذره فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال: وما يدريك يا عمر لعل الله قد أطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم وأنزلت السورة. وتُلْقُونَ مستأنف أو حال من ضمير لا تَتَّخِذُوا أو صفة لأولياء، ولا حاجة إلى الضمير البارز وهو أنتم وإن جرى على غير من هو له لأن ذاك في الأسماء دون الأفعال كما لو قلت مثلا ملقين أنتم والإلقاء عبارة عن الإيصال التام. والباء في بِالْمَوَدَّةِ إما زائدة كما في قوله وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ [البقرة: 195] أو للسببية ومفعول تُلْقُونَ محذوف معناه تلقون إليهم أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب المودة. وأَنْ تُؤْمِنُوا تعليل ل يُخْرِجُونَ أي يخرجونكم لإيمانكم. وإِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ تأكيد متعلق ب لا تَتَّخِذُوا وجوابه مثله. وانتصب جِهاداً وابْتِغاءَ على العلة أي إن كنتم خرجتم من أوطانكم لأجل جهاد عدوّى ولابتغاء رضواني فلا تتولوا أعدائي. وقوله تُسِرُّونَ مستأنف والمقصود أنه لا فائدة في الإسرار فإن علام الغيوب لا يخفى عليه شيء. ثم خطأ رأيهم بوجه آخر وهو أنهم إن يظفروا بهم أخلصوا العداوة ويقصدونهم بكل سوء باللسان والسنان. قال علماء المعاني: إنما عطف قوله وَوَدُّوا وهو ماض لفظا على ما تقدمه وهو مضارع تنبيها على أن ودادهم كفرهم أسبق شيء عندهم لعلمهم أن الدين أعز على المؤمنين من الأرواح والأموال وأهم شيء عند العدوّ أن يقصد أعز شيء عند صاحبه. ثم بين خطأ رأيهم بوجه آخر وهو أن المودة إذا لم تكن في الله لم تنفع في القيامة لانفصال كل اتصال يومئذ كما قال يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [عبس: 34] الآية. ويجوز أن يكون الفصل بمعنى القضاء والحكم. ثم ذكر أن وجوب البغض في الله وإن كان أخاه أو أباه أسوة في إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه حيث جاهروا قومهم بالعداوة وقشروا لهم العصا وصرحوا بأن سبب العداوة ليس إلا الكفر بالله، فإذا آمنوا انقلبت العداوة موالاة والمناوأة مصافاة والمقت محبة. ثم استثنى إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ من قوله أسوة كأنه قال حق عليكم أن تأتسوا بأقواله إلا هذا القول الذي هو الاستغفار لقوله ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] أما قوله وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فليس بداخل في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 حكم الاستثناء لأنه قول حق، وإنما أورده إتماما لقصة إبراهيم مع أبيه. وقال في الكشاف: هو مبني على الاستغفار وتابع له كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار. ثم أكد أمر المؤمنين بأن يقولوا رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا الآية. ويجوز أن يكون من تتمة قول إبراهيم ومن معه وفيه مزيد توجيه. ثم أكد أمر الائتساء بقوله لَقَدْ كانَ فأدخل لام الابتداء وأبدل من قوله لَكُمْ قوله لِمَنْ كانَ يَرْجُوا وختم الآية بنوع من الوعيد. ثم أطمع المؤمنين فيما تمنوا من عداوة أقاربهم بالمودة وَاللَّهُ قَدِيرٌ على تقليب القلوب وتصريف الأحوال وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن وادهم قبل النهي أو لمن أسلم من المشركين، فحين يسر الله فتح مكة أسلم كثير منهم ولم يبق بينهم إلا التحاب والتصافي. ولما نزلت هذه الآيات تشدّد المؤمنون في عداوة أقاربهم وعشائرهم فنزل لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ وقوله أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل من الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ وكذا قوله أَنْ تَوَلَّوْهُمْ من الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء. ومعنى تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ تعطوهم مما تملكون من طعام وغيره قسطا. وعدّي ب «إلى» لتضمنه معنى الإحسان وقال في الكشاف: تقضوا إليهم بالقسط أي العدل ولا تظلموهم. وقيل: أراد بهم خزاعة وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه. وعن مجاهد: الذين آمنوا بمكة. وقيل: هم النساء والصبيان. وعن قتادة: نسختها آية القتال. قال المفسرون: إن صلح الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة رد إليهم ومن أتى مكة منهم لم يرد إليكم وكتبوا بذلك كتابا وختموه. فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية، فأقبل زوجها مسافرا المخزومي. وقيل: صيفي بن الراهب فقال: يا محمد اردد إليّ امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ الآية. فكانت بيانا لأن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء. وعن الضحاك: كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهد أن تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذي أنفق عليها. وللنبي صلى الله عليه وسلم من الشرط مثل ذلك فأتت امرأة فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى فَامْتَحِنُوهُنَّ فحلفت فأعطى زوجها ما أنفق وتزوّجها عمر. وفائدة قوله اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ أنه لا سبيل لكم إلى ما تسكن إليه النفس من اليقين الكامل لأنكم تختبرونهن بالحلف والنظر في سائر الأمارات التي لا تفيد إلا الظن، وأما الإحاطة بحقيقة إيمانهن فإن ذلك مما تفرد به علام الغيوب فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ العلم الذي يليق بحالكم وهو الظن الغالب فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى أزواجهن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 الْكُفَّارِ لأنه لا حلّ بين المؤمنة والمشرك وآتوا أزواجهن مِثْلَ ما أَنْفَقُوا مثل ما دفعوا إليهن من المهور. ثم نفى عنهم الحرج في تزوّج هؤلاء المهاجرات إذا أعطوهن مهورهن. قال العلماء: إما أن يريد بهذا الأجر ما كان يدفع إليهن ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في إباحة تزوّجهن تقديم أدائه، وإما أن يراد بيان أن ذلك المدفوع لا يقوم مقام المهر وأنه لا بد من إصداق. احتج أبو حنيفة بالآية على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلما أو بذمة وبقي الآخر حربيا وقعت الفرقة بينهما ولا يرى العدة على المهاجرة ويصح نكاحها إلا أن تكون حاملا وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وهو ما يعتصم به من عقد وسبب قال ابن عباس: أراد من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعدّها من نسائه لأن اختلاف الدين قطع عصمتها وحل عقدتها. وعن النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر. وقال مجاهد: هذا أمر بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ من مهور أزواجكم الملحقات بالكفار وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا من مهور نسائهم المهاجرات. أمر المؤمنين بالإيتاء ثم أمر الكافرين بالسؤال وهذه غاية العدل ونهاية الإنصاف. ثم أكد ما ذكر من الأحكام بأنها حكم الله. قال جار الله: يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ كلام مستأنف أو حال من حكم الله على حذف العائد أي يحكمه الله، أو جعل الحكم حاكما على المبالغة. يروى أن بعض المشركين أبوا أن يؤدّوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين فأنزل الله تعالى وَإِنْ فاتَكُمْ أي سبقكم وانفلت منكم شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ أحد منهن قال أهل المعاني: فائدة إيقاع شيء في هذا التركيب التغليظ في الحكم والتشديد فيه أي لا ينبغي أن يترك شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر غير معوّض عنه. ويجوز أن يراد وإن فاتكم شيء من مهور أزواجكم. ومعنى فَعاقَبْتُمْ فجاءت عقبتكم من أداء المهر والعقبة النوبة شبه أداء كل طائفة من المسلمين والكافرين المهر إلى صاحبتها بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ إلى الكفار مِثْلَ ما أَنْفَقُوا أي مثل مهرها من مهر المهاجرة ولا تؤتوه زوجها الكافر. وقال الزجاج: معنى فَعاقَبْتُمْ فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم، فالذي ذهبت زوجته كان يعطي من الغنيمة المهر. قال بعض المفسرين: جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شدّاد الفهري، وفاطمة بنت أبي أمية كانت تحت عمر بن الخطاب وهي أخت أم سلمة، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى بن نصلة وزوجها عمرو بن عبد ودّ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص، وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر. أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة. وفي قوله وَاتَّقُوا اللَّهَ ندب إلى سيرة التقوى ورعاية العدل ولو مع الكفرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 ثم نبّه نبيه صلى الله عليه وسلم على شرائط المبايعة وهي المعاهدة على كل ما يقع عليه اتفاق كالإسلام والإمارة والإمامة، والمراد هاهنا المعاقدة على الإسلام وإعطاء العهود به وبشرائطه وعدم قتل الأولاد ووأد البنات، وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك فكني عنه بالهتان المفترى بين يديها ورجليها لأن بطنها الذي تحمله فيه هو بين اليدين وفرجها الذي تلد به بين الرجلين. وقيل: البهتان في الآية الكذب والتهمة والمشي بالسعاية مختلقة من تلقاء أنفسهنّ. وقيل: قذف المحصنين. قال ابن عباس: في قوله وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ إنما هو شرط شرطه الله تعالى على النساء، والمعروف كل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات. واختلف في كيفية مبايعته إياهنّ فقيل: دعا بقدح من ماء وغمس يده فيه ثم غمسن أيديهنّ. وقيل: صافحهنّ وكان على يده ثوب. وقيل: كان عمر يصافحهنّ ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة يملكها إنما كان كلاما. وعن أميمة بنت رقيقة قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من الأنصار نبايعه على الإسلام فأخذ علينا يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهنّ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ ولا يعصينك في معروف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما استطعتن وأطقتن. قلنا الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا هلمّ نصافحك يا رسول الله. قال: إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة. يروى أن بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود طمعا في ثمارهم فنزلت لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً الآية. وسبب يأسهم من الآخرة تكذيبهم بصحة نبوّة الرسول ثم عنادهم كما يئس الكفار من موتاهم أن يرجعوا أحياء. وقيل: من أصحاب القبور بيان للكفار لأنهم أيسوا من خير الآخرة ومعرفة المعبود الحق فكأنهم أولى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 (سورة الصف) (مدنية وقيل مكية كلماتها مائتان وإحدى وعشرون وحروفها تسعمائة وستة وعشرون وآياتها أربع عشرة) [سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14) القراآت: زاغُوا بالإمالة مثل زاغَ الْبَصَرُ [النجم: 17] بعدي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحماد وأبو بكر غير ابن غالب مُتِمُّ نُورِهِ بالإضافة: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف وحفص. الآخرون: بالتنوين ونصب نُورِهِ تنجيكم بالتشديد: ابن عامر أنصارا بالتنوين لله جارا ومجرورا: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. والباقون: بالإضافة أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ بالفتح كما مر في «آل عمران» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 الوقوف: وَما فِي الْأَرْضِ ط الْحَكِيمُ هـ ج تَفْعَلُونَ هـ تَفْعَلُونَ هـ مَرْصُوصٌ ط إِلَيْكُمْ ط قُلُوبَهُمْ ط الْفاسِقِينَ هـ أَحْمَدُ ط مُبِينٌ هـ الْإِسْلامِ ط الظَّالِمِينَ هـ الْكافِرُونَ هـ الْمُشْرِكُونَ هـ أَلِيمٍ هـ ز وَأَنْفُسِكُمْ ط تَعْلَمُونَ هـ لا لأن قوله يَغْفِرْ لَكُمْ جواب تُؤْمِنُونَ على أنه خبر في معنى الأمر عَدْنٍ ط الْعَظِيمُ هـ ج للعطف تُحِبُّونَها ط لحق الحذف أي هي نصر قَرِيبٌ هـ لانقطاع النظم واختلاف المعنى الْمُؤْمِنِينَ هـ إِلَى اللَّهِ ط وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ هـ لاتفاق الجملتين مع تخصيص الثانية ببيان حال أحد الفريقين ظاهِرِينَ هـ. التفسير: يروى أن المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه فدلهم الله على الجهاد فولوا يوم أحد فعيرهم. وروي أن الله تعالى حين أخبر بثواب شهداء بدر قالوا: لئن لقينا قتالا إلى الله لنفرغن فيه وسعنا ففرّوا يوم أحد ولم يفوا. وقيل كان الرجل يقول: قلت ولم يقل وطعنت ولم يطعن فأنزل الله تعالى لِمَ تَقُولُونَ واللام الجارة إذا دخلت على «ما» الاستفهامية أسقطت الألف لكثرة الاستعمال. وقد عرفت مرارا أن خصوص سبب النزول لا ينافي عموم الحكم، وهذا التفسير يتناول إخلاف كل وعد. وقال الحسن: نزلت في الذين آمنوا بلسانهم لا بقلوبهم. ثم عظم أمر الإخلاف في قلوب المنافقين فقال كَبُرَ الآية. وفيه أصناف مبالغة من جهة صيغة التعجب والتعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله، ومن جهة إسناد الفعل إلى أَنْ تَقُولُوا ونصب مَقْتاً على التمييز ومن قبل أن المقت أشدّ من البغض أو من وصفه بأنه عِنْدَ اللَّهِ لأن الممقوت عنده ممقوت عند كل ذي لب. ثم حث على الجهاد بنوع آخر وذلك أنه نسب أوّلا ترك الجهاد بعد تمنيه إلى المقت ثم نسب الجهاد إلى الحب. وانتصب صَفًّا على المصدر بمعنى الحال. وقوله كَأَنَّهُمْ مع الأول حالان متداخلان أي صافين أنفسهم أو مصفوفين كأنهم في تراميهم من غير فرجة ولا خلل بُنْيانٌ رص بعضه على بعض أي رص صف. وجوزوا أن يراد صف معنوي وهو اتفاق كلمتهم واستواء نياتهم في الثبات. وعلى الأول استدل بعضهم به على تفضيل القتال راجلا بناء على أن الفرسان لا يصطفون من غير فرجة، ثم ذكرهم قصة موسى عليه السلام مع قومه كيلا يفعلوا بنبيهم مثل ما فعل به بنو إسرائيل. وتفسير الإيذاء مذكور في آخر «الأحزاب» وسائر أصناف إيذائهم إياه من عبادة العجل وطلب الرؤية والالتماسات المنكرة مشهورة وَقَدْ تَعْلَمُونَ في موضع الحال. وفائدة «قد» تأكيد العلم لا تقليله وفيه إشارة إلى نهاية جهلهم إذا عكسوا القضية وصنعوا مكان تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذاءه. والزيغ الميل عن الحق والإزاغة الإمالة فكأنهم تسببوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 لمزيد الانحراف عن الجادة، فالطاعة تجر الطاعة والمعصية تجر المعصية. قال بعض العلماء: إنما قال عيسى يا بَنِي إِسْرائِيلَ ولم يقل يا قوم كما قال موسى، لأنه لا نسب له فيهم. قلت: ممنوع لقوله تعالى في «الأنعام» وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ إلى قوله وَعِيسى [الآية: 48] قال النحويون: قوله مُصَدِّقاً ومُبَشِّراً حالان والعامل فيهما معنى الإرسال في الرسول فلا يجوز أن يكون إِلَيْكُمْ عاملا لأنه ظرف لغو. عن كعب أن الحواريين قالوا لعيسى: يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم أمة محمد حكماء علماء أبرار أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل. قوله وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ نظير ما مر من قوله وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ففي كل منهما تعكيس القضية إذ جعل مكان إجابة النبي إلى الإسلام الذي فيه سعادة الدارين افتراء الكذب على الله وهو قولهم للمعجزات هي سحر، لأن السحر كذب وتمويه ولهذا عرف الكذب بخلاف آخر «العنكبوت» . ثم ذكر غرضهم من الافتراء بقوله يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا ولهذا خص هذه السورة باللام كأنه قال: يريدون الافتراء لأجل هذه الإرادة كما زيدت اللام في «لا أبالك» لتأكيد معنى الإضافة. وباقي الآيتين سبق تفسيره في «براءة» . وإنما قال هاهنا وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ لمكان الفصل بالعلة كأنه قال: يريدون الافتراء لغرض إطفاء نور الله والحال أن الله متم نوره، وأما هنالك فإنه عطف قوله وَيَأْبَى على قوله يُرِيدُونَ. ثم دل أهل الإيمان على التجارة الرابحة وهي مجاز عن وجدان الثواب على العمل كما قال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى إلى قوله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ [التوبة: 111] قال أهل المعاني: فائدة إيقاع الخبر موقع الأمر هي التنبيه على وجوب الأمر وتأكيده كأنه أمتثل فهو يخبره به كأنه قيل: هل تتجرون بالإيمان؟ وعن الفراء أن قوله يَغْفِرْ لَكُمْ جواب هَلْ أَدُلُّكُمْ بتأويل أن متعلق الدلالة هو التجارة والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد فكأنه قيل: هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم ذلِكُمْ يعني ما ذكر من الإيمان والجهاد خَيْرٌ لَكُمْ من أموالكم وأنفسكم وهو اعتراض. وقوله إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اعتراض زائد على اعتراض ومعناه إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرا لكم لأن نتيجة الخير إنما تحصل بعد اعتقاد كونه خيرا. ثم قال وَلكم مع هذه النعم الآجلة نعمة أُخْرى عاجلة تُحِبُّونَها وهي فتح مكة كما قال وأثابكم فتحا قريبا [الفتح: 18] وعن الحسن: هو فتح فارس والروم. قال في الكشاف: في قوله تُحِبُّونَها شيء من التوبيخ على محبة العاجلة. وعندي أنه سبحانه رتب أمرين على أمرين: المغفرة وإدخال الجنة على الإيمان، والنصر والفتح على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 الجهاد، ومحبة النصر من الله والفتح القريب لا تقتضي التوبيخ وإنما ذلك مطلوب كل ذي لب ودين. وقال في قوله وَبَشِّرِ إنه معطوف على تُؤْمِنُونَ لأنه بمعنى الأمر. والأظهر عند علماء المعاني أنه معطوف على «قل» مقدرا قل يا أيها الذين آمنوا يؤيد تقدير قل. قوله هَلْ أَدُلُّكُمْ فإن نسبة هذا الاستفهام إلى رسوله أولى من نسبته إلى الله سبحانه على ما لا يخفى. قوله كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ أي أعوان دينه كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ أي أصفيائه وقد مر ذكرهم في «آل عمران» مَنْ أَنْصارِي متوجها إِلَى نصرة دين اللَّهِ قال أهل البيان: فيه تشبيه كونهم أنصارا بقول عيسى وإنه لا يصح على الظاهر لأن الكون يشبه بالكون لا القول، فوجهه أن يحمل التشبيه على المعنى وبيانه أن كون الحواريين أنصار الله يعرف من سياق الآية بعدها وهو قول الحواريين نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وارد بطريق الاستئناف كأن سائلا سأل: فماذا قال الحواريون حينئذ؟ فأجيب بما أجيب. وقولهم لا يخالف كونهم فيعود معنى الآية إلى قول القائل: كونوا أنصار الله مثل كون الحواريين أنصار عيسى وقت قوله مَنْ أَنْصارِي على أن «ما» مصدرية والمصدر يستعمل مقام الظرف اتساعا كقولك «جئتك قدوم الحاج» و «خفوق النجم» أي وقت القدوم والخفوق والسر في العدول عن العبارة الواضحة إلى العبارة الموجودة هو أن سوق الكلام بطريق الكناية حيث جعل المشبه به لازم ما هو المشبه به أبلغ من التصريح، وأن بناء الكلام على السؤال والجواب أوكد، وأن المجاز وهو استفادة كونهم من قولهم أبلغ من الحقيقة، ولعل في الآية أسرارا أخر لم نطلع عليها. ومعنى ظاهِرِينَ غالبين. عن زيد بن علي: كان ظهورهم بالحجة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 (سورة الجمعة) (وهي مكية حروفها سبعمائة وثمانية وأربعون كلماتها مائة وثمانون آياتها إحدى عشرة) [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) القراآت: كَمَثَلِ الْحِمارِ والتَّوْراةَ بالإمالة قد سبق ذكرهما. الوقوف وَما فِي الْأَرْضِ لا الْحَكِيمِ هـ مُبِينٍ هـ لا للعطف أي وفي آخرين بِهِمْ ط الْحَكِيمُ هـ مَنْ يَشاءُ ط الْعَظِيمِ هـ أَسْفاراً ط بِآياتِ اللَّهِ ط الظَّالِمِينَ هـ صادِقِينَ هـ أَيْدِيهِمْ ط بِالظَّالِمِينَ هـ تَعْلَمُونَ هـ الْبَيْعَ ط تَعْلَمُونَ هـ تُفْلِحُونَ هـ قائِماً ط التِّجارَةِ ط الرَّازِقِينَ هـ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 التفسير: في الأميين منسوب إلى أمة العرب أو إلى أم القرى. وقد مر سائر الوجوه في «الأعراف» في قوله النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ [الآية: 157] وباقي الآية مذكور في «البقرة» و «آل عمران» . والمراد بآخرين التابعون وحدهم أو مع تبع التابعين إلى يوم القيامة. ثمّ شبه اليهود الطاعنين في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم حاملو التوراة وحفاظها العارفون بما فيها من نعت نبيّ آخر الزمان بالحمار الحامل للأسفار أي الكتب الكبار لأنه لا يدري منها إلا ما مر بجنبيه من الكدّ والتعب. ومعنى حُمِّلُوا كلفوا العمل بما فيها. ومحل يَحْمِلُ جر صفة للحمار كما في قوله «على اللئيم يسبني» وهذا مثل كل من علم علما يتعلق بعمل صالح ثم لم يعمل به. ثم قبح مثلهم بقوله بِئْسَ مثلا مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه فقيل لهم: إن كان قولكم حقا فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ليكون وصولكم إلى دار الكرامة أسرع وقد مر مثله في أول «البقرة» إلا أنه قال هاهنا وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ وهناك ولن يتمنوه وذلك أن كليهما للنفي إلا أن «لن» أبلغ في نفي الاستقبال وكانت دعواهم هناك قاطعة بالغة وهي كون الجنة لهم بصفة الخلوص فخص الأبلغ بتلك السورة. ثم بين أن الموت الذي لا يجترؤن على تمنيه خيفة أن يؤاخذوا بوبال كفرهم فإنه ملاقيهم لا محالة. قال أهل النظم: قد أبطل الله تعالى قول اليهود في ثلاث: زعموا أنهم أولياء لله فكذبهم بقوله فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ وافتخروا بأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم بالحمار يحمل أسفارا، وباهوا بالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع لنا الجمعة. قال جار الله: يوم الجمعة بالسكون الفوج المجموع كضحكة للمضحوك منه، وضمّ الميم تثقيل لها كما قيل في عسرة عسرة. قلت: ومما يدل على أن أصلها السكون جمعها على جمع كقدرة وقدر. وفي الكشاف أن مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بيان «إذا» وتفسير له. وأقوال: إن اليوم أعم من وقت النداء والعام. لإبهامه لا يصير بيانا ظاهرا فالأولى أن تكون «من» للتبعيض. والنداء الأذان في أول وقت الظهر، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل أقام للصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر على ذلك، حتى إذا كان عثمان وكثر الناس زاد مؤذنا آخر، مؤذن على داره التي تسمى زوراء فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني، فإذا نزل أقام للصلاة. وعن ابن عباس: إن أول جمعة في الإسلام بعد جمعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لجمعة اجتمعت بجواثى قرية من قرى البحرين من قرى عبد القيس وروي أن الأنصار بالمدينة اجتمعوا إلى أسعد بن زرارة. وكنيته أبو إمامة وقالوا: هلموا نجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله ونصلي فإن لليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العروبة، فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، وأنزل الله تعالى آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأول جمعة جمعها رسول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 الله صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم المدينة مهاجرا نزل قباء على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلّى الجمعة. وفضيلة صلاة الجمعة كثيرة منها ما ورد في الصحاح عن أبي هريرة «إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول» «1» و «مثل المبكر كمثل الذي يهدي بدنة تمّ كالذي يهدي بقرة ثم كبشا ثم دجاجة ثم بيضة فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر» «2» وعنه صلى الله عليه وسلم «من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ووقى فتنة القبر» وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر غاصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج. وقيل: أول بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة. ولا تقام الجمعة عند أبي حنيفة إلا في مصر جامع وهو ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الأحكام. وقد يقال: ما يكون فيه نهر جار وسوق قائم وملك قاهر وطبيب حاذق. وعنده تنعقد بثلاثة سوى الإمام، وعند الشافعي لا تنعقد إلّا بأربعين متوطنين. وأعذار الجمعة مشهورة في كتب الفقه. ومعنى السعي القصد دون العدو ومنه قول الحسن: ليس السعي على الأقدام ولكنه على النيات والقلوب. وعن ابن عمر أنه سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي. قال العلماء: وهذا لا بأس به ما لم يجهد نفسه. قوله إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي إلى الخطبة والصلاة وهي تسمية الشيء بأشرف أجزائه. ومذهب أبي حنيفة أنه لو اقتصر على كل ما يسمى ذكرا مثل الحمد لله أو سبحان الله جاز. وعند صاحبيه والشافعي لا بد من كلام يسمى خطبة. وعن جابر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: نحمد الله ونثني عليه بما هو أهله ثم يقول: من يهد الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان صلاته قصدا وخطبته قصدا. وعن أبي وائل قال: خطبنا عمار فأوجز وأبلغ فلما نزل قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأقصر الخطبة وأطل الصلاة» «3» وإن من البيان لسحرا. قوله وَذَرُوا الْبَيْعَ خاص ولكنه عام في الحقيقة لكل ما يذهل عن ذكر الله. وسبب التخصيص أن أهل القرى وقتئذ يجتمعون   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 505) . (2) رواه البخاري في كتاب الجمعة باب 4. مسلم في كتاب الجمعة حديث 1. أبو داود في كتاب الطهارة باب 127. الترمذي في كتاب الجمعة باب 6. الموطأ في كتاب الجمعة حديث 1. (3) رواه الدارمي في كتاب الصلاة باب 199. أحمد في مسنده (4/ 263) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 من كل أوب في السوق وأغلب اجتماعهم على البيع والشراء. ولا خلاف بين العلماء في تحريم البيع وقت النداء. وهل يصح ذلك البيع إن وقع الأكثرون؟ نعم لأن المنع غير متوجه نحو خصوص البيع. وإنما هو متوجه نحو ترك الجمعة حتى لو تركها بسبب آخر فقد ارتكب النهي ولو باع في غير تلك الحالة لم يصادفه نهي. قوله فَانْتَشِرُوا وابتغوا إباحة بعد حظر. وعن بعض السلف أنه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء من أمور الدنيا امتثالا للآية. وعن ابن عباس: لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة أخ في الله. وعن الحسن وسعيد بن المسيب: الطلب طلب العلم. وقيل: صلاة التطوع. وفي قوله وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً إشارة إلى أن المرء لا ينبغي أن يغفل عن ذكر ربه في كل حال كما قال رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور: 37] عن جابر قال: بينا نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا قيل: عير تحمل طعاما فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا فنزلت وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها أي تفرقوا إليها وَتَرَكُوكَ قائِماً في الصلاة أو في الخطبة أو في الزاوية، وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق فهذا هو المراد باللهو والتقدير إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. يروى أنه صلى الله عليه وآله قال: والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارا. ثم حث على تجارة الآخرة وعلى تيقن أن لا رازق بالحقيقة إلا هو سبحانه وقد مر مرارا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 (سورة المنافقين) (مدنية حروفها سبعمائة وستة وسبعون كلماتها مائة وثمانون آياتها إحدى عشرة) [سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) القراآت خُشُبٌ بالسكون: أبو عمرو وعلي وابن مجاهد لووا بالتخفيف: نافع وقالون يعملون على الغيبة: يحي وحماد. الوقوف: لَرَسُولُ اللَّهِ ط م لئلا يوهم أن قوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ من مقول المنافقين لَرَسُولُهُ ط لَكاذِبُونَ هـ لا لأن ما بعده يصلح صفة واستئنافا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ط يَعْمَلُونَ هـ لا يَفْقَهُونَ ط أَجْسامُهُمْ ط لِقَوْلِهِمْ ط مُسَنَّدَةٌ ط عَلَيْهِمْ ط الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 فَاحْذَرْهُمْ ط قاتَلَهُمُ اللَّهُ ط ز لابتداء الاستفهام مع اتصال المعنى يُؤْفَكُونَ هـ مُسْتَكْبِرُونَ هـ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ط لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ط الْفاسِقِينَ هـ يَنْفَضُّوا ط لا يَفْقَهُونَ هـ الْأَذَلَّ ط لا يَعْلَمُونَ هـ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ط للشرط مع الواو الْخاسِرُونَ هـ قَرِيبٍ ج هـ لتعلق الجواب الصَّالِحِينَ هـ ز أَجَلُها ط تَعْمَلُونَ هـ. التفسير: قال علماء المعاني: أرادوا بقولهم نشهد إنك لرسول الله شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم كما ينبيء عنه «إن واللام» وكون الجملة اسمية مع تصديرها بما يجري مجرى القسم وهو الشهادة، فكذبهم الله تعالى لأجل علمه بعدم المواطأة. أو يراد والله يشهد إنهم لكاذبون عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أن قولهم إنك لرسول الله كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه. قلت: هذا مذهب الجاحظ وأنه خلاف ما عليه الجمهور وهو أن مرجع كون الخبر صدقا أو كذبا إلى طباق الحكم للواقع أو لإطباقه ولهذا أوّلوا الآية بما أوّلوا، وهو أن التكذيب توجه إلى ادّعائهم أن قولهم قول عن صميم القلب، ومما يدل على أن مرجع كون الخبر صدقا إلى ما قلنا لا إلى طباقه اعتقاد المخبر أو ظنه ولا إلى عدم طباقه لذلك الاعتقاد والظن تكذيبنا اليهودي إذا قال: الإسلام باطل مع أنه مطابق لاعتقاده، وتصديقنا له إذا قال: الإسلام حق مع أنه غير مطابق لاعتقاده. وفائدة إقحام قوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ التنصيص على التأويل المذكور وإلا أمكن ذهاب الوهم إلى أن نفس قولهم إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ كذب. ثم أخبر عن استثباتهم بالايمان الكاذبة كما مر في «المجادلة» . وجوز في الكشاف أن تكون اليمين الكاذبة هاهنا إشارة إلى قولهم نَشْهَدُ لأن الشهادة تجري في إفادة التأكيد مجرى الحلف وبه استدل أبو حنيفة على أن أشهد يمين. ذلِكَ الذي مر من أوصافهم وأخلاقهم أو من التسجيل عليهم أنهم مقول في حقهم ساء ما كانوا يعملون بسبب بِأَنَّهُمْ آمَنُوا باللسان ثُمَّ كَفَرُوا بظهور نفاقهم أو نطقوا بالإسلام عند المؤمنين ثم نطقوا بكلمة الكفر إذا خلوا إلى شياطينهم، ويجوز أن يراد أهل الردة منهم وكان عبد الله بن أبيّ رجلا جسيما فصيحا وكذا أضرابه من رؤساء النفاق يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستندون، فيه وكان النبي صلى الله عليه وسلم والحاضرون يعجبون بهيا كلهم ويستمعون إلى كلامهم فنزلت وَإِذا رَأَيْتَهُمْ أيها الرسول أو يا من له أهلية الخطاب. ثم شبهوا في استنادهم وما هم إلا أجرام فارغة عن الإيمان والخير بالخشب المستندة إلى الحائط. ويجوز أن تكون الخشب أصناما منحوتة شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم. قال في الكشاف: ويجوز أن يكون وجه التشبيه مجرد عدم الانتفاع لأن الخشب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 المنتفع بها هي التي تكون في سقف أو جدار أو غيرهما، فأما المسندة الفارغة المتروكة فلا نفع فيها. قلت: فعلى هذا لا يكون لتخصيص الخشب بالذكر فائدة لاشتراكها في هذا الباب مع الحجر والمدر المتروكين وغيرهما، والخشب جمع خشبة كثمرة وثمر، ومحل الجملة رفع على «هم كأنهم خشب» أو هو كلام مستأنف فلا محل له. قوله عَلَيْهِمْ ثاني مفعولي يَحْسَبُونَ أي يحسبونها واقعة عليهم صادرة لهم لجبنهم والصيحة كنداء المنادي في العسكر ونحو ذلك، أو هي أنهم كانوا على وجل من أن ينزل الله فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم. ثم أخبر عنهم بأنهم هُمُ الْعَدُوُّ أي هم الكاملون في العداوة لأن أعدى الأعداء هو العدوّ المداجي المكاشر تظنه جارا مكاشرا وتحت ضلوعه داء لا دواء له. ويقال: ما ذم الناس مذمة أبلغ من قولهم «فلان لا صديق له في السر ولا عدوّ له في العلانية» وذلك أن هذه من آيات النفاق فَاحْذَرْهُمْ ولا تغتر بظاهرهم، وجوز أن يكون هُمُ الْعَدُوُّ المفعول الثاني وعَلَيْهِمْ لغو. وإنما لم يقل «هي العدو» نظرا إلى الخبر أو بتأويل كل أهل صيحة قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم باللعن والإخزاء أي أحلهم الله محل من قاتله عدو قاهر. ويجوز أن يكون تعليما للمؤمنين أي ادعوا عليهم بهذا. يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم ازدحم على الماء جمع من المهاجرين والأنصار واقتتلا، فلطم أحد فقراء المهاجرين شابا حليفا لعبد الله بن أبيّ، فبلغ ذلك عبد الله فقال: ما صحبنا محمدا إلا لنلطم والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قيل «سمن كلبك يأكلك» ، أما والله لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ عنى بالأعز نفسه وبالأذل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال لقومه: لو أمسكتم عن هؤلاء الفقراء فضل طعامكم لم يركبوا رقابكم ولا تفضوا من حول محمد، فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث فقال: أنت والله الذليل القليل. فقال عبد الله: اسكت فإنما كنت ألعب. فأخبر زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب. قال: فإن كرهت أن يقتله مهاجريّ فأمر به أنصاريا فقال: فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا قتل أصحابه. ولما أنزل الله تعالى تصديق قول زيد وبان نفاق عبد الله قيل له: قد نزلت فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أومن فآمنت وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد فنزلت وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا ولم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات وقد تقدم قصة هذا المنافق في سورة «براءة» بأكثر من هذا، وقد نفى عن المنافقين الفقه أولا وهو معرفة غوامض الأشياء، ثم نفى عنهم العلم رأسا كأنه قال: لا فقه لهم بل لا علم. أو نقول: إن معرفة كون الخزائن لله مما يحتاج إلى تدبر وتفقه لمكان الأسباب والوسائط والروابط المفتقرة في رفعها من البين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 إلى مزيد توجه وكمال نظر، فأما كون الغلبة والقوة لدين الإسلام فذلك بظهور الإمارات وسطوع الدلائل بلغ مبلغا لم يبق في وقوعه شك لمن به أدنى مسكة وقليل علم، فلا جرم أورد في خاتمة كل آية ما يليق بها. وعن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر بعده. وعن الحسن بن علي رضي الله عنه أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيها فقال: ليس بتيه ولكنه عزة وتلا الآية. وحينئذ عير المنافقين بما عير. وحث المؤمنين على ذكر الله في كل حال بحيث لا يشغلهم عنه التصرف في الأموال والسرور بالأولاد وكل ما سوى الله حقير في جنب ما عند الله، فإن من تصرف في شيء من المال أو صرف زمانه في طرف من أمر الأولاد فلله وبالله وفي الله. وقال الكلبي: ذكر الله الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن الحسن: جميع الفرائض. وقيل: القرآن. وقيل: الصلوات الخمس. يَفْعَلْ ذلِكَ أي ومن أشغلته الدنيا عن الدين. ثم حثهم على الإنفاق إما على الإطلاق وإما في طريق الجهاد. وإتيان الموت إتيان سلطانه وأماراته حين لا يقبل توبته ولا ينفع عمل فيسأل الله التأخير في الأجل لتدارك ما فات ومن له بذلك كما قال وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً والمعنى هلا أخرت موتي إلى زمان قليل فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ من قرأ بالنصب فظاهر، ومن قرأ بالجزم فعلى وهم أن الأول مجزوم كأنه قال: إن أخرتني أصدق وأكن. وقيل: هذا الوعيد لمانع الزكاة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 (سورة التغابن) (مكية إلا قوله يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم إلى آخر ثلاث آيات حروفها ألف وسبعون) [سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) القراآت: يوم نجمعكم بالنون: رويس. الباقون: على الغيبة نكفر وندخله بالنون فيهما: أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل. الآخرون: على الغيبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 الوقوف: وَما فِي الْأَرْضِ ط لاختلاف الجملتين وَلَهُ الْحَمْدُ ط لنوع اختلاف وهو تقديم الخبر على المبتدأ في الأوّل قَدِيرٌ هـ مُؤْمِنٌ ط بَصِيرٌ هـ صَوَّرَكُمْ ج لعطف المختلفين الْمَصِيرُ هـ تُعْلِنُونَ هـ الصُّدُورِ هـ مِنْ قَبْلُ ط لتناهي الاستفهام إلى الاخبار مع صدق الاتصال بالفاء أَلِيمٌ هـ يَهْدُونَنا هـ لاعتراض الاستفهام بين المتفقين اللَّهُ ط حَمِيدٌ هـ يُبْعَثُوا ط عَمِلْتُمْ هـ يَسِيرٌ هـ أَنْزَلْنا ط خَبِيرٌ هـ التَّغابُنِ ط أَبَداً ط الْعَظِيمُ هـ فِيها ط الْمَصِيرُ هـ بِإِذْنِ اللَّهِ ط قَلْبَهُ ط عَلِيمٌ هـ الرَّسُولَ ج ط الْمُبِينُ هـ إِلَّا هُوَ ط الْمُؤْمِنُونَ هـ فَاحْذَرُوهُمْ ج رَحِيمٌ هـ تْنَةٌ طظِيمٌ هـ لِأَنْفُسِكُمْ ط الْمُفْلِحُونَ هـ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ط حَلِيمٌ هـ لا الْحَكِيمُ هـ. التفسير: قال في الكشاف: قدم الظرفين في قوله لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ لمكان الاختصاص وأن لا ملك بالحقيقة إلا له ولا استحقاق حمد في التحقيق إلا له. قلت: لو عكس الترتيب أفاد الخصوصية بوجه آخر وهو أن هذا الجنس وهذه الطبيعة له كما سبق في «الفاتحة» هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ذا فطرة سليمة. وقوله فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بحسب الأسباب الخارجية كقوله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه» «1» والكل على وفق المشيئة. قالت المعتزلة: أراد هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق فكان يجب عليكم أن تقابلوه بالتوحيد والتكبير مجتمعين مطيعين لا أن يغلب الكفر والجحود عليكم، ولمكان هذه الغلبة قدم الكافر. والعجب من صاحب الكشاف أنه سلم أن في خلق الكافر قد يكون وجه حسن ولكنه يخفى علينا ولا يسلم أن في خلق داعية الكفر في الكافر قد يكون وجه حسن يخفى عليه. وقيل: هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية، ومنكم مؤمن. وقوله فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ كقوله في أَحْسَنِ [التين: 4] وسيجيء في «التين» إن شاء الله العزيز. وكل قبيح من الإنسان فهو في نوعه كامل إلا أن الله تعالى خلق أكمل منه من نوعه وأحسن فلهذا يحكم بدمامته وقبحه، ولهذا قالت الحكماء: شيئان لا غاية لهما: الجمال والبيان. وحين وصف نفسه بالقدرة الكاملة والعلم الشامل أعم أولا ثم أخص ثم أخفى، هدد كفار مكة بحال الأمم الماضية فقال أَلَمْ يَأْتِكُمْ الآية ذلِكَ الوبال الدنيوي والعذاب الأخروي بِأَنَّهُ أي بأن الشان كانَتْ أي كانت القضية وقد مر نظيره في «حم المؤمن» . أَبَشَرٌ فاعل فعل محذوف تفسيره يَهْدُونَنا وجمع الضمير لأن   (1) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 80. مسلم في كتاب القدر حديث 22، 23، 24. أحمد في مسنده (2/ 315، 346) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 البشر اسم جمع إِنَّما أَنَا بَشَرٌ [الكهف: 110] إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ [إبراهيم: 11] قال أهل المعاني: لم يذكر المستغنى عنه في قوله وَاسْتَغْنَى اللَّهُ ليتناول كل شيء ومن جملته إيمانهم وطاعتهم. قال في الكشاف: معناه وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان مع قدرته على ذلك، وإنما ذهب إلى هذا التأويل لئلا يوهم أن يوجد التولي والاستغناء معا ويلزم منه أن لا يكون الله في الأزل غنيا. قلت: لو جعل الواو للحال أي وقد كان الله مستغنيا قديما أو والحال وجود استغناء الله في وجودكم لم يحتج إلى التأويل. قوله زَعَمَ من أفعال القلوب وفيه تفريع لكفار مكة لأن الزعم ادعاء العلم مع ظهور أمارات خلافه ويؤيده ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «زعموا مطية الكذاب» وأَنْ لَنْ يُبْعَثُوا في تقدير مفرد قائم مقام المفعولين. قال جار الله: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ منصوب بقوله لَتُنَبَّؤُنَّ أو ب خَبِيرٌ لأنه في معنى الوعد كأنه قيل: والله يعاقبكم يوم كذا أو بإضمار «اذكر» . قلت: يجوز أن يكون يَوْمَ مبنيا على الفتح ومحله ابتداء والخبر جملة قوله ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ. سؤال: ما الفائدة في زيادة قوله لِيَوْمِ الْجَمْعِ الجواب إن كان الخطاب في يَجْمَعُكُمْ لكفار مكة فظاهر أي اذكروا وقت جمعكم الواقع في وقت يجمع فيه الأوّلون والآخرون، وإن كان لعموم الناس فلعل اللام في الجمع للمعهود الذي سلف في نحو قوله يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [المائدة: 109] وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف 47] قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة: 49، 50] هذا ما سمح به الفكر الفاتر والله تعالى أعلم بمراده. قال جار الله: التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة وهو أن يغببن بعضهم بعضا لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي ينزلونها لو كانوا أشقياء. قلت: في تسمية القسم الأخير تغابنا نظر إلا أن يفرض بنزول الشقي في ذلك المنزل يزيد عذاب الشقي، وزيادة العذاب سبب تضيق المكان عليه. واعتذر عنه جار الله بأنه تهكم بالأشقياء لأن خسران أحد الفريقين مبني على ربح الآخر ولا ربح في التحقيق فيلزم التهكم مثل فَبَشِّرْهُمْ [آل عمران: 21] وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من عبد يدخل الجنة إلا يرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا وما من عبد يدخل النار إلا يرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة» . ويجوز أن يفسر التغابن بأخذ المظلوم حسنات الظالم وحمل الظالم خطايا المظلوم وإن صح مجيء التغابن بمعنى الغبن فذلك واضح في حق كل مقصر صرف شيئا من استعداده الفطري في غير ما أعطى لأجله. قوله وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 كقوله وَزِدْناهُمْ هُدىً [الكهف: 13] والأول باللسان والثاني بالجنان أي هدينا قلبه إلى حقيقة الإيمان. وقال جار الله: يلطف به ويشرحه للازدياد من الطاعة والخير، والتحقيق فيه أن نور الإيمان ينبسط كل يوم بسبب الرسوخ والثبات وتكامل المغيبات وتزايد المعارف والطاعات إلى أن يتنور جميع أجزاء القلب وينعكس منه إلى كل الأعضاء والجوارح. وعن الضحاك: يهد قلبه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وعن مجاهد: إن ابتلى صبر وإن أعطى شكر وإن ظلم غفر وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعلم درجات القلوب من الإيمان. ولما كان أكثر ميل الناس عن الطاعات والكمالات الحقيقيات لأجل صرف الزمان في تهيئة أمور الأزواج والأسباب المفضية إليهن أو المعينة عليهن، ثم الأولاد الذين هم ثمرات الأفئدة وحياة القلوب وقرة العيون، بيّن الله سبحانه أن العاقل لا ينبغي أن يصرف كده في ذلك ويكون على حذر منهم ومن تكثيرهم، وبيع الدين بالدنيا لأجلهم فمن الأزواج أزواج يعادين بعولتهن وأعدى عدوّك هي التي تضاجعك، وهل يستلذ الوسنان إذا كان في مضجعه ثعبان. ومن الأولاد أولاد كيد زائدة قطعها مؤذ وفي إبقائها عيب وَإِنْ تَعْفُوا عنهم إذا أطلعتم منهم على معاداة فإن الله يجازيكم. وروى أن ناسا أرادوا الهجرة عن مكة فثبطهم أزواجهم وأولادهم فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم فنزلت. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان فنزل إليهما فأخذهما ووضعهما في حجره على المنبر فقال: صدق الله نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما. وعن بعض السلف: العيال سوس الطاعات. وقال بعض أهل التفسير: أراد إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتننكم الميل إلى الأموال والأولاد عنهما. وحين بين أن الأزواج والأولاد لا ينبغي أن يمنعوا المكلف عن طاعة الله أنتج من ذلك الأمر بتقوى الله بمقدار الوسع والطاقة. «وما» للمدة أو للمصدر وقوله خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ نصب بمحذوف هو افعلوا أو ائتوا وقد مر نظيره في آخر «النساء» في قوله انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [الآية: 171] وفيه إشارة إلى أن أمثال هذه الأوامر خير من التهالك في أمور الأزواج والأولاد وإغضاب الرب وإتعاب النفس لتكثير المال المخلف ومن أشقى ممن لا يقدّم لأجل نفسه شيئا يستقرضه منه رازقه مع شدة احتياجه إلى ذلك بعد مماته ويؤخر لأجل وارثه أموالا عظيمة مع عدم وثوقه بأنه هل يكون له انتفاع بها أم لا اللهم اشغلنا بما يغنينا وبالله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 (سورة الطلاق) (وهي مكية حروفها ألف وسبعون كلمها مائة وسبع وأربعون آياتها اثنتا عشرة آية) [سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) القراآت بالغ أمره بالإضافة: حفص. الآخرون: بالتنوين والنصب وجدكم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 بكسر الواو: روح. ندخله بالنون: أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل. الوقوف الْعِدَّةَ ج تعظيما لأمر الاتقاء رَبَّكُمْ ط لاتصال المعنى مع عدم العاطف مُبَيِّنَةٍ ج وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ط نَفْسَهُ ط أَمْراً هـ لِلَّهِ ط الْآخِرِ ط مَخْرَجاً لا لا يَحْتَسِبُ ط حَسْبُهُ ط أَمْرِهِ ط قَدْراً هـ أَشْهُرٍ لا للعطف أي واللائي لم يحضن كذلك لَمْ يَحِضْنَ ط حَمْلَهُنَّ ط يُسْراً هـ ط إِلَيْكُمْ ط أَجْراً هـ عَلَيْهِنَّ ط حَمْلَهُنَّ ط أُجُورَهُنَّ ك بِمَعْرُوفٍ ك أُخْرى هـ ط مِنْ سَعَتِهِ ط آتاهُ اللَّهُ ط يُسْراً هـ نُكْراً هـ خُسْراً هـ الْأَلْبابِ هـ ز والوصل هاهنا والوقف على آمَنُوا أجوز من العكس ذِكْراً هـ لأن ما بعده بدل أو غيره كما يجيء إِلَى النُّورِ ط أَبَداً ط رِزْقاً هـ مِثْلَهُنَّ ط عِلْماً هـ. التفسير: لما نبه في آخر السورة المتقدمة على معاداة بعض الأزواج والمعاداة كثيرا ما تقضي إلى الفراق بالطلاق أرشد في هذه السورة إلى الطلاق السني الذي لا يحرم إيقاعه وإلى أحكام أخر معتبرة في فراق الزوجين. وقبل الخوض في تقرير أقسام الطلاق نقول: إنه يورد هاهنا سؤال وهو أنه كيف نادى نبيه صلى الله عليه وسلم وحده ثم قال إِذا طَلَّقْتُمُ على الجمع؟ والجواب أنه كما يقال لرئيس القوم يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهارا لتقدمه وأن من سواه من قومه تبع له في الخطاب. وقيل: الجمع للتعظيم والمراد بالخطاب النبيّ أيضا. وقيل: أراد يا أيها النبي والمؤمنون فحذف للدلالة. وقيل: يا أيها النبي قل للمؤمنين. ومعنى إِذا طَلَّقْتُمُ إذا أردتم تطليقهن كقوله فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: 98] واللام في قوله لِعِدَّتِهِنَّ بمعنى الوقت أي للوقت الذي يمكنهنّ الشروع في العدّة وهو الطهر الذي لم يجامعها فيه. وقال جار الله: فطلقوهن مستقبلات لعدّتهن كقولك «أتيته لليلة بقيت من شهر كذا» أي مستقبلا لها. قال الفقهاء: السنيّ طلاق المدخول بها التي ليست بحامل ولا صغيرة ولا آيسة في غير حالة البدعة، والبدعيّ طلاق المدخول بها في حيض أو نفاس أو طهر جامعها فيه ولم يظهر حملها. فلتحريم الطلاق سببان: أحدهما وقوعه في حال الحيض إذا كانت المرأة ممسوسة وكانت ممن تعتدّ بالإقراء لقوله تعالى فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ وطلق ابن عمر امرأته وهي حائض فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: مره ليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم يطلقها إن شاء. فتلك العدّة التي أمر الله أن يطلق لها النساء. والمعنى فيه أن بقية الحيضة لا تحسب من العدة فتطول عليها مدة التربص. وثانيهما إذا جامع امرأته في طهرها وهي ممن تحبل ولم يظهر حملها حرم عليه أن يطلقها في ذلك الطهر كقوله صلى الله عليه وسلم في قصة ابن عمر «ثم إن شاء طلقها قبل أن يمسها» ولأنه ربما يندم على الطلاق لظهور الحمل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 هذا تقرير السنة والبدعة من جهة الوقت. أما السنة والبدعة من جهة العدد فقال مالك: لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة وكان يكره الثلاث مجموعة أو مفرقة على الأطهار. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يكره ما زاد على الواحدة في طهر واحد، فأما متفرقا في الأطهار فلا لما روي في قصة ابن عمر: إنما السنة أن يستقبل الطهر استقبالا، ويطلق لكل قرء تطليقة. وقال الشافعي: لا بأس بإرسال الثلاث وقال: لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة. وقد يستدل بما روي في حديث اللعان أن اللاعن قال: هي طالق ثلاثا. ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت الشيعة: إذا طلقها ثلاثا يقع واحدة. ومنهم من قال: لا يقع شيء وهو قول سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين. والأصح عند أكثر المجتهدين أن الطلاق البدعي واقع وإن كان صاحبه آثما وعاصيا وهذا مبنيّ على أن النهي لا يوجب فساد المنهي عنه. وفي قصة ابن عمر أنه قال: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا؟ فقال له: إذن عصيت وبانت منك امرأتك. قالت العلماء: المحرم هو الطلاق بغير عوض فأما إذا خلع الحائض أو طلقها على مال فلا لإطلاق قوله تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة: 229] ولأن المنع كان رعاية لجانبها وبذل المال دليل على شدة الحاجة إلى الخلاص بالمفارقة. قال جار الله: اللام في قوله النِّساءَ للجنس وقد علم بقوله فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أنه مطلق على البعض وهنّ ذوات الأقراء المدخول بهن فلا عموم ولا خصوص. قلت: ما ضره لو جعله عاما لأنه إذا روعي الشرط المذكور في هذا البعض لزم أن يكون طلاق كل النساء من الصغيرة والآيسة والحامل وغير المدخول بها والمدخول بها والمدخول بها بحيث يمكنهن أن يشرعن الطلاق في العدة. قوله وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أي اضبطوها واحفظوا عدد أيامها ثلاثة أقراء كوامل لا أزيد ولا أنقص لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ يعني من مساكن الفراق وهي بيوت الأزواج أضيفت إليهن لاختصاصها بهنّ من حيث السكنى إلى انقضاء العدة، وكما أن البعولة لا ينبغي أن يخرجوهنّ غضبا عليهنّ أو لحاجة لهم إلى المساكن كذلك لا ينبغي لهنّ أن يخرجن بأنفسهنّ. وقوله إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ استثناء من الجملة الأولى أي إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهنّ، أو إلا أن يطلقهن على النشوز فإن النشوز يسقط حقهنّ في السكنى، أو إلا أن يبذون فيحل إخراجهنّ لبذائهن ويؤيده قراءة أبيّ إلا أن يفحشن عليكم وقيل: خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه. والمعنى إن خرجت فقد أتت بفاحشة مبينة وعلى هذا يكون الاستثناء من الجملة الثانية. قوله لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً أي أحصوا العدة وألزموهن مساكنكم فلعلكم تندمون بقلب الله البغضة محبة والمقت مقة والطلاق رجعة. والخطاب في لا تَدْرِي للنبي صلى الله عليه وسلم على نسق أول السورة أو لكل مكلف فَإِذا بَلَغْنَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 أَجَلَهُنَ أي شارفن انقضاء عدتهن فأنتم بالخيار إن شئتم فالإمساك بالرجعة لا على وجه الضرار بل بالشرع والعرف، وإن شئتم فالفراق بالمعروف كما مر في «البقرة» وَأَشْهِدُوا على الرجعة أو الفرقة وذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أي من جنسكم من المسلمين قاله الحسن. وعن قتادة: من أحراركم. وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة، وعند الشافعي واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة. وفائدة الإشهاد أن لا يقع التجاحد وأن لا يتهم في إمساكها أو يموت أحدهما فيدعي الآخر ثبوت الزوجية لأجل الميراث. ثم حث الشهود على أن لا يشهدوا إلا لوجه الله من غير شائبة غرض أخروي أو عرض دنيوي ذلِكُمْ الحث على أداء الشهادة لله يُوعَظُ بِهِ مَنْ هو من أهل الإيمان بالله والمعاد لأن غيره لا ينتفع به، ويجوز أن تكون الإشارة بذلكم إلى ما مر من الإمساك أو الفراق بالمعروف لا على وجه الضرار فيكون موافقا لما مر في «البقرة» إلا أنه وحد كاف الخطاب هنالك لأنه أكد الكلام بزيادة منكم، وهاهنا جمع فلم يحتج إلى لفظ منكم والله تعالى أعلم بأسرار كلامه. ثم حض على التقوى في كل باب ولا سيما فيما سبق من أمر الطلاق وكأنه قال وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ومخلصا من غموم الدنيا والآخرة ومن جملة ذلك تأيم الأزواج وَيَرْزُقْهُ من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه بدل ما أدى وبذل من المهر والحقوق. عن النبي صلى الله عليه وسلم «إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم» وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فما زال يقرؤها ويعيدها. وروي أن عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنا له يسمى سالما، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أسر ابني وشكا إليه الفاقة. فقال: ما أمسى عند آل محمد إلا مدّ فاتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله. ففعل، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل تغفل عنها العدوّ فاستاقها فنزلت هذه الآية. قلت: قد جربت الآية في محن ومهالك فوجدت مفرجة منفسة. ومن أسرار القرآن ولطائفه أنه سبحانه حث على التقوى في هذه السورة ثلاث مرات: بقوله وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ وذلك على عدد الطلقات الثلاث، ووعد في كل مرة نوعا من الجزاء: الأول أنه يخرجه مما دخل فيه وهو كاره ويتيح له خيرا ممن طلقها. الثاني اليسر في الأمور والموالاة في المقاصد ما دام حيا. الثالث أفضل الجزاء وهو ما يكون في الآخرة من النعماء. ثم حث في التوكل بثلاث جمل متقاربة الخطى: الأولى وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ لأن المعبود الحقيقي القادر على كل شيء الغنيّ عن كل شيء الجواد بكل شيء إذا فوض عبده الضعيف أمره إليه لا يهمله البتة. الثانية إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ أي يبلغ كل أمر يريده ولا يفوته المطلوب. الثالثة قَدْ جَعَلَ اللَّهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أي وقتا ومقدارا. وهاتان الجملتان كل منهما بيان لوجوب التوكل عليه لأنه إذا علم كونه قادرا على كل شيء وعلم أنه قد بيّن وعيّن لكل شيء حدا ومقدارا لم يبق إلا التسليم والتفويض. قال جار الله: قال المفسرون: إن ناسا قالوا: قد عرفنا عدة ذوات الأقراء فما عدة اللواتي لم يحضن فنزلت وَاللَّائِي يَئِسْنَ فمعنى إن ارتبتم إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا حكمهن. قلت: في صحة هذه الرواية نظر فإن السورة ليس فيها بيان عدة ذوات الأقراء وإحالتها على ما في «البقرة» ، والمطلقات يتربصن لا يجوز لأن هذه مكية وتلك مدنية. نعم لو ثبت أن هذه متأخرة النزول كان له وجه كما روي عن عبد الله بن مسعود: من شاء باهلته إن سورة النساء القصرى نزلت بعد التي في البقرة. والجمهور أن المراد أن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض أو استحاضت فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها فغير المرتاب أولى. وسن اليأس مقدر بخمس وخمسين وبستين. والمشهور عند أكثر أصحاب الشافعي النطر إلى نساء عشيرتها من الأبوين، فإذا بلغت السن التي ينقطع فيها حيضهن فقد بلغت سن اليأس. وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ هن الصغائر والتقدير فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر حذف لدلالة ما قبله عليه. قوله وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أي النساء الحوامل أَجَلُهُنَّ بعد الطلاق أو بعد وفاة الزوج أي انقضاء عدتهن أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ هذا قول أكثر الأئمة والصحابة وإنما تنقضي العدة بوضع الحمل بتمامه. فلو كانت حاملا بتوأمين لم تنقض العدة حتى ينفصل الثاني بتمامه، وإنما يكون الولدان توأمين إذا ولدا على التعاقب وبينهما دون ستة أشهر وإلا فالثاني حمل آخر. وعن علي وابن عباس أن عدة الحامل المتوفي عنها زوجها أبعد الأجلين من بقية الحمل ومن أربعة أشهر وعشر، ووضع الحمل لا يتفاوت بكونه حيا أو ميتا أو سقطا أو مضغة لا صورة فيها، وصدقت المرأة بيمينها لأنهنّ مؤتمنات على أرحامهنّ. وحين كرر شرط التقوى كان لسائل أن يسأل: كيف يعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أي بعض مكان سكناكم الذي تطيقونه. والوجد الوسع والطاقة. قال قتادة: فإن لم يكن إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه. قال أبو حنيفة: السكنى والنفقة واجبتان لكل مطلقة. وعند الشافعي ومالك: ليس للمبتوتة إلا السكنى. وعن الحسن وحماد: لا نفقة لها ولا سكنى لما في حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها بت طلاقها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا سكنى لك ولا نفقة. وضعف بقول عمر: لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا لقول امرأة نسيت أو شبه لها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها السكنى والنفقة وَلا تُضآرُّوهُنَّ بإنزال مسكن لا يوافقهن أو بغير ذلك من أنواع المضار حتى تضطروهن إلى الخروج وقيل: هو أن يراجعها كلما قرب انقضاء عدتها ليضيق عليها أمرها وقد يلجئها إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 أن تفتدي منه. قوله وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ تخصيص للحامل بالنفقة لأجل الحمل وإن كانت بائنة. هذا عند الشافعي، وأما عند أبي حنيفة ففائدته أن مدة الحمل ربما تطول فيظن ظان أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحامل فنفى ذلك الوهم، وأما الحامل المتوفى عنها فالأكثرون على أنه لا نفقة لها لوقوع الإجماع على من أجبر الرجل على إنفاقه من امرأة أو ولد صغير لا يجب أن ينفق عليه من ماله بعد موته فكذلك الحامل. وعن علي وعبد الله وجماعة ومنهم الشافعي أنهم أوجبوا نفقتها. ثم بين أمر الطفل قائلا فَإِنْ أَرْضَعْنَ أي هؤلاء المطلقات لَكُمْ أي لأجلكم ولدا منهن أو من غيرهن بعد انفصام عرى الزوجية. وهذه الإجارة لا تجوز عند أبي حنيفة وأصحابه إذا كان الولد منهن ما لم تحصل البينونة. وجوز الشافعي مطلقا كلما صار. ثم خاطب الآباء والأمهات جميعا بقوله وَأْتَمِرُوا قال أهل اللغة: الائتمار بمعنى التآمر كالاشتوار بمعنى التشاور أي ليأمر بعضكم بعضا بالجميل وهو المسامحة وأن لا يماكس الأب ولا تعاسر الأم لأنه ولدهما معا وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ أي أظهرتم من أنفسكم العسر والشدة في أمر مؤنة الإرضاع فَسَتُرْضِعُ أي الطفل لَهُ أي للأب مرضعة أُخْرى وفيه طرف من معاتبة الأم على التعاسر كما تقول لمن تطلب منه حاجة وهو يتأنى في قضائها: سيقضيها قاض. يريد لا تبقى غير مقضية وأنت ملوم. ثم بين أن ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات هو بمقدار الوسع والطاقة كما في «البقرة» على الموسر قدره وعلى المقتر قدره إلى أن يفتح الله أبواب الرزق عليهم. ثم هدد من خالف الأحكام المذكورة بأحوال الأمم السابقة. والحساب الشديد أي بالاستقصاء والمناقشة، والعذاب النكر أي المنكر الفظيع. يحتمل أن يراد بهما حساب الدنيا وعذابها وهو إحصاء صغائرهم وكبائرهم في ديوان الحفظة وما أصاب كل قوم من الصيحة ونحوها عاجلا، وأن يراد عذاب الآخرة وحسابها. ولفظ الماضي لتحقق الوقوع مثل وَسِيقَ [الزمر: 72] وَنادى [الأعراف: 38] وعلى هذا يكون قوله أَعَدَّ اللَّهُ تكريرا للوعيد وبيانا لكونه مترقبا كأنه قال: أعد الله لهم هذا العذاب فاحذروا مثله يا أُولِي الْأَلْبابِ وجوز جار الله أن يكون عَتَتْ وما عطف عليه صفة للقرية وأَعَدَّ اللَّهُ عاملا في كَأَيِّنْ. قوله رَسُولًا قال جار الله: هو جبرائيل أبدل من ذِكْراً لأنه وصف بتلاوة آيات الله وكان إنزاله في معنى إنزال الذكر فصح إبداله منه، أو أريد بالذكر الشرف كقوله وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] فأبدل منه كأنه في نفسه شرف إما لأنه شرف للمنزل عليه وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله، أو جعل لكثرة ذكره الله وعبادته كأنه ذكر، أو أريد ذا ذكر أي ملكا مذكورا في السموات وفي الأمم كلها، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 أو دل قوله قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ على أرسل فكأنه قيل: أرسل رسولا أو أعمل ذِكْراً في رَسُولًا إعمال المصدر في المفاعيل أي أنزل الله أن ذكر رسولا أو ذكره رسولا. قلت: لم يبعد على هذه الوجوه أن يكون المراد بالرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر غاية الإنزال أو التلاوة بقوله لِيُخْرِجَ والمعنى ليخرج الله أو الرسول الَّذِينَ عرف منهم أنهم سيؤمنون من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، أو ليوفقهم بعد الإيمان والعمل الصالح لمزيد البيان والعيان الذي ينجلي به ظلم الشكوك والحسبان. قوله قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً فيه معنى التعجب والتعظيم. ثم ختم السورة بالتوحيد الذي هو أجل المطالب وتفسيره ظاهر مما سلف مرارا إلا أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الأرض متعددة وأنها سبع كالسموات فذهب بعضهم إلى أن قوله مِثْلَهُنَّ أي في الخلق لا في العدد. وقيل: هن الأقاليم السبعة، والدعوة شاملة لجميعها. وقيل: إنها سبع أرضين متصل بعضها ببعض وقد حال بينهن بحار لا يمكن قطعها والدعوة لا تصل إليهم. وقيل: إنها سبع طبقات بعضها فوق بعض لا فرجة بينها وهذا يشبه قول الحكماء: منها طبقة هي أرض صرفة تجاور المركز، ومنها طبقة طينية تخالط سطح الماء من جانب التقعير، ومنها طبقة معدنية يتولد منها المعادن، ومنها طبقة تركبت بغيرها وقد انكشف بعضها، ومنها طبقة الأدخنة والأبخرة على اختلاف أحوالها أي طبقة الزمهرير، وقد تعدّ هذه الطبقة من الهواء. وقيل: إنها سبع أرضين بين كل واحدة منها إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام كما جاء في ذكر السماء وفي كل أرض منها خلق حتى قالوا: في كل منها آدم وحواء ونوح وإبراهيم وهم يشاهدون السماء من جانب أرضهم ويستمدون الضياء منها أو جعل لهم نورا يستضيئون به. وذكر النقاش في تفسيره فصلا في خلائق السموات والأرضين وأشكالهم وأسمائهم أضربنا عن إيرادها لعدم الوثوق بمثل تلك الروايات. ومعنى يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أن حكم الله وأمره يجري فيما بين السموات والأرضين أو فيما يتركب منهما ولا يعلم تلك الأجرام ولا تلك الأحكام ولا كيفية تنفيذها فيهن إلا علام الغيوب تعالى وتقدس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 (سورة التحريم) (وهي مدنية حروفها ألف وستون كلماتها مائتان وتسع وأربعون آياتها اثنتا عشرة آية) [سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) القراآت عرف بالتخفيف: عليّ تَظاهَرا عاصم وحمزة وعلي وخلف. أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 يبدله بالتشديد: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو نصوحا بضم النون: يحيى وحماد وكتبه على الجمع: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص. الوقوف لَكَ ج لاحتمال أن الجملة بعده حال أو استفهامية بحذف الحرف وهذا أحسن، لأن تحريم الحلال بغير ابتغاء مرضاتهن أيضا غير جائز أَزْواجِكَ ط رَحِيمٌ هـ أَيْمانِكُمْ ج لعطف الجملتين المختلفتين مَوْلاكُمْ ط للابتداء بذكر ما لم يزل من الوصفين مع اتفاق الجملتين الْحَكِيمُ هـ حَدِيثاً ج عَنْ بَعْضٍ ج هذا ط الْخَبِيرُ هـ قُلُوبُكُما ج الْمُؤْمِنِينَ هـ لتناهي الشرط إلى الإخبار ظَهِيرٌ هـ وَأَبْكاراً هـ ما يُؤْمَرُونَ هـ الْيَوْمَ ط تَعْمَلُونَ هـ نَصُوحاً ط الْأَنْهارُ لا بناء على أن الظرف يتعلق بقوله وَيُدْخِلَكُمْ وج لاحتمال أن يَوْمَ متعلق بقوله يَسْعى بعد وَاغْفِرْ لَنا ج للابتداء بأن مع احتمال اللام قَدِيرٌ هـ عَلَيْهِمْ هـ جَهَنَّمُ ط الْمَصِيرُ هـ لُوطٍ ط لابتداء الحكاية الدَّاخِلِينَ هـ فِرْعَوْنَ ج لئلا يتوهم أن الظرف متعلق ب ضَرَبَ بل التقدير «اذكروا» الظَّالِمِينَ هـ لأن ما بعده معطوف على امرأة فرعون الْقانِتِينَ هـ. التفسير: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي زينب بنت جحش فيشرب عندها العسل، فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له: إنما نشم منك ريح المغافير. والمغفور والمغثور شيء واحد ينضحه العرفط والرمث مثل الصمغ وهو حلو كالعسل يؤكل وله ريح كريهة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره التفل فحرم لقولهما على نفسه العسل. الثاني أنه ما أحل الله له من ملك اليمين. وهاهنا روايتان: الأولى أنه صلى الله عليه وسلم خلا بمارية القبطية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لها: اكتمي عليّ وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي، فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين. الثانية أنه خلا بمارية في يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم فطلقها واعتزل نساءه ومكث تسعا وعشرين ليلة في بيت مارية فقال عمر لابنته: لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك. فنزل جبريل صلى الله عليه وسلم وقال: راجعها فإنها صوّامة قوّامة وإنها لمن نسائك في الجنة. قال جمع من العلماء: لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم حلال بأن يقول: هو عليّ حرام ولكنه كان يمينا كقوله «والله لا أشرب العسل ولا أقرب الجارية بعد اليوم» فقيل له: لم تحرم أي لم تمتنع منه بسبب اليمين يعني أقدم على ما حلفت عليه وكفر عن يمينك وَاللَّهُ غَفُورٌ لك رَحِيمٌ بك والدليل عليه ظاهر. قوله قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ بمعنى التحليل كالتكرمة أَيْمانِكُمْ أي شرع لكم تحليلها بالكفارة. وقيل: قد شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك حلل فلان في يمينه إذا استثنى فيها وذلك أن يقول: إن شاء الله عقبها حتى لا يحنث. والتحلة تفعلة بمعنى التحليل كالتكرمة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 بمعنى التكريم. عن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم لم يكفر عن يمينه لأنه كان مغفورا له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين. وعن مقاتل أنه أعتق رقبة في تحريم مارية. وما حكم تحريم الحلال؟ قال أبو حنيفة: هو يمين على الامتناع من الانتفاع المقصود، فلو حرم طعاما فهو يمين على الامتناع من أكله، أو أمه فعلى الامتناع من وطئها، أو زوجة فمحمول على ما نوى، فإن نوى الظهار فظهار، أو الطلاق فطلاق بائن، وإن لم ينو شيئا فعلى الإيلاء، وإن قال: كل حلال عليه حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو وإلا فعلى ما نوى. وعن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وزيد أن الحرام يمين. وقال الشافعي: هو في النساء من صرائح ألفاظ الطلاق. وعن عمر: إذا نوى الطلاق فرجعي. وعن علي رضي الله عنه: ثلاث. وعن عثمان: ظهار. وعن مسروق والشعبي أنه ليس بشيء فما لم يحرمه الله ليس لأحد أن يحرمه وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ متولي أموركم وقيل: أولى بكم من أنفسكم ونصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم وَهُوَ الْعَلِيمُ بما يصلحكم الْحَكِيمُ فيما يأمركم به وينهاكم عنه وَاذكر إذا أسرّ النبي إلى بعض أزواجه وهي حفصة حَدِيثاً هو حديث مارية وإمامة الشيخين فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ حفصة عائشة وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ على نبيه أي أطلعه على إفشائه على لسان جبريل. وقيل: أظهر الله الحديث على النبي فيكون من الظهور عَرَّفَ بَعْضَهُ أعلم ببعض الحديث. ومن قرأ بالتخفيف من العرفان فمعناه المجازاة من قولك للمسيء «لأعرفنّ لك ذلك» وكان جزاؤه تطليقه إياها. وقيل: المعرف حديث الإمامة والمعرض عنه حديث مارية. وإنما أعرض عن البعض تكرما. قال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام. وروي أنه قال لها: ألم أقل لك اكتمي عليّ؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي فرحا بالكرامة التي خص الله بها أبي. وإنما ترك المفعول ولم يقل «فلما نبأت به بعضهنّ وعرفها بعضه لأن ذلك ليس بمقصود وإنما الغرض ذكر جناية حفصة في وجود الإنباء به، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرمه وحلمه لم يوجد منه إلا الإعلام بالبعض وهو حديث الإمامة. ولما كان المقصود في قوله مَنْ أَنْبَأَكَ هذا ذكر المنبأ به أتى بالمفعولين جميعا. ثم وبخ عائشة وحفصة على طريقة الالتفات قائلا إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي فقد وجد منكما ما يوجب التوبة وهو ميل قلوبكما عن إخلاص رسول الله صلى الله عليه وسلم من حب ما يحبه وبغض ما يكرهه والأصل قلباكما. ووجه الجمع ما مر في قوله فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] وَإِنْ تَظاهَرا أي تعاونا على ما يوجب غيظه فلم يعدم هو من يظاهره كيف والله مَوْلاهُ أي ناصره وَجِبْرِيلُ خاصة من بين الملائكة وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ قال أكثر العلماء: هو واحد في معنى الجمع لأنه أريد الجنس لشمول كل من آمن وعمل صالحا. وجوز أن يكون جمعا وقد أسقط الواو في الخط لسقوطه في اللفظ. عن سعيد ابن جبير: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 320 هو كل من برىء من النفاق. وقيل: الأنبياء والصحابة والخلفاء. وَالْمَلائِكَةُ على كثرة جموعهم بَعْدَ ذلِكَ الذي عرف من نصرة المذكورين ظَهِيرٌ فوج مظاهر له كأنهم يد واحدة فأي وزن لاتفاق امرأتين بعد تظاهر هؤلاء على ضد مطلوبهما. ولا يخفى أن الكلام مسوق للمبالغة في الظاهر وإلا فكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا. ثم وبخهما بنوع آخر وهو قوله عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ الآية. والسائحات الصائمات كما في آخر التوبة. قال جار الله: شبه الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره بالسائح الذي لا زاد معه فلا يزال ممسكا إلى أن يجد من يطعمه. وقيل: السائحات المهاجرات فانظر في شؤم العصيان فإن أمهات المؤمنين وهنّ خير نساء العالمين يصير غيرهن بفرض عدم العصيان خيرا منهن بفرض العصيان وتطليق الرسول إياهن. وقد عرفت في النظائر أن الواو في قوله وَأَبْكاراً يقال لها «واو الثمانية» إلا أن للواو في هذا المقام فائدة أخرى وهي أن وصفي الثيابة والبكارة متنافيان لا يكون إلا أحدهما بخلاف الصفات المتقدمة فإنها ممكنة الاجتماع، فالمراد أن أولئك النساء جامعات للأوصاف المتقدمة ولأحد هذين. ثم عمم التحذير فقال قُوا أَنْفُسَكُمْ وهو أمر من الوقاية في الحديث «رحم الله رجلا قال يا أهلاه صلاتكم وصيامكم وزكاتكم مسكينكم ويتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعهم معه في الجنة» وتفسير قوله وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ قد مر في أول «البقرة» . وكونها معدّة للكافرين لا ينافي تعذيب المؤمنين الفسقة بها إن استحقوها. وجوز أن يكون أمرا بالتوقي من الارتداد وأن يكون خطابا للذين آمنوا بألسنتهم عَلَيْها مَلائِكَةٌ أي موكل على أهلها الزبانية التسعة عشر الموصوفون بالغلظة والشدة في الإجرام أو في الأفعال أو فيهما لأنه لا تأخذهم رأفة بمن عصى الله. وقوله ما أَمَرَهُمْ نصب على البدل أي لا يعصون أمر الله. ولا يخفى أن عدم العصيان يستلزم امتثال الأمر فصرح بما عرف ضمنا قائلا وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ويجوز أن يكون الأوّل عائدا إلى الماضي والثاني إلى المستقبل. ثم وعظ المؤمنين بما يقال للكافرين عند دخولهم النار وهو قوله لا تَعْتَذِرُوا لأنه لا عذر لكم أو لا عذر مقبولا لكم، وليس هذا من قبيل الظلم ولكنه جزاء أعمالهم. ثم أرشد المؤمنين إلى طريق التوبة، ووصفت بالنصوح على الإسناد المجازي لأن النصح صفة التائبين وهو أن ينصحوا أنفسهم بالتوبة لا يكون فيها شوب رياء ولا نفاق. وقيل: هو من نصاحة الثوب أي توبة ترفأ خروقك في دينك. وقيل: خالصة عسل ناصح إذا خلص من الشمع. وقيل: توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها. وعَسى من الكريم إطماع ولئلا يتكلوا. قوله لا يُخْزِي تعريض لمن أخزاهم من أهل النار رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: 192] كأنه استحمد المؤمنين على أنه عصمهم من مثل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 حالهم. قوله نُورُهُمْ يَسْعى قد مرّ في الحديد قوله يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا أي قائلين ذلك إذا طفىء نور المنافقين خوفا من زواله على عادة البشرية، أو لأن الإخلاص والنفاق من صفة الباطن لا يعرفه إلا الله سبحانه على أنه يجوز أن يدعو المؤمن بما هو حاصل له مثل اهدنا، ويجوز أن يدعو به من هو أدنى منزلة لأن النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه تفضلا لا مجازاة لانقطاع التكليف والعمل يومئذ. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة أو بإقامة الحدود عليهم، وأمر باستعمال الغلظة والخشونة على الفريقين هذا عذابهم في الدنيا ولهم في الآخرة جهنم وقد سبق نظير الآية في «التوبة» . ثم ضرب مثلا لأهل الكفر امرأة نوح واسمها قيل واعلة وامرأة لوط. واسمها قيل واهلة ومثلا لأهل الإيمان امرأة فرعون واسمها آسية وهي عمة موسى ومريم ابنة عمران. وفي ضمن التمثيلين تعريض بما مرّ في أول السورة من حال عائشة وحفصة وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص كهاتين المؤمنتين لا الكافرتين اللتين حين خانتا زوجيهما لم يغنيا عنهما من عذاب الله شيئا، وقيل لهما عند موتهما أو يوم القيامة ادْخُلَا النَّارَ مَعَ سائر الدَّاخِلِينَ الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء من قوم نوح وقوم لوط أو من كل قوم. وفي قوله عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا إشارة إلى أن سبب المزية والرجحان عند الله ليس إلا الصلاح كائنا من كان. وخيانة المرأتين ليست هي الفجور وإنما هي نفاقهما وإبطانهما الكفر وتظاهرهما على الرسولين. فامرأة نوح قالت لقومه إنه لمجنون، وامرأة لوط دلت على ضيفانه. قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط. عن أبى هريرة أن آسية حين آمنت بموسى عليه السلام وتدها فرعون باربعة أوتاد واستقبل بها الشمس وأضجعها على ظهرها ووضع الرحى على صدرها. قال الحسن: فنجاها الله أكرم نجاة فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتنعم فيها. وقيل: لما قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ بنى من درّة. ومعنى عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ أنها طلبت القرب من الله والبعد عن عدوّه في مقام القرب، أو أرادت أعلى موضع في الجنة. وقولها مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ كقولك «أعجبني زيد وكرمه» وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله من الأشرار دأب الصالحين. والضمير في فِيهِ للفرج. وقيل: هو جيب الدرع وقد مرّ في «الأنبياء» . وكلمات الله صحف إبراهيم وغيره أو جميع ما كلم الله به وكتبه اللوح أو الكتب الأربعة ومن وحد فهو الإنجيل. وقرىء بكلمة الله أي بعيسى وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ من باب التغليب كما مرّ في قوله وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: 43] وقيل: «من» للابتداء أي ولدت منهم لأنهم من أعقاب هرون عليه السلام. تم الجزء الثامن والعشرون ويليه الجزء التاسع والعشرون وأوله تفسير سورة الملك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 الجزء التاسع والعشرون من أجزاء القرآن الكريم (سورة الملك) (وهي مكية حروفها ألف وثلاثمائة وثلاثة عشر كلمها ثلاثمائة وخمس وثلاثون آياتها ثلاثون) [سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 30] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 القراآت من تفوّت من التفعل: حمزة وعلي هَلْ تَرى بالإدغام: أبو عمرو وحمزة وعلي وهشام وَلَقَدْ زَيَّنَّا مثل لَقَدْ سَمِعَ: ابن فليح فَسُحْقاً بالضم: يزيد وعلي الآخرون: بالسكون أَأَمِنْتُمْ بهمزتين: حمزة وعلي وخلف وابن عامر. والباقون أَأَمِنْتُمْ بتوسيط ألف بين الهمزتين نذيري ونكيري كنظائرهما. سيئت مثل ضربت: أبو جعفر ونافع وابن عامر وعلي ورويس. يدعون بسكون الدال: يعقوب. أهلكني الله بسكون الياء: حمزة مَعِيَ بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وعاصم غير يحيى وحماد فسيعلمون على الغيبة: علي. الوقوف الْمُلْكُ ط لنوع اختلاف بين الجملتين من حيث تقديم الظرف في الأولى قَدِيرٌ هـ لا لأن الَّذِي بدل عَمَلًا هـ الْغَفُورُ هـ لا لأن ما بعده صفة أو بدل طِباقاً ط تَفاوُتٍ ط الْبَصَرَ ط في الموضعين لأن ما بعد الأول مفعول أي فانظر هل ترى، وما بعد الثاني ظرف مع أن الجواب منتظر فُطُورٍ هـ حَسِيرٌ هـ السَّعِيرِ هـ جَهَنَّمَ ط الْمَصِيرُ هـ تَفُورُ هـ لا لأن ما بعده خبر آخر أو بدل الْغَيْظِ ط نَذِيرٌ هـ مِنْ شَيْءٍ ط ج لاحتمال أن ما بعده من تمام قول الكفار وأن يكون مقول قول محذوف للخزنة كَبِيرٍ هـ السَّعِيرِ هـ بِذَنْبِهِمْ ج لابتداء الشتم مع الفاء كَبِيرٌ هـ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ هـ ط الصُّدُورِ هـ خَلَقَ ط لتناهي الاستفهام مع أن الواو يحسن حالا. الْخَبِيرُ هـ مِنْ رِزْقِهِ ط النُّشُورُ هـ هِيَ تَمُورُ هـ لا لأن أم معادل أَمْ أَمِنْتُمْ حاصِباً ط لابتداء التهديد نَذِيرِ هـ نَكِيرِ هـ ويَقْبِضْنَ م الرَّحْمنُ ط بَصِيرٌ هـ الرَّحْمنِ ط غُرُورٍ هـ رِزْقَهُ ط وَنُفُورٍ هـ مُسْتَقِيمٍ هـ وَالْأَفْئِدَةَ ط تَشْكُرُونَ هـ تُحْشَرُونَ هـ صادِقِينَ هـ عِنْدَ اللَّهِ ط ص مُبِينٌ هـ تَدَّعُونَ هـ رَحِمَنا لا لأن ما بعده جواب الشرط أَلِيمٍ هـ تَوَكَّلْنا ج ومن قرأ فسيعلمون بياء الغيبة فوقفه مطلق للعدول مُبِينٍ هـ مَعِينٍ هـ. التفسير: كثير خير من تحت تصرفه وتسخيره الْمُلْكُ الحقيقي وَهُوَ عَلى إيجاد كُلِّ ممكن وإعدامه قَدِيرٌ بيانه أنه خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ وهما عرضان يتعاقبان على كل من صح عليه ذلك. فالموت نظير الإعدام والحياة مثال الإيجاد، وتقديم الموت لأن الأصل في الأشياء العدم، قال مقاتل: يعني كونه نطفة وعلقة ومضغة ثم نفخ فيه الروح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 وعن ابن عباس: الموت في الدنيا والحياة في الآخرة دار الحيوان، وإن الله خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد رائحته شيء إلا مات، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار ودون البغل لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي، قال الحكماء الإسلاميون: هذا على سبيل التمثيل وإلا فالعرض لا يكون جوهرا. أقول: لعل الأملح والبلقاء إشارة إلى أن هذين العرضين في عالمنا هذا لا يطرآن إلا على ما فيه طبائع متضادة فتكون بسبب ذلك تارة وتفقد أخرى. قال جار الله: إنما قدم الموت لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه، فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم. زعم الكلبي أنه تعالى قادر على مثل مقدور العبد، وقال أبو علي وأبو هاشم: إنه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد. وقالت الأشاعرة: إنه قادر على القبيلين وإلا لم يكن على كل شيء قدير وهو خلاف الآية فلزمهم صحة وجود مقدور بين قادرين وبهذا بطل القول بالطبائع على ما تقوله الفلاسفة، وبالمتولدات على ما تقوله المعتزلة، وبكون العبد موجد الأفعال نفسه. ومعنى الغاية في قوله لِيَبْلُوَكُمْ أنه إذا علم أن وراء الموت حياة وحالة يستوي فيها الغني والفقير والمولى والعبد ولا ينفعه إلا ما قدم من خير صار ذلك داعيا إلى حسن العمل وزاجرا عن ضده. وكذا لو قيل: إن الموت حال كونه نطفة والحياة نفخ الروح في الجنين فإنه إذا تفكر في أمور نفسه علم أن وراء هذه الحياة موتا ينقطع به تدارك ما فات، وأن الدنيا مزرعة الآخرة. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلاها فلما بلغ قوله أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قال: أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لقومه «لو أكثرتم ذكرها ذم اللذات لشغلكم عما أرى» «1» والابتلاء مجاز كما مر في قوله وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ وفي الكهف قوله أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا مفعول ثان لِيَبْلُوَكُمْ على أنه متضمن معنى العلم وليس هذا من باب التعليق لأن التعليق هو أن تكون الاستفهامية سادة مسد المفعولين جميعا نحو «علمت أزيد منطلق» نعم إنه تعليق على قول الفراء والزجاج لأنهما قالا تقديره ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن عملا وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل الْغَفُورُ لمن تاب من أهل الإساءة، وهذان الوصفان يتوقفان على كمال القدرة والعلم فلا جرم دل عليهما الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً أي ذات طباق أو طوبقت طباقا أو هو وصف بالمصدر مبالغة أي مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا طار طارقها. ثم أشار إلى أنها محكمة متقنة بقوله ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ أو تفوّت قال   (1) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 26. النسائي في كتاب الجنائز باب 3. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 31. أحمد في مسنده (2/ 293) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 الفراء: وهما واحد ومعناه يرجع إلى عدم التناسب والنظام بحيث يقول الناظر الفهم لو كان كذا لكان أحسن، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل راء. والأصل ما ترى فيهن فعدل إلى العبارة الموجودة تعظيما لخلقهن وتنبيها على أنه سبب تناسبهن كقوله «خلق الرحمن» . فلو علم للمكلفين أنفع من هذا الخلق لفعل. وفسر بعضهم التفاوت بالفطور لقوله هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ أي صدوع وشقوق وخروق وفتور كل هذه من عبارات المفسرين وهو كقوله في أول «ق» وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق: 4] وإنما أمر برجع البصر لأن النظرة الأولى حمقاء، ثم أمر بتكرير رجع البصر كرتين وهو تثنية الكرة مثل لبيك وسعديك إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة فإنه لا يعثر على شيء من الخلل والعيب، ومعنى خاسِئاً بعيدا عن إصابة الملمس، قوله وَلَقَدْ زَيَّنَّا قد مر تفسيره في «حم السجدة» . والرجوم جمع رجم مصدر سمي به ما يرجم به. وقيل: معناه جعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم الأحكاميون من أهل التنجيم. وحين بين أنه أعد لهؤلاء عذاب السعير في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا عمم الوعيد بقوله وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا الآية. ثم وصف جهنم بصفات منها أن لَها شَهِيقاً تشبيها لحسيسها المنكر الفظيع بصوت الحمار. ويجوز أن يكون الشهيق لأهلها ممن تقدم طرحهم أو من أنفسهم ومنها الفوران. قال ابن عباس: تغلي بهم كغلي المرجل. وقال مجاهد: تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل. ويجوز أن يكون من فور الغضب يؤيده قوله تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ يقال فلان يتميز غيظا وغضبا فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء إذا وصفوه بالإفراط فيه، ولعل السبب في هذا المجاز هو أن الغضب حالة تحصل عند غليان دم القلب، والدم عند الغليان يصير أعظم حجما ومقدارا فيمدد الأوعية حتى كادت تنشق وتنخرق، فجعل ذكر هذا اللازم كناية عن شدة الغضب، وقيل: الغيظ للزبانية احتجت المرجئة بقوله كُلَّما أُلْقِيَ الآية. على أنه لا يدخل النار إلا الكفار لأنه تعالى حكى عن كل من ألقي فيها أنه قال كذبنا النذير أجاب القاضي بأن النذير قد يطلق على ما في المقول من الأدلة المحذرة عن المعصية فيشمل الفاسق، القائلون بأن معرفة الله وشكره لا يجبان إلا بعد ورود الشرع. احتجوا بأنه تعالى ما عذبهم إلا بعد مجيء النذير. ثم حكى عن أهل النار أنهم يقولون للخزنة لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ الإنذار سماع من كان طالبا للحق أو نعقله عقل متأمل متفكر ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ وإنما جمع بين السمع والعقل لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل واحتج بالآية من فضل السمع على البصر لأنه تعالى جعل مناط الفوز السمع ولم يذكر البصر القائل بأن الدين لا يتم إلا بالتعليم. احتج بأنه قدم السمع على العقل تنبيها على أنه لا بد أولا من إرشاد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 المرشد وهداية الهادي. وأجيب بأن سبب التقديم هو أن المكلف لا بد أن يسمع قول الرسول ثم يتفكر فيه. قال في الكشاف: ومن بدع التفاسير أن المراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي، ثم قال في إبطاله كأن هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين، وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل الله وعيدهم، وكأن من كان من هؤلاء فهو من الناجين لا محالة. قلت: الإنصاف أن نزول الآية قبل المذهبين لا ينافي توبيخ أهل النار يوم القيامة أنفسهم بأنهم على تلك السيرة، وكم من قصة قد أخبر الله بوقوعها من قبل أن تقع وهو أحد أنواع إعجاز القرآن، وأيضا لا يلزم من كونهما ناجمين كون غيرهما من أهل الوعيد. وأيضا على هذا التفسير لو صح يلزم كونهما من أهل النجاة قطعا فينضم إلى المبشرين أفراد غير محصورة فضلا عن حادي عشر فيكون دعوى انحصار المبشرين في العشرة مصادرة على المطلوب. والفاء في قوله فَاعْتَرَفُوا للنتيجة أي فصح بعد البيانات السابقة أنهم اعترفوا بِذَنْبِهِمْ قال مقاتل: يعني تكذيبهم الرسل. قال الفراء: الذنب هاهنا بمعنى الجمع لأن فيه معنى الفعل كما يقال: خرج عطاء الناس أي أعطيتهم. ثم بين أن ذلك الاعتراف مما لا ينفع قائلا فيه فَسُحْقاً أي فبعدا لهم عن رحمة الله اعترفوا أو جحدوا. والتخفيف والتثقيل لغتان والمعنى أسحقهم الله سحقا. وقال أبو علي: إسحاقا إلا أن المصدر جاء على الحذف كقولهم «عمرك الله» ثم أتبعهم الوعيد الوعد قائلا إِنَّ الَّذِينَ الآية. وقد مر مرارا. ثم هدد على العموم فقال وَأَسِرُّوا وهو من التسرية وعلل ذلك بقوله إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ قال ابن عباس: كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء فيخبره جبرائيل فقالوا: أسروا قولكم لئلا يسمعه إله محمد فأنزل الله الآية بيانا لجهلهم. ثم استدل على كمال علمه بنوع آخر قائلا أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ومحل «من» رفع أي ألا يعلم من خلق مخلوقه، وذلك أن خلق الشيء يتوقف على معرفة تفاصيل كمياته وكيفياته وسائر أحواله لئلا يقع الترجيح من غير مرجح، وهذه مقدمة جلية أو نصب أي ألا يعلم الله من خلقه، وجوز أن يكون «من» بمعنى «ما» ويكون إشارة إلى ما يسره الخلق ويجهرونه ويضمرونه في صدورهم، وهذا يقتضي أن تكون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. وقد يستدل بالوجهين الأولين أيضا على ذلك لأن العبد لو كان موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بتفاصيلها بناء على الآية. ولكنه غير عالم بتفاصيلها لأنه لا يعرف مقادير حركته وسكونه وكمية الجواهر الفردة الواقعة على مسافته، بل لا يعرف الأسباب السابقة والغايات اللاحقة لا بكلها ولا بأكثرها في كل فعل من أفعاله. وأنكر في الكشاف أن يكون قوله أَلا يَعْلَمُ متروك المفعول على تقادير كون «من» مرفوع المحل نحو «فلان يعطي» قال: لأن قوله وَهُوَ اللَّطِيفُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 الْخَبِيرُ حال والشيء لا يوقت بنفسه فلا يقال: ألا يعلم وهو عالم ولكن، ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء قلت: أما قوله وَهُوَ اللَّطِيفُ حال فممنوع ولم لا يجوز أن يكون مستأنفا، وعلى تقدير تسليمه فليس معنى قوله أَلا يَعْلَمُ متروك المفعول على تقدير كون «من» مرفوع المحل حتى يلزم توقيت الشيء بنفسه، بل المعنى ألا يتصف الخالق بالعلم والحال أن علمه وصل إلى بواطن الأشياء وخبايا الأمور. وذلك أن المتصف بالأخص متصف بالأعم ضرورة. قوله هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قال أهل النظم: وجه التعلق أنه سبحانه وتعالى قال: أيها الكافرون أنا عالم بسركم وجهركم فكونوا خائفين مني محترزين من عقابي فهذه الأرض التي تمشون في مناكبها وتعتقدون أنها أبعد الأشياء عن الإضرار بكم أنا الذي ذللتها لكم وإن شئت خسفت بكم إياها، والذلول من كل شيء المنقاد الذي يذل لك، ومن ذلها أنه ما جعلها خشنة يمتنع المشي عليها، ولا صلبة بحيث لا يمكن حفرها والبناء عليها، ولا متحركة على الاستقامة واستدارة، بل جعلها ساكنة في جو الهواء عند المركز. قال جار الله: المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل لأن ملتقى المنكبين من الغارب أبعد شيء من أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه، فإذا كان هذا الموضع ذلولا فما ظنك بغيره، وعن ابن عباس والضحاك وقتادة أن مناكب الأرض جبالها وآكامها، وإذا كانت هذه الأمكنة مع شخوصها وارتفاعها مذللة فغيرها أولى. قال الحسن ومجاهد والكلبي ومقاتل، وهو رواية عطاء عن ابن عباس واختاره الفراء وابن قتيبة: أن مناكبها جوانبها وطرقها، ومنكبا الرجل جانباه فيكون كقوله وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نوح: 19، 20] وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ الذي خلق لكم في الأرض ولا يخفى أن الأمر بالمشي والأكل للإباحة. ثم قال وَإِلَيْهِ النُّشُورُ يعني ينبغي أن يكون مشيكم في الأرض وأكلكم من رزق الله مشي من يعلم وأكل من يتيقن أن المصير إلى الله، والمراد التحذير من المعاصي سرا وجهرا. ثم بين أن بقاءهم سالمين على هذه الأرض إنما هو بفضل الله ولو شاء لخسف بهم الأرض أو أمطر عليهم مطر القهر، واستدلال المشبهة بقوله مَنْ فِي السَّماءِ ظاهر. وأهل السنة يتأولونه بوجوه منها: قول أبي مسلم أن العرب كانوا يقرون بوجود الإله لكنهم يزعمون أنه في السماء فقيل لهم على حسب اعتقادهم أَأَمِنْتُمْ مَنْ تزعمون أنه فِي السَّماءِ ومنها قول جمع من المفسرين أأمنتم من في السماء ملكوته أو سلطانه أو قهره لأن العادة جارية بنزول البلاء من السماء. ومنها قول آخرين أن المراد جبرائيل يخسف بهم الأرض بأمر الله والمور حركة في اضطراب وقد مر في «الطور» . والحاصب ريح فيها حصباء وقد مر أيضا. ثم هدد وأوعد قائلا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ قال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 عطاء والضحاك عن ابن عباس: هو المنذر يعني محمدا صلى الله عليه وسلم والمعنى فستعلمون رسولي وصدقه حين لا ينفعكم ذلك. وقيل: بمعنى الإنذار أي عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول، ثم مثل بحال الأمم السابقة. قال أبو مسلم: النكير عقاب المنكر. وقال الواحدي: أراد إنكاري وتغييري. ثم برهن على الوحدانية وكمال القدرة بوجوه: الأول أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ أي باسطات أجنحتهن لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفا. قال أهل المعاني: وإنما قيل وَيَقْبِضْنَ دون «قابضات» على نحو «صافات» لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل في كل منهما مد الأطراف وبسطها، والقبض طارئ على البسط لأجل الإعانة فالمعنى أنهن صافات ويكون منهن القبض في بعض الأوقات كما يكون من السابح. وإنما قال في «النحل» ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ [الآية: 79] وفي هذه السورة ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ لأن التسخير في جو السماء محض الإلهية، وأما صافات وقابضات فكان إلهامها كيفية البسط والقبض على الوجه المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن. إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ فيعلم أو يرى كيف يدبر العجائب. قالوا وفي الآية دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى، لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري لها وقد أضافه الله تعالى إلى نفسه، ثم إن الكفار كانوا يمتنعون من الإيمان ولا يلتفتون إلى دعوة الرسول وكان تعويلهم على أمرين: أحدهما القوة من جهة الإخوان والأعوان. والثاني الاستظهار بالأصنام والأوثان وكانوا يقولون إنها توصل إلينا جميع الخيرات وتدفع عنا كل الآفات، فأبطل الله الأول بقوله أَمَّنْ هذَا الَّذِي يعني من يشار إليه من المجموع ويقال هذا الذي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ هو يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إن أرسل عذابه عليكم إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ من الشياطين يغرونهم أن العذاب لا ينزل بهم ولو أنزل دفعه أصنامهم. وأبطل الثاني بقوله أَمَّنْ هذَا الَّذِي يشار إليه هذا الذي يَرْزُقُكُمْ بزعمكم إِنْ أَمْسَكَ الله رِزْقَهُ بإمساك أسبابه من المطر وغيره هل يقدر على رزقكم بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وتباعد عن الحق وَنُفُورٍ عنه بالطبع والأول دليل فساد القوة العلمية، والثاني إشارة إلى فساد القوة النظرية. ثم نبه على قبح هذين الوصفين قائلا أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا قال الواحدي «أكب» مطاوع «كب» . وأنكر عليه صاحب الكشاف بأن مطاوع «كب» هو «انكب» ومثله «قشعت الريح السحاب فانقشع» وأما الهمزة في «أكب» و «أقشع» فللصيرورة أي صار ذا كب وقشع، أو دخل فيهما ولا شيء من بناء أفعل مطاوعا ولا يخفى أن هذا نزاع لفظي، أما المثل فقيل: هو في حق راكب التعاسيف وفي الذي يمشي على الصراط السوي وقيل: هو الأعمى والبصير أو العالم والجاهل. وعن قتادة: الكافر أكب على معاصي الله فحشره يوم القيامة على وجهه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 والمؤمن كان على الدين الواضح فهداه الله للطريق السوي إلى الجنة. ومنهم من قال: هو في شخصين فقال مقاتل: أبو جهل والنبي صلى الله عليه وسلم وقال عطاء عن ابن عباس: أبو جهل وحمزة بن عبد المطلب. وعن عكرمة: أبو جهل وعمار بن ياسر. والأصح التعميم وإن كان السبب خاصا. البرهان الثاني ابتداء خلق الإنسان وتبيين جوارحه. وفي قوله قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ إشارة إلى أنه أعطاهم هذه القوى الشريفة ولكنهم ضيعوها في غير ما خلقت لأجله. البرهان الثالث ذرء الناس ونشرهم فِي الْأَرْضِ ثم أشار إلى المعاد بقوله وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لأن القادر على البدء أقدر على الإعادة وقد مر نظير الآيتين في سورة «المؤمنين» . وحين أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخوفهم بعذاب الله حكى عن الكفار أنهم طالبوه بتعيين الوقت. قال أبو مسلم: المراد كانوا يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يعني العذاب النازل بعاد وثمود وغيرهما لقوله بعد ذلك فَلَمَّا رَأَوْهُ ومن حمل اللفظ على المستقبل وفسر الوعد بالقيامة كان قوله فَلَمَّا رَأَوْهُ من قبيل وَسِيقَ [الزمر: 72] وأجابهم الله بقوله قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ العلم بوقوعه حاصل عندي وكان كافيا الإنذار والتحذير، وأما العلم بوقته فليس إلا لله ولا حاجة في النذارة إلى ذلك. والضمير في رَأَوْهُ للوعيد في الدنيا أو في الآخرة والزلفة القرب. قال الحسن: أراد عيانا لأن ما قرب من الإنسان رآه معاينة. وقال في الكشاف: انتصابها على الحال أو الظرف أي رأوه ذا زلفة أو مكانا ذا زلفة. قوله سِيئَتْ قال ابن عباس: اسودت وعلتها الكآبة والقترة كوجه من يقاد إلى القتل. وقال الزجاج: تبين فيها السوء وهذا الفعل يستعمل لازما ومتعديا بمعنى القبح أو التقبيح. قوله وَقِيلَ هذَا الَّذِي الأكثرون على أن القائلين هم الزبانية. وقال آخرون: بل يقول بعضهم لبعض. وتَدَّعُونَ تفعلون من الدعاء أي تتمنون وتستعجلون به ويؤيده قراءة من قرأ بالتخفيف. وقيل: هو من الدعوى أي كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون وكنتم ببطلانه مدعين. وقيل: استفهام على سبيل الإنكار والمعنى، أهذا ما ادعيتموه لا بل كنتم بسببه تدعون عدمه. يروى أن كفار مكة كانوا يدعون على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين. بالهلاك ويتربصون بهم الدوائر فأمر الله بنوعين من الجواب الأول. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ كما تتمنون فننقلب إلى الجنة أَوْ رَحِمَنا بالنصرة وإمهال المدة كما نرجو فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ النار فنحن متربصون لإحدى الحسنيين وأنتم هالكون بالهلاك الذي لا هلاك بعده، وإن أهلكنا الله بالموت فمن يخلصكم من النار بعد موت هداتكم؟ وإن رحمنا بالإمهال والغلبة عليكم فمن ينجيكم من العذاب فإن المقتول على أيدينا هالك؟ وإن أهلكنا الله في الآخرة بذنوبنا ونحن له مسلمون فأي خلاص ومناص للكافرين؟ وإن رحمنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 لأجل الإيمان فمن يرحم الكافرين ولا إيمان لهم؟ النوع الثاني في الجواب قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ ولم نكفر كما كفرتم وَعَلَيْهِ خاصة تَوَكَّلْنا لا على غيره، وفيه تعريض بالكفرة أنهم متكلون على الرجال والأموال وإذا كانت حالنا هكذا فكيف يقبل الله دعاءكم علينا؟ ثم أشار إلى وجوب الاعتماد عليه في كل حاجة مع أنه برهان آخر على كمال قدرته ووحدانيته فقال قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا مصدر بمعنى الفاعل للمبالغة. عن الكلبي: لا تناله الدلاء. والمعين الجاري على وجه الأرض وقد ذكرنا الخلاف في اشتقاقه في «الصافات» . يحكى أن بعض المتجبرين على الله قرئت الآية عنده فقال: تأتينا به الفؤس والمكتل فذهب ماء عينيه وهذا من الإعجاز. قال مؤلف الكتاب: وحكم القريحة كذلك فإن فتح باب العويصات لا يتيسر إلا بإعانة رب الأرض والسموات والله الموفق وإليه المآب وبالله التوفيق والنصر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 (سورة نون) (مكية حروفها ألف وأربعمائة وستة وخمسون كلمها ثلاثمائة آياتها اثنتان وخمسون) [سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 52] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 القراآت: ن وَالْقَلَمِ مظهرا: يزيد وأبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وابن كثير ونافع وعاصم غير يحيى وحماد وغالب وهو الأصل للوقف. ووجه الإخفاء نية الوصل أإن كان بهمزتين: حمزة وأبو بكر وحماد آن كان بقلب الثانية ألفا، ابن عامر ويزيد ويعقوب الباقون بهمزة واحدة يبدلنا بالتشديد: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو لَما تَخَيَّرُونَ بتشديد التاء: البزي وابن فليح ليزلقونك بفتح الياء: أبو جعفر ونافع الآخرون: بالضم من الإزلاق. الوقوف: يَسْطُرُونَ هـ ط لأن ما بعده جواب القسم ل بِمَجْنُونٍ هـ ج لأن ما بعده يصلح مستأنفا وعطفا على جواب القسم مَمْنُونٍ هـ ج لذلك عَظِيمٍ هـ وَيُبْصِرُونَ ج لأن ما بعده مفعول الْمَفْتُونُ هـ سَبِيلِهِ ط لاتفاق الجملتين بِالْمُهْتَدِينَ هـ الْمُكَذِّبِينَ هـ فَيُدْهِنُونَ هـ مَهِينٍ هـ لا بِنَمِيمٍ هـ لا أَثِيمٍ هـ لا زَنِيمٍ هـ ط لمن قرأ أَنْ كانَ مستفهما وَبَنِينَ هـ ومن قرأ مقصورا يقف على البنين دون زَنِيمٍ الْأَوَّلِينَ هـ الْخُرْطُومِ هـ الْجَنَّةِ ط لاحتمال أن يكون «إذ» ظرفا ليكون وأن يكون مفعول «أذكر» محذوفا مُصْبِحِينَ هـ لا لتعلق أن المفسرة صارِمِينَ هـ يَتَخافَتُونَ هـ لا مِسْكِينٌ هـ قادِرِينَ هـ لَضَالُّونَ هـ لا لعطف «بل» واتحاد المفعول مَحْرُومُونَ هـ تُسَبِّحُونَ هـ ظالِمِينَ هـ يَتَلاوَمُونَ هـ طاغِينَ هـ راغِبُونَ هـ الْعَذابُ ط أَكْبَرُ م يَعْلَمُونَ هـ النَّعِيمِ هـ كَالْمُجْرِمِينَ هـ ط ما لَكُمْ ص وقفة لطيفة لاستفهام آخر تَحْكُمُونَ هـ ج تَدْرُسُونَ هـ ج لأن ما بعده مفعول تَدْرُسُونَ وإنما كسرت «أن» لدخول اللام في خبرها تَخَيَّرُونَ هـ لا لأن «أم» معادل الاستفهام أو بمعنى ألف الاستفهام الْقِيامَةِ لا لأن «أن» جواب الأيمان تَحْكُمُونَ هـ زَعِيمٌ هـ لما مر في تَخَيَّرُونَ شُرَكاءُ ج للابتداء بأمر التعجيز مع الفاء صادِقِينَ هـ فَلا يَسْتَطِيعُونَ هـ لا لأن ما بعده حال ذِلَّةٌ ط سالِمُونَ هـ بِهذَا الْحَدِيثِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ ج للعطف لَهُمْ ط مَتِينٌ هـ مُثْقَلُونَ هـ يَكْتُبُونَ هـ الْحُوتِ م بناء على أن «إذ» مفعول «اذكر» مَكْظُومٌ هـ ط مَذْمُومٌ هـ الصَّالِحِينَ هـ لَمَجْنُونٌ هـ لئلا يوهم أن ما بعده مقول الكفار لِلْعالَمِينَ هـ التفسير: الأقوال المشتركة في فواتح نحو هذه السورة مذكورة. أما المخصوصة بالمقام فعن ابن عباس ومجاهد ومقاتل والسدى أن النون السمكة أقسم بالحوت الذي على ظهره الأرض وهو في بحر تحت الأرض السفلى، أو بالحوت الذي احتبس يونس في بطنه، أو بالحوت الذي لطخ سهم نمرود بدمه، أقوال. عن ابن عباس في رواية الضحاك والحسن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 وقتادة أن النون هو الدواة. قال: إذا ما الشوق برّح بي إليهم ... ألقت النون بالدمع السجوم فيكون قسما بالدواة والقلم العظيم النفع فيهما فإن التفاهم يحصل بالكتابة كما يحصل بالعبارة. وعن بعض الثقات أن أصحاب السحر يستخرجون من بعض الحيتان شيئا أسود كالنقس أو أشد سوادا منه يكتبون منه فيكون النون. وهو الحوت عبارة عن الدواة، ويعضده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أول شيء خلقه الله القلم ثم خلق النون وهو الدواة ثم قال اكتب ما هو كائن من عمل أو أثر أو رزق أو أجل فكتب ما هو كائن وما كان إلى يوم القيامة ثم ختم على القلم فلم ينطق إلى يوم القيامة» وعن معاوية بن قرة مرفوعا أن النون لوح من نور تكتب الملائكة فيه ما يأمرهم الله به. وقيل: نهر في الجنة. اعترض النحويون على هذه الأقوال كلها أن اللفظ إن كان جنسا لزم الجر والتنوين وكذا إن كان علما منصرفا، وإن كان علما غير منصرف لزم الفتح بتقدير حرف القسم، وقيل: النون آخر حرف من حروف الرحمن فإنه يجتمع من الر وحم ون هذا الاسم الخاص. أما القلم فالأكثرون على أنه جنس أقسم الله سبحانه بكل قلم يكتب به في السماء وفي الأرض وقال آخرون: هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر أن «أول ما خلق الله القلم» «1» والجوهرة التي وردت في الحديث «أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وتسخنت فارتفع منها دخان وزبد فخلق من الدخان السماء ومن الزبد الأرض» كلها واحدة ولعلك قد وقفت على تحقيق هذه المعاني في هذا الكتاب. و «ما» في قوله وَما يَسْطُرُونَ موصولة أو مصدرية والضمير لكل من يسطر أو للحفظة. وقيل: أراد أصحاب القلم فحذف المضاف قال الزجاج: «أنت» اسم «ما» والخبر بِمَجْنُونٍ وقوله بِنِعْمَةِ رَبِّكَ كلام وقع في البين والمعنى انتفى عنك الجنون بواسطة إنعام ربك عليك، أو انتفى عنك الجنون متلبسا بنعمة الله كما لو قلت: أنت عاقل بحمد الله أي ثبت لك العقل حال كونك متلبسا بحمد الله، أو أثبته لك حال كون التباسي بالحمد. وقال عطاء وابن عباس: يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة وسائر الأخلاق الفاضلة. وفيه إشارة إلى أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة وكمال العقل والاتصاف بكل ملكة وإذا كانت هذه النعمة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون وكلام العدى ضرب من الهذيان. وَإِنَّ لَكَ على احتمال أعباء النبوة ومشاق تبليغ الرسالة لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ   (1) رواه أبو داود في كتاب السنّة باب 16. الترمذي في كتاب القدر باب 17. أحمد في مسنده (5/ 317) . [ ..... ] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 قال الأكثرون: أي غير مقطوع كقوله عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108] وعن مجاهد ومقاتل والكلبي أنه غير مكدر عليك بسبب المنة. وقالت المعتزلة: في تقرير هذا الوجه أن له ممنا لأنه ثواب يستوجبه على عمله وليس بتفضل ابتداء، وضعف لأنه يلزم منه التكرار لأن الأجر عندهم شيء ينبئ عن كونه غير ممنون. والحاصل أنه لا يمنعك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا الخطب الجسيم وهو دعاء الخلق إلى الدين القويم فإن لك بسببه ثوابا عظيما. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ والخلق ملكة نفسانية يقدر معها على الإتيان بالفعل الجميل بمواتاة وسهولة، فإذا وصفه مع ذلك بالعظم وهو كونه على الوجه الأجمل والنهج الأفضل لم يكن خلق أحسن منه. وفيه إشارة إلى أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة نفي الجنون عنه ودلالة على تكذيب الحساد لأن المجنون لا خلق له يحمد أو عليه يعتمد، والنبي صلى الله عليه وسلم كان من حسن الخلق المتشابه بحيث كان مجمع أخلاق سائر الأنبياء وكان يوجد فيه ما كان متفرقا فيهم، وإليه الإشارة بقوله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] أي اقتد بكل منهم فيما اختص به من الخلق الكريم وفي قوله لَعَلى إشارة إلى أنه مستول على أحسن الأخلاق الفاضلة لا يزعه عنها وازع. قال سعيد بن هشام: قلت لعائشة: أخبريني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: كان خلقه القرآن. وفي رواية: قرأت قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1] وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك، وقال أنس: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي في شيء فعلته لم فعلته ولا في شيء لم أفعله هلا فعلت، ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم وهدد أعداءه بقوله فَسَتُبْصِرُ يا محمد ما قدر لك من عز الدارين وَيُبْصِرُونَ في الدنيا بالقتل والسبي كما في بدر أو في الآخرة. قوله بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ قال الأخفش وأبو عبيدة وابن قتيبة: الباء صلة والمعنى أيكم المفتون وهو الذي فتن بالجنون. وقال الفراء والمبرد والحسن والضحاك عن ابن عباس: المفتون مصدر بمعنى المجنون كالمعقول والمجلود. وقيل: الباء بمعنى «في» وعلى هذا يجوز أن يكون الفتون بمعنى المجنون أي في أي الفريقين من يستحق هذا الاسم أو في أيهما الشيطان لأن الشيطان مفتون في دينه. وكانت العرب تزعم أنه من يخبله الجن فقال الله تعالى سيعلمون غدا بأيهم الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل، وفيه تعريض بأبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأضرابهما. ثم أحال كيفية الحال إلى كمال علمه فقال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أي بمن جن وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وهم لعقلاء. والأظهر أن يراد الضلال في غوائلهم والاهتداء في الدين وفيه وعد ووعيد. قال المفسرون: إن المشركين أرادوا من النبي أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة وهم يعبدون الله مدة وآلهتهم مدة فأنزل الله تعالى فَلا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وهو كالنتيجة لما تقدمه لأنه سبحانه حين وعده أنصار العز والرفعة في الدارين وأوعد أعداءه بضد ذلك وكان علمه شاملا بحال الفريقين وجزائهما لم يبق لطاعة الأعداء وجه. ثم ذكر تمنيهم فقال وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ تلين وتصانع فَيُدْهِنُونَ أي فهم يدهنون حينئذ لأن النفاق يجر النفاق أي ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون طمعا في ادهانك. قال المبرد: أدهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر. ثم حض النبي قائلا وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ لأن من أكثر الحلف بالله ولم يعرف قدر المعبود بالحق أذله الله. وفيه إشارة إلى أن عزة النفس منوطة بتصحيح نسبة العبودية، ومهانة النفس مربوطة بالغفلة عن سر الربوبية. وأيضا الحلاف يتفق له الكذب كثيرا والكذب حقير عند الناس. والهماز الذي يذكر الناس بالمكروه. وعن الحسن: يلوي شدقيه في أقفية الناس. مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أي لأجل سعاية. والنميم مصدر نم ينم مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي للمال أو مناع أهل الخير وهو الإسلام فذكر الممنوع منه دون الممنوع فكأنه قال مناع من الخير مُعْتَدٍ مجاوز في الظلم حده أَثِيمٍ كثير الإثم عُتُلٍّ غليظ في الخلقة جاف في الخليقة. الزنيم الدعي ومعنى بَعْدَ ذلِكَ التبعيد في الرتبة أي مع الأوصاف المعدودة له هذا الوصف الذي هو أشنعها لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث جميع أخلاق الولد. عن ابن عباس في رواية أنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي كان موسرا وله عشر بنين يقول لهم: من أسلم منكم منعته رفدي وفي رواية أخرى ليس من سنخهم ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده ويقال: بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية. وقوله أَنْ كانَ بهمزة واحدة تقديره لأن كان أي لا تطع صاحب هذه المثالب لكثرة ماله وولده ومن قرأ بهمزتين فمعناه ألأن كان ذا مالٍ كذب فمتعلق الجار مدلول. قوله إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ وذلك أن قال لا يصلح أن يعمل فيه لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ولا قوله يتلى لأنه مضاف إليه. عن مجاهد أنه الأسود بن عبد يغوث وعن السدى: الأخنس بن شريق أصله في ثقيف وعداده في زهرة. وقيل: كان الوليد دعيا في قريش سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أي الأنف وفيه استخفاف به من جهة الوسم ومن جهة التعبير عن أنف الآدمي بالخرطوم الذي هو أنف الحيوانات المنكرة كالخنزير والفيل كما لو عبر عن شفاه الناس بالمشافر، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر، ثم الأنف أكرم موضع من الوجه ولهذا قيل: الجمال في الأنف وله التقدم ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأنفة وقالوا: في الذليل «جدع أنفه ورغم أنفه» . والوسم في الأنف إهانة فوق إهانة. ومتى هذا الوسم؟ منهم من قال في الدنيا فعن ابن عباس خطم يوم بدر بالسيف فبقيت سمته على خرطومه. وعن النضر بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 شميل: الخرطوم الخمر أي سنسمه على شربها. وسمي الخمر خرطوما كما قيل لها السلافة وهو ما سلف عن عصير العنب، أو لأنها تطير في الخياشيم وتؤثر فيها. ومنهم من قال في الآخرة نعلمه فعبر عن سواد الوجه كله بسواد الخرطوم. ومنهم من قال في الدارين أي سنشهره بهذه السمة وهي أنّه حَلَّافٍ إلى زَنِيمٍ فلا يخفى كما لا تخفى السمة على الخرطوم. ولا شك أن هذه الأوصاف الذميمة وتبعاتها بقيت في حق الوليد بن المغيرة في الدنيا والآخرة كالوسم على الأنف والوسم على الجبهة. ثم بين أنه إنما أعطى رؤساء مكة الآلاء ليواظبوا على شكر نعم الله وإلا صب عليهم بدل الآلاء البلاء ومكان السراء الضراء. وهذه صورة الابتلاء كما أنه كلف أصحاب الجنة ذات الثمار أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم، يروى أن واحدا من ثقيف وكان مسلما كان ملك ضيعة فيها نخل وزروع بقرب صنعاء، وكان يجعل منها نصيبا وافرا للفقراء، فلما مات ورثها منه بنوه ثم قالوا: عيالنا كثير والمال قليل فلو فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا لَيَصْرِمُنَّها أي ليقطعن ثمر نخيلها في وقت الصباح وَلا يَسْتَثْنُونَ أي لا يقولون «إن شاء الله» وأصله من الثني وهو الرد كأن الحالف يرد انعقاد اليمين بالثنيا. ولعلهم إنما لم يقولوا إن شاء الله لوثوقهم بالتمكن من صرامها. هذا قول الأكثرين. وزعم الآخرون أن المراد يصرمون كل ذلك ولا يستثنون للمساكين من جملته ذلك القدر الذي كان يدفع أبوهم إليهم فَطافَ عَلَيْها عذاب طائِفٌ مِنْ حكم رَبِّكَ أو بعض من عذاب ربك، والطائف لا يكون إلا ليلا. قال الكلبي: أرسل الله عليها نارا من السماء فاحترقت وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ الجنة كَالصَّرِيمِ «فعيل» بمعنى «فاعل» أو معنى «مفعول» والأول قول من قال إنها لما احترقت صارت سوداء كالليل المظلم، أو سمي الليل صريما لأنه يصرم نور البصر فيقطعه أو لأنه يقطع بظلمته عن التصرف، وقيل: النهار يسمى أيضا صريما لأن كل واحد من الملوين ينصرم بالآخر فالصريم بمعنى الصارم. ووجه التشبيه أنها يبست وذهبت خضرتها أو لم يبق منها شيء من قولهم «صرم الإناء» إذا أفرغه. والثاني وهو الأولى قول من قال إنها لما احترقت كانت شبيهة بالمصرومة في هلاك الثمرة وإن كان أثر الاحتراق مغايرا لأثر الصرم. وقال الحسن: أي صرم عنها الخير: وقيل: الصريم من الرمل قطعة ضخمة تنصرم عن سائر الرمال وجمعه الصرائم شبهت الجنة وهي محترقة لا ثمر فيها ولا خير بالرملة المنقطعة عن الرمال وهي ما لا تنبت شيئا ينتفع به. قال مقاتل: لما أصبحوا قال بعضهم لبعض اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ وعنوا بالحرث الزرع والثمار والأعناب ولذلك قالوا صارِمِينَ لأنهم أرادوا قطع الثمار من هذه الأشجار وضمن الغدو معنى الإقبال فلهذا عدي بعلى أي أقبلوا على حرثكم باكرين، أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 عبر عن الغدو لأجل الصرم بالغدو عليه كما يقال: غدا عليهم العدو يَتَخافَتُونَ يتسارون فيما بينهم والنهي عن الدخول للمسكين نهي لأصحاب الجنة عن تمكين المسكين منه كأنهم قالوا فيما بينهم لا تمكنوه من الدخول. قوله وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ هو المنع ومنه حاردت السنة إذا منعت خيرها، وحاردت الإبل إذا منعت درها، أي قادرين على منع المساكين لا غير يعني أنهم عزموا على حرمان المساكين مع كونهم قادرين على نفعهم. وغدوا بحال فقر وذهاب ثمر لا يقدرون فيها إلا على النكد والمنع. وفيه أنهم طلبوا حرمان الفقراء فعورضوا بنقيض مقصودهم فتعجلوا الحرمان والمسكنة. ويجوز أن تكون المحاردة للجنة أي غدوا حاصلين على منع الجنة خيرها لا على إصابة النفع منها. ويجوز أن لا يكون قوله عَلى حَرْدٍ صلة قادِرِينَ ولكن الكل يعود إلى قوله أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ أي عاقبهم الله بأن حاردت جنتهم فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد وقوله قادِرِينَ يكون من باب عكس الكلام للتهكم أي قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين. وقيل: الحرد بالتسكين والتحريك وهو الأكثر بمعنى الغضب أي لم يقدروا إلا على غضب بعضهم على بعض كقوله يَتَلاوَمُونَ وقيل: الحرد القصد والسرعة قطا حراد أي سراع يعني وغدوا على حالة سرعة ونشاط قادرين عند أنفسهم على صرامها ومنع خيرها من المساكين. وقيل: حرد علم للجنة بعينها والمعنى كما تقدم لأن قوله إِنَّا لَضَالُّونَ يحتمل أن يراد الضلال عن الطريق كأنهم لما رأوا جنتهم محترقة سبق إلى ذهنهم أنها ليست هي وأنهم ضلوا الطريق، فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ حرمنا خيرها لشؤم عزمنا على البخل ومنع المساكين. ويحتمل أن يراد الضلال عن الدين لأن منع حق الله نوع من الضلال. ومعنى بل أنهم اعتقدوا كونهم قادرين على الانتفاع بها ومنع الغير منها فقالوا: بل الأمر انقلب علينا فصرنا نحن المحرومين. قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أعدلهم وخيرهم كما مر في قوله وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ قال الأكثرون: معنى التسبيح هاهنا الاستثناء لأنه تعالى وبخهم بقوله وَلا يَسْتَثْنُونَ والاستثناء نوع من التنزيه لأنه لو دخل في الوجود شيء على خلاف مشيئته كان نقصا في كمال القدرة. وعن الحسن: هو الصلاة كأنهم يتكاسلون فيها وإلا لنهتهم عن الفحشاء والمنكر. وقال آخرون: إن أوسطهم كان يقول لهم عند عزمهم على منع حقوق الفقراء: لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من هذه العزيمة الخبيثة. فلم يلتفتوا إلى قوله إلا بعد خراب الجنة قائلين سُبْحانَ رَبِّنا عن أن يجري في ملكه شيء على خلاف مشيئته. قالت المعتزلة: سبحان الله عن الظلم وعن كل قبيح إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ بمنع المعروف وترك الاستثناء. ومعنى يَتَلاوَمُونَ يلوم بعضهم بعضا يقول واحد لغيره: أنت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 أشرت علينا بهذا الرأي ويقول الآخر: أنت خوفتنا بالفقر. ويقول الثالث: أنت الذي رغبتني في جمع المال. ثم قالوا جميعا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ اعترافا بالذنب ثم قووا رجاءهم قائلين عَسى رَبُّنا الآية. سئل قتادة عنهم أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعبا كأنه توقف في المسألة. وعن مجاهد: إن هذه كانت توبة منهم فأبدلوا خيرا منها. وعن ابن مسعود: بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا. ثم هدد المكلفين بقوله كَذلِكَ الْعَذابُ أي مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة من القحط والقتل وبلونا أصحاب الجنة عذاب الدنيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أشد وأعظم. ثم مزج وعيد الأشقياء بوعد السعداء قائلا إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ليس فيها إلا النعيم الخالص لا يشوبه منغص كجنان الدنيا. قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين: إن الله فضلنا عليكم في الدنيا فلا بد أن يفضلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل فلا أقل من المساواة فنفى الله معتقدهم بقوله أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ قال القاضي: فيه دليل واضح على أن وصفي المسلم والمجرم متنافيان فلا يكون الفاسق مسلما. وأجيب بأنه تعالى لم ينف المماثلة من كل الوجوه لتماثلهما في الجوهرية والجسمية وسائر الأوصاف التي لا تكاد تحصر، فإذن المراد نفي التسوية في أثري الإسلام والإجرام ولا نزاع في ذلك فإن أثر أحدهما وعد وأثر الآخر وعيد أو يكون ثواب المسلم غير المجرم أكثر من ثواب المسلم المجرم على أن المجرم في الآية يحتمل أن يراد به الكافر الذي ضرب مثل أصحاب الجنة فيه وفي أمثاله نظير الآية أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] وقد مر في «ص» . ثم قال لهم على طريقة الالتفات ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم المعوج وتخير الشيء واختاره إذا أخذ خيره أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا يقال لفلان علي يمين بكذا إذا ضمنته منه وحلفت له على الوفاء به. ومعنى بالِغَةٌ مؤكدة مغلظة وقوله إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يجوز أن يتعلق ببالغة أي هذه الإيمان في قوتها وكمالها بحيث تنتهي إلى يوم القيامة لم تبطل منها يمين على أن يحصل المقسم عليه وهو قوله إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم أو لكل من يستأهل الخطاب سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ الحكم زَعِيمٌ أي كفيل بالاستدلال على صحته أَمْ لَهُمْ ناس شُرَكاءُ في هذا القول. والمراد من الآيات أنه ليس لهم دليل عقلي في إثبات مذهبهم ولا نقلي وهو كتاب يدرسون ولا عهد لهم به عند الله ولا زعيم لهم يقوم به ولا لهم من يوافقهم من العقلاء، فدل ذلك على أنه باطل من كل الوجوه. قوله يَوْمَ يُكْشَفُ قيل: منصوب بقوله فَلْيَأْتُوا أي إن كانوا صادقين في أنها شركاء فليأتوا بها يوم القيامة لتنفعهم وتشفع لهم. وقيل: بإضمار «اذكر» . وقيل: التقدير يوم يكشف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 عَنْ ساقٍ كان كيت وكيت. احتجت المشبهة على أن لله ساقا وأيدوه بما يروى عن ابن مسعود مرفوعا أنه يتمثل الحق يوم القيامة ثم يقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: إذا عرفنا نفسه عرفناه فعند ذلك يكشف الرحمن عن ساقه، فأما المؤمنون فيخرون سجدا، وأما المنافقون فتكون ظهورهم كالطبق الواحد وذلك قوله وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ حال كونهم خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ يعني يلحقهم ذل بسبب أنهم لم يكونوا مواظبين على خدمة مولاهم في حال السلامة ووجود الأصلاب والمفاصل على هيآتها المؤدية للركوع والسجود. وقال أهل السنة: الدليل الدال على أنه تعالى منزه عن الجسمية وعن كل صفات الحدوث وسمات الإمكان دل على أن الساق لم يرد بها الجارحة، فأولوه أنه عبارة عن شدة الأمر وعظم الخطب، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن ومثله. «وقامت الحرب بنا على ساق» . ومعناه يوم يشتد الأمر ويتفاقم ولا كشف ثمة ولا ساق كما تقول للأقطع الشحيح «يده مغلولة» ولا يد ثمة ولا غل وإنما هو مثل في البخل، وهكذا في الحديث ومعناه يشتد أمر الرحمن ويتفاقم هوله. قال في الكشاف: ثم كان من حق الساق أن تعرف على ما ذهب إليه المشبه لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن. وإنما جاءت منكرة في التمثيل للدلالة على أنه أمر فظيع هائل: قلت: الإنصاف أن هذا لا يرد على المشبه فإن له أن يقول إنما نكر الساق لأجل التعظيم أي ساق لا يكتنه كنه عظمتها كما يقول غيره. وقال أبو سعيد الضرير: ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان، فمعنى الآية يوم تظهر حقائق الأشياء وأصولها. وقيل: يكشف عن ساق جهنم أو عن ساق العرش أو عن ساق ملك مهيب. وقال أبو مسلم: هذا في الدنيا لأنه تعالى قال في وصف ذلك اليوم وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ولا ريب أن يوم القيامة ليس فيه تعبد وتكليف فهو زمان العجز، أو آخر أيام دنياه فإنه في وقت النزع ترى الناس يدعون إلى الصلاة بالجماعة إذا حضرت أوقاتها وهؤلاء لا يستطيعون الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع نفسا إيمانها. والتحقيق أن الذي ذكره محتمل إلا أن في تعليله ضعفا فإنا نوافقه أن يوم القيامة ليس وقت تعبد وتكليف. ولكن لا مانع من الدعاء إلى السجود للتوبيخ والتفضيح على رؤس الأشهاد. وقال الجبائي: لما خصص عدم الاستطاعة بالآخرة دل على أنهم كانوا يستطيعون فيبطل هذا قول من قال لا قدرة له على الإيمان، والجمع بين المتنافيين محال فالاستطاعة في الدنيا أيضا غير حاصلة على قول الجبائي. والجواب الصحيح عندي أن عدم الاستطاعة في الدنيا لمانع آخر وهو أنه تعالى لم يرد منهم الإيمان وعلم منهم الكفر وقدر لهم ذلك، وعدم الاستطاعة في الآخرة لمانع آخر له من السجود وهو لين المفاصل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 ومطاوعة الأعصاب وسلامة الفقر. ثم خوفهم بنوع آخر قائلا فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كأنه قال: حسبي مجازيا لمن يكذب بالقرآن فلا تشغل قلبك بشأنه. وقوله سَنَسْتَدْرِجُهُمْ إلى قوله مَتِينٌ قد مر في آخر «الأعراف» . وقوله أَمْ تَسْأَلُهُمْ إلى يَكْتُبُونَ قد مر في «الطور» . ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر ونهاه عن الضجر في أمر التبليغ كحال يونس عليه السلام وقد تقدم مرارا. قال بعض العلماء: معنى قوله كَصاحِبِ الْحُوتِ أنه كان في ذلك الوقت مكظوما أي مملوءا من الغيظ فكأنه قيل: لا تكن مكظوما أولا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة. وقال جمع من المفسرين: أن الآية نزلت بأحد حين حل بالمؤمنين ما حل فأراد أن يدعو على من انهزم. وقيل: نزلت حين أراد أن يدعو على ثقيف والنعمة التي تداركت يونس أي التحقت به وسدت خلته هي النبوة أو عبادته السابقة، أو قوله في بطن الحوت «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» ، وهذه النعمة التوبة بالحقيقة. وقد اعتمد في جواب لولا على الحال أعني قوله وَهُوَ مَذْمُومٌ والمعنى أن حاله كانت على خلاف الصبر حين نبذ بالعراء أي الفضاء كما مر في «الصافات» . ولولا تسبيحه لكانت حاله على الذم. وقيل: أراد لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، ثم نبذ بعراء القيامة أي بعرصتها مذموما فَاجْتَباهُ رَبُّهُ بقبول التوبة فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي من الأنبياء عن ابن عباس: رد الله إليه الوحي وشفعه في نفسه وقومه. ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم عن حسد قومه وحرصهم على إيقاع المكروه به بعد أن صبره وشجعه فقال وَإِنْ يَكادُ هي مخففة من الثقيلة واللام دليل عليها. زلقه وأزلقه بمعنى. يقال زلق الرأس وأزلقه أي حلقه. قال جار الله: يعني أنهم من شدة تخوفهم ونظرهم إليك سرا بعيون العداوة والبغضاء يكادون يزلون قدمك أو يهلكونك من قولهم «نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني أو يكاد يأكلني» أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله. ثم بين بقوله لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ أن هذا النظر كان يشتد منهم في حال قراءة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن حسدا على ما أوتي من النبوة. وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ حيرة في أمره وتنفيرا عنه مع علمهم بأنه أعقلهم. ثم قال تعالى وَما هُوَ أي القرآن إِلَّا ذِكْرٌ وموعظة لِلْعالَمِينَ وفيه استجهال أن يجنن من جاء بمثله من الآداب والحكم وأصول كل العلوم والمعارف. واعلم أن للعقلاء خلافا في أن الإصابة بالعين هل لها في الجملة حقيقة أم لا؟ وبتقدير كونها حقيقة فهل الآية مفسرة بها أم لا؟ أما المقام الأول فقد شرحناه في أول «البقرة» في قوله وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ [الآية: 102] وفى يوسف في قوله يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ [الآية: 67] والذي نقوله هاهنا: فمنهم من أنكر ذلك بناء على أن تأثير الجسم في الجسم لا يعقل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 إلا بواسطة المماسة وهو ضعيف لأن النفوس والأمزجة لها تأثيرات خاصة. ويروى أنه صلى الله عليه وسلم قال «العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر» وأما المقام الثاني فقد قال بعض المفسرين: كانت العين في بني أسد، وكان الرجل منهم يتجوع ويرتاض وثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول فيه: لم أر كاليوم مثله إلا عانه. فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لم أر كاليوم رجالا مثله. فعصمه الله تعالى. طعن الجبائي في هذا التأويل وقال: الإصابة بالعين مقرونة باستحسان الشيء، والقوم كانوا يبغضون النبي صلى الله عليه وسلم وأجيب بأنهم كانوا يبغضونه من حيث الدين إلا أنهم كانوا يستحسنون مصاحبته بإيراده الأعاجيب من الحجج والبيان وأنواع المعجزات. وعن الحسن: دواء الإصابة بالعين أن يقرأ هذه الآية وبالله التوفيق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 (سورة الحاقة) (مكية حروفها ألف وستة وخمسون آياتها اثنتان وخمسون وكلمها أربعمائة وثمانون) [سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 52] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) القراآت وَما أَدْراكَ بالإمالة حيث كان: حمزة وخلف والخراز عن هبيرة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 وأبو عمرو والنجاري عن ورش، وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان فَهَلْ تَرى كما في الملك ومن قبله بكسر القاف وفتح الباء: أبو عمرو وسهل ويعقوب الآخرون: بفتح القاف وسكون الباء وتعيها بسكون العين تشبيها بخاء «فخذ» : القواس عن حمزة عن خلف وخلف لنفسه والهاشمي عن قنبل والخزاعي عن ابن فليح وأبو ربيعة عن أصحابه فَهِيَ يَوْمَئِذٍ بالإدغام: شجاع وأبو شعيب لا يخفى على التذكير: حمزة وعلي وخلف كتابي وحسابي بغير هاء السكت في الوصل: سهل ويعقوب ما لي وسلطاني بدون الهاء في الوصل: حمزة وسهل ويعقوب يؤمنون ويذكرون على الغيبة: ابن كثير وسهل ويعقوب وابن عامر. الوقوف: الْحَاقَّةُ هـ لا لأن ما بعده خبرها مَا الْحَاقَّةُ هـ لا لاحتمال الواو بعده الحال والاستئناف الْحَاقَّةُ هـ م بِالْقارِعَةِ هـ بِالطَّاغِيَةِ هـ ط عاتِيَةٍ ط أَيَّامٍ لا لأن حُسُوماً صفة الثمانية صَرْعى لا لأن ما بعده صفة خاوِيَةٍ هـ ج للاستفهام مع الفاء باقِيَةٍ ط بِالْخاطِئَةِ هـ رابِيَةً هـ الْجارِيَةِ هـ ج واعِيَةٌ هـ واحِدَةٌ هـ لا واحِدَةً هـ ط الْواقِعَةُ هـ لا للعطف واهِيَةٌ هـ لا لذلك رجاءها ط لاختلاف النظم ثَمانِيَةٌ ط خافِيَةٌ هـ كِتابِيَهْ هـ ج حِسابِيَهْ هـ ج راضِيَةٍ هـ لا عالِيَةٍ هـ لا دانِيَةٌ هـ الْخالِيَةِ هـ كِتابِيَهْ هـ ج حِسابِيَهْ هـ ج الْقاضِيَةَ هـ ج مالِيَهْ هـ كلها جائزات وتفصيلا بين الندامات مع اتحاد المقولات سُلْطانِيَهْ هـ فَغُلُّوهُ ط للعطف صَلُّوهُ هـ لا لذلك فَاسْلُكُوهُ هـ ط الْعَظِيمِ هـ لا الْمِسْكِينِ هـ ط حَمِيمٌ هـ غِسْلِينٍ هـ لا الْخاطِؤُنَ هـ تُبْصِرُونَ هـ لا وَما لا تُبْصِرُونَ هـ لا كَرِيمٍ هـ لا شاعِرٍ ط تُؤْمِنُونَ هـ كاهِنٍ ط تَذَكَّرُونَ هـ أي هو تنزيل الْعالَمِينَ هـ بِالْيَمِينِ هـ لا الْوَتِينَ هـ والوصل أجوز لدخول الفاء واتحاد الكلام حاجِزِينَ هـ لِلْمُتَّقِينَ هـ مُكَذِّبِينَ هـ لا الْكافِرِينَ هـ الْيَقِينِ هـ الْعَظِيمِ هـ التفسير: الْحَاقَّةُ وهي القيامة بالاتفاق إلا أنهم اختلفوا في سبب التسمية فقال أبو مسلم: هي الفاعلة من حقت كلمة ربك أي الساعة واجبة الوقوع لا ريب في مجيئها، وقريب منه قول الليث أنها النازلة التي حقت فلا كاذبة لها. وقيل: إنها التي تحق فيها الأمور أي تعرف على الحقيقة من قولك لا أحق هذا أي لا أعرف حقيقته، جعل الفعل لها وهو لأهلها. وقيل: هي التي يوجد فيها حواق الأمور وهي الواجبة الحصول من الثواب والعقاب وغيرهما من أحوال القيامة. وهذا الوجه والذي تقدمه يشتركان في الإسناد المجازي إلا أن الفاعل في الأول بمعنى المفعول والثاني على أصله، وقريب منه قول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 الزجاج أنها تحق أي يكون فيها جميع آثار أعمال المكلفين ويخرج عن حد الانتظار. قال الأزهري: سميت بذلك لأنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل أي تخاصم كل مخاصم وتغلبه. وأورد في التفسير الكبير وجوها أخر إلى تمام العشرة فهي في التحقيق مكررة فلذلك حذفناها. قوله مَا الْحَاقَّةُ مبتدأ وخبره والمجموع خبر الحاقة. والأصل ما هي يعني وأي شيء هي؟ وفي هذا الاستفهام تعظيم وتفخيم لشأنها، وفي وضع الظاهر موضع المضمر تهويل فوق تهويل وفي قوله وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ مبالغة أخرى والمعنى أي شيء أعلمك ما الحاقة؟ وفيه أن مدى عظمها بحيث لا يبلغه وصف واصف ولا نعت مخبر. قال جار الله: ما يعني في ما الحاقة الثانية في موضع الرفع على الابتداء. وأَدْراكَ معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام. قلت: ولولا ذلك لنصب الجزأين على أنهما مفعول ثان وثالث كقولك «أعلمتك زيدا فاضلا» . وحين ذكر الحاقة على أبلغ وجوه التعظيم أتبعها ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تخويفا لأهل مكة فقال كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ والأصل بها أي بالحاقة إلا أنه وضع القارعة موضع الضمير ليدل بذلك على معنى الروع في الحاقة زيادة في وصف شدتها. ولا ريب أنها تفزع الناس بالأفزاع والأهوال، والسماء بالانشقاق، والأرض بالدك، والنجوم بالطمس إلى غير ذلك. وكانت عادة القرآن جارية بتقديم قصة عاد على ثمود إلا أنه قلب هاهنا لأن قصة ثمود بنيت على غاية الاختصار ومن عادتهم تقديم ما هو أخصر. قوله بِالطَّاغِيَةِ أي بالواقعة المجاوزة للحد وهي الرجفة أو الصاعقة أو الصيحة، وقيل: الطاغية مصدر أي بسبب طغيانهم. واعترض بأنه لا يطابق قصة عاد فأهلكوا بريح. ويمكن أن يجاب بأن السبب الفاعلي والسبب الآلي كلاهما يشتركان في مطلق السببية، وهذا القدر من المناسبة كاف في الطباق وعلى هذا القول يحتمل أن تكون الطاغية صفة موصوف أي بشؤم الفرقة الطاغية التي تواطأت على عقر الناقة. ويجوز أن يراد بها عاقر الناقة وحده والتاء للمبالغة. الصرصر الشديد الصوت أو الكثير سميت عاتية بشدة عصوفها. قال جار الله: العتو استعارة قلت: لأنه مستعمل في مجاوزة الإنسان حد الطاعة والانقياد. قال عطاء عن ابن عباس: يريد أن الريح عتت على عاد فما قدروا على ردها بحيلة من استتار ببيت واستناد إلى جبل، فإنها كانت تزعجهم من مكانهم. قال الكلبي: عتت على خزانها كما جاء في الحديث «ما أرسل الله من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من مطر إلا بمكيال إلا يوم نوح ويوم عاد، فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان والريح يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل.» وقيل: العاتية من عتا النبت أي بلغ منتهاه وجف قال تعالى وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مريم: 8] أي ريح بالغة منتهاها في الشدة والقوة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 سَخَّرَها أي سلطها بدليل عَلَيْهِمْ وقال الزجاج: أقامها وقيل: أرسلها. قوله حُسُوماً جمع حاسم كشهود جمع شاهد. والتركيب يدور على القطع والاستئصال ومنه الحسام لأنه يحسم العدو عما يريد من بلوغ أمله، وذلك أن تلك الريح حسمت كل خير واستأصلت كل بركة. وقيل: إنها تتابعت من غير فتور ولا انقطاع حتى أتت عليهم، فمثل تتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء مرة بعد أخرى إلى أن ينحسم. ويجوز أن يكون حُسُوماً مصدرا كالدخول والخروج وعلى هذا انتصب بفعل مضمر أي يستأصل استئصالا، أو يكون وصفا بالمصدر أي ذات حسوم، أو مفعولا له، وقيل: هي أيام العجوز وذلك أن عجوزا من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها. والصحيح أنها أيام العجز وهي آخر الشتاء وأساميها. الصن والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومطفىء الجمر. وقيل: ومكفىء الظعن. والضمير في فِيها للجهات أو الليالي والأيام الخاوية الساقطة. وقيل: الخاوية لأن الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم، وعلى هذا يحتمل أن تكون الخاوية بمعنى البالية لأن النخل إذا بليت خلت أجوافها والباقية مصدر. وقيل: من نفس باقية: قال ابن جريج: كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله، فلما كان اليوم الثامن ماتوا فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر فذلك قوله فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ وقوله فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم [الأحقاف: 25] ومن قرأ وَمَنْ قَبْلَهُ بالفتح والسكون فظاهر أي ومن تقدمه من رؤساء الكفر والضلال كنمرود ونحوه. ومن قرأ بالكسر والفتح أراد ومن عنده من أتباعه وجنوده. والخاطئة مصدر أي بالخطأ أو صفة أي بالفعلة أو الأفعال ذوات الخطأ العظيم رابِيَةً من ربا الشيء يربو إذا زاد أي زائدة في الشدة كما كانت فعلاتهم زائدة في القبح. وقيل: معنى الزيادة اتصال عذابهم في الدنيا بعذاب الآخرة. أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً. ولا ريب أن عذاب الآخرة أشد وكان عقابهم ينمو ويزيد إلى حد ليس فوقه عذاب. قال الواحدي: الوجه في قوله رَسُولَ رَبِّهِمْ أن يكون رسول الأمم الماضية كلهم أعني موسى ولوطا وغيرهما من رسل من تقدم فرعون كقوله نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 16] ولو جعل عبارة عن موسى عليه السلام لزم التخصيص من غير مخصص. ثم ذكر قصة بعض من تقدم فرعون فقال إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ وطغيان الماء كعتو الريح وقد سبق في عدة سور. ومعنى حَمَلْناكُمْ حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم فِي الْجارِيَةِ في السفينة وهي سفينة نوح لِنَجْعَلَها قال الفراء: أي الجارية لأنها المذكور. والأظهر عوده إلى الواقعة والحالة وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكافرين فإنها هي التذكرة والعبرة ولقوله وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ من شأنها حفظ كل ما تسمع لتعمل به. قال أهل اللغة: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 346 كل ما حفظته في نفسك فقد وعيته وما تعيه في غير نفسك فقد أوعيته. يقال: أو عيت المتاع في البيت. والشر أخبث ما أوعيت من زاد قال جار الله: إنما قيل أُذُنٌ واعِيَةٌ على التوحيد والتنكير للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت فهي عند الله بمكان وما سواها لا يلتفت إليه وإن ملأ العالم. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي رضي الله عنه عند نزول هذه الآية: سألت الله يجعلها أذنك يا علي. قال علي رضي الله عنه: فما نسيت شيئا بعد ذلك وما كان لي أن أنسى. وحين فرغ من بيان القدرة والحكمة عاد إلى ما انجر منه الكلام وهو حديث الحاقة، والنفخة الواحدة عن ابن عباس أنها الأولى التي عندها خراب العالم، وفي رواية عنه أنها الثانية لقوله بعد ذلك يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ والعرض عند الثانية. ولناصر الرواية الأولى أن يقول: اليوم اسم للحين الواسع الذي يقع فيه النفخات والصعقة والنشور والوقوف والحساب كما تقول «جئته عام كذا» وإنما جئت في وقت واحد من أوقاتها. قوله واحِدَةٌ صفة مؤكدة قوله وَحُمِلَتِ أي رفعت من جهاتها بريح شديدة أو بملك أو بقدرة الله من غير واسطة. والضمير في فَدُكَّتا لجماعتي الأرض والجبال والمراد أن هاتين الجملتين يضرب بعضها ببعض حتى يندك ويرجع كثيبا مهيلا منثورا. والدك أبلغ من الدق. وقيل: فبسطتا بسطة واحدة فصارتا قاعا صفصفا من قولك «اندك السنام» إذا افترش «وبعير أدك» «وناقة دكاء» . قوله فَيَوْمَئِذٍ جواب فَإِذا نُفِخَ والواقعة النازلة وهي القيامة واهِيَةٌ مسترخية بعد أن كانت مستمسكة وَالْمَلَكُ جنس ولهذا كان أعم من الملائكة لشموله الواحد والاثنين دونها. والأرجاء الجوانب جمع رجا مقصورا. والمعنى أن السماء إذا انشقت عدلت الملائكة عن مواضع الشق إلى جوانب السماء. سؤال: الملائكة يموتون في الصعقة الأولى فكيف يقفون على أرجاء السماء؟ الجواب أنهم يقفون لحظة ثم يموتون أو هم المستثنون بقوله إلا ما شاء الله، والضمير في فَوْقَهُمْ عائد إلى الملك على المعنى لأن التقدير الخلق الذي يقال له الملك، والمقصود التمييز بينهم وبين الملائكة الذين هم حملة العرش، وقال مقاتل: الضمير للحملة أي فوق رؤسهم والإضمار قبل الذكر جائز لأنه بعده حكما كقوله «في بيته يؤتى الحكم» وعن الحسن: لا أدري ثمانية أشخاص أو ثمانية آلاف أو ثمانية صفوف. وعن الضحاك: ثمانية صفوف ولا يعلم عددهم إلا الله. قال المفسرون: الحمل على الأشخاص أولى لأن هذا أقل ما يصدق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 اللفظ عليه والزائد لا دليل له، وكيف لا والمقام مقام تهويل وتعظيم؟ فلو كان المراد ثمانية آلاف لوجب ذكره ليزداد التعظيم والتهويل ويؤيده ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة أخرى» وروي «ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة والعرش فوق رؤسهم وهم مطرقون يسبحون» وقيل: بعضهم على صورة الإنسان، وبعضهم على صورة الأسد، وبعضهم على صورة الثور، وبعضهم على صورة النسر. وروي «ثمانية أملاك في خلق الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاما» «1» وعن شهر بن حوشب: أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك. وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك. ولولا هذه الروايات لجاز أن يكون الثمانية من الروح أو من خلق آخر. قالت المشبهة: لو لم يكن الله على العرش لم يكن لحمله فائدة وأكدوا شبهتهم بقوله يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ للمحاسبة والمساءلة فلو لم يكن الإله حاضرا لم يكن للعرض معنى. وأجيب بأن الدليل على أن حمل الإله محال ثابت فلا بد من التأويل وهو أنه تعالى خاطبهم بما يتعارفونه فخلق لنفسه بيتا يزورونه ليس ليسكن فيه، وجعل في ذلك البيت حجرا هو يمينه في الأرض إذ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم، وجعل على العباد حفظة لا لأن النسيان يجوز عليه بل لأنه المتعارف. فكذلك لما كان من شأن الملك إذا أراد محاسبة عماله أن يجلس لهم على سرير ويقف الأعوان حواليه صور الله تعالى تلك الصورة المهيبة لا لأنّه يقعد على السرير. روي أن في القيامة ثلاث عرضات. فأما عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ، وأما الثالثة ففيها تنشر الكتب. قوله لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ أي تعرضون على من لا يخفى عليه شيء أصلا وقيل: أراد لا يخفى منكم يوم القيامة ما كان مخفيا في الدنيا على غير الله وذلك ليتكامل سرور المؤمنين ويعظم توبيخ المذنبين. ثم أخذ في تفصيل عرض الكتب. «وهاء» صوت بصوت به فيفهم منه «خذ» وله لغات واستعمالات مذكورة في اللغة منها ما ورد به الكتاب الكريم وهو «هاء» مثل باع للواحد المذكور «وهاؤما» بضم الهمزة وإلحاق الميم بعدها ألف للتثنية. هاؤُمُ بضم الهمزة بعده ميم ساكنة لجمع المذكر. «هاء» بالكسر للمؤنثة «هاؤن» لجمعها كِتابِيَهْ مفعول هاؤُمُ عند الكوفيين واقْرَؤُا عند البصريين لأنه أقرب أصله هاؤم كتابي اقرأوا كتابي فحذف لدلالة الثاني عليه. قال البصريون: ولو كان العامل الأول لقيل اقرأه إذ المختار إضمار المفعول ليكون دليلا على المحذوف. وأجاب الكوفيون بأن   (1) رواه أبو داود في السنّة باب 18. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13 أحمد في مسنده (1/ 206) بلفظ « .... ما بين أظلافها إلى ركبها كما بين السماء والأرض ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 348 الظاهر قد أغنى عن الضمير كما في قوله وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ [الأحزاب: 35] والهاء في كِتابِيَهْ وغيره هاء السكت ومن هاهنا تثبت في الوقف وتسقط في الوصل لكنه استحب التلفظ بها في الوصل عند جماعة اتباعا لوجودها في المصحف، وإنما قال مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ابتهاجا وفرحا. وقيل: يقول ذلك لأهل بيته وقرابته. وفي قوله إِنِّي ظَنَنْتُ وجوه كما مر في قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة: 46] ومما يختص بالمقام قول بعضهم أنه أراد الظن في الدنيا لأن أهل الدنيا لا يوقنون بنيل الدرجات، وفي هذا الوجه نظر لأنهم كانوا غير قاطعين بالجنة إلا أنهم يجب أن يقطعوا بالحساب والجزاء. وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال إن الرجل يؤتى به يوم القيامة ويؤتى بكتابه فتكتب حسناته في ظهر كفه وتكتب سيئاته في بطن كفه فينظر إلى سيئاته فيحزن فيقال له: اقلب كفك فيرى حسناته فيفرح ثم يقول هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ عند النظر الأولى أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ على سبيل الشدة، وأما الآن فقد فرج الله عني ذلك الغم، وأما في حق الأشقياء فيكون ذلك على الضد مما ذكرنا. ثم بين عاقبة أمره قائلا فَهُوَ فِي عِيشَةٍ فعلة من العيش للنوع راضِيَةٍ منسوبة إلى الرضا كالدارع والنابل للمنسوب إلى الدرع والنبل، وهذا من النسبة بالصيغة كما أن قولك «بصري» أو «هاشمي» من النسبة بالحروف، ويجوز أن يكون من الإسناد المجازي كقولك «نهاره صائم» جعل الصوم للنهار وهو لصاحبه كذلك هاهنا جعل الرضا للعيشة وهو لصاحبها فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ درجاتها لأنها فوق السموات على تفاوت الطبقات أو في جنة رفيعة المباني والقصور والأشجار قُطُوفُها دانِيَةٌ ثمارها قريبة التناول. والقطوف جمع قطف بالكسر وهو المقطوف كالطحن بمعنى المطحون. يروى أن ثمارها يقرب تناولها للقائم والجالس والمضطجع وإن أحب أن تدنو دنت كُلُوا على إرادة القول وهَنِيئاً مصدر أو صفة كما مر في «الطور» . جمع الخطاب في كُلُوا مع أنه وحد الضمير في قوله أُوتِيَ وغيره حملا على لفظ من ثم على معناه. والغرض من هذا الأمر التوقير والعرض لا التكليف. ومن قال بالإباحة ليس بتكليف فلا إشكال. وقوله بِما أَسْلَفْتُمْ كقوله في «الطور» بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الآية: 19] والإسلاف في اللغة تقديم ما ترجو أن يعود عليك بخير فهو كالافتراض ومنه يقال «أسلف في كذا» إذا قدم فيه ماله. والمعنى بسبب ما عملتم من الأعمال الصالحة في أيام الدنيا الماضية. وعن مجاهد والكلبي: هي أيام الصيام فيكون الأكل والشرب في الجنة بدل الإمساك عنهما في الدنيا. ثم أخذ في قصة الأشقياء. وإنما تمنى أنه لم يدر أي شيء حسابه لأنه كله عليه لا يعود منه إليه سوى الضر. والضمير في يا لَيْتَها عائد إلى الموتة الأولى يدل عليها سياق الكلام. ولعل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 في قوله وَلَمْ أَدْرِ إشارة إليها لأنها حالة العدم المستلزمة لعدم الإدراك أي الموتة التي متها يا ليتها كانَتِ الْقاضِيَةَ لأمري أو للحياة فلم أبعث بعدها. وقيل: هاء الضمير للحال أي ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت عليّ. قال القفال: تمنى الموت حين رأى من الخجل وسوء المنقلب ما هو أشد وأشنع من الموت. قوله ما أَغْنى نفي. ويجوز أن يكون استفهاما على سبيل الإنكار ومعناه أي شيء أغنى عَنِّي ما كان لي من اليسار فإنه لم يبق منه إلا الوبال هَلَكَ عَنِّي تسلطي على الناس وزال عني ما كنت أتصوره حجة وبرهانا. قال ابن عباس: ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها على محمد في الدنيا. وقال مقاتل: إنما يقول هذا حين شهدت عليه الجوارح بالشرك. يحكى عن عضد الدولة أنه قال قصيدة مطلعها هذا البيت: ليس شرب الكأس إلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر غانيات سالبات للنهى ... ناعمات في تضاعيف الوتر مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر يروى بضم القاف جمع القدرة وبفتحها وهو ما قدر الله على عباده وقضى. ولا ريب أن المصراع الأخير فيه سوء الأدب والجراءة على الله من وجهين: أحدهما أنه سمى نفسه ملك الأملاك ولا يصلح هذا الاسم إلا لله سبحانه ولهذا جاء في الحديث «أفظع الأسماء عند الله رجل تسمى ملك الأملاك» «1» ويقال لها بالفارسية شاهنشاه والثاني أنه زعم الغلبة على القدر وهذا أيضا من أوصاف الله جل وعلا لا يصلح لغيره. وإن زعم أنه قال ذلك بالنسبة إلى ملوك دونه فذلك قيد لا يدل عليه الإطلاق فسوء الأدب باق فمن هاهنا روي أن الله تعالى ابتلاه عقيب ذلك بالجهل وفساد الذهن وخور القوى، وكان لا ينطلق لسانه إلا بتلاوة ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ خُذُوهُ على إرادة القول أي يقال لهم خذوه أيها الخزنة يروى أنهم مائة ألف ملك تجمع يده إلى عنقه. والتصلية في الجحيم وهي النار العظمى، إشارة إلى أنه كان سلطانا يتعظم على الناس. والسلسلة حلق منتظمة كل حلقة   (1) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 114. مسلم في كتاب الأدب حديث 20، 21. أبو داود في كتاب الأدب باب 62. الترمذي في كتاب الأدب باب 65. أحمد في مسنده (2/ 244، 315) بلفظ «أخنع الأسماء ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 منها في حلقة. وكل شيء مستمر بعد شيء على الولاء والنظام فهو مسلسل. والذرع في اللغة التقدير بالذراع من اليد. وقوله سَبْعُونَ ذِراعاً يجوز أن يكون محمولا على الظاهر وأن يراد المبالغة على عادة العرب. وتقديم الجحيم على التصلية والسلسلة على السلك للحصر أي لا تصلوه إلا في الجحيم ولا تسلكوه إلا في هذه السلسلة الطويلة لأنها إذا طالت كانت الكلفة أشد. قالوا: كل ذراع سبعون باعا أبعد مما بين مكة والكوفة. قال الحسن: الله أعلم بأي ذراع هو قال ابن عباس: تدخل السلسلة في دبره وتخرج من حلقه ثم يجمع بين ناصيته وقدميه قال الكلبي: كما يسلك الخيط في اللؤلؤ يجعل في عنقه سلوكها. عن بعضهم أن جمعا من الكفار يقرن في هذه السلسلة الطويلة ليكون العذاب عليهم أشد وإنما لم يقل فاسلكوا السلسلة فيه لأنه أراد أن السلسلة تكون ملتفة على جسده بحيث لا يقدر على حركة. وقيل: هو كقولهم «أدخلت القلنسوة في رأسي» او «الخاتم في أصبعي» . ومعنى «ثم» التراخي في الرتبة. ثم ذكر سبب هذا الوعيد الشديد وهو عدم الإيمان بالله العظيم وعدم بذل المال للمساكين ولعل الأول إشارة إلى فساد القوة النظرية، والثاني إلى فساد القوة العملية. قال جار الله: وعطف حرمان المساكين على الكفر تغليظ، وفي ذكر الحض دون الفعل تغليظ دون تغليظ ليعلم أن ترك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل؟ وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين وكان يقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان فلا نخلع نصفها الآخر إلا بالإطعام. والطعام اسم بمعنى الإطعام كالعطاء اسم بمعنى الإعطاء. وفي الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع. والحميم القريب النافع وقوله هاهُنا إشارة إلى مكان عذابهم أو إلى مقام الوصول إلى هذا الحد من العذاب. يروى أن ابن عباس سئل عن الغسلين فقال: لا أدري. وقال الكلبي: هو ما يسأل من أهل النار. فغسلين من الغسالة والطعام ما يهيأ للأكل. ويجوز أن يكون إطلاق الطعام عليه من باب التهكم أو مثل عقابك السيف. قال ابن عباس: الخاطئون في الآية هم المشركون. ثم عظم شأن القرآن بالإقسام بكل الأشياء لأنها إما مبصر أو غير مبصر. وقيل: الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجن والخلق والخالق والنعم الظاهرة والباطنة. والأكثرون على أن الرسول الكريم هاهنا هو محمد صلى الله عليه وسلم لأنه ذكر بعده أنه ليس بقول شاعر ولا كاهن، والقوم ما كانوا يصفون جبرائيل بالشعر والكهانة وإنما يصفون محمدا صلى الله عليه وسلم وأما في سورة التكوير فالأكثرون على أنه جبرائيل عليه السلام لأن الأوصاف التي بعده تناسبه كما يجيء. وفي ذكر الرسول إشارة إلى أن هذا القرآن ليس قوله من تلقاء نفسه وإنما هو قوله المؤدي عن الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 بطريق الرسالة، وهكذا لو كان المراد جبرائيل. وفي وصفه بالكرم إشارة إلى أمانته وأنه ليس ممن يغير الرسالة طمعا في أغراض الدنيا الخسيسة. وأيضا من كرمه أنه أتى بأفضل أنواع المزايا والعطايا وهو المعرفة والإرشاد والهداية. وإنما قال عند نفي الشعر عنه قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ وعند نفي الكهانة قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ لأن انتفاء الشعرية عن القرآن أمر كالبين المحسوس. أما من حيث اللفظ فظاهر لأن الشعر كلام موزون مقفى وألفاظ القرآن ليست كذلك إلا ما هو في غاية الندرة بطريق الاتفاق من غير تعمد، وأما من جهة التخيل فلأن القرآن فيه أصول كل المعارف والحقائق والبراهين والدلائل المفيدة للتصديق إذا كان المكلف ممن يصدق ولا يعاند. وانتفاء الكهانة عنه أمر يفتقر إلى أدنى تأمل يوقف. على أن كلام الكهان أسجاع لا معاني تحتها وأوضاع تنبو الطباع عنها. وأيضا في القرآن سب الشياطين وذم سيرتهم والكهان إخوان الشياطين فكيف رضوا بإظهار قبائحهم. ثم صرح بالمقصود فقال تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي هو تنزيل ثم بين أن المفتري لا يفلح وإن قرض أنه نبي فقال وَلَوْ تَقَوَّلَ وهو تكلف القول من غير أن يكون له حقيقة والْأَقاوِيلِ جمع أقوال. وقال جار الله: في اللفظ تصغير وتحقير كالأعاجيب والأضاحيك كأنه جمع «أفعولة» من القول. ومعنى الآية لو نسب إلينا قولا لم نقله لقتلناه أشنع قتل وهو أن يؤخذ بيمينه وتضرب رقبته وهو ينظر إلى السيف، وهذه فائدة تخصيص اليمين لأن القتال إذا أخذ بيسار المقتول وقع الضرب في قفاه. ومعنى لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ لأخذنا بيمينه، وكذا قوله لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ لقطعنا وتينه وهذا تفسير منقول عن الحسن البصري. والوتين العرق المتصل من القلب بالرأس فإذا انقطع مات الحيوان: قال ابن قتيبة: لم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد أنه لو كذب لأمتناه كما يفعل الملوك فكان كمن أخذ بيمينه فقطع وتينه ونظيره «ما زالت أكلة خبير تعاودني، فهذا أوان اقطع أبهري» . والأبهر عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال: هذا أوان يقتلني السم. وعن الفراء والمبرد والزجاج أن اليمين القوة وقوة كل شيء في ميامنه والباء زائدة ومعنى الأخذ السلب أي سلبنا عنه القدرة على التكلم بذلك القول وهذا كالجواب في حكمة الله تعالى كيلا يشتبه الصادق بالكاذب. وقال مقاتل: اليمين الحق كقوله إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ [الصافات: 28] أي من قبل الحق. والمعنى منعناه بواسطة إقامة الحجة وقضينا له من يعارضه فيه فيظهر للناس كذبه فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ أي عن الرسول أو عن القتل، والخطاب للناس وأحد في معنى الجمع لأنه في سياق النفي فلذلك قال حاجِزِينَ أي مانعين. وحين بين أن القرآن تنزيل من عند الله بواسطة جبرائيل على محمد الذي صفته أنه ليس بشاعر ولا كذاب، بين أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 القرآن ما هو وإلى أي صنف يعود نفعه فقال وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ثم أوعد على التكذيب قائلا وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ثم بين أن تكذيب القرآن سبب حسرة الكافرين في القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين أو في الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين، لأن القرآن حق اليقين أي حق يقين لا ريب فيه، فأضيف أحد الوصفين إلى الآخر للتأكيد كقوله «هو حق العالم» . ثم أمر بالتسبيح شكرا له على الإيحاء إليه، أو على أن عصمه من الافتراء عليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 353 (سورة المعارج) (وهي مكية حروفها ثمانمائة وأحد وستون كلماتها مائتان وست عشرة آياتها أربع وأربعون) [سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 44] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) القراآت: سَأَلَ بغير همز مثل باع: أبو جعفر ونافع وابن عامر وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة على التذكير: علي ولا يسئل بضم الياء: البزي من طريق الهاشمي والبرجمي يومئذ بالفتح على البناء: أبو جعفر ونافع غير إسماعيل وعباس وعلي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 والشموني والبرجمي توويه بغير همز: يزيد والأعشى وحمزة في الوقف نَزَّاعَةً بالنصب: حفص والمفضل يخرجون من الإخراج: الأعشى وحمزة في الوقف إِلى نُصُبٍ بضمتين: ابن عامر وسهل وحفص نصب بالضم فالسكون: المفضل الباقون: بالفتح فالسكون. الوقوف: واقِعٍ هـ لا دافِعٌ هـ لا الْمَعارِجِ هـ لا سَنَةٍ ج جَمِيلًا هـ بَعِيداً هـ لا قَرِيباً هـ ط كَالْمُهْلِ هـ لا كَالْعِهْنِ هـ لا حَمِيماً هـ ج لأن ما بعده منقطع عنه مستأنف ولكن أصلحوا الوقف على يُبَصَّرُونَهُمْ بِبَنِيهِ هـ لا وَأَخِيهِ هـ تُؤْوِيهِ هـ لا جَمِيعاً هـ لا للعطف يُنْجِيهِ هـ لا كَلَّا ط لَظى هـ ج لأن من قرأ نَزَّاعَةً بالرفع جاز أن يكون بدلا أو خبر لَظى والضمير في إِنَّها للقصة أو خبر مبتدأ محذوف. ومن نصب فعلى الحال المؤكدة أو على الإختصاص. لِلشَّوى هـ ص لأن يدعوا يصلح مستأنفا وبدلا من نَزَّاعَةً وَتَوَلَّى هـ لا فَأَوْعى هـ هَلُوعاً هـ لا جَزُوعاً هـ لا مَنُوعاً هـ لا الْمُصَلِّينَ هـ لا دائِمُونَ هـ لا مَعْلُومٌ هـ لا وَالْمَحْرُومِ هـ ص الدِّينِ هـ مُشْفِقُونَ هـ ج مَأْمُونٍ هـ حافِظُونَ هـ لا مَلُومِينَ هـ ج العادُونَ هـ ج راعُونَ هـ لا قائِمُونَ هـ ك يُحافِظُونَ هـ لا مُكْرَمُونَ هـ ط لانقطاع المعنى مُهْطِعِينَ هـ لا عِزِينَ هـ نَعِيمٍ هـ كَلَّا ط يَعْلَمُونَ هـ لَقادِرُونَ هـ ج مِنْهُمْ ج بناء على أن الواو للحال بِمَسْبُوقِينَ هـ يُوعَدُونَ هـ ج لأن ما بعد ب ءدل يوقضون هـ ج لأن ما بعد حال من الضمير ذِلَّةٌ ط يُوعَدُونَ هـ. التفسير: من قرأ سَأَلَ بالهمزة ففيه وجهان: الأول عن ابن عباس أن النضر بن الحرث قال اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً [الأنفال: 32] الآية فأنزل الله تعالى سَأَلَ سائِلٌ أي دعا داع ولهذا عدي بالباء. يقال: دعاه بكذا إذا استدعاه وطلبه. وقال ابن الأنباري: الباء للتأكيد والتقدير: سأل سائل عذابا لا دافع له البتة. إما في الآخرة وإما في الدنيا كيوم بدر. الثاني قال الحسن وقتادة: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجل بعذاب الكافرين، أو سأل عن عذاب. والباء بمعنى «عن» . قال ابن الأنباري: أو عنى واهتم بعذاب أنه على من ينزل وبمن يقع، فبين الله تعالى أن هذا واقع بهم فلا دافع له. والذي يدل على صحة هذا الوجه قوله في آخر الآية فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ومن قرأ بغير همز فله وجهان أيضا: الأول أنه مخفف «سأل» وهي لغة قريش والمعاني كما مرت، والآخر أن يكون من السيلان ويعضده قراءة ابن عباس «سال سيل» وهو مصدر في معنى سائل كالفوز بمعنى الفائز. والمعنى اندفع عليهم وأدى عذاب فذهب بهم وأهلكهم أما سائِلٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 355 فلا يجوز فيه إلا الهمز وفاقا لأنه إن كان من سأل المهموز فظاهر، وإن كان من غير المهموز انقلبت الياء همزة كما في بائع. وقوله لِلْكافِرينَ صفة أخرى للعذاب أي بعذاب واقع، لا محالة كائن للكافرين، أو متعلق بواقع أي نازل لأجلهم، أو كلام مستأنف جواب للسائل الذي سأل: إن العذاب على من ينزل أي هو للكافرين. والظاهر أن قوله مِنَ اللَّهِ يتعلق ب دافِعٌ أي لا دافع له من جهة الله لأنه قضاء مبرم. وجوز أن يتصل بواقع أي نازل من عند ذِي الْمَعارِجِ المصاعد. روى الكلبي عن ابن عباس أنها السموات لأن الملائكة يعرجون فيها. وقال قتادة: ذي الفواضل والنعم بحسب الأرواح ومراتب الاستحقاق والاستعداد. وقيل: هي الجنة لأنها درجات. وقال في التفسير الكبير. وهي مراتب أرواح الملكية المختلفة بالشدة والضعف وبسببها يصل آثار فيض الله إلى العالم السفلي عادة، أو غير عادة فتلك الأرواح كالمصاعد لمراتب الحاجات التي ترفع إليها، وكالمنازل لآثار الرحمة من ذلك العالم إلينا. قوله تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ وفي مواضع أخرى يوم يقوم الروح والملائكة. قيل: إن الروح أعظم الملائكة قدرا وهو أول في درجة نزول الأنوار من جلال الله، ومنه تتشعب إلى أرواح سائر الملائكة والبشر في آخر درجات منازل الأرواح. وبين الطرفين معارج مراتب أرواح الملائكة ومدارج منازل الأنوار القدسية ولا يعلم تفصيلها إلا الله. وأما المتكلمون فالجمهور منهم قالوا: إن الروح هو جبريل عليه السلام. ولا استدلال لأهل التشبيه في لفظ الْمَعارِجِ فإنا بينا أنها المراتب. وقوله إِلَيْهِ إلى عرشه أو حكمه أو إلى حيث تهبط أوامره أو إلى مواضع العز والكرامة. والأكثرون على أن قوله فِي يَوْمٍ من صلة تَعْرُجُ أي يحصل العروج في مثل هذا اليوم وهو يوم القيامة. قال الحسن: يعني من موقفهم للحساب إلى حين يقضي بين العباد خمسون ألف سنة من سني الدنيا، ثم بعد ذلك يستقر أهل الجنة في الجنة إلى آخر الآية. والأصح أن هذا الطول إنما يكون للكافر لما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قيل لرسوله صلى الله عليه وسلم: ما أطول هذا اليوم؟ فقال: والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة في الدنيا. ومنهم من قال: إن ذلك الموقف وإن طال فقد يكون سببا لمزيد السرور والراحة للمؤمن. ومنهم من قال: إن هذه المدة على سبيل التقدير لا على سبيل التحقيق. والمعنى أنه لو اشتغل بذلك القضاء والحكومة أعقل الناس وأدهاهم لبقي فيه خمسين ألف سنة. ثم إنه تعالى يتمم ذلك القضاء والحكومة في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا. وأيضا الملائكة يعرجون إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها لبقي في ذلك الصعود خمسين ألف سنة ثم إنهم يصعدون إليها في ساعة. قاله وهب وجماعة من أهل التفسير. وقال أبو مسلم: إن هذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 356 اليوم الدنيا كلها من أول ما خلق العالم إلى القيامة وفيه يقع عروج الملائكة. ثم لا يلزم من هذا أن يصير وقت القيامة معلوما لأنا لا ندري كم مضى وكم بقي. ومر في «ألم السجدة» . وقال جمع من المفسرين قوله فِي يَوْمٍ من صلة واقِعٍ أي يقع ذلك العذاب في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة من سنيكم وهو يوم القيامة. وثم يحتمل أن يكون المراد منه استطالة ذلك اليوم لشدته على الكفار، ويحتمل أن العذاب الذي سأله السائل يكون مقدرا بهذه المدة ثم ينقله الله تعالى إلى نوع آخر من العذاب. يروى عن ابن أبي مليكة أن ابن عباس سئل عن هذه الآية وعن قوله فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ فقال: أيام سماها الله هو أعلم بها كيف تكون وأكره أن أقول فيها ما لا علم لي به. وقال وهب في الجواب: من أسفل العالم إلى أعلى شرف العرش مسيرة خمسين ألف سنة، ومن أعلى السماء الدنيا إلى الأرض مسيرة ألف سنة، لأن عرض كل سماء من السموات السبع مسيرة خمسمائة سنة، وبين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة أخرى، فالمراد مقدار ألف سنة لو صعدوا إلى سماء الدنيا ومقدار خمسين ألف سنة لو صعدوا إلى العرش. وفي قوله فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كأنه قيل له: إن العذاب قرب وقوعه فاصبر فقد شارفت الانتقام. قال الكلبي: هذه الآية نزلت قبل أن يؤمر الرسول بالقتال إنهم يرون العذاب أو يوم القيامة بعيد الأمد بعيدا عن الإمكان وَنَراهُ قَرِيباً منه ثم قال يَوْمَ أي اذكر يوم تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ كدرديّ الزيت. عن ابن مسعود: كالفضة المذابة. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ أي الصوف المصبوغ ألوانا لقوله وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ [فاطر: 27] وجوز جار الله أن ينتصب يَوْمَ ب قَرِيباً أو بإضمار يقع لدلالة واقع عليه، أو يراد به يوم تكون السماء كالمهل كان كيت وكيت، أو هو بدل من يوم القيامة فيمن علقه ب واقِعٍ قوله وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ من قرأ بفتح الياء فظاهر أي لا يسأله بكيف حالك لاشتغال كل بنفسه، ومن قرأ بالضم فالمعنى لا يسأل حميم عن حميم ليعرف شأنه من جهته كما يتعرف خبر الصديق من جهة صديقه فيكون على حذف الجار. وقال الفراء: لا يقال الحميم أين حميمك. ثم كان لسائل أن يقول: لعله لا يبصره فلهذا لا يسأل فقال يُبَصَّرُونَهُمْ ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تسائلهم ويجوز أن يكون صفة أي حميما مبصرين معرفين إياهم وإنما جمع ضمير الحميم لأنه في معنى الجمع حيث رفع في سياق النفي. وقيل: إن الجملة تتعلق بما بعده والمعنى إن المجرمين يبصرون المؤمنين حال ما يود أحدهم أن يفدي نفسه بكل ما يمكنه فإن الإنسان إذا كان في البلاء ثم رأى عدوه في الرخاء كان ذلك أشد عليه وَفَصِيلَتِهِ عشيرته الأدنون الذين فصل عنهم تُؤْوِيهِ تضمه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 357 إليها للانتماء في النسب أو في إعداد النوائب. ومعنى ثُمَّ استبعاد الإنجاء عن الافتداء. ثم أكد الاستبعاد بقوله كَلَّا وهو ردع للمجرم عن كونه بحيث يود افتداءه وتنبيه على أنه لا ينفعه ذلك. والضمير في إِنَّها للقصة كما ذكرنا أو للنار وإن لم يجر لها ذكر لدلالة العذاب عليها، ويجوز أن يعود إلى العذاب والتأنيث باعتبار الخبر لأن لَظى علم لنار جهنم. واللظى اللهب الخالص. والشوى الأطراف وهي اليدان والرجلان، والشوى أيضا جلد الرأس، الواحدة شواة، قال سعيد بن جبير: العصب والعقب ولحم الساقين واليدين تنزعها نزعا فتهلكها ثم يعيدها الله سبحانه. وفي قوله تَدْعُوا وجوه منها: أنها تدعوهم بلسان الحال كما قيل: سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك فإن لم تجبك جؤارا أجابتك اعتبارا. فههنا لما كان مرجع كل من الكفرة إلى دركة من دركات جهنم كأنها تدعوهم إلى نفسها. ومنها أن الله تعالى يخلق الكلام في جرم النار حتى تقول صريحا فصيحا: لى يا كافة الكفرة ثم تلتقطهم التقاط الحب. ومنها أن يكون على حذف المضاف أي تدعو زبانيتها. ومنها أن الدعاء بمعنى الإهلاك كقول العرب «دعاه الله» أي أهلكه مَنْ أَدْبَرَ أي عن الطاعة وَتَوَلَّى عن الإيمان وَجَمَعَ المال حرصا عليه فَأَوْعى جعله في وعاء وكنزه فلم يؤد حقوق الله فيه أصلا وهذه مجامع آفات النفس. ثم بين أن الإنسان بالطبع مائل إلى الأخلاق الذميمة فقال إِنَّ الْإِنْسانَ وهو الكافر عند بعضهم والأظهر العموم بدليل الاستثناء عقيبه خُلِقَ هَلُوعاً والهلع قلة الصبر وشدة الحرص كما فسره الله تعالى بقوله إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي الفقر والمرض ونحوه من المضار كان جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ أضداد ذلك كان مَنُوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم «شر ما أعطي ابن آدم شح هالع وجبن خالع» «1» قال أهل السنة: الحالة النفسانية التي هي مصدر الأفعال الاختيارية كالجزع والمنع لا شك أنها بخلق الله تعالى. بل الجزع والمنع أيضا من خلقه ولا اعتراض لأحد عليه خلق بعض الناس هلوعا وخلق المستثنين منهم غير هلوع بل مشغولي القلب بأحوال الآخرة، وكل ذلك تصرف منه في ملكه، وقالت المعتزلة: ليس المراد أنه مخلوق على هذا الوصف لأنه تعالى ذكره في معرض الذم والله تعالى لا يذم فعله. ولأنه تعالى استثنى منهم جماعة جاهدوا أنفسهم وظلفوها عن الشهوات. ولو كانت ضرورية لم يقدروا على تركها. والجواب أن الذين خلقهم كذلك لم يقدروا على الترك والذين تركوها هم الذي خلقوا على هذا الوصف وهم أصناف ثمانية: الأول الذين يداومون على الصلوات والمراد منها أداؤها   (1) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 21. أحد في مسنده (3/ 302) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 358 في أوقاتها، وأما المحافظة عليها فترجع إلى الاهتمام بشأنها وذلك يحصل برعاية أمور سابقة على الصلاة كالوضوء وستر العورة وطلب القبلة وغيرها، حتى إذا جاء وقت الصلاة لم يكن يتعلق القلب بشرائطها وأمور مقارنة للصلاة كالخشوع والاحتراز عن الرياء والإتيان بالنوافل والمكملات، وأمور لاحقة بالصلاة كالاحتراز عن اللغو وما يضاد الطاعة لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فارتكابه المعصية بعد الصلاة دليل على أن تلك الصلاة لم تقع في حيز القبول. الثاني وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ قال ابن عباس والحسن وابن سيرين: هو الزكاة المفروضة. قلت: الدليل عليه وصفه بأنه معلوم واقترانه بإدامة الصلاة، وقال مجاهد وعطاء والنخعي: هو ما سوى الزكاة وإنه على طريق الندب والاستحباب. قلت: هذا التفسير بما في «الذاريات» أشبه لأنه لم يصف الحق هناك بأنه معلوم ولأنه مدح هناك قوما بالتزام ما لا يلزمهم كقلة الهجوع والاستغفار بالأسحار. الثالث وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي يؤمنون بالغيب والجزاء. الرابع وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ خائفون والمؤمن خائف من التقصير في الطاعة وبعض الفسقة لا يخافون من ارتكاب أنواع الظلم وأصناف المعصية. ثم أكد ذلك الخوف بقوله إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ لأن الأمور بخواتيمها والخاتمة غير مقطوع بها. الخامس وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إلى قوله العادُونَ وقد مر في «المؤمنين» . والسادس وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وقد مر أيضا. السابع وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ من أفرد فلانها مصدر، ومن جمع فللنظر إلى اختلاف الشهادات وكثرة أنواعها. وأكثر المفسرين قالوا: هي الشهادات عند الحكام يقومون بها بالحق ولا يكتمونها، وهذه من جملة الأمانات خصها بالذكر تنبيها على فضلها لأن في إقامتها إحياء للحقوق وفي تركها تضييع لها. وروى عطاء عن ابن عباس أنها الشهادة بالله أنه واحد لا شريك له. الثامن وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ وقد ذكرناه. ثم عين مكان هؤلاء بقوله تعالى أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ قال المفسرون: كان المشركون يحتفون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقا يستهزؤن به وبالمؤمنين ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم فنزلت. فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ أي نحوك وفي مقابلتك مُهْطِعِينَ مسرعين مادين أعناقهم إليك عِزِينَ فرقا شتى جمع عزة محذوفة العجز وأصلها عزوة لأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى فهم مفترقون. وجمع بالواو والنون عوضا عن المحذوف كما مر في عِضِينَ قوله كَلَّا ردع لهم عن الطمع الفاسد وذلك من وجهين: أحدهما أنهم ينكرون البعث فمن أين لهم هذا الطمع. والثاني أنهم لم يعدوا لها زادا من الإيمان والعمل الصالح. وفي قوله إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ رد عليهم من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 الوجهين فإن من علم أن أوله نطفة لم ينكر البعث، أو من علم أن أوله نطفة مذرة كسائر بني آدم لم يدع التقدم والشرف بلا توسل من الإيمان والعمل الصالح. ثم بين كمال قدرته على الإيجاد والإعدام مؤكدا بالأقسام وأنه لا يفوته شيء من الممكنات. ومعنى الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ قد تقدم في أول «الصافات» و «الرحمن» وإن للشمس في كل يوم من نصف السنة مغربا ومشرقا. وقيل: مشرق كل كوكب ومغربه. وقيل: المراد أنواع الهدايات والخذلانات. واختلف فيما وصف الله نفسه بالقدرة عليه هل خرج إلى الفعل أم لا؟ قال بعضهم: بدل الله بهم الأنصار والمهاجرين. وقال آخرون: بدل الله كفرهم بالإيمان. وقيل: التبديل بمعنى الإهلاك الكلي لهم وإيجاد آخرين مكانهم ولكنه هددهم بذلك لكي يؤمنوا، ثم زاد في التهديد بأن يخلوا وشأنهم إلى أوان لقاء الجزاء والأجداث القبور كما في «يس» . ثم شبه إسراعهم إلى الداعي مستبقين بإسراعهم إلى أنصابهم وهي كل ما ينصب فيبعد من دون الله وقد مر في قوله وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة: 3] ومعنى يُوفِضُونَ يسرعون. وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ تغشاهم والباقي ظاهر والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 360 (سورة نوح عليه السلام) (وهي مكية حروفها سبعمائة وخمسون كلماتها مائتان واحدي وعشرون آياتها ثمان وعشرون) [سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 28] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28) القراآت دعائي إلا بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو أني أعلنت بالفتح. أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير وَوَلَدُهُ بالضم والسكون: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بفتحتين وَدًّا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 361 بالضم: أبو جعفر ونافع الآخرون: بالفتح. خطاياهم بالتكسير: أبو عمرو بَيْتِيَ بالفتح: حفص وهشام. الوقوف: أَلِيمٌ هـ مُبِينٌ هـ وَأَطِيعُونِ هـ مُسَمًّى ط لا يُؤَخَّرُ م تَعْلَمُونَ هـ وَنَهاراً هـ فِراراً هـ اسْتِكْباراً هـ ج لأن «ثم» لترتيب الأخبار مع اتحاد القائل جِهاراً هـ لا إِسْراراً هـ لا لعطف مقصود الكلام غَفَّاراً هـ لا لجواب الأمر مِدْراراً هـ أَنْهاراً هـ ط لابتداء الاستفهام وَقاراً هـ ج لأن ما بعده يحتمل الحال والاستئناف أَطْواراً هـ طِباقاً هـ لا سِراجاً هـ لا نَباتاً هـ إِخْراجاً هـ بِساطاً هـ فِجاجاً هـ خَساراً هـ ج للآية مع العطف واتحاد الكلام كُبَّاراً هـ لذلك وَنَسْراً هـ ك لأن ما بعده ليس بمعطوف ولكنه حال من فاعل قالُوا وذكر السجاوندي أنه حال من مفعول لا تَذَرُنَّ وفيه نظر كَثِيراً هـ ز لأن قوله وَلا تَزِدِ لا يصح عطفه ظاهرا ولكنه متصل بما قبله بطريق الحكاية أي قال نوح رب إنهم عصوني وقال لا تزد ضَلالًا هـ أَنْصاراً هـ دَيَّاراً هـ كَفَّاراً هـ تَباراً هـ التفسير: لما حذر الناس أهوال يوم القيامة ذكرهم قصة نوح وما جرى على قومه من الإغراق قبل الأطراف حين عصوا رسولهم و «أن» في أَنْ أَنْذِرْ وأَنِ اعْبُدُوا مفسرة لما في الإرسال والإنذار من معنى القول. أو ناصبة والجار محذوف أي أرسلناه بأن قلنا له أنذر أي أرسلناه بالأمر بالإنذار. ثم حكى أنه امتثل الأمر فأمر قومه بعبادة الله قبل الأطراف ويتناول جميع الواجبات والمندوبات وَاتَّقُوهُ ويشتمل على الزجر عن جميع المحظورات وبطاعة نفسه تنبيها على أن طاعة الله هي طاعة نبيه، والإلهيات لا تكمل معرفتها إلا بمعرفة النبوات. ثم وعدهم على العبادة والتقوى والطاعة شيئين: أحدهما دفع مضار الآخرة وهو غفران الذنوب، والثاني وصول منافع الدنيا وهو بتأخير الأجل إلى أقصى الإمكان. وقد مر في سورة إبراهيم استدلال من جوز زيادة «من» في الإثبات بنظير هذه الآية. وما أجيب عنه. والذي نزيده هاهنا ما قيل: إنه لم لا يجوز أن يراد يغفر لكم كل ما كان من ذنوبكم فتكون فائدته عدم المؤاخذة بمجموع الذنوب لا بكل فرد من أفراده لصدق قول القائل لا أطالبك بمجموع ذنوبك لكني أطالبك بهذا الذنب الواحد. وفي قوله يَغْفِرْ لَكُمْ معنى لا يؤاخذكم قاله الإمام فخر الدين الرازي وهو شبه مغالطة لأنه يوجب استعمال مقتضى النفي مكان مقتضى الإثبات وبالعكس بتأويل تقدير الإثبات وبالعكس مثلا اتفقوا على وجوب النصب في قولك «جاءني القوم إلا زيدا» وعلى قوله يمكن رفعه على البدل بتأويل يتخلف القوم إلا زيد وهكذا قولك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 362 «جاءني رجل» لا يشمل المجيء سواه. ولو قلت «ما تخلف رجل» عمّ المجيء كل أحد. ثم قال: هب أنه يقتضي التبعيض لكنه حق لأن من آمن فإنه يغفر ما تقدم من ذنوبه على إيمانه، أما المتأخر عنه فإنه لا يصير بذلك السبب مغفورا فثبت أنه لا بد هاهنا من حرف التبعيض. قلت: هذا التأويل جائز في حق هذه الأمة أيضا فوجب أن يذكر من في سورة الصف أيضا. قوله إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إشارة إلى الأجل المسمى وفيه تنبيه على أن الأجل الاختراعي قد يؤخر بتقدير الإيمان والعبادة، وفيه أن وقت الفرصة والإمهال يجب أن يغتنم قبل حلول مالا حيلة فيه، وفي قوله لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ توبيخ على أن إمهالهم في أمور الدنيا بلغ إلى حيث صيرهم شاكين في وقوع الموت. ثم حكى شكوى نوح إلى ربه بعد أن لم ينجع في قومه طول دعوته. ومعنى لَيْلًا وَنَهاراً دائبا دائما من غير توان وفتور. قوله فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً كقوله ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فاطر: 42] قوله لِتَغْفِرَ لَهُمْ ذكر ما هو المقصود وترك ما هو الوسيلة، وأصل الكلام ليؤمنوا فتغفر لهم ذنوبهم السالفة هذا قول جار الله. ويمكن أن يقال: إنه وعدهم المغفرة على العبادة والتقوى والطاعة فكأنه قال: دعوتهم إلى عبادتك وتقواك وطاعتي لتغفر لهم، وهذا كلام متسق مبني على الأول كما ترى. ثم ذكر أنهم عاملوه بأشياء منها: جعل الأصابع في الآذان لئلا يسمعوا قوله. ومنها تغطيهم بثيابهم تأكيدا لعدم سماع الحجة أو لئلا يبصروا وجهه. ومنها إصرارهم على مذهبهم واستكبارهم عن قبول الحق استكبارا بالغا نهايته. ثم حكى نوح أنه كان لدعوته ثلاث مراتب بدأ بالمناصحة في السر ليلا ونهارا فعاملوه بما ذكر، ثم ثنى بالمجاهدة لأن النصح بين الملأ تقريع وتغليظ فلم يؤثر. وانتصب جِهاراً على المصدر لأنه نوع من الدعوة أو على أنه صفة دعاء محذوف. والوصف بالمصدر مبالغة على أنه في موضع الحال. ثم إنه جمع بين الأمرين كما يفعل المجتهد المتحير في التدبير فلم ينفع. ثم فسر الدعوة بقوله فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا إلى آخره وفيه أن الاستغفار يوجب زيادة البركة والنماء. وله وجه معقول وهو أن الله سبحانه مفيض الخيرات والبركات بالذات كما قال «سبقت رحمتي غضبي» «1» فكل ما يصل إلى العباد مما يضاد ذلك كالفقر والقحط والآلام والمخاوف فإنها بشؤم معاصيهم، فإذا تابوا واستغفروا زال الشؤم والبلاء وعاد الخير والنماء. يروى أنهم لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة أو سبعين. فوعدهم نوح أنهم إن آمنوا دفع الله عنهم البلاء. والمدرار الكثير الدريستوي   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15، 22. مسلم في كتاب التوبة حديث 14- 16. الترمذي في كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 242، 258) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 363 فيه المذكر والمؤنث. ثم إنه وبخهم بقوله ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً أصل الرجاء الأمل. والوقار التوقير «فعال» بمعنى «تفعيل» مثل «سراح» بمعنى «تسريح» وقد يستعمل الرجاء بمعنى الخوف فمعناه على هذا ما لكم لا تخافون عظمة الله. وعلى الأول قال جار الله: معناه أي شيء لكم وما بالكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب ولِلَّهِ بيان أو حال ولو تأخر لكان صلة للوقار أو صفة، ويحتمل أن يكون الوقار فعلا للقوم وذلك أنهم كانوا يستخفون برسول الله صلى الله عليه وسلم فحثهم على تعظيمه لأجل الله راجين ثوابه. وعن ابن عباس أن الوقار هو الثواب من وقر إذا ثبت واستقر قال جار الله: في تقريره أي لا تخافون لله عاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب. وقال غيره: تم الكلام عند قوله ما لَكُمْ ثم استفهم منكرا لا تَرْجُونَ أي لا تعتقدون لله ثباتا وبقاء فإنكم لو رجوتم ذلك لما أقدمتم على الاستخفاف برسوله. قال الليث: الطور التارة أي خلقكم مرة بعد مرة نطفة ثم علقة إلى آخرها. وقال ابن الأنباري: والطور الحال فيجوز أن يراد الأوصاف المختلفة التي لا يشبه بعضها بعضا، وهذا دليل للتوحيد المأخوذ من الأنفس، ثم أشار إلى دليل الآفاق بقوله أَلَمْ تَرَوْا الآية. ومعنى طِباقاً قد مر في أول «الملك» فلا يلزم منه أن لا يبقى للملائكة مساكن فيها فلعلها متوازية لا متماسة. وأما على قول من يزعم أن الملائكة روحانية فلا إشكال، قوله فِيهِنَّ في حيزه من السموات وشبه الشمس بالسراج لأن نوره ذاتي كهي، أو لأن الليل عبارة عن ظل الأرض والشمس سبب لزواله. ثم عاد إلى دليل الأنفس بقوله وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً يحتمل أن يكون من باب التفعيل فيكون مصدرا متعديا قريبا من لفظ الفعل وأن يكون ثلاثيا لازما فيكون أبعد، ويجوز أن يراد أنبتكم فنبتم نباتا. قال جار الله: استعير الإنبات للإنشاء ليكون أدل على الحدوث. وفي قوله إِخْراجاً تأكيدا أي يخرجكم حقا ولا محالة. ثم ذكر دليلا آخرا فاقيا من حال الأرض. والفج الطريق الواسع. ثم إن سائلا كأنه سأل: ماذا قال نوح بعد هذه الشكوى؟ فبين سبحانه أنه تعالى قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي مكان قوله وأطيعون وَاتَّبَعُوا رؤساءهم ولم يزدهم ما لهم وولدهم إِلَّا خَساراً في الآخرة كأن التمتع القليل في الدنيا كالعدم. وولده بالضم لغة في الولد ويجوز أن يكون جمعا كفلك وَمَكَرُوا معطوف على لَمْ يَزِدْهُ لأن المتبوعين هم الذين مكروا وَقالُوا للأتباع لا تَذَرُنَّ وجمع حملا على المعنى. والكبار بالتشديد أكبر من الكبار بالتخفيف ولهذا لم يقرأ مخففا إلا في الشاذ فكلاهما مبالغة في الكبير. ولا ريب أن رأس الخيرات هو الإرشاد إلى التوحيد فنقيضه وهو الدعاء إلى الشرك يكون أعظم الكبائر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 364 وأفظع أنواع المكر. وإنما سمي مكرا لأنهم دلسوا عليهم بأنه دين آبائكم والآباء أعرف من الأبناء. وبأن هذه الأصنام تعطيكم الخيرات والمنافع وأنها شفعاؤكم. ثم خصوا الأصنام الخمسة بالذكر لأنها كانت عندهم أكبر قالوا: وقد انتقلت من قوم نوح إلى العرب لأسباب لا يعلمها إلا الله، ولأنها لم تكن مما تعرف بالطوفان، فكان ود لكلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير، وصورته أيضا كصورة النسر، وأما ود فعلى صورة الرجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، وإنما دعا نوح عليهم بالضلال غضبا عليهم حين عرف بالقرائن المفيدة للجزم أنهم لا يكادون يؤمنون، أو المراد ضلال طريق الجنة، أو ضلال مكرهم المذكور وعدم ترويجه، أو المراد العذاب كقوله إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [القمر: 47] وقالت المعتزلة: أراد الخذلان ومنع الألطاف وخص هذا بالضلال دون التبار لموافقة قوله وَقَدْ أَضَلُّوا قوله مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ «من» للتعليل كقولك «جئتك لأجل كذا» و «ما» صلة للتوكيد. وسبب تقديم الجار بيان أنه لم يكن إغراقهم بالطوفان فإدخالهم النار إلا من أجل خطاياهم وهي كفرهم المضموم إلى أنواع إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدة ألف سنة إلا خمسين عاما. وقد يستدل بفاء التعقيب لا سيما وقد دخل على ماض معطوف على مثله على إثبات عذاب القبر. عن الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من جانب وهكذا حال من مات من المجرمين في ماء أو في نار أو في جوف سبع أصابه ما يصيب المقبور من العذاب العقلي وهو ظاهر، والعذاب الجسمي وهو غير بعيد في قدرة الله تعالى. وتنكير النار للتعظيم أو لأنها نوع من النار مختص بهم. وفي قوله فَلَمْ يَجِدُوا تهكم بهم وبآلهتم قوله وَقالَ معطوف على مثله ولهذا دخل العاطف كأنه جمع نوح بين ذلك القول وبين هذا. وإنما وقع مما خطيئاتهم إلى الآية اعتراضا في البين تنبيها على أن خطيئاتهم هي المذكورات في الآية المتقدمة من عصيان رسول الله واتباع غيره. والمكر الكبار والحث على التقليد والإشراك بالله خصوصا الأصنام الخمسة دَيَّاراً من الأسماء المستعملة في النفي العام. يقال: ما بالدار ديار وهو «فيعال» من الدور أو من الدار أي نازل دار قاله ابن قتيبة. فعل به ما فعل بنحو أيام لو كان فعالا لقيل دوارا، قوله إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ إلى آخره. قال العلماء: عرف ذلك أيام لو كان فعالا لقيل دوارا، قوله إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ إلى آخره. قال العلماء: عرف ذلك بالوحي كما قال أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: 36] وبالتجربة في المدة إليه حالهم واتفق الجمهور على أن صبيانهم لم يغرقوا على وجه العذاب. قال الحسن: علم الله براءتهم فأهلكهم بغير عذاب ولكن كما يموت أكثر الناس بآجال اختراعية، ومنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 365 الحديث «يهلكون مهلكا واحدا يصدرون مصادر شتى» «1» ومن روى أن الله سبحانه أعقم أرحام نسائهم أربعين أو سبعين سنة فلا إشكال. ثم إن نوحا كأنه تنبه أن دعاءه عليهم كان بسبب الانتقام وبعض حظ النفس فاستغفر الله من ترك الأولى، ثم عقبه بذكر والديه. وكان اسم أبيه لمك بن متوشلخ. واسم أمه شمخا بنت أنوش. قال عطاء: لم يكن بين نوح وآدم عليه السلام من آبائه كافر وكان بينه وبين أدم عشرة آباء. وقيل: أراد بالوالدين آدم وحواء وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ أي منزلي. وقيل: مسجدي. وقيل: سفينتي. وقيل: ديني. وعلى هذا يكون قوله مُؤْمِناً احترازا من المنافق أي دخولا مع تصديق القلب، ثم عمم دعاء الخير للمؤمنين والمؤمنات ودعاء الشر لأهل الظلم والشرك إلى يوم القيامة. والتبار الهلاك ويجوز أن يريد بالظالمين قومه فقط والله أعلم.   (1) رواه أحمد في مسنده (6/ 105، 259، 317) مسلم في كتاب الفتن حديث 8. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 (سورة الجن) (مكية حروفها سبعمائة وتسعة وخمسون كلماتها مائتان وخمس وثمانون آياتها ثمان وعشرون) [سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 28] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) القراآت وَأَنَّهُ تَعالى إلى قوله وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ بالفتح: يزيد وابن عامر وحمزة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 367 وعلي وخلف وحفص. والمشهور عن أبي جعفر أنه كان يفتح الألف في سبعة مواضع أَنَّهُ وَأَنَّهُ في خمسة مواضع، واثنين في قوله وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا وَأَنَّ الْمَساجِدَ وهما بالفتح لا غير بالإتفاق. تقول الإنس بالتشديد من التفعل: يعقوب يَسْلُكْهُ على الغيبة: عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب. الباقون: بالنون وإنه لما قام بالكسر: نافع وأبو بكر وحماد لِبَداً بالضم: هشام. قُلْ إِنَّما أَدْعُوا على الأمر: عاصم وحمزة ويزيد الآخرون قال على صيغة الماضي والضمير لعبد الله ربي أمدا بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ليعلم مبنيا للمفعول: يعقوب. الوقوف: عَجَباً هـ لا فَآمَنَّا بِهِ ط للعدول عن الماضي المثبت إلى ضدهما. ثم الوقف على الآيات التي بعد أن جائز ضرورة انقطاع النفس والوقف في قراءة الكسر أجوز أَحَداً هـ وَلا وَلَداً هـ شَطَطاً هـ لا رَهَقاً هـ أَحَداً هـ وَشُهُباً هـ لِلسَّمْعِ ط رَصَداً هـ رَشَداً هـ ذلِكَ ط قِدَداً هـ هَرَباً هـ آمَنَّا بِهِ ط رَهَقاً هـ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ هـ ط للابتداء بالشرط رَشَداً هـ طَباً هـ لا غَدَقاً هـ لا فِيهِ ج صَعَداً هـ أَحَداً هـ لمن قرأ وَأَنَّهُ بالفتح لِبَداً هـ أَحَداً هـ رَشَداً هـ مُلْتَحَداً هـ وَرِسالاتِهِ ط أَبَداً هـ لا لأن حتى للابتداء بما بعدها عَدَداً هـ لا أَمَداً هـ أَحَداً هـ لا رَصَداً هـ عَدَداً هـ. التفسير: روى يونس وهرون عن أبي عمرو وحي بضم الواو من غير ألف. والوحي والإيحاء بمعنى وهو إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء وسرعة كالإلهام وإنزال الملك وقد مر مرارا. وقرىء أُحْيِ بقلب الواو همزة. والكلام في الجنّ اسما وحقيقته قد سلف في الاستعاذة وكذا بيان اختلاف الروايات أنه صلى الله عليه وسلم هل رأى الجن أم لا، وذلك في آخر سورة «حم الأحقاف» . والذي أزيده هاهنا ما ذكره بعض حكماء الإسلام أنه لا يبعد أن تكون الجن أرواحا مجردة كالنفوس الناطقة، ثم يكون لكل واحد منهم تعلق بجزء من أجزاء الهواء كما أن أول متعلق النفس الناطقة هو الروح الحيواني في القلب، ثم بواسطة سريان ذلك الهواء في جسم آخر كثيف يحصل التدبير والتصرف فيه كما للنفس الناطقة في البدن، ومنهم من جوز أن يكون الجن عبارة عن النفوس الناطقة التي فارقت أبدان الإنسان فتتصرف فيما يناسبها من الأرواح البشرية التي لم تفارق بعد فتعينها بالإلهام إن كانت خيرة، وبالوسوسة إن كانت بالضد. أما الذاهبون إلى أن الجن أجسام فمنهم الأشاعرة القائلون بأن البنية ليست شرطا في الحياة وأنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علما بأمور كثيرة وقدرة على أعمال شاقة، فعند هذا ظهر القول بإمكان وجود الجن سواء كانت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 368 أجسامهم لطيفة أو كثيفة وسواء كانت أجزاؤهم صغارا أو كبارا. ثم الأمر بالخروج إليهم وقراءة القرآن عليهم لا أنه رآهم وعرف جوابهم. والله تعالى أوحى في هذه السورة. ومنهم من قال: البنية شرط وأنه لا بد من صلابة في البنية حتى يكون قادرا على الأفعال الشاقة. ومن الأولين من جوز أن يكون المرئي حاضرا والشرائط حاصلة والموانع مرتفعة، ثم أنا لا نراه. وأعلم أن ما ذكرنا في تفسير الأحقاف عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم ما رأى الجن. وعن ابن مسعود أنه رآهم. فالجمع بين القولين أن ما ذكره ابن عباس لعله وقع أولا فأوحى الله إليه في هذه السورة أنهم قالوا كذا وكذا، أو رآهم وسمع كلامهم وآمنوا به، ثم رجعوا إلى قومهم وذكروا لقومهم على سبيل الحكاية إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً إلى آخره كقوله في «الأحقاف» فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الآية: 29] أوحى الله تعالى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ما جرى بينهم وبين قومهم. والفائدة فيه أن يعلم أنه مبعوث إلى الثقلين وأن الجن مكلفون كالأنس وأنهم يسمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا، وأن المؤمن منهم يدعو سائرهم إلى الإيمان. وأجمع القراء على فتح أَنَّهُ اسْتَمَعَ لأنه فاعل أُوحِيَ وكذا على فتح وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا وَأَنَّ الْمَساجِدَ لأنه يعلم بالوحي فهما معطوفان على أَنَّهُ اسْتَمَعَ وأجمعوا على كسر إِنَّا في قوله إِنَّا سَمِعْنا لأنه وقع بعد القول. وفي البواقي خلاف، فمن كسر فمحمول على مقول القول وأنه صريح من كلام الجن، ومن فتح فعلى أنه فاعل أُوحِيَ ولا بد من تقدير ما في الحكاية ليكون حكاية كلام الجن كأنه قيل: وحكوا أنه تعالى جد ربنا إلى آخره إلا في قوله وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ فإنه كاللذين تقدماه يصح وقوعه فاعل أُوحِيَ من غير تقدير، وجوز صاحب الكشاف فيمن قرأ بفتح الكل في قوله وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا وكذلك البواقي أن يكون معناه صدقنا. قلت: وفيه نظر لنبوه عن الطبع في أكثر المواضع إذ لا معنى لقول القائل مثلا: صدقنا أنا لمسنا السماء وصدقنا أنا لما سمعنا الهدى آمنا به. وبالجملة فكلامه في هذا المقام غير واضح ولا لائق بفضله. قوله سبحانه عَجَباً مصدر وضع موضع الوصف للمبالغة أي قرآنا عجبا بديعا خارجا عن حد أشكاله بحسن مبانيه وصحة معانيه يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي الصواب أو التوحيد والإيمان فَآمَنَّا بِهِ لأن الإيمان بالقرآن إيمان بكل ما فيه من التوحيد والنبوة والمعاد، ويجوز أن يكون الضمير لله لأن قوله وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا يدل عليه بعد دلالة الحال ولن نعود إلى ما كنا عليه من الشرك. ذكر الحسن أن فيهم يهود ونصارى ومجوسا ومشركين. قلت: ومما يدل على أن فيهم نصارى قوله تعالى وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي عظمته مكن قولهم «جد فلان في عيني» أي عظم. وفي حديث عمر كان الرجل منا إذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 قرأ البقرة وآل عمران جد فينا. ويحتمل أن يراد ملكه وسلطانه أو غناه استعارة من الجد الذي هو الدولة والبخت لأن الملوك والأغنياء هم المجدودون. وفي الحديث «لا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» «1» قال أبو عبيدة: لا ينفع ذا الغنى منك غناه. وفي حديث آخر «قمت على باب الجنة فإذا غلقه من يدخلها من الفقراء وإذا أصحاب الجد محبوسون» «2» يعني أصحاب الغنى في الدنيا أي ارتفع غنى ربنا عن الاحتياج إلى الصاحبة والاستئناس بالولد كأنهم بسماع القرآن تنبهوا على خطا أهل الشرك من أهل الكتاب وغيرهم. فقوله مَا اتَّخَذَ بيان للأول. وقيل: الجد أبو الأب وإن علا فهو مجاز عن الأصل أي تعالى أصل ربنا وهو حقيقته المخصوصة عن جميع جهات التعلق بالغير قاله الإمام في التفسير الكبير. النوع الثالث مما ذكره الجن قوله وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً السفه خفة العقل، والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره ومنه أشط في السوم إذا أبعد فيه أي يقول قولا هو في نفسه شطط، وصف بالمصدر للمبالغة. والسفيه إبليس أو غيره من مردة الجن الذين جاوزوا الحد في طرف النفي إلى أن أفضى إلى التعطيل، أو في طرف الإثبات إلى أن أدى إلى الشريك والصاحبة والولد. الرابع وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي إنما أخذنا قول الغير لأنا ظننا أن لا يفتري الكذب على الله أحد، فلما سمعنا القرآن عرفنا أنهم قد يكذبون. وقال جار الله كَذِباً صفة أي قولا مكذوبا فيه، أو مصدر لأن الكذب نوع من القول. ومن قرأ بالتشديد وضع كَذِباً موضع تقولا ولم يجعله صفة لأن التقول لا يكون إلا كذبا. قال بعض العلماء: فيه ذم لطريقة أهل الطريق وحث على الاستدلال والنظر. الخامس وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ الآية. قال جمهور المفسرين: كان الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في واد قفر خاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد الجن وكبيرهم فيبيت في جوار منهم حتى يصبح. وقال آخرون: إذا قحطوا بعثوا رائدهم فإذا وجد مكانا فيه كلأ وماء رجع إلى أهله فسار بهم، فإذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذ برب هذا الوادي أن يصيبنا آفة يعنون الجن فإن لم يفزعهم أحد نزلوا وربما أفزعهم الجن فهربوا. وقيل: المراد أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس أيضا لكن من شر الجن كأن يقول مثلا: أعوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم من شر جن هذا الوادي. وإنما ذهبوا إلى هذا التأويل ظنا منهم بأن الرجل اسم الإنس لا اسم الجن، وضعف بأنه لم يقم دليل   (1) رواه البخاري في كتاب الأذان باب 155. مسلم في كتاب الصلاة حديث 194 أبو داود في كتاب الصلاة باب 140. الترمذي في كتاب الصلاة باب 108. النسائي في كتاب التطبيق باب 295. (2) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 51. مسلم في كتاب الذكر حديث 93. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 370 على أن الذكر من الجن لا يسمى رجلا. أما قوله فَزادُوهُمْ رَهَقاً فمعناه أن الإنس لاستعاذتهم بهم زادوهم إثما وجراءة وطغيانا وكبرا لأنهم إذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا: سدنا الجن والإنس. وقيل: ضمير الفاعل للجن أي فزاد الجن الإنس خوفا وغشيان شر باغوائهم وإضلالهم فإنهم لما تعوذوا بهم ولم يتعوذوا بالله استولوا واجترءوا عليهم. السادس وَأَنَّهُمْ أي الإنس ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أيها الجن قاله بعضهم لبعض. وقيل: هذه الآية والتي قبلها من جملة الوحي بلا تقدير الحكاية. والضمير في وَأَنَّهُمْ للجن، والخطاب في ظَنَنْتُمْ لأهل مكة. والأولى أن يكون الكلام من كلام الجن لئلا يقع كلام أجنبي في البين. السابع وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ قال أهل البيان: اللمس المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب التعرف، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها. والحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم بمعنى الخدام ولها لم يقل شداد. الثامن وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ إلى آخره وفي قوله شِهاباً رَصَداً وجوه: قال مقاتل: يعني رميا بالشهب ورصدا من الملائكة وهو اسم جمع كما قلنا في حرس. فقوله رَصَداً كالخبر بعد الخبر وقال الفراء: هو فعل بمعنى مفعول أي شهابا قد رصد ليرجم به. وقيل: بمعنى فاعل أي شهابا راصدا لأجله. واعلم أنا قد بينا في هذا الكتاب أن هذه الشهب كانت موجودة قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم وقد جاء ذكرها في الجاهلية وفي كتب الفلاسفة، وإنما غلظت وشدد أمرها عند البعث لئلا يتشوش أمر الوحي بسبب تخليط الكهنة. وفي قوله كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ إشارة إلى أن الجنّ كانوا يجدون بعض المقاعد خالية عن الشهب والحرس والآن ملئت المقاعد كلها. التاسع وَأَنَّا لا نَدْرِي الآية. وفيه قولان: أحدهما لا ندري أن المقصود من منع الاستراق شر أريد بمن في الأرض أم خير وصلاح. وثانيهما لا نعلم أن المقصود من إرسال محمد الذي وقع المنع من الاستراق لأجله هو أن يكذبوه فيهلكوا كما هلك المكذبون من الأمم السالفة، أو أن يؤمنوا فيهتدوا، وفيه اعتراف من الجن بأنهم لا يعلمون الغيب على الإطلاق. العاشر وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي قوم أدون حالا في الصلاح من المذكورين حذف الموصوف واكتفى بالصفة كما في قوله وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] وهذا القسم يشمل المقتصدين والصالحين. وقوله كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً بيان للقسمة المذكورة، فالطرائق جمع الطريقة بمعنى السيرة والمذهب، والقدد جمع قدة من قد كالقطعة من قطع أي كنا قبل الإسلام ذوي مذاهب متفرقة مختلفة أو على حذف المضاف أي كانت طرائقنا طرائق قدد، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة. الحادي عشر وَأَنَّا ظَنَنَّا أي تيقنا وقد استعمل الظن الغالب مكان اليقين أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 371 إن أراد بنا أمر وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي هاربين أو بسبب الهرب إن طلبنا وفيه إقرار منهم بأن الله غالب على كل شيء. الثاني عشر وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى الآية. عنوا سماعهم القرآن وإيمانهم به. وقوله فَلا يَخافُ في تقدير مبتدأ أو خبر أي فهو لا يخاف وإلا قيل بالجزم وبدون الفاء، والفائدة في هذا المساق تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة كأنه وقع فأخبر أنه لا يخاف ودلالة على أنه هو المختص بذلك دون غيره إذ يعلم من بناء الكلام على الضمير أن غيره خائف. وقوله بَخْساً وَلا رَهَقاً على حذف المضاف أي جزاء بخس ولا رهق لأنه لم يبخس أحدا حقا ولا رهق ظلم أحد، وفيه أن المؤمن ينبغي أن يكون غير باخس ولا ظالما. ويجوز أن يراد لا يخاف البخس من الله لأنه يجزي الجزاء الأحسن الأوفر ولا ترهقه ذلة. الثالث عشر وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ أي الجائرون عن طريق الحق بالكفر والعدوان وهو قريب من العاشر إلا أن في هذا النوع تفصيل جزاء الفريقين فذكر الإيعاد صريحا وفي الوعد اقتصر على ذكر سببه وهو تحري الرشد أي طلب الصواب المستتبع للثواب. قال المبرد: أصل التحري من قولهم ذلك أحرى وأحق وأقرب. وقال أبو عبيدة: تحروا توخوا. وفي العدول عن الحقيقة إلى المجاز في جانب الوعد بشارة وإشارة إلى تحقيق الثواب لما عرفت مرارا أن المجاز أبلغ من الحقيقة. قوله وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا معطوف على أَنَّهُ اسْتَمَعَ كما مر ومعناه أوحى إليّ أن الشأن والحديث لو استقام الجن على الطريقة المثلى. وجوز جمع من المفسرين أن يعود الضمير في اسْتَقامُوا إلى الأنس لأن الترغيب في الانتفاع بالماء الغدق إنما يليق بهم لا بالجن، ولأن الآية روي أنها نزلت بعد ما حبس الله المطر عن أهل مكة سبع سنين. وزعم القاضي أن الثقلين يدخلون في الآية لأنه أثبت حكما معللا بعلة وهو الاستقامة فوجب أن يعم الحكم بعموم العلة. وأما قول من يقول إن الضمير عائد إلى الجن فله معنيان: أحدهما لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله ولم يستكبر عن السجود لآدم وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم. وذكر الماء الغدق وهو الكثير كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع لأنه أصل البركات، فتكون الآية نظير قوله وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ [المائدة: 65] وثانيهما لو استقام الجن الذين استمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام لو سعنا عليهم الرزق في الدنيا ليذهبوا بطيباتهم في الحياة الفانية وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا [الزخرف: 33] إلى آخره. وأما الذين قالوا: الضمير عائد إلى الإنس فالوجهان جاريان فيه بعينهما. وعن أبي مسلم: إن المراد بالماء الغدق جنات تجري من تحتها الأنهار يعني في الجنة. واحتجاج الأشاعرة بقوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 372 لِنَفْتِنَهُمْ على أنه سبحانه هو الذي يضل عباده ويوقعهم في الفتن والمحن. والمعتزلة أجابوا بأن الفتنة هنا بمعنى الاختبار كقوله لِيَبْلُوَكُمْ [الملك: 2] ثم بين وعيد المعرضين عن عبادة الله ووحيه. وانتصب عَذاباً صَعَداً على حذف الجار أي في عذاب صعد كقوله ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 42] أو على تضمين معنى الإدخال. والصعد مصدر بمعنى الصعود، ووصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. وقد روى عكرمة عن ابن عباس أن صَعَداً جبل في جهنم من صخرة ملساء يكلف الكافر صعودها ثم يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة، وإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها ثم يكلف الصعود مرة أخرى، وهكذا أبدا ومن جملة الوحي قوله وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ذهب الخليل إلى أن الجار محذوف ومتعلقه ما بعده أي ولأجل أن المساجد لله خاصة فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً فيها عن الحسن عني بالمساجد الأرض كلها لأنها جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم مسجدا وهو مناسب لمدح النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام أي كما أنه مفضل على الأنبياء ببعثه إلى الثقلين فكذلك خص بهذا المعجز الآخر. وقال جمع كثير من المفسرين: إنها كل موضع بني للصلاة ويشمل مساجدنا والبيع والكنائس أيضا. قال قتادة: كان اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم أشركوا بالله فأمرنا بالإخلاص والتوحيد. وعن الحسن أيضا أن المساجد جمع مسجد بالفتح فيكون مصدرا بمعنى السجود. وعلى هذا قال سعيد بن جبير: المضاف محذوف أي مواضع السجود من الجسد لله وهي الآراب السبعة: الوجه والكفان والركبتان والقدمان. وقال عطاء عن ابن عباس: هي مكة بجميع ما فيها من المساجد، وأنها قبة الدنيا فكل أحد يسجد إليها. قال الحسن: من السنة أن الرجل إذا دخل المسجد أن يقول «لا إله إلا الله» لأن قوله فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً في ضمنه أمر بذكر الله بدعائه. قوله وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ هو النبي باتفاق المفسرين. ثم قال الواحدي: هذا من كلام الجن لأن الرسول لا يليق به أن يحكي عن نفسه بلفظ المغايبة. ولا يخفى ضعفه فإنه وارد على طريق التواضع والأدب في الافتخار بالانتساب إلى عبودية المعبود الحق، وهذا طريق مسلوك في المحاورات والمكاتبات. يقولون: عبدك كذا وكذا دون أن يقال «فعلت كذا» . وفي تخصيص هذا اللفظ بالمقام دون الرسول والنبي نكتة أخرى لطيفة هي أن ما قبله النهي عن عبادة غير الله وما بعده ذكر عبادة النبي إياه. فإن كان هذا من جملة الوحي فلا إشكال في النسق، وإن كان من كلام الجن وفرض أن ما قبل قوله وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا أيضا من كلامهم كانت الآيتان المتوسطتان كالاعتراض بين طائفتي كلام الجن. ومناسبة الاستقامة على الطريقة وتخصيص المساجد بعبادة الله وحده لما قبلها ظاهرة فلا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 373 اعتراض على هذا الاعتراض. وفي قوله كادُوا ثلاثة أوجه أظهرها أن الضمير للجن، والقيام قيام النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن فاستمعوا لقراءته متزاحمين عليه متراكمين تعجبا مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه. والثاني أن الضمير للمشركين والمعنى لما قام رسولا يعبد الله وحده مخالفا للمشركين كاد المشركون لتظاهرهم عليه يزدحمون على عداوته ودفعه. والثالث قول قتادة أي لما قام عبد الله تلبدت الإنس والجن وتظاهروا عليه ليطفئوا نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره. ولِبَداً جمع لبدة وهي ما تلبد بعضه على بعض كلبدة الأسد. والتركيب يدور على الاجتماع ومنه اللبد. ومن قرأ قُلْ إِنَّما أَدْعُوا فظاهر وهو أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لأمته المتظاهرين أو للجن هذا الكلام. ومن قرأ على المضي فإخبار من الله تعالى أن نبيه صلى الله عليه وسلم قال للمتظاهرين أو للجن عند ازدحامهم: ليس ما ترون من عبادتي ربي بأمر بديع وإنما يتعجب ممن يدعو غير الله وجوز في الكشاف أن يكون هذا من كلام الجن لقومهم حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أمر أن يخبر أمته بكلمات قاطعة للأسباب والوسائل سوى الإيمان والعمل الصالح. والرشد بمعنى النفع، والضر بمعنى الغي، وكل منهما إمارة على ضده. ثم من هاهنا إلى قوله إِلَّا بَلاغاً اعتراض أكد به نفي الاستطاعة وإثبات العجز على معنى أن الله إن أراد به سوأ لن يخلصه منه أحد ولن يجد من غير الله ملاذا ينحرف إليه. والمقصود أني لا أملك شيئا إلا البلاغ الكائن من الله ورسالاته، فالجار صفة لا صلة لأن التبليغ إنما يعدى ب «عن» قال صلى الله عليه وسلم «بلغوا عني ولو آية» قال الزجاج: انتصب بَلاغاً على البدل أي لن أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به. قلت: على هذا جاز أن يكون استثناء منقطعا. وقيل: أن لا أبلغ بلاغا لم أجد ملتحدا كقولك «أن لا قياما فقعودا» . استدل جمهور المعتزلة بقوله وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ الآية. على أن الفساق من أهل القبلة مخلدون في النار، ولا يمكن حمل الخلود على المكث الطويل لاقترانه بقوله أَبَداً وأجيب بأن الحديث في التبليغ عن الله فلم لا يجوز أن تكون هذه القرينة مخصصة؟ أي ومن يعص الله في تبليغ رسالته وأداء وحيه، ومما يقوي هذه القرينة أن سائر عمومات الوعيد لم يقرن بها لفظ أَبَداً فلا بد لتخصيص المقام بها من فائدة وما هي إلا أن التقصير في التبليغ أعظم الذنوب. وقد يجاب أيضا بأن قوله وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ لا يحتمل أن يجري على عمومه كأن يراد ومن يعص الله بجميع أنواع المعاصي. فمن المحال أن يقول شخص واحد بالتجسيم وبالتعطيل، وإذا صار هذا العام مخصصا بدليل العقل فلم لا يجوز أن يتطرق إليه تخصيص آخر كأن يقال: ومن يعص الله بالكفر. وحينئذ لا يبقى للخصم شبهة بل نقول: لا حاجة إلى التزام تخصيص آخر، فإن الآتي بالكفر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 374 آت بجميع المعاصي الممكنة الجمع. قال جار الله: حَتَّى إِذا متعلق بقوله يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أي يتظاهرون عليه بالعداوة إلى يوم بدر أو إلى يوم القيامة حين يعلم يقينا أن الكافر أضعف الفريقين. وجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار واستقلالهم لعدده كأنه قال: لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا رأوا. ثم أمره بأن يفوّض علم تعيين الساعة إلى الله لأنه عالم الغيب ومِنْ رَسُولٍ بيان لِمَنِ ارْتَضى وفيه أن الإنسان المرتضى للنبوة قد يطلعه الله تعالى على بعض غيوبه، وعلم الكهنة والمنجمين ظن وتخمين فلا يدخل فيه، وعلم الأولياء إلهامي لا يقوى قوة علم الأنبياء كنور القمر بالنسبة إلى ضياء الشمس. وهاهنا أسرار لا أحب إظهارها فلنرجع إلى التفسير. قوله فَإِنَّهُ يَسْلُكُ الأكثرون على أن الضمير لله سبحانه. وسلك بمعنى أسلك. رَصَداً مفعول أي يدخل الله من أمام المرتضى وورائه حفظة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك. وفي الكلام إضمار التقدير. إلا من ارتضى من رسول فإنه يطلعه على غيبه بطريق الوحي ثم يسلك. وقيل: الضمير للمرتضى وسلك بمعنى سار وفاعله الملائكة ورَصَداً حال. قال في الكواشي: ثم بين غاية الإظهار والسلك فقال لِيَعْلَمَ أي ليظهر معلوم الله كما هو الواقع من غير زيادة ولا نقص، ومثل هذا التركيب قد مر مرارا. قال قتادة ومقاتل: أي ليعلم محمد أن قد أبلغ جبرائيل ومن معه من الملائكة الوحي بلا تحريف وتغيير. وقوله مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مع قوله أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا كقوله فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ من الحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى. ثم ما ذكرنا وهو أن المراد بالعلم هو الظهور بقوله وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ من الحكم والشرائع أي وقد أحاط قبل به. ثم عمم العلم فقال وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ من ورق الأشجار وزبد البحار وقطر الأمطار. وعَدَداً مصدر في معنى الإحصاء أو حال أي ضبط كل شيء معدودا محصورا أو تمييز والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 375 (سورة المزمل) (مكية غير آية إِنَّ رَبَّكَ حروفها ثمانمائة وثمانية وثمانون كلماتها مائتان وثمان وخمسون آياتها عشرون) [سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) القراآت: أَوِ انْقُصْ بكسر الواو للساكنين: حمزة وعاصم وسهل. الآخرون: بضمها للإتباع ناشية بالياء: يزيد والشموني والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف. الباقون. بالهمزة وطأ بكسر الواو وسكون الطاء: ابن عامر وأبو عمرو. الآخرون: بالمد مصدر واطأت مواطأة ووطاء رب المشرق بالخفض على البدل من رَبِّكَ ابن عامر ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل. الباقون: بالرفع على المدح أي هورب. وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالنصب فيهما: عاصم وحمزة وعلى وابن كثير وخلف. الوقوف الْمُزَّمِّلُ هـ لا إِلَّا قَلِيلًا هـ لا قَلِيلًا هـ لا تَرْتِيلًا هـ ثَقِيلًا هـ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 376 قِيلًا هـ ط طَوِيلًا هـ ط تَبْتِيلًا هـ ط بالخفض لا يقف وَكِيلًا هـ جَمِيلًا هـ م قَلِيلًا هـ وَجَحِيماً هـ لا أَلِيماً هـ وقد قيل يوصل بناء على أن يوم ظرف لدينا والوقف أجوز لأن ثبوت إلا نكال لا يختص بذلك اليوم بل المراد ذكر يوم كذا أو يوم كذا ترون ما ترون. مَهِيلًا هـ رَسُولًا هـ وَبِيلًا هـ شِيباً هـ لا بناء على أن ما بعده صفة يوما بِهِ ط مَفْعُولًا هـ تَذْكِرَةٌ ج للشرط مع الفاء سَبِيلًا هـ مَعَكَ ط وَالنَّهارَ هـ الْقُرْآنِ ط مَرْضى لا للعطف مِنْ فَضْلِ اللَّهِ لا لذلك فِي سَبِيلِ اللَّهِ ج لطول الكلام والوصل أولى للتكرار فَاقْرَؤُا هـ مِنْهُ لا للعطف حَسَناً ط أَجْراً ط لاختلاف الجملتين اللَّهُ ط رَحِيمٌ هـ التفسير: الْمُزَّمِّلُ أصله المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف بها، فأدغم التاء في الزاء ونحوه المدثر في المثر والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بالإتفاق إلا أنهم اختلفوا في سببه. فعن ابن عباس: أول ما جاءه جبرائيل عليه السلام خافه فظن أن به مسا من الجن فرجع من الجبل مرتعدا وقال: زملوني فبينا هو كذلك إذ جاءه الملك وناداه يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ فهذه السورة على هذا القول من أوائل ما نزل من القرآن قال الكلبي: إنما تزمل النبي صلى الله عليه وسلم بثيابه ليتهيأ للصلاة فأمر بأن يدوم على ذلك ويواظب عليه. ومثله عن عائشة وقد سئلت عن تزمله فقالت: إنه صلى الله عليه وسلم كان تزمل مرطا سداه شعر ولحمته وبر طوله أربع عشرة ذراعا نصفه علي وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي. وقيل: أنه صلى الله عليه وسلم كان نائما بالليل متزملا في قطيفة فنودي بما يهجن تلك الحالة لأنها فعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن فأمر بأن يختار على الهجود التهجد وعلى التزمل الموجب للاستثقال في النوم التشمر للعبادة، وقال عكرمة: اشتقاقه من الزمل الحمل ومنه أزدمله أي احتمله، والمعنى يا أيها الذي احتمل أمرا عظيما يريد أعباء النبوة ويناسبه التكليف بعده بقيام الليل. قال ابن عباس: إنه كان فريضة عليه بناء على ظاهر الأمر ثم نسخ. وقيل: كان واجبا عليه وعلى أمته في صدر الإسلام فكانوا على ذلك سنة أو عشر سنين، ثم نسخ بالصلوات الخمس، قال جار الله: قوله نِصْفَهُ بدل من الليل وإِلَّا قَلِيلًا استثناء من النصف كأنه قال: قم أقل من نصف الليل أو انقص من النصف قليلا أو زد على النصف، خيره بين أمرين بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين: النقصان من النصف أو الزيادة عليه. وإن شئت جعلت نِصْفَهُ بدلا من قَلِيلًا لأن النصف قليل بالنسبة إلى الكل، ولأن الواجب إذا كان هو النصف لم يخرج صاحبه عن العهدة إلا بزيادة شيء فيصير الواجب بالحقيقة نصفا فشيئا فيكون الباقي أقل منه، فكان تخييرا بين ثلاث بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص منه، وبين قيام الزائد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 377 عليه، فلك أن تقول: على تقدير إبدال النصف من الليل إن الضمير في مِنْهُ وعَلَيْهِ راجع إلى الأقل من النصف فكأنه قيل: قم أقل من نصف الليل أو قم أنقص القليل أو أزيد منه قليلا فيكون التخيير فيما وراء النصف إلى الثلث مثلا، وإن شئت على تقدير إبدال النصف من قَلِيلًا جعلت قَلِيلًا الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع كأنه قال: أو انقص منه قليلا نصفه ويجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع كأنه قيل: أو زد عليه أي على الربع قليلا نصفه وهو الثمن فيكون تخييرا بين النصف وحده والربع والثمن معا والربع وحده، هذا حاصل كلامه مع بعض الإيضاح. وأما في التفسير الكبير فقد اختار أن المراد بقوله قَلِيلًا الثلث لقوله تعالى في السورة إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ ففيه دليل على أن أكثر المقادير الواجبة كان الثلثين إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ربما يتفق له خطأ بالاجتهاد أو النوم فينقص شيء منه إلى النصف أو إلى الثلث على قراءة الخفض. وليس هذا مما يقدح في العصمة لعسر هذا الضبط على البشر ولا سيما عند اشتغاله بالنوم ولذلك قال عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فيصير تقدير الآية. قم الثلثين ثم نصف الليل. أو انقص من النصف، أو زد عليه. والغرض التوسعة وأن أكثر الفرض هو الثلثان وأقله الثلث ليكون النقصان من النصف بقدر الزيادة. عن الكلبي قال: كان الرجل يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين. ثم علم أدب القراءة فقال وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا وهو قراءة على تأن وتثبت ولا تحصل إلا بتبيين الحروف وإشباع الحركات ومنه «ثغر مرتل» إذا كان بين الثنايا افتراق ليس بالكثير، ومنه قال الليث: الترتيل تنسيق الشيء وثغر رتل حسن التنضيد كنور الأقحوان. سئلت عائشة عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا كسر دكم. هذا لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها. وفي قوله تَرْتِيلًا زيادة تأكيد في الإيجاب وأنه لا بد للقاريء منه لتقع قراءته عن حضور القلب وذكر المعاني فلا يكون كمن يعثر على كنز من الجواهر عن غفلة وعدم شعور. حين أمره بقيام الليل وبتدبر القرآن فيه وعده بقوله إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا كأنه قال: صير نفسك بأنوار العبادة والتلاوة مستعدة لقبول الفيض الأعظم وهو القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة على نفوس البشر. وقيل: ثقله أنه كان إذا نزل عليه الوحي تربد جلده وارفض جبينه عرقا. ومنه قيل «برحاء الوحي» . وقال الحسن: أراد ثقله في الميزان وقال أبو علي الفارسي: ثقيل على المنافقين من حيث إنه يهتك أستارهم وقال الفراء: كلام له وزن وموقع لأنه حكمة وبيان ليس بالسفساف وما لا يعبأ به. وقيل: باق على وجه الدهر لأن الثقيل من شأنه أن لا يزول عن حيزه. وقيل: يثقل إدراك معانيه وإحضارها. والفرق بين أقسامها من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والظاهر والمؤل. ثم عاد إلى حكمة الأمر بقيام الليل فقال إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ فيها قولان: أحدهما أنها ساعات الليل إما كلها لأنها تنشأ أي تحدث واحدة بعد أخرى، وإما الساعات الأول ما بين المغرب والعشاء وهو قول زين العابدين وسعيد بن جبير والضحاك والكسائي وذلك أنها مبادئ نشوء الليل. والثاني أنها عبارة عن الأمور التي تحدث في الليل. وعلى هذا اختلفوا فمنهم من قال: هي النفس الناشئة بالليل أي التي تنشأ من مضجعها للعبادة أي تنهض وترتفع من نشأت السحابة إذا ارتفعت. ومنهم من قال: هي مصدر كالعاقبة أي قيام الليل. ولا بد من سبق النوم لما روي عبيد بن عمير قلت لعائشة: رجل قام من أول الليل أتقولين له قام ناشئة الليل؟ قالت: لا إنما الناشئة القيام بعد النوم. وقد فسرها بعض أهل المعنى بالواردات الروحانية والخواطر النورانية والانفعالات النفسانية للإبتهاج بعالم القدس وفراغ النفس من الشواغل الحسية التي تكون بالنهار. الوطاء والمواطأة الموافقة. قال الحسن: يعني النفس أشد موافقة بين السر والعلانية أو القلب أو اللسان لانقطاع رؤية الخلائق، أو يواطيء فيها قلب القائم لسانه، إن أردت الساعات، أو القيام. ومن قرأ وطأ بغير فالمعنى أشد ثبات قدم وأبعد من الزلل وأثقل وأغلظ على المصلي من صلاة النهار ومنه قوله «اللهم أشدد وطأتك على مضر» وَأَقْوَمُ قِيلًا وأشد مقالا وأثبت قراءة لهدوّ الأصوات وسكون الحركات فلا يكون بين القراءة وبين تفهم معانيها حائل ولا مشوش. قال في الكشاف: عن أنس إنه قرأ و «أصوب قيلا» فقيل له: يا أبا حمزة إنما هي أَقْوَمُ فقال: إنهما واحد. قال ابن جني: وهذا يدل على أن القوم كانوا يعتبرون المعاني ولا يلتفتون نحو الألفاظ. قال العلماء الراسخون: هذا النقل يوجب القدح في القرآن فالواجب أن يحمل النقل لو صح على أنه فسر أحد اللفظين بالآخر لا أنه زعم أن تغيير لفظ القرآن جائز. ثم أكد أمر قيام الليل بقوله إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا قال المبرد: أي تصرفا وتقلبا في مهماتك فلا تفرغ لخدمة الله إلا بالليل ومنه السابح لتقلبه بيديه ورجليه. وقال الزجاج: أراد أن ما فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه. وقيل: أن لك في النهار مجالا للنوم والاستراحة وللتصرف في الحوائج. ثم بين أن أشرف الأعمال عند قيام الليل ما هو فصله في شيئين ذكر اسم الرب والتبتل إليه وهو الانقطاع إلى الله بالكلية والتبتل القطع، الأول مقام السالك والثاني مقام المشاهد. فالأول كالأثر والثاني كالعين وإنما لم يقل وبتل نفسك إليه تبتيلا لأن المقصود بالذات هو التبتل فبين أولا ما هو المقصود ثم أشار أخيرا إلى سببه تأكيدا مع رعاية الفاصلة. ثم أشار إلى الباعث إلى التبتل فقال رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 379 لأن التكميل والإحسان موجب المحبة وجبلت القلوب على حب من أحسن إليها والمحبة تقتضي الإقبال على المحبوب بالكلية لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وهو إشارة إلى كماله تعالى في ذاته والكمال محبوب لذاته، وهذا منتهى مقامات الطالبين وإنه يستدعي رفع الإختيار من البين وتفويض الأمر بالكلية إلى المحبوب الحقيقي حتى أن المحبوب لو كان رضاه في عدم التبتل إليه رضي المحب بذلك، وإن كان رضاه في التبتل والتوجه نحوه فهو المطلوب لا من حيث إنه تبتل بل من حيث إنه مراد المحبوب الحق جل ذكره. وقوله فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا كالنتيجة لما قبله، وفيه إن من لم يفوض كل الأمور إليه لم يكن راضيا بإلهيته معترفا بربوبيته، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه شر الكفار وأعداء الدين. ثم أمره بالصبر عند الاختلاط وبالهجر الجميل إذا أراد أن لا يخالطهم. والهجر الجميل أن يخالفهم بقلبه ويداريهم بالإغضاء وترك المكافآت ومن المفسرين من قال: إنه منسوخ بآية القتال وقد عرفت مرارا أنه لا ضرورة إلى التزام النسخ. في أمثال هذه الآية. ثم أمره بأن يخلي بينه وبين المكذبين أصحاب الترفه. والنعمة بالفتح التنعم وهم صناديد قريش ولم يكن هناك منع ولكنه سبحانه أجرى الكلام على عادة المحاورات، والغرض أنه سبحانه يكفي في رفع شرور الكفرة ودفع إيذائهم ثم فصل ما سيعذب به أهل التكذيب مما يضاد تنعمهم. والإنكال جمع نكل بالكسر أو نكل بالضم وهي القيود الثقال. عن الشعبي: إذا ارتفعوا استلفت بهم. والطعام ذو الغصة هو الذي ينشب في الحلق كالزقوم والضريع فلا ينساغ، وقد يمكن حمل هذه الأمور على العقوبات الروحانية فالإنكال عبارة عن بقاء النفس في قيود العلائق الحسية والملكات الوهمية، والجحيم نيران الحسرة والحيرة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة. ثم إنه يتجرع غصة الحرمان وألم الفراق الجلال والبقاء في ظلمة الضلال والتنوين في هذه الألفاظ للتعظيم أو النوع. ثم وصف اليوم فيه هذه الأحوال والأهوال فقال يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ الرجفة الزلزلة والكثيب الرمل المجتمع «فعلي» «بمعنى» «مفعول» من كثب الشيء جمعه. وقال الليث. الكثيب نثر التراب أو الشيء يرمي به. وسمي الكثيب كثيبا لأن ترابه دقاق كأنه نثر بعضه على بعض لرخاوته، والمهيل السائل تراب مهيل ومهيول أي مصبوب وإنما لم يقل كثيبة مهيلة لأنها بأسرها تجتمع فتصير واحدا، أو المراد كل واحد منها، وحين خوف المكذبين بأهوال الآخرة خوفهم بأهوال الدنيا مثل ما جرى على الأمم السالفة لا سيما فرعون وجنوده. وإنما خصص قصة موسى بالذكر لأن أمته أكثر الأمم الباقية ومعجزاته أبهر فكان تشبيه نبينا صلى الله عليه وسلم بحاله أنسب. ومعنى شاهِداً عَلَيْكُمْ كما مر في قوله وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] إنما عرّف الرسول ثانيا لأنه ينصرف إلى المعهود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 380 السابق في الذكر والأخذ الوبيل الثقيل الغليظ ومنه الوابل للمطر العظيم. قال أبو زيد: هو الذي لا يستمر ألو خامته ومنه كلأمستوبل. ثم عاد إلى توبيخهم مرة بعد أخرى قائلا فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً وانتصب يَوْماً على أنه مفعول به ل تَتَّقُونَ أي كيف تحذرون ذلك اليوم لو كفرتم أي إن جحدتم يوم الجزاء فكيف تدعون تقوى الله وخوف عقابه؟ ويجوز أن يكون ظرفا ل تَتَّقُونَ أي فيكف لكم بالتقوى يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا؟ ثم ذكر من هول ذلك اليوم شيئين: الأول أنه يجعل الولدان شيبا جمع أشيب نحو بيض جمع أبيض فقيل: إنه وصفه بالطول بحيث يبلغ الأطفال فيه أوان الشيخوخة والشيب. والأكثرون على أنه مثل في الشدة كما قيل «يوم يشيب نواصي الأطفال» والأصل فيه قول الحكماء إن الهموم والأحزان تسرع الشيب لإقتضائهما احتباس الروح إلى داخل القلب المستتبع لانطفاء الحرارة الغريزية المستعقب لفجاجة الأخلاط واستيلاء البلغم المتكرج. وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الولدان شيبا حقيقة لأن إيصال الألم والخوف إلى الصبيان غير جائز. وجوزه بعضهم بناء على أن ذلك اليوم أمر غير داخل تحت التكليف وقد حكي أن رجلا أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب وأصبح وهو أبيض الرأس واللحية فقال: أرأيت القيامة والنار في المنام ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك وأصبحت كما ترون. الثاني قوله السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ وإنما ذكر السماء لأن تأنيثه غير حقيقي، أو بتأويل السقف، أو بتأويل الشيء المنفطر أو ذات انفطار. والباء في بِهِ بمعنى «في» عند الفراء، أو للآلة نحو فطرت العود بالقدوم أي أنها تنفطر بسبب هول ذلك اليوم، أو تثقل به إثقالا يؤدي إلى انفطارها كقوله ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 187] كانَ وَعْدُهُ أي وعد الله وقيل وعد اليوم فيكون من باب إضافة المصدر إلى المفعول إِنَّ هذِهِ الآيات المشتملة على التكاليف والتخاويف تَذْكِرَةٌ موعظة شافية فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى قرب رَبِّهِ سَبِيلًا بالإتعاظ والادكار والتوسل بالطاعة والتجنب عن المعصية. قال المفسرون: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شمروا بعد نزول أوائل السورة عن ساق الجد في شأن قيام الليل، وتركوا الرقاد حتى انتفخت أقدامهم واصفرت ألوانهم فلا جرم رحمهم ربهم وخفف عنهم قائلا إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ أقل منهما. قال أهل المعاني والبيان: انما استعير الأدنى للأقل لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز وَتقوم نِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وهذا مطابق لما مر أو لأن التخيير بين النصف والناقص منه إلى الثلث وبين الزائد على النصف إلى الثلثين. ومن قرأ بالجر فمعناه يقوم أقل من الثلثين وهو النصف، وأقل من النصف وهو ثلثه، وأقل من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 الثلث وهو الربع وهو مطابق للوجه الآخر. وقوله وَطائِفَةٌ عطف على المستتر في تَقُومُ وجاز من غير تأكيد للفصل وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ فلا يعرف ما مضى من كل منهما أي آن يفرض إلا هو. وهذا الحصر ينبيء عنه بناء الكلام على الاسم دون الفعل. ثم أكد المعنى المذكور بقوله عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي لا يصح منكم ضبط أوقات الليل كما هي إلا أن تأخذوا بالأوسع الأحوط وذلك شاق عليكم فَتابَ عَلَيْكُمْ ما فرط منكم في مساهلة حصر الأوقات ورفع تبعته عنكم فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ الأكثرون على أن القراءة هاهنا عبارة عن الصلاة كما يعبر عنها بالقيام والركوع والسجود، والمعنى فصلوا ما تيسر عليكم بالليل فيكون هذا ناسخا للأول. ثم إنهما نسخا جميعا بالصلوات الخمس، أو نسخ هذا وحده بهن. وعن بعضهم أنها القراءة حقيقة. وروي «من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن ومن قرأ مائة آية أو خمسين كتب من القانتين» «1» ثم بيّن الحكمة في النسخ فقال عَلِمَ وهو استئناف على تقدير السؤال عن وجه النسخ. و «أن» في قوله أَنْ سَيَكُونُ مخففة من الثقيلة اسمها الشأن و «كان» تامة أي سيوجد مِنْكُمْ مَرْضى هي جمع مريض وَآخَرُونَ عطف عليه في الموضعين سوى الله سبحانه بين المسافرين للكسب الحلال والمجاهدين في سبيله فما أنصف من جانبه من العلماء مستنكفا عنه إلى طلب ما لم يجوز أخذ الأجرة عليه كالإمامة والقضاء والتدريس يرى أنه منصب من المناصب الدينية فيضيع دينه للذة خيالية لا اعتداد بها عند العقلاء. عن عبد الله بن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رحل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله، وعن عبد الله ابن مسعود مرفوعا ظنا. أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء. وظاهر أن المرضى لا يمكنهم الإشتغال بالتجهد لمرضهم. وأما المسافرون والمجاهدون فمشتغلون في النهار بالأعمال الشاقة، فلو اشتغلوا بالعبادة في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم قوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ من إعادة الأوّل تأكيدا للرخصة، عن ابن عباس: سقط عن أصحاب النبي قيام الليل وصار تطوعا وبقي ذلك فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم. ثم أمر بإقامة الصلوات الخمس وإيتاء الزكاة وهذا أيضا مما يغلب على الظن أن الآية مدنية. وقيل: هي زكاة الفطر. ثم أشار إلى صدقة التطوع بقوله وَأَقْرِضُوا اللَّهَ ويحتمل أن يعود هذا أيضا إلى الزكاة أي أقرضوا الله بإيتاء الزكاة، وفيه أن   (1) رواه أبو داود في كتاب رمضان باب 9. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 28، 29، 30. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 إخراج الزكاة ينبغي أن يكون على أحسن وجه من مراعاة النية الخالصة والصرف إلى المستحقين وكونها من أطيب الأموال لا أقل من الوسط. ثم حث على الإنفاق مطلقا بقوله وَما تُقَدِّمُوا الآية وقوله هُوَ صيغة الفصل. وقوله خَيْراً ثاني مفعولي تَجِدُوهُ ثم حرض على الاستغفار في جميع الأحوال وإن كان طاعات لما عسى أن يقع فيها تفريط وإليه المرجع والمآب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 383 (سورة المدثر) (مكية حروفها ألف وعشرة كلماتها مائتان وخمس وخمسون آياتها ست وخمسون) [سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 56] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) القراآت الرُّجْزَ بضم الراء: يزيد وسهل ويعقوب وحفص والمفضل والآخرون: بالكسر تِسْعَةَ عَشَرَ بسكون العين لتوالي الحركات: يزيد والخراز عن هبيرة إذا بسكون الذال أَدْبَرَ من الإدبار: نافع ويعقوب وحمزة وخلف وحفص والمفضل. الباقون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 384 إذا بالألف دبر من الدبور. مستنفرة بفتح الفاء: أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل تخافون بتاء الخطاب: ابن مجاهد والنقاش عن أبي ذكوان وما تذكرون على الخطاب: نافع ويعقوب. الوقوف: الْمُدَّثِّرُ هـ لا فَأَنْذِرْ هـ لا فَكَبِّرْ هـ ك فَطَهِّرْ هـ ك فَاهْجُرْ هـ ك تَسْتَكْثِرُ هـ ك فَاصْبِرْ هـ ط وقد يجوز الوقوف على الآيات قبلها إلا على الأولى النَّاقُورِ هـ لا عَسِيرٌ هـ يَسِيرٍ هـ وَحِيداً هـ لا مَمْدُوداً هـ ك شُهُوداً هـ ك تَمْهِيداً هـ ك أَنْ أَزِيدَ هـ كَلَّا ط عَنِيداً هـ ط للإبتداء بالتهديد صَعُوداً هـ ك للإبتداء بأن وَقَدَّرَ هـ لا قَدَّرَ هـ لا نَظَرَ هـ لا وَبَسَرَ هـ ك وَاسْتَكْبَرَ هـ ك يُؤْثَرُ هـ ك الْبَشَرِ هـ سَقَرَ هـ لا ما سَقَرُ هـ ط لتناهي الاستفهام وَلا تَذَرُ هـ م لأن التقدير هي لواحة مع اتحاد المقصود لِلْبَشَرِ ط للآية ولأن ما بعده من تمام المقصود عَشَرَ هـ ط مَلائِكَةً ص لاتفاق الجملتين مع استقلال كل منهما بنفي واستثناء كَفَرُوا لا لتعلق اللام وَالْمُؤْمِنُونَ لا لذلك مَثَلًا ط وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ط إِلَّا هُوَ ط لِلْبَشَرِ هـ قد يوصل على جعل كَلَّا ردعا والوقف على لِلْبَشَرِ دون كَلَّا صواب لأنه تأكيد القسم بعدها وَالْقَمَرِ هـ لا إِذْ أَدْبَرَ هـ لا أَسْفَرَ هـ لا الْكُبَرِ هـ لِلْبَشَرِ هـ يَتَأَخَّرَ هـ ط رَهِينَةٌ هـ لا الْيَمِينِ هـ ط على تقديرهم في جنات يتساءلون فيها. والوقف على جَنَّاتٍ أولى لعدم الإضمار سَقَرَ هـ الْمُصَلِّينَ هـ الْمِسْكِينَ هـ الْخائِضِينَ هـ ك الدِّينِ هـ لا الْيَقِينُ هـ الشَّافِعِينَ هـ ج للإبتداء بالاستفهام به مُعْرِضِينَ هـ لا لأن ما بعده صفتهم مُسْتَنْفِرَةٌ هـ ط قَسْوَرَةٍ هـ ط مُنَشَّرَةً هـ ط كَلَّا للردع عن الإرادة الْآخِرَةَ لا على جعل كَلَّا بمعنى حقا تَذْكِرَةٌ ج للشرط مع الفاء ذَكَرَهُ هـ اللَّهُ هـ الْمَغْفِرَةِ هـ التفسير: روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت على جبل حراء فنوديت يا محمد إنك رسول الله، فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئا، فنظرت فوقي فرأيت الملك قاعدا على عرش بين السماء والأرض فخفت ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني وصبوا عليّ ماء باردا، ونزل جبرائيل وقال يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وروى الزهري مثله، وقريب منه ما قيل: إنه تحنث في غار حراء فقيل له يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ المغطى بدثار اشتغل بدعوة الخلق، فالسورة على هذا من أوائل ما نزول. وقيل: سمع من قريش ما كرهه كما يجيء حكايته عن الوليد فاغتم فتغطى بثوبه مفكرا فأمر أن لا تدع إنذارهم وتصبر على أذاهم. وقيل: أراد يا أيها المدثر بدثار النبوة مثل لباس التقوى. والدثار ما فوق الشعار، والشعار الثوب الذي يلي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 الجسد قال صلى الله عليه وسلم «الأنصار شعار والناس دثار» «1» قوله قُمْ أي من مضجعك أو قم قيام عزم وتصمم. وقوله فَأَنْذِرْ متروك المفعول لئلا يختص بأحد نحو «فلان يعطي» أي فافعل الإنذار وأوجده وقيل: أراد فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا. قوله وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي عظم ربك مما يقول عبدة الأوثان، أو من أن يأمرك بالإنذار من غير حكمة وصلاح عام. وعن مقاتل: وهو نفس التكبير. يروى أنه لما نزل قال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر فكبرت خديجة وفرحت وأيقنت أنه الوحي وقد يحمل على تكبير الصلوات ولا يبعد أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر صلوات مخصوصة والفاءات في فَكَبِّرْ وما يتلوها لتلازم ما قبلها وما بعدها كأنه قيل: مهما كان من شيء فلا تدع تكبيره. وقوله وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ في تفسيره وجوه أربعة: أحدها أن يترك كل من لفظي الثياب والتطهير على ظاهره. فعن الشافعي أن المراد الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس والأقذار ولا ريب أن هذا هو الأصل إلا أن في غير حال الصلاة أيضا لا يحل استعمال النجس أولا يحسن فقبح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثا. وروي أنهم ألقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلى شاة فرجع إلى بيته حزينا وتدثر ثيابه فقيل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ولا تمنعك تلك الناهية عن الإنذار. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ عن أن لا ينتقم منهم وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ عن تلك النجاسات والقاذورات الثاني: الثياب حقيقة والتطهير كناية عن التقصير لأن العرب كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم. وقال علي عليه السلام: قصر ثيابك فإنه أتقى وأبقى وأنقى. وقيل: تطهيرها أن لا تكون مغصوبة ولا محرمة بل تكون مكتبسة من وجه حلال. الثالث: عكسه فعبر عن الجسد بالثياب لاشتماله على النفس. وكان العرب لا يتنظفون وقت الاستنجاء فأمر النبي صلى الله عليه وسلم وسلم بالتنظيف. الرابع: أن يكون كل من اللفظين مجازا قال القفال: إنهم لما لقبوه بالساحر شق عليه ذلك فرجع إلى بيته وتدثر فكان ذلك إظهار جزع وقلة صبر فأمر بحسن الخلق وتهذيب الأخلاق أي طهر قلبك عن الصفات الذميمة كقطع الرحم وعزم الانتقام والسآمة من الدعوة إلى دين الله لأجل أذى القوم. وهذا بعد مناسبته لخطابه بالمدثر مجاز مستعمل يقال: فلان طاهر الجيب نقي الذيل إذا كان بريئا من المثالب. ويقال: المجد في ثوبيه والكرم في برديه وذلك أن الثواب كالشيء الملازم للإنسان فجعل طهارته كطهارته، ولأن الغالب أن من طهر باطنه طهر ظاهرة. وقيل: هو أمر بالاحتراز عن الآثام والأوزار التي كان يقدم عليها قبل النبوة. وهذا تأويل من حمل قوله وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ [الشرح: 2] على آثام الجاهلية: وقيل:   (1) رواه البخاري في كتاب المغازي باب 56. مسلم في كتاب الزكاة باب 139. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 11. أحمد في مسنده (2/ 419) (3/ 242) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 386 معناه نساءك طهرهن. وقد يكنى عن النساء بالثياب هن لباس لكم. قوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ هو بالكسر والضم العذاب والمراد اهجر ما يؤدي إليه من عبادة الأوثان وغيرها أي أثبت على هجره مثل أهدنا، وهذا يؤكد تأويل من حمل قوله وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ على تحسين الأخلاق والاجتناب عن المعاصي وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ لا تعط مستكثرا رائيا لما أعطيته كثيرا بل يجب أن تستحقرها وترى أن للأخذ حرمة عليك بقبول ذلك الإنعام، وهذا نهاية الكرم على أن الاستكثار ينبيء على المنة وهي مبطلة للعمل كما قال لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [البقرة: 267] فقوله تَسْتَكْثِرُ مرفوع والجملة في موضع الحال منصوبا، ويجوز أن يكون الأصل لأن تستكثر فحذف اللام ثم «أن» وأبطل عملها كما روي «ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى» بالرفع. واختار أبو علي الفارسي الوجه الأول إلا أنه قال: تأويله لا تمنن مقدرا الاستكثار كما في قول القائل: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا. وأقول: هذا التأويل مما لا حاجة إليه لأن طلب الكثرة مقرون بالإعطاء بخلاف الصيد غدا. وذهب جم غفير من المفسرين إلى أنه نهى عن الاستقراض وهو أن يهب شيئا طامعا في أن يأخذ أكثر منه فيكون نهى تنزيه لأنه جاء في الحديث «المستغزر يثاب من هبته» ويجوز أن يكون نهي تحريم خاصا برسول الله لأن منصبه يجل عن طلب الدنيا خصوصا بهذا الوجه. ومنهم من حمله على الرياء فيكون نهي تحريم للكل والمن معنى. وقال القفال: يحتمل أن يكون المقصود النهي عن طلب العوض زائدا أو مساويا أو ناقصا. أما الزائد فظاهر. وأما المساوي والناقص فلأن طالب العوض كاره أن ينتقص المال بسبب العطاء فكأنه يطلب الكثرة. ويجوز أن يقال: إنما حسنت هذه الاستعارة لأن الغالب أن الثواب يكون زائدا على العطاء فسمي طلب الثواب استكثارا حملا للشيء على أغلب أحواله، وكما أن الأغلب أن المرأة ذات الولد إنما تتزوج للحاجة إلى من يربي ولدها فسمي الولد ربيبا، ثم اتسع ولد المرأة ربيبا. وإن كان كبيرا خارجا عن حد التربية أمر صلى الله عليه وسلم أن يكون عطاؤه خاليا عن انتظار العوض والتفات النفس إليه كيف كان حتى يقع خالصا لوجه الله ويكون صابرا محتسبا. وعن الحسن وغيره أنه لما أمره الله بإنذار القوم وتكبير الرب وتطهير الثياب وهجران الرجز قال وَلا تَمْنُنْ على ربك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما تفعله بل اصبر على ذلك كله ويؤكده قوله بعد ذلك وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أي استعمل الصبر في مظانه خالصا لوجه ربك وقيل: لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين والوحي كالمستكثر لذلك بأمر الله. وقيل: لا تمنن عليهم بنبوتك لتستكثر أي لتأخذ منهم على ذلك أجرا فيكثر مالك. وقال مجاهد: لا تمنن أي لا تضعف من قولك «حبل من» أي ضعيف ومنه «منّه السير» أي أضعفه. والمعنى لا تضعف أن تستكثر من هذه الأوامر ووجه الرفع ما مر في قوله «أحضر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 الوغى» قوله فَإِذا نُقِرَ الفاء للتسبيب كأنه قال: اصبر على التكاليف المعدودة وعلى أذى المشركين فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك والفاء في فَذلِكَ للجزاء. وانتصب فَإِذا بما دل عليه الجزاء لأن المعنى: فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين «فاعول» من النقر كالهاضوم من الهضم، يشبه أن يكون البناء للآلة لأن الهاضوم ما به يهضم. فالناقور ما ينقر به وهو الصور باتفاق المفسرين، فكأنه آلة النقر أي النفخ وذلك أن النفخ سبب حدوث الصوت في المزامير كما أن النقر سبب الحدوث في الآلات ذوات الأوتار. قال الجوهري في الصحاح فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ أي نفخ في الصور. وقد يلوح من كلام الإمام فخر الدين الرازي في التفسير الكبير أن النقر غير النفخ. وهكذا من كلام الحليمي في كتاب «المنهاج» وذلك أنه قال: جاء في الأخبار إن في الصور ثقبا بعدد الأرواح كلها فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النقر و «النفخ» لتكون الصيحة أهول وأعظم. وإذا نفخ فيه للإحياء لم ينقر فيه. واقتصر على النفخ لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها ويظهر من فحوى كلامه أنه حمل هذا النقر على أنه مقرون بالنفخة الأولى بعد أن أثبت المغايرة. ومن المفسرين من ذهب إلى أن النفخة الثانية أهول لأنه سبحانه أخبر أن ذلك الوقت شديد على الكافرين، والإصعاق ليس بشديد عليهم ولذلك يقولون يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ [الحاقة: 27] أي يا ليتنا بقينا على الموتة الأولى. قلت: لا دليل في هذا لأن الإصعاق شديد عليهم لا محالة، ثم إذا جاءت النفخة الثانية رأوا من الأهوال ما تمنوا حالة الإصعاق. أو نقول: مبدأ الشدة من حين الإصعاق ثم يصير الأمر بعد ذلك أشد لأنهم يناقشون في الحساب وتسود وجوههم وتتكلم جوارحهم إلى غير ذلك من القبائح والأهوال، فلذلك يحتمل أن يكون إشارة إلى النقر ويتم الكلام بتقدير مضاف أي فَذلِكَ النقر يَوْمَئِذٍ نقر يَوْمٌ عَسِيرٌ فالعامل في يَوْمَئِذٍ هو النقر. ويجوز أن يكون إشارة إلى اليوم ويَوْمَئِذٍ مبني على الفتح ولكنه مرفوع المحل بدلا منه كأنّه قيل: فيوم النقر يوم عسير وقوله غَيْرُ يَسِيرٍ تأكيد كقولك «أنا محب لك غير مبغض» وفائدته أن يعلم أن عسره على الكافرين ولا يرجى زواله كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا، أو يراد أنه عسير على الكل لأن أكثر الأنبياء يقول: نفسي نفسي والولدان يشيبون إلا أن الكافر يختص بمزيد العسر بحيث يكون اليسر منفيا عنه رأسا ويعلم هذا من تقديم الظرف. روى المفسرون أن الوليد بن المغيرة المخزومي وجماعة من صناديد قريش كأبي جهل وأبي لهب وأبي سفيان والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاصي بن وائل اجتمعوا وقالوا: ان وفود العرب يجتمعون في أيام الحج ويسألوننا عن أمر محمد فكل منا يجيب بجواب آخر فواحد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 388 يقول مجنون. وآخر يقول: كاهن وآخر يقول: شاعر فتستدل العرب باختلاف الأجوبة على كون هذه الأجوبة باطلة، فهلموا نجتمع على تسمية محمد باسم واحد. فقال واحد: إنه شاعر فقال الوليد: سمعت كلام عبيد بن الأبرص وكلام أمية بن أبي الصلت وكلامه ما يشبه كلامهما. فقال الآخر. وهو كاهن. فقال الوليد: إن الكاهن يصدق تارة ويكذب أخرى ومحمد ما كذب قط. فقال آخر: إنه مجنون فقال الوليد: المجنون يخيف الناس وما يخيف محمد أحدا قط فقام الوليد وانصرف إلى بيته فقال الناس: صبأ الوليد فدخل أبو جهل وقال: مالك يا أبا عبد شمس؟ هذه قريش تجمع لك شيئا زعموا أنك احتجت وصبأت فقال الوليد: مالي إليه حاجة ولكني فكرت في أمر محمد فقلت: إنه ساحر لأنه يفرق بين الرجل ووالده ومواليه وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل. فأجمعوا على تلقيب محمد صلى الله عليه وسلم بهذا اللقب وفرحوا بذلك وتعجبوا عن كياسته وفكره ونظره ثم إنهم خرجوا ونادوا بمكة إن محمدا لساحر، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اشتد عليه ورجع إلى بيته حزينا فتدثر بقطيفة وأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ الآية. ثم إنه هدد الوليد وسلى نبيه بقوله ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وهو كقوله في المزمل وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [الآية: 11] وقوله وَحِيداً من غير شكة أحد أو من «مفعول» خلقت المحذوف أي خلقته وهو وحيد فريد لا مال له ولا ولد. ويجوز أن يكون نصبا على الذم والمراد أذم وحيدا بناء على أن الوليد كان يلقب بالوحيد فإن كان علما فلا إشكال، وإن كان صفة على ما روى أنه كان يقول أنا الوحيد بن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي نظير، وهو استهزاء به وتهكم بحسب ظنه واعتقاده نحو ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] فيفيد أنه ليس وحيدا في العلو والشرف ولكنه وحيد في الخبث والدناءة والكفر. وقيل: إن وَحِيداً مفعول ثان قال أبو سعيد الضرير: الوحيد الذي لا أب له فيكون طعنا في نسبه كما في قوله عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [ن: 13] وفي المال الممدود وجوه أظهرها أنه المال الذي يكون له مدد يأتي منه الخير بعد الخير على الدوام كالزرع والضرع وأنواع التجارات، ولهذا فسره عمر بن الخطاب بغلة شهر بشهر. وقال ابن عباس: هو ما كان له بين مكة والطائف من صنوف الأموال. وعلى هذا يكون المال الممدود إما بمعنى المدد كما قلنا، أو بمعنى امتداد مكانه. وقريب منه ما روى مقاتل أنه كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره صيفا ولا شتاء. ومن المفسرين من قدر المال الممدود فقال: ألف دينار أو أربعة آلاف أو تسعة آلاف أو ألف ألف فهذه تحكمات لا أصل لها إلا أن تكون رواية صحيحة أن مال الوليد على أحد هذه الأعداد وحينئذ يمكن أن يقال: العبرة بعموم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 389 اللفظ لا بخصوص السبب وفي قوله وَبَنِينَ شُهُوداً وجوه: أحدها أنهم حضور معه بمكة لا يفارقونه لاستغنائهم عن الكسب وطلب المعاش فهو مستأنس بهم غير محزون بفراقهم. الثاني أنهم رجال يشهدون معهم بمكة في المجامع والمحافل. الثالث أنهم من أهل الشهادات في الحكومات يسمع قولهم ويعتد بهم. وأما عددهم فعن مجاهد: عشرة وقيل: ثلاثة عشر وقيل: سبعة كلهم رجال: الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس. قال جار الله: أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام وعمارة. قلت: إنه أبقى الوليد بن الوليد في حوزة الكفرة وهو مسلم حسن الإسلام مشهور الصحبة كما ذكره رشيد الدين الوطواط في رسالته، وصاحب سر السلف سيد الحفاظ أبو القاسم فيه أن الوليد بن الوليد ابن المغيرة كان من المستضعفين حبسه المشركون فدعا النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته: اللهم أنج الوليد ابن الوليد وعياش بن أبي ربيعه وسلمة بن هشام. ثم قدم المدينة فتوفى بها فكفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قميصه وكانت أم سلمة تندبه. أبكى الوليد بن الوليد بن المغيرة ... أبكى الوليد بن الوليد أخا العشيرة وقال ابن الأثير في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤلف كتاب «جامع الأصول» : هو الوليد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي أخو خالد بن الوليد، أسر يوم بدر كافرا وفداه أخواه خالد وهشام، فلما فدى أسلم فقيل له: هلا أسلمت قبل أن تفتدي؟ فقال: كرهت أن تظنوا اني أسلمت جزعا من الإسار فحبسوه بمكة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت مع من يدعو له من المستضعفين بمكة ثم أفلت من أيديهم ولحق بالمدينة. والعجب من جار أنه ذكر في سورة الزمر في تفسير قوله قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أن الوليد أسلم وأسلم معه نفر وهاجروا ثم إنه أبقاه هاهنا في بقية الكفار. قوله وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أي وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه فأتممت عليه نعمتي المال والجاه، واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا حتى جعلوه دعاء الخير فيما بينهم قائلين «أدام الله تأييدك وتمهيدك» أي بسطتك وتصرفك في الأمور. وكان الوليد من وجهاء قريش وصناديدهم ولذلك لقب بالوحيد وريحانة قريش. ومعنى «ثم» في قوله ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ استبعاد وتعجب من طمعه وحرصه على الزيادة بعد أن لم يعرف حق بعض ما أوتي. قال الكلبي ومقاتل: ثم يرجو أن أزيد في ماله وولده وقد كفر بي. وقيل: إن تلك الزيادة في الآخرة كأن يقول إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي. ثم قال الله تعالى كَلَّا حتى افتقر ومات فقيرا. ثم علل الردع على وجه الاستئناف كأن قائلا قال: لم لا يزداد؟ فقال: لأنه كانَ لِآياتِنا عَنِيداً معاندا والكافر لا يستحق المزيد ولا سيما إذا كان كفره أفحش أنواعه وهو كفر العناد، ومما يدل على أن كفره كفر عناد بعد ما حكينا عنه ما روي أن الوليد مر برسول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 390 الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ حم السجدة فرجع وقال لبني مخزوم: والله لقد سمعت آنفا من محمد كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن. إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى، ولا ريب أن من عرف هذا القدر ثم زعم أن القرآن سحر فإنه يكون معاندا، والعنيد هو الذي كان العناد خلقه وديدنه فلشدة عناده وصفه الله تعالى به. وتقديم الظرف يدل على أن عناده كان مختصا بآيات الله وإن كان تاركا للعناد في سائر الأمور. وفي جمع الآيات إشارة إلى أنه كان منكرا للتوحيد والنبوة والبعث وغير ذلك من دلائل الدين ومعجزاته ولهذا أو عده الله سبحانه أشد الوعيد قائلا سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً أي سأصعده عقبة شاقة المصعد وفيه قولان: أحدهما الظاهر وهو ما روي عن النبي «الصعود جبل من نار يصعد فيه خمسين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا» «1» وعنه صلى الله عليه وسلم «يكلف أن يصعد عقبة من النار كلما وضع عليها يده ذابت فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت» الثاني إنه مثل لما سيلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق كما مر في قوله يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً [الجن: 17] ثم فسر كيفية عناده بقوله إِنَّهُ فَكَّرَ ماذا يقول في القرآن وَقَدَّرَ في نفسه كلاما فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ وهذا الكلام ما ينطق به العرب عند التعجب والاستعظام يقولون: قتله الله ما أشجعه. وقاتله ما أشعره، وأخزاه ما أظرفه. والمراد أنه قد بلغ المبلغ الذي حق له أن يحسد فيدعى عليه. والمعنى في الآية التعجب من قوة خاطره. أنه كيف استنبط هذه الشبهة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بحيث وأفق غرض قريش كما حكينا وهي بالحقيقة ثناء على طريق الاستهزاء. ومعنى ثُمَّ الداخلة في تكرير الدعاء الدلالة على أن التعجب في الكرة الثانية أبلغ من الأولى، أو هي حكاية لما كرره من قوله تعالى قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ويجوز أن يكون التقدير الأخير تقديرا للتقدير أي ينظر فيه بتمام الاحتياط فهذا ما يتعلق بأحوال قلبه. ثم وصفه بأحوال ظاهره قائلا ثُمَّ نَظَرَ في وجوه القوم ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ قال الليث: عبس عبوسا إذا قطب ما بين عينيه فإن أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل: كلح وَاسْتَكْبَرَ عن الإيمان ويحتمل أن يقال: قدر ما يقوله ثم نظر فيه احتياطا والدعاء بينهما اعتراض، ثم قطب في وجه النبي ثم أدبر عن الحق واستكبر عنه. ومعنى «ثم» في هذه الأفعال سوى فعل الدعاء الثاني المهلة. والفاء في قوله تعالى فَقالَ للدلالة على أنه كما تولى واستكبر ذكر هذه الشبهة، أو أن الكلمة لما خطرت بباله بعد التفكر لم يتمالك أن نطق بها من غير تراخ. وقوله يُؤْثَرُ من الأثر بالسكون الرواية كما مر أو من الإيثار أي هو مختار على جميع أنواع السحر. قوله إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ جار   (1) رواه الترمذي في كتاب جهنم باب 2. تفسيره سورة 74 باب 2. بلفظ «سبعين» بدل «خمسين» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 391 مجرى التوكيد من الجملة الأولى ولهذا لم يتوسط العاطف بينهما. أراد بذلك أنه ملفوظ من كلام غيره. ومن تأمل في هاتين الجملتين عرف أنه حكاية كلام مفتخر غير خاف عليه وجوه الحيل ودفع الحق الصريح ولذلك جازاه الله بقوله سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ولعله بدل من قوله سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ثم قال وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ والمراد التهويل: ثم بينه بقوله لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ قال بعضهم: معناهما واحد والتكرير للمبالغة. وقال آخرون: لا بد من الفرق: فروى عطاء عن ابن عباس أنها لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئا فإذا أعيدوا خلقا جديدا فلا تترك إحراقهم وهكذا أبدا. وقيل: لا تبقي من المستحقين للعذاب إلا عذبتهم، ثم لا تذر من أبدان أولئك المعذبين شيئا إلّا أحرقته. وقيل: لا تبقى على شيء ولا تذر من قوتها شيئا إلا استعملته والتقدير هي لا تبقى بدليل قوله خبرا بعد خبر لَوَّاحَةٌ ويجوز أن يكون هذا خبرا لمبتدأ آخر. قال أكثر المفسرين: هي من لاحه العطش ولوحه أي غيره وذلك أنها تسود البشرة وهي أعلى الجلود بإحراقها. واعتراض الحسن والأصم بأن وصفها بالتغيير لا يناسب بعد قوله لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ نعم لو عكس الترتيب لاتجه لأنها تغير البشرة أولا ثم تفنيها، فمعنى لواحة لماعة من لاح البرق ونحوه يلوح إذا لمع والبشر بمعنى الإنسان وذلك أنها تظهر لهم من مسيرة خمسمائة عام. ثم بين أن عدد الخزنة الموكلين عليها تِسْعَةَ عَشَرَ فترك المميز فقيل صنفا. والأكثرون شخصا مالك وثمانية عشر أعينهم كالبرق وأنيابهم كالصياصي يجرون أشعارهم يخرج اللهب والنار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر، نزعت الرأفة والرحمة منهم يأخذ أحدهم سبعين ألفا في كفه ويرميهم حيث أراد من جهنم. وذكر العلماء في تخصيص هذا العدد وجوها فقال المتشرعون: هذا مما لا يصل إليه عقول البشر كأعداد السموات والأرضين والكواكب وأيام السنة والشهور. وكأعداد الزكاة والكفارات والصلوات. وقيل: إن العدد على وجهين: قليل وهو من الواحد إلى التسعة، وكثير وهو من العشرة إلى ما لا نهاية، فجمع بين نهاية القليل وبداية الكثير. وقيل: إن ساعات اليوم بليلته أربع وعشرون، خمس منها تركت لأجل الصلوات الخمس والباقية لكل منها يعذب من يضيعها في غير حق الله. وقيل: إن أبواب جهنم سبعة، وله للفساق زبانية زبانية واحدة بسبب ترك العمل، ولكل من الأبواب الباقية ثلاثة أملاك لأن الكفار يعذبون لأجل أمور ثلاثة: ترك الاعتقاد وترك الإقرار وترك العمل. قال الحكيم: إن فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية والعملية هو بسبب استعماله القوى الحيوانية والطبيعية لا على وجهها. والقوى الحيوانية الشهوة والغضب. والحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة. والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة، فلما كان منشأ الإفادة هذه القوى التسع عشر لا جرم كان عدد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 392 الزبانية كذلك. يروى أنه لما نزلت الآية قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال المسلمون: ويحكم أتقاس الملائكة بالحدادين أي السجانين؟ وجرى هذا مثلا في كل شيئين لا يسوىّ بينهما وأنزل الله تعالى وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي وما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون ويرحمون فإن الجنسية مظنة الرأفة ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم من جنس الأمة ليكون بهم رؤفا رحيما. ولا استبعاد في كون الملائكة في النار غير معذبين بناء على القول بالفاعل المختار، ولعلهم غلبت عليهم النارية فصارت لهم طبعا كالحيوانات المائية. وقوله وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً الآية. هو على مذهب أهل السنة ظاهر، وأما على أصول المعتزلة فقال الجبائي: المراد بالفتنة تشديد التعبد، استدلوا به على كمال قدرة الله تعالى وقال الكعبي: هي الامتحان فيؤمن المؤمن بالمتشابه ويفوض حكمة التخصيص بهذا العدد إلى الخالق، والكافر يعترض عليه. وقال: بعضهم: أراد ما وقعوا فيه من الكفر بسبب إنكارهم والتقدير إلا فتنة على الذين كفروا، وحاصله يرجع إلى ترك الألطاف. وأجيب عن هذه التأويلات بأن تنزيل المتشابهات لا بد أن يكون له أثر في تقوية داعية الكفر وإلا كان إنزالها كلا إنزال. ومع هذا الترجيح لا يحصل الإيمان البتة وهو المعنى بالإضلال. واعلم أن في الآية دلالة على أنه سبحانه جعل افتتان الكافر بعدد الزبانية سببا لأمور أربعة: أولها لِيَسْتَيْقِنَ ثانيها وَيَزْدادَ ثالثها وَلا يَرْتابَ رابعها وَلِيَقُولَ وفيه إشكال. قال جار الله: ما جعل افتتانهم بالعدد سببا ولكنه وضع فِتْنَةً موضع تِسْعَةَ عَشَرَ تعبيرا عن المؤثر باللفظ الدال على الأثر تنبيها على أن هذا الأثر من لوازم ذلك المأثر. وقال آخرون: تقديره وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للكافرين وإلا ليستيقن كما يقال: فعلت كذا لتعظيمك ولتحقير عدوك. قالوا: والعاطف يذكر في هذا الموضع تارة ويحذف أخرى. وأما سبب استيقان أهل الكتاب فهو أنهم قرؤا هذا العدد في كتابهم ولكنهم ما كانوا واثقين لتطرق التحريف إلى كتابهم. فلما سمعوا ذلك في القرآن تيقنوا بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبرهم بما في كتابهم من غير سابقة دراسة وتعلم. ولأنه أخبر كفار قريش بهذا الأمر الغريب من غير مبالاة باستهزائهم وتكذيبهم فعرفوا أنه من قبيل الوحي وإلا لم يجترئ على التكلم به خوفا من السخرية. وأما زيادة إيمان المؤمنين فحمل على آثاره ولوازمه ونتائجه. وأما نفي الارتياب عن أهل الكتاب والمؤمنين بعد إثبات الاستيقان وزيادة الإيمان لهم فمن باب التوكيد كأنه قيل: حصل لهم يقين جازم بحيث لا يحصل بعده شك وريب. فإن الذي حصل له اليقين قد يغفل عن مقدمة من مقدمات الدليل فيعود له الشك. وفيه أيضا تعريض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 393 بحال من عداهم كأنه قيل: وليخالف حالهم حال المرتابين من أهل الزيغ والكفران، وأما الذين في قلوبهم مرض فهم أهل النفاق الذين أحدثوا بعد ذلك لأن السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق وإنما حدث بالمدينة، ففي الآية إخبار بالغيب وقد وقع مطابقا فكان معجزا. واللامات في الأمور الأربعة للغاية عند الأشاعرة، والمعتزلة يسمونها لام العاقبة وقد مر في مواضع. وقوله ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا إلى قوله مَنْ يَشاءُ قد مر في «البقرة» . وجعل مثل هذا العدد مثلا لغرابته حيث لم يقل عشرين وسواه والمعنى أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب مع أنهم منكرون له من أصله. والكاف في كَذلِكَ منصوب المحل أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل ويهدي. قوله وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إشارة إلى أن ما عليه عدد الخزنة لا يعلم حكمته ولا حكمة ما عليه كل جند من العدد إلى حين الأبد إلا الله سبحانه كما يقوله أهل الحق وقد مر. وقيل: إن القوم قد استقلوا ذلك العدد فقال تعالى في جوابهم: هبوا أن هؤلاء تسعة عشر إلا أن لكل واحد من الأعوان والجنود ما لا يحصيهم إلا الله وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ لفرط كثرتها إِلَّا هُوَ فلا يعسر عليه تتميم الخزنة عشرين وأزيد ولكن له في هذا العدد حكمة اختص هو بمعرفتها. قوله وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى متصل بوصف سقر. وقوله وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إلى هاهنا اعتراض أي وما سقر وصفتها إلا موعظة للناس. ويحتمل أن يعود الضمير إلى هذه الآيات المشتملة على هذه المتشابهات وهي ذكرى لجميع العالمين وإن لم ينتفع بها إلا أهل الإيمان وقوله كَلَّا قيل: إنكار لأن يكون للكفار ذكرى لأنهم لا يتذكرون أو ردع لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيرا، أو ردع لقول أبي جهل وأصحابه أنهم يقدرون على مقاومة خزنة النار، أو ردع لهم عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة. وقد مر أنه يجوز أن يكون بمعنى حقا تأكيدا للقسم بعده. قال الفراء: دبر وأدبر بمعنى واحد كقبل وأقبل. روى بعضهم أن ابن عباس كان يعيب قراءة الثلاثي ويقول: إنما يدبر ظهر البعير. وفي صحة الرواية نظر لأن القراآت السبع كلها متواترة. قال الواحدي: والقراءتان عند أهل اللغة سواء ومنه أمس الدابر. وعلى هذا يكون دبور الليل وإدباره وإسفار الصبح أي إضاءته كشيء واحد. قال أبو عبيدة وابن قتيبة: هو من دبر الليل النهار إذا خلفه. ثم قال إِنَّها أي إن سقر التي جرى ذكرها لَإِحْدَى البلايا أو الدواهي الْكُبَرِ جمع الكبرى. قال جار الله: جعلت ألف التأنيث كتائها فكما جمعت «فعلة» على «فعل» جمعت «فعلى» عليه. ونظير ذلك «السوافي» في جمع «السافياء» وهو التراب الذي يسفيه الريح. «والقواصع» في جمع «القاصعاء» كأنها فاعلة. وقال المفسرون: المراد من الكبر دركات جهنم وهي سبع: جهنم ولظى والحطمة وسعير وسقر والجحيم والهاوية. فعلى هذا معنى كون سقر إحداهن ظاهر. وقال أهل المعاني: أراد أنها من بين الدواهي واحدة في العظم لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 394 نظير لها ونَذِيراً تمييز من إحدى أي إنها لإحدى الدواهي إنذارا كما تقول: هي إحدى النساء عفافا وقيل نَذِيراً حال ومن غريب التفسير أن نَذِيراً متصل بأول السورة أي قم فأنذر نذيرا. ثم قال لِمَنْ شاءَ السبق أو هو خبر وما بعده وهو أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ مبتدأ كقولك لمن توضأ أن يصلي أنه مطلق لمن شاء السعي إلى الخير أو التخلف عنه. «أو» للتهديد كقوله فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] ويجوز أن يكون لِمَنْ شاءَ بدلا من قوله لِلْبَشَرِ أي إنها منذرة للذين إن شاؤا تقدموا ففازوا وإن شاؤا تأخروا فهلكو. واستدلال المعتزلة على أن العبد مختار ظاهر، والأشاعرة يحملونه على التهديد أو على أن فاعل شاء هو الله سبحانه أي لمن شاء الله منه التقدم أو التأخر. سلمنا أن الفاعل ضمير عائد إلى من لكن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله لقوله وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ثم أكد المعنى المتقدم بقوله كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ أي ليس لامرئ إلا جزاء عمله كما مر نظيره في «الطور» . قال النحويون: التاء في رهينة ليست للتأنيث لأن «فعيلا» بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم. وأقول أيضا: يحتمل أن تكون التاء للمبالغة إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فإنهم فكوا رقابهم عن الرهن بسبب أعمالهم الحسنة كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق. قال الكلبي: هم الذين كانوا على يمين آدم. وقال ابن عباس: هم الملائكة. وعن علي عليه السلام وابن عمر: هم الأطفال. قال الفراء: هذا القول أشبه بالصواب لأن الولدان لم يكتسبوا إثما يرتهنون به، ولأنه تعالى ذكر فيهم أنهم يتساءلون عن حال المجرمين وهذا إنما يليق بالولدان الذين لا يعرفون موجب دخول النار والأولون حملوا السؤال على التوبيخ والتخجيل. قال في الكشاف: معنى التساؤل عنهم أنهم يسأل بعضهم بعضا عن حالهم. أو يتساءلون غيرهم عنهم كقولك «دعوته أنا وتداعيناه نحن» . ثم زعم أن الوجه في قوله ما سَلَكَكُمْ على الخطاب مع أن سياق الكلام يقتضي الغيبة هو أنه حكاية قول المسئولين لأن المسئولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون قلنا لهم ما سلككم فِي سَقَرَ وقال غيره: المراد أن أصحاب اليمين كانوا يتساءلون عن المجرمين أين هم، فلما رأوهم قالوا لهم ما سلككم؟ وأقول: ولو فرض التكلم مع المجرمين زال الإشكال أي يتساءلون عن حال المجرمين أي عن حال أنفسهم وليس فيه إلا وضع المظهر مكان الضمير. وهذا التكرار مما جاء في القرآن وغيره من فصيح الكلام شائعا ذائعا كقوله فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأعراف: 162] «أن يسألوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 395 الحق يعطي الحق سائله» . وإذا جاز ذلك مع التصريح بهما فكيف لم يجز وأحدهما محذوف؟ وهذا من غرائب نظم القرآن وفصاحته غير بعيد، والمعنى ما أدخلكم في هذه الدركة من النار؟ فأجابوا بأن ذلك لأمور أربعة: أحدها ترك الصلاة، والثاني ترك إطعام المسكين. قال العلماء: يجب أن يحمل هذان على الصلاة والصدقة الواجبتين وإلا لم يجز العذاب على تركهما. الثالث الشروع في الأباطيل مع أهلها كإيذاء أهل الحق وكل ما لا يعني المسلم. الرابع التكذيب بالبعث والجزاء إلى حين عيان الموت وأمارات ظهور نتائج أعمال المكلف عليه، وقد يستدل بالآية على أن الكفار معذبون بفروع الشرائع كما يعذبون بأصولها كالتكذيب بيوم الدين. وإنما أخر لأنه أعظم الذنوب أي إنهم بعد ذلك كله يكذبون بهذا الأصل كقوله ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد: 17] ويجوز أن يكون سبب التأخير أنه آخر الأصول فأوّلها المبدأ وآخرها المعاد. وأيضا أراد أن يرتب عليه قوله حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ وهو آخر حالات المكلف فلو قدم لم يحسن معنى ولا لفظا لوقوع الفصل بين المعطوفات. قال في الكشاف: يحتمل أن كل واحد منهم دخل النار لمجموع هذه الأربع، أو دخلها بعضهم ببعضها والباقون بسائرها أو بكلها. قلت: إنهم جميعا مستوون في الدركة والظاهر أنهم دخلوها بمجموع الأمور، ثم بين غاية خسرانهم بقوله فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ وفيه دليل على أن غيرهم تنفعهم الشفاعة وذلك لغير الفساق عند المعتزلة، وفائدة الشفاعة زيادة درجاتهم أو العفو عن صغائرهم، ثم وبخهم بقوله فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ أي عن القرآن الذي هو سبب الموعظة مُعْرِضِينَ حال نحو مالك قائما كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ من قرأ بكسر الفاء فمعناه الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها، وفي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة ونداء عليهم بالبلادة والغباوة وعدم التأثر من مواعظ القرآن بل صار ما هو سبب لاطمئنان القلوب موجبا لنفرتهم، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش ولا سيما إذا رابها ريب ولهذا وصف الحمر بقوله فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ وهى اسم جمع للرماة أو اسم جنس للأسد وهو القهر والغلبة، وقال ابن عباس: هي ركز الناس وأصواتهم. وعن عكرمة: ظلمة الليل. ومن قرأ بفتح الفاء فهي المحمولة على النفار. ورجح بعضهم قراءة الكسر بناء على أن الفرار يناسب النفار. ذكر المفسرون أنهم قالوا لرسول الله: لا نتبعك حتى تأتي لكل واحد منا بكتب من السماء بصحف عنوانها من رب العالمين. إلى فلان ابن فلان نؤمر فيها باتباعك. وروى بعضهم انهم قالوا: إن كان محمدا صادقا فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءة وأمنة من النار فأنكر الله تعالى فقال: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً أي قراطيس منشرة تقرأ كسائر الصحف، أو منشرة على أيدي الملائكة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 396 أنزلت ساعة كتبت قبل أن تطوى. وقيل: كانوا يقولون: بلغنا أن بني إسرائيل كان الرجل منهم يصبح مكتوبا على رأسه ذنبه وكفارته فائتنا بمثل ذلك. فعلى هذا المراد بالصحف الكتابات الظاهرة المكشوفة. ثم زجرهم عن اقتراح الآيات فقال كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ فلذلك أعرضوا عن التذكرة. ثم وصف القرآن بأنه موعظة بليغة وتذكر شاف فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ وتذكير الضمير هاهنا وفي إنه بتأويل الذكر أو القرآن. ثم بين السبب الأصلي في عدم التذكرة قائلا وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ واستدلال الأشعري به ظاهر، والمعتزلة حملوه على مشيئة القسر والإلجاء. ثم ختم السورة بذكر ما ينبىء عن كمال الهيبة وهو صفة القهر الذي بسببه يجب أن يتقي، وصفة اللطف الذي به يجب أن يرجى، والله الموفق للصواب وإليه المصير والمآب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 397 (سورة القيامة) (وهي مكية حروفها ثلاثمائة واثنان وخمسون كلماتها مائة وتسع وتسعون آياتها أربعون) [سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 40] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) القراآت: روى الهاشمي وابن ربيعة عن قنبل لأقسم على أن اللام حرف الابتداء أي لأنا أقسم ولا خلاف في قوله وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ برق بفتح الراء: أبو جعفر ونافع. الآخرون: بكسرها تُحِبُّونَ وتَذَرُونَ على الخطاب أبو جعفر ونافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف وَلا صَلَّى إلى اخر السورة بالإمالة اللطيفة: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة الشديدة. يُمْنى على التذكير: حفص والمفضل وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ورويس. الباقون: بتاء التأنيث. الوقوف: الْقِيامَةِ هـ لا اللَّوَّامَةِ هـ عِظامَهُ هـ ط لاستئناف الجواب أي بلى نجمعها بَنانَهُ هـ أَمامَهُ هـ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف الْقِيامَةِ هـ ج الْبَصَرُ هـ لا الْقَمَرُ هـ ك الْمَفَرُّ هـ ك لأن كلا يصلح للردع عن الفرار والأجوز لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 398 وَزَرَ هـ ط الْمُسْتَقَرُّ هـ ط وَأَخَّرَ هـ ط بَصِيرَةٌ هـ لا مَعاذِيرَهُ هـ لا لِتَعْجَلَ بِهِ هـ ط وَقُرْآنَهُ هـ ج لاحتمال أن «ثم» لترتيب الأخبار بَيانَهُ هـ ط الْعاجِلَةَ هـ الْآخِرَةَ هـ ناضِرَةٌ هـ ج ناظِرَةٌ هـ ج للفصل بين أهل السعادة والشقاوة باسِرَةٌ هـ فاقِرَةٌ هـ ط التَّراقِيَ هـ لا راقٍ هـ ك الْفِراقُ هـ ك بِالسَّاقِ هـ ك الْمَساقُ هـ ك وَلا صَلَّى هـ لا وَتَوَلَّى هـ ك يَتَمَطَّى هـ ط للعدول إلى الخطاب فَأَوْلى هـ لا سُدىً هـ ط يُمْنى هـ فَسَوَّى هـ ك وَالْأُنْثى هـ ط الْمَوْتى هـ التفسير: المشهور أن «لا» في لا أُقْسِمُ صلة زائدة كما مر في قوله فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: 75] واعترض عليه بوجوه أحدها: أنه يوجب الطعن في القرآن بحيث أنه لا يبقى الوثوق بنفيه وإثباته قلت: إذا عرف من استعمالات العرب زيادة لا في هذا الفعل المخصوص لم يبق للطاعن مجال على أن الحكم بزيادتها إنما هو بالنظر إلى أصل المعنى وإلا فلها في التركيب معان: الأول كأنها نفي لكلام قبل القسم وذلك أنهم أنكروا البعث كما أخبر الله في آخر السورة المتقدمة فقيل: ليس الأمر على ما ذكرتم ثم أقسم بكذا وكذا إنه لواقع. والثاني أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له فكأنه بإدخال حرف القسم يقول: إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام إنه يستأهل فوق ذلك. الاعتراض الثاني أن هذا الحرف إنما يزاد في وسط الكلام لا في أوّله وأجيب بالمنع، ألا ترى أن أمرأ القيس كيف زادها في مستهل قصيدته: فلا وأبيك ابنة العامري ... لا يدّعي القوم أني أفرّ وفائدة الزيادة كما تقرر. وقد يجاب بأن القرآن كله في حكم كلام واحد متصل بعضه ببعض ولا سيما هذه السورة وآخر السورة المتقدمة عليها ولكني أسألك غير مقسم أتحسب أنا لا نجمع عظامك إذا تفرقت بالموت، فإن كنت تحسب ذلك فاعلم أنّا قادرون عليه. وقيل: المعنى على الاستفهام الإنكاري والتقدير: ألا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة على أن الحشر حق. وهذا التأويل يعضده قراءة من قرأ لأقسم على أن اللام للابتداء. وقال بعضهم: على هذه القراءة إنه أقسم بالقيامة تعظيما لها ولم يقسم بالنفس اللوامة تحقيرا لها لأنها إما كافرة بالقيامة مع عظم أمرها، وإما فاسقة مقصرة في العمل. أما تفسير النفس اللوامة فقد سبق لنا في سورة يوسف في قوله إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [الآية: 53] بيان سبب تسمية النفس تارة بالأمارة وأخرى باللوامة ثم بالملهمة ثم بالمطمئنة. والذي ذكره المفسرون هاهنا وجوه منها ما قال ابن عباس: كل نفس فإنها تلوم نفسها يوم القيامة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 399 على ترك الازدياد من الطاعة إن كانت محسنة، أو على التفريط إن كانت مسيئة. وضعف بعضهم هذا النقل بناء على أن أهل الجنة لا يكون لهم مثل هذه الخواطر وإلا لدام حزنهم. وعن الحسن أن هذا اللوم في الدنيا والمؤمن لا تراه إلا لائما نفسه وإن الكافر يمضي على سيرته لا يعاتب نفسه. ومنها أنها النفوس المتقية التي تلوم النفس العاصية يوم القيامة بسبب أنها تركت التقوى. ولا يخفى وجه المناسبة بين القسمين أعني بين القيامة وبين النفس اللوامة على هذه الوجوه. وخص النفس اللوامة بعضهم بآدم عليه السلام وذلك أنه لم يزل يتلوم على فعله الذي خرج به من الجنة. وقيل: أن الإنسان خلق هلوعا فأي شيء طلبه إذا وجده مله فيلوم نفسه على أني لم طلبت فلكثرة هذا العمل سميت باللوامة. والجمهور على أن جواب القسم محذوف وهو لتبعثن دل عليه قوله أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ وفي الأقسام بيوم القيامة على وقوع يوم القيامة مزيد تقرير وتأكيد لوقوعه فإن الأقسام بالمعدوم لا يعقل معناه، وفي ضم النفس الوامة إليه تنبيه على أن الغرض من القيامة وهو إظهار أحوال النفس ومراتبها في السعادة وضدها. قال جمع من الأصوليين: الإنسان في الآية هو المكذب بالبعث على الإطلاق وقال ابن عباس: هو أبو جهل. وقال آخرون: إن عدي بن ربيعة ختن الأخنس بن شريق وهما اللذان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهما: اللهم اكفني جاري السوء. قال: يا محمد حدثنا عن يوم القيامة كيف أمره فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو عانيت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أومن به، أو يجمع الله العظام؟ فأنزل الله سبحانه أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ الآية. قوله قادِرِينَ حال مؤكدة لانه يستحيل جمع العظام بدون القدرة الكاملة التي نبه عليها بقوله أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ لأن من قدر على ضم سلاميات الأصبع مع صغرها ولطافتها كما كانت، كان على ضم العظام الكبار أقدر، وإنما خص البنان وهو الأنملة بالذكر لأنه آخر ما يتم به خلقه فذكره يدل على تمام الأصبع يدل على تمام سائر الأعضاء التي هي أطرافها. وقيل: معنى التسوية جعلها شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار بحيث لا يقدر على البطش، والمراد أنه قادر على رد العظام والمفاصل إلى هيأتها الأولى وعلى ضد ذلك قوله بَلْ يُرِيدُ إضراب عن قوله والظاهر أنه إيجاب ويجوز أن يكون استفهاما مقدرا. ومعنى لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ليدوم على فجوره في الأوقات التي بين يديه وهي المستقبلة. وهذا فحوى قول سعيد بن جبير يقدم الذنب ويؤخر التوبة حتى يأتيه الموت على شر أحواله. قال أهل النظم: وإن إنكار البعث يتولد تارة من الشبهة بأن يستبعد اجتماع الأجزاء بعد تفرقها وتلاشيها، وأخرى من التهور بأن ينكر المعاد باسترسال الطبع والميل إلى الفجور، فأشار إلى الجواب عن الشبهة بقوله أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ إلى قوله بَنانَهُ وأنكر على الثاني بقوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 400 بَلْ يُرِيدُ أن يكذب بما أمامه من البعث والحساب لئلا تنتقص عنه اللذات العاجلة يَسْئَلُ سؤال تنعت أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ثم ذكر من أمارات الساعة أمورا أولها فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ أي تحير فزعا وأصله من برق الرجل بالكسر إذا تأثر ناظره من تأمل البرق، ثم استعمل في كل حيرة. ومن قرأ بفتح الراء فهو من البريق أي لمع من شدة شخوصه كقوله إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إبراهيم: 42] وثانيها وَخَسَفَ الْقَمَرُ أي ذهب ضوءه كما يشاهد في الدنيا وقت خسوفه، أو ذهب بنفسه من قوله فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [القصص: 81] وهذا التفسير عندي لا يلائم ما بعده لأن الجمع بينه وبين الشمس بعد انعدامه غير معقول ظاهرا. وثالثها وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ قيل: أي في اطلاعهما من المغرب. وقيل: في ذهاب الضوء. وقيل: يجتمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران كما جاء في الحديث، ولعل ذلك لأنهما عبدا من دون الله، والثور مثل في الذل والبلادة فإذا كان عقيرا أي جريحا كان أبلغ في ذلك. وقيل: يجمعان ثم يقذفان في البحر فيكون نار الله الكبرى. طعن الملاحدة في الآية بأن خسوف القمر لا يحصل باجتماع الشمس والقمر. وأجيب بأنه تعالى قادر على خسف القمر في غير حالة المقابلة وحيلولة الأرض. والأولى عندي أن يجاب بأن اجتماعهما بمعنى آخر غير ما هو المعهود بين أهل التنجيم كما مر من الأقوال. ولئن سلمنا أن المراد هو الاجتماع المعهود فالقمر حينئذ في المحاق وهو خسفه، أو لعل القمر خسف في وسط الشهر والاجتماع يكون في آخره فإن اتحاد الزمان في هذه الأمور غير مذكور. ومنهم من جعل هذه الأمور من علامات الموت، أما شخوص البصر تحيره حين الموت فظاهر، وأما خسوف القمر فمعناه ذهاب ضوء البصر بعد الحيرة: يقال: عين خاسفة إذا فقئت فغارت حدقتها في الرأس. وأما جمع الشمس والقمر فكناية عن اتصال الروح بعالم الآخرة، فالروح كالقمر وعالم الآخرة وهو عالم الأنوار والكشوف كالشمس وكما أن القمر يقبل النور من الشمس فالروح تقبل نور المعارف من ذلك العالم وهذا التفسير بالتأويل أشبه. قال الفراء: إنما قال جُمِعَ ولم يقل «جمعت» مع أن التأنيث أحسن لأن المراد أنه جمع بينهما في زوال النور. وقال الكسائي: المعنى جمع النوران والضياءان. وقال أبو عبيدة: القمر شارك الشمس في الجمع فغلب جانب التذكير يَقُولُ الْإِنْسانُ المنكر للقيامة أَيْنَ الْمَفَرُّ والاستفهام على أصله وهو إقرار منه بأنه لا مفر كما إذا أيس من وجدان زيد فيقول: أين زيد كَلَّا ردع عن طلب مكان الفرار وهذا أصح عند أهل اللغة. قال الأخفش والزجاج: المصدر من يفعل بكسر العين مفتوح العين، وبالكسر المكان. وجوز بعضهم أن يكون المفتوح موضعا. وأصل الوزر المحل المنيع ثم استعمل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 401 لكل ما التجأت إليه وتحصنت به، والمعنى أنه لا شيء يعتصم به وقتئذ من أمر الله إلا الله فلذلك قال إِلى رَبِّكَ خاصة دون غيره يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ أي استقرار العباد ولا بد من تقدير مضاف أي إلى حكم ربك أو إلى جنته أو ناره. يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ من عمل وَأَخَّرَ فلم يعلمه، أو بما قدم من ماله وتصدق به وما أخر فخلف أو بما قدم من عمل الخير والشر وما أخر من سنة حسنة أو سيئة. وعن مجاهد بأول عمله وآخره أي بجميع أعماله. والأظهر أن هذا الإنباء إنما هو في يوم القيامة. وجوز أن يكون عند الموت حين رأى مقعده من الجنة والنار. ثم بين أن الإنسان لأعماله بصير وإن لم ينبأ فقال بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ أي حجة بينة. وقال أبو عبيدة: التاء للمبالغة كعلامة. قال الأخفش: جعله في نفسه بصيرة كما يقال «فلان جود وكرم» وذلك أنه يعلم بالضرورة متى رجع إلى عقله أن طاعة خالقه واجبة وعصيانه منكر فهو حجة على نفسه بعقله السليم. قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل: إن المراد شهادة جوارحه عليه. قوله وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ تأكيد أي ولو جاء بكل معذرة يحاج بها عن نفسه فإنها لا تنفعه لأنه لا يخفى شيئا من أفعاله فإن نفسه وأعضاءه تشهد عليه. قال الواحدي والزمخشري: المعاذير اسم جمع للمعذرة كالمناكير للمنكر، ولو كان جمعا لقيل معاذر بغير ياء. وعن الضحاك والسدي أن المعاذير جمع معذار وهو الستر، والمعنى إنه إن أسبل الستور لن يخفى شيء من عمله قال جار الله: إن صح هذا النقل فالسبب في التسمية أن الستر يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب. فمدار التركيب على الحجب والمنع ومنه العذران قال الإمام فخر الدين الرازي: زعم قوم من قدماء الشيعة أن هذا القرآن مغير بالزيادة والنقصان، ومن جملة استدلالاتهم أنه لا مناسبة بين هذه الآية وبين قوله عقيبها لا تُحَرِّكْ بِهِ أي بالقرآن الذي نتلوه عليك لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ أي بأخذه. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشتد عليه حفظ التنزيل فكان إذا نزل عليه الوحي حرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبرائيل مخافة النسيان فنهاه الله تعالى عن ذلك، نظيره ما مر في «طه» وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [الآية: 114] وهذا من قبيل ترك الأولى، أو لعل هذا كان مأذونا فيه أولا ثم ورد النهي ناسخا له إِنَّ عَلَيْنا بحكم الوعد أو بالنظر إلى الحكمة جَمْعَهُ في صدرك وَقُرْآنَهُ سيعيده عليك جبرائيل أو توقيفك لدراسته وحفظه لقوله سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: 6] فالقارىء على الأول جبرائيل، وعلى الثاني محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: أراد بالجمع ترتيبه على ما هو عليه في الخارج وبالقرآن جمعه في ذهنه، والتركيب يدل على الضم ومنه القرء فَإِذا قَرَأْناهُ بقراءة جبرائيل فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ قال قتادة: أي حلاله وحرامه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 402 وضعف بأن هذا ليس موضع الأمر باتباع الحلال والحرام بل المراد أنه لا ينبغي أن تكون قراءتك مقارنة لقراءة جبرائيل عليه السلام لكن يجب أن تسكت حتى يتم جبرائيل القراءة ثم تأخذ أنت في القراءة. قال ابن عباس: فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا نزل عليه جبرائيل أطرق واستمع فإذا ذهب قرأ. ثم إنه صلى الله عليه وسلم كما كان حريصا على القراءة حتى لا ينسى لفظه كان حريصا على فهم المعنى، وكان يسأل جبرائيل في أثناء الوحي عن المعاني المشكلة فنهي عن هذا أيضا بوعد البيان وهو قوله إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ قال بعضهم: وفيه دليل على أن تأخير البيان عن وقت الخطاب جائز. إذا عرفت تفسير الآية فاعلم أن العلماء استنبطوا للنظم وجوها منها: أن هذا الاستعجال لعله اتفق للنبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآيات فلا جرم نهي عن ذلك في الوقت كما أن المدرس إذا كان يلقي على تلميذه شيئا من العلم وأخذ التلميذ يلتفت يمينا وشمالا فيقول المدرس في أثناء درسه: لا تلتفت يمينا وشمالا، ثم يعود إلى الدرس مع هذا الكلام في أثنائه اشتبه وجه المناسبة على من لم يعرف الواقعة. ومنها أنه علت كلمته أخبر عن الإنسان أنه يحب السعادة العاجلة فيفجر لذلك أمامه، فبين بين ذلك أن التعجل مذموم مطلقا ولو في أمور الدين فقال لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ ورتب على ذم الاستعجال قوله كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ومنها أنه لما قال وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر التعجيل في القراءة خوف النسيان قيل له: إنك وإن أتيت بهذه المعذرة لكنك يجب أن تعلم أن الحفظ لا يحصل إلا بتوفيق الله وإعانته فاترك هذا التعجيل واعتمد على هدايتنا، ولا تستعن في طلب الحفظ بالتكرار، وفيه أن الكافر كان يفر من الله إلى غيره حين قال أَيْنَ الْمَفَرُّ فعلى المؤمن أن يضاده ويفر من غير الله إلى الله ولا يستعين في كل أموره إلا به. ومنها أنه تعالى كأنه قال: يا محمد إن غرضك من هذا هو التبليغ لكنه لا حاجة إليه فإن الإنسان على نفسه بصيرة يعرف قبح الكفر مهما رجع إلى نفسه. وقال القفال: يجوز أن يكون المخاطب بهذا هو الإنسان المذكور في قوله يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ كأنه حين عرض كتابه يقال له اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: 14] فإذا أخذ في القراءة ينبأ بقبح أعماله فيتلجلج لسانه من الفزع ويسرع له القراءة فيقال له لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ فإنه يجب علينا بحكم الوعد والحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك، فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالاعتراف والإقرار، ثم أن علينا بيان أمره وشرح مراتب عقوبته. قوله سبحانه. كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ قال بعضهم: هو بمعنى حقا. وقال جار الله: هو ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن عادة العجلة وحث له على الأناة والتؤدة وقد بالغ في ذلك باتباعه قوله بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ كأنه قيل: بل أنتم يا بني آدم خلقتم من عجل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 403 تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون الدنيا وتتركون الأخرى. ثم وصف اليوم الآخر بقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ذات نضارة وبهاء. والوجه عبارة عن الجملة قاله في الكشاف: والأولى عندي تقليلا للمجاز أن يراد بالوجوه العيون فيكون من إطلاق الكل على الجزء لا عكسه إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ شديدة العبوس تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ فعل هو في شدته وفظاعته فاقرة أي داهية تقصم فقار الظهر كما توقعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير. قال الأصمعي: الفقر أن يحز أنف البعير حتى يخلص إلى العظم أو يقرب منه ثم يجعل فيه خشبة يجر بها البعير، ومنه قيل: عملت به الفاقرة. وقال الكلبي: هي أن تحجب عن رؤية ربها فلا تنظر إليه. وأعلم أن أهل السنة استدلوا بالآية على إمكان رؤية الله تعالى في الآخرة بل على وجوبها بحكم الوعد وحاصل كلامهم أن النظر إن كان بمعنى الرؤية فهو المطلوب، وإن كان بمعنى تقليب الحدقة نحو المرئي فهذا في حقه تعالى محال لأنه منزه عن الجهة والمكان فوجب حمله على مسببه وهو الرؤية وهذا مجاز مشهور وأما المعتزلة فزعموا أن النظر المقرون ب «إلى» إنما يراد به تقليب الحدقة نحو المرئي التماسا للرؤية فقد تحصل الرؤية وقد لا تحصل كما قال سبحانه وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ويقال: دور فلان متناظرة أي متقابلة ولا ريب أن تقليب الحدقة نحو الشيء يستدعي جهة لذلك الشيء وهذا في حق الله تعالى محال فوجب حمل النظر على الانتظار أي منتظرة ثواب ربها كقولك: أنا ناظر إلى فلان ما يصنع فيّ. والانتظار إذا كان في شيء متيقن الوقوع لا يوجب الغم والحزن بل يزيد اللذة والفرح. واعترض بأن النظر إذا كان بمعنى الانتظار لا يعدّى ب «إلى» كقوله انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد: 13] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف: 53] وأجيب بأن ذلك إنما يكون إذا كان منتظرا للشخص، أما إذا كان منتظرا لرفده ومعونته فإنه يستعمل مقرونا بإلى كقول الرجل: إنما نظري إلى الله ثم إليك. وقد يقول الأعمى: عيني ناظرة إليك. سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون «إلى» واحد الآلاء أي نعمة ربها منتظرة، وتقديم المفعول لأجل الفاصلة أو للاختصاص أي لا ينتظرون إلا إلى نعمة الله ورحمته، قال في الكشاف: وهذا المعنى أعني إفادة الاختصاص أحد الدلائل الدالة، على أن النظر هاهنا ليس بمعنى تقليب الحدقة ولا بمعنى الرؤية لأنهم ينظرون إلى أشياء ويرون أشياء لا تدخل تحت الحصر فلا بد من حمل النظر على معنى يصح معه الإختصاص وهو التوقع والرجاء. وحين وصف القيامة الكبرى أتبعه نعت القيامة الصغرى فروّعهم عن إيثار العاجلة على الآجلة، وذكرهم حالة الموت التي هي أول منزلة من منازل الآخرة. والضمير في بَلَغَتِ للنفس لدلالة قرينة الحال والمقال كما في قوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 404 فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة: 83] والتراقي العظام المكتنفة ثغرة النحر من الجانبين واحدها ترقوة، والمراد زهوق الروح لأن متعلق النفس هو الروح الحيواني الذي منبعه القلب فإذا فارق المنبع لم يبق من آثاره في حواليه إلا قليل كما لو غارت العين لم يبق في نواحيها إلا أثر قليل من النداوة فيزول عن قرب. قوله وَقِيلَ مَنْ راقٍ إن كان من الرقية يقال رقاه يرقيه إذا عوذه بما يشفيه ومنه «بسم الله أرقيك من كل ما يؤذيك» «1» فالقائل هم بعض أصحاب الميت وأقاربه، والاستفهام إما على أصله لأن العادة جارية على طلب الطبيب والراقي في وقت ما يشتد المرض، وإما بمعنى الإنكار أي من الذي يقدر أن يرقي هذا الإنسان المشرف على الموت، وإن كان اشتقاقه من الرقي الصعود ومنه المرقاة قال الله تعالى وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ [الإسراء: 93] فالقائل بعض الملائكة يعني أيكم يرقي بروح هذا المحتضر ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب. وعن ابن عباس: إن الملائكة يكرهون القرب من الكافرين فيقول ملك الموت: من يرقى بروح هذا الكافر؟ وقال الكلبي: يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة العذاب مع ملك الموت فإذا بلغت نفس العبد التراقي نظر بعضهم إلى بعض أيهم يعرج بروحه إلى السماء وَظَنَّ المحتضر أي تيقن أَنَّهُ وقت الْفِراقُ عن الدنيا وأوان الفطام عن مألوفاتها. وفي التعبير عن اليقين هاهنا بالظن تهكم بالميت وإشارة إلى أن الإنسان لتهالكه على الدنيا وحرصه على الحياة العاجلة لا يكاد يقطع بحلول الأجل وإن لم يبق منه إلا حشاشة يسيرة، غايته أنه يغلب على ظنه الموت مع رجاء الحياة العاجلة لا يكاد يقطع بالموت. واستدل بهذه الآية على أن النفس باق بعد خراب البدن لأن الله سمى الموت فراقا والفراق والوصال صفة والصفة تستدعي وجود الموصوف. وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ فيه وجهان أحدهما: أنه كناية عن الشدّة كما مر في قوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [القلم: 42] أي اتصلت شدة فراق الدنيا وترك الأهل والولد والجاه وشماتة الأعداء وحزن الأولياء وغير ذلك بشدّة الإقبال على أحوال الآخرة وأهوالها. الثاني أن الساق هي العضو المخصوص. قال الشعبي: أما رأيته في النزع كيف يضرب بإحدى رجليه عى الأخرى؟ قال الحسن وسعيد بن المسيب: هما ساقاه التفتا في أكفانه. وقيل: التفاف ساقيه وهو أنه إذا مات يبست ساقاه ولصقت إحداهما بالأخرى.   (1) رواه البخاري في كتاب الطب باب 38. مسلم في كتاب السلام حديث 40. أبو داود في كتاب الطب باب 19. الترمذي في كتاب الجنائز باب 4. ابن ماجه في كتاب الطب باب 36، 37. أحمد في مسنده (6/ 332) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 405 وقريب منه قول قتادة ماتت رجلاه فلا يحملانه وقد كان عليهما جوالا إِلى رَبِّكَ أي حكمة خاصة يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي السوق. وقيل: أراد أن سوقه وقتئذ يفوض إلى الله دون غيره، والفرق أن الرب أي حكمه في الأول هو المسوق إليه وهو في الثاني سائق يسوقه إلى الجنة أو إلى النار. قوله فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى الضمير فيه عائد إلى الإنسان المذكور في قوله أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ وقد سبق أن تعينه صنفيّ أو شخصي أخبر الله سبحانه عن اختلال حال أعماله فيما يتعلق بأصول الدين وفروعه قائلا فَلا صَدَّقَ أي فلا صدّق بالرسول أو بالقرآن أو بالبعث وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ بالحق وَتَوَلَّى عن الطاعة ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى متبخترا مفتخرا بذلك وأصله يتمطط أي يتمدد لأن المتبختر يمد خطاه، قلبت الطاء الأخيرة ياء كما في «تقضى البازي» . ويحتمل أن يكون من مطا الظهر لأن المتبختر يلوي ظهره. قال أهل العربية «لا» هاهنا بمعنى «لم» وقلما تقع لا الداخلة على الماضي إلا مكررة ومنه الحديث «لا أكل ولا شرب ولا استهل» «1» أما قوله عز من قائل فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد: 11] فسيجيء قال قتادة والكلبي ومقاتل: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أبي جهل ثم قال له أَوْلى لَكَ فَأَوْلى يوعده ويدعو عليه بالهلاك والبعد عن الخير والقرب من المكاره، وقد مر في قوله فَأَوْلى لَهُمْ [محمد: 20] وذلك في سورة القتال. فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني؟ لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا فيّ شيئا وأني لأعز أهل هذا الوادي ثم سل يده ذاهبا فأنزل الله كما قال الرسول. قال القفال: هذا محتمل، ويحتمل أن يكون أيضا وعيدا مبتدأ من الله للكافر على طريقة الالتفات. ويحتمل أن يكون أمرا من الله لنبيه بأن يقوله لعدو الله فيكون القول مقدرا أي فقلنا لك يا محمد قل له هذا. ثم قال دليلين على صحة الخبر الأول أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي هملا لا يكلف ولا يحاسب بعمله وهذا خلاف الحكمة نظيره أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115] الثاني الاستدلال بالخلق الأول على الإعادة ومَنِيٍّ يُمْنى يراق في الرحم. من ذكّر فللمني، ومن أنّث فللنطفة. والنطفة اسم لما ينطف كالقبضة لما يقبض والغرفة لما يغرف إلا أنها غلبت على الماء المخصوص الذي هو للحيوان بمنزلة البذر للنبات. والمني «فعيل» بمعنى «مفعول» من المني بالسكون وهو الدفق غلب أيضا على الماء المخصوص فقوله مِنْ مَنِيٍّ أي من هذا الجنس كالتأكيد لها. وقوله   (1) رواه مسلم في كتاب القسامة حديث 36- 38. أبو داود في كتاب الديات باب 19. الترمذي في كتاب الديات باب 15. النسائي في كتاب القسامة باب 39، 40. ابن ماجه في كتاب الديات باب 11. الدارمي في كتاب المقدمة باب 54. أحمد في مسنده (2/ 274، 498) (4/ 245) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 406 يُمْنى تأكيد على تأكيد وفيه إشارة إلى حقارة الإنسان في ذاته وأنه لا يليق به التمطي والفخر والاستكبار عن طاعة خالقه فإنه مخلوق من المني الذي جرى على مجرى النجاسة نظيره في عيسى وأمه كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة: 75] والمراد به قضاء الحاجة. قوله فَخَلَقَ فَسَوَّى أي قدّر فعدّل أركانه. وقيل: خلق فيه الروح فصير أعضاءه متناسبة فَجَعَلَ مِنْهُ أي من الإنسان الزَّوْجَيْنِ الصنفين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأ خاتمة السورة قال عقيبها: سبحانك بلى. والله الموفق وإليه المصير والمآب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 407 (سورة الدهر) (وهي مكية حروفها ألف وثلاثة وخمسون كلماتها مائتان وأربعون آياتها 31) [سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 31] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) القراآت سلاسلا بالتنوين والوقف بالألف: أبو جعفر ونافع وعلي وأبو بكر وحماد وهشام سَلاسِلَ في الحالين: ابن كثير وحمزة وخلف وسهل ويعقوب يصلون بغير ألف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 408 ويقفون بالألف قوارير قوارير غير مصروفين في الحالين: حمزة ويعقوب كلاهما بالتنوين والوقف بالألف والثاني بغير الألف في الحالين. الباقون كلاهما بغير تنوين والوقف على الأول بالألف. لُؤْلُؤاً بالواو في الأول: شجاع ويزيد وأبو بكر وحماد. الآخرون: بهمزتين. عاليهم بسكون الياء وكسر الهاء: أبو جعفر ونافع وحمزة والمفضل الباقون: بفتح الياء وضم الهاء خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ بالرفع فيهما وإستبرق بالخفض: ابن كثير والمفضل وأبو بكر وحماد. الآخرون: بالخفض فيهما وما يشاؤن على الغيبة: ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو الوقوف: مَذْكُوراً هـ أَمْشاجٍ لا قد قيل يوقف عليه لئلا يوهم أن نَبْتَلِيهِ صفة له لأنه حال من خَلَقْنَا أي خلقناه مريدين ابتلاءه والوهم المذكور زائل لأن ضمير المفعول في نَبْتَلِيهِ واحد والأمشاج جمع. بَصِيراً هـ كَفُوراً هـ سَعِيراً هـ كافُوراً هـ ج لاحتمال أن يكون عَيْناً بدلا تَفْجِيراً هـ مُسْتَطِيراً هـ شُكُوراً هـ قَمْطَرِيراً هـ سُرُوراً هـ ج عَلَى الْأَرائِكِ ط لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف زَمْهَرِيراً هـ ج لما يعرف في التفسير تَذْلِيلًا هـ كانت قوارير هـ لا وقيل: بوقف عليه وليس به لأن الثانية بدل من الأولى تَقْدِيراً هـ زَنْجَبِيلًا هـ ج لما مر في كافُوراً سَلْسَبِيلًا هـ ج مُخَلَّدُونَ هـ بناء على أن حَسِبْتَهُمْ صفة الولدان والظرف عارض مَنْثُوراً هـ كَبِيراً هـ وَإِسْتَبْرَقٌ ك لاختلاف الجملتين مع أن وجه الحال في الواو واضح أي وقد حلوا فِضَّةٍ ج لأن الواو يحتمل الحال والاستئناف وهذا أولى لإفراد هذه النعمة العظيمة عن سائر النعم طَهُوراً هـ ط مَشْكُوراً هـ تَنْزِيلًا هـ ج للآية مع الفاء أَوْ كَفُوراً هـ أَصِيلًا هـ ج لما ذكرنا طَوِيلًا هـ ثَقِيلًا هـ أَسْرَهُمْ ج تَبْدِيلًا هـ تَذْكِرَةٌ ج سَبِيلًا هـ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ط حَكِيماً هـ والوصل أوجه بناء على أن الجملة صفة فِي رَحْمَتِهِ ط أَلِيماً هـ التفسير: اتفقوا على أن «هل» هاهنا وفي «الغاشية» بمعنى «قد» وهذا ما ذهب إليه سيبويه قال: وإنما تفيد معنى الاستفهام حيث تفيده لتقدير الهمزة، وإنما حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال والدليل على تقدير الهمزة، وإنما حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال والدليل على تقدير الهمزة، جواز إظهارها مع «هل» كقوله: سائل فوارس يربوع بشدتنا ... أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم؟ ويربوع أبو حي من تميم، ومعنى الآية أقد أتى. فالاستفهام يفيد التقرير وقد تفيد التقريب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 409 فيكون حاصله أنه أَتى عَلَى الْإِنْسانِ قبل زمان قريب حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ وهو طائفة من الزمان غير محدودة. وعن ابن عباس وابن مسعود أن الإنسان هاهنا آدم والحين محدود وذلك أنه مكث أربعين سنة طينا إلى أن نفخ فيه الروح فصار شيئا مذكورا بعد أن كان كالمنسي وفي رواية عنه قال: أقام من طين أربعين سنة، ومن صلصال أربعين. ثم من حمأ مسنون أربعين، ثم خلقه بعد مائة وعشرين وإطلاق الإنسان عليه قبل نفخ الروح فيه من باب إطلاق الخمر على العصير. ويجوز أن يراد قد أتى على هذا الذي هو الآن إنسان بالفعل زمان لم يكن هو فيه إنسانا إلا بالقوّة وهذا صادق على آدم كما قلنا، وعلى بنيه أيضا عند الأكثرين. ولعل هذه الآية كالتقدمة والتوطئة للتي تعقبها، وكالتأكيد لخاتمة السورة المتقدمة. وقوله لَمْ يَكُنْ محله رفع على أنه نعت حِينٌ أو نصب على الحال من الإنسان لأنه في تقدير المفعول ويروى أن الصديق لما سمع هذه الآية قال: أيتها تمت أي ليت تلك الحالة تمت وهي كونه غير مذكور لم يخلق ولم يكلف. وقيل: الإنسان آدم كما ذكرنا ولكن الحين هو الستة الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض ثم فرغ لخلق آدم في عصر يوم الجمعة. وقيل: الإنسان عام والحين مدة فترة الرسل وقيل: الحين مدة لبثه في بطن أمه. قال ابن الأعرابي وطائفة من أهل اللغة: الأمشاج جمع مشيج وأمشاج فوصف المفرد بها جميعا نحو برمة أعشار للقدر المتكسرة قطعا، وثوب أكياش للذي فتل غزله مرتين. يقال عليك بالثوب الأكياش فإنه من لباس الأكياس. والمعنى من نطفة قد امتزج فيها الماءان ماء الرجل. وهو أبيض غليظ- وماء المرأة- وهو أصفر رقيق- والأول يخرج من الصلب، والثاني يخرج من الترائب، فما كان من عصب وعظم فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة. عن ابن مسعود: هي عروق النطفة. وقال الحسن: أي مزجت بدم الحيض الذي فيه غذاء الجنين، وعن قتادة: هي أطوارها نطفة ثم علقة ثم مضغة وذهب إلى أنها العناصر وبالجملة فإنها عبارة عن انتقال النطفة من حال إلى حال ولهذا فسر الابتلاء بعضهم بهذا الانتقال ومنه قول ابن عباس نَبْتَلِيهِ أي نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة. والأظهر أن حاصل المعنى خلقناه من أمشاج لا للعبث بل للإبتلاء والامتحان. ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر اللذان هما أشرف الحواس ولهذا خصا بالذكر. وفيه إشارة إلى أن الحواس السليمة أسباب كلية لتحصيل الكمالات النفسية فمن فقد حسا فقد علما. وقيل: في الآية تقديم وتأخير، ونبتليه معناه لنبتليه كقولك لرجل: جئتك أقضي حقك أي لأقضي حقك. والمعنى جعلناه سميعا بصيرا لنبتليه. ثم أخبر أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة أوضح له بواسطة أن آتاه العقل السليم سبيل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 410 الهدى والضلالة. فقوله شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً حالان من مفعول هَدَيْناهُ أي مكناه وأقدرناه في هاتين الحالتين وقيل: تقديره هديناه السبيل فيكون إما شاكرا أو كفورا. وفيه جهة الوعيد أي فإن شاء فليكفر وإن شاء فليشكر فإنا أعتدنا للكافرين كذا وللشاكرين كذا. وجوز أهل العربية أن يكونا حالين من السبيل على الإسناد المجازي لأن وصف السبيل بالشكر والكفر مجاز، وهذه الأقاويل تناسب أصول المعتزلة. أما الذي اختاره الفراء وهو مطابق لمذهب أهل السنة أن تكون «إما» في هذه الآية كما في قوله وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [التوبة: 106] والمعنى هديناه السبيل ثم جعلناه تارة شاكرا تارة كفورا. والمراد بالشكر الإقرار بالله وبالكفر إنكاره حتى لا يكون بين الفريقين واسطة. ويجوز أن يريد بالشاكر المطيع وبأهل الكفر كل من سواه كان كفرانه مطلقا وهو الكافر بالله، أو ببعض المعاصي وهو الفاسق. قوله سَلاسِلَ من قرأه بالتنوين فإنه صرفه لمناسبة. قال الأخفش: سمعنا من العرب صرف جميع مالا يصرف وهذه لغة الشعراء اضطروا إليه في الشعر فجرت ألسنتهم بذلك في النثر أيضا. وقيل: إنه مختص بهذه الجموع لأنها أشبهت الآحاد ولهذا جاز «صواحبات يوسف» . وجوز في الكشاف أن يكون هذا التنوين بدلا من حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف، ومثله وارِيرَ فيمن قرأ بالتنوين، والاعتاد الإعداد، والسلاسل للأرجل والأغلال للأيدي والأبرار جمع برّ وبار. عن الحسن: هم الذين لا يؤذون الذّر مِنْ كَأْسٍ أي إناء فيه الشراب. وقال ابن عباس ومقاتل: هو الخمر بعينها، والمزاج ما يمزج به، والكافور اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعم الكافور ولا مضرته، والمضاف محذوف ماء كافور. والحاصل أن ذلك الشراب يكون ممزوجا بماء هذا العين قيل: «كان» زائدة والأظهر أنها مفيدة ولكنها مسلوبة الدلالة على المضي كقوله وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء: 17] عن قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك. وقيل: يخلق فيه رائحة الكافور وبياضه وبرده فكأنها مزجت بالكافور. قال جار الله: فقوله عَيْناً على هذين القولين بدل من محل كَأْسٍ على تقدير حذف مضاف كأنه قال: يشربون خمرا خمر عين، أو نصب على الإختصاص. ولا خلاف بين العلماء أن عباد الله في الآية مختص بالمؤمنين الأبرار فغلب على ظنهم أن العباد المضاف إلى اسم الله سبحانه مخصوص في اصطلاح القرآن بالأخيار، وعلى هذا يسقط استدلال المعتزلة بقوله وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] كما مر في أول الزمر. وإنما قال أولا يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ وآخرا يَشْرَبُ بِها لأن الكأس هي مبدأ شربهم وأما العين فإنما يمزجون بها شرابهم فالباء بمعنى «مع» مثل «شربت الماء بالعسل» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 يُفَجِّرُونَها يجرونها حيث شاؤا من منازلهم تَفْجِيراً سهلا «قال مؤلف الكتاب» : لا يبعد أن يكون الخمر عبارة عن العلوم اللدنية الحاصلة بالذوق والمكاشفة. والكافور عبارة عن المعارف الحاصلة بواسطة البدنية، ومزاجها تركيبها على الوجه الموصل إلى تحصيل لذات وكمالات أخر، وتفجرها إشارة إلى اتصالها إلى أهلها من النفوس المستعدة لذلك. قال أهل النظم: حين وصف سعادة الأبرار كان لسائل أن يسأل: ما لهم يرزقون ذلك؟ فأجاب بقوله يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وفيه أن الذي وفى بما أوجبه على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى. ذكر الواحدي في البسيط والزمخشري في الكشاف وكذا الإمامية أطبقوا على أن السورة نزلت في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما في هذه الآي. يروى عن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس معه فقال: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن أبرأهما الله يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهما شيء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير فطحنت فاطمة منها صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم يا أهل محمد، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياما. فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه. ووقف عليهم في الثالثة أسير ففعلوا مثل ذلك. فلما أصبحوا أخذ علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم. وقام وانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد لصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبرائيل وقال: خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فاقرأه السورة. ويروى أن السائل في الليالي جبرائيل أراد بذلك ابتلاءهم بإذن الله سبحانه. ووصفهم الله سبحانه بالخوف من أهوال القيامة في موضعين أولا في قوله وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً أي مكروهه مستطيرا فاشيا منتشرا من استطار الحريق، ومنه الفجر المستطير وأصله من طار. والغرض أنه تسع مكاره ذلك اليوم جميع المكلفين حتى الأنبياء يقولون: نفسي إلا نبينا محمد فإنه يقول «أمتي أمتي» والسموات يتفطرن والكواكب ينتثرن إلى غير ذلك من المكاره والأهوال. ولا ينافي هذا أمن المسلمين في الآخرة على ما قال لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] وثانيا في قوله إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً وإذا كان حال أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أو حال الأبرار على العموم في الخوف من الله إلى هذه الغاية فغيرهم أولى بالخوف. وأما الضمير في حُبِّهِ فللطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه كقوله لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 412 مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] وقال الفضيل بن عياض: أي على حب الله عز وجل نظير الآية قوله وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة: 177] ومعنى المسكين واليتيم قد عرف مرارا، وأما الأسير فعن سعيد بن جبير وعطاء: هو الأسير من أهل القبلة. وعن أبي سعيد الخدري: هو المملوك والمسجون. وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغريم أسيرا فقال «غريمك أسيرك فأحسن أسيرك» وقد سمى الزوجة أسيرا أيضا فقال «اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم» أي أسراء. عن الحس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: أحسن إليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه. وعند عامة العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات. والإحسان إليهم في الحال إلى أن يرى الإمام فيهم ما يرى من قتل أو من أو فداء أو استرقاق، لا ينافي احتمال حكم الإمام عليهم بالقتل في المآل لأن سد خلتهم بالإطعام واجب على الفور وذلك يحتمل التراخي كما في حق من يلزمه القصاص ولم يكن له مال. ثم هذا الإطعام يجب أولا على الإمام فإن لم يفعله وجب على المسلمين. قال قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك فأخوك المسلم أحق أن تطعمه. ثم الإطعام ليس بواجب على التعيين ولكن الواجب مواساتهم بأي وجه كان. وإنما عبر عن ذلك بالإطعام لأن سبب النزول كان كذلك، ولأن المقصود الأعظم من أنواع الإحسان الطعام الذي به قوام البدن. يقال: أكل فلان مال فلان إذا أتلفه بأي وجه كان، وإن لم يكن بالأكل نفسه. قوله إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لرضاه خاصة. ولا بد من إضمار القول. ثم إن هذا القول يجوز أن يكون منهم باللسان منعا للسائل عن المجازاة بمثله، أو بالشكر ليقع إطعامهم خالصا لله. ويجوز أن يكون بنطق الحال. قال مجاهد: إما إنهم ما تكلموا بذلك ولكن الله علم ذلك منهم فكشف عن نيتهم وأثنى عليهم. وفيه تنبيه على ما ينبغي أن يكون عليه المطعم بل كل عامل من إخلاص عمله لله. عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل الرسول ما قالوا فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا. والشكور مصدر كالكفور ولو فتحت أولهما عاد المعنى مبالغة في شاكر وكافر. قوله إِنَّا نَخافُ ظاهره أنه تعليل للإطعام ويجوز أن يكون تعليلا لعدم إرادة المجازاة. ووصف اليوم بالعبوس مجاز وذلك بطريقين أحدهما: أن يشبه في ضرره وشدته بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل. والثاني أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء. يروى أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران. والقمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله بلاء وأصله الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 413 والتركيب يدل على الجمع ومنه القمطر خريطة يجمع فيه الكتب، واقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزمت بأنفها قاله الزجاج: فأصله من القطر وجعل الميم زائدة والظاهر أنها أصلية. وحين أخبر عن أعمال الأبرار وإخلاصهم ذكر ما سيجزيهم على ذلك وأكد تحقيق الوعد بأن عبر عنه بصيغة الماضي قائلا فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ أي مكروهه فإن كل ما يشق على النفس وتكرهه فهو شر بالإضافة إليها، وإن كان خيرا في نفس الأمر مشتملا على الحكم والفوائد كالقصاص وسائر الحدود وَلَقَّاهُمْ أعطاهم نَضْرَةً في الوجوه سُرُوراً في القلوب بدل عبوس الكفرة وحزنهم وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا على التكاليف أو الإيثار المؤدي إلى إفناء المال المستتبع للجزع جَنَّةً وَحَرِيراً أي بستانا فيه مأكل هنيّ ولباسا له منظر بهيّ قال الأخفش والزجاج مُتَّكِئِينَ نصب على الحال من مفعول جَزاهُمْ وقيل: على المدح. وقيل: حال من الجنة. وضعف لأنه يستدعي إبراز الضمير بأن يقال: متكئين فيها هم. والزمهرير شدة البرد. والأظهر أن الميم والهاء أصليتان لعدم النظير لو جعل أحدهما زائدا، والمعنى أن هواءها معتدل. وفي الحديث «هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر» . وعن ثعلب أن الزمهرير هو القمر بلغة طي واشتقاقه من الزهر، والمراد أن الجنة لضيائها لا تحتاج إلى شمس ولا قمر. قوله وَدانِيَةً ذكر الأخفش والكسائي والفراء والزجاج أنه معطوف على مُتَّكِئِينَ كما تقول في الدار عبد الله متكئا ومرسلة عليه الحجال، وإن جعلنا قوله لا يَرَوْنَ حالا صارت الأحوال ثلاثا والتقدير. وجزاهم متكئين فيها على الأرائك غير رائين فيها هواء مؤذيا ودانية عليهم الظلال. ودخلت الواو في الثالثة للدلالة على الاجتماع كأنه قيل: وجزاهم جنة متكئين فيها على الأرائك جامعين فيها بين البعد عن الحر والبرد وبين الدنو من الظلال. ويجوز أن يكون دانِيَةً معطوفا على جَنَّةً لأنهم وصفوا بالخوف. وقد قال سبحانه وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن: 46] والتقدير: وجزاهم جنة أخرى دانية عليهم ظلالها. وقوله لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً من باب «علفتها تبنا وماء باردا» وذلك لأن الزمهرير لا يرى أي ولا ينالون زمهريرا وإن أريد بالشمس نكاية شعاعها وحرها فمعنى لا يرون لا ينالون، ولا يخفى أن هذا الظل ليس بالمعنى المصطلح في الدنيا وهو الضوء النوراني فإنه لا شمس هناك، فمعنى دنو الظلال أن أشجار الجنة خلقت بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار قريبة الظلال على أهل الجنة وقد أكد هذا المعنى بقوله وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا أي لا تمتنع على قطافها كيف شاؤا. وقال ابن قتيبة: ذللت أي أدنيت من قولهم «حائط ذليل» إذا كان قصيرا قال البراء ابن عازب: من أكل قائما لم يؤذه، ومن أكل جالسا ومضجعا أمكنه. وحين وصف طعامهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 ولباسهم ومسكنهم واعتدال هوائه وكيفية جلوسهم فيه أخبر عن شرابهم وقد ذكر الأواني. ومعنى قوارير من فضة أن جنس الآنية من الفضة إلا أن تلك الفضة في صفاء القوارير وشفافتها حتى يرى باطنها من ظاهرها، وإذا كانت قوارير الدنيا وأصلها من الحجر في غاية الصفاء والرقة بحيث تحكي ما في جوفها فما ظنك بقوارير الجنة وأصلها من الفضة؟ ومعنى كانت كما مر في قوله كانَ مِزاجُها كافُوراً وقال في الكشاف: هو من قوله كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] أي تكونت قوارير بتكوين الله والمراد تفخيم تلك الخلقة العجيبة الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين. والضمير في قَدَّرُوها إما لأهل الجنّة أي إنها جاءت كما قدروا في أنفسهم حسب شهوتهم وحاجتهم، وإما للطائفين أي قدروا شرابها على مقدار ري كل أحد من غير زيادة ونقصان. وقريب منه قول مجاهد: لا تنقص ولا تفيض. وقال الربيع بن أنس: إن تلك الأواني تكون مقدار ملء الكف لم تعظم فيثقل حملها. قوله وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً أي في الجنة إناء مملوأ من الخمر، ويجوز أن يكون الضمير للأواني، والكأس الخمر نفسها والعرب تحب طعم الزنجبيل في المشروب وتستلذه ولذلك وصف الله مشروبهم في الآخرة بذلك. قال ابن عباس: وكل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة فليس منه في الدنيا إلا الاسم. أما السلسبيل فقد قال ابن الأعرابي: لم أسمعه إلا في القرآن. وقال الأكثرون اشتقاقه من السلاسة. يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل أي عذب سهل المساغ فكأن الباء واللام زيدتا للمبالغة حتى صارت الكلمة خماسية. ويرد عليه أن الباء ليست من حروف الزيادة. قال الزجاج: السلسبيل في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة. والفائدة في تسميتها بالسلسبيل بعد تسميتها بالزنجبيل هي أنها في طعم الزنجبيل ولذته ولكن ليس فيها اللذاع الذي هو مناف للسلاسة. وقد نسب إلى علي بن أبي طالب عليه السلام أن معناه سل سبيلا إليها. ووجه أن صحت الرواية بأنها حينئذ جملة سميت بها مثل «تأبط شرا» وسبب التسمية في الأصل أنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلا بالإيمان والعمل الصالح. وفي بعض شعر المتأخرين: سل سبيلا فيها إلى راحة النف ... س براح كأنها سلسبيل والظاهر منع صرفه للعملية والتأنيث ولكن لم يقرأ به إلا في الشواذ والمتواترة التنوين، ووجهه ما مر في سلاسلا على أن رعاية المشاكلة أولى لكونه رأس آية. ثم وصف خدمهم بقوله وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ويجوز أن يكون هذا بيانا للطائفين في قوله وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ وقد صرح به في الواقعة وزاد هاهنا أن شبههم في حسنهم وصفائهم وبقائهم وتفرقهم في المجلس لأصناف الخدمة باللؤلؤ المنثور. يحكى أن المأمون ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل وهو على بساط منسوج من ذهب وقد نثرت عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 415 نساء دار الخلافة اللؤلؤ، فنظر إليه منثورا على ذلك البساط فاستحسن المنظر وقال: لله در أبي نواس كأنه شاهد مجلسنا هذا حيث قال البيت: كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب وقيل: شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء، ثم أجمل نعيمهم لأنه مما لا يحصر ولا يخطر ببال أحد ما دام في الدنيا فخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم أو كل راء قائلا وَإِذا رَأَيْتَ قال الفراء: مفعوله وهو الموصول مضمر تقديره ما ثَمَّ كقوله لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: 94] يريد ما بينكم. وأنكر الزجاج وغيره حذف الموصول والاكتفاء بالصلة. والذي اختاره أصحاب المعاني أن يكون المفعول متروكا ليشيع ويعم. والمعنى أن الرائي أينما وجد الرؤية لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم وَمُلْكاً كَبِيراً أي واسعا هنيئا. و «ثم» ظرف مكان أشير به إلى الجنة. روي أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام. وقيل: الملك الكبير هو الذي لا زوال له. وقيل: هو أنه إذا أراد شيئا كان. ومنهم من حمله على التعظيم وهو أن يأتي الرسول بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه ولا يدخل عليه رسول رب العزة وإن كان من الملائكة المقربين إلا بعد الاستئذان قاله الكلبي: وقال أهل العرفان: الملك الكبير هو اللذات الحقيقية والمعارف الإلهية والأسرار الربانية التي تستحقر عندها اللذات البدنية. وعن علي أنه قرأ مُلْكاً كَبِيراً بفتح الميم وكسر اللام هو الله. من قرأ عالِيَهُمْ بسكون الياء فعلى أنه مبتدأ وثِيابُ سُندُسٍ خبر أي ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس. ومن قرأ بالنصب فعلى أنه ظرف بمعنى فوق فيكون خبرا مقدما. ويجوز أن يكون نصبا على الحال من ضمير الأبرار أي ولقاهم نضرة وسرورا. حال ما يكون عاليهم ثياب سندس. أو يطوف عليهم أي على الأبرار ولدان حال ما يكون عاليهم ثياب سندس. ويحتمل أن يكون العامل رَأَيْتَ والمضاف محذوف والتقدير رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب سندس. من قرأ خُضْرٌ بالرفع فظاهر، ومن قرأ بالجر فعلى الجوار أو على أنه صفة سندس بالاستقلال لأنه جنس فكان في معنى الجمع كما يقال: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض. وأما الرفع في إِسْتَبْرَقٌ فللعطف على ثياب، والجر للعطف على سندس. وكلاهما ظاهر. قوله وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ إن كان الضمير للولدان فلا إشكال لأن أساور المخدومين تكون من ذهب كما قال سبحانه في مواضع يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الكهف: 31] وأساور الخدام تكون من فضة. وإن كان الضمير للأبرار فلا إشكال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 أيضا فلعلهم يسورون بالجنسين إما على المعاقبة وإما على الجمع. وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران سوار من ذهب وسوار من فضة. وأيضا فالطباع مختلفة فرب إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة، ورب إنسان يكون استحسانه لصفرة الذهب فالله تعالى يعطي كل أحد بفضله ما تكون رغبته فيه أتم. وقال بعض أهل التأويل: أساور اليد أعمالها وأكسابها التي صارت ملكات نورانية بها يتوسل إلى جوار الحضرة الصمدية كما أن الذهب والفضة في الدنيا وسائل إلى تحصيل المطالب العاجلة. ثم ختم جزاء الأبرار بقوله وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً هو إما مبالغة طاهر والمراد أنها ليست بنجسة كخمور الدنيا ولا مستقذرة طبعا لمساس الأيدي الوضرة والأقدام النجسة والدنسة، ولا تؤل إلى النجاسة ولكنها ترشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك. وإما مبالغة مطهر. قال أبو قلابة: يؤتون بالطعام والشراب ممزوجا بالكافور والزنجبيل فإذا كان ذلك سقوا هذا الشراب فتظهر بذلك بطونهم ويفيض عرق من جلودهم كريح المسك. وذكر أصحاب التأويل أن الأنوار الفائضة من العالم العلوي متفاوتة في الصفاء والقوة والتأثير فبعضها كافورية طبعها البرد واليبس ويكون صاحبها في الدنيا في مقام الخوف والبكاء والقبض، وبعضها زنجبيليا على طبع الحر واليبس ويكون صاحبها قليل الالتفات إلى ما سوى الله قليل المبالاة بالجسمانيات، ثم لا يزال الروح الإنساني ينتقل من نوع إلى نوع ومن مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى حضرة نور الأنوار فيضمحل في نور تجليه سائر الأنوار، وهذا آخر سير الصديقين ومنتهى درجاتهم في الارتقاء إلى مدارج الكمال، فلهذا أضاف السقي إلى ذاته قائلا وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ ثم ختم وعدهم بقوله إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً عن ابن عباس أن هذا المعنى إنما يقال لهم بعد دخولهم الجنة، فالقول مقدر والغرض إعلامهم أن كل ما تقدم من أصناف العطاء إنما هو جزاء أعمالهم والغرض إذاقة لذة الآخرة فإن سرورهم يزيد بذلك. وقال آخرون: إنه ابتداء خبر من الله تعالى لعباده في الدنيا ليعلموا في دار التكليف أن هذه الأشياء معدة في الآخرة لمن بر وأطاع. واعلم أنه سبحانه بين في أول السورة أن الإنسان وجد بعد العدم، ثم ذكر أنه خلقه من أمشاج وهي العناصر والأخلاط والماءان ماء الرجل وماء المرأة، والأطوار المتعاقبة على النطفة أو النفس أو البدن، وعلى جميع التقادير فلذلك يدل على كونه فاعلا مختارا صانعا حكيما. ثم أخبر أنه ما خلقه لأجل العبث ماطلا باطلا ولكنه خلقه للابتلاء والامتحان وأعطاه كل ما هو محتاج إليه من العقل والحواس ثم إن مآل أمره بالجبر أو بالقدر إلى الشكر أو الكفر، أما الكافر فله السلاسل والأغلال، وأما الشاكر فله النعيم والظلال. واختصر في العقاب وأطنب في ذكر الثواب إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 417 وحين فرغ من شرح أحوال الآخرة بدأ بكيفية صدور القرآن الذي منه تعليم هذه العلوم والحقائق فقال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا وفيه أنواع من المبالغة من قبل إيقاع الضمير اسما لأن «ثم» تكريره ومن جهة ذكر المصدر بعد الفعل ومن جهة لفظ التنزيل دون الإنزال لأن تنزيل القرآن منجما مفرقا أقرب إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت فؤاده، وحيث سلى قلبه أمره بالصبر على أذى الكفار إلى أوان تنزيل آية القتال ونهاه عن طاعة كل آثم منهم وخصوصا الكفور فإن الكفر أعظم الآثام قال النحويون: كلمة أو مفيدة لأحد الشيئين أو الأشياء، فأورد عليه أنه يلزم في الآية أنه لا يجوز طاعة الآثم والكفور إذا تخالفا. أما إذا توافقا فإنه يجوز طاعتهما إذ لا يبعد أن يقول السيد لعبده إذا أمرك أحد هذين الرجلين فخالفه. أما إذا توافقا فلا تخالفهما. والجواب أنه لا ريب أن قولك «لا تضرب زيدا أو عمرا» معناه في الأظهر لا تضرب زيدا ولا عمرا. ويحتمل احتمالا مرجوحا «لا تضرب أحدهما واضرب الآخر» إلا أن هذا الاحتمال مدفوع في الآية لقرينة الإثم والكفر فإن أحدهما إذا كان منهيا عنه فكلاهما معا أولى لأن زيادة الشرّ شرّ. ولهذا قال الفراء: لا تطع واحدا منهما سواء كان آثما أو كفورا. ولو كان العطف بالواو كان نصا في النهي عن طاعتهما معا، ولا يلزم منه النهي عن طاعة كل منهما على الانفراد. وقد خص بعض المفسرين فقال: الآثم هو عتبة لأنه كان متعاطيا لأنواع الفسوق. والكفور هو الوليد لأنه كان شديد الشكيمة في الكفر. يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ولدي فإني من أجمل قريش ولدا. وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى فإني من أكثرهم مالا. فقرأ عليهم رسول الله من أول «حم السجدة» إلى قوله فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فانصرفا عنه. وقال أحدهما: ظننت أن الكعبة ستقع. وقال الحسن: الآثم هو المنافق، والكفور مشركو العرب، أمره بالصبر على التكاليف مطلقا. ثم قسمها إلى نهي وأمر على هذا الترتيب لأن التخلية مقدمة على التحلية. أما النهي فقد مر، وأما الأمر فأوله ذكر الله ولا سيما في الصلاة أول النهار وآخره وهو المراد بقوله بُكْرَةً وَأَصِيلًا ويشمل صلوات الفجر والظهر والعصر وأول الليل وهو المراد بقوله وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ أي وفي بعض الليل فصل له يعني صلاة المغرب والعشاء وأوسطه وهو المعنى بقوله وَسَبِّحْهُ أي وتهجد له طويلا من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه كما مر في «المزمل» . ثم شرع في توبيخ المتمردين عن طاعته مستحقرا إياهم قائلا إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الدار الْعاجِلَةَ ونعميها الزائل وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا أي شديدا كقوله ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 187] ثم بين كمال قدرته قائلا نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 أَسْرَهُمْ أي ربطهم وتوثيقهم ومنه أسر الرجل إذا أوثق بالقد وبه سمى القد أسرا. والمعنى ركبناهم تركيبا محكما وتقنا مفاصلهم بالأعصاب والربط والأوتار حسب ما يحتاجون إليه في التصرف لوجوه الحوائج وَإِذا شِئْنا أهلكناهم بالنفخة وبَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ في شدة الأسر عند النفخة الثانية. وقال جار الله: قيل معناه بدلنا غيرهم ممن يطيع وحقه أن يجيء بأن لا بإذا كقوله وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد: 38] ممن يطيع إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [إبراهيم: 19] قال الإمام فخر الدين الرازي: هذا الكلام كأنه طعن في لفظ القرآن وهو ضعيف لأن كل واحد من «إذا» «وإن» حرف الشرط. قلت: ما ذكره جار الله ليس طعنا في القرآن وإنما هو طعن في نفس ذلك القول بناء على أن «إذا» لا تستعمل إلا فيما كان مقطوع الوقوع كالإماتة بالنفخة الأولى والإحياء في النشأة الأخرى. أما الإهلاك على سبيل الاستئصال فذلك غير مقطوع به فلهذا ألا يحسن تفسير اللفظ به وتعين التفسير الأول، والمبادرة بالاعتراض قبل الفهم التام ليس من دأب العلماء المتقين فعجب من مثله ذلك. قوله إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ قد مر في «المزمل» والمقصود من إعادته أن هذه السورة بما فيها من الترتيب الأنيق تبصرة للمتأملين المتخذين إلى كرامة الله سبيلا بالطاعة والانقياد، وفيه دليل للقدري. وفي قوله وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إلى آخر السورة دليل للجبري والتوفيق بينهما مفوض إلى فهم أهل التوفيق وقدمنا فيه التحقيق. وانتصب الظَّالِمِينَ بفعل يفسره معنى أعد أو وعدت ونحوهما أوعد، وبالله التوفيق وإليه المصير والمآب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 419 (سورة المرسلات) (وهي مكية حروفها ثمانمائة وستة عشر كلماتها مائة وإحدى وثمانون آياتها خمسون) [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 50] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) القراآت فالملقيات ذكرا بتشديد الذال للإدغام: أبو عمرو وحمزة في رواية عنهما عذرا بضم الذال: الشموني والبرجمي أَوْ نُذْراً بالسكون: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد: وقتت بالتشديد وبالواو: أبو عمرو ويعقوب. وبالتخفيف: ويزيد. وفي رواية بإبدال الواو همزة كقولهم «أجوه» في «وجوه» . الباقون: بالإبدال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 وبالتشديد أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مظهرا روى النقاش عن ابن ربيعة عن أصحابه والحلواني عن قالون وحفص والنجاري وعن ورش فقدرنا مشددا: أبو جعفر عن نافع وعلي، انطلقوا إلى ظل بفتح اللام: رويس: جمالت على التوحيد: حمزة وعلي وخلف وحفص وجمالات بضم الجيم مجموعة: يعقوب. الآخرون: بالكسر مجموعا. الوقوف: عُرْفاً هـ لا عَصْفاً هـ لا نَشْراً هـ لا فَرْقاً هـ لا ذِكْراً هـ لا نُذْراً هـ لا لَواقِعٌ هـ ط طُمِسَتْ هـ لا فُرِجَتْ هـ لا نُسِفَتْ هـ لا أُقِّتَتْ هـ لا بناء على أن عامل «إذا» محذوف أي إذا كانت هذه الأمور يفصل بين الخلق أُجِّلَتْ هـ ط للفصل بين الجواب والسؤال الْفَصْلِ ج لِلْمُكَذِّبِينَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ ط لأن ما بعده مستأنف أي ثم نحن نتبعهم الْآخِرِينَ هـ بِالْمُجْرِمِينَ هـ مَهِينٍ هـ لا مَعْلُومٍ هـ لا فَقَدَرْنا هـ الْقادِرُونَ هـ كِفاتاً هـ لا وَأَمْواتاً هـ لا فُراتاً هـ لا لِلْمُكَذِّبِينَ هـ تُكَذِّبُونَ هـ ج للتكرار مع الآية ووجه الوقف لمن قرأ بفتح اللام أوضح لأنه ابتداء إخبار عن موجب عملهم بما أمروا به شُعَبٍ هـ لا اللَّهَبِ هـ ط كَالْقَصْرِ هـ ج لأن ما بعده وصف لشرر لا للقصر صُفْرٌ هـ ط لِلْمُكَذِّبِينَ هـ لا يَنْطِقُونَ هـ لا فَيَعْتَذِرُونَ هـ لِلْمُكَذِّبِينَ هـ الْفَصْلِ هـ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال أي أشير إلى يوم مجموعا فيه وَالْأَوَّلِينَ هـ فَكِيدُونِ هـ لِلْمُكَذِّبِينَ هـ يَشْتَهُونَ هـ تَعْمَلُونَ هـ الْمُحْسِنِينَ هـ لِلْمُكَذِّبِينَ هـ مُجْرِمُونَ هـ لِلْمُكَذِّبِينَ هـ لا يَرْكَعُونَ هـ لِلْمُكَذِّبِينَ هـ يُؤْمِنُونَ هـ التفسير: الكلمات الخمس في أول هذه السورة يحتمل أن يكون المراد بها جنسا واحدا أو أجناسا مختلفة. أما الاحتمال الأول فذكروا فيه وجوها الأول: أنها الملائكة أقسم رب العزة بطوائف الملائكة الذين أرسلهم بأوامره حال كونهن عرفا أي متتابعة كشعر العرف. يقال: جاؤا عرفا واحدا وهم عليه كعرف الضبع إذا اجتمعوا عليه، ويجوز أن يكون العرف خلاف النكر أي أرسلهن للاحسان والمعروف. فإن هؤلاء الملائكة إن كانوا بعثوا للرحمة فمعنى الإحسان حينئذ ظاهر، وإن كانوا قد بعثوا لأجل العذاب فذلك إن لم يكن معروفا للكفار فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله من الكفار لأجلهم. ومعنى الفاء في فَالْعاصِفاتِ أنهن عقيب الأمر عصفن في مضيهن كما عصفت الرياح بدرا إلى امتثال الأمر. قيل: هو من قولهم «عصفت الحرب بالقوم» أي ذهبت بهم وأهلكتهم. ويقال «ناقة عصوف» أي عصفت براكبها فمضت كأنها ريح من السرعة فالمراد أنهن حين أرسلن للعذاب طرن بروح الكافر. ثم أقسم بطوائف من الملائكة نشرن أجنحتهن في الجو عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 421 انحطاطهن بالوحي أو نشرن الشرائع في الأرض. أو أحيين النفوس الميتة بما أوحين ففرقن بين الحق والباطل فألقين ذكرا إلى الأنبياء عُذْراً للمحقين أَوْ نُذْراً للمبطلين. قال الأخفش والزجاج: هما بالسكون مصدران كالشكر والكفر، والضم لغة في كل منهما كالنكر والنكر، والمعنى إعذارا أو إنذارا وكل منهما بدل من ذِكْراً أو مفعول له. وقال أبو عبيد: بالثقل جمع عذير بمعنى المعذرة وجمع نذير بمعنى الإنذار أو بمعنى العاذر والمنذر فيكونان حالين من الإلقاء أي عاذرين أو منذرين الوجه الثاني أنها الرياح أقسم الله سبحانه برياح عذاب أرسلهن متتابعة فعصفن عصفا ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بينه كقوله وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً [الروم: 48] فألقين ذكرا إي صرن سببا في حصول الذكر لأن الإنسان العاقل إذا شاهد تلك الرياح التجأ إلى ذكر الله والتضرع إليه فيكون عذرا للذين يعتذرون إلى الله عز وجل بالتوبة والاستغفار، وإنذارا للذين يغفلون عن الله ويغفلون شكره إذ ينسبونها إلى الأنواء. والوجه الثالث إنها القرآن وآياته أرسلت متتابعة أو بكل معروف وخير فعصفت أي قهرت سائر الملل والأديان والكتب أي ابتدأن بالقهر والنسخ عقيب الإرسال، ونشرن بعد ذلك بالتدريج آثار الحكم وأنوار الهداية في قلوب العالمين ففرقت بين الحق والباطل وألقت الذكر والشرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمته كما قال وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] الرابع أنها طوائف الأنبياء أرسلوا بالوحي المستعقب لكل خير ومفتاحه «لا إله إلا الله» فأخذ أمرهم في العصوف والاشتداد إلى أن بلغ غايته وانتشرت دعوتهم ففرقوا بين المؤمن والكافر، والمقر والجاحد، وألقوا الذكر والتوحيد إلى الناس كافة أو إلى طائفة معينين. الخامس وهو بالتأويل أشبه أن المرسلات هي الدواعي والإلهامات الربانية أرسلت فأخذت في العصوف والاشتداد بحيث أزالت عن القلب حب ما سوى الله وانبثت آثارها في سائر الأعضاء والجوارح، فلا يسمع إلا بالله ولا يبصر إلا بالله، وكذا البطش والمشي وسائر الحركات والسكنات، ففرقت بين الوجود المجازي وهو وجود سوى الله وبين الوجود الحقيقي وهو البقاء بالله، وألقت الذكر على كل الجوارح فلم يذكر غير الله. وأما الاحتمال الثاني ففيه وجوه أيضا أحدها: وهو المنقول عن الزجاج واختاره القاضي أن الثلاث الأول هي الرياح كما في الوجه الثاني من الوجوه المتقدمة، والباقيتان الملائكة كما مر في الوجه الأول منها. ووجه الجمع بين الرياح والملائكة هو اللطافة وسرعة الحركة. وثانيها أن الأولين هما الرياح والثلاثة الأخيرة هي الملائكة لأنها تنشر الوحي، ثم يعقبه أثران ظهور الفرق بين أولياء الله وأعدائه ودوران ذكر الله على القلوب والألسن. وقد يتأيد هذا الوجه بعطف الثانية على الأولى بفاء الوصل المنبئ عن التعقيب والتسبيب. ثم التنسيق بالواو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 وعطف الباقيين عليها بالفاء وثالثها أن الأولى ملائكة العذاب والباقية آيات القرآن على منوال ما سبق. قوله إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ جواب القسم ومعناه على ما قال الكلبي: كل ما توعدون به من الخير والشر لواقع. والأكثرون يخصونه بمجيء القيامة بدليل ذكر أماراتها بعده وهو قوله فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي أزيلت عن أماكنها بالانتثار وأذهب ضوءها بالانكدار وقد ورد كل منهما وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [فاطر: 2] وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير: 2] فذكروا في وجه الجمع بينهما أنه يجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر بمحوق النور. وفسر الانتثار في الكشاف بمحق الذوات وفيه بعد لأن الانتثار غير الانعدام وإن أراد بالمحق غير هذا فعليه بالبيان قوله وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ أي فتحت السماء فكانت أبوابا وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ أي سيرت أجزاؤها في الهواء كالحب إذا نسف بالمنسف وقد مر في «طه» في قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه: 105] قال مجاهد والزجاج: المراد بأقتت الرسل تعيين الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم، وكان هذا الوقت مبهما عليهم قبل ذلك وقريب منه قول جار الله: إن معنى وقتت بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة. ثم عجب العباد من هول ذلك اليوم فقال لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل وهي تعذيب من كذبهم وتعظيم من صدقهم وظهور ما كانوا يوعدون الأمم إليه ويخوفونهم به من العرض والحساب ونشر الدواوين ووضع الموازين. ثم أجاب بأنهم أجلوا لِيَوْمِ الْفَصْلِ بين الخلائق، ثم عظم ذلك اليوم ثانيا فقال وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ وأي شيء شدته ومهابته. ثم عقبه بتهويل ثالث فقال وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ كان كذا وكذا من الأهوال لِلْمُكَذِّبِينَ وإعرابه كإعراب سَلامٌ عَلَيْكَ [مريم: 47] وقد سبق. وقد كرر هذا التهويل في تسعة مواضع أخر لمزيد التأكيد والتقرير كما مر في سورة الرحمن. ثم هددهم بقوله أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ كعاد وثمود وغيرهما إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ وهم كفار مكة أهلكهم الله يوم بدر وغيره من المواطن قوله كَذلِكَ أي مثل ذلك الإهلاك الفظيع نَفْعَلُ بكل مجرم. ثم وبخهم بتعديد النعم وآثار القدرة عليهم فقال أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ حقير لا يعبأ به وهو النطفة فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ وهو الرحم وهو أنه يتمكن فيه ما يتكون منه الولد إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ أي إلى مقدار معلوم من الزمان المقدر ولهذا قال فَقَدَرْنا بالتشديد فَنِعْمَ الْقادِرُونَ أي فنعم المقدرون له نحن. ومن قرأ بالتخفيف فبمعنى التقدير أيضا لتتوافق القراءتان. قال الفراء: قدر وقدّر بالتخفيف والتشديد لغتان، ويجوز أن يكون المخفف من القدرة أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا فنعم أصحاب القدرة نحن حيث خلقناهم في أحسن تقويم. وفي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423 قوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ توبيخ وتخويف من وجهين أحدهما: أن النعمة كلما كانت أعظم كان كفرانها أفحش. والثاني أن القادر على الإبداء أقدر على الإعادة فالمنكر لهذا الدليل الواضح يستحق غاية التوبيخ. ثم عد عليهم نعم الآفاق بعد ذكر الأنفس. والكفات اسم ما يكفت أي يضم ويجمع، ويجوز أن يكون اسما لما يكفت به مبينا للمفعول كالشداد لضمام يشد به رأس القارورة. وانتصب أَحْياءً وَأَمْواتاً بفعل مضمر دل عليه هذا الاسم أي تكفت أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها. والتنكير للتفخيم أي أحياء وأمواتا لا تعد ولا تحصى. وجوز انتصابهما على الحال والضمير الذي هو ذو الحال محذوف للعلم به أي تكفتكم في حال حياتكم وفي حال مماتكم. وقيل: معنى كونها كفاتا أنها تجمع ما ينفصل منهم من المستقذرات وقيل: معناه أنه جامعة لما يحتاجون إليه في التعيش. وقيل: هما راجعان إلى الأرض يعني ما ينبت وما لا ينبت. والكل بتكلف. والوجه هو الأول. وباقي الآية ظاهر مما سلف مرارا. ثم أخبر عما يقال للمكذبين في يوم الفصل فقال انْطَلِقُوا أي يقال لهم انطلقوا لما كذبتم به من العذاب. ثم بين ما أجمل بقوله انْطَلِقُوا يروى أن الشمس تقرب يوم القيامة لرؤوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفاسهم، ويحمي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظلاله فهناك يقولون فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ [الطور: 25] ويقال للمكذبين انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ من عذاب الله وعقابه انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ قال الحسن: ما أدري ما هذا الظل ولا سمعت فيه بشيء فقال قوم: سمى النار بالظل مجازا. وشعبها الثلاث كونها من فوقهم ومن تحت أرجلهم ومحيطة بهم. وعن قتادة: هو الدخان شعبة عن يمينهم وأخرى عن يسارهم والثالثة من فوق، تظلهم حتى يفرغ من حسابهم والمؤمنون في ظل العرش. وقال في الكشاف: هو عبارة عن عظم الدخان. فالدخان العظيم تراه يتفرق ذوائب وقال أهل التأويل: الشعب الثلاث هي القوة الغضبية ومنشؤها القلب في الجانب الأيسر، والشهوية ومنشؤها الكبد في الجانب الأيمن، والشيطانية ومنشؤها الدماغ من فوق، فيتولد من اتباع هذه الثلاثة ثلاثة أنواع من الظلمات. وقال أبو مسلم: هي الأوصاف الثلاثة التي ذكرها الله تعالى عقيبه وهي لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ وفيه تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين أي ذلك الظل غير مانع حر الشمس وغير مغن من حر اللهب شيئا أي لا روح كما قال في الواقعة لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الآية: 44] يقال أغن عني وجهك أي أبعده لأن الغني عن الشيء يباعده كما أن المحتاج إليه يقاربه. وإنما عدي في الآية ب «من» لأنه أراد أن ابتداء الإغناء منه، وعن قطرب أن اللهب هاهنا هو العطش. ثم شبه الشرر وهو ما يتطاير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 424 من النار متبددا في كل جهة بالقصر. والأكثرون على أنه واحد القصور. وعن سعيد بن جبير ومقاتل والضحاك أنه الغليظ من أصول الشجر العظام الواحدة قصرة كجمرة وجمر. وروي عن ابن عباس أنه سئل عن القصر فقال: خشب كنا ندخره للشتاء. ثم زاد في البيان أن أتبعه تشبيها آخر قائلا كأنه جمالات صفر وهي جمع جمالة بمعنى جمل. ويجوز أن يكون جمع جمال كرجالات وقال أبو علي: التاء في جِمالَتٌ لتأكيد الجمع كحجر وحجارة. أما الجمالة بالضم فهي قلوس سفن البحر أي حبالها كما مر في قوله حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: 40] وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس أنها قطع النحاس. ومعظم أهل اللغة لا يعرفونه. وقال الفراء: يجوز أن يكون الجمالات بالضم من الشيء المجمل. يقال: أجملت الحساب وجاء القوم جملة أي مجتمعين. والمعنى أن هذه الشرر ترتفع كأنها شيء مجموع غليظ أصفر والأكثرون على أن المراد بهذه الصفرة سواد يعلوه صفرة. قال الفراء: لا ترى أسود في الليل إلا وهو مشرب صفرة والشرر إذا تطاير فسقط وفيه بقية من لون النار كأنه أشبه شيء بالجمل الأسود الذي يشوبه شيء من الصفرة. وقال آخرون: الشرر إنما يسمى شررا ما دام مرتفعا وحينئذ يكون نارا وإذا كان نارا كان أصفر فاقعا. واعلم أنه عز اسمه شبه الشرر في العظم والارتفاع بالقصر ثم شبهه مع ذلك في اللون والكثرة والتابع وسرعة الحركة بالجمالات الصفر. ثم نقل عن ابن عباس أنه قال: هذا التشبيه إنما ورد على ما هو معتاد في بلاد العرب. وقصورهم قصيرة السمك جارية مجرى الخيمة. فسمع أبو العلاء ذلك فشبه الشرر بالطراف وهو الخيمة من الأديم قال: حمراء ساطعة الذوائب في الد ... جى ترمي بكل شرارة كطراف فزعم صاحب الكشاف أنه أراد معارضة المعجز. قال الإمام فخر الدين الرازي: كان الأولى بصاحب الكشاف أن لا يذكر ذلك لأنه أخذ مقتبسا تابعا، والمعجز أظهر حالا وأجل منصبا من أن يتصدى لمعارضته أحد بعد استقرار أمره ويلتفت إلى المعارض، وإذ قد ذكر صاحب الكشاف ذلك فلنذكر التفاوت بين القرآن وبين كلام أبي العلاء وذلك من وجوه الأول: قيل: إن لون الأديم قريب من لون الشرارة إلا أن الجمالات متحركة كالشرارة دون الخيمة. الثاني أن القصر موضع الأمن وتشيبه الشرارة به إشارة إلى أن الكافر إنما يعذب بآفة من الموضع الذي يتوقع منه الأمن وهو دينه وملته التي ظن أنه منها على شيء، وليست الخيمة موضع الأمن الكلي الثالث أن الشرر متتابعة كالجمال ولا كذلك الطراف الرابع أن العرب اعتقدوا أن الجمال في ملك الجمال وتمام النعم في حصول النعم. ففي الآية إشارة إلى أنكم كنتم تعدون الجمال فخذوا هذه الشرارات التي هي كالجمالات وهذا التهكم غير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 425 موجود في الشعر. الخامس أن الإبل إذا نفرت وشردت متتابعة نال من وقع فيما بينها بلاء شديد. فتشبيه الشرر بها يفيد كمال الضرر والطراف ليس كذلك. السادس أن القصر يكون أعظم غالبا من الطراف والجمالات وهي جمع الجمع تكون أكثر عددا من الطراف والغرض التوكيد فيكون تشبيه القرآن أبلغ في المعنى المقصود. السابع أن التشبيه بشيئين كالقصر والجمالات في إثبات الوصفين كالعظم والصفرة أقوى في ثبوت الوصفين من التشبيه بشيء واحد للوصفين بعينهما، لأن الأول كالمبين المفصل، والثاني كالمجمل المبهم إذ يحتمل أن يكون وجه التشبيه واحدا منهما فقط. الثامن أن الإنسان إنما يكون طيب العيش إذا كان وقت الانطلاق راكبا ووقت النزول راقدا في الظل فكأنه قيل في الآية على سبيل التهكم مركوبكم هذه الجمالات من الشرر وظلكم في مثل هذا القصر ولو شبه بالطرف لم يحصل هذا المقصود. التاسع أن تطاير القصر وهو من اللبن والحجر والخشب في الهواء أغرب من تطاير الخيمة وهي خفيفة الحجم. العاشر أن سقوط القصر أفظع وأهول من سقوط الطراف هذه خلاصة كلام الإمام في هذا المقام أوردناها لئلا يكون كتابنا خاليا من فوائد تفسيره. قوله هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ يروى أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الجمع بين هذه الآية وبين نحو قوله ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: 31] فأجاب بتغاير الزمانين وتباين الموطنين. وقال الحسن: أراد لا ينطقون بحجة صحيحة وعذر واضح فكأنهم لم ينطقوا ولم يعتذروا. قوله وَلا يُؤْذَنُ إنما لم يقل «فيعتذروا» بسقوط النون للنصب كقوله لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فاطر: 36] لأنه لو نصب لأوهم أنهم إنما لم يعتذروا لأجل أنهم لم يؤذوا في الاعتذار ولولا المنع لاعتذروا وهذا غير جائز، ولكن المراد أن لا عذر لهم في نفس الأمر كما لا إذن فالفاء لمطلق النسق لا للتسبب. هذا مع أنه فيه رعاية الفاصلة وهي من جملة الفصاحة اللفظية، ولهذا لم يقرأ في سورة «اقتربت» إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ [الآية: 6] لا مثقلا. وقريء قوله في آخر «الكهف» و «الطلاق» عَذاباً نُكْراً [الآية: 8] بالوجهين قالوا: وإنما لم يؤذن لهم في الاعتذار لأنه سبحانه أزاح الاعتذار في الدنيا بتقديم الإنذار بدليل قوله فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً ولهذا قال في آخر هذا الأخبار وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ثم أشار لمزيد التهديد والتوبيخ إلى اليوم المذكور بقوله هذا يَوْمُ الْفَصْلِ ثم أوضح هذه الجملة بقوله جَمَعْناكُمْ أيها المتأخرون وَالْأَوَّلِينَ لأن الفصل بين الخلائق لا يجوز إلا بإحضار الكل. وقد يستدل به على عدم جواز القضاء على الغائب. ثم عجزهم وحقر أمرهم بقوله فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وقد علم أنه لا حيلة لهم في رفع البلاء عن أنفسهم يومئذ كما كانوا يحتالون في الدنيا يؤذون بذلك أنبياء الله وأولياءه، وهذا التعجيز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 426 والتخجيل من جنس العذاب الروحاني فلهذا عقبه بقوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ثم زاد في حسرتهم وغمهم بتعديد ما أعد للمطيعين المتقين من الظلال والعيون والفواكه بدل ظلالهم التي لا روح فيها ولا تغني عن الحر والعطش، استقروا في تلك النعم مقولا لهم كُلُوا وَاشْرَبُوا وهو أمر إكرام لا أمر تكليف وهذا أيضا من جنس العذاب الروحاني بالنسبة إلى الكافرين حين يرون الذين اتقوا الشرك في النعيم المقيم ولذا أردفه بقوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ثم ذكر أن هذا الويل ثابت لهم في حال ما يقال في الآخرة كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قال جار الله: هذا في طريقة قول القائل: إخوتي لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد بعدوا أي كنتم أحقاء في حياتكم بأن يدعى لكم بهذا، وفيه توبيخ وتذكير بحالهم السمجة وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم، وعلل ذلك بكونهم مجرمين إيعادا لكل مجرم، وجوز أن يكون كُلُوا وَتَمَتَّعُوا كلاما مستأنفا خطابا للمكذبين في الدنيا. ثم ذمهم على ترك الخشوع والتواضع لله بقبول وحيه. وقيل: ما كان على العرب أشد من الركوع والسجود. يروى أن وفد ثقيف أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة فقالوا: لا ننحني أي لا نركع ولا نسجد فإنها مسبة علينا. فقال صلى الله عليه وسلم: لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود. وأنزل الله الآية. ثم ختم السورة بالتعجب من حال الكفار وإصرارهم على جهالاتهم وضلالاتهم بعد القرآن وبياناته وقد مر في أول «الجاثية» نظيره والله أعلم. تم. تم الجزء التاسع والعشرون ويليه الجزء الثلاثون وأوله تفسير سورة النبأ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 427 الجزء الثلاثون من أجزاء القرآن الكريم (سورة النبأ) (وهي مكية حروفها سبعمائة وسبعون كلماتها مائة وثلاث وسبعون آياتها أربعون) [سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 40] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40) القراآت كلا ستعلمون بتاء الخطاب في الموضعين: ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان وَفُتِحَتِ بالتخفيف: عاصم وحمزة وعليّ وخلف لبثين مقصورا: حمزة ولا كذابا مخففا. عليّ رب بالرفع بتقدير هو رب: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو والمفضل. الباقون: بالجر على البدل الرَّحْمنِ بالجر على البدل أو البيان: ابن عامر وسهل ويعقوب وعاصم غير المفضل. الآخرون: بالرفع على «هو الرحمن» أو على أنه خبر آخر. الوقوف يَتَساءَلُونَ هـ ج لاحتمال أن الجار متصل بالفعل المذكور والمراد التهديد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 428 قال الفراء: «عن» بمعنى اللام أي لأي شيء، أو متصل بمحذوف كأن سائلا سأل عن أي شيء يتساءلون فأجيب عن النبأ. الْعَظِيمِ هـ لا مُخْتَلِفُونَ هـ ط بناء على أن معنى كلا حقا سَيَعْلَمُونَ لا هـ سَيَعْلَمُونَ هـ ج مِهاداً هـ لا أَوْتاداً هـ ص أَزْواجاً هـ سُباتاً هـ لا لِباساً هـ لا مَعاشاً هـ ص شِداداً هـ لا وَهَّاجاً هـ ص ثَجَّاجاً هـ لا وَنَباتاً هـ ك أَلْفافاً هـ ط مِيقاتاً هـ ط لأن ما بعده بدل أَفْواجاً هـ ك أَبْواباً هـ ك سَراباً هـ ط مِرْصاداً هـ لا مَآباً هـ لا أَحْقاباً هـ ج لأن ما بعده يصلح استئنافا وحالا، ويجوز أن يكون صفة ل أَحْقاباً لمكان عود الضمير في فِيها إليها شَراباً هـ لا غَسَّاقاً هـ ك وِفاقاً هـ حِساباً هـ كِذَّاباً هـ م لأن التقدير أحصينا كل شيء أحصيناه كِتاباً هـ لا عَذاباً هـ مَفازاً هـ وَأَعْناباً هـ أَتْراباً هـ ك دِهاقاً هـ ط لأنه لو وصل اشتبه بالصفة وللموصوف وجه كما يجيء في التفسير. كِذَّاباً هـ ط لأن جَزاءً يصلح مصدرا ومفعولا له حِساباً هـ ط لمن قرأ رَبِّ بالرفع وقف على بَيْنَهُمَا إلا لمن قرأ الرحمن بالرفع رَبِّ بالجر على الرحمن وقف على الوجوه إلا إن جعله مبتدأ لا يَمْلِكُونَ خبره خِطاباً هـ لا بناء على أن يَوْمَ ظرف لا يَمْلِكُونَ صَفًّا هـ لا بناء على أن يَوْمَ ظرف لا يَتَكَلَّمُونَ صَواباً هـ لحق الشرط مع الفاء مَآباً هـ رِيباً هـ ج لأن وْمَ متعلق باذكر أو بذاباً راباً هـ. التفسير: حرف الجر إذا دخل على «ما» الاستفهامية تحذف ألفها نحو «بم» و «عم» و «علام» و «لم» هـ لشدّة الاتصال وكثرة الاستعمال. ثم إن كان الكلام مبنيا على السؤال والجواب فالسائل والمجيب واحد وهو الله، والفائدة في هذا الأسلوب أن يكون إلى التفهيم أقرب. ومعنى هذا الاستفهام تفخيم شأن ما وقع فيه التساؤل وبيان أن مطلب ما وضع للسؤال عن حقائق الأشياء المجهولة والشيء العظيم الذي تعجز العقول عن إدراكه أو يدعي فيه العجز يكون مجهولا، فوقع بين المسئول بما هو وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه، والمشابهة أحد أسباب المجاز. والنبأ العظيم القيامة بدليل الردع عن الإختلاف وللتهديد بعده. وتقديم الضمير وبناء الكلام عليه لتقوى الكلام لا للاختصاص فإن غير قريش أيضا مختلفون في أمر البعث فمنهم من يثبت الروحاني في المعاد فقط، ومنهم من يشك فيه كقوله وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً [الكهف: 36] ومنهم من يقطع بعدم البعث إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [المؤمنون: 37] كان يسأل بعضهم بعضا عن القيامة ويتحدثون عنها متعجبين من وقوعها. ويجوز أن يكون المفعول محذوفا أي يتساءلون النبي والمؤمنين نحو تراءينا الهلال فيكون التساؤل بطريق الاستهزاء ويحتمل أن يكون الضمير للمسلمين والكافرين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 429 جميعا فقد كانوا جميعا يتساءلون عنه، أما المؤمن فليزداد خشية واستعداد، وأما الكافر فلأجل الاستهزاء. وقيل: النبأ العظيم القرآن، واختلافهم فيه أن بعضهم جعلوه سحرا وبعضهم شعرا وكهانة. وقيل: نبوّة محمد كانوا يقولون ما هذا الذي حدث بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ق: 2] وقالت الشيعة: هو عليّ قال القائل في حقه هو النبأ العظيم وفلك نوح وباب الله وانقطع الخطاب. قال أهل المعاني: تكرير الردع مع الوعيد دليل على غاية التهديد. وفي «ثم» إشارة إلى أن الوعيد الثاني أبلغ، ويجوز أن يكون الأول في الدنيا والثاني في الآخرة، أو الأول للكفار والثاني للمؤمنين. وقيل: الأول ردع عن الاختلاف والثاني عن الكفر. وحذف المفعول به أي سيعلمون أن ما يتساءلون عنه مختلفين فيه حق وصدق وذلك إذا اتصل العيان بالخبر. ومن قرأ الخطاب فقد سلك سبيل الالتفات. ثم عدد دلائل القدرة على البعث ودلائل الحكمة في الجزاء على أن كلا منهما نعمة يجب أن تشكر بالتوفر على الطاعة ولا تكفر بالإقدام على المعصية. والمهاد الفراش، والأوتاد ما يشدّ بها أطناب الخيمة، شبهت الجبال الراسيات بها لأنها تحفظ الأرض أن تميد بما عليها وقد سبق تقريره. والأزواج الأصناف المتقابلات القبيح بإزاء الحسن والطويل بحذاء القصير وغير ذلك من الأضداد. والسبات الراحة. والتركيب يدل على القطع والإزالة ومنه سبت الرجل رأسه إذا حلقه، والنوم يزيل التعب عن الإنسان فيستعقب الراحة قاله ابن الأعرابي والمبرد. وقال الزجاج وغيره: هو الموت وهذا التفسير لا يناسبه مقام تعداد النعم. واللباس ما يتغطى به والليل أخفى للويل. والمعاش مصدر أو اسم زمان لأن الناس يتقلبون فيه لوجوه تعيشهم. والشداد المحكمة التي لا تقبل الشق والخرق إلا ما شاء الله. والوهاج المتلألئ الوقاد. وفي كتاب الخليل: الوهج النار. ولا شك أن الشمس جامعة للنور والحرارة. والمعصرات السحاب بلغة قريش من أعصرت إذا شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر كقولك «أحصد الزرع» أي حان أن يحصد، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض وهذا القول مروي عن ابن عباس واختاره أبو العالية والربيع والضحاك. وقال مجاهد والكلبي ومقاتل وقتادة: هي الرياح التي تنشئ السحاب وتدرّ أخلافه فكأنها مبادئ الإنزال. الثجاج المنصب بكثرة يقال «ثجه وثج بنفسه» وفي الحديث «أفضل الحج العج والثج» «1» فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج صب دماء الهدي. ثم بين غاية الإنزال وهي إخراج الحب للإنسان، والنبات للأنعام غالبا، والجنات الملتفة لأجل التلذذ والتفكه. قال الكسائي والأخفش: والألفاف جمع لف بالكسر ويحتمل   (1) رواه الترمذي في كتاب الحج باب 14. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 6، 16. الدارمي في كتاب المناسك باب 8. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 430 أن يكون جمع لفيف كشريف وأشراف. وقال في الكشاف: إنه لا واحد له كالأوزاع للجماعات المتفرقة ومنه قولهم «أخوة أخياف» أي مختلفة. واعلم أن هذه التسعة نظرا إلى حدوثها وإمكانها تدل على الفاعل المختار، ونظرا إلى ما فيها من الإتقان والإحكام تدل على كمال علمه وحكمته الذاتية. وبعد ثبوت كماله في هذه الأوصاف لم يبق للمتأمل شك في إمكان الحشر وقد أخبر الصادق عن وقوع هذا الممكن فوجب الجزم به على أن في إخراج النبات بعد جفافه ويبسه دليلا ظاهرا على إمكان إخراج الموتى من القبور وبعثهم فلهذا رتب على هذه البيانات قوله إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً أي حدا توقت به الدنيا أو حدا لفصل الحكومات تنتهي الخلائق إليه. والنفخة هاهنا هي الثانية التي تكون عندها الحياة بدليل قوله فَتَأْتُونَ أَفْواجاً أي طائفة طائفة إلى أن يتكامل اجتماعهم. وقال عطاء: كل نبي يأتي مع أمته. وروى صاحب الكشاف عن معاذ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال عليه السلام: «يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه وقال: تحشر عشرة أصناف من أمّتي بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمي، وبعضهم صم بكم، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيف، وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم. فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس، وأما الذين على صورة الخنازير فآكل السحت، وأما المنكسون فأكلة الربا، وأما العمي فالذين يجورون في الحكم، وأما الصم والبكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان، وأما الذين هو أشد نتنا من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ومنعوا حق الله في أموالهم، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء» . وفتح السماء شقها وانفطارها أو معنى آخر مغاير لهما. والضمير في فَكانَتْ للسماء كأنها لكثرة أبوابها المفتوحة لنزول الملائكة صارت بكليتها أبوابا كقوله وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: 12] ويحتمل أن يعود إلى مقدر دل عليه الكلام أي فكانت تلك المواضع المفتوحة أبوابا. وقال الواحدي: المضاف محذوف أي فكانت ذات أبواب. وأما الجبال فإنه تعالى ذكر حالها بعبارات مختلفة، ويمكن الجمع بينها بأن تدرك أوّلا وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الحاقة: 14] ثم تصير كالعهن ثم تصير كالهباء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 431 وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا وهي في كل هذه الأحوال باقية في مواضعها ثم تنسف بإرسال الرياح عليها وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ [الانفطار: 4] ثم تطير هاهنا أحوال إذا برزت من تحتها وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الكهف: 47] والثاني للجبال فتطيره في الهواء كالهباء فمن نظر إليها حسبها لتكاثفها أجساما جامدة وهي بالحقيقة مارة بتحريك الهواء كما قال وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل: 88] والثالث لها باعتبار أماكنها الأصلية فمن نظر إلى المواضع من بعيد ظن أن الجبال هناك حتى إذا دنا منها لم يجد فيها شيئا كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور: 39] وقد أشار إلى هذه الحالة بقوله وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً. ثم أخبر عن أحوال السعداء والأشقياء يومئذ. وقدم ذكر هذا المقام غير محرر فلينظر الأشقياء لأن الكلام في السورة بني على التهديد فقال إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ أي في علم الله أو هي مسلوبة الدلالة على المضي. والمرصاد إما اسم للمكان الذي يرصد فيه كالضمار للذي تضمر فيه الخيل، والمنهاج اسم للمكان الذي ينهج فيه. والمعنى أن خزنة جهنم يرصدون الكفار هناك، أو أن خزنتها يستقبلون المؤمنين عندها لأن جوازهم عليها بدليل قوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] ولهذا قال الحسن وقتادة: يعني طريقا إلى الجنة. وإما صفة نحو «مقدام» بمعنى أنها ترصد أعداء الله. وقوله لِلطَّاغِينَ متعلق بما بعده أو بما قبله، وعلى التقديرين لا بد من إضمار وهو لفظة لهم أو لأهل الجنة. ثم ذكر كيفية استقرارهم هناك فقال لابِثِينَ ومن قرأ بغير ألف فهو أدل على الثبات. قال جار الله: اللابث من وجد منه اللبث فقط، واللبث من لا يكاد يبرح المكان أما الأحقاب فزعم الفراء أن أصله الترادف والتتابع أي دهورا مترادفة لا تكاد تتناهى كلما مضى حقب تبعه آخر. وقال الحسن: الأحقاب لا يدري أحد ما هي ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة اليوم منها كألف سنة مما تعدّون. وسأل هلال الهجري عليا فقال: الحقب مائة سنة السنة اثنا عشر شهرا والشهر ثلاثون يوما واليوم ألف سنة. وقال عطاء والكلبي ومقاتل عن ابن عباس: الحقب الواحد بضع وثمانون سنة والسنة ثلاثمائة وستون يوما واليوم ألف سنة من أيام الدنيا. ونحو هذا يروى عن ابن عباس وقطرب مرفوعا. فإن قيل: عذاب أهل النار ولا سيما الطاغين غير متناه والأحقاب بالتفاسير المذكورة وإن كثر مبلغها متناهية، فما وجه الجمع بينهما؟ قلنا: الحقب متناه ولكن الأحقاب لا نسلم أنها متناهية فإن الجمع لا يلزم تناهي آحاده فيجوز أن يكون المعنى كلما مضى حقب تبعه آخر. قال الفراء: سلمنا أن الأحقاب تفيد التناهي لكن بالمفهوم والنصوص الدالة على التأبيد كقوله يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 432 وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها [المائدة: 37] تدل بالمنطوق ولا شك أن المنطوق راجح. وقال الزجاج: المعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا غير ذائقين بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا، ثم ينقلون إلى جنس آخر غير الحميم والغساق. وذكر في الكشاف وجها آخر وهو أن يكون أحقابا من حقب عامنا هذا إذا قل خيره. وحقب فلان إذا أخطأ الرزق فهو حقب كحذر وجمعه أحقاب فينتصب حالا منهم أي لابثين في أسوأ حال. والبرد معروف أي لا يجدون هواء باردا ولا ماء باردا. وقال الأخفش والفراء: هو النوم وذلك أن البرد لازم للنوم ولهذا يسكن العطش. وسببه توجه الحرارة الغريزية إلى الباطن عند فتور الحواس الظاهرة والحركات الاختيارية وفي أمثالهم «منع البرد البرد» أي أصابني من البرد ما منعني من النوم. وقد يضعف هذا القول أنهم لا يقولون ذقت البرد ويقولون «ذقت الكرى» وبأنهم يجدون الزمهرير فكيف يصح نفي البرد عنهم. وقد يجاب عن الأول بأن الذوق في الصورتين مجاز فأي ترجيح لأحدهما على الآخر. وعن الثاني بأن المراد برد له روح لا الذي فيه عذاب. والحميم الماء البالغ في الحرارة، والغساق صديد أهل النار. قوله جَزاءً نصب على المصدر أي جزاهم جزاء. وانتصب وِفاقاً على الوصف أي ذا وفاق أو موافقا لعملهم في القبح والفظاعة والدوام. ثم ذكر علة التأبيد فقال إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً لا يخافون أو لا يتوقعون حسابا وهذه إشارة إلى نقصانهم بحسب القوة العلمية فإن الذي اعتقد أنه لا حشر ولا حساب لا يبالي بأي شيء ترك من القبائح والمظالم أو أي شيء ترك من الخيرات والفضائل. قوله وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً إشارة إلى فساد عقائدهم حتى جحدوا الحق وكذبوا الرسل. ومصدر «فعل» مشدد العين يجيء على «فعال» بالتشديد وهو الأكثر، وبالتخفيف عند بعضهم ولهذا لم يقرأ به إلا في الشواذ. قال جار الله: هو مصدر كذب بدليل قوله: فصدّقتها وكذبتها ... والمرء ينفعه كذابه وهو مثل قوله أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] يعني وكذبوا بآياتنا وكذبوا كذابا أو تنصبه ب كَذَّبُوا لأنه يتضمن معنى كذبوا لأن كل مكذب بالحق كاذب. وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة أو كذبوا بها مكاذبين، لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يبالغ في أمر فبلغ فيه أقصى جهده. أقول: أراد بهذا الوجه الأخير أن باب المغالبة يبنى على المفاعلة فيمكن أن يستدل بالمفاعلة على المبالغة بطريق العكس الجزئي وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ من باب الإضمار على شريطة التفسير. قوله كِتاباً مصدر لأنه والإحصاء يتلاقيان في معنى الضبط والتحصيل، ويجوز أن يكون حالا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 433 أي مكتوبا في اللوح أو في صحف الأعمال. قال جار الله: هذه جملة معترضة. أقول: إنها من تمام التعليل المذكور أي فعلوا كذا وكذا ونحن عالمون بجميع الكليات والجزئيات فلهذا كتبنا جزاء العاصين على وفق أعمالهم. ثم أظهر غاية السخط بطريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والتعقيب بفاء الجزاء الدال على أن المذكور سبب عن كفرهم بالحسنات وتكذيبهم بالآيات. وزيادة العذاب يحتمل أن تكون لأجل أن المؤثر إذا استمرّ ودام ازداد الإحساس بأثره، ويحتمل أن يكون لازدياد كفرهم وعتوّهم حينا بعد حين كقوله فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125] ويحتمل أن تكون زيادة العذاب عبارة عن نفس استمراره لأنه يتزايد بمرور الزمان، والمراد انا لن نخلصكم من العذاب إلى خلافه. ثم شرع في شرح أحوال السعداء قائلا إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً فوزا وظفرا بالمطالب والأماني أو موضع فوز ثم فسره بقوله حَدائِقَ إلخ. والحدائق البساتين فيها أنواع الشجر وقد مرّ في قوله حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ [النمل: 60] وخص منها الأعناب لشأن مزيته على سائر الفواكه. والكواعب النواهد واحدها كاعب كطالق وطامث وهي التي ظهر ثديها كالكعب لها نتوّ قليل. والأتراب اللدات. والدهاق المترعة المملوءة وهذا قول أكثر أهل اللغة كأبي عبيدة والزجاج والكسائي والمبرد. يروى أن ابن عباس دعا غلاما له فقال: اسقنا دهاقا فجاء الغلام بها ملانة فقال ابن عباس: هذا هو الدهاق. وعن أبي هريرة وسعيد بن جبير ومجاهد: هي المتتابعة. قال الواحدي: وأصل هذا من قول العرب أدهقت الحجارة إدهاقا وهو شدّة تلازمها ودخولها بعضها في بعض. وعن عكرمة: دهاقا أي صافية. والدهاق على هذا القول يجوز أن يكون جمع دهق وهي خشبتان يعصر بهما. والكأس الخمر أي خمرا ذات دهاق وهي التي عصرت وصفيت بالدهاق. ولا يَسْمَعُونَ فِيها أي في الجنة وهو الأظهر أو في الكأس وشربها لَغْواً كلاما باطلا وَلا كِذَّاباً أي لا يكذب بعضهم بعضا لأنهم إخوان الصفاء وأخذان الوفاء. ومن قرأ بالتخفيف فمعناه أنه لا يجري بينهم كذب أو مكاذبة. قال جار الله: جَزاءً مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً كأنه قال: جازى المتقين بمفاز وعَطاءً نصب ب جَزاءً نصب المفعول به أي جزاهم عطاء. وقال الزجاج: المعنى جازاهم بذلك جزاء وأعطاهم عطاء. ومعنى حِساباً كافيا من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال: حسبي. وقيل: أي على حسب أعمالهم فمعنى الحساب العدّ والتقدير لبعضهم عشرة ولبعضهم سبعمائة وأكثر. وقال ابن قتيبة: هو من أحسبت فلانا أي أكثرت له يعني عطاء كثيرا. وإنما قال في الأول جَزاءً وِفاقاً لأن جزاء السيئة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 434 سيئة مثلها أي موافقة لها. وأما هاهنا فالمراد ثواب المؤمنين وليس ذلك بتقدير العمل فقط ولكن بمقدار ما يكفيه. ثم مدح نفسه بقوله رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ وقد تقدّم إعرابه في الوقوف. والضمير في لا يَمْلِكُونَ قيل للكافرين نقله عطاء عن ابن عباس، يريد لا يخاطب المشركون الله، وأما المؤمنون فيشفعون ويقبل الله ذلك منهم. وقيل للمؤمنين لأن ذكرهم أقرب من ذكر الكفار، والمراد أنه ما تحيف حقهم فبأي سبب يخاطبونه. والأكثرون على أن الضمير لأهل السموات والأرض فإن أحدا من المخلوقين لا يملك خطابا من جهة الله إذ كل من هو سواه فهو مملوكه، والمملوك لا يملك من جهة مالكه شيئا وإلا لم يكن للمالك كمال الملك. وقالت المعتزلة: إنه عالم بقبح القبيح غني عن فعله وعالم بغناه فلا يفعل إلا الحسن وحينئذ لا وجه للمطالبة والمخاطبة. ثم أكد المعنى المذكور بقوله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وهو أعظم المخلوقات قدرا كما مرّ في سورة سبحان في تفسير قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: 85] والصف مصدر في الأصل لا يثنى ولا يجمع غالبا فلهذا جاز أن يكون المراد أنهم يقومون صف من الروح وحده ومن الملائكة بأسرهم صف، وجاز أن يكون يراد يقوم الكل صفا واحدا أو يقومون صفوفا لقوله وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] ثم بين أنهم مع جلالة قدرهم لا يتكلمون إلا بشرطين: أحدهما الإذن من الله، والضمير في لَهُ إما للشافع أو للمشفوع. والثاني أن يقول صَواباً والضمير في قالَ أيضا إما للشافع فالمراد أنهم لا ينطقون إلا بعد ورود الإذن في الكلام، ثم بعد الإذن يجتهدون حتى لا يتكلمون إلا بما هو حق وصواب. وإما للمشفوع. والقول الصواب على هذا التفسير شهادة أن لا إله إلا الله وذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ أي لا باطل فيه ولا ظلم أو هو الكائن لا محالة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ بالطاعة إِلى رَبِّهِ مَآباً ومرجعا. والظاهر أن الضمير عائد في شاءَ إلى فَمَنْ وفيه دليل للمعتزلة. ويروى عن الخدري وابن عباس أن الضمير لله ذاباً قَرِيباً هو عذاب الآخرة لأن ما هو آت قريب. وفي المرء أقوال: فعن عطاء أنه الكافر لتقدّم ذكر الإنذار وقوله الكافر ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم. وعن الحسن وقتادة: إنه المؤمن لمجيء ذكر الكافر بعده، ولأن المؤمن لما قدّم الخير والشر فهو منتظر لأمر الله كيف يحدث، وأما الكافر فإنه قاطع بالعذاب ومع القطع لا يحصل الانتظار. والأظهر أنه عام في كل مكلف. و «ما» استفهامية منصوبة بدَّمَتْ أو موصولة منصوبة بنْظُرُ فيلزم إضمار «إن» حذف العائد من قدّمته، وحذف الجار لأن الأصل أن يقال ينظر إليه. قوله نْتُ تُراباً فيه وجوه أحدها: ليتني لم أبعث غير محشور. الثاني ما ورد في الأخبار أن البهائم تحشر فيقتص الجزء: 6 ¦ الصفحة: 435 للجماء من القرناء ثم تردّ ترابا فيودّ الكافر حالها ليتخلص من العذاب. وأنكر بعض المعتزلة ذلك لأنه تعالى إذا أعادها فهي بين معوّض وبين متفضل عليه، وعلى التقديرين لا يجوز أن يقطعها عن المنافع لأن ذلك كالإضرار بها. قال القاضي: إذا وفر الله أعواضها وهي غير كاملة العقل لم يبعد أن يزيل الله حياتها على وجه لا يحصل لها شعور بالألم فلا يكون ضررا. وقال بعضهم: إن الحيوانات إذا انتهت مدّة أعواضها جعل الله تعالى كل ما كان منها حسن الصورة ثوابا لأهل الجنة، وما كان قبيح الصورة عقابا لأهل النار. الثالث قال بعض الصوفية: أراد يا ليتني كنت متواضعا في طاعة الله كالتراب لا مرتفعا كالنار. الرابع قيل: الكافر إبليس يرى آدم وثواب أولاده فيتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص: 76] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 436 (سورة النازعات) (وهي مكية حروفها سبعمائة وثلاثون وآياتها ست وأربعون وكلمها مائة وسبعون) [سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 46] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) القراآت: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً بالإدغام فيهما: أبو عمرو غير عباس أثنا أَإِذا كما مر في «الرعد» إلا ابن عامر فإنه وافق الكسائي ناخرة بالألف: حمزة وعلي غير نصير وعتيبة وخلف ورويس وعاصم غير المفضل وحفص وطُوىً كما مر في «طه» وكذا ما بعدها إلا حمزة وخلف في اختياره فإنهما يفتحان. ومنها تَزَكَّى بتشديد الزاي: أبو جعفر ونافع وابن كثير وعباس ويعقوب منذر من بالتنوين: يزيد وعباس. الآخرون: بالإضافة للتخفيف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 437 الوقوف غَرْقاً هـ لا نَشْطاً هـ لا سَبْحاً هـ لا سَبْقاً هـ لا أَمْراً هـ م لأن جواب القسم محذوف وهو ليبعثن ولأنه لو وصل لأوهم أن يَوْمَ ظرف فَالْمُدَبِّراتِ وليس كذلك لأن تدبير الملائكة قد انقضى وقتئذ بل عامل يَوْمَ تتبعها الرَّاجِفَةُ هـ لا الرَّادِفَةُ هـ ط واجِفَةٌ هـ ط خاشِعَةٌ هـ م لتناهي وصف القيامة وابتداء حكاية قولهم في الدنيا فِي الْحافِرَةِ ط لمن قرأ اإذا مستفهما نَخِرَةً هـ ط خاسِرَةٌ هـ م لتناهي قولهم بالإنكار وابتداء أخبار الله تعالى واحِدَةٌ هـ ط بِالسَّاهِرَةِ هـ ط مُوسى هـ م لأن إِذْ ناداهُ يجوز أن يكون ظرفا لا ذكر قاله السجاوندي. ويحتمل عندي تعلقه بالحديث وإن لم يجز تعلقه بإتيان الحديث طُوىً هـ ج لاحتمال أن يكون اذْهَبْ مفعول ناداهُ لأنه في معنى القول واحتمال أن يكون مفعول القول المحذوف طَغى هـ للآية مع اتفاق الجملتين والوصل أوجه للفاء تَزَكَّى هـ لا للعطف فَتَخْشى ط للآية وانتهاء الاستفهام مع العطف بفاء التعقيب الْكُبْرى هـ ز لذلك إنما كان الوصل أوجه للفاء واتصال المقصود وَعَصى هـ يَسْعى هـ فَنادى هـ الْأَعْلى هـ والوصل هاهنا ألزم للعبرة بتعجيل المؤاخذة وَالْأُولى هـ ط يَخْشى هـ ط لتبدل الكلام لفظا ومعنى وابتداء الاستفهام أَمِ السَّماءُ هـ ط بناء على أن الجملة لا تقع صفة للمعرفة وتقدير حذف الموصول من ضيق العطن فاعرفه بَناها هـ لا فَسَوَّاها هـ لا ضُحاها هـ ص دَحاها هـ ط بناء على أن ما بعده كالتفسير للدحو وهو تمهيدها لأجل السكنى، وجوز أن يكون أَخْرَجَ حالا بإضمار «قد» فلا وقف مَرْعاها هـ ص أَرْساها هـ وَلِأَنْعامِكُمْ هـ ط الْكُبْرى هـ ز لأن يَوْمَ ظرف جاءَتِ وعامل «إذا» مقدّر تقديره أي ترون أو كان ما كان، وجوز أن يكون يَوْمَ مفعول «اذكر» وعامل «إذا» مقدّر قبل يوم، ويجوز أن يكون مجموع الشرط والجزاء وهو قوله فَأَمَّا مَنْ طَغى إلى آخره جوابا لقوله فَإِذا جاءَتِ. سَعى هـ ط لِمَنْ يَرى هـ طَغى هـ لا الدُّنْيا هـ لا الْمَأْوى ط الْهَوى هـ لا الْمَأْوى هـ ط مُرْساها ط ذِكْراها هـ ط مُنْتَهاها هـ ط يَخْشاها هـ ط ضُحاها هـ. التفسير: في الكلمات الخمس المذكورة في أول السورة وجوه على نسق ما سبق في المرسلات أحدها: أنها صفات طوائف الملائكة الذين ينزعون نفوس الكفرة من بني آدم غرقا أي نزعا بشدّة من أقاصي الأجساد من أناملها وأظفارها. والغرق والإغراق في اللغة واحد يقال: نزع في القوس فأغرق أي بلغ غايته حتى انتهى إلى النصل، وبالذين يجذبون نفوس المؤمنين برفق ولين كما ينشط الدلو من البئر، وبالطوائف التي تسبح في مضيها أي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 438 تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر بإذن الله أمرا من أمور العباد أو جنس الأمر. قال مقاتل: يعني بهذه الطوائف جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأعوان كل منهم. فجبريل موكل بالرياح والجنود، وميكائيل موكل بالقطر والنبات، وإسرافيل بنفخ الصور، وملك الموت عزرائيل وأعوانه بقبض الأرواح. قال الإمام فخر الدين الرازي: النازعات هم الذين نزعوا أنفسهم عن الصفات البشرية والأخلاق الذميمة من الشهوة والغضب والموت والهرم والسقم لأنهم جواهر روحانية مجردة، والناشطات إشارة إلى أن خروجهم من هذه الأحوال ليس على سبيل الكلفة والمشقة ولكنه بمقتضى الطبيعة والماهية، والسابحات هم الذين سبحوا في بحار جلال الله فسبق بعضهم بعضا في ميدان العرفان وحلبة البرهان فدبروا أمر العالم العلوي والعالم السفلي بإذن مبدعهم المنّان. أقول: ويمكن حمل هذه الأمور على مراتب النفس الإنسانية بمثل التقدير المذكور. الوجه الثاني وهو قول الحسن البصري أنها النجوم وتلخيص ذلك على الوجه المطابق للغة والشريعة أنها تغرق شبه النزع من المشرق إلى المغرب بالحركة السريعة، وتنشط نشطا أي تخرج من برج إلى برج من قولك «ثور ناشط» إذا خرج من بلد إلى بلد، وهذا بحركته البطيئة الثابتة. وأما السابحات فهي السيارة كقوله كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33] ولأن سيرها المتفاوت يصير سببا لسبق بعضها بعضا، ويترتب على السبق الاتصالات والانصرافات ومعرفة الفصول والأوقات وتقدّم العلم بالكائنات بل العالم السفلي وتدبيراتها مناط بتلك الحركات بإذن خالق الأرض وفاطر السموات فلهذا أدخل الفاء في القرينتين الأخريين دون الأوليات. الوجه الثالث أنها صفات خيل الغزاة تنزع في أعنتها نزعا، تغرق الأعنة فيه لطول أعناقها لأنها عراب، وهى ناشطات تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب، وهي سابحات تسبح في جريها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر وتتسبب فيه. الوجه الرابع وهو اختيار أبي مسلم النازعات أيدي الغزاة وأنفسهم تنزع القسي بإغراق السهام، والناشطات السهام الخارجة من أيديهم أو قسيهم، والسابحات الخيل العاديات أو الإبل، والمدبرات بمعنى المعقبات لأنها تأتي في أدبار هذه الأفاعيل بأمر الغلبة والنصر. قال جار الله: يَوْمَ تَرْجُفُ منصوب بجواب القسم المحذوف وهو «لتبعثن» . وقوله تَتْبَعُهَا حال. ثم أورد على نفسه أن هذا يوجب أن يكون البعث عند النفخة الأولى وأجاب عنه بأنهم يبعثون في الوقت الواسع الذي يقع فيه النفختان كما يقال «رأيته عام كذا» وإنما رؤيته في ساعة منها. والراجفة الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال وهي النفخة الأولى فهي من الإسناد المجازي. والرادفة رجفة أخرى تتبع الأولى فتضطرب الأرض لإحياء الموتى كما اضطربت في الأولى لموت الأحياء، وقد ورد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 439 الخبر أن ما بين النفختين أربعون عاما. ويروى أنه تعالى يمطر الأرض في هذه الأربعين ويصير ذلك الماء عليها كالنطف فيكون سببا في الإحياء ولله تعالى أن يفعل ما يشاء. وقيل: الراجفة هي النفخة الأولى، والرادفة هي قيام الساعة من قوله تعالى عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [النمل: 72] وقيل: الراجفة الأرض والجبال من قوله يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [المزمل: 14] والرادفة السماء والكواكب لأنها تنفطر وتنتثر على أثر ذلك. وقيل: الراجفة هي الأرض تتحرك وتتزلزل، والرادفة زلزلة ثانية تتبع الأولى حتى تنقطع الأرض وتفنى. قال أبو مسلم بناء على تفسيره الذي روينا عنه إن كلا من الراجفة والرادفة هي خيل المشركين وأريد بهما طائفتان من المشركين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبعت إحداهما الأخرى. والقلوب الواجفة أي القلقة، والأبصار الخاشعة هي أبصار المنافقين وعلى الأقوال القلوب الموصوفة مبتدأ. وقوله أَبْصارُها خاشِعَةٌ خبره وفي الكلام إضمار أي أصحابها خاشعة بدليل قوله يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أي الحالة الأولى وهي الحياة وأصله من قولهم «رجع فلان في حافرته» أي طريقه التي جاء فيها، جعل أثر قدميه حفرا فالطريق في الحقيقة محفورة إلا أنها سميت حافرة على الإسناد المجازي أو على وتيرة النسبة أي ذات حفر كما قلنا في «عيشة راضية» ونحوه كَرَّةٌ خاسِرَةٌ كما يجيء. ثم زادوا في الإنكار مع إشارة إلى وجه الإحالة قائلين أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً نردّ أو نبعث. يقال: نخر العظم فهو نخر وناخر مثل حذر وحاذر وهو الأجوف البالي الذي تمر فيه الريح فيسمع له نخر وهما لغتان فصيحتان، لأن النخر وإن كان أبلغ في المعنى إلا أن الناخرة بالألف أشبه بأخواتها من رؤوس الآي. ثم أخبر أنهم قالوا على سبيل الاستهزاء تِلْكَ الكرة إِذاً أي إذا نحشر ونردّ ونرجع كَرَّةٌ خاسِرَةٌ رجعة ذات خسران لأنا كذبنا بها. ثم أفحمهم بقوله فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ أي لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله فما هي إلا صيحة واحِدَةٌ يقال: زجر البعير إذا صاح عليه وهي صيحة إسرافيل في النفخة الثانية. يروى أنه تعالى يحييهم في بطون الأرض فيسمعونها فيقومون. والساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك لأن ساكنها لا ينام خوف الهلاك، أو لأن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة أي جارية. والأظهر أنها أرض الآخرة. وقيل: هي أرض الدنيا ثم ذكرهم بقصة موسى لأنه أبهر الأنبياء المتقدّمين معجزة وفيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لأن فرعون كان أكثر جمعا وأشدّ قوة من كفار قريش. والوادي المقدّس المبارك المطهر، وطوى اسم واد بالشأم عند الطور وقد مر في «طه» . قوله هَلْ لَكَ الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي هل لك حاجة أو ميل أو التفات ونحو ذلك، وهذه كلمة جامعة لمواجب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 440 التكاليف لأن المكلف لا يصير زاكيا إلا بالتخلية عن كل ما لا ينبغي، ويجوز أن يكون التزكي إشارة إلى تطهير النفس الفاسدة. قوله وَأَهْدِيَكَ إشارة إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة أقلها وأفضلها التوحيد المرتب عليه الخشية التي منها تنشأ جوامع الخيرات ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل» وعن بعض الحكماء: اعرفوا الله فمن عرفه لم يقدر أن يعصيه طرفه عين. ثم هاهنا إضمار كأنه قال: فذهب موسى إلى فرعون فقال له ما أمر به فلم يصدقه فرعون وجحد نبوته فَأَراهُ وفي ابتداء المخاطبة بالاستفهام الذي معناه العرض من التلطف والمداراة ما لا يخفى فهو كقوله فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] والآية الكبرى العصا أو اليد أو هما كما مر في «طه» فَكَذَّبَ بالقلب واللسان إذ نسب المعجز إلى السحر وَعَصى بإظهار التمرد والطغيان ثُمَّ أَدْبَرَ خوفا من الثعبان يَسْعى هاربا أو يتحيل في دفع موسى أو تولى عن موسى إظهارا للجحود. وجوز أن يكون أَدْبَرَ موضوعا مكان «أقبل» كما يقال: أقبل فلان يفعل كذا بمعنى طفق يفعل فكنى عن الإقبال بالإدبار إظهارا للسخط ولقصد التفاؤل عليه. ومعنى الفاء في فَكَذَّبَ أنه لم يلبث عقيب رؤية الآية الكبرى أن بادرها بنقيض مقتضاها لفرط عتوّه ورسوخ تفر عنه. ومعنى «ثم» في ثُمَّ أَدْبَرَ تراخي الرتبة فإن الهرب من الحية مع ادعاء الربوبية مما لا يجتمعان وكذا السعاية والمكيدة بين الناس فَحَشَرَ جنوده للتشاور أو لجمع السحرة فَنادى في المقام الذي اجتمعوا فيه معه أو أمر مناديا. وقيل: قام فيهم خطيبا فقال ما قال. وانتصب نَكالَ الْآخِرَةِ على أنه مصدر مؤكد كأنه قيل: نكل الله به نكالا وهو مصدر كالتنكيل مثل السلام والتسليم. قال الحسن وقتادة: عذاب الآخرة الإحراق وعذاب الأولى الإغراق. وقيل: الآخرة والأولى صفتان لكلمتي فرعون. ثم اختلفوا فعن مجاهد والشعبي وسعيد بن جبير ومقاتل ورواية عطاء والكلبي عن ابن عباس أن كلمته الأولى ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] والثانية أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] وبينهما أربعون سنة أو عشرون، وفيه دليل على أنه تعالى يمهل ولا يهمل. وذكر قوم واستحسنه القفال أن كلمته الأولى تكذيب موسى حين أراه الآية، والأخرى هي قوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وقد يدور في الخلد أن كلمته الأولى هي قوله أَنَا رَبُّكُمُ والآخرة وصفه بالأعلى فإنه لو اقتصر على الأولى لم يكن كفرا بدليل قول يوسف ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ [يوسف: 50] إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يوسف: 23] لكنه لما وصفه بالأعلى صار كفرا فأخذه بالأولى والآخرة. قال الإمام فخر الدين الرازي: إن العاقل لا يشك في نفسه أنه ليس خالق السموات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 441 والأرض وما بينهما، فالوجه أن يقال: إن فرعون كان دهريا منكرا للصانع والحشر والجزاء وكان يقول ليس لأحد عليكم أمر ولا نهي سواي فأنا ربكم بمعنى مربيكم والمحسن إليكم. وأقول: كما أن نسبة الإنسان خلق العالم إلى نفسه يوجب الحكم عليه بالجنون وسخافة العقل فالقول بنفي الصانع ونسبة وجود الأشياء إلى ذواتها مع تغيرها في أنفسها يوجب الحكم عليه بعدم العقل فما الفرق بين الأمرين؟ وأيّ استبعاد في ذلك وقد قال الله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 7] وسكر الدنيا أشدّ من سكر الخمر فإن الثمل من الخمر يرجى صحوه والثمل من شراب حب المال والجاه الطافح من خيال الرياسة لا ترجى إفاقته. ثم ختم القصة بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ الحديث أو النكال وهو في العرف يقع على ما يفتضح به صاحبه ويعتبر به المعتبر لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى أي يكون من أهل الخشية لا القسوة. ثم خاطب منكري البعث بقوله أَأَنْتُمْ أَشَدُّ أي أصعب خَلْقاً أَمِ السَّماءُ فنبههم على أمر معلوم بالمشاهدة وهو أن خلق السماء أعظم وأبلغ في القدرة. وإذا كان الله قادرا على إنشاء العالم الأكبر يكون على خلق العالم الأصغر بل على إعادته أقدر. ثم أشار إلى كيفية خلق السماء فقال بَناها وفيه تصوير للأمر المعقول وهو الإبداع والاختراع بالأمر المحسوس وهو البناء. ثم ذكر هيئة البناء فقال رَفَعَ سَمْكَها وهو الامتداد القائم على كل من امتدادي الطول والعرض. فإذا اعتبر من السفل إلى العلو يسمى سمكا، وإذا اعتبر بالعكس يسمى عمقا. وذكر أهل التفسير أن ما بين كل سماء مسيرة خمسمائة عام. ولأهل الهيئة طريقة أخرى قد برهنوا عليها في كتبهم. قوله فَسَوَّاها زعم أصحاب الهيئة أن المراد بهذه التسوية جعلها كرية ولا ضرر في الدين من هذا الاعتقاد. وحملها المفسرون على تمام التأليف أو على نفي الفطور عنها. وأقول: من الجائز أن يراد بها جعلها طبقات مرتبة كقوله فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: 29] الغطش الظلمة يقال: غطش الليل وأغطشه الله. ويقال: أغطش الليل أيضا مثل أضاء وأظلم. وعبر بالضحى عن النهار لأن الضحى أكمل أجزائه في النور والضوء. وإنما أضاف الليل والنهار إلى السماء لأنهما بسبب غروب الشمس وطلوعها الحادثين بسبب حركة الفلك قوله وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها قد مر تفسير الدحو في أول سورة «البقرة» وأن بعدية دحو الأرض لا تنافي تقدّم خلق الأرض على السماء في قوله هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [البقرة: 29] قال أهل اللغة: دحوت أدحو ودحيت أدحى لغتان في حديث عليّ: اللهم داحي المدحيات أي باسط الأرضين السبع. وقد يروى عن ابن عباس ومجاهد والسدّي وابن جريج أن قوله بَعْدَ ذلِكَ يعنى مع ذلك كقوله فَكُّ رَقَبَةٍ إلى قوله ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد: 17] أي كان مع هذا من أهل الإيمان بالله. ونصب الْأَرْضَ وَالْجِبالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 442 فيما يجيء بإضمار دحى وأرسى على شريطة التفسير. قال المفسرون: أراد بالمرعى جميع ما يأكله الناس والأنعام فيكون الرعي مستعارا للإنسان ولهذا قال مَتاعاً أي فعل كل ذلك تمتيعا لكم ولأنعامكم. وحين فرغ من دلائل القدرة على البعث رتب عليه شرح يوم القيامة. والطامة الداهية التي لا تطاق من قولهم طم الفرس طميما إذا استفرغ جهده في المشي والجري فإذا وصفت بالكبرى كانت في غاية الفظاعة ونهاية الشدّة، وفي أمثالهم «جرى الوادي فطم على القري» وهو مفرد وجمعه أقرية وقريان وهي الجداول والأنهار. وأصل الطم الدفن والغلب فكل ما غلب شيئا وقهره وأخفاه فقد طمه. وقيل: الطامة النفخة الثانية عن الحسن. وقيل: هي الساعة التي يساق بها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار. قال جار الله: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ بدل من فَإِذا جاءَتِ لأنه إذا رأى أعماله مدوّنة مكتوبة تذكرها وكان قد نسيها. قوله وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى كقولهم «قد بين الصبح لذي عينين» وهو مثل في الأمر المنكشف الذي لا يخفى على أحد فعلى هذا يكون استعارة ولا يجب أن يراها كل أحد لأن الإخبار إنما وقع عن كونها بحيث لا تخفى على ذي بصر لا عن وقوع البصر. وقيل: إنها برزت الجحيم ليراها كل من له بصر وعلى هذا يجب أن يراها كل أحد إلا أن المؤمنين يمرون عليها كالبرق الخاطف، وأما الكافرون فيقعون فيها فكأنها برزت لأجلهم فقط، وبهذا الاعتبار قال في موضع آخر. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشعراء: 91] وقوله طَغى إشارة إلى فساد القوى النظرية فإن من عرف الله بالكمال عرف نفسه بالنقصان فلم يصدر عنه الطغيان. قوله وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا رمز إلى اختلال القوّة العملية فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة. واللام في الْمَأْوى للعهد الذهني أي مأواه اللائق به ولهذا استغنى عن العائد ولا حاجة إلى تكلف أن الألف، واللام بدل من الإضافة. قوله خافَ مَقامَ رَبِّهِ نقيض طغى. قوله وَنَهَى النَّفْسَ الأمارة وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فهذا الشخص إذا كامل في قوّته النظرية والعملية. وتفسير خافَ مَقامَ رَبِّهِ قد مر في سورة الرحمن. وَنَهَى النَّفْسَ ضبطها وتوطينها على متاعب التكاليف من الأفعال والتروك. ثم إن المشركين كانوا يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الطامة والحاقة وغيرهما من أسماء القيامة فيسألون أَيَّانَ مُرْساها أي زمان إرسائها وهو إقامة الله إياها وقد مر في آخر «الأعراف» . وعن عائشة رضي الله عنها لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت. وقوله فِيمَ أَنْتَ على هذا تعجب من كثرة ذكره لها كأنه قيل: في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها حرصا على جوابهم إلى ربك منتهى علمها لم يؤته أحدا من خلقه. ويجوز أن يكون قوله فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها من تتمة السؤال أي يسألونك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 443 فيم أنت من العلم بها. ويحتمل أن يكون فيم إنكار سؤالهم أي فيم هذا السؤال. ثم قيل: أنت من ذكراها أي إرسالك وأنت آخر الرسل وخاتم الأنبياء ذكر من أذكارها وعلامة من علاماتها فلا حاجة إلى الاستفهام عن وقتها بعد العلم باقترابها، فإن هذا القدر من العلم يكفي في وجوب الاستعداد لها بل لا يتم الغرض من التكليف إلا بإخفاء وقته كالموت إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ لا تتعداه إلى العلم بالغيب الذي العلم بالساعة جزئي منه. وخص الإنذار بأهل الخشية لأنهم المنتفعون بذلك. ثم أخبر أنهم حين يرون الساعة يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا. وقيل: في القبور. روى عطاء عن ابن عباس أن الهاء والألف صلة والمعنى لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى. وقال النحويون: فيه إضمار والتقدير إلا عشية أو ضحى يوم تلك العشية على أن الإضافة في ضُحاها يكفي فيها أدنى ملابسة وهو هاهنا اجتماعهما في نهار واحد. قال صاحب الكشاف: فائدة الإضافة الدلالة على أن مدة لبثهم كانها لم تبلغ يوما كاملا. قلت: سلمنا أن هذه الفائدة مفهومة من عبارة القرآن إلا أنها تحصل أيضا بتقدير عدم الإضافة كما لا يخفى فلا يصح أن تسند الفائدة إلى الإضافة وحدها. فالوجه أن يقال: فائدة الإضافة أن يعلم أن مجموع مدة الدنيا في ظنهم كيوم واحد وزمان لبثهم في الدنيا كساعة منه عشية أو ضحاها نظيره قول القائل «ما سرت إلا عشية أو ضحى» فإنه لا يفهم منه إلا السير في بعض يوم ما، وقد تكون العشية من يوم والضحى من يوم آخر. ولو قال «إلا عشيته أو ضحاها» لم يمكن أن يكون السير إلا في أحد هذين الوقتين من يوم واحد. قال بعضهم: فائدة الترديد أن زمان المحنة يعبر عنه بالعشية وزمان الراحة يعبر عنه بالضحى فكأنه قيل: ما كان عمرنا في الدنيا إلا هاتين الساعتين. أقول: ويحتمل أن يقال إن مبدأ اليوم بليلته كان قبل شرعنا في أكثر الأديان من نصف النهار وقد صار المبدأ في شرعنا من أول الفجر وكأنهم حين أرادوا التعبير عن بعض اليوم. قالوا: إن كان المبدأ من نصف النهار فنحن لم نلبث إلا عشية وهو ما بعد الزوال إلى الغروب، وإن كان المبدأ من أول الفجر فلم نلبث إلا من الفجر إلى الضحى فلعل هذا هو السر في تقديم العشية على الضحى مع رعاية الفاصلة والله أعلم بأسرار كلامه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 444 (سورة عبس) (مكية حروفها خمسمائة وثلاثة وثلاثون كلمها مائة وثلاث وثلاثون آياتها اثنتان وأربعون) [سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 42] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) القراآت: كل آيات هذه السورة في الإمالة والتفخيم مثل سورة طه فَتَنْفَعَهُ بالنصب على أنه جواب لعل: عاصم غير الأعشى تَصَدَّى بتشديد الصاد للإدغام: أبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون: بتخفيفها بناء على حذف تاء تتفعل أو الخطاب عنه تَلَهَّى بإشباع ضمة الهاء وتشديد التاء: البزي وابن فليح أَنَّا بالفتح على البدل من الطعام: عاصم وحمزة وخلف. الوقوف: وَتَوَلَّى هـ لا الْأَعْمى هـ ط يَزَّكَّى هـ لا الذِّكْرى هـ ط اسْتَغْنى هـ لا تَصَدَّى هـ ط يَزَّكَّى هـ يَسْعى هـ لا يَخْشى هـ تَلَهَّى هـ ز لأن كَلَّا للردع فلا يوقف أو بمعنى حقا فيوقف تَذْكِرَةٌ هـ ج للشرط بعده مع الفاء ذَكَرَهُ هـ م لأن الظرف لا يجوز أن يتعلق بما قبله ولكنه خبر مبتدأ محذوف أي هو في صحف مُكَرَّمَةٍ هـ لا مُطَهَّرَةٍ هـ لا سَفَرَةٍ هـ ز بَرَرَةٍ ط أَكْفَرَهُ هـ ط خَلَقَهُ هـ ز لأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 445 الجواب محذوف أي خلقه من نُطْفَةٍ ط فَقَدَّرَهُ هـ لا يَسَّرَهُ هـ ز فَأَقْبَرَهُ هـ لا أَنْشَرَهُ هـ ط بناء على أن كَلَّا بمعنى حقا ولا يصلح للردع وجه كما يجيء أَمَرَهُ هـ ط إِلى طَعامِهِ هـ ز إلا لمن قرأ أَنَّا بالفتح صَبًّا هـ لا شَقًّا هـ لا حَبًّا هـ ز وَقَضْباً هـ ك وَنَخْلًا هـ ك غُلْباً هـ ك وَأَبًّا هـ لا وَلِأَنْعامِكُمْ هـ ط الصَّاخَّةُ هـ ز فإن الأوضح أن يكون يَوْمَ ظرف جاءَتِ وجوز أن يكون مفعول «اذكر» محذوفا والعامل مقدّر أي فإذا جاءت الصاخة كان ما كان أَخِيهِ لا وَأَبِيهِ هـ ك وَبَنِيهِ هـ ط يُغْنِيهِ هـ ك مُسْفِرَةٌ هـ لا مُسْتَبْشِرَةٌ هـ ج فصلا بين حالتي الفئتين مع اتفاق الجملتين غَبَرَةٌ هـ لا قَتَرَةٌ هـ الْفَجَرَةُ هـ. التفسير: أطبق المفسرون على أن الذي عبس هو الرسول صلى الله عليه وسلم والأعمى هو ابن أم مكتوم واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الزهري. وذلك أنه أتى رسول الله وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم. فقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله، وكرر ذلك وهو لا يعلم شغله بالقوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه ويقول: إذا رآه: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويقول له: هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرتين. وقال أنس: رأيته يوم القادسية وعليه درع وله راية سوداء. والجار محذوف على القياس متعلق ب عَبَسَ أو ب تَوَلَّى على اختلاف في باب تنازع الفعلين للكوفيين والبصريين والتقدير: عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك. يروى أنه صلى الله عليه وسلم ما عبس بعدها في وجه فقير قط ولا تصدّى لغني. قال أهل المعاني: في الالتفات من الغيبة إلى الخطاب دلالة على مزيد الإنكار كمن يشكو جانيا بطريق الغيبة وهو حاضر ثم يقبل على الجاني مواجها بالتوبيخ. قالوا: وفي ذكر الأعمى نحو من الإنكار أيضا لأن العمى يوجب العطف والرأفة عند ذوي الآداب غالبا لا التولي والعبوس، ولا يخفى أن نظر النبي صلى الله عليه وسلم كان على أمر كلي هو رجاء إسلام قريش فإنه في الظاهر أهم من إجابة رجل أعمى على الفور إلا أنه سبحانه عدّ هذا الجزئي كليا من جهة أخرى هي تطييب قلوب الفقراء والضعفاء وإهمال جانب أهل الغنى والثراء، فإن هذا أدخل في الإخلاص وابتغاء رضوان الله وذلك مظنة التهمة والرياء. يحكى عن سفيان الثوري أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء. وأيضا فائدة الإرشاد والتعليم بالنسبة إلى هذا الأعمى أمر معلوم وبالنسبة إلى أولئك أمر موهوم لأنه جاء طالبا مسترشدا وأنهم جاءوا مستهزئين معاندين، وترك المعلوم للموهوم خارج عن طريق الاحتياط وإلى هذا المعنى أشار بقوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 446 وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ لعل الأعمى يَزَّكَّى عما لا ينبغي أَوْ يَذَّكَّرُ يتعظ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى فيفعل ما ينبغي. وقيل: الضمير في لَعَلَّهُ للكافر يعني أي شيء أدراك بحال كل من أولئك الكفرة حتى طمعت في تطهرهم من الأوزار وانتفاعهم بالاذكار. ثم زاد تصريحا لما فعل قائلا أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى أي بالمال. وقال عطاء: عن الإيمان. وقال الكلبي: أي عن الله. والأول أولى لأنهم كانوا أغنياء وما توجه الخطاب إلا من هذه الجهة وإن كان إسلامهم موهوما فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى تتعرض وأصله تتصدد من الصدد وهو ما استقبلك فصار قبالك وَما عَلَيْكَ يحتمل أن تكون «ما» استفهامية ونافية يعني أي وبال يعود عليك أو ليس عليك بأس في أن لا يتزكى ذلك المستغني إن عليك إلا البلاغ فما الموجب للحرص والتهالك على إسلامه حتى تكسر قلوب الفقراء بالعبوس والإعراض، وهذا معنى قوله وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى يسرع في طلب الخير وَهُوَ يَخْشى الله أو يخشى الكفار وأذاهم في إتيانك. وقيل: يخشى الكيوة لأنه أعمى ما كان له قائد فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي تتشاغل. قال أهل المعاني: بناء الكلامين على ضمير المخاطب تقوية إنكار التصدي والتهلي عليه أي مثلك خصوصا لا ينبغي أن يتصدّى لغنى ويتلهى عن الفقير. قوله كَلَّا ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله أي لا تفعل مثل ذلك. ثم قال إِنَّها يعني آيات القرآن وهو قول مقاتل، أو هذه السورة وهو قول الكلبي واختاره الأخفش تَذْكِرَةٌ وهي في معنى الذكر والوعظ فلذلك قال فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ والمراد أن هذا القرآن أو هذا التأديب الذي عرفناكه في إجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا ثبت في اللوح المحفوظ الذي قد وكل بحفظه أكابر الملائكة. وفيه أن القرآن الذي بلغ في العظمة إلى هذا الحد أيّ حاجة له إلى أن يقبله هؤلاء الكفرة، فسواء قبلوه أو لا فلا تلتفت إليهم واجتهد في تطيب قلوب الفقراء الذين هم أهل الإخلاص وحزب الله. ثم وصف الصحف بأنها مكرمة عند الله مرفوعة في السماء أو مرفوعة المقدار مطهرة عن أهل الخبائث لا يمسها إلا المطهرون من تلك الملائكة وتلك الصحف بِأَيْدِي سَفَرَةٍ قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل وقتادة: هم الكتبة من الملائكة واحدها سافر مثل كتبة وكاتب، وقد مرّ في أول التفسير أن التركيب يدل على الكشف فبالكتابة يتبين ما في الضمير ويتضح. قال الفراء: اشتقاق السفرة من السفارة لأن الملائكة سفرة بين الله ورسوله ولا يخفى ما في السورة من معنى الكشف أيضا كِرامٍ على ربهم. وقال عطاء: أراد أنهم يكرمون من أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا مع زوجته للجماع وعند قضاء الحاجة بَرَرَةٍ أتقياء واحدها بارّ. وقيل: هي صحف الأنبياء فيكون كقوله إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [الأعلى: 18] وقيل: السفرة القراء. وقيل: الصحابة. ثم عجب من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 447 صناديد قريش وأضرابهم من أهل العجب والكفر المرتفعين على الفقراء مع أن أوّلهم نطفة مذرة وآخرهم جيفة قذرة وهم فيما بين الوقتين حملة عذرة فقال قُتِلَ الْإِنْسانُ وهو دعاء عليه أشنع دعوة لأنه لا أفظع من القتل وما أَكْفَرَهُ تعجب من حال إفراطه في الكفران وتلقي نعم خالقه بالجحود والطغيان، وهذا قد ورد على أسلوب كلام العرب وأنه لا يمكن أن يحمل في حقه تعالى إلا على إرادة إيصال العقاب الشديد وليكون لطفا للمعتبرين المتعجبين المتأملين في مراتب حدوثهم التي أوّلها نطفة وأشار إليها بقوله مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ والاستفهام لزيادة التقرير في التحقير. ثم قال فَقَدَّرَهُ فحمله الفراء على أطواره بعد كونه نطفة إلى وقت إنشائه خلقا آخر، وعلى أحواله من كونه ذكرا أو أنثى وشقيا أو سعيدا. وقال الزجاج: قدره على الاستواء كقوله ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف: 37] ويحتمل أن يراد فقدر كل عضو في الكمية والكيفية على التقدير اللائق بمصلحته. وأما المرتبة الوسطى فإليها الإشارة بقوله ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ وهو نصب على شريطة التفسير فمن فسر التقدير بالأطوار فسر السبيل بمخرج الولد من بطن أمه. يقال: إن رأس المولود في بطن أمه يكون من فوق ورجله من تحت، فإذا جاء وقت الخروج انقلب بإلهام الله تعالى إياه على أن نفس خروج الولد حيا من ذلك المنفذ الضيق من أعجب العجائب وعلى التفاسير الأخر فالمراد تسهيل سبيل الخير والشر كقوله إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ [الدهر: 3] وأشار إلى المرتبة الأخيرة بقوله ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ أي جعله ذا قبر فيكون متعديا إلى واحد، ويحتمل أن يكون الثاني محذوفا أي فأقبره غيره. يقال: قبر الميت إذا دفنه بنفسه، وأقبر غيره الميت إذا أمره بدفنه، فالمراد أن الله سبحانه أمر بدفن الأموات الإنسية تكرمة لهم دون أن يطرحوا على وجه الأرض طعمة للسباع كسائر الحيوان ثُمَّ إن في كل هذه الانتقالات دلالات واضحة على أنه سبحانه إِذا شاءَ أن ينشر الإنسان ببعثه من قبره أَنْشَرَهُ قوله كَلَّا يجوز أن يكون ردعا للإنسان عن تكبره وترفعه أو عن كفره وإنكاره المعاد. وقال في الكشاف: وهذا هو ردع للإنسان عما هو عليه فهذا قول مجاهد إن إنسانا لم يخل من تقصير قط فلم يقض أحد من لدن آدم إلى هذه الغاية جميع ما كان مفروضا عليه. وقال آخرون: معناه أن الإنسان الكافر لم يقض بعد ما أمره الله من التأمل في دلائل التوحيد والبعث. وقال الأستاذ أبو بكر بن فورك: القضاء بمعنى الحكم والضمير لله أي لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان وترك التكبر بل أمره بما لم يحكم له به. وحين فرغ من دلائل الأنفس أردفها بدلائل الآفاق قائلا فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ نظر استدلال وتدبر إِلى طَعامِهِ الذي يعيش به كيف دبرنا أمره من إنزال الماء من السماء، ثم شق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 448 الأرض بالنبات أو بالكراب على البقر فيكون إسناد الفعل إلى السبب. والحب ما يصلح للقوت كالحنطة والشعير، والقضب العلف بعينه قاله الحسن. وقال أكثر المفسرين: إنه القت لأنه يقضب مرة بعد أخرى أي يقطع. والغلب الغلاظ الأعناق في الأصل يقال: أسد أغلب، ثم استعير للحدائق أنفسها لتكاثف أشجارها ولأشجارها لعظمها وغلظها. ثم أجمل الفاكهة ليعم الكل وأجمل العلف بقوله وَأَبًّا للعموم وهو المرعى لأنه يؤب أي يؤم وينتجع. والأب والأم إخوان قاله جار الله. وقيل: الأب الفاكهة اليابسة المعدّة للبقاء. والفاء في قوله فَإِذا جاءَتِ مثل ما مر في «النازعات» والصَّاخَّةُ النفخة الأخيرة. قال الزجاج: أصل الصخ الطعن، والصك صخ رأسه بالحجر أي شدخه، والغراب يصخ بمنقاره في دبر البعير أي يطعن، والنفخة لشدّتها تصك الآذان. وقال جار الله: يقال صخ لحديثه مثل أصاخ له فوصف النفخة بالصاخة مجاز لأن الناس يصخون لها أي يستمعون. وفرار المرء من الجماعة المذكورين إما بالصورة وذلك للاحتراز عن المطالبة بالتبعات يقول الأخ: ما واسيتني بمالك. ويقول الأبوان: قصرت في برنا. وتقول الصاحبة: أطعمتني الحرام وفعلت كذا وكذا، والبنون يقولون: لم تعلمنا ولم ترشدنا. قال جار الله: إنما بدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه، والفرار إنما يقع من الأبعد ثم من الأقرب، وأخر الصاحبة والبنين لأن البنين أقرب وأحب فكأنه قيل: يفر من أخيه بل من أبيه بل من صاحبته وبنيه. وأقول: هذا القول يستلزم أن تكون الصاحبة أقرب وأحب من الأبوين ولعله خلاف العقل والشرع، والأصوب أن يقال: أراد أن يذكر بعض من هو مطيف بالمرء في الدنيا من أقاربه في طرفي الصعود والنزول فبدأ بطرف الصعود لأن تقديم الأصل أولى من تقديم الفرع، وذكر أوّلا في كل من الطرفين من هو معه في درجة واحدة وهو الأخ في الأول، والصاحبة في الثاني على أن وجود البنين موقوف على وجود الصاحبة فكانت بالتقديم أولى. وقيل: أول من يفر من أخيه هابيل، ومن أبويه إبراهيم، ومن صاحبته نوح ولوط، ومن ابنه نوح. والأنسب عندي أن يكون الفار قابيل وقد جاء هكذا في بعض الروايات، والأظهر أن الفرار المعنيّ هو قلة الاهتمام بشأن هؤلاء بدليل قوله لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي يصرفه ويصدّه عن قرابته. قال ابن قتيبة: ويقال أغن عني وجهك أي اصرفه. وعندي أن اشتقاقه من الغنى وذلك أن من أغناك فقد صرفك عن نفسه أو عن طلب حاجته. ثم ذكر أن الناس يومئذ فريقان وأن أهل الكمال تلوح على وجوههم أنوار الكمال من أسفر الصبح إذا أضاء يستبشرون بأنواع المسار، ويضحكون بدل ما كانوا يبكون في الدنيا خوفا من عقاب الله تعالى، وأن أهل النقائص يظهر على وجوههم سواد مع غبرة كوجوه الزنوج مثلا إذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 449 أعبرت. والقترة سواد كالدخان جمع الله في وجوههم ظلمة الضلال والكفر مع غبار الفجور والفسق ولهذا نعى عليهم بقوله أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ أعاذنا الله في الدارين من مثل أحوالهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 450 (سورة التكوير) (مكية حروفها خمسمائة وثلاثة وثلاثون كلها مائة وتسع وثلاثون آياتها تسع وعشرون) [سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 29] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) القراآت سُجِّرَتْ بالتخفيف: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. قتلت بالتشديد: يزيد ونُشِرَتْ مخففا: أبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم غير يحيى وحماد الْجَوارِ ممالة: قتيبة ونصير وأبو عمرو في رواية بظنين بالظاء: ابن كثير وعلي وأبو عمر ويعقوب. الباقون: بالضاد. الوقوف كُوِّرَتْ هـ ص انْكَدَرَتْ هـ ص سُيِّرَتْ هـ ك عُطِّلَتْ هـ ك حُشِرَتْ هـ ك سُجِّرَتْ هـ ك زُوِّجَتْ هـ ك سُئِلَتْ هـ ك قُتِلَتْ هـ ج لاعتراض الاستفهام بين النسق نُشِرَتْ هـ ص كُشِطَتْ هـ ك سُعِّرَتْ هـ ك أُزْلِفَتْ هـ ك أَحْضَرَتْ هـ ط لتمام الشرط والجزاء والتقدير إذا كورت الشمس كورت ارتفعت الشمس بفعل مضمر تفسيره الظاهر وكذلك ما بعدها. وقوله عَلِمَتْ جواب عن الكل وهو العامل في «إذا» وما عطف عليها بِالْخُنَّسِ هـ لا الْكُنَّسِ هـ لا عَسْعَسَ هـ ك تَنَفَّسَ هـ ك كَرِيمٍ هـ ك مَكِينٍ هـ ك أَمِينٍ هـ ط بناء على أن ما بعده مستأنف ومن جعل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 451 وَما صاحِبُكُمْ وما بعدها معطوف على جواب القسم لم يقف على أَمِينٍ إلى قوله فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ. بِمَجْنُونٍ هـ ج الْمُبِينِ هـ ج بِضَنِينٍ هـ ج رَجِيمٍ هـ ج تَذْهَبُونَ هـ ط لِلْعالَمِينَ هـ لا لأن ما بعده بدل البعض يَسْتَقِيمَ هـ الْعالَمِينَ هـ. التفسير: إنه سبحانه لما ذكر الطامة والصاخة في خاتمتي السورتين المتقدمتين أردفهما بذكر سورتين مشتملتين على أمارات القيامة وعلامات يوم الجزاء. أما هذه ففيها اثنا عشر شيئا أوّلها تكوير الشمس وفيه وجهان: أحدهما إزالة النور لأن التكوير هو التلفيف على جهة الاستدارة كتكوير العمامة. وفي الحديث «نعوذ بالله من الحور بعد الكور» «1» أي من التشتت بعد الألفة والاجتماع، ومنه كارة القصار وهي ثوب واحد يجمع ثيابه فيه. ولا يخفى أن الشيء الذي يلف يصير مخفيا عن الأعين فعبر عن إزالة النور عن جرم الشمس وصيرورتها غائبة عن الأعين بالتكوير. الثاني أن يكون من قولهم طعنه فحوره وكوره إذا ألقاه أي ألقيت ورميت عن الفلك. وثانيها انكدار النجوم أي تساقطها وتناثرها والأصل في الانكدار الانصباب وكل متراكب ففيه كدورة فلهذا يقال للجيش الكثير دهماء. قال الخليل: انكدر عليهم القوم إذا جاءوا أرسالا فانصبوا عليهم. قال الكلبي: تمطر السماء يومئذ نجوما فقال عطاء: وذلك أنها في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من النور وتلك السلاسل في أيدي الملائكة، فإذا مات من في السماء والأرض تساقطت تلك السلاسل من أيدي الملائكة. ويروى في الشمس والنجوم أنها تطرح في جهنم ليراها من عبدها. وثالثها تسيير الجبال وقد مر في سورة «عم» . ورابعها تعطيل العشار وهي جمع عشراء كالنفاس في نفساء. والعشراء الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى أن تضع الحمل لتمام السنة، وهي أنفس ما يكون عند أهلها وهم العرب فخوطبوا بما هو مركوز في أذهانهم مصوّر في خزانة خيالهم، والغرض بيان شدّة الاشتغال بأنفسهم حتى يعطلوا ويهملوا ما هو أهم شيء عندهم. وقيل: العشار هي السحاب تعطلت عما فيها من الماء، ولعله مجاز من حيث إن العرب تشبه السحاب بالحامل. قال الله تعالى فَالْحامِلاتِ وِقْراً [الذاريات: 2] وخامسها حشر الوحوش والوحش ضد ما يستأنس به من دواب البر. قال قتادة: يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص، وفيه أنه سبحانه إذا كان لا يهمل أمر الوحوش فكيف يهمل أمر المكلفين. قال الإمام فخر الدين: وفيه دليل على أن هول ذلك   (1) رواه مسلم في كتاب الحج حديث 426. الترمذي في كتاب الدعوات باب 41. النسائي في كتاب الاستعاذة باب 41، 42. الدارمي في كتاب الاستئذان باب 42. ابن ماجه في كتب الدعاء باب 20. أحمد في مسنده (5/ 82، 83) . [ ..... ] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 452 اليوم بلغ مبلغا لا يفرغ الوحوش للنفار عن الإنسان ولا بعضها للاحتراز عن بعض مع العداوة الطبيعية بين بعض الأصناف حتى صار بعضها غذاء بعض. قلت: هذا الاستدلال ضعيف فإن الوحوش في الدنيا أيضا مجتمعة مع الناس ومع أضدادها لكن في أمكنة مختلفة، فلم لا يجوز أن تكون في القيامة أيضا كذلك. وعن ابن عباس في رواية إن حشر الوحوش عبارة عن موتها وذلك إذا قضى بينها فردّت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاوس ونحوه. يقال: إذا اجتاحت السنة الناس وأموالهم حشرتهم السنة أي أماتتهم. السادس تسجير البحار أي تنشيف ما فيها من الرطوبة حتى لا يبقى فيها شيء من المياه وقد سبق في «الطور» . السابع تزويج النفوس وهو اقتران الأرواح بالأجساد. وقال الحسن: هو كقوله وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الواقعة: 7] أي صنفتم أصنافا ثلاثة وقريب منه قول من قال: هو أن يضم كل واحد إلى من يجانسه ويكون في طبقته من خير أو شر. وقول من قال: هو أن يقرن بين الرجل وبين من كان يلازمه في الدنيا من ملك أو سلطان. وقال ابن عباس: زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين، ونفوس الكافرين بالشياطين، ويقرب منه قول الزجاج هو أن تقرن النفوس بأعمالها. الثامن سؤال الموؤدة. قال جار الله: وأد يئد مقلوب آد يؤد إذا أثقل لأنه إثقال بالتراب، وكانوا يدفنون بناتهم في الأرض أحياء خوفا من الفقر ولخوف العار كما مر في «النحل» وغيره. ومعنى هذا السؤال تبكيت قاتلها كما يخاطب عيسى بقوله أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة: 116] والغرض تبكيت النصارى. وقيل: الموؤدة هي التي تسأل نفسها فهي السائلة والمسئول عنها. وإنما قيل قُتِلَتْ ماضيا مجهولا غائبا بناء على أن الكلام إخبار عنها، ولو حكى ما خوطبت به حين سئلت لقيل قتلت مجهولا مخاطبا، ولو حكى كلامها حين سألت لقيل قتلت متكلما مجهولا وبه قرأ ابن عباس. قالت المعتزلة وبه يحتج صاحب الكشاف: إن في الآية دلالة على أن أطفال المشركين لا يعذبون لأنه تعالى إذا بكت الكافر بسببها فلأن لا يعذبها أولى. ويمكن أن يجاب بأن تعذيب الوائد للوأد من جهة أنه تصرف في ملك الله تعالى بغير حق لا ينافي تعذيب الموؤدة من جهة أخرى وهي أن حكمها في الإسلام والكفر حكم أبيها. التاسع نشر صحف الأعمال. عن قتادة: هي صحيفتك يا ابن آدم تطوى على عملك حين موتك ثم تنشر يوم القيامة فلينظر رجل يملى في صحيفته. ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها أي فرقت بينهم. وعن مرثد بن وداعة: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم أي مكتوب فيها ذلك وهي صحف غير صحف الأعمال قاله في الشكاف. العاشر كشط السماء كما يكشط الجزء: 6 ¦ الصفحة: 453 الإهاب عن الذبيحة. والغطاء عن الشيء أي كشفت وأزيلت عما فوقها وهو الجنة وعرش الله تعالى. الحادي عشر والثاني عشر تسعير الجحيم أي إيقادها وإزلاف الجنة أي إدناؤها. استدل بعضهم بالآية على أن النار غير مخلوقة الآن لأنه علق تسعيرها بيوم القيامة، ويمكن المعارضة بأنها تدل على أن الجنة مخلوقة وإلا لم يمكن إزلافها على أن تعليق تسعير الجحيم بيوم القيامة لا ينافي وجودها قبل ذلك غير موقدة إيقادا شديدا. وقيل: يسعرها غضب الله عز وجل وخطايا بني آدم. وقوله عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ كقوله يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمران: 30] والتنوين في نَفْسٌ للتقليل على أنه مفيد للتكثير بحسب المقام نحو قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ [النور: 63] رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحجر: 2] ويجوز عندي أن يكون للتعظيم أو للنوع يعني النفس الإنسانية لا النباتية ولا الحيوانية ولا الفلكية عند القائلين بها. وإسناد الإحضار إلى الأنفس مجاز لأن الملائكة أحضروها في الصحف أو في الموازين إلا أنها لما تسبب منها ذلك أسند إليها على أن آثار أعمالها إنما تلوح عليها. قال أهل التأويل: هذه الأحوال يمكن اعتبارها في وقت القيامة الصغرى وهي حالة الموت، فالشمس النفس الناطقة، وتكويرها قطع تعلقها، وانكدار النجوم تساقط القوى، وتسيير الجبال انعزال الأعضاء الرئيسة عن أفعالها، والعشار البدن يهمل أمرها، وحشر الوحوش ظهور نتائج الأفعال البهيمية والسبعية على الشخص، وتسجير البحار نفاد الأوهام الباطلة والأماني الفارغة فإنها بحر لا ساحل له دون الموت الاختياري أو الاضطراري، وتزويج النفوس انضمام كل ملكة إلى جنسها الظلمة إلى الظلمة والنور إلى النور، والموؤدة القوّة التي ضيعها المكلف في غير ما خلقت لأجله. وسمعت بعض المحققين من أساتذتي أنها كل مسألة سنحت للخاطر ولم تقيد بالكتابة حتى غابت. والسماء سماء الأرواح والباقي ظاهر. وحين أثبت المعاد شرع في النبوّات فأكدها بالحلف. والخنس جمع خانس، والكنس جمع كانس. والأكثرون على أنها السيارات الخمسة الجاريات مع النيرين في أفلاكها بالارتباطات المعلومة من الهيئة وقد ذكرنا طرفا منها في البقرة بقوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية: 164] وفي قوله فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: 29] فخنوسها رجوعها ومنه الخناس للشيطان، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس ومنه كنس الوحش إذا دخل كناسه. والمنجمون يسمون زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد متحيرة لمشاهدة الوقوف والرجوع منها بعد الاستقامة وهي حركتها الخاصة من المغرب إلى المشرق على توالي البروج أي من الحمل إلى الثور ثم إلى الجوزاء وهكذا على الترتيب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 454 فإذا تحركت القهقري بعكس هذا الترتيب شبه الحركة اليومية. يقال: إنها راجعة أقسم الله بها إذ أحوالها أغرب ورباطاتها مع الشمس أعجب كما بين في ذلك العلم. وعن علي رضي الله عنه وهو قول عطاء ومقاتل وقتادة أنها هي جميع الكواكب وخنوسها غيبتها عن البصر بالنهار وكنوسها ظهورها للبصر في الليل كما يظهر الوحش من كناسه. وعن ابن مسعود والنخعي أنها بقر الوحش وخنوسها صفة لأنوفها ومنه «رجل أخنس وامرأة خنساء» وفي هذا القول بعد عن الخنس المقسم بها لأنه لا يناسب ما بعده. وقال أهل التأويل: هي الحواس الخمس تظهر آثارها تارة وتغيب أخرى. ثم أقسم بالليل والنهار. ومعنى عسعس أقبل وأدبر فهو من الأضداد، وتنفس الصبح مجاز عن تخلصه من ظلمة الليل كنفس المكروب إذا وجد راحة أو مجاز عما يكون عنده من روح ونسيم. والضمير في إِنَّهُ للقرآن، والرسول الكريم جبرائيل، وكرمه على ربه أن جعله واسطة بينه وبين أشرف عباده وهم الأنبياء، وكرمه في نفسه أنه لا يدل إلا على الخير والكمال. ومعنى كون القرآن قول جبرائيل أنه وصل منه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن النزاع وقع من الكفرة في أنه قول محمد أو هو من السماء فأثبت الثاني ليلزم نفي الأول. وفي لفظ رسوله دلالة على أنه ليس قوله بالاستقلال. وقوله ذِي قُوَّةٍ كقوله ذي مرة [النجم: 6] وقد مر بالنجم. وقوله عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ أي عند ربه بالقرب كقوله وَمَنْ عِنْدَهُ [الرعد: 43] والمكين ذو الجاه الذي يعطى ما يسأل يقال مكن فلان بضم الكاف مكانة. وقوله ثَمَّ إشارة إلى الظرف المذكور أي مطاع عند الله في الملائكة المقربين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه أَمِينٍ على الوحي والسفارة وقد عصمه الله من الخيانة والزلل. استدل في الكشاف بالآيات على تفضيل الملك على الأنبياء وقال: لأنه وصف جبرائيل بصفات الكرامة، ثم وصف النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وشتان بين الوصفين. قلت: أمثال هذا التغليط من باب الجنون وهذا نشأ من سماع لفظ المجنون. والتحقيق أن ذكر جبرائيل ومدحه وقع استطرادا لبيان مدح النبي صلى الله عليه وسلم والمبالغة في صدقه فإن الكفرة زعموا أن القرآن إفك افتراه مجنون به وأعانه عليه قوم آخرون فلم يكن بد من نفي الجنون عنه. ووصف جبرائيل بالأمانة والمكانة وغيرهما فإن شرف الرسول يدل على شرف المرسل إليه وصدقه، فالعجب من الزمخشري أنه كيف سمع لفظ المجنون فاعتراه حتى استدل به على مفضولية أشرف المخلوقات، ولم يعلم أن ذكر جبرائيل ووصفه بأوصاف الكمال اتفق لغرض تزكية النبي صلى الله عليه وسلم. والعجب من الإمام فخر الدين الرازي أيضا أنه كيف أورد حجته الواهية في تفسيره ولم يتعرض للجواب عنه مع كمال حرصه على تزييف أدلتهم. ثم حكى أنه قد رأى جبرائيل على صورته الأصلية بحيث حصل عنده علم ضروري بأنه ملك مقرب لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 455 شيطان رجيم فقال وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وهو أفق الشمس كما مر في «النجم» . ثم أخبر عن صدقه وإشفاقه فقال وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ومن قرأ بالظاء الذي مخرجه من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا كالذال والثاء فهو من الظنة التهمة أي ليس بمتهم بل هو ثقة فيما يؤدي عن الله بواسطة جبرائيل. ومن قرأ بالضاد الذي مخرجه من أصل حافة اللسان وما بينها من الأضراس ومن يمين اللسان أو يساره وإخراجه من الجانب الأيسر الأسهل، وقد يسهل على بعض الناس كلاهما فمعناه أنه لا يضن بالوحي أي لا يبخل به من الضن وهو البخل، وفيه أنه لا يكتم شيئا من الوحي مما أمر بإظهاره وأنه لا يمنع المستعدّين من الإرشاد والكمال فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ بعد هذه البيانات وفيه استضلال لهم كقولك لتارك لجادّة اعتسافا أين تذهب، مثلت حالهم في ترك الحق والعدول عنه إلى الباطل براكب التعاسيف الذي يستأهل أن يقال له أين تذهب. قوله لِمَنْ شاءَ فائدة هذا الإبدال أن نفع التذكير يعود إليهم فكأن غيرهم لم يوعظ والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم صراط الله الذي له ما في السموات والأرض. ولا يخفى ما بينها وبين قوله فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ من التناسب والطباق وفيه دليل القدرية إلا أن قوله وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فيه دليل الجبرية كما مر في آخر هَلْ أَتى وغيره والله الموفق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 456 (سورة انفطرت) (مكية حروفها ثلاثمائة وسبعة وعشرون كلماتها ثمانون آياتها 19) [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) القراآت فجرت بالتخفيف: ابن شنبوذ عن أهل مكة فَعَدَلَكَ مخففا: يزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل رَكَّبَكَ كَلَّا مدغما: أبو عمرو وقتيبة عنه يكذبون على الغيبة: يزيد يوم لا بالرفع: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الآخرون: بالفتح. الوقوف انْفَطَرَتْ هـ ك انْتَثَرَتْ هـ ك فُجِّرَتْ هـ ك بُعْثِرَتْ هـ ك وَأَخَّرَتْ هـ ط الْكَرِيمِ هـ لا فَعَدَلَكَ هـ ط بناء على أن الظرف بعده متعلق ب رَكَّبَكَ ومن خفف فَعَدَلَكَ لم يقف بناء على أنه جعل «في» بمعنى «إلى» أي فعدلك إلى أي صورة ما شاء رَكَّبَكَ هـ ط بناء على أن «كلا» توكيد لتحقيق بل ومن جعله ردعا عن الاعتراف لم يقف بِالدِّينِ هـ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف والوصل أجوز إلا من قرأ يكذبون على الغيبة فإنه يقف مطلقا للعدول لَحافِظِينَ هـ لا كاتِبِينَ هـ ك تَفْعَلُونَ هـ نَعِيمٍ هـ ج جَحِيمٍ هـ ج لاحتمال أن ما بعده مستأنف أو صفة جحيم بِغائِبِينَ هـ ط لابتداء النفي أو الاستفهام الدِّينِ هـ يَوْمُ الدِّينِ هـ لا لمن قرأ يوم بالنصب أي ذلك في يوم ومن رفعه على أنه بدل من يوم الدين فلا وقف. شَيْئاً ط لِلَّهِ هـ ط. التفسير: إنه سبحانه يذكر طرفا آخر من أشراط الساعة في هذه السورة. فأوّلها انفطار السماء أي انشقاقها كقوله في الفرقان وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: 25] وكما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 457 يجيء في قوله إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] وفيه كذا في قوله وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ إبطال قول من زعم أن الفلكيات لا تنخرق. أما الدليل المعقول الذي ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره وهو أن الأجسام متماثلة في الجسمية فيصح على كل واحد منها ما يصح على الباقي لكن السفليات يصح عليها الانخراق فيصح على العلويات أيضا فغير مفيد ولا مقنع، لأن الخصم لو سلم الصحة فله أن ينازع فى الوقوع لمانع كالصورة الفلكية وغيرها. وأما تفجير البحار فقد فسروها بفتح بعضها إلى بعض حتى تصير البحار كلها بحرا واحدا وذلك لتزلزل الأرض وتصدعها حتى يرتفع الحاجز الذي بين البحار الشرقية وبين البحار الغربية. وقد فسره في الكشاف بزوال البرزخ بين العذب والمالح حتى يختلطا وهو تصوّر فاسد نشأ من مجرّد سماع لفظ ارتفاع البرزخ. وعن الحسن: إن الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار فتصير مستوية وهو معنى التسجير عنده كما مر في السورة المتقدّمة. قال جار الله: بعثر وبحثر بمعنى وهما من البعث والبحث زيد فيهما الراء والمعنى بحثت القبور وأخرج موتاها. ولأهل التأويل أن يحملوا بعثرة القبور على كشف الأسرار والأحوال الخفية، ومعنى التقديم والتأخير قد سبق في القيامة في قوله يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة: 13] والمراد جميع أعمالها وإنما يحصل بها العلم الإجمالي عند الموت أو في أوائل أشراطه ثم يزيد شيئا فشيئا إلى حين مطالعة صحيفة العمل. ولما أخبر عن وقوع الساعة والحشر بين ما يدل عليه عقلا فقال يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ هو الكافر المنكر للبعث عند طائفة لقوله بعد ذلك كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ وقد يخص ببعضهم فروي عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة. وعن الكلبي ومقاتل في الأشد بن كلدة. وذلك أنه ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقبه الله تعالى وأنزل الآية. والأقرب أنها تتناول جميع العصاة وخصوص السبب لا يقدح في العموم، وهاهنا سؤال وهو أنه تعالى وصف نفسه في هذا المقام بالكرم وهذا الوصف يقتضي الاغترار به حتى قالت العقلاء: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه. وسمع الموبذ في مجلس أنوشروان ضحك الخدم فقال: أما يهاب هؤلاء الغلمان. فقال: إنما يهابنا أعداؤنا. وعن علي رضي الله عنه أنه دعا غلامه مرات فلم يجبه فنطر فإذا هو بالباب فقال لم لم تجبني؟ فقال: لثقتي بتحملك وأمني من عقوبتك فاستحسن جوابه فأعتقه. «قال مؤلف الكتاب» : إني في عنفوان الشباب رأيت فيما يرى النائم أن القيامة قد قامت وقد دار في خلدي أن الله تعالى لو خاطبني بقوله يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فمادّا أقول؟ ألهمني الله في المنام أن أقول: غرني كرمك يا رب. ثم إني وجدت هذا المعنى قد ذكر في بعض التفاسير. وعن الفضيل بن عياض أنه قال: أقول في الجواب غرتني ستورك المرخاة. وإذا ثبت أن الكرم يقتضي أن يغتر بصاحبه فكيف وقع الإنكار عليه؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 458 والجواب من وجهين: الأول أن كل كريم فهو حكيم لأن إيصال النعم إلى الغير لو لم يكن مبنيا على داعية الحكمة كان تبذيرا لا كرما فكأنه سبحانه قال: كيف اغتررت بكرمي وكرمي حقيقي صادر عن الحكمة وهي تقتضي أن لا يهمل وإن أمهل، وأن ينتقم للمظلوم من الظالم ولو بعد حين، وأن يعيد الناس لأجل المجازاة حتى يظهر المحسن من المسيء والبر من الفاجر لا يضيع حقوق الناس؟. والحاصل أن الكرم بالخلق والتسوية وهي انتصاب القامة أو سلامة الأعضاء، وبالتعديل وهو تناسبها أو جعله مستعدّا لقبول الكمالات لا يقتضي أن لا يعيده إلى الحالة الأولى لأجل المجازاة، بل يجب أن يعيده تتميما للنعمة وإظهارا للحكمة. الثاني أن كرمه السابق بالخلق وغيره لا يوجب كرما لا حقا بالعفو والغفران لجميع المعاصي لأن غاية الكرم هو أن يبتدئ بالنعم من غير عوض ولا غرض، أما الكريم إذا أمر المنعم عليه بشيء وإنه يتلقاه بالعصيان فليس من الكرم أن يغمض عن جرمه بل قد يعدّ ذلك ضعفا وذلة ولا سيما إذا كان المأمور به هو معرفة المنعم ولهذا روي عن عمر مرفوعا «غره جهله» . وعن الحسن: غره والله شيطانه الخبيث حتى طمع في الكرم اللاحق لأجل الكرم السابق. خصوصا إذا لم يكن ممن حصل له معرفة ربه في الدنيا. قال النحويون: «ما» في ما شاءَ مزيدة قلت: وذلك بالنظر إلى أصل المعنى وإلا فهي مفيدة للتأكيد أي في كل صورة من الصور شاء كقوله هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [آل عمران: 6] وإنما لم يقل «ففي أي صورة» بالفاء العاطفة على نسق ما تقدّمها لأنها كالبيان بعد ذلك. والجارّ متعلق بركب أي ركبك في أي صورة اقتضتها حكمته أو بمحذوف أي حاصلا في بعض الصور المرادة. وجوّز جار الله أن يتعلق ب فَعَدَلَكَ ويكون في أيّ معنى التعجب أي فعدّلك في صورة عجيبة ثم قال ما شاء أي ركبك ما شاء من التركيب. قال الحسن: منهم من صوّره ليستخلصه له، ومنهم من صوّره ليشغله بغيره. قلت: الأوّلون مظاهر اللطف والجمال، والآخرون مظاهر القهر والجلال. ثم زجرهم عن الاغترار بقوله كَلَّا وهي حرف وضع في اللغة لنفي ما تقدم وتحقيق غيره أي ليس الأمر كما تقولون من أنه لا بعث ولا نشور، ولئن فرض فالله كريم غفار للذنوب، ولئن قدّر أنه معاقب فلعله غير عالم بالجزئيات فكيف يحاسب فنبههم الله تعالى على خطئهم بأن تكذيبهم بالجزاء إنما وقع في حال تسليط الحفظة عليهم، وهذا التكذيب أيضا من جملة ما يكتبونه. أو نقول: لما ردعهم عن الطمع الفارغ والأمل المنكر أضرب عنه إلى ما هو شر منه وهو إنكار الجزاء أصلا. وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم إشارة إلى أن أمر الجزاء عند الله تعالى من عظائم الأمور الجزء: 6 ¦ الصفحة: 459 والاشغال. قال بعضهم: من لم يزجره عن المعاصي مراقبة الله إياه كيف يردّه عنها الكرام الكاتبون؟ قلت: لا ريب أن الأول أصل والثاني فرع إلا أن المكلف لإلفه بالمحسوسات يزجره ما هو أقرب إلى عالم الحس أكثر ما يزجره ما هو أقرب إلى عالم الأرواح ولهذا تقع الزواجر والروادع في المدينة الفاضلة. ثم ذكر فائدة كتابة الحفظة وغايتها فقال إِنَّ الْأَبْرارَ إلى آخره. يحكى أن سليمان بن عبد الملك مر بالمدينة وهو يريد مكة فقال لأبي حازم: كيف القدوم على الله غدا؟ فقال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه. قال: فبكى ثم قال: ليت شعري مالنا عند الله فقال أبو حازم: اعرض عملك على كتاب الله قال: في أي مكان؟ قال في قوله إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ قال جعفر الصادق: النعيم المعرفة والمشاهدة، والجحيم ظلمات الشهوات. وقال آخرون: النعيم القناعة والتوكل، والجحيم الطمع والحرص، وقال العارفون: النعيم الاشتغال بالله والجحيم الاشتغال بما سواه. وقوله وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ كقوله وما هم بخارجين منها أو أراد ما كانوا يغيبون عنها قبل ذلك أي في قبورهم فيكون قد بين حال البرزخ كما شرح حال المبدأ والمنتهى. ثم نبه بقوله وَما أَدْراكَ مرتين أن يوم الدين مما لا يكتنه كنه شدته، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يعرفه إلا بالوحي. وقيل: للكافر. ثم وصفه مجملا بقوله يَوْمَ لا تَمْلِكُ إلى آخره أي لا ملك ولا تصرف في ذلك بظاهر وحقيقة الإله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 460 (سورة المطففين) (مكية وقيل مدنية حروفها سبعمائة وثلاثون كلمها مائة وتسعون آياتها 36) [سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 36] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) القراآت بَلْ رانَ حفص يقف على بَلْ وقفة يسيرة ومع ذلك يصل. وقرأ الحلواني عن قالون مظهرا رانَ بالإمالة: حمزة وعلي وخلف وحماد ويحيى تعرف مبنيا للمفعول نضرة بالرفع: يزيد ويعقوب خاتمه بالألف بعد الخاء والتاء مفتوحة: عليّ. أَهْلِهِمُ بكسر الهاء والميم: أبو عمرو وسهل ويعقوب، وقرأ حمزة وعلي وخلف بضمهما. الباقون: بضم ميم الجمع فقط فَكِهِينَ مقصورا: يزيد وحفص هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ بالإدغام: حمزة وعلى وهشام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 461 الوقوف لِلْمُطَفِّفِينَ هـ لا يَسْتَوْفُونَ هـ للفصل بين تناقض الحالين ولكن يلزم تفريق الوصفين مع اتفاق الجملتين يُخْسِرُونَ هـ للاستفهام عَظِيمٍ هـ لا لأن التقدير لأمر يوم عظيم في يوم كذا وهو بدل بني على الفتح للإضافة إلى الجملة لِرَبِّ الْعالَمِينَ هـ ط لأن «كلا» لتحقيق أنّ بمعنى «ألا» التي للتنبيه أو حقا أو هو ردع عن التطفيف وكذا أخواتها في السورة سِجِّينٍ هـ ط ما سِجِّينٌ هـ ط للحذف أي هو كتاب مَرْقُومٌ هـ ط لأن وَيْلٌ مبتدأ لِلْمُكَذِّبِينَ هـ لا الدِّينِ هـ ط للابتداء بالنفي أَثِيمٍ هـ لأن الشرطية بعده صفة أخرى له الْأَوَّلِينَ هـ والوقف لما ذكر يَكْسِبُونَ هـ لَمَحْجُوبُونَ هـ لأن «ثم» لترتيب الأخبار الْجَحِيمِ هـ ك لاختلاف الجملتين تُكَذِّبُونَ هـ ك عِلِّيِّينَ هـ ك عِلِّيُّونَ هـ ك مَرْقُومٌ هـ لا لأن ما بعده صفة الْمُقَرَّبُونَ هـ ط نَعِيمٍ هـ لا لأن ما بعده حال أو صفة يَنْظُرُونَ هـ لا لذلك النَّعِيمِ هـ ج لأن ما بعده يصلح مستأنفا أو حالا مَخْتُومٍ هـ لا لأن ما بعده وصف مِسْكٌ ط الْمُتَنافِسُونَ هـ ط تَسْنِيمٍ هـ لا بناء على أن عَيْناً حال كما قال الزجاج. فإن أريد النصب على المدح جاز الوقف الْمُقَرَّبُونَ هـ ط يَضْحَكُونَ هـ ط للآية ولكن إتمام الكلام أولى يَتَغامَزُونَ هـ ك لذلك فَكِهِينَ هـ ك لَضالُّونَ هـ لا لأن المنفية حال حافِظِينَ هـ ط لتبدل الكلام معنى يَضْحَكُونَ هـ لا يَنْظُرُونَ هـ ط يَفْعَلُونَ هـ. التفسير: إنه سبحانه لما ذكر في السورة المتقدمة بعض أشراط الساعة وأخبر عن طرف من أحوالها وأهوالها صدّر هذه السورة بالنعي على قوم آثروا الحياة الزائلة على الحياة الباقية، وتهالكوا في الحرص على استيفاء أسبابها حتى اتسموا بأخس السمات وهي التطفيف. والتركيب يدل على التقليل وطف الشيء جانبه وحرفه، وطف الوادي والإناء إذا بلغ الشيء الذي فيه حرفه ولم يمتلئ. وقال الزجاج: إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف لأنه لا يكون الذي يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلا فنزلت فأحسنوا الكيل. قلت: إن كانت السورة مدنية فظاهر، وإن كانت مكية فلعل النبي حين قدم المدينة قرأها عليهم. وهكذا الوجه فيما روي أن أهل المدينة كانوا تجارا يطففون وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة يعني بيع الغرر كالطير في الهواء فنزلت، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم فقال «خمس بخمس. قيل: يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 462 الزكاة إلا حبس عنهم القطر» «1» وعن علي رضي الله عنه مر برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له: أقم الوزن بالقسط ثم أرجح بعد ذلك ما شئت. كأنه أخبره بالتسوية أوّلا ليعتادها ويفصل الواجب من النفل. وعن أبيّ: لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين. والاكتيال الأخذ بالكيل كالاتزان الأخذ بالوزن. قال الفراء: «من» و «على» يعتقبان في هذا الموضع. فمعنى اكتلت عليك أخذت ما عليك، ومعنى أكتلت منك استوفيت منك. وقال أهل البيان: وضع «على» مكان «من» للدلالة على أن اكتيالهم من الناس اكتيال فيه ضرر. وجوز أن يتعلق الجار ب يَسْتَوْفُونَ والتقديم للتخصيص أي يستوفون على الناس خاصة، فأما أنفسهم فيستوفون لها. والضمير في كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ منصوب راجع إلى الناس والأصل كالوا لهم ووزنوا لهم فحذف الجار وأصل الفعل. قال الكسائي والفراء: هذه لغة الحجاز ومنه المثل «الحريص يصيدك لا الجواد» أي الحريص يصيد لك لا الفرس الجواد. ويجوز أن يكون على حذف المضاف والتقدير وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوا موزونهم. وعن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يجعلان الضميرين للمطففين على أنهما توكيد للمرفوع ويقفان عند الواوين وقفة يبينان بها ما أرادا. وخطأهما بعضهم بأن الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه، ولو كان الضميران للتأكيد لم يكن يد من الألف، وزيفت هذه التخطئة بأن خط المصحف لا يقاس عليه فكم من أشياء فيه خارجة عن اصطلاح الخط. وقد ذكر الزمخشري في إبطال قولهما أن المعنى حينئذ يؤل إلى قول القائل وإذا تولوا الكيل والوزن هم على الخصوص بأنفسهم اخسروا أي نقصوا، وهذا كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر. قلت: النظم على قولهما باق على حالته من الإعجاز والفصاحة لأنه يفيد ضربا من التوبيخ، فإنهم إذا أخسروا وقد تولوا الكيل أو الوزن بأنفسهم ولم يمنعهم من ذلك مانع من الدين والمروءة، فلأن يرضوا بالإخسار وقد تولاه لأجلهم من تعلق بهم يكون أولى، ومن قلة مروأتهم ودينهم أنهم كانوا متمكنين في الإعطاء من البخس في الكيل وفي الوزن جميعا ولهذا قال سبحانه وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ وأما في الأخذ فالميزان غالبا يكون بيد البائع فلا يتمكن المشتري من التصرف فيه بالزيادة المعتد بها فإن الكفة تميل بأدنى ثقل، وإنما يتمكن في الاكتيال بأن يحتال في مكياله بالتحريك ووضع اليد عليه بقوّة فلهذا لم يقل هناك «أو اتزنوا» . وأعلم أن أمر المكيال والميزان عظيم لأن مدار معاملات الخلق عليهما، ولهذا جرى على قوم شعيب بسببه ما جرى. وذهب بعض العلماء إلى أن المطفف لا يتناوله   (1) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب 22. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 463 الوعيد إلا إذا بلغ تطفيفه نصاب السرقة. والأكثرون على أن قليله وكثيره يوجب الوعيد. وبالغ بعضهم حتى عد العزم عليه من الكبائر. وقال الشيخ أبو القاسم القشيري رحمه الله: لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل، وفي إظهار العيب وإخفائه، وفي طلب الإنصاف والانتصاف، ومن لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه فليس بمنصف. والذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه فهو من هذه الجملة، ومن طلب حق من الناس ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلب لنفسه فهو من هذه الجملة، والفتى من يقضي حقوق الناس ولا يطلب من أحد لنفسه حقا. ويحكى أن أعرابيا قال لعبد الملك بن مروان: إن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ووزن؟ ثم زاد في توبيخهم بقوله أَلا يَظُنُّ فإن كانوا من أهل الإسلام كما روي أن أهل المدينة كانوا يفعلون ذلك فالظن بمعنى العلم، وإن كانوا كفارا منكري البعث فالظن بمعناه الأصلي. والمراد به أنهم لا يقطعون بالبعث أفلا يظنونه أيضا كقوله إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32] وفي الإشارة إليهم ب أُولئِكَ وقد ذكرهم عما قريب تبعيد لهم عن رتبة الإعتبار بل عن درجة الإنسانية. وفي هذا الإنكار ووصف اليوم بالعظم وقيام الناس فيه لرب العالمين بيان بليغ لعظم هذا الذنب كما إذا قال الحالف والله الطالب الغالب الحي القيوم. ففيه تعظيم شأن المقسم عليه. عن النبي صلى الله عليه وسلم «يقوم الناس مقدار ثلاثمائة سنة من الدنيا لا يؤمر فيهم بأمر» . قال ابن عباس: هو في حق المؤمنين كقدر انصرافهم من الصلاة. وفيه أنه إذا ظهر التطفيف الذي يظن به أنه حقير فكيف بسائر الظلامات؟ وحمل بعضهم هذا القيام على ردّ الأرواح إلى أجسادها حتى يقوموا من مراقدهم. وعن أبي مسلم: أراد به الخضوع التام كقوله وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [البقرة: 238] ثم بيّن أن كل ما يعمل من خير أو شر فإنه مكتوب عند الله. وقدم ديوان الشرور لأن المذكور قبله هو وعيد أهل الفجور. وسجين «فعيل» من السجن وهو الحبس والتضييق جعل علما لديوان الشر الجامع لأعمال الكفرة والفسقة والشياطين، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا العلمية كِتابٌ مَرْقُومٌ ليس تفسيرا للسجين بل التقدير: كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وإن كتاب الفجار مرقوم. وموقع قوله وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ اعتراض تعظيما لأمر السجين، ولأن ذلك لم يكن مما كانت العرب تعرفه أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك. وقيل: مرقوم أي مطروح وعلى هذا يكون سجين اسم مكان. ثم اختلفوا، فعن ابن عباس في رواية عطاء وقتادة ومجاهد والضحاك وعن البراء مرفوعا أنه أسفل أرضين وفيها إبليس وذريته. وعن أبي هريرة مرفوعا أنه جب في جهنم. وقال الكلبي: صخرة تحت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 464 الأرض السابعة. والتحقيق أنه سبحانه أجرى أمور عباده على ما تعارفوه فيما بينهم، ولا شك أن السفلة والظلمة والضيق وحضور الشياطين الملاعين من صفات البغض فوصف الله كتاب الفجار بأنه في هذا الموضع استهانة بهم وبأعمالهم، كما أنه وصف كتاب الأبرار بأنه في عليين وتشهده الملائكة المقربون تعظيما لحالهم. ثم أوعد المكذبين ووصفهم بقوله الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ للذم لا للبيان لأن كل مكذب فالوعيد يتناوله سواء كان مكذبا بالبعث أو بسائر آيات الله تعالى فهو كقولك «فعل فلان الفاسق الخبيث» . وإنما خص التكذيب بالبعث لتقدّم ذكره وذكر ما يتعلق به. ثم بالغ في الذم بقوله وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ متجاوز عن حد الاعتدال في استعمال القوة النظرية إما في طرف الإفراط وهو الجريرة حتى عدّ الممكن محالا وأقدم على التكذيب، وإما في طرف التفريط وهو البله والغباوة حتى قنع بالاستبعاد المحض وأعرض عن النظر في دلائل البعث من الخلق الأوّل وغيره. أثيم في إعمال القوى البدنية في غير مواقعها حتى أثمر له الباطل بدل الحق، وحكم على آيات الله بأنها أساطير الأوّلين، وفيه إنكار للنبوّة أيضا. ثم أضرب عن أن يكون لهم اختيار فيما قالوه أو يكون لهم ارعواء عما ارتكبوه، لأن ما كسبوه قدران على قلوبهم أي ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها. قال أهل اللغة: ران النعاس والخمر في الرأس يرين رينا وريونا إذا رسخ فيه، ولهذا قال الحسن: هو الذنب بعد الذنب حتى يسود القلب. قلت: الغين هو الحجاب الرقيق الذي يزول عن كثب ومثله الغيم. والرين هو الغليظ الذي لا يرجى زواله ولهذا جاء في الحديث «إنه ليغان على قلبي» وأما الرين فمن صفة الكفار الذين صارت ملكاتهم الذميمة في غاية الرسوخ حتى أظلم سطوح قلوبهم بل دخلت الظلمة أجوافها وبلغت الكدورة صفاقها. ثم قال كَلَّا حقا وهو ردع عن الكسب الرائن على القلب إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وذلك أن النور لا يرى إلا بالنور، فإذا كانت نفوسهم في غاية الظلمة الذاتية والعرضية الحاصلة من الملكات الردية احتجبوا عن نور الله ومنعوا من رؤيته. قال أهل السنة كثرهم الله: وفي تخصيصهم بالحجب دلالة على أن أهل الإيمان والأعمال الصالحة لا يكونون محجوبين عن ربهم. وقالت المعتزلة: المضاف محذوف أي عن رحمة ربهم أو كرامته. وقال في الكشاف: هو تمثيل للاستخفاف بهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين. ثم أخبر بقوله ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ أي داخلوها عن بقية حالهم وأنهم لا يتركون على حجب الحرمان بل يعذبون بنار القطيعة والهجران لأنهما متلازمان ثُمَّ يُقالُ في معرض التوبيخ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ جمعا بين عذاب الوجل وعذاب الخجل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 465 ثم شرع في قصة الأبرار. وعليون جمع «عليّ» «فعيل» من العلو وإعرابه كإعراب الجمع لأنه على صورته وإن صار مفردا كقنسرين من حيث إنه جعل علما لديوان الخير الذي فيه أعمال الملائكة وصلحاء الثقلين، إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة، وإما لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يحضره الملائكة المقربون. وقال مقاتل: هو في ساق العرش. وعن ابن عباس: هو لوح من زبرجد معلق تحت العرش. وبالجملة كتاب الأبرار ضد كتاب الفجار بجميع معانية كما عرفت من بقية حال الأبرار. ومفعول يَنْظُرُونَ محذوف ليشمل أنواع نعيمهم في الجنة من الحور العين والأطعمة والأشربة والملابس والمراكب والمساكن وكل ما أعدّ الله لهم. قال عليه السلام «يلحظ المؤمن فيحيط بكل ما آتاه الله وإن أدناهم منزلة من له مثل سعة الدنيا» وقال مقاتل: ينظرون إلى عدوّهم حين يعذبون ولا يحجب الحجاب أبصارهم عن الإدراك. وقال بعضهم: ينظرون إلى الله تعالى بدليل قوله تَعْرِفُ يا من له أهل العرفان فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ وقوله في موضع آخر وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] ولا ريب أن هناك قرائن وأحوالا تعرف بها بهجتهم وازدهاؤهم بالضحك والاستبشار بل بتجلي الأنوار والآثار. والرحيق الخمر الصافية التي لا غش فيها مَخْتُومٍ أوانيه خِتامُهُ أي ما يختم به مِسْكٌ مكان الطينة أو الشمعة. وإنما ختم تكريما وصيانة على ما جرت به العادة فكأنها أشرف من الخمر الجارية في أنهارها من الجنة. وقيل: ختامه أي مقطعه رائحة المسك إذا شرب. وهذا قول علقمة والضحاك وسعيد بن جبير ومقاتل وقتادة. قال الفراء: الختام آخر كل شيء ومنه يقال: ختمت القرآن، والأعمال بخواتيمها، والخاتم مثله وأنت خاتم النبيين. والتركيب يدل على القطع والانتهاء بجميع معانيه. عن أبي الدرداء مرفوعا: هو شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شربهم، لو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد ريحه الطيبة. قال بعضهم: مزج الخمر بالأدوية الحارة مما يعين على الهضم وتقوية الشهوة، فلعل فيه إشارة إلى قوة شهوتهم وصحة أبدانهم. ثم رغب في العمل الموجب لهذه الكرامة قائلا وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله. قال أهل اللغة: نفست عليه الشيء نفاسة إذا ضننت به وأن لا تحب أن يصير إليه، والتنافس تفاعل منه فإن كل واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به لما يظهر من نفسه من الجد والاعتمال في الطاعة والعبودية. والجملة معترضة، وفي تقديم الجار إشارة إلى أن السعي والإتعاب يجب أن يكون في مثل ذلك النعيم لا في النعيم الزائل. وتسنيم علم لعين بعينها في الجنة من سنمه إذا رفعه لأنها أرفع شراب هناك، ولأنها تأتيهم من فوق على ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 466 روي أنها تجري في الهواء متسنمة فتصب في أوانيهم، أو لأنها لكثرة مائها تعلو على كل شيء تمرّ به، أو يرى فيها ارتفاع وانخفاض. والتركيب يدل على الارتفاع ومنه سنام البعير عن ابن عباس: أشرف شراب أهل الجنة هو التسنيم فالمقرّبون يشربونها صرفا وتمزج لأصحاب اليمين. فقال بعض أهل العرفان: وذلك أن المقرّبين السابقين لا يشتغلون إلا بمطالعة وجه الله الكريم، وأما أهل اليمين فإنه يكون شرابهم ممزوجا لأن نظرهم تارة إلى الله وتارة إلى الخلق. ثم حكى قبائح أفعال الكافرين على أن التكلم واقع في يوم القيامة بدليل قوله عقيبه فَالْيَوْمَ قال المفسرون: هم مشركو مكة أبو جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما، كانوا يضحكون من عمار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين. وقيل: جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع فضحكوا منه فنزلت هذه الآي قبل أن يصل علي كرم الله وجهه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والتغامز تفاعل من الغمز وهو الإشارة بالعين أو الحاجب أو الشفة، وأكثر ذلك إنما يكون على سبيل الخبث. ومعنى فَكِهِينَ متلذذين بذكرهم والسخرية منهم. قوله وَما أُرْسِلُوا حال معترضة إنكارا من الله عليهم وتهكما بهم أي ينسبون المسلمين إلى الضلال والحال أنهم لم يرسلوا على المسلمين موكلين بهم حافظين عليهم أحوالهم. وجوز في الكشاف أن تكون المنفية من جملة قول الكفار فيكون إنكارا لصدّهم إياهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام. قلت: لو كان من جملة قولهم لكان الظاهر أن يقال: وما أرسلوا أي المسلمون علينا. يروى أنه يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم: اخرجوا إليها. فإذا وصلوا إليها أغلق الباب دونهم يفعل ذلك بهم مرارا فيضحك المؤمنون منهم ناظرين إليهم على الأرائك. ولا يخفى ما في هذا الإخبار والحكاية من تسلية المؤمنين وتثبيتهم على الإسلام والتصبر على متاعب التكاليف وأذية الأعداء في أيام معدودة لنيل ثواب لا نهاية له ولا غاية. قال المبرد: ثوّب وأثاب بمعنى، وقد تستعمل الإثابة في الشر كالمجازاة، ويجوز أن يراد التهكم نحو فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ [آل عمران: 21] وفي هذا القول مزيد غيظ وتوبيخ للكافرين ونوع سرور وتنفيس للمؤمنين. ويحتمل أن يكون الاستفهام للتقرير أي هل قدرنا على الإثابة نحو فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الأعراف: 44] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 467 (سورة الانشقاق) (مكية حروفها أربعمائة وأربعون كلمها مائة وسبع كلمات آياتها خمسة وعشرون) [سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 25] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) القراآت وَيَصْلى ثلاثيا مفتوح العين مبنيا للفاعل: أبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد وحمزة وعاصم وخلف. الباقون يصلى بالتشديد مبنيا للمفعول لَتَرْكَبُنَّ بفتح الباء للتوحيد والخطاب للإنسان: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف. الآخرون: بالضم على خطاب أفراد الجنس. الوقوف انْشَقَّتْ هـ لا وَحُقَّتْ هـ ك مُدَّتْ هـ ك وَتَخَلَّتْ هـ ك وَحُقَّتْ هـ ط لأن الجواب محذوف أي إذا كانت هذه الأمارات ظهر ما ظهر فَمُلاقِيهِ هـ ط وقد يقال عامل «إذا» فَمُلاقِيهِ أي إذا السماء انشقت لاقى كدحه فلا وقف إلى قوله فَمُلاقِيهِ وقيل: قوله فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ الشرط مع جوابه جواب للشرط الأول، وقوله يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إلى قوله فَمُلاقِيهِ اعتراض ولا وقف على بِيَمِينِهِ يَسِيراً هـ ك مَسْرُوراً هـ ط ظَهْرِهِ هـ لا ثُبُوراً هـ لا سَعِيراً هـ ط مَسْرُوراً هـ يَحُورَ هـ لا بَلى ج لجواز تعلق بلى بما قبله وبما بعده بَصِيراً هـ ط للإبتداء بالقسم بِالشَّفَقِ هـ لا وَسَقَ هـ لا اتَّسَقَ هـ لا طَبَقٍ هـ ك لا يُؤْمِنُونَ هـ ك لا يَسْجُدُونَ هـ ط الجزء: 6 ¦ الصفحة: 468 يُكَذِّبُونَ هـ ز للآية والوصل أوجب لأن الواو للحال يُوعُونَ هـ ز لفاء التعقيب أَلِيمٍ هـ لا مَمْنُونٍ هـ. التفسير: عن علي رضي الله عنه أن السماء تنشق من المجرّة. ومعنى أَذِنَتْ لِرَبِّها استمعت له ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن» «1» والمراد أنها لم تمتنع عن قبول ما أريد بها من الانشقاق والانفطار فعل المأمور والمطواع الذي أصغى لحديث آمره وَحُقَّتْ بذلك لأن الممكن لا بدّ له أن يقع تحت قدرة الواجب لذاته. ومدّ الأرض تسوية جبالها وآكامها بحيث لا يبقى فيها عوج. عن ابن عباس: مدّت مدّ الأديم العكاظي لأن الأديم إذا مدّ زال ما فيه من الانثناء واستوى. وقيل: من مدّه بمعنى أمدّه أي زيد في سعتها أو بسطتها ليمكن وقوف الخلائق الأوّلين والآخرين عليها وَأَلْقَتْ ما فِيها أي رمت بما في جوفها من الكنوز والأموات وَتَخَلَّتْ أي خلت غاية الخلو كأنها تكلفت أقصى ما يمكنها من الفراغ. وقوله وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ ليس بمكرر لأن الأوّل في السماء وهذا في الأرض وحذف جواب «إذا» ليذهب الوهم كل مذهب، أو اكتفاء بما مر في سورتي «التكوير» و «الانفطار» . وقيل: في الكلام تقديم وتأخير. والمعنى يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ إذا السماء انشقت، والأقرب أن الإنسان للجنس بدليل التفصيل بعده. وقيل: هو رجل بعينه إما محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى إنك تكدح فى تبليغ رسالات الله فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل، وإما أمية بن خلف وإنه يجتهد في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس. والكدح جهد النفس في العمل حتى تأثرت من كدحت جلده إذا خدشته أي جاهد إلى وقت لقاء ربك وهو الموت وما بعده. وفيه أن الدنيا دار عناء وتعب ولا راحة ولا فرح فيها. والضمير في قوله فَمُلاقِيهِ للرب أي فملاق له البتة فهو كالتأكيد للمذكور، ويجوز أن يكون للكدح أي لجزائه يؤيده التفصيل الذي بعده. عن عائشة أن الحساب اليسير هو أن يعرّف ذنوبه ثم يتجاوز عنه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من يحاسب يعذب فقيل: يا رسول الله فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قال: ذلكم العرض من نوقش في الحساب عذب» «2» أقول فَسَوْفَ من الكريم إطماع فيمكن أن تكون الفائدة في إيراده أن يكون   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 32، 52. مسلم في كتاب المسافرين حديث 232، 233. أبو داود في كتاب الوتر باب 20. الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 17. النسائي في كتاب الافتتاح باب 83. الدارمي في كتاب الصلاة باب 171. أحمد في مسنده (2/ 271، 285) . (2) رواه البخاري في كتاب العلم باب 35. مسلم في كتاب الجثّة حديث 79 أبو داود في كتاب الجنائز باب 1. الترمذي في كتاب تفسير سور، 84 باب 2. أحمد في مسنده (6/ 47، 91) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 469 المؤمن على ثقة واطمئنان بالوعد، ويمكن أن يكون إشارة إلى طول الامتداد بين مواقف ذلك اليوم وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ من الحور العين في الجنة أو إلى قرنائه من المؤمنين أو إلى عشيرته كقوله جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الرعد: 23] ومعنى وَراءَ ظَهْرِهِ أن تغل يمناه إلى عنقه ويجعل شماله وراء ظهره ويؤتى كتابه بشماله ومن وراء ظهره. وقيل: تخلع يده اليسرى من وراء ظهره. وقيل: تجعل وجوههم إلى خلف فيكون الكتاب قد أوتي من جانب ظهره ولكن بشماله كما في «الحاقة» . والوراء هاهنا بمعنى مجرد الجانب، أو معنى قدام. والثبور الهلاك ودعاؤه أن يقول «وا ثبوراه» . وسمي المواطأة على الشيء مثابرة لأنه كأنه يريد أن يهلك نفسه في طلبه والنفس تمنعه عن ذلك أنه كان أي في الدنيا مسرورا في أهله كقوله وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين: 31] وفيه أن الفرح في الدنيا يعقب الغم في الآخرة لقوله فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً [التوبة: 82] ومن كان في الدنيا حزينا متفكرا في أمر الآخرة كان حاله في الآخرة بالعكس. والفرح المنهي عنه ما يتولد من البطر والترفه لا الذي يكون من الرضا بالقضاء ومن حصول بعض الكمالات والفضائل النفسية لقوله قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 58] ثم بين أن سروره إنما كان لأجل أن البعث والنشور لم يكن محققا عنده فقال إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي أن يرجع إلى الله أو إلى خلاف حاله من السرور والتنعم. عن ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنت لها: حوري أي ارجعي. ثم نفى منطوقه بقوله بَلى أي بلى يحور. وفي قوله إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً إشارة إلى أن العلم التام بأحوال المكلفين يوجب إيصال الجزاء إليهم، فلا بد من دار سوى دار التكليف وإلا كان قدحا في القدرة والحكمة. قال الكلبي: كانَ بِهِ بَصِيراً من يوم خلقه إلى أن بعثه. وقال عطاء: بصيرا بما سبق عليه في أم الكتاب من الشقاء ثم أكد وقوع القيامة وما يتبعها من الأهوال بقوله فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وهو الحمرة الباقية من آثار الشمس في الأفق الغربي قاله ابن عباس والكلبي ومقاتل. وعن الفراء: سمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق وكان أحمر. وعن أبي حنيفة في إحدى الروايتين أنه البياض، وأنه روى أنه رجع عنه لأن البياض يمتد وقته فلا يصلح للتوقيت، ولأن التركيب يدل على الرقة ومنه الشفقة لرقة القلب. ثم إن الضوء يأخذ من عند غيبة الشمس في الرقة والضعف. وعن مجاهد أن الشفق هاهنا النهار لما في النور من الرقة واللطافة كما أن في الظلمات الغلظ والكثافة، لأن القسم بالنهار يناسب القسم بالليل في قوله وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ والتركيب يدل على الاجتماع والضم ومنه الوسق لأنه جامع لستين صاعا. واستوسقت الإبل إذا اجتمعت وانضمت، وقد وسقها الراعي أي جمعها ونظيره في وقوع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 470 «افتعل» و «استفعل» مطاوعين لفعل «اتسع» و «استوسع» . أقسم الله سبحانه بجميع ما ضمه الليل وآواه وستره من النجوم والدواب وغيرها. ويمكن أن يكون من جملته أعمال العباد الصالحين. ثم أقسم بالقمر إذا اتسق أي اجتمع نوره وتكامل كما يقال «أمور فلان متسقة» أي مجتمعه على الصلاح كما يقال منتظمة. والطبق ما يطابق غيره ومنه قيل للغطاء «الطبق» . ثم قيل للحال المطابقة لغيرها طبق. وقوله عَنْ طَبَقٍ حال من فاعل لَتَرْكَبُنَّ أو صفة أي طبقا مجاوزا لطبق، ف «عن» تفيد البعد والمجاوزة أي حالا بعد حال، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول. وجوز أن يكون جمع طبقة أي أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدّة، فبعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من أهوال القيامة كأنهم لما أنكروا البعث أقسم الله سبحانه أن ذلك كائن وأن الناس يلقون بعد الموت شدائد متنوّعة وأحوالا مترتبة حتى يتبين السعيد من الشقي والمحسن من المسيء. وقيل: لتركبن سنة الأولين من المكذبين المهلكين. عن مكحول: كل عشرين عاما تجدون أمرا لم تكونوا عليه. والركوب على هذه التفاسير مجاز عن الحصول على تلك الحالة. وقد يقال على قراءة فتح الباء: إنها صيغة الغائبة والضمير للسماء وأحوالها المختلفة انشقاقها ثم انفطارها، ولعل هذا كمال الانحراف ثم صيرورتها وردة كالدهان أو كالمهل وهذا القول مناسب لأول السورة وهو مرويّ عن ابن مسعود. وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أعباء الرسالة وأنه يجب عليه أن يتلقاه بالصبر والتحمل إلى أوان الظفر والغلبة كقوله لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 86] وعن ابن عباس وابن مسعود أن المراد حديث الإسراء وأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب أطباق السماء. وبين القسم والمقسم عليه مناسبة لأنه أقسم بتغيرات واقعة في الأفلاك والعناصر على صحة إيجاد سائر التغايير من أحوال القيامة وغيرها، ولا شك أن القادر على بعض التغايير المعتبرة قادر على أمثالها فلا جرم قال على سبيل الاستبعاد فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وتأويل الآية أن النفس إذا استغرقت في بعض المجهولات التصورية والتصديقية كانت المناسبة شبيهة بالشمس الغاربة، فإذا أقبلت على تحصيل قضية من تلك القضايا المجهولة مثلا تجلى عليها نور من النفس يترجح به عندها أحد طرفي النقيض على الآخر، لكن ما لم تكن جازمة فذلك النور كالشفق بالنسبة إلى ضياء الشمس، ثم إذا سبحت في لجة المعلومات لها طالبة للحد الأوسط عرضت هناك شبهة شبيهة بالليل وما وسقه، فإذا حصل الحدّ الأوسط بالتحقيق وانتقل الذهن منه إلى النتيجة الحقة صارت المسألة كالبدر التم وهو المستفاد ضوءه من النفس الناطقة القدسية التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار. وطَبَقاً عَنْ طَبَقٍ هي مراتب العلوم النظرية من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 471 أوّل بدايتها وهي كونها عقلا هيولانيا إلى نهايتها وهي كونها عقلا مستفادا فكأنه سبحانه أقسم بأحوال المعلومات المستخلصة على إمكان حصول العلم بها. ثم وبخهم على أنهم لا ينظرون في الدلائل حتى يورثهم الإيمان والسجود عند تلاوة القرآن. وقوله لا يُؤْمِنُونَ ولا يَسْجُدُونَ في موضع الحال والعامل معنى الفعل في فَما لَهُمْ عن ابن عباس، عباس والحسن وعطاء والكسائي ومقاتل: المراد من السجود هاهنا الصلاة. وقال أبو مسلم وغيره: أراد به الخضوع والاستكانة. والأكثرون على أنه السجود نفسه. ثم اختلفوا فعن أبي حنيفة وجوبه لأنه ذمهم على الترك. وعن الحسن وهو قول الشافعي أنه سنة كسائر سجدات التلاوة عنده. ثم بين بقوله بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ أن الدلائل الموجبة للإيمان وتوابعه وإن كانت جلية ظاهرة لكن الكفار يكذبون بها تقليدا للإسلاف أو عنادا. ثم أجمل وعيدهم بقوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ أي يجمعون ويضمرون في صدورهم من الشرك والعناد وسائر العقائد الفاسدة والنيات الخبيثة فهو يجازيهم على ذلك. وقيل: بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء. ثم صرح بالوعيد قائلا فَبَشِّرْهُمْ وقوله إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا استثناء منقطع عند الزمخشري ولا بأس بكونه متصلا كأنه قال: إلا من آمن منهم فله أجر غير مقطوع أو هو من المنة، بني الكلام هاهنا على الاستئناف فلم يحتج إلى الفاء، وعلى التعقيب في التين فأورد الفاء والاستئناف أجمع مقدّمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 472 (سورة البروج) (مكية حروفها أربعمائة وثمانية وخمسون) [سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 22] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) القراآت المجيد بالجر صفة للعرش: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الآخرون: بالرفع خبرا بعد خبر محفوظ بالرفع صفة للقرآن: نافع. الوقوف الْبُرُوجِ هـ لا الْمَوْعُودِ هـ وَمَشْهُودٍ هـ ط بناء على أن جواب القسم محذوف وأن معنى قتل لعن وأصحاب الأخدود هم أهل الظلم، وإن جعل قتل بمعناه الأصلي وأصحاب الأخدود هم المظلومون صح جوابا للقسم بتقدير: لقد قتل ولا وقف على الْأُخْدُودِ لأن النار بدل اشتمال منه الْوَقُودِ هـ لا قُعُودٌ هـ لا شُهُودٌ هـ ط الْحَمِيدِ هـ لا وَالْأَرْضِ ط شَهِيدٌ هـ ط الْحَرِيقِ هـ ط الْأَنْهارُ ط الْكَبِيرُ هـ ط إلا لمن جعل إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ جوابا للقسم وسائر الوقوف هاهنا لا بد منها لطول الكلام لَشَدِيدٌ هـ ك وَيُعِيدُ هـ ج لاختلاف الجملتين الْوَدُودُ هـ لا الْمَجِيدُ هـ لا يُرِيدُ هـ ج لابتداء الاستفهام الْجُنُودِ هـ لا لأن ما بعده بدل وَثَمُودَ هـ ط للإضراب تَكْذِيبٍ هـ لا لأن الواو للحال مُحِيطٌ هـ ج مَجِيدٌ هـ لا مَحْفُوظٍ هـ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 473 التفسير: لما أخبر في خاتمة السورة المتقدمة أن في الأمة مكذبين سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن سائر الأمم السالفة كانوا كذلك كأصحاب الأخدود وكفرعون وثمود. أما البروج فأشهر الأقوال أنها الأقسام الاثنا عشر من الفلك الحمل والثور إلى آخرها. وإنما أقسم بها لشرفها حيث نيط تغيرات العالم السفلي بحلول الكواكب فيها. وقيل: هي منازل القمر الثمانية والعشرون. وقيل: وقت انشقاق السماء وانفطارها وبطلان بروجها. أما الشاهد والمشهود فأقوال المفسرين فيهما كثيرة، وقد ضبطها القفال بأن اشتقاقهما إما من الشهود الحضور، وإما من الشهادة والصلة محذوفة أي مشهود عليه أو به. والاحتمال الأول فيه وجوه الأول: وهو مروي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد والحسن بن عليّ وابن المسيب والنخعي والثوري، أن المشهود يوم القيامة والشاهد الجمع الذي يحضرون فيه من الملائكة والثقلين الأولين والآخرين لقوله مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مريم: 37] ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ [هود: 103] قال جار الله: وطريق تنكيرهما ما مرّ في قوله عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] كأنه قيل: وما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود. ويجوز أن يكون للتعظيم أي شاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما. وإنما حسن القسم بيوم القيامة لأنه يوم الفصل والجزاء وتفرد الله بالحكم والقضاء. الثاني وهو قول ابن عمر وابن الزبير أن المشهود يوم الجمعة وأن الشاهد الملائكة. روى أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه يوم مشهود نشهده الملائكة» . الثالث أنّه يوم عرفة والشاهد من يحضره من الحجاج قال الله تعالى يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ [الحج: 27] وحسن القسم به تعظيما لأمر الحج. يروى أنه تعالى يقول للملائكة يوم عرفة «انظروا إلى عبادي شعثا غبرا أتوني من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم وأن إبليس يصرخ ويضع التراب على رأسه لما يرى في ذلك اليوم من نزول الرحمة» «1» الرابع أنه يوم النحر لأن أهل الدنيا يحضرون في ذلك اليوم بمنى والمزدلفة. الخامس أنهما كل يوم فيه اجتماع عظيم للناس فيتناول الأقوال المذكورة كلها، والدليل عليه تنكيرهما لأن القصد لم يكن فيه إلى يوم بعينه. والاحتمال الثاني فيه أيضا وجوه أحدها: أن الشاهد هو الله تعالى والمشهود به هو التوحيد لقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: 18] وثانيها الشاهد هو الأنبياء والمشهود عليه النبي صلى الله عليه وسلم لقوله فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء: 41] وثالثها العكس لقوله وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] ورابعها الشاهد الحفظة والمشهود عليه المكلفون لقوله وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 21]   (1) رواه أحمد في مسنده (2/ 224، 305) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 474 وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ [الانفطار: 11] وخامسها وهو قول عطاء الخراساني: الشاهد الجوارح والمشهود عليه الإنسان يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ [النور: 24] وسادسها الشاهد والمشهود عيسى وأمته كقوله وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة: 117] وسابعها أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأمم وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] وثامنها قال الإمام في تفسيره: الشاهد جميع الممكنات والمشهود له واجب الوجود أخذا من قول الأصوليين إنه استدلال بالشاهد على الغائب. وتاسعها الحجر الأسود والحجيج للحديث «الحجر الأسود يمين الله في أرضه يؤتى به يوم القيامة له عينان يبصر بهما يشهد على من زاره» أو لفظ هذا معناه. وعاشرها الأيام والليالي وأعمال بني آدم كما روي عن الحسن: ما من يوم إلا وينادي إني يوم جديد وإني على ما تعمل فيّ شهيد. أما جواب القسم فعن الأخفش أنه قُتِلَ واللام مقدّر والكلام على التقديم والتأخير أي قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج. وعن ابن مسعود وقتادة واختاره الزجاج أن الجواب هو قوله إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ وقيل: إن الذين فتنوا وما بينهما اعتراض. واختار الزمخشري وطائفة من المتقدمين أنه محذوف. ثم اختلفوا فقال المتقدمون: المحذوف هو إن الأمر حق في الجزاء على الأعمال. وقال في الكشاف: هو ما دل عليه قتل فكأنه أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود، وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم من التعذيب على الإيمان حتى يقتدوا بهم ويصبروا على أذى قومهم ويعلموا أن كفارهم أحقاء بأن يقال فيهم قتلت قريش، أي لعنوا كما قتل أصحاب الأخدود وهو الخد أي الشق في الأرض يحفر مستطيلا ونحوهما بناء. ومعنى الخق والأخقوق بالخاء الفوقانية منه الحديث «فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان» عني به فرس سراقة حين تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من الغار. والمعتمد من قصص أصحاب الأخدود ما جاء في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لبعض الملوك ساحر، فلما كبر ضم إليه غلاما ليعلمه السحر. وكان في طريق الغلام راهب يتكلم بالمواعظ لأجل الناس، فمال قلب الغلام إلى حديثه. فرأى في طريقه ذات يوم دابة أو حية قد حبست الناس فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها بهذا الحجر فقتلها. وكان الغلام بعد ذلك يتعلم من الراهب إلى أن صار بحيث يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من الداء. وعمي جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله: من ردّ عليك بصرك؟ فقال: ربي. فغضب فعذبه فدل على الغلام، فعذب الغلام حتى دل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 475 على الراهب، فلم يرجع الراهب عن دينه فقدّ بالمنشار، وأبى الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا فرجف بالقوم فطاحوا ونجا، فذهبوا به إلى قرقور وهي سفينة صغيرة فلججوا به ليغرقوه فدعا فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا. وقال للملك: لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي وتقول: بسم الله رب الغلام. ثم ترميني به فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه ومات فقال الناس: آمنا برب الغلام. فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذر فأمر بأخاديد في أفواه السكك، وأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم طرحه فيها، حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها فقال الصبي: يا أماه اصبري فإنك على الحق، وما هي إلا غميضة فصبرت واقتحمت. وعن علي رضي الله عنه أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس، وكان بعض ملوكهم أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم، وكانت الخمر قد أحلت لهم فتناولها فسكر فوقع على أخته، فلما صحا ندم وطلب المخرج فقالت: إن المخرج أن تخطب الناس فتقول: إن الله عز وجل أحل لكم نكاح الأخوات ثم تخطبهم إن الله حرمه. فخطب فلم يقبلوا منه قالت له: ابسط فيهم السوط فلم يقبلوا. فقالت: ابسط فيهم السيف فلم يقبلوا. فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها. وقيل: وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى فدعاهم فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير، فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد. وقيل: سبعين ألفا. وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعا وعرضه اثنا عشر وقد أشار سبحانه إلى عظم النار إشارة مجملة بقوله ذاتِ الْوَقُودِ أي لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس. وهذه الروايات لا تعارض بينها ولا منافاة فيحتمل أن يكون الكل واقعا والمجموع مراد الله أو بعضه هو أعلم به. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا وصل إلى ذكر أصحاب الأخدود قال: نعوذ بالله من جهد البلاء. وإِذْ ظرف لقتل وهُمْ عائد إلى الأصحاب وقُعُودٌ جمع قاعد فإن كانوا مقتولين فمعنى قعودهم على النار إما أن يكون هو أن طرحوا عليها وقعدوا حواليها للإحراق وذلك أنهم كانوا يعرضون المؤمنين على النار فكل من ترك دينه تركوه ومن صبر على دينه ألقوه في النار، وإما أن يكون «على» بمعنى «عند» كقوله وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أي عندي فالمراد بالقتل على هذا التفسير اللعن ويعضده قوله وَهُمْ أي الظالمون عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي حضور، وفيه وصفهم بقسوة القلب، ووصف المؤمنين بالصلابة في دينهم حيث لم يلتفتوا إليهم وبقوا مصرين على الحق، أو هو من الشهادة والمعنى أنهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 476 وكلوا بذلك وجعلوا شهودا يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحدا منهم لم يفرط فيما أمر به من التعذيب، ويجوز أن يراد شهادة جوارحهم على ذلك يوم القيامة. ثم ذم أولئك الجبابرة بما في ضمنه مدح المؤمنين قائلا وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ أي وما عابوا وما أنكروا عليهم إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا وإنما اختير بناء الاستقبال رمزا إلى أنهم كانوا يطلبون منهم ترك الإيمان في المستقبل ولم يعذبوهم على الإيمان في الماضي أي عذبوهم على ثباتهم وصبرهم على إيمانهم بمن يستحق أن يؤمنوا به لكونه إلها قادرا لا يغالب بليغا في الكمال بحيث استأهل الحمد كله مالكا لجميع المخلوقات. وفيه إشارة إلى أنه لو شاء لمنعهم عن ذلك التعذيب لكنه أخرهم إلى يوم الجزاء ودل عليه بقوله وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ثم عم الوعيد في آيتين أخريين والفتنة البلاء والإيذاء والإحراق. وفي قوله ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا دلالة على أن توبة القاتل عمدا مقبولة خلاف ما يروى عن ابن عباس. وعذاب جهنم وعذاب الحريق إما متلازمان كقوله: إلى الملك القرم ... وابن الهمام والغرض التأكيد وإما مختلفان في الدركة: الأول لكفرهم، والثاني لأنهم فتنوا أهل الإيمان. وجوز أن يكون الحريق في الدنيا لما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم. ثم رغب ورهب بوجه آخر في آيات والبطش الأخذ بالعنف فإذا وصف بالشدّة كان نهاية. ثم أكده بقوله إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ البطش وَيُعِيدُ أي يبطش بالجبابرة في الدنيا والآخرة. ويجوز أن يدل باقتداره على الإبداء والإعادة على شدّة بطشه وقوته. وفيه وعيد للكفرة بأنه يعيدهم كما بدأهم ليبطش بهم إذ كفروا بنعمة الإبداء وكذبوا بالإعادة. قال ابن عباس: إن أهل جهنم تأكلهم النار حتى يصيروا فحما ثم يعيدهم خلقا جديدا فذلك قوله هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ والودود بليغ الودادة والمراد به إيصال الثواب لأهل طاعته إلى الوجه الأتم فيكون كقوله ويحبهم [المائدة: 54] وإن شئت قلت: هو بمعنى مفعول فيكون كقوله وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] وقال القفال: ويكون بمعنى الحليم من قولهم «فرس ودود» وهو المطيع القياد. قال في الكشاف فَعَّالٌ خبر مبتدأ محذوف. قلت: الأصل عدم الإضمار فالأولى أن يكون خبرا آخر بعد الأخبار السابقة، ولعله حمله على ذلك كونه نكرة وما قبله معارف والعذر عنه من وجهين: أحدهما قطع النسق بقوله ذُو الْعَرْشِ ولا سيما عند من يجوّز الْمَجِيدُ صفة العرش. والثاني تخصيص فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ فإنه صيره مضارعا للمضاف. قال: وإنما قيل فَعَّالٌ لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. قلت: ويجوز أن يكون المعنى أن ما يريده فإنه يفعله البتة لا يصرفه عنه صارف. ثم ذكرهم وسلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقصة فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 477 متأخري الكفار ومتقدميهم، والمراد بفرعون هو وجنوده. ثم أضرب عن التذكير إلى التصريح بتكذيب كفار قريش والتنبيه على أنه محيط أي عالم بهم فيجازيهم، ويجوز أن يكون مثلا لغاية اقتداره عليهم وأنهم في قبضة حكمه كالمحاط إذا أحيط به من ورائه فسدّ عليه مسلكه بحيث لا يجد مهربا. ويجوز أن تكون الإحاطة بمعنى الإهلاك وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ [يونس: 22] ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بوجه آخر وهو أن هذا القرآن الذي كذبوا به شريف الرتبة في نظمه وأسلوبه حتى بلغ حد الإعجاز وهو مصون عن التغيير والتحريف بقوله وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] قال بعض المتكلمين: اللوح شيء يلوح للملائكة فيقرأونه وأمثال هذه الحقائق مما يجب به التصديق سمعا الله حسبي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 478 (سورة الطارق) (مكية حروفها مائتان وأحد وتسعون كلمها اثنتان وسبعون) [سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) القراآت: لَمَّا بالتشديد: ابن عامر وعاصم وحمزة ويزيد. الوقوف الطَّارِقِ هـ لا الطَّارِقُ هـ ك الثَّاقِبُ هـ ك حافِظٌ هـ ط مِمَّ خُلِقَ هـ ط للفصل بين الاستخبار والإخبار. دافِقٍ هـ لا وَالتَّرائِبِ هـ ط لَقادِرٌ هـ ك بناء على أن الظرف مفعول «اذكر» ومن جعل يَوْمَ ظرفا للرجع وهو أولى لم يقف. السَّرائِرُ هـ لا وَلا ناصِرٍ هـ ط الرَّجْعِ هـ الصَّدْعِ هـ ك فَصْلٌ هـ ك بِالْهَزْلِ هـ ط كَيْداً هـ لا كَيْداً ج هـ رُوَيْداً هـ. التفسير: إنه سبحانه أكثر في كتابه الكريم الأقسام بالسماويات لأن أحوالها في مطالعها ومغاربها ومسيراتها عجيبة. أما الطارق فهو كل ما ينزل بالليل ولهذا جاء في الحديث التعوّذ من طوارق الليل. وذكر طروق الخيال في أشعار العرب كثير لأن تلك الحالة تحصل في الأغلب ليلا، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي الرجل أهله طروقا. ثم إنه تعالى بين أنه أراد بالطارق في الآية النَّجْمُ الثَّاقِبُ أي هو طارق عظيم الشأن رفيع القدر وهو جنس النجم الذي يهتدى به في ظلمات البحر والبر. قال علماء اللغة: سمي ثاقبا لأنه يثقب الظلام بضوئه كما سمي دريا لأنه يدرأوه أي يدفعه، أو لأنه يطلع من المشرق نافذا في الهواء كالشيء الذي يثقب الشيء، أو لأنه إذا رمي به الشيطان ثقبه أي نفذ فيه وأحرقه. وقد خصه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 479 بعضهم بزحل لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات. وقال ابن زيد: هو الثريا. وروي أن أبا طالب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأتحفه بخبز ولبن، فبينما هو جالس يأكل إذ انحط نجم فامتلأ ما ثم نورا ففزع أبو طالب وقال: أي شيء هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله فعجب أبو طالب ونزلت السورة. من قرأ لَمَّا مشدّدة بمعنى «إلا» ف «إن» نافية. ومن قرأها مخففة على أن «ما» صلة كالتي في قوله فَبِما رَحْمَةٍ [آل عمران: 159] ف «إن» مخففة من المثقلة. والآية على التقديرين جواب القسم. والحافظ هو الله أو الملك الذي يحصي أعمال العباد كقوله وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ [الانفطار: 10] أو الذي يحفظ الإنسان من المكاره حتى يسلمه إلى القبر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين» أو الذي يحفظ عليه رزقه وأجله حتى يستوفيهما. وحين ذكر أن على كل نفس حافظا أتبعه بوصيته للإنسان بالنظر في مبدئه ومعاده. والدفق صب فيه دفع، ولا شك أن الصب فعل الشخص فهو من الإسناد المجازي أو على النسبة أي ماء ذي دفق كما مر في عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21] ومعنى خروجه من بين الصلب والترائب أن أكثره ينفصل من هذين الموضعين لإحاطتهما بسور البدن، والذي ينفصل من اليدين ومن الدماغ يمر عليهما أيضا. وطالما أعطى للأكثر حكم الكل وهذا المعنى يشمل ماء الرجل وماء المرأة، ويحتمل أن يقال: أريد به ماء الرجل فقط إما بناء على حكم التغليب وإما بناء على مذهب من لا يرى للمرأة ماء ولا سيما دافقا. وذهب جم غفير إلى أن الذي يخرج من بين الصلب ومادّته من النخاع الآتي من الدماغ هو ماء الرجل، والذي يخرج من الترائب وهي عظام الصدر الواحدة تربية هو ماء المرأة. وإنما لم يقل من ماءين لاختلاطهما في الرحم واتحادهما عند ابتداء خلق الجنين. وقد يقال: العظم والعصب من ماء الرجل، واللحم والدم من ماء المرأة، وقد ورد في الخبر أن أيّ الماءين علا وغلب فإن الشبه يكون منه. ثم بين قدرته على الإعادة بقوله إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ أي على إعادة الإنسان لَقادِرٌ يعني بعد ثبوت قدرته على تكوين الإنسان ابتداء من نطفة حقيرة وجب الحكم بأنه قادر على رجعه. وعن مجاهد أن الضمير في رَجْعِهِ يعود إلى الماء والمراد إنه قادر على ردّ الماء إلى الإحليل. وقيل: إلى الصلب والترائب وهذا قول عكرمة والضحاك. وقال مقاتل بن حيان: إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة. والقول هو الأول بدليل قوله يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أي يمتحن ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وما أخفى من الأعمال الحسنة أو القبيحة، وحقيقة البلاء في حقه تعالى ترجع إلى الكشف والإظهار كقوله وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد: 31] ويحتمل أن يعود البلاء إلى المكلف كقوله هُنالِكَ تَبْلُوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 480 كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ [يونس: 30] ومثله قول ابن عمر: يبدي الله يوم القيامة كل سرّ منها فيكون زينا في الوجوه وشينا في الوجوه. يعني من أدّاها كان وجهه مشرقا ومن ضيعها كان وجهه مغبرا. ثم نفى القوة الذاتية والقوة العرضية الخارجية عن الإنسان يومئذ بقوله فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ ثم أكد حقية القرآن الذي فيه هذه البيانات الشافية والمواعظ الوافية فقال وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ أي المطر لأن الله يرجعه وقتا فوقتا أو على سبيل التفاؤل أو زعما منهم أن السحاب يحمل الماء من البحار ثم يرجعها إليها. والصدع ما تتصدع عنه الأرض من النبات. وقيل: الرجع الشمس والقمر يرجعان بعد مغيبهما، والصدع الجبلان بينهما شق وطريق. والضمير في إِنَّهُ للقرآن والفصل الفاصل بين الحق والباطل كما قيل له «فرقان» . وقال القفال: أراد إن هذا الذي أخبرتكم به من قدرتي على الرجع كقدرتي على الإبداء قول حق. ثم أكد حقيته بقوله وَما هُوَ بِالْهَزْلِ لأن البيان الفصل لا يذكر إلا على سبيل الجد والاهتمام بشأنه وأعلاها أن يكون خاشعا باكيا كقوله إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا [مريم: 58] ثم سلى نبيه وحثه على الصبر الجميل فقال إِنَّهُمْ يعنى أشراف مكة يَكِيدُونَ كَيْداً في إطفاء نور الحق وذلك بإلقاء الشبهات والطعن في النبوّة والتشاور في قتل النبي صلى الله عليه وسلم كقوله وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 30] وَأَكِيدُ كَيْداً سمي جزاء الكيد بالاستدراج والإمهال المؤدي إلى زيادة الإثم الموجبة لشدّة العذاب كيدا. ثم أنتج من ذلك قوله فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أي لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به. ثم كرر ذلك المعنى للمبالغة ووصف الإمهال بقوله رُوَيْداً أي سهلا يسيرا. والتركيب يدل على الرفق والتأني ومنه قولهم في باب أسماء الأفعال «رويد زيدا» أي أروده إروادا وأرفق به فكأنه سبحانه قال: مهل مهل مهل ثلاث مرات بثلاث عبارات وهذه نهاية الإعجاز. وأجل الإمهال يوم بدر أو يوم القيامة وهذا أولى ليعم التحذير عن مثل سيرتهم ويتم الترغيب في خلاف طريقهم والله المستعان على ما تصفون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 481 (سورة الأعلى) (وهي مكية حروفها مائتان واحد وتسعون كلمها اثنتان وسبعون آياتها تسع عشرة) [سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) القراآت: فَسَوَّى وجميع آياتها مثل «طه» وكذلك في سورة و «الشمس» و «الليل» و «الضحى» و «اقرأ باسم ربك» من قوله أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى إلى آخر السورة. قدر بالتخفيف: علي بل يؤثرون على الغيبة: قتيبة وأبو عمرو ويعقوب. الوقوف: الْأَعْلَى هـ لا فَسَوَّى هـ ص فَهَدى هـ ك الْمَرْعى هـ ك أَحْوى هـ ط فَلا تَنْسى هـ لا اللَّهُ ط يَخْفى ج هـ للعدول. وقيل: قوله وَنُيَسِّرُكَ معطوف على سَنُقْرِئُكَ وقوله إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى اعتراض فلا وقف لِلْيُسْرى هـ ك والوصل أليق الذِّكْرى هـ ج يَخْشى هـ لاَْشْقَى هـ لا الْكُبْرى ج هـ لأن «ثم» لترتيب الأخبار وَلا يَحْيى هـ ط لأن ما بعده مستأنف تَزَكَّى هـ لا فَصَلَّى هـ ط لأن «بل» للإضراب الدُّنْيا هـ بناء على أن الواو للاستئناف أو الحال أوجه وَأَبْقى هـ ط الْأُولى هـ لا وَمُوسى هـ. التفسير: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب هذه السورة، وأكثر السلف كانوا يواظبون على قراءتها في التهجد ويتعرفون بركتها. وعن عقبة بن عامر أنه قال: لما نزل قوله فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: 74] قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم. ولما نزل قوله سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: اجعلوها في سجودكم. ومن الناس من تمسك بالآية في أن الاسم نفس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 482 المسمى لأن التسبيح أي التنزيه إنما يكون للمسمى لا للاسم. وأجاب المحققون عنه بأن الاسم صلة كقوله: «ثم اسم السلام عليكما» . سلمنا أنه غير صلة ولكن تسبيح اسمه تنزيهه عما لا يليق معناه بذاته تعالى أو صفاته أو بأفعاله أو بأحكامه، فإن العقائد الباطلة والمذاهب الفاسدة لم تنشأ إلا من هذه، ومن جملة ذلك أن يصان اسمه عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم، وأن لا يسمى غيره بأسمائه الحسنى، وأن لا يطلق عليه من الأسامي إلا ما ورد به الإذن الشرعي. قال بعض العلماء: لعل الذين نقل عنهم أن الاسم نفس المسمى أرادوا به أن الاسم الذي حدّوه بأنه ما دل على معنى في نفسه غير مقترن بزمان هو نفس مدلول هذا الحد. قال الفراء: لا فرق بين سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وبين «سبح باسم ربك» . واعترض عليه بأن الفرق هو أن الأول معناه نزه الاسم من السوء، والثاني معناه سبح الله أي نزهه بسبب ذكر أسمائه العظام، أو متلبسا بذكره إلا أن تجعل الباء صلة في الثاني نحو وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ [البقرة: 195] أو مضمرة في الأول مثل وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] أي من قومه. نعم لو زعم الفراء أن المعنيين متلازمان جاز. ومن الملاحدة من طعن في القرآن بأنه يقتضي أن يكون للعالم ربان أحدهما عظيم وهو في قوله فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: 96] والآخر أعلى منه وهو سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى والجواب أنه عظيم في نفسه وأعلى وأجل من جميع الممكنات، والصفة كاشفة لا مميزة ونظيره وصفه بالكبير تارة وبالأكبر أخرى. والمراد بالعظم والعلو عظم الشرف وعلو القدر فلا استدلال فيه للمشبهة. ثم شرع في بعض أوصافه الكمالية فقال الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وقد مر نظيره في «الانفطار» أي خلق الإنسان فجعله منتصب القامة في أحسن تقويم، أو خلق كل حيوان بل كل ممكن فجعله مستعدّا للكمال اللائق بحاله. وَالَّذِي قَدَّرَ لكل مخلوق ما يصلح له فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به كما يحكى أن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت وقد ألهمها الله أن تمسح العين بورق الرازيانج الرطب فتطلبه إلى أن تجده فيعود بصرها، وإلهامات البهائم والطيور مشروحة مكتوبة في كتب العجائب. وقال الحكيم: كل مزاج فإنه مستعدّ لقوة خاصة، وكل قوة فإنها لا تصلح إلا لفعل معين فالتقدير عبارة عن التصرف في الأجزاء الجسمية، وتركيبها على وجه خاص لأجله يستعدّ لقبول تلك القوى، والهداية عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأعضاء بحيث تكون كل قوّة مصدرا لفعل معين، ويحصل من مجموعها إتمام المصلحة. وقد خصه بعض المفسرين فقال مقاتل: هدى الذكر للأنثى كيف يأتيها. وقال غيره: هداه لمعيشته ومرعاه. وقيل: هداه لسبيل الخير والشر. وقال السدّي: قدر مدة مكث الجنين في الرحم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 483 ثم هداه للخروج. وقال الفراء: قدّر فهدى وأضل فاكتفى بذكر أحدهما كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] وقيل: الهداية بمعنى الدعاء إلى الإيمان أي قدّر دعاء الكل إلى الإيمان فدعاهم إليه كقوله وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] وقيل: دلهم بأفعاله على توحيده وكبريائه «ففي كل شيء له آية تدل على أنه واحد» ومن جملة ذلك إخراج المرعى وهو الكلأ الأخضر، ثم جعله غثاء وهو ما يبس من النبات فحملته الأهوية وطيرته الرياح. والظاهر أن أحوى صفة للغثاء. والحوّة السواد، فالعشب إذا يبس واستولى البرد عليه جعل يضرب إلى السواد، وقد يحتمله السيل فيلصق به أجزاء كدرة. وقال الفراء وأبو عبيدة: الأحوى هو الأسود لشدّة خضرته وعلى هذا يكون حالا من ضمير الْمَرْعى أي صيره في حال حوّته غثاء. وقال جار الله: هو حال من الْمَرْعى أي أخرجه أسود من الخضرة والري فجعله غثاء وحين أمره بالتسبيح بشره وشرفه بإيتاء آية باهرة وهي أن يقرأ عليه جبرائيل ما يقرأ من الوحي الذي هو أشرف أنواع الذكر فيحفظه لا ينساه إلا ما شاء الله أن ينساه وهو أحد طريقي النسخ. فقال مجاهد ومقاتل والكلبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن كثر تحريك لسانه مخافة أن ينسى فقيل له: لا تعجل بالقراءة فإن جبرائيل مأمور بأن يكرر عليك إلى أن تحفظه نظيره وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: 114] وعلى هذا يجوز أن يراد بالتعليم والإقراء شرح الصدر وتقوية الحفظ بحيث يبقى القرآن محفوظا له من غير دراسة، ومع أنه أمي فيكون إعجازا. وعن بعضهم أن قوله فَلا تَنْسى نهي لا خبر، والألف مزيدة للفاصلة نحو الظُّنُونَا [الأحزاب: 10] والسَّبِيلَا [الأحزاب: 67] وضعف بأن الزيادة خلاف الأصل فلا يصار إليها إلا لدليل ظاهر. وأما إذا جعلناه خبرا كان معنى الآية البشارة بأنا جعلناك بحيث لا تنسى، وإن جعلناه نهيا كان أمرا بالمواظبة على الأسباب المانعة من النسيان وهي الدراسة والقراءة والبحث فلا يكون من البشارة في شيء. وأيضا النسيان لا يتعلق بقدرة العبد فيلزم أن يحمل النهي عنه على الأمر بالأسباب المانعة منه وهو خلاف الظاهر، أما الاستثناء ففيه قولان: الأول أنه ليس على حقيقته، فقد روي عن الكلبي أنه صلى الله عليه وسلم لم ينس بعد نزول هذه الآية شيئا. وعلى هذا فالمقصود من الاستثناء إما نفي النسيان رأسا كما تستعمل القلة في معنى العدم، وإما التبرك بذكر هذه الكلمة وتعليم العباد أن لا يتركوها في كل ما يخبرون عنه، وفيه أنه تعالى قادر على إنسائه إلا أنه لا ينسيه بفضله وإحسانه، وفيه لطف للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون متيقظا مبالغا دراسة ما ينزل عليه من الوحي قليلا كان أو كثيرا، فإن كل جزء من أجزائه يحتمل أن يكون هو المستثنى. الثاني أنه حقيقة. ثم حمله مقاتل على النسخ كما مر. وقال الزجاج: أراد إلا أن يشاء الله فتنساه ثم تذكره بعد النسيان كما روي أنه أسقط في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 484 قراءته آية في الصلاة فحسب أبيّ أنها نسخت فسأله فقال: نسيتها. وقيل: أريد القلة والندرة لا في الواجبات فإنه يورث الخلل في الشرع ولكن في غيرها. ثم علل حسن النسخ بقوله إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى وإذا كان كذلك كان وضع الحكم ورفعه واقعا بحسب مصالح المكلفين. وقيل: أراد أنك تجهر بقراءتك مع قراءة جبرائيل مخافة النسيان والله يعلم ما في نفسك من الحرص على تحفظ الوحي، فلا تفعل فأنا أكفيك ما تخافه. ثم بشره ببشارة أخرى وهو تيسيره أي توفيقه للطريقة التي هي أيسر وهي حفظ القرآن والشريعة السهلة السمحة. وعن ابن مسعود: هي الجنة يعني العمل المؤدي إليها. والعبارة المشهورة أن يقال: جعل الفعل الفلاني ميسرا لفلان وإنما عكس الترتيب في الآية لدقيقة هي أن الفاعل ما لم يوجد فيه قابلية لصدور الفعل عنه امتنع حصوله منه وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم «كل ميسر لما خلق له» . وفي الآية دلالة على أنه سبحانه فتح عليه من أبواب قبول الفيض ما لم يفتحه على غيره حتى صار يتيم أبي طالب قدوة للعالمين وهاديا للخلائق أجمعين كما قال فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى وإن لم تنفع فحذفت إحدى القرينتين للعلم بها كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] وهو بناء على الأغلب فإن التذكير إنما يكون غالبا إذا كان رجاء التذكر حاصلا كقوله وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النور: 33] وفيه حث على الانتفاع بالذكرى كما يقول المرء لغيره إذا بين له الحق: قد أوضحت لك إن كنت تسمع وتقبل، ويكون مراده البعث على السماع والقبول. أو تنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم على أن الذكرى لا تنفعهم كما يقال للرجل: أدع فلانا إن أجابك. والمعنى ما أراه يجيبك. ووجه آخر وهو أن تذكير العالم واجب في أوّل الأمر. وأما التكرير فالضابط فيه هو العرف فلعله إنما يجب عند رجاء حصول المقصود فلهذا أردفه بالشرط. قيل: التعليق بالشرط إنما يحسن في حق من يكون جاهلا بعواقب الأمور. والجواب أن أمر الدعوة والبعثة مبنيّ على الظواهر لا على الخفيات. وروي في الكتب أنه تعالى كان يقول لموسى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] وأنا أشهد أنه لا يتذكر أو يخشى. وإنما سمى الوعظ بالتذكير لأن حسن هذا الدين مركوز في العقول فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30] فكأن هذا العلم كان حاصلا في نفسه بالقوّة ثم زال عنها بالعوائق والغواشي، وعند بعض العقلاء أن النفوس قبل تعلقها بالأبدان عالمة بما لها أن تعلم إلا أنها نسيتها لاشتغالها بتدبير البدن، ومن هنا قال أفلاطون: لست أعلمكم ما كنتم تجهلون ولكن أذكركم ما كنتم تعلمون. ثم إنه تعالى بين أن المنتفع بالتذكير من هو فقال سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى قال في التفسير الكبير: إن الناس في أمر المعاد ثلاثة أقسام: القاطع بصحته، والمتردد فيه، والجاحد له. والفريقان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 485 الأوّلان ينتفعان بالتذكير والتخويف، وكثير من المعاندين إنما يجحدون باللسان فقط، فتبين أن أكثر الخلق ينتفعون بالوعظ والمعرض نادر وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فلهذا وجب تعميم التذكير. قلت: هذا خلاف القرآن حيث قال وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] وقال وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الأعراف: 17] وخلاف الحديث حيث قال صلى الله عليه وسلم في بعث النار «من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون» . وخلاف المعقول فإنه لو سلم أن قسمين من الأقسام الثلاثة ينتفعان بالتذكير وينضم إليه من القسم الثالث بعض آخر فقد لا يلزم أن يكون الثاني أقل من المجموع المفروض لجواز اختلاف الأقسام، بل السبب في تعميم التذكير انتفاع المنتفعين به وهم أهل الخشية أعني العلماء بالله وإلزام الحجة لغيرهم. والسين في سَيَذَّكَّرُ إما لمجرّد الإطماع فإن «سوف» من الله واجب، وإما لأن التذكير متراخ عن التذكير غالبا لتخلل زمان النظر والتأمل بينهما غالبا. قيل: نزلت الآية في عثمان بن عفان. وقيل: في ابن أم مكتوم. ونزل في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة قوله وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى أي السفلى من أطباق النار. وعن الحسن: النار الكبرى نار جهنم والصغرى نار الدنيا. فالأشقى هو الكافر على الإطلاق، وذلك أن الكافر أشقى من الفاسق. ولا يلزم من تخصيص ذكر الكافر بدخول النار أن لا يدخلها الفاسق، وسبب تخصيص الكافر بالذكر أن الفاسق لم يتجنب التذكير بالكلية فيكون القرآن مسكوتا عن الشقي الذي هو أهل الفسق، ويحتمل أن يكون الأشقى بمعنى الشقي كقوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] أي هين فيدخل فيه الفاسق لأنه يجتنب بوجه من الوجوه. وقوله ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى قد مر تفسيره في «طه» . ومعنى «ثم» تراخى الرتبة لأن هذا النوع من الحياة أفظع من نفس الدخول في النار. ثم ذكر وعد السعداء بعد وعيد الأشقياء. ومعنى تَزَكَّى تطهر من أدناس الشرك والمعاصي والعقائد الفاسدة وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ بالتوحيد والإخلاص فَصَلَّى أي اشتغل بالخدمة والطاعة حتى يكون كاملا بحسب قوّته النظرية والعملية بعد تخليته لوح الضمير عن النقوش الفاسدة. وقال الزجاج: تزكى أي تكثر من التقوى وأصله من الزكاء النماء فيكون تفصيله قوله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1] إلى آخر الآيات. وفي أوّل البقرة إلى قوله هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الآيات: 1، 5] وقال مقاتل: تزكى من الزكاة كتصدّق من الصدقة والمعنى: قد أفلح من تصدّق من ماله وذكر ربه بالتوحيد والصلاة فصلى له. وخصه قوم بصلاة العيد وصدقة الفطر أي أفلح من تصدّق قبل خروجه إلى المصلى، وذكر اسم ربه في طريق المصلى أو عند تكبيرة الافتتاح فصلى العيد وهذا قول عكرمة وأبي العالية وابن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 486 سيرين وابن عمرو وعلي. وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وضعف بأنه خلاف ما ورد في مواضع أخر من القرآن من تقديم الصلاة على الزكاة. والجواب إنما ورد هكذا لأن زكاة الفطر مقدّمة على صلاته. واعترض الثعلبي بأن السورة مكية بالإجماع ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. وأجاب الواحدي بأنه لا يمتنع أن يقال لما كان في معلوم الله تعالى أن يكون ذلك أثنى على من فعل ذلك. استدل بعض الفقهاء بالآية على وجوب تكبيرة الافتتاح، واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة بها على أن التكبيرة الأولى ليست من صلب الصلاة لعطف الصلاة عليها، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه. وأجيب بما روي عن ابن عباس أن المراد ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له وبأنه قد يقال «أكرمتني فزرتني» وبالعكس من غير فرق. وقد يزيف هذا الجواب الثاني بأنه خلاف الظاهر وبأن خصوصية المادة ملغاة فلا يلزم من عدم الفرق في المثال المضروب عدم الفرق فيما يتعلق به حكم شرعي. ثم وبخهم بقوله بَلْ تُؤْثِرُونَ إلى آخره. ثم بين أن ما في السورة من التوحيد والنبوّة والوعيد والوعد كانت ثابتة في صحف الأنبياء الأقدمين لأنها قواعد كلية لا تتغير بتغير الأزمان فهو كقوله وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] وقيل: المشار إليه بهذا هو قوله بَلْ تُؤْثِرُونَ الآية لأنه أقرب المذكورات، ولأن حاصل جميع الكتب السماوية الزجر عن الدنيا والإقبال على الآخرة. قال في الكشاف: روي عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم أنزل الله من كتاب؟ قال «مائة وأربعة كتب منها على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسون صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان» فتقدير الآية إن هذا لفي الصحف الأولى التي منها صحف إبراهيم وموسى. قالوا: في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه عارفا بزمانه مقبلا على شأنه الله تعالى حسبي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 487 (سورة الغاشية) (مكية حروفها ثلاثمائة وأحد وثمانون كلمها اثنتان وتسعون آياتها ست وعشرون) [سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 26] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) القراآت: تَصْلى بضم التاء من الإصلاء: أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر وحماد. الباقون: بالفتح لا يسمع بضم الياء التحتانية لاغية بالرفع: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. وقرأ نافع بتاء التأنيث والرفع. الآخرون: بفتح تاء التأنيث أو الخطاب لكل سامع لاغِيَةً بالنصب. بِمُصَيْطِرٍ بالصاد: أبو جعفر ونافع وعاصم وعلي وخلف. وقرأ حمزة في رواية بإشمام الزاي. الباقون: بالسين. إيابهم بالتشديد: يزيد. الوقوف: الْغاشِيَةِ هـ ط خاشِعَةٌ هـ ناصِبَةٌ هـ ك حامِيَةً هـ ك آنِيَةٍ هـ ط لتمام الأوصاف ضَرِيعٍ هـ ط جُوعٍ هـ ج للابتداء بعده ناعِمَةٌ هـ لا راضِيَةٌ هـ لا عالِيَةٍ هـ ج لاغِيَةً هـ ط جارِيَةٌ هـ م لئلا يتوهم أن ما بعدها صفة لعين فيكون في الحارية سرور ليس كذلك مَرْفُوعَةٌ هـ لا مَوْضُوعَةٌ هـ لا مَصْفُوفَةٌ هـ لا مَبْثُوثَةٌ هـ ط خُلِقَتْ هـ رُفِعَتْ هـ ك نُصِبَتْ هـ ط سُطِحَتْ هـ وقد يوقف على الآيات الأربع لأجل مهلة النظر وإلا فلكل متسقة مُذَكِّرٌ هـ ط بِمُصَيْطِرٍ هـ لا وَكَفَرَ هـ ك الْأَكْبَرَ هـ ط إِيابَهُمْ هـ لا حِسابَهُمْ هـ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 488 التفسير: لما انجر الكلام في السورة المتقدّمة إلى ذكر الآخرة، شرح في هذه السورة بعض أحوال المكلفين فيها. والغاشية القيامة لأنها تغشى الناس بشدائدها، وكل ما أحاط بالشيء من جميع الجهات فهو غاش له قال الله تعالى يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [العنكبوت: 55] وقال وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم: 50] أي لم يأتك حديث هذه الداهية وقد أتاك الآن فاستمع. وقدّم وصف الأشقياء لأن مبنى السورة على التخويف كما ينبئ عنه لفظ الغاشية. والمراد بالوجه الذات ووجه حسن هذا المجاز أن الخشوع والانكسار والذل وأضدادها يتبين أكثرها في الوجه كقوله وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشوري: 45] والعمل والنصب أي التعب. قيل: كلاهما في الآخرة وهو الأظهر لقوله يَوْمَئِذٍ أي تعمل في النار عملا تتعب فيه وهو جرها السلاسل والأغلال وخوضها في النار خوض الدابة في الوحل وتردّدها في صعود من نار وحدور منها. قال الحسن: كان يجب عليها أن تعمل لله في الدنيا خاشعة ناصبة فلما قصر في ذلك وقع في مثله بعد المفارقة إلى أن يشاء الله ليكون معارضا بنقيض مقصوده. وقيل: كلاهما في الدنيا وهم أصحاب الصوامع خشعت وجوههم لله وعملت ونصبت في أعمالها من غير نفع لهم في الآخرة، لأن أعمالهم مبنية على غير أساس من الدين الحنيفي. وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء فهي في نصب منها في الآخرة. ثم شرح مكانهم وهو النار الشديدة الحر، ومشروبهم وهو من عين آنية أي متناهية في الحرارة، ومطعومهم وهو الضريع. وإنما قدّم المشروب على الضريع المطعوم لأن الماء يناسب النار مناسبة الضدين أو الشبيهين من حيث بساطتهما، أو لأنهم إذا أثر فيهم حر النار غلب عليهم العطش وكان الماء عندهم أهم، ثم إذا أثرت فيهم الحرارتان أرادوا أن يدفعوا ألم الإحساس بها بما يزيد العذاب على البدن، هذا مع أن الواو ليست للترتيب. قال الحسن: لا أدري ما الضريع ولم أسمع فيه من الصحابة شيئا وقد يروى عنه أيضا أنه «فعيل» بمعنى «مفعل» كالأليم بمعنى المؤلم. والبديع بمعنى المبدع ومعناه إلا من طعام يحملهم على الضراعة والذل عند تناوله لما فيه من الخشونة والمرارة والحرارة. وعن سعيد بن جبير أنه شجرة ذات شوك. قال أبو الجوزاء: كيف يسمن من يأكل الشوك. وفي الخبر «الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأشدّ حرا من النار» قال العلماء: إن للنار دركات وأهلها على طبقات: فمنهم من طعامه الزقوم، ومنهم من طعامه غسلين، ومنهم من طعامه ضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 44] ووجود النبت في النار ليس ببدع من قدرة الله كوجود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 489 بدن الإنسان والعقارب والحيات فيها. قوله لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ صفة للطعام أو للضريع، وفيه أن طعامهم ليس من جنس طعام الإنس لكن من جنس الشوك الذي ترعاه الإبل ما دام رطبا فإذا يبس نفرت عنه لأنه سم قاتل. ويحتمل أن يراد لا طعام لهم أصلا لأن الضريع يبيس هذا الشوك والإبل تنفر عنه كما قلنا فهو كقوله «ليس لفلان ظل إلا الشمس» يريد نفي الظل على التوكيد. وروي أن كفار قريش قالوا على سبيل التعنت حين سمعوا الآية: إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ أي ليس فيه منفعة الغذاء ولا الاسمان ودفع الجوع كذبهم الله في قولهم يسمن الضريع، أو نبههم الله بعد تسليم أن ضريعهم مسمن على أن ضريع النار ليس كذلك أي كل ما في النار يجب أن يكون خاليا عن النفع. ثم أخذ في وصف السعداء فقال وُجُوهٌ وإنما فقد العاطف خلاف ما في سورة القيامة لأنه أراد هاهنا تفصيل ما أجمل في قوله هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ومعنى ناعمة ذات نعومة أو تنعم. وقوله لِسَعْيِها راضِيَةٌ أي رضيت بما عملت في الدنيا وأثنت عليه نحو قولها «ما أحسن ما عملت» وذلك إذا رأت محلها ومنزلتها في الكرامة والثواب أو رضيت لجزاء سعيها حين رأت ما لا مزيد عليه. واللاغية اللغو مصدر كالعافية والباقية، ويجوز أن تكون صفة لمحذوف أي كلمة ذات لغو. قوله عَيْنٌ جارِيَةٌ قال جار الله: يريد عيونا في غاية الكثرة كقوله عَلِمَتْ نَفْسٌ [الانفطار: 5] قال الكلبي: لا أدري جرت بماء أو غيره. قال القفال: عين شراب جارية على وجه الأرض في غير أخدود وتجري لهم كما أرادوا. مَرْفُوعَةٌ في الرتبة أو مرتفعة عن الأرض ليرى المؤمن بجلوسه عليها جميع ما آتاه الله من الخدم والملك، فإذا جاء وليّ الله ليجلس عليها تطأطأت له، فإذا استوى عليها ارتفعت إلى حيث أراد الله. وقد وصفها ابن عباس بأن ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت. وقيل: مرفوعة أي مخبوءة لهم من رفع الشيء إذا خبأه. والأكواب الكيزان التي لا عرى لها كلما أرادوها وجدوها موضوعة بين أيديهم حاضرة أو موضوعة على حافات العيون ليشرب بها. وجوّز في الكشاف أن يراد موضوعة من حدّ الكبر إلى التوسط والاعتدال. والنمارق الوسائد واحدها نمرقة بضم النون. وروى الفراء بكسرها أيضا مَصْفُوفَةٌ بعضها بجنب بعض أينما أراد أن يجلس جلس على واحدة وأسند إلى أخرى. والزرابيّ البسط العراض الفاخرة واحدها زربية بكسر الزاي. وقيل: هي الطنافس التي لها خمل رقيق. ومَبْثُوثَةٌ أي مبسوطة أو مفرقة في المجلس. وحين ذكر أحوال المعاد عاد إلى الاستدلال على المبدأ فإن من عادة كتاب الله الكريم أنه يرجع إلى تذكير الأصول عودا إلى بداية. وللمحققين في نسق الآية وفي تناسب هذه الأمور وجوه منها: قول أكثر أهل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 490 المعاني إن القرآن إنما نزل بلغة العرب فيجب أن يخاطبوا بحسب ما هو مركوز في خزانة خيالهم، ولا ريب أن جل هممهم مصروفة بشأن الإبل فمنها يأكلون ويشربون، ومن أصوافها وأوبارها ينتفعون، وعليها في متاجرهم ومسافراتهم يحملون، فحيث أراد الله سبحانه أن ينصب لهم دليلا من مصنوعاته يمكنهم أن يستدلوا به على كمال حكمة الصانع ونهاية قدرته لم يكن شيء أحضر صورة في متخيلهم من الإبل فنصبها لهم. ولا ريب أنها من أعاجيب مصنوعات الله تعالى صورة وسيرة لما ركب فيها من التحمل على دوام السير مع كثرة الأثقال، ومن البروك حتى تحمل، ثم النهوض بما حملت، ومن الصبر على العطش، وعلى العلف القليل أياما، ثم شرب الماء الكثير إذا وجدت، ومن تذللها لصبي أو ضعيف. قال الإمام فخر الدين الرازي: كنت مع جماعة في مفازة فضللنا الطريق فقدّموا جملا وتبعوه وكان ذلك الجمل يمشي ينعطف من تل إلى تل ومن جانب إلى جانب حتى وصل الطريق فتعجبنا من قوّة تخيله. وعن بعض أهل الفراسة أنه حدّث عن البعير وبديع خلقه في بروكه ثم نهوضه مثقلا وقد نشأ في بلاد لا إبل بها ففكر ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق، وذلك أن طول العنق يسهل عليه النهوض. ثم إن أصحاب المواشي لاحتياجهم الشديد إلى الماء المستعقب للكلأ صار جل نظرهم إلى السماء التي منها ينزل المطر، ثم إلى الجبال التي هي أقرب إلى السماء وأسرع لوقوع المطر عليها وحفظ الثلج الذي منه مادة العيون والآبار عند إقلاع الأمطار على أنها مأمنهم ومسكنهم في الأغلب. لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل ثم إلى الأرض التي فيها ينبت العشب وعليها متقلبهم ومرعاهم، فثبت أن الآية كيف وردت منظمة حسب ما انتظم في خزانة خيال العرب بحسب الأغلب. ومنها أن جميع المخلوقات متساوية في دلالة التوحيد وذكر جميعها غير ممكن فكل طائفة منها تخص بالذكر. ورد هذا السؤال فوجب الحكم بسقوطه، ولعل في ذكر هذه الأشياء التي لا تناسب في الظاهر تنبيها على أن هذا الوجه من الاستدلال غير مختص بنوع دون نوع بل هو عام في الكل. ومنها أن المراد بالإبل السحاب على طريق التشبيه والمجازفان العرب كثيرا تشبه السحاب بالإبل في أشعارهم. ومنها أن تخصيص الإنسان بالاستدلال منه على التوحيد يستتبّع الوقوع في الشهوة والفتنة، وكذا الفكر في البساتين النزهة والصور الحسنة فخص الإبل بالذكر لأن التفكير فيها متمحض لداعية الحكمة وليس للشهوة فيها نصيب، على أن إلف العرب بها أكثر كما مر، وكذا السماء والأرض والجبال دلائل الحدوث فيها ظاهرة وليس فيها نصيب للشهوة. والمراد بالنظر إلى هذه الأشياء هو النظر المؤدّي إلى الاستدلال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 491 بدليل قوله كَيْفَ خُلِقَتْ كَيْفَ رُفِعَتْ كَيْفَ نُصِبَتْ كَيْفَ سُطِحَتْ وليس في السطح دلالة على عدم كرية الأرض لأنها في النظر مسطحة وقد تكون في الحقيقة كرة إلا أنها لعظمها لا تدرك كريتها. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتذكير الأمة بهذه الأدلة وأمثالها لأن أمره مقصور على كونه مذكرا لا منحطا إلى كونه مسيطرا أي مسلطا عليهم فإن أراد بالتسليط القهر أو بالإكراه بمعنى خلق الهداية فيهم فالآية ثابتة لأن ذلك لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا. وإن أراد القتال معهم إن لم يؤمنوا فالآية منسوخة وهذا قول كثير من المفسرين، وعلى هذا فالأظهر أن يكون الاستثناء في قوله إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ متصلا لا باعتبار الحال فإن السورة مكية ولكن بالنظر إلى الاستقبال أي إلا المصرين على الإعراض والكفر فإنك تصير مأمورا بقتالهم مستوليا عليهم بالغلبة والقهر. وقيل: هو استثناء منقطع أي لست بمستول عليهم ولكن من تولى وكفر فإن لله الولاية والقهر فهو يعذبه العذاب الأكبر الذي هو القتل والسبي أو عذاب الدرك الأسفل. وقيل: هو استثناء من قوله فَذَكِّرْ أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض. ويرد أنه صلى الله عليه وسلم لا ينقطع طمعه من إيمان الكفرة ما داموا أحياء إلا أن يعلمه الله بذلك، وعلى تقدير الإعلام أيضا لا يجوز أن يقطع التذكير لأن الدعوة عامة في الأصل ولو جعلت خاصة لم تبق مضبوطة كرخصة المسافر مثلا. ثم ختم السورة بما يصلح للوعد والوعيد والترغيب والترهيب. ومن قرأ إِيابَهُمْ بالتشديد فإما أن يكون «فيعالا» مصدر «فيعل» من الإياب، وأما أن يكون أصله «أوّابا» فعالا من «أوّب» ثم قلبت إحدى الواوين ياء كما في «ديوان» ثم الأخرى كما في «سيد» . قال جار الله: فائدة تقديم الظرف في الموضعين الحصر أي ليس ينبغي أن يكون مرجعهم إلا إلى الجبار المقتدر على توفية جزاء كل طائفة ولا أن يكون حسابهم واجبا إلا على حكمة من هو أحكم الحاكمين ورب العالمين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 492 (سورة الفجر) (مكية حروفها خمسمائة وستة وستون كلمها مائة وست وثلاثون آياتها ثلاثون) [سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 30] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) القراآت: روى ابن مهران وابن الاسكندراني عن أبي عمرو أنه كان يقف على وَالْفَجْرِ وأشباهها من ذوات الراء بنقل حركة الراء إلى ما قبله والْوَتْرِ بكسر الواو: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون: بالفتح يسري وبِالْوادِ أكرمني وأهانني بالياء في الحالين: يعقوب والهاشمي عن البزي والقواس وأبو ربيعة عن أصحابه. وقرأ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل أكرمني وأهانني بالياء في الوصل وبغير ياء في الوقف بِالْوادِ بالياء في الوصل: ورش وسهل وعباس. الباقون: كلها بغير ياء فقدر بالتشديد: ابن عباس ويزيد ربي بالفتح: أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو. يكرمون ولا يحضون ويأكلون ويحبون كلها على الغيبة: أبو عمرو وسهل ويعقوب. الآخرون: بتاء الخطاب تَحَاضُّونَ بفتح التاء الفوقانية والألف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 493 من التفاعل: عاصم وحمزة وعلي ويزيد لا يعذب ولا يوثق بفتح الذال والثاء: عليّ والمفضل وسهل ويعقوب. الآخرون: بكسرهما. الوقوف: وَالْفَجْرِ هـ لا عَشْرٍ هـ ك وَالْوَتْرِ هـ ك يَسْرِ هـ ك لجواز أن يكون جواب القسم المحذوف وهو ليبعثن أو ليعذبن مقدرا قبل «هل» أو بعده. حِجْرٍ هـ ط ثم الوقف المطلق على لَبِالْمِرْصادِ وما قبله وقف ضرورة بِعادٍ هـ لا الْعِمادِ هـ لا الْبِلادِ هـ ص بِالْوادِ ك الْأَوْتادِ هـ ك الْبِلادِ هـ ك الْفَسادَ هـ ك عَذابٍ هـ ج لاحتمال التعليل ولما قيل: إن جواب القسم قوله إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ وما بينهما اعتراض. لَبِالْمِرْصادِ هـ ج أَكْرَمَنِ هـ ج لابتداء شرط أَهانَنِ هـ ج لأن «كلا» يحتمل معنى «إلا» وحقا ومعنى الردع. الْيَتِيمَ هـ لا الْمِسْكِينِ هـ ط لَمًّا هـ ط جَمًّا هـ ك دَكًّا هـ لا دَكًّا هـ ك صَفًّا هـ لا صَفًّا هـ ك بِجَهَنَّمَ هـ الذِّكْرى هـ ج لأن ما بعده مستأنف كأنه قيل: كيف يتذكر لِحَياتِي هـ ج أَحَدٌ هـ لا أَحَدٌ هـ ط الْمُطْمَئِنَّةُ هـ ط مَرْضِيَّةً هـ عِبادِي هـ جَنَّتِي هـ. التفسير: إقسام الله تعالى بهذه الأمور ينبئ عن شرفها وأن فيها فوائد دينية ودنيوية. أما الفجر فعن بعضهم أنه الغيران التي تتفجر منها المياه، والأظهر ما روي عن ابن عباس أنه الصبح الصادق ويوافقه قوله في المدّثر وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [الآية: 34] وفي «كورت» وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [الآية: 18] وذلك أن فيه عبرة للمتأمل لما يحصل من انفجار الضوء فيما بين الظلام، وانتشار الحيوان من أوكارها لطلب المعاش كما في نشور الموتى من قبورهم. وقيل: المضاف محذوف أي ورب الفجر أو أقسم بصلاة الفجر. وخصه بعضهم بفجر النحر لأنه يوم الضحايا والقرابين، وبعضهم بفجر المحرّم لأنه أوّل يوم السنة، وبعضهم بفجر ذي الحجة لقوله وَلَيالٍ عَشْرٍ والتنكير لأنها ليال معدودة من ليالي السنة أو لأنها مخصوصة بفضائل كما جاء في الخبر «ما من أيام العمل الصالح فيهن أفضل من عشر ذي الحجة» «1» قال أهل المعاني: ولو عرّفت بناء على أنها ليال معلومة جاز إلا أن التعظيم المستفاد من التنكير يفوت التناسب بين اللامات إذ ذاك فعدم اللام خير من وجوده مخالفا للباقية. وقيل: إنها عشر المحرم. وقيل: العشر الأخيرة من رمضان ولهذا سن فيها الاعتكاف وفيها ليلة القدر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأخير شدّ المئزر وأيقظ أهله أي كف   (1) رواه الترمذي في كتاب الصوم باب 51. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 39. أحمد في مسنده (1/ 224، 338) (2/ 75) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 494 عن الجماع وأمر أهله بالتهجد. وأما الشفع والوتر فمعناهما الزوج والفرد. والوتر بالفتح لغة أهل العالية، وبالكسر لغة تميم. واختلف المفسرون فيهما اختلافا عظيما فمنهم من حملهما على الأشياء كلها لأن الموجودات لا تخلو من هذين القسمين فتكون كقوله فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ [الحاقة: 38، 39] وقيل: الشفع صفات الخلق كالعلم والقدرة والحياة، ونقائضها الجهل والعجز والموت. والوتر صفات الحق وجود بلا عدم وقدرة بلا عجز وعلم بلا جهل وحياة بلا موت. وقيل الشفع والوتر: نفس العدد وكأنه تعالى أقسم بالحساب الذي لا بد للخلق منه فهو في معرض الامتنان بمنزلة العلم والبيان في قوله عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 4، 5] الرابع الشفع الممكنات وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذاريات: 49] والوتر الواجب تعالى وتقدّس. الخامس الشفع الصلوات الثنائية والرباعية والوتر الثلاثية، عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الصلاة منها شفع ومنها وتر» . «1» السادس الشفع درجات الجنة وأبوابها وهي ثمانية، والوتر دركات النار وأبوابها وهي سبعة. السابع الشفع البروج الاثنا عشر، والوتر الكواكب السبعة. الثامن الشفع الشهر الذي يكون ثلاثين والوتر تسعة وعشرون. التاسع الشفع السجدتان والوتر الركوع. العاشر الشفع العيون الاثنا عشر لموسى فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [البقرة: 60] والوتر معجزاته وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الإسراء: 101] وأظهر الأقوال ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة لأنه تاسع أيام الليالي المذكورة. وحين أقسم بالليالي المخصوصة أقسم على العموم بالليل إذا يسري أي إذا يمضي كقوله والليل إذا أدبر [المدثر: 33] وعن مقاتل: هو ليلة المزدلفة. وعلى هذا جوّز أن يراد بالسري الإسناد المجازي لأن الساري فيه هو الحاج. يروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يقدّم ضعفة أهله في هذه الليلة. والحجر بالكسر العقل سمي بذلك لأنه يمنع من الوقوع فيما لا ينبغي كما سمي عقلا، ونهي لأنه يعقل وينهى، وحصاة لأنه يحصى أي يضبط. قال الفراء: يقال إنه لذو حجر إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها. والمراد بالاستفهام تقرير أن هذه المذكورات لشرفها وعظم شأنها يحق أن يؤكد بمثلها المقسم عليه كمن ذكر حجة باهرة ثم قال: هل فيما ذكرته حجة يريد أنه لا حجة فوق هذا ومن هنا قال بعضهم: فيه دليل على أنه تعالى أراد رب هذه الأشياء ليكون غاية في القسم. ولقائل أن يقول: المقنع والكفاية غير الغاية والنهاية. ثم إنه تعالى ذكر للعبرة ولتسلية نبيه صلى الله عليه وسلم قصة ثلاث فرق على سبيل الإجمال لأنهم أعلام في القوة   (1) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة 89. أحمد في مسنده (4/ 437، 438، 442) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 495 والشدّة والتجبر. والمعنى ألم ينته علمك إليهم علما يقرب المشاهدة لتعاضده بالوحي أو التواتر، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل راء. والمراد بعاد هو عاد الأولى القديمة ولهذا ابنه لزم لأنهم أولاد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوع فسموا باسم جدهم. وقيل: إرم بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها. ولم ينصرف قبيلة أو أرضا للعلمية والتأنيث. وقيل: الإرم العلم لأنهم كانوا يبنون أعلاما كهيئة المنارة كقوله أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً [الشعراء: 128] وعلى هذين الوجهين يكون المضاف محذوفا أي أهل البلدة أو الأعلام، وعلى الوجه الأخير لا يكون لمنع الصرف وجه ظاهر لكونه اسم جنس. والعماد بمعنى العمود لأنه ما يعمد أو جمع عمد. ثم إن كانت صفة للقبيلة فالمعنى أنهم كانوا بدويين أهل عمد أو كانوا طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة، أو كانت ذات البناء الرفيع. وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى أنها ذات أساطين. ثم قيل: هذه المدينة اسكندرية. وقيل: دمشق. واعترض بأن بلاد عاد كانت فيما بين عمان إلى حضر موت وهي بلاد الرمال المسماة بالأحقاف. وروي أنه كان لعاد ابنان: شدّاد وشديد، فملكا وقهرا البلاد وأخذا عنوة وملكا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشدّاد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال: أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة، وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار. ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا. ويروى أنه وضع إحدى قدميه فيها فأمر ملك الموت بقبض روحه. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ملك الموت حين عرج به إلى السماء فسأله: هل رققت لأحد من الخلائق الذين قبضت أرواحهم؟ فقال: نعم اثنان أحدهما طفل ولد بالمفازة ثم أمرت بقبض روح أمه ولم يكن هناك إنسان يتعهد الطفل، والثاني ملك اجتهد في بناء مدينة لم يخلق مثلها ثم لم يرزق رؤيتها بعد أن وضع رجله فيها يعني شدادا، فدعا الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يخبره بذلك فأوحى إليه أن ذلك الملك هو ذلك الطفل الذي ربيناه وآتيناه مملكة الدنيا. وحين قابل النعمة والملك بالكفران وبنى الجنان التي هي من مقدورات الله الرحمن جزيناه بالخيبة والحرمان. هكذا وجدت الحكاية في بعض التفاسير. وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع على تلك المدينة فحمل ما قدر عليه مما هناك، فبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه، فبعث إلى كعب الأحبار فسأله فقال: هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له. ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 496 الرجل. والضمير في مِثْلُها لإرم لأنهم أطول الناس قدودا وأشدّهم بناء، أو للمدينة أو للأعلام على اختلاف الأقوال. وجاب الصخرة أي الحجر العظيم قطعه كقوله وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [الشعراء: 149] والوادي وادي القرى قاله مقاتل. وقد قيل: لفرعون ذي الأوتاد لكثرة جنوده أو لتعذيبه للناس بالأوتاد الأربعة وقد مرّ في «ص» . وصب السوط كناية عن التعذيب المتواتر، وفيه إشارة إلى أن عذاب الدنيا بالنسبة إلى عذاب الآخرة كالسوط بالنسبة إلى القتل مثلا وقد أشار إلى عذاب الآخرة أو إليه مع عذاب الدنيا بقوله إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أي يمهل ولكنه لا يهمل. والمرصاد المكان الذي يرقب فيه الرصد، والباء بمعنى «في» وهو مثل لعدم الإهمال. وقيل لبعض العرب: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد أنه قرأ السورة عند المنصور حتى بلغ الآية فقال إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ يا أبا جعفر عرض له في هذا بأنه من الجبابرة الذين وعدوا بها. وقال الفراء: معناه إليه المصير فيكون وعدا ووعيدا للمؤمن والكافر. قال أهل النظم: لما ذكر أنه تعالى بمرصد من أعمال بني آدم عقبه بتوبيخ الإنسان على قلة اهتمامه بأمر الآخرة وفرط تماديه في إصلاح المعاش كأنه قيل: نحن مترقبون لمجازاة الإنسان على ما سعى، فأما هو فإنه لا يهمه إلا الدنيا وطيباتها فإن وجد راحة فرح بها وإن مسه ضرّ كند. والظاهر أن الإنسان للجنس. وعن ابن عباس أنه عتبة بن ربيعة. وعن الكلبي هو أمية بن خلف. ومعنى الابتلاء في البسط والضيق هو أنه سبحانه يعامل المكلف معاملة المختبر ليظهر أنه هل يتلقى النعمة بالشكر والضيق بالصبر أم لا كقوله وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] وتقدير الكلام فأما الإنسان فيقول ربي أكرمن إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه وَأَمَّا هو فيقول ربي أهانن إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ أي ضيق عَلَيْهِ رِزْقَهُ فقوله فَيَقُولُ خبر المبتدأ في الموضعين إِذا مَا ابْتَلاهُ ظرف ل فَيَقُولُ وإنما قال في جانب البسط فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ أي جعله ذا نعمة وثروة ولم يقل في طرف القبض «فأهانه وقدر عليه» لأن رحمته سبقت غضبه فلم يرد أن يصرح بإهانة عبده، ولئلا يكون الكلام نصا في أن القبض دليل الإهانة من الله، فقد يكون سببا لصلاح معاش العبد ومعاده. وأما البسط فهو إكرام في الظاهر الغالب، والبسط لأجل الاستدراج قليل وعلى قلته فهو خير من خسران الدنيا والآخرة جميعا. وعلام توجه الإنكار والذّم؟ فيه وجهان: أحدهما على قوله رَبِّي أَهانَنِ فقط لأنه سمي ترك التفضل إهانة وقد لا يكون كذلك. والثاني على مجموع الأمرين لا من حيث مجموعهما بل على كل منهما. أما على دعوى الإهانة فكما قلنا، وأما على دعوى الإكرام فلأنه اعتقد حصول الاستحقاق في ذلك الإكرام كقوله إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص: 78] وكان عليه أن يرى ذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 497 محض الفضل والعناية منه تعالى، أو لأنه قال في ذلك كبرا وافتخارا وتكاثرا، أو لأن هذا القول يشبه قول من لا يرى السعادة إلا في اللذات العاجلة، أو قول من غفل عن الاستدراج والمكر. ويحتمل أن يتوجه الذم على مجموع الأمرين من حيث المجموع حتى لو قال في البسط «أكرمني» تحدثا بنعمة الله، وفي القبض لم يقل «أهانني» بل قال «الحمد لله على كل حال» لم يكن مذموما. ثم ردع الإنسان عن تلك المقالة بقوله كَلَّا أي لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ ولا بالفقر لهوانه لديّ ولكنهما من محض المشيئة، أو على حسب المصالح. ثم نبه الإضراب في قوله بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ على أن هناك شرا من ذلك وهو أنه يكرمهم بكثرة المال ثم لا يؤدّون حق الله فيه. وعن مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيما في حجر أمية بن خلف وكان يدفعه عن حقه فنزلت. والتراث أصله الوراث نحو تجاه ووجاه. واللم الجمع الشديد ومنه كتيبة ملمومة مصدر جعل نعتا أي أكلا جامعا بجميع أجزائه كقوله وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً [النساء: 6] وقال الحسن: أي يجمعون نصيب اليتامى إلى نصيبهم كقوله وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [البقرة: 88] وقيل: جامعا بين حلال ما جمعه الميت وبين حرامه. وقيل: جامعا بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة اللذيذة والملابس الفاخرة كما يفعل أهل البطالة من الورّاث. والجم الكثير جم الماء وغيره يجم جموما إذا كثر جامّ، وجمّ نهي عن التهالك. والشره على جمع المال. وفي وصف الحب بالجم دلالة على أن حب المال وتعلق القلب بتحصيل ما يسدّ الخلة منه غير مكروه بل مندوب إليه لبقاء نظام العالم على أن كل السلامة وجل الفراغ في الترك كما هو دأب المتوكلين. إن السلامة من ليلى وجارتها ... أن لا تمر على حال بواديها ولا ينبئك مثل خبير. ثم ردعهم عن الفعل المذكور وذكر تحسر المقصر في طاعة الله يوم القيامة. وجواب «إذا» محذوف بعد صَفًّا أو بعد قوله بِجَهَنَّمَ ليذهب الوهم كل مذهب أي كان ما كان من الأهوال. ثم استؤنف وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ أو عطف على ما قبله ويوقف على هذا التقدير على قوله بِجَهَنَّمَ ويكون يَوْمَئِذٍ الثانية متعلقا بما بعده، ويجوز أن يكون «إذا» منصوبا ب يَتَذَكَّرُ ويَوْمَئِذٍ الثانية بدل منه. ومعنى دَكًّا دَكًّا دكا بعد دك كما قيل في «لبيك» أي كرر عليها الدك حتى صارت هباء منبثا. وقال المبرد: استوت في الانفراش فذهب دورها وقصورها وجبالها وقلاعها حتى تصير قاعا صفصفا، ولعل هذا الذي بعد الزلزلة. قوله وَجاءَ رَبُّكَ أي أمره بالجزاء والحساب أو قهره أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 498 دلائل قدرته. ويجوز أن يكون تمثيلا لهول ذلك اليوم كما إذا حضر الملك بنفسه وجنوده كان أهيب وتنزل ملائكة كل سماء صَفًّا صَفًّا أي مصطفين صفوفا مرتبة. يروى أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اشتد على أصحابه فجاء علي رضي الله عنه فاحتضنه وقبل عاتقه ثم قال: يا نبي الله بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم حتى غيرك؟ فتلا عليه الآية. فقال له عليّ: كيف يجاء بجهنم؟ قال: يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شرارة لو تركت لأحرقت أهل الجمع. قال الأصوليون: معنى جيء بجهنم برزت وأظهرت فإن جهنم لا تنتقل من مكان إلى مكان. قوله وَأَنَّى لَهُ أي ومن أين له منفعة الذِّكْرى ثم فسر التذكر وإنما قدرنا المضاف احترازا من التنافي وإلا فلا وجه للإستفهام الإنكاري بعد إثبات التذكر بأنه يقول يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ خيرا أو عملا صالحا لِحَياتِي هذه وهي الحياة الأخيرة، أو اللام بمعنى الوقت أي وقت حياتي في الدنيا. وقد يرجح هذا الوجه لأن أهل النار لا حياة لهم في الحقيقة كما قال لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الأعلى: 13] ويمكن أن يجاب بأن الحياة المضاهية للموت أو التي هي أشدّ من الموت حياة أيضا، وبأن حياة الآخرة يراد بها البقاء المستمر الدائم وهذا المعنى شامل لأهل النار ولأهل الجنة جميعا. قالت المعتزلة: في هذا التمني دليل واضح على أن الاختيار كان زمامه بيده، ويحتمل أن يجاب بأن استحالة متمناه قد تكون من جهة أن الأمر في الدنيا لم يكن إليه فيتحسر على ذلك. وقال في التفسير الكبير: فيه دليل على أن قبول التوبة لا يجب عقلا. ويرد عليه أنه لا يلزم من عدم قبولها في الآخرة عدم قبولها في دار التكليف كإيمان اليأس. من قرأ لا يُعَذِّبُ وَلا يُوثِقُ على البناء للفاعل فمعناه على ما قال مقاتل: لا يعذب عذاب الله أي عذابه أحد من الخلق. ضعف بأن يوم القيامة لا يعذب أحد سوى الله فلا يتصور لهذا النفي فائدة. وأجيب بأن المراد لا يتولى يوم القيامة عذاب الله أحد لأن الأمر يومئذ لله وحده، أو لا يعذب أحد في الدنيا ولا يوثق مثل عذاب الله الكافر ومثل إيثاقه إياه في الشدّة والإيلام. وقال أبو علي الفارسي: تقديره لا يعذب أحد من الزبانية أحدا مثل عذاب هذا الإنسان وهو أمية بن خلف، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه لتناهيه في كفره وفساده. ومن قرأ بناء الفعل للمفعول فيهما فظاهر. والضمير في عَذابَهُ ووَثاقَهُ للإنسان. ويمكن أن يراد لا يحمل عذاب الإنسان أحد كقوله وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] قال الواحدي: وهذا أولى الأقوال. ثم ذكر بشارة الأبرار وهو أن يقول للمؤمن بذاته أو على لسان ملك يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ أي بذكر الله أو بتحصيل الأخلاق الفاضلة والعقائد الصحيحة التي تسكن النفس السليمة إليها ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ إلى حيث لا مالك سواه أو إلى ثوابه راضِيَةً بما حكم عليك وقدر لك مَرْضِيَّةً عند الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 499 نظيره رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [البينة: 8] وهذه صفة أرباب النفوس الكاملة وإن كانوا بعد في دار التكليف ولهذا رتب على هذه الصفة قوله فَادْخُلِي فِي عِبادِي أي في جملة الصالحين وَادْخُلِي جَنَّتِي وهي في الدنيا مقام الرضا والتسليم. وإذا كانت النفس متحلية بالكمالات الحقيقية والمعارف اليقينية في حياته العاجلة كانت أهلا لهذه البشارة عند الموت وعند البعث وفي كل المواطن إلى دخول الجنة. وقيل: إنما يقال له هذا عند البعث والمعنى فادخلي في أجساد عبادي يؤيده قراءة ابن مسعود «في جسد عبدي» قالوا: أنزلت في حمزة بن عبد المطلب أو في خبيب بن عدي الذي صلبه أهله مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك، فحوّل الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يغيرها. والظاهر العموم ولو سلم فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 500 (سورة البلد) (مكية وقيل مدنية حروفها مائتان وستة وثلاثون كلمها ثمانون آياتها عشرون) [سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) القراآت لبدا بالتشديد: يزيد فك رقبة أو إطعام على صيغة الفعلين ونصب رقبة ابن كثير وأبو عمرو وعليّ. الباقون: على المصدرين فأضافوا الأول ونونوا الثاني أي هي الفك أو الإطعام مُؤْصَدَةٌ بالهمز: أبو عمرو ويعقوب وحمزة وخلف وحفص والمفضل. الوقوف: الْبَلَدِ هـ لا الْبَلَدِ هـ ك وَلَدَ هـ ك كَبَدٍ هـ ط أَحَدٌ م هـ لئلا يوهم أن ما بعده صفة لُبَداً ط أَحَدٌ هـ ك عَيْنَيْنِ هـ لا وَشَفَتَيْنِ هـ ك النَّجْدَيْنِ ج هـ للنفي مع الفاء الْعَقَبَةَ هـ ز الْعَقَبَةُ هـ ط رَقَبَةٍ هـ لا مَسْغَبَةٍ هـ ك مَقْرَبَةٍ هـ ك مَتْرَبَةٍ هـ ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار بِالْمَرْحَمَةِ هـ ك الْمَيْمَنَةِ هـ ط الْمَشْأَمَةِ هـ ط مُؤْصَدَةٌ هـ. التفسير: إنه سبحانه قرر في هذه السورة وفي أكثر ما يتلوها من السور مراتب النفوس الإنسانية وأحوالها في السعادة وضدّها، فأكد ذلك بالإقسام بالبلد الحرام وهو مكة التي جعلها الله تعالى منشأ كل بركة وخير. وقوله وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ اعتراض بين القسمين كأنه تعالى عظم مكة من جهة أنه صلى الله عليه وسلم حلّ بها وأقام فيها. وقيل: الحل بمعنى الحلال كأنه سبحانه عجب من اعتقاد أهل مكة كيف يؤذون أشرف الخلق في موضع محرم. عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 501 شرحبيل: يحرمون أن يقتلوا بها صيدا ويعضدوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك. وقال قتادة: أنت حلّ أي لست بأثيم وحلال لك أن تقتل بمكة من شئت كما في الحديث «ولم تحل لي إلا ساعة من نهار» . فأن كانت السورة مكية أو مدنية قبل الفتح فقوله حِلٌّ بمعنى الاستقبال نحو إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] وكثيرا ما تبرز الأفعال المستقبلة في القرآن في صيغ الماضي لتحقق الوقوع، وإن كان حال الفتح أو بعده فظاهر. وعلى الأول يكون فيه إخبار بالغيب وقد يسر الله له فتح مكة كما وعد فيكون معجزا. أما الوالد والولد فقيل: آدم وذرّيته لكرامتهم على الله وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70] وقيل: كل والد ومولود. وقد يخص الإقسام بالصالحين لأن غير الصالحين لا حرمة لهم أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: 179] والأكثرون على أن الوالد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام والولد محمد صلى الله عليه وسلم كأنه أقسم ببلده ثم بوالده ثم به والتنكير للتعظيم. وإنما لم يقل ومن ولد للفائدة المذكورة في قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران: 36] أي بشيء وضعته وهو مولود عجيب الشأن. والكبد المشقة والتعب كقوله إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً [الإنشقاق: 6] وأصله من كبد الرجل بالكسر كبدا بالفتح فهو كبد إذا وجعت كبده وانتفخت. ولا تخفى الشدائد الواردة على الإنسان من وقت احتباسه في الرحم إلى انفصاله ثم إلى زمان رضاعه ثم إلى بلوغه ثم ورود طوارق السراء وبوارق الضراء وعلائق التكاليف وعوائق التمدن والتعيش عليه إلى الموت، ثم إلى البعث من المساءلة وظلمة القبر ووحشته، ثم إلى الاستقرار في الجنة والنار من الحساب والعتاب والحيرة والحسرة والوقوف بين يدي الجبار، اللهم سهل علينا هذه الشدائد بفضلك يا كريم ووفقنا للعمل بما يستعقب الخلاص منها إلى النعيم المقيم. وقيل: الكبد مرض القلب وفساد العقيدة والمراد به الذين علم الله من حالهم أنهم لا يؤمنون. وقيل: الكبد هو الاستواء والاستقامة أي خلقناه منتصب القامة. وقيل: الكبد الشدة والغلظ ثم اشتق منه اسم العضو لأنه دم غليظ. وقد يخص الإنسان على هذا التفسير بشخص واحد من جمح يكنى أبا الأشدين، كان يجعل تحت قدميه الأديم ثم يمدّ من تحت قدميه فيتمزق الأديم ولم تزل قدماه ويعضد هذا التفسير قوله أَيَحْسَبُ يعني ذلك الإنسان الشديد. وعلى الأول معناه لن يقدر على بعثه ومجازاته أو على تغيير أحواله وأطواره يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي كثيرا بعضه فوق بعض وهو جمع لبدة بالضم لما يلبد قاله الفراء. وعن الزجاج أنه مفرد والبناء للمبالغة والكثرة. يقال: رجل حطم إذا كان كثير الحطم. ومن قرأ بالتشديد فهو جمع لا بد يريد كثرة ما أنفقه في الجاهلية فوبخه على ذلك بقوله أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يعنى أنه تعالى كان عالما بقصده حين ينفق ما ينفق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 502 رياء وافتخارا وحبا للانتساب إلى المكارم والمعالي أو معاداة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: أيظن أن الله لم يره ولا يسأله عن ماله من أين كسبه وفي أي شيء أنفقه؟ وقال الكلبي: كان كاذبا ولم ينفق شيئا فقال الله: أيزعم أن الله ما رأى ذلك منه ولو كان قد أنفق لعلم الله. ثم دل على كمال قدرته مع إشارة إلى الاستعداد الفطري بقوله أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما المصنوعات وَلِساناً يعبر به عما في ضميره وَشَفَتَيْنِ يستعين بهما على الإفصاح بالنطق وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ سبيلي الخير والشر كقوله إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الدهر: 3] هذا قول عامة المفسرين. والنجد في اللغة المكان المرتفع جعل الدلائل لارتفاع شأنها وعلو مكانها كالطرق المرتفعة العالية التي لا تخفى على ذوي الأبصار. وقال الحسن يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً فمن الذي يحاسبني عليه؟ فقيل الذي قدر على أن خلق لك الأعضاء قادر على محاسبتك. وعن ابن عباس وسعيد بن المسيب: هما الثديان لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه هدى الله الطفل الصغير حتى ارتضعهما، قال القفال: والتفسير هو الأول. ثم قرر وجه الاستدلال به فقال: إن من قدر على أن خلق من الماء المنتن قلبا عقولا ولسانا فؤولا فهو على إهلاك ما خلق أقدر، فما الحجة في الكفر بالله مع تظاهر نعمه؟ وما العلة في التعزز على الله وأوليائه بالمال وإنفاقه وهو المعطي والممكن من الانتفاع؟ ثم عرف عباده وجوه الإنفاق الفاضلة تعريضا بأن ذلك الكافر لم يكن إنفاقه في وجه مرضيّ معتدّ به لابتناء قبول الطاعات على الإيمان الذي هو أصل الخيرات. والاقتحام الدخول بشدّة ولهذا يستعمل في الأخطار والأهوال. والعقبة طريق الجبل فعن ابن عمر: هي جبل زلال في جهنم. وعن مجاهد والضحاك: هي الصراط يضرب على متن جهنم، وهو معنى قول الكلبي: عقبة بين الجنة والنار. وزيف الواحدي وغيره هاتين الروايتين بأنه من المعلوم أن هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا العقبة بهذا المعنى، وبأن تفسير الله سبحانه العقبة عقيبه ينافيه. وعن الحسن: عقبة والله شديدة إن هذا مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوّه الشيطان. قال النحويون: قلما توجد لا الداخلة على الماضي إلا مكررة كقوله فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة: 31] وتقول: لا خيبني ولا رزقني. والقرآن أفصح الكلام فهو أولى برعاية هذه القاعدة. والجواب أن القرآن حجة كافية ولو سلم فهي متكررة في المعنى. قال الزجاج: ألا ترى أنه فسر العقبة بفك الرقبة والإطعام؟ فكأنه قيل: فلا فك رقبة ولا أطعم مسكينا ولا سيما فيمن قرأ فَكُّ وإِطْعامٌ على الإبدال من اقْتَحَمَ وجعل ما بينهما اعتراضا. ويجوز أن يراد فلا اقتحم العقبة ولا آمن يدل عليه قوله ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ومن قرأ فَكُّ أَوْ إِطْعامٌ على المصدرين فالفاعل محذوف وهو من خواص المصدر لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 503 يجوز حذف الفاعل من غيره والتقدير: فك فاك رقبة أو إطعام مطعم يتيما. والمسغبة مصدر على «مفعلة» من سغب إذا جاع، وكذا المقربة من قرب في النسب. والمتربة من ترب إذا افتقر والتصق بالتراب فليس فوقه ما يستره ولا تحته ما يوطئه. عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو الذي مأواه المزابل. ووصف اليوم بذي مسغبة مجاز باعتبار صاحبه نحو «نهاره صائم» . وفك الرقبة تخليصها من رق أو غيره. وفي الحديث إن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل يدخلني الجنة. فقال: «تعتق النسمة وتفك الرقبة. فقال: أوليسا سواء؟ قال: لا إعتاقها أن تتفرد بعتقها وفكها تخلصها من قود أو غرم» «1» وقد استدل أبو حنيفة من تقديم العتق على أنه أفضل من الصدقة. وعند بعضهم بالعكس لأن في الصدقة تخليص النفس من الإشراف على الهلاك فإن قوام البدن بالغذاء، وفي الفك تخليصها من القيد في الأغلب. وأيضا لعل الأمر في الأول أضيق. ولا شك أن إطعام اليتيم القريب أفضل من اليتيم الأجنبي. وقد يستدل للشافعي أن المسكين أحسن حالا من الفقير وأنه قد يكون بحيث يملك شيئا وإلا وقع قوله ذا مَتْرَبَةٍ تكرارا. وقال بعض أهل التأويل: فك الرقبة أن يعين المرء نفسه على إقامة الوظائف الشرعية ليتخلص بها عن النار. وعندي هو أن يفك رقبته عن الكونين ليلزم عنه زوال الحرص المستتبع لمواساة النفس على الطعام والإيثار. وفي قوله ثُمَّ كانَ وجوه أحدها: أن هذا التراخي في الذكر لا في وجود فإن الإيمان مقدّم على جميع الخصال المعتدّ بها شرعا كقوله: إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده أي ثم انه أذكر ساد أبوه: وثانيها التأويل بالعاقبة أي ثم كان في عاقبة أمره ممن يموت على الإيمان. وثالثها أن الاية نزلت فيمن أتى بهذه الخصال قبل إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم آمن به بعد مبعثه. فعند بعضهم يثاب على تلك الطاعات يدل عليه ما روي أن حكيم بن حزام بعد ما أسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نأتي بأعمال الخير في الجاهلية فهل لنا منها شيء؟ فقال صلى الله عليه وسلم «أسلمت على ما قدّمت من الخير» «2» . ورابعها وهو أولى الوجوه عند أصحاب المعاني أن المراد تراخي الرتبة والفضيلة لأن ثواب الإيمان أكثر من ثواب العتق والصدقة. وقد يوجه البيت المذكور على هذا بأن المراد ثم ساد أبوه مع ذلك ثم ساد جده مع ما ذكر،   (1) رواه أحمد في مسنده (4/ 299) . (2) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 16. مسلم في كتاب الإيمان حديث 194، 195، 196. أحمد في مسنده (3/ 402، 434) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 504 ولا ريب أن مجموع الأمرين أو الأمور أشرف من أن ساد هو بنفسه فقط. وحين ذكر خصال الكمال عقبه بما يدل على التكميل قائلا تَواصَوْا أي أوصى بعضهم بعضا بِالصَّبْرِ على التكاليف الشرعية وعلى البلايا والمحن التي قلما يخلوا المؤمن عنها وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي التعاطف والتراحم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا إخوانا متعاضدين» . «1» وفي الآية نكتة لطيفة وهي أنه سبحانه ذكر في باب الكمال أمرين: فك الرقبة والإطعام ثم الإيمان، وذكر في باب التكميل شيئين: التواصي بالصبر على الوظائف الدينية والتواصي بالتراحم، وكل من النوعين مشتمل على التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله إلا أنه في الأول قدّم جانب الخلق، وفي الثاني قدم جانب الحق. ففي الأول إشارة إلى كمال رحمته ونهاية عنايته بالمخلوقات فإن رعاية مصالحهم عنده أهمّ، وفي الآخر رمز إلى حسن الأدب وتعليم للمكلفين أن يعرفوا ما هو الأقدم الأهمّ في نفس الأمر زادنا الله اطلاعا على دقائق هذا الكتاب الكريم. قوله أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وأَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ مر في أول الواقعة تفسيرهما. قال أهل اللغة: أوصدت الباب وآصدته بالواو وبالهمز أي أطبقته وأغلقته. قال مقاتل: فلا يخرج أحد منها ولا يدخل روح فيها. والإيصاد بالحقيقة صفة أبواب النار أي مؤصدة أبوابها فهو من الإسناد المجازي. وقيل: أراد إحاطة النار بهم من جميع الجوانب نعوذ بالله منها.   (1) رواه البخاري في كتاب البيوع باب 58، 64. مسلم في كتاب النكاح حديث 52. أبو داود في كتاب البيوع باب 44. الترمذي في كتاب البيوع باب 65. النسائي في كتاب النكاح باب 70. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 14. الدارمي في كتاب البيوع باب 33. الموطأ في كتاب البيوع حديث 96. أحمد في مسنده (2/ 274، 287) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 505 (سورة والشمس) (وهي مكية حروفها مائتان وستة وأربعون كلمها أربع وخمسون آياتها خمس عشرة) [سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15) القراآت: تَلاها وطَحاها مثل دَحاها [الآية: 30] في «النازعات» فلا يخاف بالفاء وضم الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير بناء على أن قَدْ أَفْلَحَ جواب القسم واللام محذوف أي لقد أفلح. الوقوف: وَضُحاها هـ لا تَلاها هـ ك جَلَّاها هـ ك يَغْشاها هـ ك بَناها هـ ك طَحاها هـ ك سَوَّاها هـ لا ص وَتَقْواها هـ لا زَكَّاها هـ ك دَسَّاها هـ ط بِطَغْواها هـ ط لأن الظرف يتعلق ب كَذَّبَتْ أو بالطغوى أَشْقاها هـ وَسُقْياها هـ فَعَقَرُوها م ك فَسَوَّاها هـ ط عُقْباها هـ. التفسير: قال النحويون: إن في ناصب إِذا تَلاها وما بعده إشكالا لأن «ما» سوى الواو الأولى إن كن للقسم لزم اجتماع أقسام كثيرة على مقسم به واحد وهو مستنكر عند الخليل وسيبويه، لأن استئناف قسم آخر دليل على أن القسم الأول قد استوفى حقه من الجواب فيلزم التغليظ، وإن كن عاطفة لزم العطف على عاملين بحرف واحد وذلك أن حرف العطف ناب عن واو القسم المقتضي للجر وعن الفعل الذي يقتضي انتصاب الظرف. والجواب أنا نختار الثاني ولزوم العطف على عاملين ممنوع لأن حرف العطف ناب عن واو القسم النائب عن الفعل المتعدّي بالباء، وكما أن واو القسم تعمل الجر في القسم والنصب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 506 في الظرف إذا قلت مثلا ابتداء وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل: 1] لقيامه مقام قولك «أقسم بالليل إذا يغشى» فكذا حرف العطف النائب منابه نظيره قولك «ضرب زيد عمرا وبكر خالدا» فترفع بالواو وتنصب لقيامه مقام ضرب. قال بعض المتكلمين: المضاف في هذه الأقسام محذوف تقديره ورب الشمس إلى آخرها. وزيف بلزوم التكرار في قوله وَما بَناها وما بعده. وأجيب بأن «ما» في وَما بَناها وما بعده مصدرية. واعترض عليه في الكشاف بأنه يلزم من عطف قوله فَأَلْهَمَها على قوله وَما سَوَّاها فساد النظم فالوجه أن تكون «ما» موصولة. وإنما أوثرت على «من» لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماء والقادر العظيم الذي بناها، ونفس والحكيم الذي سوّاها، على أنه قد جاء «ما» مستعملا في «من» كقولهم «سبحان ما سخر كن لنا» . أما الذين لم يقدروا المضاف فأورد عليهم أنه يلزم تأخير القسم برب السماء وبانيها عن القسم بالسماء. والجواب أن الله عز قائلا أراد أن نتدرج من المحسوسات إلى المعقولات ومن المصنوعات إلى الصانع، ولا يخفى أن المحسوسات أظهرها هو الشمس فذكرها سبحانه مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمتها. فأول أعظم الأوصاف الضوء الحاصل منها عند ارتفاع النهار، وثانيها تلو القمر لها غاية في منتصف الشهر أو تلوه لها في أخذ الضوء عنها أو في غروبه ليلة الهلال بعدها قاله قتادة والكلبي. وقيل: في كبر الجرم بحسب الحس وفي ارتباط مصالح هذا العالم بحركته. والثالث والرابع بروزها لمجيء النهار واختفاؤها لمجيء الليل. ثم ذكر ذاته المقدسة وعقبه بأنواع تدابيره في السماء والأرض وفي البسائط وما يتركب منها وأشرفها النفس. ولنشتغل بتفسير بعض الألفاظ. قال الليث: الضحو ارتفاع النهار والضحى فوق ذلك. والضحاء بالمد إذا امتد النهار وقرب أن ينتصف. وتلاها تبعها بإحدى المعاني المذكورة، والتجلية الكشف والعيان. والضمير في جَلَّاها للشمس في الظاهر على ما قال الزجاج وغيره، لأن النهار كلما كان أصدق نورا كانت الشمس أجلى ظهورا فإن الكشف والعيان يدل على قوة المؤثر وكماله لا قوة الأثر وكماله، فكان النهار يبرز الشمس ويظهرها. وذهب جم غفير إلى أن الضمير يعود إلى الظلمة أو الدنيا أو الأرض بدلالة قرائن الأحوال وسياق الكلام، ولعل الوجه الأول أولى لأن عود الضمير إلى المذكور أقرب منه إلى المقدر، ولأنه يلزم تفريق الضمائر فإن الضمير في يَغْشاها للشمس بالاتفاق وكذا في ضُحاها وتَلاها ولأن غشيان الليل الشمس عبارة عن ذهاب الضوء وحصول الظلمة بسبب غيبة الشمس في الأفق، فكذا تجلية النهار إياها يجب أن تكون إشارة إلى كمال الضوء وظهوره للحس بواسطة ظهور الشمس فوق الأفق. والحاصل أن الذهن كما ينتقل من عدم الأثر إلى عدم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 507 المؤثر فجعل كأن لعدم الأثر تأثيرا في عدم المؤثر، فكذلك ينتقل من وجود الأثر إلى وجود المؤثر فيصح أن يقال: إن وجود الأثر علة لوجود المؤثر وهذا معنى كون النهار مجليا للشمس. والطحو مثل الدحو وقد مر في «النازعات» أي بسطها على الماء. وتنكير النفس إما للتنويع أي نفس خاصة من بين النفوس وهي النفس القدسية النبوية التي تصلح لرياسة ما سواها من النفوس، وإما للتكثير على الوجه المذكور في قوله عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] وتسويتها إعطاء قواها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن وهي الحواس الظاهرة والباطنة والقوى الطبيعية المخدومة والخادمة وغيرها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قالت المعتزلة: هو كقوله وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] أي علمناه وعرفناه سلوك طريقي الخير والشر ويعضده ما بعده قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها والتدسية ضد التزكية. وأصل دسي دسس قلب أحد حرفي التضعيف ياء كما في «قضيت» . والتدسيس مبالغة الدس وهو الإخفاء في التراب قال عز من قائل أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ [النحل: 59] والضمير في «زكى» و «دسى» ل «من» وقال أهل السنة: الضميران لله تعالى و «من» عبارة عن النفس والمعنى: قد سعدت نفس زكاها الله تعالى وخلقها طاهرة، وخابت نفس دساها الله وخلقها كافرة فاجرة. وقد يروى هذا الوجه عن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي قالوا: أصل الإلهام من قولهم «لهم الشيء والتهمه» إذا ابتلعه و «ألهمته إياه» أي أبلغته ذلك. فالإلهام الإبلاع أي وضع الإيمان في قلب المؤمن والكفر في قلب الكافر. ثم وعظهم بقصة ثمود لقربها من ديارهم. ولأهل التأويل أن يقولوا: إنما خص هذه القصة لأن ناقة الله هي البدن وعبر بصالح عن الروح، فلما كانت قصة ثمود مناسبة لأحوال النفس الإنسانية كما مرت في التأويلات، وكانت هذه السورة مسوقة لبيان مراتب النفس في السعادة والشقاوة، وخصت القصة بالذكر لذلك، وعلى هذا التأويل قد يراد بالشمس تجلي النفس الناطقة على البدن بالتدبير الكامل، وبالقمر الروح الحيواني. أو شمس المعرفة، وقمر المكاشفة، ونهار وليل المحو، وسماء الروح وأرض القلب كما مر مرارا. والطغوى اسم من الطغيان كالتقوى من الوقاية قلبت ياؤه واوا فرقا بين ما هي اسم وبين ما هي صفة كقولهم «امرأة خزيا وصديا» والباء للآلة أي فعلت التكذيب بواسطة طغيانها. وقيل: المضاف محذوف والمجموع صفة للعذاب والباء للإلصاق أي كذبت ثمود بما أوعدت من العذاب ذي الطغوى كقوله فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: 5] والأول أوضح لئلا يكون قوله فَكَذَّبُوهُ تكرارا. ومعنى انْبَعَثَ تحركت داعيته وقوي عزمه على العقر. وأَشْقاها عاقر الناقة قدار بن سالف، أو هو مع من ساعده على ذلك فإن أفعل التفضيل يجوز أن لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 508 يفرق فيه بين الواحد. والجمع وعلى هذا يجوز أن يكون الضمير في لَهُمْ عائدا إلى الجماعة الأشقياء، وعلى الأول يكون عائدا إلى قوم صالح. وناقَةَ اللَّهِ نصب على التحذير أي احذروا عقرها وَسُقْياها فلا تعتدوا بها فإن لها شربا ولكم شرب يوم فَكَذَّبُوهُ فيما أوعدهم به من نزول العذاب إن فعلوا فعقروا الناقة فَدَمْدَمَ أي فأطبق عَلَيْهِمْ العذاب. قالوا: هو مضعف من قولهم «ناقة مدمدمة» إذا ألبست الشحم. والباء في بِذَنْبِهِمْ للسببية فسوى الدمدمة بينهم بحيث لم يهرب منها أحد وَلا يَخافُ عُقْباها كما يخاف ملوك الدنيا فينزجر عن استيفاء العقوبة. وجوز أن يكون الضمير لثمود أي فسوّاها بالأرض، أو في الهلاك ولا يخاف تبعه بهلاكها وهو تعالى أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 509 (سورة والليل) (مكية حروفها ثلاثمائة وعشرة كلمها إحدى وسبعون آياتها إحدى وعشرون) [سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 21] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) القراآت: نارا تلظى بتشديد التاء: البزي وابن فليح. الوقوف: يَغْشى هـ لا تَجَلَّى هـ لا وَالْأُنْثى هـ لا لَشَتَّى هـ ط وَاتَّقى هـ لا بِالْحُسْنى هـ لا لِلْيُسْرى هـ ط وَاسْتَغْنى هـ لا بِالْحُسْنى هـ لا لِلْعُسْرى ط تَرَدَّى هـ ط لَلْهُدى هـ ز للعطف مع رعاية جانب «أنّ» والوصل أجوز لإتمام الكلام وَالْأُولى هـ تَلَظَّى هـ ج لأن ما بعده صفة أو استئناف الْأَشْقَى هـ لا وَتَوَلَّى هـ ط الْأَتْقَى هـ لا يَتَزَكَّى هـ ج لأن ما بعده استئناف أو حال تُجْزى هـ الْأَعْلى هـ ج لاختلاف الجملتين يَرْضى هـ. التفسير: هذه السورة نزلت باتفاق كثير من المفسرين في أبي بكر وفي أبي سفيان ابن حرب أو أمية بن خلف، إلا أن المعنى على العموم لقوله تعالى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَنْذَرْتُكُمْ ومفعول يَغْشى محذوف وهو إما الشمس كقوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها [الآية: 4] أو النهار أو كل شيء يمكن تواريه بالظلام. أقسم سبحانه بالليل والنهار اللذين بتعاقبهما يتم أمر المعاش والراحة مع أنهما آيتان في أنفسهما. ومعنى تَجَلَّى ظهر بزوال ظلمة الليل وتبين بطلوع الشمس ثم بذاته الذي خلق كل شيء ذي روح لأن الروح إما ذكر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 510 أو أنثى، والخنثى المشكل معين في علم الله وإن كان مبهما في علمنا ولهذا قال الفقهاء: لو حلف بالطلاق أنه لم يلق يومه ذكرا ولا أنثى وقد لقي خنثى مشكلا حنث. وقيل: هما آدم وحواء لَشَتَّى جمع شتيت وهو المتفرق المختلف. ثم بين اختلاف الأعمال في ذاتها وفيما يرجع إليها في العاقبة من الثواب والعقاب أو التوفيق والخذلان. عن علي رضي الله عنه أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدنا حوله فقال «ما منكم نفس منفوسة إلا وقد علم مكانها من الجنة والنار. فقلنا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى» «1» يعني حقوق ما له وَاتَّقى المحارم وَصَدَّقَ بالخصلة الحسنى وهي الإيمان أو كلمة الشهادة أو بالملة الحسنى أو بالمثوبة فَسَنُيَسِّرُهُ فسنهيئه للطريق اليسرى. يقال يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها. ومعنى استغنى أنه رغب عما عند الله كأنه مستغن، أو استغنى باللذات العاجلة عن الآجلة. والتحقيق فيه أن الأعمال الفاضلة إذا واظب المكلف عليها حصلت في نفسه ملكة نورانية تسهل عليه سلوك سبيل الخيرات حتى يصير التكليف طبعا. والتعب راحة والتكليف عادة، ولأن هذه الملكة تحصل بالتدريج فلا جرم أدخل الفاء في فَسَنُيَسِّرُهُ ومن فسر اليسرى بالجنة فمعنى الاستقبال عنده واضح. والرذائل بالضد حتى تصير النفس من الكسل بحيث لا تواتي صاحبها إلا في مواجب الكسل وجذب الراحات العاجلة كقوله وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [البقرة: 45] وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى [النساء: 148] ويقرب مما ذكرنا قول القفال: كل ما أدت عاقبته إلى يسر وراحة وأمور محمودة فإن ذلك من اليسرى وذلك وصف كل الطاعات، وكل ما أدّت عاقبته إلى عسر وتعب فهو من العسرى وذلك وصف كل المعاصي، ومن جملة اليسرى الجنة ومن جملة العسرى النار. استدل بعض الأشاعرة بقوله فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى على أنه تعالى قد يخلق القبائح في المكلف ويقوي دواعيه على فعلها. والمعتزلة عبروا عن هذا التيسير بالخذلان وعن الأول بمنح الألطاف والتوفيق. ثم وبخ هذا الكافر بقوله وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ وهو استفهام في معنى النفي أي لا ينفعه ماله الذي بخل به إِذا تَرَدَّى أي مات من الردى وهو الهلاك. ويجوز أن يكون من قولهم «تردّى من الجبل» أي تردّى من الحفرة في القبر أو في قعر جهنم. استدل المعتزلة بقوله إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى على أنه تعالى أزاح الأعذار وما كلف المكلف إلا ما في سعته وطاقته، وعلى أنه يجب على الله الهداية، وعلى أن العبد لو لم يكن مستقلا بالإيجاد   (1) رواه أحمد في مسنده (3/ 379) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 511 لما كان في وضع الدلائل فائدة. وأجوبة أهل السنة عن المسائل الثلاث معلومة. ونقل الواحدي عن الفراء وجها آخر وهو أن المراد إن علينا للهدى والإضلال فاقتصر كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] وأكدوا ذلك بما روي عن ابن عباس في رواية عطاء أن معنى الآية أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي. ثم بين بقوله وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أن لله كل ما في الدنيا والآخرة فلا يضره عصيان العاصين ولا ينفعه طاعة المطيعين، وإنما يعود ضره أو نفعه إليهم. ويمكن أن يراد أن سعادة الدارين تتعلق بمشيئته وإرادته فيعطي الهداية من يشاء ويمنعها من يشاء. والأول أوفق للمعتزلة والثاني للأشاعرة. ثم ذكر نتيجة المواعظ المذكورة قائلا فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى يعني إذا عرفتم هذه البيانات الوافية والتقريرات الشافية فقد صح أني أنذرتكم، ويجوز أن يراد بالمضيّ تحقق الوقوع. والمعنى على الاستقبال أي إذا تقررت مراتب النفوس الإنسانية وعرفتم درجاتها ودركاتها فإني أنذرتكم نارا تلظى تتلهب وتتوقد وأصله تتلظى حذف إحدى التاءين. ثم إن كان المراد بالأشقى هو أبو سفيان أو أمية وبالأتقى هو أبو بكر فلا إشكال وتتناول الآية غيرهما من الأشقياء والأتقياء بالتبعية إذ لا عبرة بخصوص السبب، وإن كان المراد أعم فإن أريد بهم الشقي والتقي فلا إشكال أيضا، وإن أريد حقيقة أفعل التفضيل فإما أن يراد نار مخصوصة بدلالة التنكير، وإما أن يراد بالأشقى الكافر على الإطلاق لأنه أشقى من الفاسق. وأما الكلام في الأتقى فنقول: إنه لا يلزم من تخصيصه بالذكر نفي ما عداه. قال جار الله: هذا الكلام وارد على سبيل المبالغة فجعل الأشقى مختصا بالصلي كأن النار لم تخلق إلا له، وجعل الأتقى مختصا بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له. وقوله يَتَزَكَّى أي يطلب أن يكون عند الله زاكيا، أو هو من الزكاة لا محل له لأنه بدل من يُؤْتِي والصلة لا محل لها لأنها كبعض الكلمة، أو هو منصوب المحل على الحال. قال بعض المفسرين: إن بلالا كان يعذب في الله وهو يقول أحد أحد، فسمع بذلك أبو بكر فحمل رطلا من ذهب فابتاعه به فقال المشركون: ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده فنزل وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ قال أكثر النحويين: هذا الاستثناء منقطع لأن الابتغاء ليس من جنس النعمة. وقال الفراء: وهو مفعول له من يُؤْتِي على المعنى أي لا ينفق ماله إلا ابتغاء رضوان الله لا لمكافأة نعمة وَلَسَوْفَ يَرْضى عن الله أو يرضى الله عنه فيكون راضيا مرضيا. واعلم أن بعض الشيعة زعموا أن السورة نزلت في عليّ رضي الله عنه لقوله يَتَزَكَّى لأنه قال في موضع آخر وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ [المائدة: 55] وقال بعض أهل السنة: إنها تدل على أفضلية أبي بكر لأنه قال في وصف عليّ وسائر أهل البيت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 512 رضي الله عنهم وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ إلى قوله إِنَّا نَخافُ [الدهر: 108] وذكر في صفة أبي بكر أنه لا ينفق إلا لوجه الله من غير شائبة رغبة أو رهبة، وهذا المقام أعلى وأجل. وعندي أن أمثال هذه الدلائل لا تصلح لترجيح أكابر الصحابة بعضهم على بعض، وأن نزول هذه السورة في الشخص الفلاني مبني على الرواية فلا سبيل للاستدلال إليه، وإليه المرجع والمآب والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 513 (سورة والضحى) (وهي مكية حروفها مائة واثنان وسبعون كلمها أربعون آياتها إحدى عشرة) [سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) القراآت: سَجى مثل دَحاها [الآية: 30] في «النازعات» . الوقوف: وَالضُّحى هـ لا سَجى هـ لا قَلى هـ لا الْأُولى هـ لا فَتَرْضى هـ ط فَآوى هـ ص فَهَدى هـ ك فَأَغْنى ط فَلا تَقْهَرْ هـ ط فَلا تَنْهَرْ هـ ط فَحَدِّثْ هـ. التفسير: الأكثرون على أن المراد بالضحى وقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس ويظهر سلطانها. وقيل: هو النهار كله لإقرانه بالليل في القسم وهو ضعيف، لأن معنى سجى سكن واستقر ظلامه، أو سكون الناس فيه فيكون الإسناد مجازيا. يقال: سجا البحر إذا سكنت أمواجه، وطرف ساج أي ساكن فاتر. ولا ريب أن سجوّ الليل وقت استيلاء الظلام منه لا كله فهو بمنزلة الضحى من النهار. وهاهنا لطائف: الأولى: قدم ذكر الليل في السورة المتقدمة وعكس هاهنا لانفراد كل منهما بفضيلة مخصوصة، فالليل للراحة والنهار لانتظام أمر المعاش فقدّم هذا على ذلك تارة وبالعكس أخرى لئلا يخلو شيء من النوعين عن فضيلة التقديم. وأيضا تلك سورة أبي بكر وقد سبقه كفر يشبه الليل في الظلمة، وهذه سورة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يسبقه كفر طرفة عين ولا أقل من ذلك، فبدأ بالنهار الذي هو يشابه الإيمان. فإن ذكرت الليل أولا وهو أبو بكر ثم صعدت وجدت بعده النهار وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وإن ذكرت الضحى أولا وهو محمد صلى الله عليه وسلم ثم نزلت وجدت بعده الليل وهو أبو بكر من غير واسطة بينهما كما وقع في نفس الأمر، وكما ثبت من قصة الغار. الثانية: ما الحكمة في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 514 تخصيص القسم في أول هذه السورة بالضحى والليل؟ والجواب لأن ساعات النهار كلما تنقص فإن ساعات الليل تزداد وبالعكس، فلا تلك الزيادة للهوى ولا ذاك النقصان للقلى بل للحكمة، فكذا الرسالة وإنزال الوحي بحسب المصالح فمرة إنزال ومرة حبس لا عن الهوى ولا عن القلى. وأما السبب في الأقسام نفسه فلأن الكفار لما ادّعوا أن ربه ودعه وقلاه وقد ثبت أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر قال لهم: هاتوا الحجة فعجزوا فلزمه اليمين بأنه ما ودعه ربه وما قلاه. وفيه أن الليل والنهار لا يسلمان من الزيادة والنقصان فكيف تطمع أن تسلم عن الخلق؟ وفيه أن الليل زمان الاستيحاش والنهار وقت الاجتماع والمعاش فكأنه قال: استبشر فإن بعد الاستيحاش بسبب انقطاع الوحي يظهر ضحى نزول الوحي. وفيه أن الضحى لما كان وقت موعد موسى لمعارضة السحرة كما قال مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه: 59] شرفه الله بأن أقسم به فعلم منه أن فضيلة الإنسان لا تضيع ثمرتها. وفيه بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم أن الذي قلب قلوب السحرة حتى سجدوا يقلب قلوب أعدائك حتى يسلموا. وفيه أن الضحى وهو ساعة من النهار يوازي جميع الليل كما أن محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته يوازي جميع الأنبياء وأممهم. وفيه أن النهار وقت السرور والاجتماع والليل وقت الغموم والوحشة، ففي الاقتصار على ذكر الضحى إشارة إلى أن غموم الدنيا أدوم من سرورها. يروى أن الله تعالى حين خلق العرش أظلت غمامة سوداء عن يساره ونادت: ماذا أمطر؟ فأجيبت أن أمطري الهموم والأحزان مائة سنة. ثم انكشف فأمرت مرة أخرى بذلك وهكذا إلى تمام ثلاثمائة سنة، ثم بعد ذلك أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء ونادت: ماذا أمطر؟ فأجيبت أن أمطري السرور ساعة فلهذا السبب ترى الهموم دائمة والأفراح نادرة. وفي تقديم الضحى على الليل إشارة إلى أن الحياة أولى للمؤمن من الموت إلى أن تحصل كمالاته الممكنة له. وأيضا إنه ذكر الضحى حتى لا يحصل اليأس من روحه، ثم عقبه بالليل حتى لا يحصل الأمن من مكره. الثالثة: لا استبعاد فيما يذكره الواعظ من تشبيه وجه محمد صلى الله عليه وسلم بالضحى وشعره بالليل. ومنهم من قال: الضحى ذكور أهل بيته، والليل إناثهم. أو الضحى رسالته، والليل زمان احتباس الوحي كما مرّ. ويحتمل أن يقال: الضحى نور علمه الذي به يعرف المستور من الغيوب والليل عفوه الذي به يستر جميع العيوب. أو الضحى إقبال الإسلام بعد أن كان غريبا، والليل إشارة إلى أنه سيعود غريبا. أو الضحى كمال العقل، والليل وقت السكون في القبر. أو أراد أقسم بعلانيتك التي لا يرى عليها الخلق عيبا وبسرك الذي لا يعلم عليه عالم الغيب عيبا. قال المفسرون: أبطأ جبريل عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر يوما عن ابن جريج، أو خمسة عشر عن الكلبي، أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 515 خمسة وعشرين يوما عن ابن عباس، أو أربعين عن السدّي ومقاتل. والسبب فيه أن اليهود سألوه عن ثلاث مسائل كما مرّ في «الكهف» فقال سأخبركم غدا ولم يقل «إن شاء الله» أو لأنّ جروا للحسن والحسين كان في بيته أو لأنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار، فزعم المشركون أن ربه ودعه وقلاه. وروي أن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فنزلت السورة. والتوديع مبالغة في الوداع لأن من ودعك فقد بالغ في تركك. والقلى البغض وحذف المفعول من «قلاك» و «آواك» و «هداك» و «أغناك» للفاصلة مع دلالة قرينة الحال أو المقال. والذي يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم شكا إلى خديجة إن ربي ودعني وقلاني. إن ثبت فمحمول على أنه أراد امتحان خديجة ليعلم بعد غورها في المعرفة والعلم كما روي أنها قالت: والذي بعثك بالحق ما أهداك الله بهذه الكرامة إلا وهو يريد أن يتمها لك. ثم زاده تشريفا بقوله وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى يعني هذا التشريف وهو إعلام أن ما ألقاه الحساد فيما بينهم من التوديع والقلى بهت محض وإن كان تشريفا عظيما إلا أن الذي أعدّ لأجلك في الآخرة أشرف وأسنى. وعلى تقدير انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون ذلك للعزل عن النبوة فإنه غير جائز لكنه يدل على قرب الوفاة المستتبعة للقرب من الله فلا يكون كما ظنه الأعداء. ويحتمل أن يراد: وللأحوال الآتية خير لك من الماضية فيكون وعدا بإتمام نوره وإعلاء أمره. وفي تخصيص الخطاب إشارة إلى أن في أمته من كانت الآخرة شر إليه إلا أن الله ستره عليهم ونظر قول موسى إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] لأنه كان في قومه من لم يكن لائقا بهذا المنصب، وحين لم يكن في الغار إلا نبي أو صدّيق قال نبينا صلى الله عليه وسلم لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] يروى أن موسى خرج للاستسقاء ومعه الألوف ثلاثة أيام فلم يجدوا الإجابة فسأل موسى عليه السلام عن سبب ذلك فقال: إن في قومك نماما فقال موسى: من هو؟ فقال الله تعالى: إني أبغضه فكيف أعمل عمله؟ فما مضت مدة حتى نزل الوحي بأن ذلك النمام قد مات وهذه جنازته في الموضع الفلاني فذهب موسى إلى ذلك الموضع فإذا فيه سبعون من الجنائز فهذا ستره على أعدائه فكيف على أوليائه. وهاهنا لطيفة وهي أنه تعالى ردّ ألوفا من المطيعين لمذنب واحد هاهنا يرحم ألوفا من المذنبين لمطيع واحد ودليله قوله وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى فلعله حين بين أن الآخرة خير له عقبه ببيان تلك الخيرية وهي رتبة الشفاعة. يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم «إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار» . «1» وعن جعفر الصادق رضي الله   (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 346. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 516 عنه رضا جدّي صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل النار موّحد. وقال ابن عباس: هو ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك وفيها ما يليق بها، واللام في ولَسَوْفَ خالصة للتأكيد دون الحال كأنه قيل: الموعود كائن لا محالة وإن تأخر زمانه بحسب المصلحة. وقال جار الله: تقديره ولأنت سوف يعطيك لأن اللام لا تدخل على المضارع إلا مع نون التأكيد وفيه نظر. ثم عدد بعض نهمه التي أنعم بها عليه قبل إرساله وكأنه قال: ما تركناك وما قليناك قبل أن اخترناك واصطفيناك فتظن أنا بعد الرسالة نهجرك ونخذلك. قال أهل الأخبار: إن عبد الله بن المطلب توفي وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم حامل به، ثم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان مع جده عبد المطلب ومع أمه آمنة، فهلكت وهو ابن ست سنين فكان مع جده، ثم هلك جده بعد سنتين فكفل أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن ابتعثه الله للرسالة فقام بنصرته مدة مديدة، وعطفه الله عليه فأحسن تربيته وذلك قوله «فآواك» أي جعل لك من تأوي إليه وهو أبو طالب. وفي تفسير تأويل الضلال قولان: الأول أنه الضلال عن الدين. فقال السدي والكلبي: كان على دين قومه أربعين سنة. الثاني وعليه الجمهور أنه ما كفر بالله طرفة عين والمراد عن معالم الشريعة الحنيفية كقوله ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52] وقيل: ضل في صباه في بعض شعاب مكة فأتى أبو جهل على ناقة ومحمد صلى الله عليه وسلم بين يديه وهو يقول: لا تدري ماذا نرى من ابنك. فقال عبد المطلب: ولم. قال: لأني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم فلما أركبته أمامي قامت الناقة فكانت الناقة تقول: يا أحمق هو الإمام فكيف يكون خلف المقتدي؟ قال ابن عباس: ردّه الله إلى جده بيد عدوّه كما فعل بموسى حين رباه بيد عدوّه. وقيل: أضلته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لتردّه على عبد المطلب حتى دخلت هبل وشكت ذلك إليه فتساقطت الأصنام وسمعت صوتا إنما هلاكنا بيد هذا الصبي. وروي مرفوعا أنه صلى الله عليه وسلم قال: ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع كاد الجوع يقتلني فهادني الله يعني حديث أبي جهل المذكور. وقيل: ضالا أي مغمورا بين الكفار من ضل الماء في اللبن. وقيل: مجاز في الإسناد والمعنى وجد قومك ضلالا فهداهم بك. وقيل: كنت منفردا عن اختلاط أهل الضلال فهداك إلى الاختلاط بهم وإلى دعوتهم. قيل: وعن الهجرة أو القبلة أو عن معرفة جبرائيل أول مرة، أو عن أمور الدنيا أو عن طريق السموات فهداك ليلة المعراج. وقيل: الضلال المحبة لفي ضلالك القديم فهداك إلى وجه الوصول إلى المحبوب والمراد بالسلوك. روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد. قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة: لو حفظت لي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 517 غنمتي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشبان. فلما أتيت أول دار من دور مكة سمعت الدفوف والمزامير فقالوا: فلان تزوّج بفلانة. فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مسّ الشمس. ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك. فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مسّ الشمس. ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته. والعائل في الأصل كثير العيال ثم أطلق على الفقير وإن لم يكن له عيال لأن الفقر من لوازم العول. أغناه الله بتربية أبي طالب أوّلا، ولما اختلت أحوال أبي طالب أغناه بمال خديجة. يروى أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهو مغموم فقالت له: ما لك؟ فقال: الزمان زمان قحط فإن أنا بذلت المال ينفد مالك فأستحيي منك، وإن أنا لم أبذل أخاف الله. فدعت قريشا وفيهم الصدّيق. قال الصدّيق: فأخرجت دنانير حتى وصبتها أبلغت مبلغا لم يقع بصري على من كان جالسا قدامي ثم قالت: اشهدوا أن هذا المال ماله إن شاء فرقه وإن شاء أمسكه. وأما في زمان الرسالة فأغناه لمال أبي بكر ثم أمره بالهجرة وأعانه بإعانة الأنصار حسبك الله ومن أتبعك من المؤمنين. ثم أغناه بما أفاء عليه من الغنائم. قال صلى الله عليه وسلم «جعل رزقي تحت ظل رمحي» وبعض هذه الأمور وإن كان بعد نزول السورة إلا أن معلوم الله كالواقع فيكون من قبيل الإخبار بالغيب وقد وقع فيكون معجزا. وقيل: الغنى هو القناعة وغنى القلب كان صلى الله عليه وسلم يستوي عنده الحجر والذهب. قال أهل التحقيق: الحكمة في يتم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف قدر الأيتام فيقوم بأمرهم. وأن يكرم اليتيم المشارك له في الاسم كما قال صلى الله عليه وسلم «إذا سميتم الولد محمدا فأكرموه وسعوا له في المجلس» وفيه أنه لا يعتمد من أول عمره إلى آخره على أحد سوى الله فيحصل له فضيلة التوكل كما قال جده إبراهيم «حسبي من سؤالي علمه بحالي» . وفيه أن اليتم منقصة ومذلة فإذا صار أكرم الخلق كان من جنس المعجزات. يروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: سألت ربي مسألة لوددت أني لم أسألها قلت: اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، وسخرت مع داود الجبال، وأعطيت سليمان كذا وكذا. يقال: ألم أجدك يتيما فآويتك، ألم أجدك ضالا فهديتك، ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت: بلى. قال» أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] إلى آخره؟ قلت: بلى. أقول: إن صح إسناد هذا الحديث وجب حمله على الشكاية مع الله أو إلى الله لا من الله، فإن الأول قد يتفق للعارفين في مقام الانبساط والقبض دون الثاني. وحين أذكره الله تعالى نعمه حتى لا ينسى نفسه أوصاه بأن يتعامل مع الخلق مثل معاملة الله معه فقال فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ أي فلا تغلبه على ماله وحقه لضعف حاله. وانتصب اليتيم بالفعل بعده. والفاء لتلازم ما بعدها لما قبلها. وقرئ «فلا تكهر» أي فلا تعبس في وجهه. يروى أنها نزلت حين صاح النبي صلى الله عليه وسلم على ولد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 518 خديجة. وإذا كان هذا العتاب لمجرد الصياح أو العبوس فكيف إذا آذاه أو أكل ماله. عن أنس مرفوعا «إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن فيقول الله تعالى: من أبكى هذا اليتيم الذي واريت والده في التراب؟ من أسكته فله الجنة» ويروى أنه صلى الله عليه وسلم كان جالسا فجاءه عثمان بعذق من تمر فوضعه بين يديه فأراد أن يأكل فوقف سائل بالباب فقال: يرحم الله عبدا يرحمنا. فأمر بدفعه إلى السائل فكره عثمان ذلك وأراد أن يأكله النبي صلى الله عليه وسلم فخرج واشتراه من السائل، ثم رجع السائل ففعل ذلك ثلاث مرات إلى أن قال النبي صلى الله عليه وسلم: أسائل أنت أم بائع؟ فنزل وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ أي فلا تزجر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا رددت السائل فلم يرجع فلا عليك أن تزجره» قال العلماء: أما إنه ليس بالسائل المستجدي ولكن طالب العلم إذا جاءك فلا تنهره. ثم أمره بأن يحدث الناس بما أنعم به عليه من الإيواء والهداية والإغناء وغيره. وأعلم أنه تعالى نهاه عن شيئين وأمره بواحد، نهاه عن قهر اليتيم جزاء لما أنعم به عليه في قوله أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ونهاه عن نهر السائل في مقابلة قوله وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى وأمره بتحديث نعمه ربه وهو في مقابلة قوله وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى فالأنسب أن يكون المراد به التبليغ وأداء الرسالة وتكميل الناقصين بالدعاء إلى الدين كما قال مجاهد. ولقد روعي في الترتيب نكتة لطيفة فقدّم في معرض المنة النعمة الدينية وهي الهداية على النعمة الدنيوية وهي الإغناء وأما في معرض الإرشاد فقدّم الإشفاق على الخلق، وأخر التحديث ليكون أدخل في الاستمالة وأجلب للدواعي فإنه ما لم ينتظم أمر المعاش لم تفرغ الخواطر لقبول التكاليف والتزام أمر المعاد. قال المحققون: التحديث بنعم الله تعالى جائز مطلقا بل مندوب إليه إذا كان الغرض أن يقتدي غيره به أو أن يشيع شكر ربه بلسانه، وإذا لم يأمن على نفسه الفتنة والإعجاب فالستر أفضل. قالوا: إنما أخر التحديث تقديما لحظ الخلق على حظ نفسه لأنه غني وهم المحتاجون ولهذا رضي نفسه بالقول فقط، ولأن الاستغراق في بحر الشكر ومعرفة المنعم غاية الغايات ونهاية الطاعات. تنبيه: روي عن البزي أنه قال: قرأت على عكرمة بن سليمان قال: قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين فلما بلغت وَالضُّحى قال: كبر حتى تختم مع خاتمة كل سورة فإني قرأت على عبد الله بن كثير فأمرني بذلك، وأخبرني ابن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أنه قرأ على عبد الله بن عباس تسع عشرة ختمة فأمره بذلك في كلها، وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أبيّ بن كعب فأمره بذلك، وأخبره أبيّ أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك. وروي عن الشافعي أنه رأى التكبير سنة في خاتمة وَالضُّحى إلى آخر القرآن. وهكذا روي عن قنبل. والسبب فيه أنه حين انقطع الوحي على ما سبق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 519 ذكره وأنزلت السورة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر تصديقا لما أتى به وتكذيبا للكفار. قال العلماء: لا نقول إنه لا بد لمن ختم أن يفعله ولكنه من فعل فقد أحسن ومن ترك فلا حرج. واختلفوا في لفظ التكبير وكان بعضهم بقول: الله أكبر لا غير. وآخرون يقولون: لا إله إلا الله والله أكبر فيهللون قبل التكبير. وأما كيفية الأداء فاعلم أن القارئ إذا وصل التكبير بآخر السورة فإن كان آخرها ساكنا كسره لالتقاء الساكنين فإن همزة الوصل من أول اسم الله تسقط في الدرج وذلك ثلاثة مواضع فَحَدِّثْ الله أكبر فَارْغَبْ [الشرح: 8] الله أكبر وَاقْتَرِبْ [العلق: 19] الله أكبر. وإن كان منونا كسره أيضا سواء كان المنون مفتوحا أو لا وهو تَوَّاباً [النصر: 3] الله أكبر أو مضموما وهو ثلاثة لَخَبِيرٌ [العاديات: 11] الله أكبر حامِيَةٌ [القارعة: 11] الله أكبر وأحد الله أكبر ومكسورا وهو أربعة مُمَدَّدَةٍ [الهمزة: 9] الله أكبر ومَأْكُولٍ [الفيل: 5] الله أكبر وخَوْفٍ [قريش: 4] الله أكبر ومَسَدٍ [المسد: 5] الله أكبر. وإن كان آخر السورة متحركا غير منون تبقى الحركة بحالها فالمفتوح ثلاثة الْحاكِمِينَ [التين: 8] الله أكبر والْماعُونَ [الماعون: 7] الله أكبر وحَسَدَ [الفلق: 5] الله أكبر والمضموم ثلاثة رَبَّهُ [البينة: 8] الله أكبر ويَرَهُ [الزلزلة: 8] الله أكبر والْأَبْتَرُ [الكوثر: 3] الله أكبر والمكسور خمسة مَطْلَعِ الْفَجْرِ [الفجر: 5] الله أكبر وعَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 8] الله أكبر وبِالصَّبْرِ [العصر: 3] الله أكبر وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 6] الله أكبر وَالنَّاسِ [الناس: 6] الله أكبر والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 520 (سورة ألم نشرح) (مكية حروفها مائة وثلاثة كلمها تسع وعشرون آيها ثمان) [سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) الوقوف صَدْرَكَ هـ لا وِزْرَكَ هـ لا ظَهْرَكَ هـ لا ذِكْرَكَ هـ ط يُسْراً هـ ط فَانْصَبْ هـ لا فَارْغَبْ هـ التفسير: روي عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان: هذه السورة وسورة الضحى سورة واحدة فكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة من غير فصل بالبسملة. والذي دعاهما إلى ذلك ما رأيا من المناسبة في معرض تعديد النعم بين قوله أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً [الضحى: 6] وبين قوله أَلَمْ نَشْرَحْ وفيه ضعف، لأن القرآن كله في حكم وكلام واحد فلو كان هذا القدر يوجب طرح البسملة من البين لزم ذلك في كل السور أو في أكثرها، على أن الاستفهام الأول وارد بصيغة الغيبة، والثاني بصيغة التكلم، وهذا مما يوجب المباينة لا المناسبة. قال جار الله: استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار فأفاد إثبات الشرح وإيجابه فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك ولذلك عطف عليه وَضَعْنا اعتبارا للمعنى. قلت: اعتبار المعنى من جانب وَضَعْنا أصوب وأنسب ليكون الكل داخلا في الاستفهام الإنكاري كأنه قيل: ألم نشرح ولم نضع ولم نرفع ومثله ما مر في والضحى ألم يجدك يتيما أو لم يجدك ضالا. ونقول: معنى أَلَمْ نَشْرَحْ أما شرحنا فيصح العطف عليه بهذا الاعتبار ليشمل الاستفهام مجموع الأفعال وهكذا في «والضحى» . وفائدة العدول من المتكلم الواحد إلى الجمع إما تعظيم حال الشرح وإما الإعلام بتوسط الملك في ذلك الفعل كما روي أن جبرائيل أتاه وشق صدره وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي ثم ملأه علما وإيمانا ووضعه في صدره. وطعن القاضي فيه من جهة أن هذه الواقعة من قبيل الإعجاز فكيف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 521 يمكن تصديقها قبل النبوة؟ ومن جهة أن الأمور المحسوسة لا يقاس بها الأمور المعنوية. وأجيب عن الأول بأن الإرهاص جائز عندنا، وعن الثاني بأنه يفعل ما يشاء، ولا يبعد أنه تعالى جعل ذلك الغسل والتنقية علامة تعرف الملائكة بها عصمته عن الخطايا. والأكثرون على أن الشرح أمر معنوي وهو إما نقيض ضيق العطن بحيث لا يتأذى من كل مكروه وإيحاش يلحقه من كفار قومه فيتسع لأعباء الرسالة كلها ولا يتضجر من علائق الدنيا بأسرها، وإما خلاف الضلال والعمه حتى لا يرى إلا الحق ولا ينطق إلا بالحق ولا يفعل إلا للحق. قال المحققون: ليس للشيطان إلى القلب سبيل ولهذا لم يقل «ألم نشرح قلبك» وإنما يجيء الشيطان إلى الصدر الذي هو حصن القلب فيبث فيه هموم الدنيا والحرص على الزخارف فيضيق القلب حينئذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإيمان حلاوة ولا على الإسلام طلاوة، فإذا طرد العدو بذكر الله والإعراض عمّا لا يعينه حصل الأمن وانشرح الصدر وتيسر له القيام بأداء العبودية. وفوائد إقحام لك دون أن يقتصر على قوله أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ما مر في قوله رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه: 25] من الإجمال ثم التفصيل، ومن إرادة الاختصاص أو كونه أهم. قال أهل المعاني ومنهم جار الله: الوزر الذي أنقض ظهره أي أثقله مثل لما صدر عنه من بعض الصغائر قبل النبوة ولما جهله من الأحكام والشرائع، أو لما كان تهالك عليه من إسلام أولي العناد فيغتم بسبب ذلك، ووضعه عنه أن غفر له أو أنزل عليه الكتاب. أو قيل له: إن عليك إلا البلاغ لست عليهم بمصيطر. والأصل في الإنقاض أن الظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض أي صوت خفي كصوت المحامل والرحال وكل ما فيه انتقاض وانفكاك. وقيل: المراد بالوزر أعباء الرسالة وبوضعه تسهيل الله تعالى ذلك عليه ومن جملتها أنه كان يفزع في الأوائل حتى كاد يرمي بنفسه من الجبل فقوي وألف بالوحي حتى كاد يرمي بنفسه إذا فتر الوحي أو تأخر. وقيل: المراد إزالة الحيرة التي كانت له قبل البعث، كان يريد أن يعبد ربه وما كانت نفسه تسكن إلى الشرائع المتقدمة لوقوع التحريف فيها. ورفع ذكره أن قرن اسمه باسم الله في الشهادة والأذان والتشهد والخطب. وجاء ذكره في القرآن مقرونا بذكر الله في غير موضع، وعلى سبيل التعظيم مثل النبي والرسول. ومن رفع الذكر أن جاء انعته في الكتب السماوية كلها وأخذ على أمم الأنبياء كلهم أن يؤمنوا به. ثم إنهم كانوا يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر فقيل له: لا يحزنك قولهم فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً أي بعد العسر الذي أنتم فيه يسر وأي يسر جعل الزمان القريب كالمتصل والمقارن زيادة في التسلية وقوة الرجاء. روى مقاتل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج ذات يوم وهو يضحك ويقول: لن يغلب عسر يسرين. فقال الفراء والزجاج: العسر مذكور بالألف واللام وليس هناك معهود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 522 سابق فينصرف إلى الحقيقة فيكون المراد بالعسر في الموضعين شيئا واحدا، وأما اليسر فإنه مذكور على سبيل التنكير فكان أحدهما غير الآخر وزيفه الجرجاني بأنه من المعلوم أن القائل إذا قال: إنّ مع الفارس سيفا إن مع الفارس سيفا. لم يلزم منه أن يكون هناك فارس واحد معه سيفان. وأقول: إذا كان المراد بالعسر الجنس لا العهد لزم اتحاد العسر في الصورتين. وأما اليسر فمنكر فإن حمل الكلام الثاني على التكرار مثل فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: 13] ونحوه كان اليسران واحدا. وإن حمل على أنه جملة مستأنفة لزم أن يكون اليسر الثاني غير الأول وإلا كان تكرارا والمفروض خلافه. وإن كان المراد العسر المعهود فإن كان المعهود واحدا وكان الثاني تكرارا كان اليسران أيضا واحدا، وإن كان مستأنفا كانا اثنين وإلا لزم خلاف المفروض، وإن كان المعهود اثنين فالظاهر اختلاف اليسرين وإلا لزم أو حسن أن يعاد اليسر الثاني معرفا بلام العهد فهو واحد والكلام الثاني تكرير للأول لتقريره في النفوس إلا أنه يحسن أن يجعل اليسر فيه مغايرا للأول لعدم لام العهد. ولعل هذا معنى الحديث إن ثبت والله أعلم ورسوله. وإذا عرفت هذه الاحتمالات فإن لم يثبت صحة الحديث أمكن حمل الآية على جميعها، وإن ثبت صحته وجب حملها على وجه يلزم منه اتحاد العسر واختلاف اليسر. وحينئذ يكون فيه قوة الرجاء ومزيد الاستظهار برحمة الكريم. وأما اليسران على تقدير اختلافهما فقيل: يسر الدنيا ويسر الآخرة أي إن مع العسر الذي أنتم فيه يسر العاجل إن مع العسر الذي أنتم فيه يسر الآجل. وقيل: ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم في أيام الخلفاء الراشدين، والأظهر الجنس ليكون وعدا عاما لجميع المكلفين في كل عصر. وحين عدد عليه النعم السابقة ووعده النعم اللاحقة من اليسر والظفر رتب عليه فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ قال قتادة والضحاك ومقاتل: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب أي اتعب للدعاء وأرغب إلى ربك في إنجاز المأمول لا إلى غير يعطك خير الدارين. وعن الشعبي: إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك. وعن مجاهد: إذا فرغت من أمور دنياك لما وعدناك من اليسر والظفر فانصب للعبادة والدعوة. وعن شريح أنه مر برجلين يتصارعان فقال: ما بهذا أمر الفارغ وقعود الرجل فارغا من غير شغل قريب من العبث والاشتغال بما لا يعني، فعلى العاقل أن لا يضيع أوقاته في الكسل والدعة ويقبل بجميع قواه على تحصيل ما ينفعه في الدارين والله تعالى عالم بحقائقه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 523 (سورة التين) (وهي مكية حروفها مائة وثلاثة كلمها تسع وعشرون آيها ثمان) [سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) الوقوف: وَالزَّيْتُونِ هـ لا سِينِينَ هـ لا الْأَمِينِ هـ لا تَقْوِيمٍ هـ ز للعطف سافِلِينَ هـ ط بناء على أن المراد بالرد هو الخذلان إلى الكفر، ولو حمل إلى الرد إلى أرذل العمر لأن الاستثناء منقطع جاز الوقف عند قوم مَمْنُونٍ هـ ط بِالدِّينِ هـ ط الْحاكِمِينَ هـ. التفسير: إن التين والزيتون كيف أقسم الله بهما من بين سائر المخلوقات الشريفة؟ للمفسرين فيه قولان: فعن ابن عباس: هو تينكم وزيتونكم هذان من خواص التين أنه غذاء فاكهة ودواء لأنه طعام لطيف سريع الهضم ما بين الطبع، ويخرج بطريق الرشح ويقلل البلغم ويطهر الكليتين ويزيل ما في المثانة من الرمل ويسمن البدن ويفتح مسام الكبد والطحال. وروي أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه: «كلوا فلو قلت: إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت: هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوه فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس.» وعن علي بن موسى الرضا رضي الله عنه: التين يزيل نكهة الفم ويطول الشعر وهو أمان من الفالج. ومن خواصه أن ظاهره كباطنه ماله قشر ولا نواة له وأنها شجرة تظهر المعنى قبل الدعوى تأتي بالثمرة ثم بالنور خلاف المشمس واللوز ونحوهما، وسائر الأشجار كأرباب المعاملات في قوله صلى الله عليه وسلم «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» «1»   (1) رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث 95، 97، 106. أبو داود في كتاب الزكاة باب 39، 40. أحمد في مسنده (2/ 94) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 524 لأنها تلبس نفسها أولا بورد أو ورق ثم تظهر ثمرتها، وشجرة التين كالمصطفى صلى الله عليه وسلم كان يبدأ بغير ثم يبدأ بنفسه كما قال وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] وإنها تعود ثمرتها في العام مرة أخرى، وإنها في المنام رجل خير وغنى فمن رآها نال خيرا وسعة، ومن أكلها رزقه الله أولادا. ويروى أن آدم عليه السلام تستر بورقها حين نزع عنه ثيابه فلما نزل وكان مستورا بورق التين استوحش فطاف الظباء حوله فاستأنس بها فأطعمها بعض ورق التين فرزقها الله الجمال والملاحة صورة، والمسك وطيبه معنى، وحين تفرقت الظباء ورأى غيرهن منها ما أعجبها جاءت من الغد على أثرهن فأطعمها من الورق فغير الله حالها إلى الجمال والملاحة دون طيب المسك، وذلك أن الطائفة الأولى جاءت إلى آدم لا لأجل الطمع، والطائفة الثانية جاءت للطمع سرا وإلى آدم ظاهرا، فلا جرم غير ظاهرها دون باطنها. وأما الزيتون فإنه من الشجرة المباركة وهو فاكهة من وجه ودواء من وجه كما تقدم وصفه في سورة النّور. قال مريض لابن سيرين: رأيت في المنام كأنه قيل لي كل اللاءين تشفى فقال: كل الزيتون فإنه لا شرقية ولا غربية. وقيل: من أخذ ورق الزيتون في النوم استمسك بالعروة الوثقى. فهذه المصالح والمنافع هي التي جوزت الإقسام بهما. القول الثاني: إنه ليس المراد بهما هذه الثمرة ثم اختلفوا. فعن ابن عباس في رواية: هما جبلان في الأرض المقدسة يقال لهما طور تينا وطور زيتا لأنهما منبتا التين والزيتون. وهما منشأ عيسى ومبعثه ومبعث أكثر أنبياء بني إسرائيل، كما أن طور سينين مبعث موسى، والبلد الأمين مبعث محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن زيد: التين مسجد دمشق، والزيتون مسجد بيت المقدس. وقيل: التين مسجد الكهف، والزيتون مسجد إيليا. وعن ابن عباس أيضا: التين مسجد نوح على الجودي، والزيتون مسجد بيت المقدس، وعن كعب: أن التين دمشق، والزيتون بيت المقدس. وعن شهر بن حوشب: التين الكوفة والزيتون الشام. وعن الربيع: هما جبلان من بين همذان وحلوان، وأما طور سينين فالطور جبل موسى عليه السلام وسينين الحسن بلغة الحبشة. وقال مجاهد: المبارك. وقال الكلبي ومقاتل: كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسينا بلغة النبط. قال الواحدي: الأولى أن يكون سينين اسما للمكان الذي فيه الطور سمي بذلك لحسنه أو لبركته، ثم أضيف إليه الطور للبيان. لإضافته إليه وسميت مكة أمينا لأنه يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين وما يؤتمن عليه، ويجوز أن يكون «فعيلا» بمعنى «مفعولا» لأنه مأمون الغوائل كما جعله آمنا لكونه ذا أمن أقول: من المعلوم أن الإقسام ينبغي في باب البلاغة أن يكون مناسبا وكذا القسم والمقسم عليه، وكان الله سبحانه أقسم بالمراتب الأربع التي للنفس الإنسانية من العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد إن الإنسان خلق في أحسن تقويم وهو كونه مستعدا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 525 للوصول إلى المرتبة الرابعة في العلم والعمل، ثم إذا لم يجتهد في الوصول إلى كماله اللائق به فكأنه رد إلى أسفل سافلين الطبيعة، وإنما عبر عن العقل الهيولاني بالتين لضعف شجرته، ولأنه زمان الصبا واللهو والالتذاذ والاشتغال بالأمور التي لا طائل تحتها ولا درك فيها بخلاف زمان العقل بالملكة لقوة المعقولات فيها لكونه بحيث يطلب للأشياء حقائق ومعاني، وهي بمنزلة الزيت، وفي زمان العقل بالفعل يكون قد ازدادت المعاني رسوخا حتى صارت كالجبل المبارك، وفي آخر المراتب اجتمعت عنده صور الحقائق دفعة بمنزلة المدينة الفاضلة، ولعلنا قد كتبنا في هذا المعنى رسالة مفردة فلنقتصر في التفسير على هذا القدر من التأويل. ثم إن أكثر المفسرين قالوا: معنى فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ في أحسن تعديل شكلا وانتصابا. وقال الأصم: في أكمل عقل وفهم وبيان. والأولون قالوا: لو حلف إنسان أن زوجته أحسن من القمر لم يحنث لأنه تعالى أعلم بخلقه لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وكان بعض الصالحين يقول: إلهنا أعطيتنا في الأول أحسن الأشكال فأعطنا في الآخرة أحسن الخصال وهو العفو عن الذنوب والتجاوز عن العيوب. ومعنى أَسْفَلَ سافِلِينَ قال ابن عباس: أرذل العمر ومثله قول ابن قتيبة: السافلون هم الضعفاء والزمنى ومن لا يستطيع حيلة ولا يجد سبيلا. قال الفراء: لو قيل «أسفل سافل» حملا على لفظ الإنسان كان صوابا أيضا. وقال مجاهد والحسن: هو النار ومثله ما قال علي رضي الله عنه: أبواب جهنم بعضها أسفل من بعض ويبدأ بالأسفل فيملأ. وعلى هذا القول تقدير الكلام رددناه إلى أسفل سافلين أي في أسفل سافلين إِلَّا الَّذِينَ الآية. أي الذين استكملوا بحسب القوتين النظرية والعلمية فلهم ثواب دائم غير منقطع. إما بسبب صبرهم على ما ابتلوا به من الشيخوخة والهرم والمواظبة على الطاعات بقدر الإمكان مع ضعف البنية وفتور الآلات. أو بواسطة حصول الكمالات لهم. فهذا الاستثناء على القول الأول منقطع بمعنى لكن. وعلى الثاني متصل. ولا يبعد أن يكون أيضا متصلا والمعنى. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في حال الاستطاعة فلهم ثواب جزيل في حالة الشيخوخة والضعف وإن لم يقدروا على مثل تلك الأعمال. فكأنهم لم يردوا إلى أسفل من سفل. ثم خاطب الإنسان بقوله فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ يعني فأي شيء يلجئك بعد هذه البيانات إلى أن تكون كاذبا بسبب تكذيب الجزاء، لأن كل مكذب بالحق فهو كاذب، ولا ريب أن خلق الإنسان من نطفة إلى أن يصير كاملا في الخلق والخلق، ثم تنكيسه إلى حال تخاذل القوى وتقويس الظهر وابيضاض الشعر وتناثره أوضح دليل على قدرة الصانع وحده، ومن قدر على هذا كله لم يعجز عن إعادة مخلوقه بعد تفرق أجزائه. هذا بالنظر إلى القدرة، وأما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 526 بالنظر إلى الحكمة والعدالة فإيصال الجزاء إلى المحسن والمسيء والفرق بين الصنفين واجب. وأشار إلى هذا الدليل بقوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فأمر المعاد بالنظر إلى القدرة ممكن الوقوع وبالنظر إلى الحكمة والعدل واجب الوقوع. وقال الفراء: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى: فمن يكذبك بالجزاء أيها الرسول بعد ظهور هذه الدلائل؟ قالت المعتزلة: قوله فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ دليل على أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يفعل أفعال العباد في ما فيها من السفه والظلم، ولو خلق ذلك لكان هو أولى بأن يدعى سفيها وظالما. وأجيب بأن خلق السفه لا يلزم منه الاتصاف بالسفه كما أن إيجاد الحركة لا يلزم منه الاتصاف بالحركة. ويمكن أن يقال: نحن لا ندعي لزوم الاتصاف به ولكن ندعي أن خلق السفه نفسه نوع سفه. والجواب الصحيح بعد المعارضة بالعلم والداعي أن يعارض بقوله ثُمَّ رَدَدْناهُ فإنه دليل على أنه أضاف الشيء إلى ذاته. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأ السورة قال: بلى وأنا بذلك من الشاهدين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 527 (سورة العلق) (مكية حروفها مائتان وثمانون كلمها اثنتان وسبعون آياتها تسع عشرة) [سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) القراآت: اقْرَأْ بالألف: الأوقية والأعشى وحمزة في الوقف رَآهُ ممالة مكسورة الراء: حمزة وعلي وخلف ويحيى وعباس والخزاز وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل والنقاش عن ابن ذكوان. وقرأ أبو عمرو غير عباس والنجاري عن ورش بفتح الراء وكسر الهمزة. روى ابن مجاهد وأبو عون غير قنبل مفتوحة الراء مقصورة على وزن «رعه» . الوقوف: الَّذِي خَلَقَ هـ ج لاتباع صلة بلا عطف فإن الجملة الثانية مفسرة للأولى المبهمة، ولو جعل المعنى الذي خلق كل شيء ثم خص خلق الإنسان ازداد الوقف حسنا عَلَقٍ هـ ج لأن اقْرَأْ يصلح مستأنفا وتكرارا للأول الْأَكْرَمُ هـ لا بِالْقَلَمِ هـ لا يَعْلَمْ هـ لا لَيَطْغى هـ لا اسْتَغْنى هـ ط الرُّجْعى هـ ط يَنْهى هـ لا صَلَّى هـ ط الْهُدى هـ لا بِالتَّقْوى هـ ط وَتَوَلَّى هـ ط يَرى هـ لا خاطِئَةٍ هـ لا نادِيَهُ هـ لا الزَّبانِيَةَ هـ لا كَلَّا ط على الردع وَاقْتَرِبْ هـ. التفسير: وقد مر في أوائل الكتاب أن أكثر المفسرين زعموا أن هذه السورة أول ما نزل من السماء. وفي الباء وجهان: الأول إنها زائدة وزيف بأنه خلاف الأصل وبأن معناه حينئذ: اذكر اسم ربك فلا يحسن من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: ما أنا بقارئ كما جاء في الحديث، وبأنه كتحصيل الحاصل لأنه لم يكن له شغل سوى ذكر الله. والثاني وهو الأصح أنه نصب على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 528 الحال أي اقرأ القرآن مفتتحا أو متلبسا باسم ربك وهو لغو. والباء للآلة وقد مر وجهه في تفسير البسملة. وكذا وجه من جعله متعلقا ب اقْرَأْ الثانية أي استعن باسم ربك واتخذه آلة في تحصيل هذا الذي عسر عليك. وقيل: هي بمعنى اللام أي اجعل هذا الفعل واقعا لله كقولك «بنيت الدار باسم الأمير» . «وصنفت الكتاب باسم الوزير» . فالعبادة صارت لله تعالى لم يكن للشيطان فيها نصيب. وفي تخصيص الرب بالذكر في هذا الموضع معنيان: أحدهما ربيتك فلزمك القضاء والشكر فلا تتكاسل. والثاني أن الشروع ملزم للإتمام وقد ربيتك منذ كذا فكيف أضيعك بعد هذا فلا تفزع. ثم دل على كونه ربا بقوله الَّذِي خَلَقَ أطلق الخلق أولا ليتناول كل المخلوقات، ثم خص الإنسان بالذكر لشرفه أو لعجيب فطرته، أو لأن سوق الآية لأجله. ويجوز أن يكون الأول متروك المفعول إشارة إلى أنه لا خالق سواه ولا يتصف بهذا الاسم غيره، وحينئذ يستدل به على إبطال مذهب المعتزلة في أن العبد خالق أفعال نفسه. قال أهل العلم: إن الحكيم إذا أراد أمر استعمل فيه التدريج كما يحكى أن زفر حين بعثه أبو حنيفة إلى البصرة لتقرير مذهبه لم يلتفتوا إلى قوله وأبوا عن قبوله، فرجع إلى أبي حنيفة وأخبره بذلك فقال: إنك لم تعرف طريق التبليغ لكن ارجع إليهم واذكر في المسألة أقاويل المتهم ثم بين ضعفها ثم قل بعد ذلك هاهنا قول آخر واذكر قولي وحجتي، فإذا تمكن ذلك في قلبهم قل هذا قول أبي حنيفة فإنهم يقبلونه حينئذ. والمقصود من الحكاية أن الله تعالى كان يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم هؤلاء عبدة الأوثان والفطام من المألوف شديد، فلو خالفتهم أول مرة وصرحت عن محض الحق أبوا أن يقبلوه فاذكر لهم أولا أنّهم المخلوقون من العلقة فلا يمكنهم الإنكار، ثم قل ولا بد للفعل من فاعل فلا يمكنهم أن يضيفوا ذلك إلى الوثن لعلمهم بأنهم نحتوه، فإذا تأملوا أنصفوا أن من لم يخلق لم يكن إلها، والعلق جمع العلقة وإنما لم يقل علقة لأن الإنسان في معنى الجمع وفي تكرار اقرأ وجوه: اقرأ لنفسك ثم اقرأ للتبليغ، أو اقرأ في خارج صلاتك، أو الأول للتعلم والثاني للتعليم وهذا قريب من الأول. والأوجه أن يراد بالأول أوجد القراءة ويكون قوله بِاسْمِ رَبِّكَ متعلقا ب اقْرَأْ الثاني كما مر في تفسير البسملة، قلت: ويمكن أن يكون الأول إشارة إلى كونه قارئا بالقوة ولهذا رتب عليه خلق الإنسان من علق، والثاني إشارة إلى كونه قارئا بالفعل ولهذا وصف نفسه بالأكرمية ورتب عليه تعليم الخط والعلم. وفضائل الخط كثيرة حتى مدح بالرسائل والأشعار وكفاك في مدحه أنه تعالى حين عدد على الإنسان نعمة الخلق والتسوية وتعديل الأعضاء الظاهرة والباطنة وصف نفسه بالكرم قائلا ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار: 6] وحيث من عليه بالخط والتعليم مدح ذاته بالأكرمية فقال متعرضا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 529 وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علم الإنسان بواسطة القلم أو علمه الكتابة بالقلم. يروى أن سليمان عليه السلام سأل عفريتا عن الكلام فقال: ريح لا يبقى. قال: فما قيده؟ قال: الكتابة فإن القلم صياد يصيد العلوم يبكي تارة ويضحك بركوعه يسجد الأنام وبحركته تبقى العلوم على ممر الليالي والأيام، وقوله عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ يجوز أن يكون بيانا للأول أي علمه بالقلم كقول القائل «أحسنت إليك ملكتك الأموال وليتك الولايات.» ويحتمل أن يراد علم بالقلم وعلمه أيضا غير ذلك. وفي الآية إشارة إلى إثبات العلوم السمعية الموقوفة على النقل والكتابة بل إلى إثبات النبوة كما أن أول السورة يدل على الأوصاف الإلهية. قوله سبحانه كَلَّا ذكر بعض العلماء أنه بمعنى حقا لأنه ليس قبله ولا بعده شيء يتوجه إليه الردع. وقال صاحب الكشاف: إنه ردع لمن كفر بنعمة الله عليه وطغى وهذا معلوم من سياق الكلام وإن لم يذكر. وقال مقاتل: كلا لا يعلم الإنسان أنه خلق من علقة وصار عالما بعد أن كان جاهلا وذلك لاستغراقه في حب المال والجاه فلا يتأمل في هذه الأحوال. ومعنى أَنْ رَآهُ لأن رأى نفسه فحذف حرف الجر على القياس، وحذف النفس لخاصية فعل القلب وهي جواز الجمع بين ضميري الفاعل والمفعول فيه. وأكثر المفسرين على أن المراد بالإنسان هاهنا إنسان واحد هو أبو جهل. ومنهم من يقول: خمس آيات من أول هذه السورة نزلت أولا ثم نزل باقيها في أبي جهل بعد ذلك بزمان فضم إليها. وقيل: نزلت فيه من قوله أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى إلى آخر السورة والإنسان عام فإن قيل: لم قال في حق فرعون إِنَّهُ طَغى [النازعات: 17] وفي حق أبي جهل لَيَطْغى قلنا: إنما أخبر بذلك عن فرعون قبل أن يلقاه موسى وقبل أن يعرض عليه الأدلة، وأما هذه الآية فنزلت تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حين رد أبو جهل عليه أقبح الرد. وأيضا إن فرعون مع كمال سلطنته ما كان يؤذي موسى إلا بالقول وأبو جهل مع قلة جاهه كان يقصد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وفرعون كان قد أحسن إلى موسى أولا وقال آخرا آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ [يونس: 9] وأما أبو جهل فكان يحسد النبي صلى الله عليه وسلم في صباه وقال في آخر عمره: بلغوا عني محمدا أني أموت ولا أجد أبغض إليّ منه. وأيضا إنهما وإن كانا رسولين لكن الحبيب في مقابلة الكليم كاليد في مقابلة العين، والعاقل يصون عينه فوق ما يصون يده بل يصون عينه باليد فلهذا كانت المبالغة هاهنا أكثر. واعلم أن المال ليس سببا للطغيان على الإطلاق ولهذا ذهب جم غفير إلى أن الإنسان في الآية مخصوص وكيف لا وإنه لم يزد سليمان عليه السلام إلا تواضعا وعبودية. روي أنه كان يجالس المساكين ويقول: مسكين جالس مسكينا. وكان عبد الرحمن بن عوف من كبار الصحابة كثير المال، وقال صلى الله عليه وسلم «نعم المال الصالح للرجل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 530 الصالح» «1» ولو أنصف العاقل وتأمل وجد نفسه في حال الغنى أشد افتقارا إلى الله لأن الفقير لا يتمنى إلا سلامة نفسه والغني يتمنى سلامة نفسه وماله وأهله وجاهه: وقيل: السين في اسْتَغْنى للطلب والمعنى أن الإنسان قد ينسى فضل الرب وعنايته في حالة أن رآه طلب الغنى فنال المنى بسبب الجهد والكد فينسب ذلك إلى كفاءته لا إلى عناية الله، ولم يدر أنه كم من باذل وسعه في الحرص والطلب لم يحصل إلا على خفي حنين، وأنه تعالى قد يرجع الغني آخر الأمر إلى حالة الفقر ليتحقق أن ذلك الغني لم يكن بفعله وكسبه، وإنما ذلك بحول الله وقوته. وهاهنا نكتة وهي أن أول السورة دل على فضيلة العلم وبعدها دل علي مذمة المال فكفى ذلك مرغبا في العلم ومنفرا عن الدنيا. وفي قوله إِنَّ إِلى رَبِّكَ يا إنسان الرُّجْعى أي الرجوع وعيد وتذكير كأنه قيل: مصيرك إلى الله وإلى حيث لا يدفع عنك المال والكسب فما هذه الحيلة والعصيان والكبر والطغيان؟ يروى أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهبا لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك فنزل جبرائيل فقال: يقول الله إن شئت فعلنا ذلك، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا ذلك، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء إبقاء عليهم. وروي أن أبا جهل لعنه الله قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم قال: فو الذي يحلف به لئن رأيته توطأت عنقه فجاءه، وهو صلى الله عليه وسلم في الصلاة ثم نكص على عقبيه فقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار فنزلت أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى أي أخبرني عمن ينهي بعض عباد الله وهذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم على وجه التعجب، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم أعز الإسلام بعمر أو بأبي جهل بن هشام، وكأنه تعالى قال له: يا محمد كنت تظن أنه يعز به الإسلام وهو ينهى عن الصلاة التي هي أول أركان الإسلام وكان يلقب بأبي الحكم فقيل له: كيف يليق به هذا اللقب وهو ينهى العبد عن خدمة ربه ويأمر بعبادة الجماد؟ وفي تنكير العبد دلالة على التفخيم كأنه قال: هو عبد لا يكتنه كنه إخلاصه في العبودية ولا يوصف شرح أخلاقه بالكلية. يروى أن يهوديا من فصحاء اليهود جاء إلى عمر في أيام خلافته وقال: أخبرني عن أخلاق رسولكم. فقال عمر: اطلب من بلال فهو أعلم به مني. ثم إن بلالا دل على فاطمة عليها السلام وهي دلته على علي رضي الله عنه. فلما سأل عليا رضي الله عنه قال: صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه. فقال اليهودي: هذا لا يتيسر لي فقال علي رضي الله عنه: عجزت عن وصف الدنيا وقد حكم الله بقلته حيث قال قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ   (1) رواه أحمد في مسنده (4/ 197، 202) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 531 [النساء: 77] فكيف أصف أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وقد شهد الله بأنه عظيم في قوله وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] والحاصل أنه سبحانه كأنه قال: ما أجهل من ينهى أشد الخلق عبودية عن الصلاة، والنهي عن الصلاة مذموم عند العقلاء. يروى أن عليا رضي الله عنه رأى في المصلى أقواما يصلون قبل صلاة العيد فقال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فقيل له: ألا تنهاهم؟ فقال: أخشى أن أدخل تحت قوله أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى فلم يصرح بالنهي. وأخذ أبو حنيفة منه هذا الأدب الجميل حين قال له أبو يوسف: أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع: اللهم اغفر لي؟ فقال: يقول ربنا لك الحمد ويسجد ولم يصرح بالنهي عن الدعاء. ويحتمل أن يراد بالتنكير الوحدة كأنه قيل: أيظن أبو جهل أنه لو لم يسجد محمد لي وهو عبد واحد لا أجد ساجدا غيره ولي من الملائكة المقربين ما لا يحصيه إلا الله. وفيه تفخيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم، كان من شهرته بالعبودية لا يحتاج إلى سبق الذكر كقوله أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ [الفرقان] وعن الحسن أن الناهي أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة. وأما الخطاب في قوله أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى فالأكثرون على أنه للنبي صلى الله عليه وسلم أيضا ليكون الكلام على نسق واحد. وقال في الكشاف: معناه أخبرني أن ذلك الناهي إن كان على طريق سديد فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى. أو كان آمرا بالتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد. أو كان على سيرة التكذيب والتولي عن الدين الصحيح كما نقول نحن أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى ويطلع على أحواله من هداه أو ضلاله فيجازيه على ذلك وهو وعيد. فقوله الَّذِي يَنْهى مفعول أول ل أَرَأَيْتَ الأول وأَ رَأَيْتَ الثاني مكرر للتأكيد ولطول الكلام، وقوله إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى مع ما عطف عليه مفعول ثان له، وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب الشرط الثاني وهو قوله أَلَمْ يَعْلَمْ ويجوز أن يكون أَرَأَيْتَ الثالث أيضا مكررا والجواب بالحقيقة هو ما تدل عليه هذه الجملة الاستفهامية كأنه قيل: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أو كذب وتولى فإن الله مجازيه. وقيل: إن جواب الشرط الأول شيء آخر يدل عليه سياق الكلام والمراد: أرأيت إن صار هذا الكافر على حالة الهدى أو أمر بالتقوى بدل النهي عن عبادة الله، أما كان يليق به ذلك إذ هو رجل عاقل ذو ثروة. ففيه تعجيب من حاله أنه كيف فوت على نفسه مراتب الكمال والإكمال واختار بدلها طريقي الضلال والإضلال. وقيل: الخطاب في أَرَأَيْتَ الثاني للكافر كأن الظالم والمظلوم عبدان قاما بين يدي مولاهما أو هما اللذان حضرا عند الحاكم أحدهما المدعي والآخر المدعى عليه، فيخاطب هذا مرة وهذا مرة، فلما قال للنبي صلى الله عليه وسلم أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى التفت إلى الكافر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 532 وقال: أرأيت يا كافر إن كان صلاته هدى ودعاؤه إلى الدين أمرا بالتقوى أتنهاه مع ذلك؟ ثم إن كان الخطاب في أَرَأَيْتَ الثالث للنبي صلى الله عليه وسلم فالمعنى: أرأيت يا محمد إن كذب هذا الكافر بتلك الدلائل الواضحة وتولى عن خدمة خالقه ألم يعلم بعقله أن الله يرى منه هذه الأعمال القبيحة حتى يصير زاجرا عنها؟ وإن كان الخطاب للكافر فالمراد إن كان محمد كاذبا أو متواليا ألا يعلم أن خالقه يراه حتى ينتهي فلا يحتاج إلى نهيك؟ قالت العلماء: هذه الآية وإن نزلت في حق أبي جهل إلا أن كل من ينهى عن طاعة الله فهو شريك في وعيد أبي جهل ولا يرد عليه المنع عن الصلاة في الدار المغصوبة وفي الأوقات المكروهة ومنع المولى عبده عن قيام الليل وصلاة التطوع وزوجته عن الاعتكاف، لأن ذلك لاستيفاء مصالح أخرى بإذن الله وحده، ثم ردع أبا جهل عن نهيه أو عن عدم علمه بإحاطة الله بجميع الكائنات أو عن عزمه على أن يقتل محمدا أو يطأ رقبته، فإن تلميذ محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يقتله ويطأ صدره، والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدة ومنه سفع النار للفحها كأنها تأخذ من الجسد بياضه وطراوته. وقد كتب لَنَسْفَعاً في المصحف بالألف على حكم الوقف لأن النون الخفيفة المؤكدة يوقف عليها بالألف، واللام في قوله بِالنَّاصِيَةِ للعهد والمراد لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار ثم إن هذا السفع إما أن يكون إلى نار الآخرة وهو ظاهر، وإما أن يكون في الدنيا كما روي أنه عاد إلى النهي فمكن الله المسلمين يوم بدر حتى جروه بالناصية. يحكى أنه لما نزلت سورة الرحمن قال النبي صلى الله عليه وسلم: من يقرأوها على رؤساء قريش؟ فتثاقل القوم مخافة أذيتهم فقام ابن مسعود فقال: أنا. فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يعلم من صعفه ثم قال: من يقرأوها عليهم؟ فلم يقم إلا ابن مسعود فأجلسه ثم قال في الثالثة كذلك فلم يقم إلا هو فأذن له، فحين دخل عليهم وكانوا مجتمعين حول الكعبة قرأ السورة فقام أبو جهل فلطمه فانشق أذنه فأدماه فانصرف وعينه تدمع، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم رق قلبه وأطرق رأسه مغموما فإذا جبرائيل جاء ضاحكا مستبشرا فقال: يا جبرائيل تضحك وابن مسعود يبكي، فقال: ستعلم فلما كان يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد فقال صلى الله عليه وسلم: خذ رمحك والتمس في الجرحى من كان به رمق فاقتله فإنك تنال ثواب المجاهدين. فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع فخاف أن يكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه. ولعل هذا معنى قوله سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم: 15] ثم لما عرف عجزه لم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه فارتقى إليه بحيلة، فلما رآه أبو جهل قال: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبا. فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. ثم قال أبو جهل: بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إليّ منه في حال حياتي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 533 ولا أحد أبغض إليّ منه في حال مماتي فروي أنه صلى الله عليه وسلم لما سمع ذلك قال: فرعوني أشد من فرعون موسى عليه السلام فإنه قال «آمنت» وهو قد زاد عتوا. ثم قال لابن مسعود: اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحد وأقطع. فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله. قال أهل العلم: ولعل الحكيم سبحانه إنما خلقه ضعيفا لأجل أن لا يقوى على الحمل لوجوه منها: أنه كلب والكلب يجر. والثاني ليشق أذنه فتقتص الأذن بالأذن. والثالث تحقق الوعد المذكور في قوله لَنَسْفَعاً فإن ابن مسعود لما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبرائيل عليه السلام بين يديه يضحك ويقول: يا محمد أذن بأذن لكن الرأس هاهنا مع الأذن. والناصية شعر الجبهة، وقد يسمى مكان الشعر ناصية، وقد كنى هاهنا عن الوجه والرأس بالناصية قالوا: والسبب فيه أن أبا جهل كان مهتما بترجيل الناصية وتطييبها فلقاه الله نقيض المقصود حين أعرض عن حكم المعبود. ثم وصف الناصية بأنها ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ كذب صاحبها وخطأه حين سمى النبي صلى الله عليه وسلم الصادق ساحرا كذابا، أو حين زعم أنه أكثر أهل الوادي ناديا، والخاطئ أفظع من المخطئ ولهذا قال لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ [الحاقة: 37] فالخاطئ معاقب مأخوذ والمخطئ لا يكون مأخوذا ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. وقوله ناصِيَةٍ بدل الكل من الأول، ووجه حسنها كونها موصوفة كما علم من قواعد النحو. يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أغلظ في القول لأبي الجهل وتلا عليه هذه الآيات قال: يا محمد بمن تهددني وإني أكثر هذا الوادي ناديا أي أهل مجلس، لأملأن عليك هذا الوادي خيلا جردا ورجالا مردا فزاد الله في تهديده قائلا فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ والزباني كل متمرد من جن وإنس ومثله «زبنية» بتخفيف الياء كعفريت وعفرية وأصله من الزبن الدفع، ولعل كسر الزاي لتغيير النسب، عن النبي صلى الله عليه وسلم: لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا. قال مقاتل: هم خزنة جهنم أرجلهم في الأرض ورؤوسهم في السماء. قال قتادة: الزبانية الشرط بلغة العرب أي الحرس، وقيل: هي جمع لا واحد له. ثم ردع أبا جهل عن قبائح أحواله وأفعاله بقوله كَلَّا وشجع النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لا تُطِعْهُ ثم قال وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ أي دم على سجودك وتقرب به إلى ربك ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد» «1» وقيل: صل وتوفر على عبادة الله فعلا وإبلاغا. وقيل: اسجد يا محمد واقترب يا أبا جهل وضع قدمك عليه فإن الرجل ساجد مشغول بنفسه وهذا تهكم به وتعريض بأن الله سبحانه وتعالى عاصم نبيه وحافظه والله أعلم.   (1) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 215. النسائي في كتاب المواقيت باب 35. الترمذي في كتاب الدعوات باب 118. أحمد في مسنده (2/ 421) . [ ..... ] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 534 (سورة القدر) (مكية حروفها مائة وعشرون كلمها ثلاثون آيها خمس) [سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) القراآت شهر تنزل بتشديد التاء: البزي وابن فليح مَطْلَعِ بكسر اللام: علي وخلف. الوقوف فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ هـ ج للنفي والاستفهام والوصل أولى لاتصال المبالغة في التعظيم به ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ هـ ط لأن ما بعدها مبتدأ شَهْرٍ هـ ط لأن ما بعده مستأنف رَبِّهِمْ ج لاحتمال تعلق مِنْ كُلِّ بقوله تَنَزَّلُ ولاحتمال تعلقه بقوله سَلامٌ أي هي من كل عقوبة سلام أو من كل واحد من الملائكة سلام من المؤمنين قاله ابن عباس: وعلى هذا يوقف على أَمْرٍ ويوقف على سَلامٌ وقيل: لا يوقف على سَلامٌ أيضا والتقدير: هي سلام من كل أمر حتى مطلع الْفَجْرِ هـ التفسير: الضمير في إِنَّا أَنْزَلْناهُ للقرآن إما لأن القرآن كله في حكم سورة واحدة وإما لشهرته ومن نباهة شأنه كأنه مستغن عن التصريح بذكره، وقد عظم القرآن في الآية من وجوه أخر هي إسناد إنزاله إلى نفسه دون غيره كجبرائيل مثلا، وصيغة الجمع الدالة على عظم رتبة المنزل، إذ هو واحد في نفسه نقلا وعقلا والرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه وهو ليلة القدر. وهاهنا مسائل الأولى: كيف حكم بأنه أنزل في هذه الليلة مع أنه أنزل نجوما في نيف وعشرين سنة؟ والجواب كما مر في البقرة في قوله شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185] أي أنزل فيها من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة ثم منها إلى الأرض نجوما، ووجه حسن المجاز أنه إذا أنزل إلى السماء الدنيا فقد شارف النزول إلى الأرض فيكون من فوائد التشويق كما قيل: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 535 وأبرح ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الخيام من الخيام وقال الشعبي: ابتدئ بإنزاله في هذه الليلة لأن المبعث كان في رمضان. وقيل: أراد إنا أنزلنا القرآن يعني هذه السورة في فضل ليلة القدر والقدر بمعنى التقدير. قال عطاء عن ابن عباس: إن الله تعالى قدر كل ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية نظيره قوله فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: 4] في أحد الوجوه والمراد إظهار تلك المقادير للملائكة في تلك الليلة فإن المقادير من الأزل إلى الأبد ثابتة في اللوح المحفوظ، وهذا قول أكثر العلماء. ونقل عن الزهري أنه قال: ليلة القدر يعني ليلة الشرف والعظمة من قولهم «لفلان قدر عند فلان» أي منزلة وخطر، ويؤيد هذا التأويل قوله لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ثم هذا الشرف ما أن يرجع إلى الفاعل أي من أتى فيها بالطاعة صار ذا قدر وشرف. وإما أن يرجع إلى الفعل لأن الطاعة فيها أكثر ثوابا وقبولا. وعن أبي بكر الوراق: من شرفها أنه أنزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملك ذي قدر إلى أمة ذوي قدر. ولعل الله تعالى إنما ذكر لفظ القدر في هذه السورة ثلاث مرات لهذا السبب. وقيل: القدر الضيق وذلك أن الأرض في هذه الليلة تضيق عن الملائكة. الثانية هذه الليلة هل تضاف إلى يومها الذي بعدها؟ قال الشعبي: نعم يومها كليلتها لقوله ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا [مريم: 10] وفي موضع، ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [آل عمران: 41] ولهذا لو نذر أن يعتكف ليلتين ألزمناه يومهما. الثالثة قال الخليل: من قال إن فضلها لنزول القرآن فيها يقول: انقطعت وكان مرة والجمهور على أنها باقية. ثم إنه روي عن ابن مسعود أنها في جميع السنة فمن حافظ على الليالي كلها أدركها. وعن عكرمة أنها ليلة البراءة. والأكثرون على أنها في رمضان لقوله تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185] وقوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فيجب من الآيتين أن تكون ليلة القدر في رمضان. ثم في تعيينها خلاف فقال ابن رزين: هي الليلة الأولى من رمضان لما روي عن وهب أن كتب الأنبياء كلهم إنما نزلت في رمضان وكانت الليلة الأولى منه في غاية الشرف. وعن الحسن البصري: السابعة عشرة لأن وقعة بدر كانت في صبيحتها. وعن أنس مرفوعا: التاسعة عشرة. وقال محمد بن إسحق: هي الحادية والعشرون لما روي من حديث الماء والطين. ومعظم الأقوال أنها السابعة والعشرون. وذكروا فيها أمارات ضعيفة منها أن السورة ثلاثون كلمة وقوله هِيَ السابعة والعشرون منها، روي هذا عن ابن عباس. وعنه أيضا أنّ ليلة القدر تسعة أحرف وهي مذكورة ثلاث مرات وروي أنه كان لعثمان بن أبي العاص غلام فقال: يا مولاي إن البحر يعذب ماؤه في ليلة من الشهر فقال: إذا كان تلك الليلة فأعلمني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 536 فإذا هي السابعة والعشرون من رمضان. قلت: ومن الأمارات التي يحتمل اعتبارها أن الضعيف مؤلف الكتاب وصل إلى تفسير هذه السورة في السابعة والعشرين من رمضان سنة تسع وعشرين وسبعمائة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل لله سبحانه فيه سرا ما لا يطلع عليه إلا هو وحده وأنا أرجو من فضله العميم أن يجعل ذلك سببا لبركات الدارين لي ولمن نظر في هذا الكتاب من إخواني في الدين وما الاعتصام إلا بحوله. وقيل: هى الليلة الأخيرة لأن الطاعات في الشهر تتم وقتئذ بل أول رمضان كآدم وآخره كمحمد صلى الله عليه وسلم وقد جاء في الحديث «يعتق في في آخر رمضان بعدد ما أعتق من أول الشهر» وأول الليالي ليلة شكر وآخرها ليلة فراق وصبر وكم بين الشكر والصبر، فإن الصبر أمر من الصبر. الرابعة الحكمة في إخفاء ليلة القدر في الليالي كالحكمة في إخفاء وقت الوفاة ويوم القيامة حتى يرغب المكلف في الطاعات ويزيد في الاجتهاد ولا يتغافل ولا يتكاسل ولا يتكل. يروى أنه صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فرأى نائما فقال: يا علي نبهه ليتوضأ فأيقظه علي ثم قال: يا رسول الله إنك سابق إلى الخيرات فلم نبهته بنفسك؟ فقال: لأن رده على كفر ورده عليك ليس بكفر ففعلت ذلك لتخف جنايته لورد. فإذا كان هذا رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم فقس عليه رحمة الله تعالى عليه وكأنه سبحانه يقول: إذا عرفت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر، وإن عصيت فيها اكتسبت عقاب ألف شهر، ورفع العقاب أولى من جلب الثواب، فالإشفاق أن لا يعرفها المكلف بعينها لئلا يكون بالمعصية فيها خاطئا متعمدا. وأيضا إذا اجتهد في طلب ليلة القدر بإحياء الليالي المظنونة باهى الله تعالى ملائكته ويقول: كنتم تقولون فيهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء فهذا جدهم في الأمر المظنون، فكيف لو جعلتها معلومة لهم فهنالك يظهر سر قوله إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30] . الخامسة معنى كونها خيرا من ألف شهر أن العبادة فيها خير من ألف شهر ليس فيها هذه الليلة، وذلك لما فيها من الخيرات والبركات وتقدير الأرزاق والمنافع الدينية والدنيوية. وقال مجاهد: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد حتى يمسي، فعل ذلك ألف شهر، فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من ذلك فأنزل الله تعالى السورة فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي ويؤيده ما روي عن مالك ابن أنس أن رسول صلى الله عليه وسلم وسلم أري أعمار الناس فاستقصر أعمار أمته وخاف أن لا يبلغوا من الأعمال مثل ما بلغه سائر الأمم، فأعطاه الله ليلة هي خير من ألف شهر لسائر الأمم. وقيل: إن الرجل فيما مضى ما كان يستحق اسم العابد حتى يعبد الله ألف شهر. وذكر القاسم بن فضل عن عيسى بن مازن قال: قلت للحسن بن علي رضي الله عنه: يا مسود وجوه المؤمنين عمدت إلى هذا الرجل فبايعته. يعني معاوية فقال: إن رسول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 537 الله صلى الله عليه وسلم أري في منامه بني أمية يطؤن منبره واحدا بعد واحد وفي رواية ينزون على منبره نزو القردة، فشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى إِنَّا أَنْزَلْناهُ إلى قوله خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ يعني ملك بني أمية. قال القاسم: فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر لا يزيد ولا ينقص، وزيف بأن أيامهم كانت مذمومة فكيف تذكر في مقام التعظيم؟ وأجيب بأنها كانت أياما عظيمة بحسب السعادات الدنيوية فلا يمتنع أن يقول الله تعالى أعطيتك ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من تلك الأيام في بابها. السادسة في الآية بشارة عظيمة للمطيعين وتهديد بليغ للعاصين. أما الأول فلأنه تعالى ذكر أن هذه الليلة خير من ألف شهر ولم يبين قدر الخيرية وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم «مبارزة علي مع عمرو بن عبد ودّ أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة» وكأنه قال: هذا لك بذلك والباقي عليّ أعطيتك به ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فمن أحيا ليلة القدر فكأنه عبد الله نيفا وثمانين سنة، ومن أحياها كل سنة فكأنه رزق أعمارا كثيرة، ومن أحيا ليالي الشهر لينالها بيقين فكأنه أحيا ليلة القدر ثلاثين قدرا. يروى أنه يجاء يوم القيامة بالإسرائيلي الذي عبد الله أربعمائة سنة، ويجاء برجل من هذه الأمة وقد عبد الله أربعين سنة، فيكون ثوابه أكثر. فيقول الإسرائيلي: أنت العدل وأرى ثوابه أكثر فيقول: لأنكم تخافون العقوبة المعجلة فعبدتموني وأمة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا آمنين لقوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] ثم إنهم كانوا يعبدونني فلهذا السبب كانت عباداتهم أفضل، وأما التهديد فلأن الظالم لا يخلصه من المظلوم أحد وإن أحيا مائة ليلة من القدر وكذا من عنده مظلمة لأحد وإن كانت بتطفيف حبة. السابعة أنه صح عن رسول الله قوله «أجرك على قدر نصبك» ومن المعلوم أن الطاعة في ألف شهر أشق من الطاعة في ليلة واحدة فما التوفيق بين الحديث والآية؟ والجواب أن الفعل الواحد قد يختلف حاله في الحسن والقبح بسبب اختلاف الاعتبارات الشرعية أو العقلية. فصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بكذا درجة لأجل شرف الاجتماع. ولو قلت: لمن يرجم إنما يرجم لأنه زان فهو قول حسن، ولو قلته للنصراني فقذف يوجب التعزير، ولو قلته للمحصن فهو موجب للحد، ولو قلته في حق عائشة كان كفرا وبهتانا عظيما وذلك لأنه طعن في حق عائشة التي كانت رجلا في العلم لقوله: «خذوا ثلثي دينكم من هذه الحميراء» وطعن في صفوان وهو رجل بدري وطعن في كافة المؤمنين لأنها أم المؤمنين وللولد حق المطالبة بقذف الأم وإن كافرا، بل طعن في النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف المخلوقات، بل طعن في حكمة الله إذ لا يجوز أن يتركه حتى يتزوج بامرأة زانية، فتبين أن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب باختلاف الجهات وبحسب الأزمنة والأمكنة، وذلك من فضل الله وعنايته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 538 بمخلوقاته على حسب مشيئته وإرادته، قول سبحانه تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ ظاهره يقتضي نزول كل الملائكة إما إلى سماء الدنيا وإما إلى الأرض وهو قول الأكثرين وعلى التقديرين فإن المكان لا يسعهم إلا على سبيل التناوب والنزول فوجا فوجا كأهل الحج فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة أفواجا. وعن كعب: إن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة وساقها في الجنة وأغصانها تحت الكرسي، فيها ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله، ومقام جبرائيل في وسطها ليس فيها ملك إلا وقد أعطي الرأفة والرحمة للمؤمنين، ينزلون مع جبرائيل ليلة القدر فلا يبقى بقعة في الأرض إلا وعليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات، وجبرائيل لا يدع أحدا من الناس إلا صافحهم، وعلامة ذلك أن يقشعر جلده ويرق قلبه وتدمع عيناه، من قال فيها لا إله إلا الله ثلاث مرات غفر له بواحدة ونجاه من النار بواحد وأدخله الجنة بواحدة، وأول من يصعد جبرائيل حتى يصير أمام الشمس فيبسط جناحين أخضرين لا ينشرهما إلا تلك الساعة من يوم تلك الليلة ثم يدعو ملكا ملكا فيصعد الكل فيجتمع نور الملائكة ونور جناح جبرائيل فيقيم جبرائيل ومن معه من الملائكة بين الشمس وسماء الدنيا يومهم ذلك مشتغلين بالدعاء والرحمة والاستغفار للمؤمنين، ولمن صام رمضان احتسابا، فيسألونهم عن رجل رجل وعن امرأة امرأة حتى يقولوا: ما فعل فلان كيف وجدتموه؟ فيقولون: وجدناه عام أول مبتدعا وفي هذا العام متعبدا وفي بعضهم بالعكس، فيدعون للأول دون الآخر. ووجدنا فلانا تاليا وفلانا راكعا وفلانا ساجدا، فهم كذلك يومهم وليلتهم حتى يصعدوا إلى السماء الثانية، وهكذا يفعلون في كل سماء حتى ينتهوا إلى السدرة المنتهى، فتقول لهم السدرة: يا سكاني حدثوني عن الناس فإن لي عليكم حقا وإني أحب من أحب الله. وتقول الجنة: عجلهم اللهم إليّ، والملائكة وأهل السدرة يقولون: آمين. وإنما نزول الملائكة على فضيلة هذه الليلة لأن الجماعة كلما كانت أكثر كان نزول الرحمة أوفر والطاعة في حضور الملائكة الذين هم العلماء بالله والعباد له تكون أدخل في الإخلاص وأجلب لأسباب القبول. أما الروح فالأظهر أنه جبرائيل، خص بالذكر لزيادة شرفه. وقيل: ملك يقوم صفا والملائكة كلهم صفا، وقيل: طائفة من الملائكة لا يراهم غيرهم إلا في هذه الليلة. وقيل: خلق من خلق الله يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الإنس ولعلهم خدم أهل الجنة. وقيل: عيسى عليه السلام ينزل في جماعة من الملائكة ليطالع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: القرآن وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] وقيل: الرحمة. وقيل: هم كرام الكتابين. يروى أنهم يطالعون اللوح فيرون فيه طاعة المكلفين مفصلة فإذا وصلوا إلى معاصيهم أرخى الستر فلا يرونها فحينئذ يقولون: سبحان من أظهر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 539 الجميل وستر القبيح، ويشتاقون إلى لقائهم فينزلون لذلك. ومن فوائد نزولهم أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات ما لم يروها في سكان السموات ويسمعون أنين العصاة الذي هو أحب إلى الله من زجل المسبحين فيقولون: تعالوا نسمع صوتا هو أحب إلى ربنا من تسبيحنا. ولعل للطاعة في الأرض خاصية في هذه الليلة، فالملائكة أيضا يطلبونها طمعا في مزيد الثواب كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعاته هناك أكثر ثوابا. وفي قوله بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إشارة إلى أنهم لا يفعلون شيئا إلا بإذن الله لقوله وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم: 64] وفي قوله رَبِّهِمْ توبيخ للعصاة وتعظيم لشأن الملائكة كأنه قال: كانوا لي فكنت لهم. يروى أن داود عليه السلام في مرض الموت قال: إلهي كن لسلمان كما كنت لي فنزل الوحي قل لسليمان: فليكن لي كما كنت لي. وقوله مِنْ كُلِّ أَمْرٍ إشارة عند الأكثرين إلى فائدة نزولهم أي من أجل كل أمر قدر في تلك الليلة إلى قابل. ومعنى العدول من لام التعليل إلى «من» أن السائل كأنه يقول: من أين جئتم؟ فيقولون: ما لكم وهذا السؤال ولكن قولوا لأي أمر جئتم لأنه حظكم. وقيل: من كل أمر أي من أجل كل مهم فبعضهم للركوع وبعضهم للسجود وبعضهم للتسليم. يروى أنهم لا يتلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه. عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله يقدر المقدر في ليلة البراءة، فإذا كان ليلة القدر يسلمها إلى أربابها.» وقيل: يقدر ليلة البراءة للآجال والأرزاق وليلة القدر للخير والبركة. وقيل: يقدر في ليلة القدر ما يتعلق به صلاح معاش المكلف ومعاده، ويكتب في ليلة البراءة أسماء من يموت فتسلم إلى ملك الموت. ومعنى سَلامٌ هِيَ أن هذه الليلة ما هي إلا سلامة وخير، فأما سائر الليالي فيكون فيها بلاء وسلامة أو ما هي إلا سلام لكثرة سلام الملائكة على المؤمنين. وقال أبو مسلم: يعني أن هذه الليلة ما هي إلا سلامة عن الرياح المزعجة والصواعق ونحوها، أو هي سلامة عن تسلط الشيطان وجنسه، أو سالمة عن تفاوت العبادة في شيء من أجزائها بخلاف سائر الليالي فإن الفرض فيها يستحب في الثلث الأول. والنفل في الأوسط، والدعاء في السحر، والمطلع بالفتح المصدر بمعنى الطلوع، وبالكسر اسم زمان أو مصدر عند بعضهم، ومنهم أبو علي. هذا ما تقرر عندنا وعند سائر العلماء في تفسير هذه السورة الشريفة، وأقول أيضا في تأويله: يمكن أن يفهم من ليلة القدر طرف الأزل من الامتداد الوهمي الزماني قدر فيه ما كان وما سيكون إلى يوم الدين بل إلى الأبد وإنما عبر عنه بالليلة لأن الأشياء كلها إذ ذاك في حيز العدم أو الخفاء «كنت كنزا مخفيا» وإنما كانت خيرا من ألف شهر بل من ثلاثين ألف ليلة بل من ثلاثين ألف سنة كما قال وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] وهي الدور الأعظم دور الثواب لما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 540 تقرر في المعقول والأصول أن العناية الأزلية هي الكفاية الأبدية، ولهذا كانت الأمور بخواتيمها «وكل ميسر لما خلق له» «1» فلو لم يكن للشخص سعادة مقدرة في الأزل لم تفده الطاعة ثلاثين ألف سنة وأكثر، فإنزال القرآن في هذه الليلة عبارة عن الإحصاء في اللوح المحفوظ والإمام المبين، وهو في وقت صدور الروح الأعظم والملائكة المقربين بسبب كل أمر هو كن من غير توسط مادة ومدة ولكنها سالمة عن شوائب الجسمانية والعلائق الجرمانية إلى ظهور فجر عالم الأشباح الظاهرة للحواس المعرضة للتعهد والقوى وإليه المصير والمآب.   (1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 92 باب 3، 5، 7. مسلم في كتاب القدر حديث 6- 8. أبو داود في كتاب السنّة باب 16. الترمذي في كتاب القدر باب 3. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 10. أحمد في مسنده (1/ 6، 29، 82) (2/ 52، 77) (3/ 293) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 541 (سورة لم يكن) (مدنية حروفها ثلاثمائة وستة وتسعون كلمها أربع وتسعون آياتها ثمان) [سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) القراآت البريئة بالهمزة نافع وابن ذكوان. الوقوف: الْبَيِّنَةُ لا مُطَهَّرَةً هـ ك قَيِّمَةٌ هـ ك الْبَيِّنَةُ هـ ط الْقَيِّمَةِ هـ ط فِيها ط الْبَرِيَّةِ هـ ط الصَّالِحاتِ هـ لا الْبَرِيَّةِ هـ ط أَبَداً ط عَنْهُ ط رَبَّهُ هـ التفسير: استصعب بعض العلماء ومنهم الواحدي حل هذه الآية لأنه تعالى لم يبين أنهم منفكون عن أي شيء إلا أن الظاهر أنه يريد انفكاكهم عن كفرهم، ثم إنه فسر البينة بالرسول صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن «حتى» لانتهاء الغاية، فالآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول وهذا ينافي قوله وَما تَفَرَّقَ الآية. والجواب على ما قال صاحب الكشاف، أن هذه حكاية كلام الكفار، وتقديره أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأوثان كانوا يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم: لا ننفك عما نحن فيه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي صلى الله عليه وسلم الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل وهو محمد صلى الله عليه وسلم فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه. ثم قال وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والإنفاق على الحق إذا جاءهم الرسول. ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 542 على الكفر، إلا مجيء الرسول ونظيره من كلام البشر أن يقول الفاسق لمن يعظه: لست بممتنع مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى، فلما رزقه الغنى ازداد فسقا، فيقول واعظه: لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار يذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما لأن الذي وقع كان خلاف ما ادعى. وقيل: إن «حتى» للمبالغة فيؤل المعنى إلى قولك مثلا لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة. وقال قوم: إنا لا نحمل قوله مُنْفَكِّينَ على الكفر بل على كونهم منفكين عن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم بالمناقب والفضائل، ثم لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم تفرقوا وقال كل واحد فيه قولا آخر رديئا، فتكون الآية كقوله وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة: 89] ولا يبعد في هذا الوجه أن يكون بعضهم قد قال في محمد قولا حسنا وآمن به لأن التفرق يحصل بأن لا يكون الجميع باقين على حالهم الأولى، فإذا صار بعضهم مؤمنا وبعضهم كافرا على اختلاف طرق الكفر حصل التفرقة. ولا يبعد أيضا أن يراد أنهم لم يكونوا منفكين عن اتفاق كلمتهم على كفرهم حتى جاءهم الرسول فحينئذ تفرقوا، وما بقوا على ذلك الائتلاف واضطربت أقوالهم. وفي قوله مُنْفَكِّينَ إشارة إلى هذا لأن انفكاك الشيء هو انفصاله عنه بعد التحامه والتئامه كالعظم إذا انفك عن مفصله، فالمعنى أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد وعن الجزم بصحتها إلا بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ بيان للذين كفروا، والمراد أن الكفار فريقان بعضهم أهل الكتاب ومن يجري مجراهم كالمجوس، وبعضهم مشركون وقيل: المشركون هم أهل الكتاب أيضا، وذلك أن النصارى هم أهل التثليث واليهود أهل التشبيه. وقد يقول القائل: جاءني العقلاء والظرفاء وأراد قوما بأعيانهم. وفائدة الواو أنهم جامعون بين الوصفين، ومما يؤيد هذا الوجه أنه لم يعد إلا ذكر أهل الكتاب في قوله وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ والأولون اعتذروا عن ذلك بأنهم إنما خصصوا بالذكر لفضلهم وبركة علمهم ولمزيد توبيخهم فإن العصيان والعناد من العالم أقبح، ولعل هذا هو السبب في تقديم ذكرهم أولا. والبينة الحجة الواضحة، وإطلاقها على الرسول كإطلاق النور والسراج عليه. والصحف القراطيس التي يكتب فيها القرآن المطهر من النقائص ومس المحدث إياه، ومعنى تلاوة الصحف إملاؤه إياها. وعن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ من الكتاب وإن كان لا يكتب ولعل هذا من معجزاته. والكتب المكتوبات. والقيمة المستقيمة أو المستقلة بالدلالة من قولهم «قام فلان بأمر كذا» . وقال أبو مسلم: البينة مطلق الرسل وهم الملائكة أي رسل من السماء يتلون عليهم صحفا كقوله يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 543 السَّماءِ [النساء: 153] وكقوله بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر: 52] قال الجبائي: في قوله وما تفرقوا إلا من بعد كذا دلالة على أن الشقاوة والسعادة لم يثبتا في الأزل ولا في أصلاب الآباء. وزيف بأن المراد ظهور التفرق منهم لا حصوله في علم الله وهو ظاهر. قوله وَما أُمِرُوا أي وما أمروا بما أمروا به في التوراة والإنجيل إلا لأجل أن يعبدوا الله على حالة الإخلاص والميل عن الأديان الباطلة. فقوله حُنَفاءَ حال مترادفة أو متداخلة وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ موصوفها محذوف أي دين الملة القيمة. ويعلم من هذا الإخبار أن الأمر المذكور ثابت في شرعنا أيضا كما في شرعهم، ويحتمل أن يراد وما أمروا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم قاله مقاتل. استدل بالآية من قال: إن الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والعمل بيانه أن الله تعالى ذكر العبادة المقرونة بالإخلاص وهو التوحيد، ثم عطف عليه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم أشار إلى المجموع بقوله وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ورد بالمنع من أن المشار إليه هو المجموع، ولم لا يجوز أن يكون إشارة إلى التوحيد فقط؟ سلمنا لكن لم لا يجوز أن يراد بدين القيمة الدين الكامل المستقل بنفسه وهو أصل الدين ونتائجه وثمراته؟ ثم ذكر وعيد الكفار ووعد الأبرار. وقدم في الوعيد أهل الكتاب على المشركين، والسر فيه بعد ما مر أنه صلى الله عليه وسلم كان يقدم حق الله على حق نفسه ولهذا حين كسروا رباعيته قال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، وحيث فاتته صلاة العصر يوم الخندق قال: ملأ الله بطونهم وقبورهم نارا فقال الله تعالى: كما قدمت حقي على حقك فأنا أيضا أقدم حقك على حقي، فمن ترك الصلاة طول عمره لم يكفر، ومن طعن فيك بوجه يكفر. ثم إن أهل الكتاب طعنوا فيك فقدمتهم في الوعيد على المشركين الذين طعنوا فيّ، وأيضا المشركون رأوه صغيرا يتيما فيما بينهم. ثم إنه بعد النبوة سفه أحلامهم وكسر أوثانهم وهذا أمر شاق يوجب العداوة الشديدة عند أهل الظاهر. وأما أهل الكتاب فقد كانوا مقرين بنبي آخر الزمان وكان النبي صلى الله عليه وسلم مثبتا لنبيهم وكتابهم فلم يوجب لهم ذلك عداوة شديدة، فطعنهم في محمد صلى الله عليه وسلم طعن في غير موقعه فاستحقوا التقديم في الوعيد لذلك وكانوا شر البرية، وهذه جملة يطول تفصيلها شر من السراق لأنهم سرقوا من كتاب الله صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وشر من قطاع الطريق لأنهم قطعوا على سفلتهم طريق الحق، وشر من الجهال لأن العناد أقبح أنواع الكفر، وفيه دلائل على أن وعيد علماء السوء أفظع. قوله في هذه الآية خالِدِينَ فِيها وفي آية الوعد خالِدِينَ فِيها أَبَداً إشارة إلى كمال كرمه وسعة رحمته كما قال «سبقت رحمتي غضبي» «1» قال العلماء: هذه الآية مخصوصة في صورتين إحداهما   (1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15، 22. مسلم في كتاب التوبة حديث 14- 16. الترمذي في كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 242، 258) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 544 أن من تاب منهم وأسلم خرج من الوعيد، والثانية أن من مضى من الكفرة ويجوز أن لا يدخل فيها لأن فرعون كان شرا منهم. قوله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مقابلة الجمع بالجمع فلا مكلف يأتي بجميع الصالحات بل لكل مكلف حظ. فحظ الغني الإعطاء وحظ الفقير الأخذ. احتج بعضهم بقوله أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ على تفضيل البشر على الملك قالوا: روى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أتعجبون من منزلة الملائكة من الله والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من ذلك وقرأ هذه الآية» أجاب المنكرون بأن الملك أيضا داخل في الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو المراد بالبرية بنو آدم لأن اشتقاقها من البرء وهو التراب لا من برأ الله الخلق، وتمام البحث في المسألة قد سبق في أول البقرة. قوله ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ مع قوله إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] ظاهر في أن العلماء بالله هم خير البرية اللهم اجعلنا منهم والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 545 (سورة إذا زلزلت) (مكية حروفها مائة وتسعة وأربعون كلمها خمس وثلاثون آياتها ثمان) [سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) القراآت يره ساكنة الهاء في الحرفين: الحلواني عن هشام. الوقوف: زِلْزالَها هـ لا أَثْقالَها لا ما لَها هـ لا لاحتمال حذف عامل «إذا» أي أذا كانت هذه الأمور ترى ما ترى واحتمال أن يكون العامل تُحَدِّثُ ويَوْمَئِذٍ بدلا من «إذا» أَخْبارَها هـ لا لَها هـ ط أَعْمالَهُمْ هـ ط يَرَهُ هـ ط يَرَهُ هـ. التفسير: لما ختم السورة المتقدمة بالوعيد والوعد أتبعه بذكر وقت الجزاء وعدد من إماراته الزلزلة الشديدة التي تستأهلها الأرض وهي معنى إضافة الزلزال إلى ضمير الأرض. قال أهل المعاني: هو كقولك «أكرم التقي إكرامه وأهن الفاسق إهانته» يريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة. وقريب منه قول من قال: أراد بزلزالها كل الزلزال وجميع ما هو ممكن منه أي يوجد من الزلزلة كل ما يحتمله المحل. وقيل: زلزالها الموعود والمكتوب عليها لما أنها قدرت تقدير الحي. يروى أنها تتزلزل من شدة صوت إسرافيل عليه السلام. ومن امارات الساعة إخراج الأرض أثقالها أي ما في جوفها من الدفائن والأموات قال أبو عبيدة والأخفش: إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها وسمي الإنس والجن بالثقلين لذلك. يروى أنها تخرج كنوزها فيملأ ظهر الأرض ذهبا ولا أحد يلتفت إليه، وكأن الذهب يصيح ويقول: أما كنت تخرب دينك ودنياك لأجلي؟ ويمكن أن تكون الفائدة في إخراجها أن يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها الجباه والجنوب والظهور قالوا: إنها عند النفخة الأولى تتزلزل فتلفظ بالكنوز والدفائن، وعند النفخة الثانية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 546 ترجف فتخرج الأموات أحياء كالأم تلد حيا. وقيل: تلفظهم أمواتا ثم يحييهم الله تعالى. وقيل: أثقالها أسرارها فيومئذ تكشف الأسرار ولذلك قال يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها أي تشهد لك وعليك وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها تعجبا من حالها. وقيل: والكافر لأنه كان لا يؤمن بالبعث فيقول مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: 52] وأما المؤمن فيقول هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: 52] والباء في قوله بِأَنَّ رَبَّكَ إما أن تتعلق ب تُحَدِّثُ والإيحاء بمعنى الأمر أي تحدث بسبب أن ربك أمرها بالتحديث ومفعول تُحَدِّثُ محذوف أي تحدث الناس، أو متروك لأن المقصود تحديثها لا من تحدثه. وقيل: تحديثها بأن ربك أوحى لها تحديث بأخبارها كما تقول «نصحتني كل النصيحة بأن نصحتني في الدين» . وقيل: بدل من أَخْبارَها لأنك تقول: حدثته كذا وحدثته بكذا. وأوحى لها بمعنى أوحى إليها وهو مجاز عند صاحب الكشاف. وأبي مسلم كأنها بلسان الحال تبين لكل أحد جزاء عمله، أو تحدث أن الدنيا قد انقضت والآخرة قد أقبلت. والجمهور على أنه تعالى يجعل الأرض ذات فهم ونطق ويعرفها جميع ما عمل عليها فحينئذ تشهد لمن أطاع وعلى من عصى. وكان علي رضي الله عنه إذا فرغ بيت المال صلى فيه ركعتين ويقول: اشهدي أني ملأتك بحق وفرغتك بحق. وقيل: لفظ التحديث يفيد الاستئناس، فلعل الأرض تبث شكواها إلى أولياء الله وملائكته، وقالت المعتزلة: إن الله تعالى يخلق في الأرض وهي جماد أصواتا مقطعة مخصوصة فيكون المتكلم والشاهد على هذا التقدير هو الله. قوله يَصْدُرُ الصدر ضد الورود فالوارد الجائي والصادر المنصرف، أَشْتاتاً أي متفرقين جمع شت أو شتيت أي يذهبون من مخارج قبورهم إلى الموقف. فبعضهم إثر بعض راكبين مع الثياب الحسنة وبياض الوجه وينادي مناد بين يديه هذا ولي الله، وبعضهم مشاة عراة حفاة سود الوجوه مقيدين بالسلاسل والأغلال والمنادي ينادي هذا عدو الله. وقيل: أشتاتا أي كل فريق مع شكله اليهودي مع اليهودي، والنصراني مع النصراني وقيل: من كل قطر من أقطار الأرض ليروا صحائف أعمالهم أو جزاء أعمالهم وهو الجنة أو النار وما يناسب كلا منهما. والذرة أصغر النمل أو هي الهباءة، وعن ابن عباس إذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها فكل واحد مما لزق بها من التراب مثقال ذرة، فليس من عبد عمل خيرا أو شرا، قليلا كان أو كثيرا إلا أراه الله تعالى إياه. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في رجلين وذلك أنه لما نزل وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الدهر: 8] كان أحدهما يأتيه السائل فيسأم أن يعطيه الثمرة والكسرة والجوزة ويقول: ما هذا بشيء وإنما مؤجر على ما نعطي وكان أحدهما يتهاون بالذنب الصغير ويقول: لا شيء علي من هذا فرغب الله تعالى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 547 في القليل من الخير لأنه يوشك أن يكثر، وحذر من الذنب اليسير فإنه يوشك أن يعظم، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة» «1» والتحقيق أن المقصود النية فإن كان العمل قليلا والنية خالصة حصل المطلوب، وإن كان العمل كثيرا والنية فاسدة فالمقصود فائت، ولهذا قال كعب الأحبار: لا تحقروا شيئا من المعروف فإن رجلا دخل الجنة بإعارة إبرة في سبيل الله، وإن امرأة أعانت بحبة في بناء بيت المقدس فدخلت الجنة. وعن عائشة أنه كان بين يديها عنب قدمته إلى نسوة بحضرتها فجاء سائل فأمرت له بحبة من ذلك، فضحك بعض من كان عندها فقالت: إن فيما ترون مثاقيل وتلت هذه الآية. قال جار الله: إن حسنات الكافر محبطة بالكفر وسيئات المؤمن مكفرة باجتناب الكبائر، فما معنى الجزاء لمثاقيل الذر من الخير والشر؟ وأجاب على مذهبه بأن المعنى فمن يعمل من فريق السعداء مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل من فريق الأشقياء مثقال ذرة شرا يره. وذلك أن الحكم جاء بعد قوله يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً والأولى في جوابه ما روي عن ابن عباس: ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيرا أو شرا إلا أراه الله تعالى إياه. فأما المؤمن فيغفر له سيئاته ويثاب بحسناته وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته. وقيل: إن حسنات الكافر وإن كانت محبطة بكفره لكن الموازنة معتبرة فتقدر تلك الحسنات انحبطت من عقاب كفره، وكذا القول في الجانب الآخر. وعن محمد بن كعب القرظي: معناه فمن يعمل مثقال ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا في نفسه أو أهله أو ماله حتى يلقى الآخرة وليس له فيها خير، ومن يعمل مثقال ذرة من شر وهو مؤمن فإنه يرى عقوبة ذلك في الدنيا في نفسه أو أهله أو ماله حتى يلقى الآخرة وليس له فيها شر، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل الخير حتى توفاها يوم القيامة. فإن قيل: إن كان الأمر إلى هذا الحد فأين الكرم؟ قلت: هذا هو الكرم لأن المعصية وإن قلت ففيها استخفاف والكريم لا يحتمله، والطاعة تعظيم وإن قلت فالكريم لا يضيعه. قال أهل العرفان: كأنه تعالى يقول: ابن آدم أنك مع ضعفك وعجزك لم تضيع ذرة من مخلوقاتي بل نظرت فيها واعتبرت بها واستدللت بوجودها على وجود الصانع، فأنا مع كمال قدرتي وكرمي كيف أضيع ذرتك والله الكريم.   (1) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 34. مسلم في كتاب الزكاة حديث 66، 67. الترمذي في كتاب القيامة باب 1. النسائي في كتاب الزكاة باب 63، 64. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. الدارمي في كتاب الزكاة باب 24. أحمد في مسنده (1/ 388، 446) (4/ 256) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 548 (سورة العاديات) (مدنية وقيل مكية حروفها مائة وثلاثة وستون كلمها أربعون آياتها إحدى عشرة) [سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) القراآت وَالْعادِياتِ ضَبْحاً بالإدغام: أبو عمر وغير عباس فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً أبو عمرو غير عباس وخلاد عن حمزة. الوقوف: ضَبْحاً هـ لا قَدْحاً هـ لا صُبْحاً هـ لا نَقْعاً هـ لا جَمْعاً هـ لا لَكَنُودٌ هـ ج لأن ما بعده يصلح عطفا واستئنافا لَشَهِيدٌ هـ لذلك لَشَدِيدٌ هـ ط الْقُبُورِ لا الصُّدُورِ هـ لا لَخَبِيرٌ هـ التفسير: إنه سبحانه ذكر في هذه السورة رداءة ما عليه جبلة الإنسان من قلة الشكر والصبر والحرص على المال بحيث يكاد يشغله عن تحصيل الكمال الحقيقي، وعن المعاد الذي إليه مآل حال العباد، فأقسم على ذلك بالأمور والتي هي مركوزة في خزانة خيالهم ولا تكاد تخلو في الأغلب عن الخطور ببالهم. وفي تفسيرها قولان مرويان: الأول أن العاديات هي الإبل. يروى عن ابن عباس أنه قال: بينا أنا جالس في الحجر إذ جاء رجل فسألني عن الْعادِياتِ ضَبْحاً ففسرتها بالخيل فذهب إلى علي رضي الله عنه وهو بجنب سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت فقال: ادعه لي فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام يعني بدرا وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد. وَالْعادِياتِ ضَبْحاً الإبل تعدو من عرفة إلى مزدلفة ومن المزدلفة إلى منى، والضبح على هذا مستعار لأن أصل استعماله في الخيل وهو صوت أنفاسها إذا عدون وهذا الصوت غير الصهيل وغير الحمحمة، وانتصابه على «يضبحن ضبحا» أو بالعاديات لأن العدو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 549 لا يخلو عن الضبح، أو على الحال. وهكذا القول في فَالْمُورِياتِ قَدْحاً لأن الإبل قلما توري أخفافها. يقال: قدح فأورى وقدح فأصلد فَالْمُغِيراتِ أي المسرعات يندفعون صبيحة يوم النحر مسرعين إلى منى فَأَثَرْنَ من الإثارة أي هيجن وهو حكاية الماضي أو هو نحو وَنادى [الأعراف: 48] وَسِيقَ [الزمر: 72] بِهِ أي بالعدو أو بذلك الوقت نَقْعاً غبارا فَوَسَطْنَ أي توسطن بِهِ بذلك الوقت أو بالعدو أو متلبسة بالنقع جَمْعاً وهو المزدلفة لاجتماع الحاج بها. القول الثاني عن مجاهد وقتادة والضحاك وأكثر المحققين أن العاديات الخيل، ويروى ذلك مرفوعا. قال الكلبي: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى ناس من كنانة فمكثت ما شاء الله أن تمكث لا يأتيه منهم خبر، فتخوف عليها فنزل جبرائيل بخبر مسيرها. وعلى هذا فاللام في الْعادِياتِ للعهد. ويحتمل أن تكون للجنس ويدخل خيل السرية فيها دخولا أوليا. وقوله فَالْمُغِيراتِ على هذا يكون من أغار على العدو إذا شن عليهم الغارة والجمع جماعة الغزاة أو الكفرة. وقيل: الإيراء عبارة عن شبيب نيران الحرب وإيقادها كقوله كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [المائدة: 64] وقيل: هي نيران الغزاة بالليل لحاجة طعامهم أو غيره. وعن عكرمة: هي الأسنة. وقيل: هي المنجحات في الأمور فيحتمل أن تكون الخيل أو الإبل لأنه وجد بها المقصود من الغزو والحج. ويحتمل أن يراد جماعة الغزاة أنفسهم. يقال للمنجح في حاجته ورى زنده. وفي إقسام الله تعالى بالإبل دلالة على عظم شأنهن وكثرة منافعهن دينا ودنيا كما قال أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 17] وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس: 72] وكذا في الإقسام بالخيل وذلك مشاهد من عدوها وكرها وفرها بحسب مشيئة الراكب ولأمر ما قال صلى الله عليه وسلم «الخيل معقود بنواصيها الخير» «1» وقالت العقلاء: ظهرها حرز وبطنها كنز. قال الواحدي: أصل الكنود منع الحق والخير بهذا فسر ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة الكنود قالوا: ومنه سمي الرجل المشهور بكندة لأنه كند أباه ففارقه. وعن الكلبي: الكنود بلسان كندة العاصي، وبلسان بني مالك البخيل، وبلسان مضر وربيعة الكفور، وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن الكنود الكفور الذي يمنع رفده، ويأكل وحده، ويضرب عبده» وفي تقديم الظرف مزيد تقريع يعني أنه لنعمة ربه خصوصا لشديد الكفران فكيف نعمة غيره مثل الأبوين ونحوهما؟ وقال الحسن: الكنود اللوام لربه   (1) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 43، 44. مسلم في كتاب الزكاة حديث 25. أبو داود في كتاب الجهاد باب 41. الترمذي في كتاب الجهاد باب 19. النسائي في كتاب الخيل باب 1، 7 ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 14. الدارمي في كتاب الجهاد باب 33. الموطأ في كتاب الجهاد حديث 44. أحمد في مسنده (2/ 49) (3/ 39) (4/ 104، 183) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 550 يعد المحن والمصائب وينسى النعم والراحات، والأكثرون على أن الإنسان هو الكافر لقوله بعد ذلك أَفَلا يَعْلَمُ ويحتمل أن يراد أن جنس الإنس مفطور على ذلك إلا من عصمه الله بلطفه وتوفيقه أَفَلا يَعْلَمُ يجوز أن يكون توبيخا على أنه لا يعمل بعلمه. والضمير في قوله وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ أما أن يعود إلى الرب وهو أقرب فيكون كالوعيد من حيث إن الله يحصى عليه أعماله، وإما أن يعود إلى الإنسان أي أنه على كنوده لَشَهِيدٌ لا يقدر أن يجحده لظهور أماراتها عليه، وقد يرجح هذا الوجه بأن الضمير في قوله وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ للإنسان فناسب أن يكون الأول له أيضا لئلا ينخرم النسق. والخير المال كقوله إِنْ تَرَكَ خَيْراً [البقرة: 180] والشديد البخيل الممسك يريد إنه لأجل حب المال لبخيل وقيل: الشديد القوي أي إنه لأجل إيثار الدنيا وطلب ما فيها مطيق قوي، ولأجل عبادة ربه عاجز ضعيف. أو إنه لحب الخيرات الحقيقية غير ميسر منبسط ولكنه شديد منقبض. وقال الفراء: إنه لحب الخير لشديد الحب أي أنه يحب المال ويحب كونه محبا له فاكتفى بالحب الأول من الثاني. وقال قطرب: اللام بمنزلة قولك «إنه لزيد ضروب» . والتقدير إنه شديد حب الخير. ثم وبخه وخوفه بالعلم التام الأزلي الأبدي الشامل لأحوال مبدأ الإنسان ومعاده وبُعْثِرَ مثل بحثر كما مر في «انفطرت» وإنما لم يقل من في القبور بل قال ما فِي الْقُبُورِ بحكم التغليب فإن أكثر ما في الأرض ليسوا مكلفين، والذين هم مكلفون يجوز أن يكونوا حال البعثرة أمواتا غير عقلاء ويصيروا أحياء بعد البعثرة، قال أبو عبيدة وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ أي ميز ما فيها فلكل واحد من الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحظور حكم خاص. وقيل: معناه جمع ما في الصدور في الصحف أي أظهر محصلا مجموعا. وقيل: يكشف ما في البواطن من الأخبار وما في الأستار من الأسرار ويندرج فيه أعمال الجوارح تبعا. وإنما لم يقل ما في القلوب لأن القلب مطية الروح وهو بالطبع محب لمعرفة الله تعالى إنما المنازع في هذا الباب هو النفس ومحلها ما يقرب من الصدر، وإنما جمع الضمير في قوله إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ حملا على معنى الإنسان. ومعنى تقييد العلم بذلك الزمان حيث قال يَوْمَئِذٍ وهو عالم بأحوالهم أزلا وأبدا التوبيخ وكأنه تعالى قال: إن من لم يكن عالما في الأزل فإنه يصير بعد الاختبار عالما، فالذي هو عالم في الأزل كيف لا يكون خبيرا بهم في الأبد؟ ويجوز أن يكون سبب التقييد هو أن ذلك وقت المجازاة على حسب العلم بالأعمال والأقوال والأحوال وإليه المصير والمآب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 551 (سورة القارعة) (وهي مكية حروفها مائة واثنان وخمسون كلمها ست وثلاثون آياتها إحدى عشرة) [سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) القراآت ما هي بغير هاء السكت في الوصل: حمزة وسهل ويعقوب. الآخرون: بالهاء وإن كانت وصلا اتباعا لخط المصحف. الوقوف: الْقارِعَةُ هـ لا مَا الْقارِعَةُ هـ لا الْمَبْثُوثِ هـ ج للآية والعطف الْمَنْفُوشِ هـ ط للابتداء بالشرط مَوازِينُهُ هـ لا لأن ما بعده جواب فأما راضِيَةٍ هـ ط مَوازِينُهُ هـ لا هاوِيَةٌ هـ ط ما هِيَهْ هـ ط حامِيَةٌ هـ. التفسير: لما ختم السورة المتقدمة بأحوال المعاد ذكر في هذه السورة بعض أحوال الآخرة، والقرع الاصطكاك بشدة واعتماد ثم سميت الحادثة الهائلة قارعة والمراد هاهنا القيامة ولا أهول منها ولذلك قال في الإخبار عنها مَا الْقارِعَةُ لأنه يفيد زيادة التهويل ثم قال وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ وانتصب يَوْمَ بفعل محذوف دل عليه القارعة أي تقرع الناس يوم كذا، وهذا القرع عبارة عن الصيحة التي يموت فيها الخلائق ثم يحييهم عند النفخة الثانية كما روي أن الصور له ثقب على عدد الأموات لكل واحد ثقبة معلومة فيحيى الله بتلك النفخة الواصلة إليه من تلك الثقبة المعينة. وقيل: القرع هو اصطكاك الأجرام العلوية والسفلية حين التخريب والتبديل، أو هو نفس انفطارها وانتثارها واندكاكها قاله الكلبي وقال مقاتل: إنها تقرع أعداء الله بالعذاب، وأما أولياؤه فهم من القرع آمنون. والفراش اسم لهذه الدواب التي تتهافت فتقع في النار سمي فراشا لتفرشه وانتشاره وأكد هذا المعنى بقوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 552 الْمَبْثُوثِ وشبه الناس يومئذ بها لكثرتهم وانتشارهم ذاهبين في كل أوب كما شبههم بالجراد المنتشر في موضع آخر لذلك لا لصغر الجثة والنحول والضعف. وجوز بعضهم أن يكونوا أولا أكبر جثة فشبههم وقتئذ بالجراد ثم يؤل حالهم إلى الهزال والضعف لحر الشمس ولسائر أصناف المتاعب، فشبهوا للضعف بالفراش. ويمكن أن يكون وجه التشبيه الذلة والضعف كقوله صلى الله عليه وسلم «الناس اثنان: عالم ومتعلم وسائر الناس همج» «1» وشبه الجبال بالعهن لاختلاف أجزائها في الحمرة والبياض والسواد كما مر في «المعارج» . وزاد هاهنا وصفه بالمنفوش لتفرق أجزائها وزوال تأليفها ثم قسم الناس فيه إلى قسمين بحسب ثقل موازين أعمالهم وخفتها وقد مر تحقيقه في «الأعراف» . وقوله راضِيَةٍ من الإسناد المجازي كما مر في «الحاقة» . وأما قوله فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ففيه وجوه أحدها: أن الأم هي المعروفة والهاوية والهالكة وهذا من مستعملات العرب يقولون: هوت أمه أي هلكت وسقطت يعنون الدعاء عليه بالويل والثبور والخزي والهوان. وقال الأخفش والكلبي وقتادة: فأم رأسه هاوية في النار لأنهم يهوون في النار على رؤوسهم. وقيل: الأم الأصل والهاوية من أسماء النار لأنها نار عتيقة والمعنى: منزله ومأواه الذي يأوي إليه هو النار ويؤيد هذا الوجه قوله ما هِيَهْ أي ما الهاوية، هذا هو الظاهر. والأولون قالوا: الضمير للداهية التي يدل عليها قوله فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وفي قوله نارٌ حامِيَةٌ إشارة إلى أن نيران الدنيا بالنسبة إلى نار الآخرة غير حامية والله أعلم.   (1) رواه الدارمي في كتاب المقدمة باب 32. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 553 (سورة التكاثر) (مكية حروفها مائة واثنان وخمسون كلمها ست وثلاثون آياتها ثمان) [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) القراآت: لَتَرَوُنَّ بضم التاء من الإراءة مجهولا: ابن عامر وعلي. الوقوف التَّكاثُرُ هـ لا الْمَقابِرَ هـ ك لأن كَلَّا بمعنى حقا وقد يحمل على الردع عن التكاثر سَوْفَ تَعْلَمُونَ هـ لا سَوْفَ تَعْلَمُونَ هـ الْيَقِينِ هـ ط لأن جواب «لو» محذوف وقوله لَتَرَوُنَّ جواب قسم الْجَحِيمَ هـ لا الْيَقِينِ هـ النَّعِيمِ هـ. التفسير: لما ذكر القارعة وأهوالها قال أَلْهاكُمُ أي شغلكم التكاثر وهو المغالبة بالكثرة أو تكلف الافتخار بها مالا وجاها عن التدبر في أمر المعاد فنسيتم القبر حتى زرّتموه. ويروى أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عددا فكثرهم أي غلبهم بالكثرة بنو عبد مناف فقالت بنو سهم: إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادونا بالأحياء والأموات أي عدوا مجموع أحيائنا وأمواتنا مع مجموع أحيائكم وأمواتكم ففعلوا فزاد بنو سهم فنزلت الآية. وهذه الرواية شديدة الطباق لظاهر الآية لقوله زُرْتُمُ بصيغة الماضي وفيه تعجب من حالهم أنهم زاروا القبور في معرض المفاخرة والاستغراق في حب ما لا طائل تحته من التباهي بالكثرة والتباري فيها، مع أن زيارة القبور مظنة ترقيق القلب وإزالة القساوة كما قال صلى الله عليه وسلم «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ثم بدا لي فزوروها فإن في زيارتها تذكرة» «1» من هنا قال بعضهم: أراد أن الحرص على المال قد شغلكم عن الدين فلا تلتفتون إليه إلا إذا زرتم المقابر فحينئذ ترق قلوبكم يعني أن حظكم من دينكم ليس إلا هذا القدر ونظيره   (1) رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب 77. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 554 قوله قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ [الملك: 23] أي لا أقنع منكم بهذا القدر من الشكر. وقيل: معنى الآية ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت وأنتم على ذلك، ويندرج فيه من يمنع الحقوق المالية إلى حين الموت ثم يقول: أوصيت لفلان بكذا ولفلان بكذا، واستدلوا عليه بما روى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يا ابن آدم تقول مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت» «1» ثم قرأ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي حتى متم. وأورد عليه أن الزائر هو الذي يجيء ساعة ثم ينصرف. والميت يبقى في قبره مدة مديدة. وأيضا إن قوله زُرْتُمُ صيغة الماضي فكيف يحمل على المستقبل؟ ويمكن أن يجاب عن الأول بأن مدة اللبث في القبر بالنسبة إلى الأبد أقل من لحظة كما قال كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف: 19] وعن الثاني بأن المشرف على الموت كأنه على شفير القبر أو هو خبر عمن تقدمهم والخبر عنهم كالخبر عن متأخريهم لأنهم كانوا على طريقتهم. وقال أبو مسلم: إنه تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييرا للكفار وهم في ذلك الوقت قد تقدمت منهم زيارة القبور. والمقابر جمع المقبرة فتحا أو ضما، والتاء فيه غير قياسي. قالت العلماء: التكاثر مطلقا ليس بمذموم لأن التكاثر في العلم والطاعة والأخلاق الحميدة ليس بمذموم إذا كان المراد أن يقتدى به غيره كما مر في قوله وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11] وإنما المذموم ما يكون الباعث عليه الاستكبار وحب الجاه والغلبة والفخر بما لا سعادة حقيقية فيه، وليست السعادة الحقيقية إلا فيما يرجع إلى العلم والعمل أو إلى ما يعين عليهما من الأمور الخارجية. عن الحسن رضي الله عنه: لا تغرنك كثرة من ترى حولك فإنك تموت وحدك وتبعث وحدك وتحاسب وحدك، وتكرير الوعيد وهو سوف تعلمون للتأكيد. وقيل: الأول عند الموت حين يقال له لا بشرى. والثاني في سؤال القبر إذ يقال من ربك، وفيه دليل على عذاب القبر على ما روي عن علي عليه السلام: أو حين ينادي المنادي فلان شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبدا، أو حين يقال وَامْتازُوا الْيَوْمَ [يس: 59] وعن الضحاك: أراد سوف تعلمون أيها الكفار ثم كلا سوف تعلمون أيها المؤمنون، فالأول وعيد، والثاني وعد. وقيل: إن كل واحد يعلم قبح الكذب والظلم وحسن الصدق والعدل لكن لا يعرف مقدار آثارها ونتائجها فالله يقول سوف تعلمون علما تفصيليا   (1) رواه البخاري في كتاب الطلاق باب 52، 53. مسلم في كتاب اللعان حديث 5. أبو داود في كتاب الطلاق باب 27. الترمذي في كتاب الزهد باب 31. النسائي في كتاب الوصايا باب 1. أحمد في مسنده (2/ 368) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 555 استدراجيا شيئا فشيئا عند الموت، ثم عند البعث، ثم في النار أو في الجنة، قوله لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ اتفقوا على أن جواب «لو» محذوف لأن قوله ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ أمر واقع قطعا فلو كان قوله لَتَرَوُنَّ جوابا للشرط كانت الرؤية أمرا مشكوكا فيه فيلزم المخالفة بين المعطوفات أو الشك فيما هو واقع قطعا وكلاهما غير سديد، ثم في تقدير الجواب وجوه قال الأخفش: لو تعلمون علم اليقين ما ألهاكم التكاثر. وقال أبو مسلم: لو علمتم ما يجب عليكم وما خلقتم لأجله لاشتغلتم به. وقال أهل البيان: الأولى تقدير ما هو عام في كل شيء وهو لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه كنهه ولكنكم ضلال جهلة. ومعنى عِلْمَ الْيَقِينِ علم يقين فأضيف الموصوف إلى الصفة نحو ولدار الآخرة. ويحتمل أن يكون اليقين هو الموت كقوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99] إن الشك حينئذ يزول والأحوال إلى اليقين تؤول، والإنسان إذا علم ما يلقاه حين الموت وبعده لم يلهه التكاثر، وإضافة العلم إلى بعض أنواعه جائزة كعلم الطب وعلم الحساب، وفي الآية بعث للعلماء على أن يعملوا بعلمهم وإلا لم يكن بعد فوات إبان العمل سوى الحسرة والندامة. يروى أن ذا القرنين لما دخل الظلمات أمر لمن معه بأن يأخذوا من الخرز الذي كانت عنده فأخذ بعضهم وترك بعضهم، فلما خرجوا من الظلمات وجدوا الخرز جواهر وكان للآخذين فرحا وسرورا وللتاركين غما وحسرة. أما تكرار رؤية الجحيم فقيل: إن الأول رؤيتها من بعيد كما قال إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [الفرقان: 12] والثاني رؤيتها من قريب إذا وصلوا إلى شفيرها. وقيل: الأولى عند الورود، والثانية بعد الدخول. وأورد قوله ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ فيها فإن السؤال قبل الدخول. وقيل: التثنية للتكرير والمراد تتابع الرؤية واتصالها فكأنه قيل لهم: إن كنتم اليوم شاكين فيها فسترونها رؤية دائمة متصلة، فيجوز أن يكون قوله عِلْمَ الْيَقِينِ متعلقا بالرؤيتين جميعا، ويجوز أن يكون متعلقا بالثانية لأن علمهم بها وبأحوالها وآلامها يزداد شيئا فشيئا حتى يصير الخبر عينا. ومعنى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين قد مر في آخر «الواقعة» . وفي السؤال عن النعيم وجهان: الأول أنه للكفار لما روي أن أبا بكر لما نزلت الآية قال: يا رسول الله أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم وبسر وماء عذب، أتكون من النعيم الذي يسأل عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك للكفار ثم قرأ وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: 17] ولأن الخطاب في أول السورة للذين ألهاهم التكاثر عن المعاد فناسب أن يكون الخطاب في آخر السورة أيضا لهم. ويكون الغرض من السؤال التقريع حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه سببا للسعادة هو أعظم أسباب الشقاء لهم. الثاني العموم لوجوه منها خبر أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «أول ما يسأل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 556 عنه العبد يوم القيامة النعيم فيقال له ألم نصحح لك جسمك ألم نروك من الماء البارد» «1» . ومنها قول محمود بن لبيد: لمّا نزلت السورة قالوا: يا رسول الله إنما هو الماء والتمر وسيوفنا على عواتقنا والعدو حاضر فعن أي نعيم يسأل؟ فقال: أما إنه سيكون وعن أنس لما نزلت الآية قام محتاج فقال: هل علي من النعمة شيء؟ قال: الظل والنعلان والماء البارد. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به» «2» وعن الباقر رضي الله عنه أن النعيم العافية. وعنه أن الله أكرم من أن يطعم عبدا ويسقيه ثم يسأله عنه، وإنّما النعيم الذي عنه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أما سمعت قوله تعالى لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا [آل عمران: 164] وقيل: هو الزائد على الكفاية. وقيل: خمس نعم: شبع البطون وبارد الشراب ولذة النوم وإظلال المساكن واعتدال الخلق، وعن ابن مسعود: الأمن والصحة والفراغ، وعن ابن عباس: ملاذ المأكول والمشروب. وقيل: الانتفاع بالحواس السليمة. وعن الحسين بن الفضل: تخفيف الشرائع وتيسير القرآن. وقال ابن عمر: الماء البارد. والظاهر العموم لأجل لام الجنس إلا أن سؤال الكافر للتوبيخ لأنه عصى وكفر، وسؤال المؤمن للتشريف فإنه أطاع وشكر. والظاهر أن هذا السؤال في الموقف وهو متقدم على مشاهدة جهنم. ومعنى «ثم» الترتيب في الإخبار أي ثم أخبركم أنكم تسألون يوم القيامة عن النعيم. وقيل: هو في النار توبيخا لهم كقوله كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك: 8] وقوله ما سَلَكَكُمْ [المدثر: 42] ونحوه   (1) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة 102 باب 5. (2) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 1. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 557 (سورة العصر) (وهي مكية وقال المعدل وقتادة مدنية حروفها ثمانية وستون كلمها أربع عشرة آياتها ثلاث) [سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) الوقوف وَالْعَصْرِ هـ لا لَفِي خُسْرٍ هـ لا بِالصَّبْرِ هـ التفسير: لما بين في السورة المتقدمة أن الاشتغال بأمور الدنيا والتهالك عليها مذموم، أراد أن يبين في هذه السورة ما يجب الاشتغال به من الإيمان والأعمال الصالحات وهو حظ الآدمي من جهة الكمال ومن التواصي بالخيرات وكف النفس عن المناهي، وهو حظه من حيث الإكمال وأكد ما أراد بقوله وَالْعَصْرِ وللمفسرين فيه أقوال: الأول أنه الدهر لوجوه منها ما جاء في القراءة الشاذة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ «والعصر ونوائب الدهر» وحمله العلماء إن صح على التفسير لا على أنه من القرآن لهذا لا يجوز قراءته في الصلاة. ومنها أن الدهر يشتمل على الأعاجيب الدالة على كمال قدرة خالقها من تغاير الملل والدول وسائر الأحوال الكلية والجزئية، بل نفس الدهر من أعجب الأشياء لأنه موجود يشبه المعدوم ومتحرك يضاهي الساكن. وأرى الزمان سفينة تجري بنا ... نحو المنون ولا ترى حركاته ومنها أن عمر الإنسان كبعض منه قال: إذا ما مر يوم مر بعضي ... ولا شيء أنفس من العمر وفي تخصيص القسم به إشارة إلى أن الإنسان يضيف المكاره والنوائب إليه ويحيل شقاءه وخسرانه عليه فإقسام الله تعالى به دليل على شرفه وأن الشقاء والخسران إنما لزم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 558 الإنسان لعيب فيه لا في الدهر ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» «1» القول الثاني وهو قول مقاتل وأبي مسلم إن العصر هو آخر النهار أقسم الله به كما أقسم بالفجر والضحى لأن آخر النهار يشبه تخريب العالم وإماتة الأحياء كما أن أول النهار يشبه بعث الأموات وعمارة العالم، فعند ذلك إقامة الأسواق ونصب الموازين ووضع المعاملات، وفيه إشارة إلى أن عمر الدنيا ما بقي إلا بقدر ما بين العصر إلى المغرب فعلى الإنسان أن يشتغل بتجارة لا خسران فيها فإن الوقت قد ضاق وقد لا يمكن تدارك ما فات. وقال قتادة: إنه صلاة العصر لشرفها وفضلها ولهذا فسربها الصلاة الوسطى عند كثير وقد مر في «البقرة» وقيل: أقسم بعصر النبي صلى الله عليه وسلم أو بزمانه الذي هو عصر نهار الدنيا كما جاء في حديث طويل، وقد أقسم بمكانه في قوله لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد: 1] وبحياته في قوله لَعَمْرُكَ [الحجر: 72] وكل ذلك تشريف له وتوبيخ لمن لم يوقره حق توقيره أما اللام في الإنسان فإما المعهود معين كما روي عن ابن عباس أنه أراد جماعة من المشركين كالوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب. وعن مقاتل أنه أبو لهب. وفي خبر مرفوع أنه أبو جهل كانوا يقولون: إن محمدا لفي خسار فأقسم الله تعالى إن الأمر بالضد مما توهموه، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا. والأكثرون على أن اللام للجنس، ثم إن كان المراد بالخسر أي الخسران كالكفر والكفران هو الهلاك كان المراد جنس الإنسان على الإطلاق، وإن كان المعنى بالخسر الضلال والكفر كان المراد جنس الكافر هكذا قال بعضهم، ولقائل أن يمنع لفرق. ولا يخفى ما في «إن» ولام التأكيد وكلمة «في» وتنكير خسر من المبالغات فكأنه أثبت له جهات الخسر كلها والأعظم حرمانه عن جناب ربه. قال بعضهم: إن الإنسان لا ينفك من خسر لأن عمره رأس ماله، فإفناء العمر فيما يمكن أن يكون خيرا منه عبارة عن الخسران. ووجهه أنه إن أفنى عمره في المعصية فخسره وحسرته ظاهران، وإن كان مشغولا بالمباحات فكذلك لأنه يمكنه أن يعمل فيه عملا يبقى أثره ولذته دائما، وإن كان مشغولا بالطاعات فلا طاعة إلا ويمكن الإتيان بها على وجه أحسن لأن مراتب الخضوع والعبادة غير متناهية كما أن جلال الله وجماله ليس لهما نهاية. والتحقيق فيه أن الإنسان لا يكلف إلا ما هو وسعه وطوقه لا بالنسبة إلى نوعه بل بالنسبة إلى شخصه، فإذا اجتنب المعاصي بقدر الإمكان واستعمل المباح بمقدار الضرورة والحاجة وأتى بالطاعة على حسب إمكانه لم يسم خاسرا ولكنه يكون أكمل الأشخاص البشرية فلهذا استثناه الله تعالى بقوله إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا إلى آخره. وعن بعضهم أنه قال في «التين»   (1) رواه أحمد في مسنده (5/ 299، 311) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 559 لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التين: 4] فابتدأ من الكمال إلى النقصان وقال هاهنا لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا فعكس القضية لأن ذلك مذكور في أحوال البدن وهذا مذكور في أحوال النفس. قلت: يمكن أن يقال: إن كلتا الآيتين في شأن النفس إلا أنه أراد في «التين» ذكر استعداده الفطري وهو كرأس المال، وهاهنا أراد حكاية معاملته بعد ما أعطى رأس المال. ولا ريب أن أكثرهم منهمكون في طلب اللذات العاجلة المضيعة للاستعداد الأصلي إلا الموفقين الموصوفين بالكمال والإكمال، وفي إجمال الخسر وتسريحه إلى بقعة الإبهام، ثم في تفصيل الربح بأنه منوط بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق وبالصبر دليل على غاية الستر والكرم وأن رحمته سبقت غضبه، وفي لفظ التواصي دون الدعاء أو النصيحة تأكيد بليغ كأنه أمر مهتم به كالوصية، وفيه أنهم من الذين ماتوا بالإرادة عن الشهوات الفانية فيكون أمرهم ونصيحتهم بمنزلة قول من أشرف على الوفاة، والحق خلاف الباطل، ويشتمل جميع الخيرات وما يحق فعله. وقوله وبِالصَّبْرِ يشتمل على جميع المناهي فهم بالحقيقة آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، وفي لفظ المضي إشارة إلى تحقيق وقوعه منهم والله أعلم وبالله التوفيق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 560 (سورة الهمزة) (مكية حروفها مائة وثلاثة وثلاثون كلمها تسع وأربعون آياتها تسع) [سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) القراآت جمع بالتشديد: ابن عامر ويزيد وحمزة وعلي وخلف عمد بضمتين جمع عماد: حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل. الباقون: بفتحتين جمعا أو واحدا في معناه. الوقوف: لُمَزَةٍ هـ لا بناء على أن الَّذِي وصف ولو كان منصوبا على الذم أو مرفوعا على الذم فالوقف وَعَدَّدَهُ هـ لا أَخْلَدَهُ ج هـ إن وصل وقف على «كلا» الْحُطَمَةِ هـ ز الْحُطَمَةُ هـ ط الْمُوقَدَةُ هـ لا الْأَفْئِدَةِ هـ ج مُؤْصَدَةٌ هـ لا مُمَدَّدَةٍ هـ التفسير: لما ذكر حكم جنس الإنسان في خسرهم عقبه بمثال واحد. قال عطاء والكلبي: نزلت في الأخنس بن شريق كان يكسر من أعراض الناس ويكثر الطعن فيهم. والتركيب يدل على الكسر ومنه الهمز ومثله اللمز وهو العيب قال تعالى وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] وقال ابن زيد: الهمز باليد واللمز باللسان. وقال أبو العالية: الهمز بالمواجهة واللمز بظهر الغيب وقد يكون كل ذلك سرا بالحاجب أو العين. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة كانت عادته الغيبة والوقيعة. وبناء «فعلة» يدل على أن ذلك كان من عادته، وأما «فعلة» بسكون العين فهي للمفعول. وقال محمد بن إسحق: مازلنا نسمع أن السورة نزلت في أمية بن خلف. والمحققون على أن خصوص السبب لا ينافي عموم اللفظ، ويحتمل أن يكون اللفظ عاما ويدخل فيه شخص معين دخولا أوليا كما لو قال لك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 561 إنسان: لا أزورك أبدا فتقول: كل من لا يزورني لا أزوره تعريضا به، ومثله يسمى في أصول الفقه تخصيص العام بقرينة العرف. ولا يخفى أن الهمز واللمز من أقبح السير خاصة في حق من هو أجل منصبا وأعلى قدرا من كل المخلوقات وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فلا جرم أوعده بالويل وهو كلمة جامعة لكل شر ومكروه أو هو واد في جهنم وقد تقدم مرارا. ثم وصفه بقوله الَّذِي وكأنه سبب الهمز واللمز لأن الغنى يورث الإعجاب والكبر والتشديد في جمع للتكثير في المفعول ويؤيده تنكير مالًا وكذا التشديد في عَدَّدَهُ ولا يبعد أن يكون للتكثير في الفعل، ولا ريب أن عد المال من غير ضرورة وضبطه أزيد من المعتاد يوجب للنفس شغلا عن السعادات الباقية وحرصا على الزخارف الدنية وعلى التمتيع بتلك الأسباب ولهذا قال يَحْسَبُ أي طول المال أمله ومناه الأماني البعيدة حتى أصبح لفرط غفلته يحسب أن ماله يتركه خالدا في الدنيا. وقيل: عدده أي أمسكه وجعله عدة وذخيرة لحوادث الدهر. وقيل: أراد بقوله يَحْسَبُ تشييد البنيان وإحكامه بالجص والآجر غرس الأشجار وعمارة الأراضي عمل من يظن أن ماله أبقاه حيا، أو هو تعريض بالعمل الصالح المخلد لصاحبه الأجر الجزيل والثناء الجميل، وأما المال فبمعزل عن ذلك لأنه للحادث أو للوارث. وقيل: أحب المال حبا شديدا حتى اعتقد أنه إن انتقص مالي أموت فلذلك يحفظه عن النقصان ليبقى حيا وهذا غير بعيد من اعتقاد البخيل كَلَّا ردع له عن حسبانه أي ليس الأمر كما يظن هو أن المال مخلد بل المخلد هو العلم والعمل كما قال علي رضي الله عنه: مات خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر. عن الحسن أنه عاد موسرا فقال: ما تقول في ألوف لم أفتد بها من لئيم ولا تفضلت بها على كريم؟ قال: ولكن لماذا قال لنبوة الزمان وجفوة السلطان ونوائب الدهر ومخافة الفقر؟ قال: إذا تدعه لمن لا يحمدك وترد على من لا يعذرك. قوله لَيُنْبَذَنَّ جواب قسم محذوف أو جواب حقا لأنه في معنى القسم. والنبذ الطرح وفيه إشعار بإهانته. وفي قوله فِي الْحُطَمَةِ وهي النار التي من شأنها أن تحطم أي تكسر كل ما يلقى فيها إشارة إلى غاية تعذيبه. ويقال للرجل الأكول إنه لحطمة ووزنها «فعلة» كهمزة ولمزة فكأنه قيل له: كنت همزة لمزة فقابلناك بالحطمة. وأيضا في الحطم معنى الكسر والهماز اللماز يكسر الناس بالاغتياب والعيب أو يأكل لحمهم كما يأكل الرجل الأكول. ثم كأن قائلا سأل كيف قوبل الوصفان بوصف واحد؟ فقيل: إنك لا تعرف ذلك الواحد ما أدراك ما هذه الحطمة نارُ اللَّهِ هي إضافة تعظيم كبيت الله الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أي تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على جنانها وخباياها. ولا شيء في الإنسان ألطف منه ولا أشد تألما. ويجوز أن يكون في تخصيص الجزء: 6 ¦ الصفحة: 562 الأفئدة إشارة إلى زيادة تعذيب للقلب لأنه محل الكفر والعقائد الفاسدة. وعند أهل التأويل: إذا كانت النار أمرا معنويا فلا ريب أنه لا يتألم بها إلا الفؤاد الذي هو محل الإدراكات والعقائد. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن النار تأكل أهلها حتى إذا طلعت على أفئدتهم- أي تعلوها وتغلبها- انتهت ثم إن الله تعالى يعيد لحمهم وعظمهم مرة أخرى» والمؤصدة المطبقة الأبواب اصدت الباب وأوصدته لغتان. يوصد عليهم الأبواب ويمدد على الأبواب العمد استيثاقا في استيثاق. وجوز أن يراد أن أبواب النار عليهم مؤصدة حال كونهم موثقين في عمد مقطرة، والمقطرة خشبة فيها خروق يدخل فيها أرجل المحبوسين اللهم أجرنا منها. قال المبرد: والعمد بفتحتين جمع عمود على غير واحده وأما الجمع على واحده فالعمد بضمتين مثل زبور وزبر ورسول ورسل. قال الفراء: العماد والعمد كالإهاب والأهب فالتأنيث لأنه اسم جمع أو بتأويل الأسطوانة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 563 (سورة الفيل) (مكية حروفها ستة وتسعون كلمها ثلاث وعشرون آيها خمس) [سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) الوقوف الْفِيلِ هـ ط تَضْلِيلٍ هـ لا أَبابِيلَ هـ لا سِجِّيلٍ هـ لا مَأْكُولٍ هـ التفسير: روي أن أبرهة ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بني كنيسة بصنعاء وأراد أن يصرف إليها الحاج فخرج من كنانة فتغوط فيها ليلا فأغضبه ذلك. وقيل: أججت رفقة من العرب نارا فحملتها الريح فأحرقتها فحلف ليهدمنّ الكعبة، فخرج بجيشه ومعه فيل له اسمه محمود وكان قويا عظيما. وقيل: كان معه اثنا عشر فيلا غيره. وقيل: ألف فيل، فلما بلغ قريبا من مكة خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى وعبى جيشه وقدم الفيل، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول، فأرسل الله تعالى عليهم طيرا سودا أو خضرا أو بيضا أو بلقا كالخطاطيف على اختلاف الأقاويل مع كل طير حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة. قال ابن عباس: إني رأيت منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة محمرة كالجزع الظفاري، وكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره وعلى كل حجر اسم من يقع عليه، ففروا فهلكوا في كل طريق ومرض أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتا بين يديه. وعن عائشة رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان. قال أهل التاريخ: كان أبرهة جد النجاشي الذي عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بين عام الفيل وبين المبعث نيف وأربعون سنة، وكان قد بقي بمكة جمع شاهدوا تلك الواقعة وقد بلغت حد التواتر حينئذ فما ذاك إلا إرهاص للرسول صلى الله عليه وسلم. وزعمت المعتزلة أنها كانت معجزة لنبي قبله كخالد بن سنان أو قس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 564 ابن ساعدة. ويروى أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير فخرج إليه يطلبها وقيل لأبرهة: هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال. وكان عبد المطلب رجلا جسيما وسيما فعظم في عين أبرهة، فلما ذكر حاجته قال: سقطت من عيني جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك وعصمتكم وشرفكم من قديم الدهر فألهاك عنه ذود أخذ لك فقال: أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعه. ثم رجع وأتى باب البيت فأخذ بحلقته وهو يقول: لا هم أن المرء يم نع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدوا ومحالك الحلال جمع حل وهو الموضع الذي يحل فيه الناس والمحال المماكرة كقوله وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ [الرعد: 13] ثم قال: إن كنت تاركهم وكع ... بتنا فأمر ما بدا لك وقال أيضا: يا رب فامنع منهم حماكا ... يا رب لا أرجو لهم سواكا فالتفت فإذا هو بطير من نحو اليمن فقال: والله إنها لطير غريبة ما هي بنجدية ولا تهامية، فأهلكتهم كما ذكرنا. ثم إن أهل مكة قد احتووا على أموالهم وجمع عبد المطلب منها ما صار سبب يساره. وسئل أبو سعيد الخدري عن الطير فقال: حمام مكة منها. وقيل: جاءت عشية ثم صبحتهم هلكى. وعن عكرمة: من أصابته أصابه جدري وهو أول جدري ظهر في الأرض. ولنرجع إلى تفسير الألفاظ. وإنما لم يقل «ألم تعلم» إما لأن الخطاب لكل راء، أو لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم علما كالمشاهد المرئي لتواتره ولقرب عهده به. قال النحويون: قوله كَيْفَ مفعول فعل لأن الاستفهام يقتضي صدر الكلام فيقدم على فعله بالضرورة. ثم إن قوله أَلَمْ تَرَ وقع على مجموع تلك الجملة. وقال في الكشاف كَيْفَ في موضع نصب ب فَعَلَ رَبُّكَ لا ب أَلَمْ تَرَ لما في كَيْفَ من معنى الاستفهام. قلت: أما قول صاحب الكشاف ففي غاية الإجمال لأن المنصوبات بالفعل أنواع شتى. وأما قول غيره فقريب من الإجمال لأن المفاعيل خمسة، والقول المبين فيه أنه مفعول مطلق والمعنى فعل أي فعل يعني فعلا ذا عبرة لأولي الأبصار. وتقدير الكلام: ألم تر ربك أو إلى ربك كيف فعل بأصحاب الفيل فعلا كاملا في باب الاعتبار لأنه خلق الطيور وجعل طبع الفيل على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 565 خلاف ما كان عليه، واستجاب دعاء أهل الشرك تعظيما لبيته، وإن أريد بالفعل المفعول لم يبعد أن يكون مفعولا به كقولك «يفعل ما يشاء» . وفي قوله رَبُّكَ إشارة إلى أني ربيتك وحفظت البيت لشرف قومك وهم كفرة فكيف أترك تربيتك بعد ظهورك وإسلام أكثر قومك؟ وفي القصة إشارة إلى أني حفظت البيت وهو موضع العلم للعالم أفلا أحفظ العالم وهو من المسجد كالدر من الصدف؟ فمن أراد تخريب البيت وهدمه وكسره دمرته فالذي همزه ولمزه في العالم وهو المقصود من البيت أفلا أدمره؟ وهاهنا تظهر المناسبة بين هذه السورة والسورة المتقدمة وهذه القصة تجري مجرى مثال آخر لخسران الإنسان. قال بعضهم: إنما قال بِأَصْحابِ الْفِيلِ ولم يقل أرباب الفيل أو ملاك الفيل لأن الصاحب يكون من جنس القوم فكأنه أشار إلى أنهم من جنس البهائم بل هم أضل لأن الفيل كان لا يقصد البيت ويقول بلسان الحال: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وأنهم لم يفهموا رمزه سؤال، أليس أن كفار مكة ملؤا البيت من الأوثان؟ ألم يكن أفحش من تخريب الجدران؟ ثم إنه تعالى لم يسلط عليهم الطير؟ الجواب قال بعضهم: وضع الأوثان في البيت إضاعة حق الله وتخريب الجدران تعد على الخلق وإنه تعالى يقدم حق العباد على حق نفسه ولهذا أمر بقتل قاطع الطريق والقاتل وإن كانا مسلمين، ولا يأمر بقتل الشيخ الكبير والأعمى وصاحب الصومعة والمرأة وإن كانوا كفارا لأنهم لا يتعدى ضررهم إلى الخلق. وأقول: لا نسلم أنه تعالى لم يسلط على كفار مكة عذابه لأنه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتلهم وسبي ذراريهم ونسائهم، ثم فصل الفعل المذكور المتعجب منه بقوله أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ أي في تضييع وإبطال يقال: ضلل كيده إذا جعله ضالا ضائعا ومنه قولهم لامرئ القيس «الملك الضليل» لأنه ضلل ملك أبيه أي ضيعه. كادوا البيت أولا ببناء الكنيسة وصرف وجوه الحاج إليها فضلل الله كيدهم بأن أوقع الحريق فيه. وكادوه ثانيا بإرادة هدمه فضلل كيدهم بإرسال الطير عليهم. ومعنى أبابيل طرائق أي جماعات متفرقة الواحدة إبالة وفي أمثالهم «ضغت على إبالة» شبهت الطير في اجتماعها بالإبالة وهي الحزمة الكبيرة، قال أبو عبيدة: وقيل أبابيل مثل عباديد لا واحد لها، والعباديد الفرق الذاهبون في كل وجه قاله الأخفش والفراء. وقال الكسائي: سمعت بعضهم يقولون: واحدها أبول كعجول وعجاجيل. والتنكير في طَيْراً إما للتفخيم لأنها كانت طيرا أعاجيب أو للتحقير لأنها كانت صغار الجثة وهذا أدل على كمال القدرة. وذكروا في وصفها عن ابن مسعود وعن ابن عباس أنها كانت لها خراطيم كخراطيم الفيل وأكف كاكف الكلاب. وفي سِجِّيلٍ أقوال أحدها: أن اللام مبدلة من النون وأصله سجين وقد مر أنه علم لديوان الشر كأنه قيل: بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون. وجوز في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 566 الكشاف أن يكون اشتقاقه من الإسجال والإرسال لأن العذاب موصوف بذلك. وعن ابن عباس أنه معرب سنك كل وقيل: هو طين مطبوخ والعصف ورق الزرع الذي يبقى في الأرض بعد الحصاد تفتته الرياح وتأكله المواشي. وقال أبو مسلم: هو التبن كقوله وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ [الرحمن: 12] وقال الفراء: هو أطراف الزرع. وقيل: هو الحب الذي أكل لبه وبقي قشره، والمأكول الذي وقع فيه الأكال أي الدود ونحوه أي الذي أكلته الدواب وراثته إلا أنه جاء على آداب القرآن كقوله كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة: 75] قاله مقاتل وقتادة وعطاء عن ابن عباس. وقيل: مأكول حبه كما مر. وتشبيههم بورق الزرع المذكور إشارة إلى تدميرهم وتصييرهم أيادي سبا. قالوا: إن الحجاج خرب البيت ولم يحدث شيء من ذلك. وأجيب بأن قصده لم يكن تخريب الكعبة وإنما كان شيئا آخر. وأيضا كان إرسال الطير عليهم، إرهاصا للنبي صلى الله عليه وآله وبعد تقرير نبوته لم يكن افتقار إلى الإرهاص والله تعالى عالم بحقائق أحكامه وبه التوفيق وعليه التكلان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 567 (سورة الإيلاف) (مكية حروفها ثلاثة وسبعون آياتها أربع) كلمها سبع عشرة [سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) القراآت: لِإِيلافِ بتخفيف الهمزة: يزيد إلافهم بطرح الياء: يزيد لألاف بطرح الياء إِيلافِهِمْ بإثباتها: ابن عامر. الباقون: بإثبات الياء فيهما وحمزة يقف بتليين الهمزة وإلفهم بوزن العلم: ابن فليح الشِّتاءِ ممالة: قتيبة ونصير وهبيرة. الوقف قُرَيْشٍ هـ لا وَالصَّيْفِ هـ لا لاحتمال تعلق اللام بما قبلها وبما بعدها كما يجيءْبَيْتِ هـ لا مِنْ خَوْفٍ هـ التفسير: في هذه اللام ثلاثة أقوال: الأول أنها لا تتعلق بظاهر وإنما هي لام العجب يقولون «لزيد وما صنعنا به» أي أعجبوا له عجب الله تعالى من عظيم حلمه وكرمه بهم فأنهم كل يوم يزدادون جهلا وانغماسا في عبادة الأوثان والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم وينظم أسباب معاشهم، وهذا القول اختيار الكسائي والأخفش والفراء. والثاني أنها متعلقة بما بعدها وهو قول الخليل وسيبويه والتقدير: فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش أي ليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعمة واعترافا بها. وفي الكلام معنى الشرط وفائدة الفاء وتقديم الجار أن نعم الله تعالى لا تحصى فكأنه قيل: إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة، والقول الثالث أنها متعلقة بالسورة المتقدمة أي جعلهم كعصف مأكول لأجل إيلاف قريش، وهذا لا ينافي أن يكونوا قد أهلكوا لأجل كفرهم أيضا. ويجوز أن يكون الإهلاك لأجل الإيلاف فقط ويكون جزاء الكفر مؤخرا إلى يوم القيامة، ويجوز أن تكون هذه اللام لام العاقبة، ويحتمل أن تتعلق اللام بقوله فَعَلَ رَبُّكَ كأنّه قال: كل ما فعلنا بهم من تضليل كيدهم وإرسال الطير عليهم حتى تلاشوا إنما كان لأجل إيلاف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 568 قريش. ولا يبعد أن تكون اللام بمعنى «إلى» أي فعلنا كل ما فعلنا مضمومة إلى نعمة أخرى وهي إيلافهم الرحلتين تقول: نعمة إلى نعمة ونعمة لنعمة. قال الفراء: ومما يؤيد هذا القول الثالث ما روي أن أبي بن كعب جعلهما في مصحفه سورة واحدة بلا فصل. وعن عمر أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب من غير فصل بينهما بالبسملة. والمشهور المستفيض هو الفصل بينهما بالبسملة فإن لم تكن اللام متعلقة بما قبلها فلا إشكال، وإن تعلقت بما قبلها من السورة فالوجه فيه أن القرآن كله بمنزلة كلام واحد والفصل بين طائفة وطائفة منه لا يوجب انقطاع إحدى الطائفتين عن الأخرى بالكلية. ثم إن هؤلاء قالوا: لا شك أن مكة كانت خالية عن الزرع والضرع، وكان أشراف مكّة يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين ويأتون لأنفسهم ولأهل بلدهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب، وأن ملوك النواحي كانوا يعظمونهم ويقولون: هؤلاء جيران بيت الله وقطان حرمه فلا يجترئ أحد عليهم، فلو تم لأهل الحبشة ما عزموا عليهم من هدم الكعبة لزال منهم هذا العز فصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون ويغار عليهم ولا يتيسر لهم تجارة ولا ربح، فلما أهلك الله أصحاب الفيل ورد كيدهم في نحورهم ازداد وقع أهل مكة في القلوب واحترمهم الملوك فضل احترام وازدادت تلك المنافع والمتاجر. قال علماء اللغة: ألفت الشيء وآلفته إلفا وإيلافا بمعنى أي لزمته، وعلى هذا يكون قوله لِإِيلافِ قُرَيْشٍ من إضافة المصدر إلى الفاعل وترك مفعوله الأول. ثم جعل مقيدا ثانيا في قوله إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ إما لأن المقيد بدل من ذلك المطلق تفخيما لأمر الإيلاف وتذكيرا لعظيم المنة فيه، وإما لأن الأول عام في كل مؤانسة وموافقة كانت بينهم فيدخل فيه مقامهم وسفرهم وسائر أحوالهم. ثم خص إيلافهم الرحلة بالذكر كما في قوله جِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] لأنه قوام معاشهم. وفائدة ترك واو العطف التنبيه على أنه كل النعمة. والإلزام ضربان: إلزام بالتكليف والأمر، وإلزام بالمودة والمؤانسة، فإنه إذا أحب المرء شيئا لزمه لقوة الداعي إليه ومنه وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الفتح: 26] كما أن الالتجاء قد يكون لدفع الضرر كالهرب من السبع، وقد يكون لجلب النفع العظيم كمن وجد كنزا، ولا مانع من أخذه لا عقلا ولا شرعا ولا حسا فإنه يأخذه البتة كاللجأ. وقال الفراء وابن الأعرابي: الإيلاف التجهيز والتهيئة والمعنى لتجهيز قريش رحلتيها حتى تتصلا ولا تنقطعا. وعلى هذا القول يكون المصدر مضافا إلى الفاعل أيضا. وقيل: ألف كذا فلان لزمه وآلفه غيره إياه فيكون الإيلاف متعديا إلى اثنين، والإضافة في إِيلافِهِمْ إضافة المصدر إلى المفعول والمعنى إن هذه الألفة إنما حصلت في قريش بتدبير الله ولطفه وذلك بانهزام أصحاب الفيل، واتفقوا على أن قريشا ولد النضر بن كنانة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 569 عن معاوية أنه سأل ابن عباس بم سميت قريش؟ قال: بدابة البحر تأكل ولا تؤكل تعلو ولا تعلى وهي التي تعبث بالسفن ولا تنطلق إلا بالنار وأنشد: وقريش هي التي تسكن البح ... ر بها سميت قريش قريشا فالتصغير للتعظيم والدابة القرش. وقيل: القرش الكسب لأنهم كانوا أهل كسب وتجارة فسموا بذلك. وقال الليث: كانوا متفرقين في غير الحرم فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوها مسكنا فسموا قريشا لأن التقرش التجمع، وتقرش القوم اجتمعوا ولذلك سمي قصي مجمعا، قال بعضهم: أبوكم قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر وقيل: القرش التفتيش. قال ابن حلزة: أيها الشامت المقرش عنا ... عند عمر ووهل لذاك بقاء. وكانت قريش يتفحصون عن حال الفقراء ويسدّون خلة المحاويج. والرحلة اسم من الارتحال قال أكثر المفسرين: كانت لقريش رحلتان رحلة الشتاء إلى اليمن لأنه أدنى، ورحلة الصيف إلى الشام وكانت معايشهم قد استقرت على ذلك كما قررنا. وقال آخرون: الرحلتان رحلة الناس إلى أهل مكة. أما في رجب فللعمرة، وأما في ذي الحجة فللحج، وكانت إحداهما في الشتاء، والأخرى في الصيف وموسم منافع مكة يكون بهما. فلو كان تم لأصحاب الفيل ما أرادوه لتعطلت هذه المنفعة والتقدير: رحلتي الشتاء والصيف أو رحلة الشتاء ورحلة الصيف فاقتصر لعدم الإلباس. وفي قوله لْيَعْبُدُوا وجهان أحدهما: أن العبادة مأمور بها شكرا لما فعل بأعدائهم ولما حصل لهم من إيلافهم الذي صار سببا لطعامهم وأمنهم كما مر. وقوله مِنْ جُوعٍ كقولهم «سقاه من العيمة» وهي من التعليلية أي الجوع صار سببا للإطعام. وقوله مِنْ خَوْفٍ هي للتعدية يقال «آمنه الله الخوف ومن الخوف» . الوجه الثاني: أن معناه فليتركوا رحلة الشتاء والصيف وليشتغلوا بعبادة رب هذا البيت فإنه يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف. ولعل في تخصيص لفظ الرب إشارة إلى ما قالوه لأبرهة «إن للبيت ربا سيحفظه» ولم يعولوا في ذلك على الأصنام فلزمهم لإقرارهم أن لا يعبدوا سواه كأنه يقول: لما عولتم في الحفظ عليّ فاصرفوا العبادة إليّ. وفي الإطعام وجوه أحدها: ما مر. والثاني: قول مقاتل: شق عليهم الذهاب إلى اليمن والشام في الشتاء والصيف لطلب الرزق فقذف الله تعالى في قلوب الحبشة أن حملوا الطعام إلى مكة حتى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 570 خرجوا إليهم بالإبل والحمر واشتروا طعامهم من جدة على مسيرة ليلتين، وتتابع ذلك فكفاهم الله مؤنة الرحلتين. والثالث: قال الكلبي: معنى الآية أنهم لما كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. فاشتد عليهم القحط وأصابهم الجهد فقالوا: يا محمد ادع الله فإنّا مؤمنون فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخصب أهل مكة فذلك قوله أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ ووجه المنة بالإطعام مع أنه ليس من أصول النعم في الظاهر أنه سبب الفراغ للعبادة، وفيه أن البهيمة تطيع من يعلفها ولا يليق بالإنسان أن يكون دون الأنعام، على أنه يندرج في الإطعام النعم السابقة التي لا يحصل الغذاء إلا بعد وجودها كالأفلاك والعناصر وغيرها، والنعم اللاحقة التي لا يتم الانتفاع بالأكل إلا بها من القوى والآلات البدنية والخارجية. وفي قوله مِنْ جُوعٍ إشارة إلى أن فائدة الطعام والغاية منه سد الجوعة لا الإشباع التام. وأما الأمن فهو قصة أصحاب الفيل أو تعرض أهل النواحي لهم وكانوا بعد وقعة أصحاب الفيل يعظمونهم ولا يتعرّضون لهم. وقال الضحاك والربيع: آمنهم من خوف الجذام. وقيل: من أن تكون الخلافة في غيرهم وفيه تكلف. وقيل: أطعمهم من جوع الجهل بطعام الإسلام والوحي وآمنهم من خوف الضلال ببيان الهدى. وقيل: إشارة إلى ما دعا به إبراهيم عليه السلام في قوله رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [البقرة: 126] فأجاب الله تعالى بقوله وَمَنْ كَفَرَ [البقرة: 126] والتنكير في جُوعٍ وخَوْفٍ للتعظيم. وقد روي أنه أصابهم شدة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة، وأما الخوف فهو الخوف الشديد الحاصل من أصحاب الفيل. ويحتمل أن يكون المراد التقليل أي أطعمهم من جوع دون جوع ليكون الجوع الثاني والخوف الثاني مذكرا لما كانوا فيه أولا فيكونوا شاكرين تارة وصابرين أخرى فيستحقوا ثواب الخصلتين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 571 (سورة الماعون) (مكية وقيل مدنية حروفها مائة وخمسة عشر كلمها وعشرون آياتها سبع) [سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) الوقوف: بِالدِّينِ هـ ط لأن قوله فَذلِكَ كالجزاء لشرط محذوف أي إن لم تعرفه فهو فلان الْيَتِيمَ هـ لا الْمِسْكِينِ هـ ج لِلْمُصَلِّينَ هـ لا ساهُونَ هـ لا يُراؤُنَ هـ لا الْماعُونَ هـ التفسير: هذا مثال آخر لكون الإنسان في خسر. قال ابن جريج: نزلت في أبي سفيان كان ينحر جزورين في كل أسبوع فأتاه يتيم فسأله لحما فقرعه بعصاه. وقال مقاتل: نزلت في العاص بن وائل السهمي وكان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة والإتيان بالأفعال القبيحة. وعن السدي: نزلت في الوليد بن المغيرة وقيل: في أبي جهل. حكى الماوردي أنه كان وصيا ليتيم فجاءه وهو عريان أن يسأله شيئا من مال نفسه فدفعه ولم يعبأ به فأيس الصبي فقال له أكابر قريش استهزاء: قل لمحمد يشفع لك فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم والتمس منه الشفاعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد محتاجا فذهب معه إلى أبي جهل فقام أبو جهل ورحب به وبذل المال لليتيم فعيره قريش فقالوا: صبأت فقال: لا والله ما صبأت لكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة خفت إن لم أجبه يطعنها فيّ. وقال كثير من المفسرين: إنه عام لكل من كان مكذبا بيوم الدين والمعنى: هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو فإن لم تعرفه فهو الذي يدع اليتيم، وذلك لأن إقدام الإنسان على الطاعات وإحجامه عن المحظورات إنما يكون للرغبة في الثواب أو الرهبة من العقاب. فإذا كان منكرا للقيامة لم يترك شيئا من المشتهيات واللذات، فإنكار المعاد كالأصل لجميع أنواع الكفر والمعاصي، والغرض منه لتعجيب كقولك «أرأيت فلانا ماذا ارتكب» والخطاب لكل عاقل، أو للرسول صلى الله عليه وسلم. وقيل: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 572 الدين هاهنا هو الإسلام لأنه عند الإطلاق يقع عليه وسائر الأديان كلادين، أو يتناولها مع التقييد كقولك «دين النصارى أو اليهود» . والدع الدفع بالعنف كما مر في الطور ذكر شيئين من قبائح أفعال المكذب بالجزاء على سبيل التمثيل وسبب تخصيصهما أنهما منكران بحسب الشرع وبحسب العقل والمروءة أيضا. وفي لفظ يَدُعُّ بالتشديد رحمة من الله على عباده وإشارة إلى أنه إن صدر أدنى استخدام له أو شيء مما يكرهه الطبع دون الاستخفاف التام والزجر العنيف كان معفوا عند الله ولم يكتب في زمرة المكذبين بالدين، ولا سيما إذا كان بغير اختيار والحض الحث وقد مر في «الفجر» . ولما كان إيذاء اليتيم والمنع من الإطعام دليلا على النفاق فالصلاة لا مع الخشوع كانت أولى بأن تدل على النفاق قال فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ وجوز جار الله أن يكون فذلك عطفا على الذي يكذب إما عطف ذات على ذات، أو صفة على صفة، ويكون جواب أَرَأَيْتَ محذوفا لدلالة ما بعده عليه كأنه قيل: أخبرني ما تقول فيمن يكذب بالجزاء وفيمن يؤذي اليتيم ولا يطعم المسكين، أنعم ما يصنع أو أخبرني ما تقول في وصف هذين الشخصين أمرضيّ ذلك؟ ثم قال فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ أي إذا علم أنه مسيء فويل لهم، فوضع صفتهم موضع ضميرهم. وجمع لأن المراد بالذي هو الجنس ووجه الاتصال أنهم كانوا مع التكذيب وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين غير مزكين أموالهم. وفيه أنهم كما قصروا في شأن المخلوق حيث زجروا اليتيم ولم يحضوا على إطعام المسكين فقد قصروا في طاعة الخالق فما صلوا وما زكوا. والسهو عن الصلاة تركها رأسا أو فعلها مع قلة مبالاة بها كقوله وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى [النساء: 142] وهو قول سعد بن أبي وقاص ومسروق والحسن ومقاتل: وفائدة عن المفيدة للبعد والمجاوزة هذه. وأما السهو في الصلاة فذلك أمر غير اختياري فلا يدخل تحت التكليف، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم سها في الصلاة، وقد أثبت الفقهاء لسجود السهو بابا في كتبهم. وعن أنس: الحمد لله الذي لم يقر «في صلاتهم» ولعل في إضافة الصلاة إليهم إشارة إلى أن تلك الصلاة لا تليق إلا بهم لأنها كلا صلاة من حيث إنهم تركوا شرائطها وأركانها فلم يكن هناك إلا صورة صلاة صح باعتبارها إطلاق المصلين عليهم في الظاهر. ويجوز أن يطلق لفظ المصلين على تاركي الصلاة بناء على أنهم من جملة المكلفين بالصلاة ومعنى المفاعلة في المرآة أن المرائي يرى الناس عمله وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به وقد مر في قوله رِئاءَ النَّاسِ [النساء: 142] ويُراؤُنَ النَّاسَ [البقرة: 264] ولا بأس بالإراءة إذا كان الغرض الاقتداء أو نفي التهمة واجتناب الرياء صعب إلا على من راض نفسه وحملها على الإخلاص ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 573 المظلمة على المسح الأسود» «1» وفي الْماعُونَ أقوال: فأكثر المفسرين على أنه اسم جامع لما لا يمنع في العادة ويسأله الفقير والغني في أغلب الأحوال ولا ينسب سائله إلى لؤم بل ينسب مانعه إلى اللؤم والبخل كالفأس والقدر والدلو والمقدحة والغربال والقدوم، ويدخل فيه الماء والملح والنار لما روي «ثلاثة لا يحل منعها الماء والنار والملح» «2» ومن ذلك أن يلتمس جارك الخبز في تنورك أو أن يضع متاعه عندك يوما أو نصف يوم. قالوا: هو «فاعول» من المعن وهو الشيء القليل ولا منه ماله سعنة ومعنة أي كثير وقليل. وقد تسمى الزكاة ماعونا لأنه يؤخذ من المال ربع العشر وهو قليل من كثير. قال العلماء: ومن الفضائل أن يستكثر الرجل في منزله مما يحتاج إليه الجيران فيعيرهم ذلك ولا يقتصر على قدر الضرورة، وقد يكون منع هذه الأشياء محظورا في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار. وعن أبي بكر وعلي رضي الله عنهم وابن عباس وابن الحنيفة وابن عمرو الحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والضحاك: هو الزكاة لأنه تعالى ذكرها عقيب الصلاة. وقال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الماعون هو الماء ولعله خص بالذكر لأنه أعز مفقود وأرخص موجود وأول آلام أهل النار أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ [الأعراف: 50] وأول لذات أهل الجنة وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً [الدهر: 21] وقيل: هو حسن الانقياد والطاعة. وفي الآيتين إشارة إلى أن الصلاة لي والماعون للخلق، فالذي يحب أن يفعل لأجلي يرونه الناس والذي هو حق الخلق يمنعونه منهم فلا يراعون جانب التعظيم لأمر الله ولا جانب الشفقة على خلق الله وهذه كمال الشقاوة نعوذ بالله منها والله تعالى أعلم.   (1) رواه أحمد في مسنده (4/ 403) . (2) رواه ابن ماجه في كتاب الرهون باب 16. بلفظ «الكلا» بدل «الملح» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 574 (سورة الكوثر) (مكية وعن قتادة مدنية حروفها اثنان وأربعون كلمها عشر آياتها ثلاث) [سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) القراآت شانِئَكَ بالياء: يزيد والشموني وحمزة في الوقف. وقرأ قتيبة ونصير مهموزا ممالة. الوقوف الْكَوْثَرَ هـ ط وَانْحَرْ هـ ط الْأَبْتَرُ هـ التفسير: هذه السورة كالمقابلة للسورة المتقدمة، لأن تلك مثال لكون الإنسان في خسر، وهذه للمستثنين منهم بل لأشرفهم وأفضلهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم بل له ولشانيه، فكأنها مثال للفريقين جميعا. هذا وجه إجمالي وأما الوجه التفصيلي فقوله إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي الخير الكثير وقع في مقابلة الدع والمنع من الإطعام وقوله فَصَلِّ أي دم على الصلاة وقع بإزاء قوله عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون: 5] وقوله لِرَبِّكَ مكان قوله يُراؤُنَ [الماعون: 6] وقوله وَانْحَرْ والمراد به التصدق بلحوم الأضاحي بحذاء قوله وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ [الماعون: 7] ثم ختم السورة بقوله إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أي الذي تضاد طريقته طريقتك سيزول عنه ما يفتخر به من المال والجاه والأحساب والأنساب ويبقى لك ولمتابعيك الذكر الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى، بل يدوم لك النسب الصوري بسبب أولادك الشرفاء والنسب المعنوي بواسطة أتباعك العلماء، ثم في الآية أصناف من المبالغة منها: التصدير ب «إن» ومنها الجمع المفيد للتعظيم، ومنها لفظ الإعطاء دون الإيتاء ففي الإعطاء دليل التمليك دون الإيتاء ولهذا حين قال وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 7] كان أمته مشاركين له في فوائدها ولم يكن له منعهم منها. ومنها صيغة المضي الدالة على التحقيق في وعد الله تعالى كما هي عادة القرآن، ومنها لفظ الكوثر وهو مبالغة في الكثرة بزيادة الواو كجدول فيشمل خيرات الدنيا والآخرة، إلا أن أكثر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 575 المفسرين خصوه فحملوه على أنه اسم نهر في الجنة. عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم «رأيت نهرا في الجنة حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا أنا بمسك أذفر فقلت: ما هذا؟ فقيل: هو الكوثر الذي أعطاك الله» وفي رواية «ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فيه طيور خضر لها أعناق كأعناق البخت من أكل من ذلك الطير وشرب من ذلك الماء فاز بالرضوان» قال أهل المعنى: ولعله إنما سمى كوثرا لأنه أكثر أنهار الجنة ماء وخيرا، أو لأن أنهار الجنة تتفجر منه كما روي أنه ما في الجنة بستان إلا وفيه من الكوثر نهر جار أو لكثرة شاربيه. وقد يقال: إن الكوثر حوض في الجنة على ما ورد في الأخبار فلعل منبعه حوض ومنه تسيل الأنهار، والقول الثالث أن الكوثر أولاده لأن هذه السورة نزلت ردا على من زعم أنه الأبتر كما يجيء والمعنى أنه يعطيه بفاطمة نسلا يبقون على مر الزمان. فانظر كم قتل من أهل البيت ثم العالم مملوء منهم، ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به، والعلماء الأكابر منهم لا حد ولا حصر لهم. منهم الباقر والصادق والكاظم والرضي والتقي والنقي والزكي وغيرهم. القول الرابع: الكوثر علماء أمته لأنهم كأنبياء بني إسرائيل واختلافهم في فروع الشريعة رحمة كما كان اختلاف الأنبياء في الفروع رحمة مع اتفاقهم على الأصول فالتوحيد والنبوة والمعاد كأصول الشجرة وأديان الأنبياء كشعبها الكبار، والمذاهب كالأغصان المتفرعة عن الشعب. الخامس: الكوثر النبوة ولا يخفى ما فيها من الخير الكثير لأنها ثانية رتبة الربوبية ولهذا كانت طاعة الرسول طاعة الله ثم لرسولنا الحظ الأوفر من هذه الفضيلة لأنه المذكور قبل سائر الأنبياء والمبعوث بعدهم، ثم هو مبعوث إلى الثقلين ولن يصير شرعه منسوخا وله كل معجزة كانت لغيره من الأنبياء المشهورين، وكتاب آدم كان كلمات كما قال فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [البقرة: 37] وكتاب ابراهيم وموسى كان كلمات وصحفا وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ [البقرة: 124] وصُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الأعلى: 19] وكتاب محمد صلى الله عليه وسلم مهيمن على الكل كما قال وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: 48] وإن آدم عليه السلام تحدى بالكلمات والأسماء أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [البقرة: 31] ومحمد صلى الله عليه وسلم إنما تحدى بالمنظوم قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء: 88] الآية. وأما نوح عليه السلام فإن الله أكرمه بأن أمسك سفينته على الماء، وفي حق محمد صلى الله عليه وسلم وقف الحجر على الماء. وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان على شط ماء ومعه عكرمة بن أبي جهل فقال: إن كنت صادقا فادع ذلك الحجر الذي هو في الجانب فليسبح ولا يغرق، فأشار الرسول صلى الله عليه وسلم إليه فانقلع الحجر من مكانه وسبح حتى صار بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وشهد له بالرسالة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يكفيك هذا؟ قال: حتى يرجع إلى مكانه. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فرجع إلى مكانه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 576 وأكرم إبراهيم فجعل النار بردا وسلاما عليه. وروى محمد بن حاطب قال: كنت طفلا فانصب القدر من على النار علي فاحترق جلدي كله فحملتني أمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: هذا ابن حاطب احترق كما ترى، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم على جلدي ومسح بيده على المحترق منه وقال صلى الله عليه وسلم: أذهب البأس رب الناس. فصرت صحيحا لا بأس بي. وأكرم موسى بفلق البحر في الأرض وأكرم محمدا صلى الله عليه وسلم ففلق له القمر فوق السماء، وفجر له الماء من الحجر، وفجر لمحمد صلى الله عليه وسلم أصابعه عيونا، وأكرم موسى بتظليل الغمام في زمان نبوته، وأكرم محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك قبل ظهور نبوته، أكرم موسى عليه السلام باليد البيضاء وأكرم محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن العظيم الذي هو نور من الله برهان. وقلب الله عصى موسى ثعبانا. ولما أراد أبو جهل أن يرميه بالحجر رأى على كتفيه ثعبانين فانصرف مرعوبا. وسبحت الجبال مع داود عليه السلام وسبحت الأحجار في يده ويد أصحابه. وكان داود عليه السلام إذا مسح الحديد لان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حين مسح الشاة الجدباء درت. وأكرم داود بالطير المحشورة ومحمد صلى الله عليه وسلم بالبراق، وأكرم عيسى بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. وأكرمه صلى الله عليه وسلم بإحياء الشاة المسمومة وبتكلمها أنها مسمومة. وروي أن معاذ بن عفراء كانت له امرأة برصاء فشكت ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فمسح عليها بغصن فأذهب الله عنها البرص، وحين سقطت حدقة رجل يوم أحد رفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها إلى مكانها. وكان عيسى يخبر بما في بيوت الناس والرسول صلى الله عليه وسلم عرف ما أخفته أم الفضل فأسلم العباس لذلك، ورد الشمس لسليمان مرة والرسول كان نائما ورأسه في حجر علي عليه السلام فانتبه وقد غربت الشمس فردّها حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردها مرة أخرى لعلي عليه السلام فصلى العصر لوقته. وعلم سليمان منطق الطير وفعل ذلك في حق محمد صلى الله عليه وسلم، روي أن طائرا فجع بولده فجعل يرفرف على رأسه ويكلمه فقال: أيكم فجع هذه بولدها؟ فقال رجل: أنا فقال: أردد ولدها، وكلام الذئب والناقة معه مشهور. وأكرم سليمان بمسير غدو شهر وأكرمه بالمسير إلى بيت المقدس في ساعة، وكان له صلى الله عليه وسلم يعفور يرسله إلى من يريد فيجيء به. وأرسل معاذا إلى بعض النواحي فلما وصل إلى المفازة فإذا أسد جاث فهاله ذلك ولم يستجرئ أن يرجع فتقدم وقال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبصبص، وكما انقاد الجن لسليمان انقادوا لمحمد صلى الله عليه وسلم. وحين جاء الأعرابي بالضب تكلم الضب معترفا برسالته، وحين كفل الظبية حتى أرسلها الأعرابي رجعت تعدو حتى أخرجته من الكفالة، وحين لسعت الحية عقب الصديق في الغار قالت: كنت مشتاقة إليه. منذ كذا سنين فلم حجبتني عنه. وأطعم الخلق الكثير من الطعام القليل. ومعجزاته صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى خصوصا في هذا المقام فثبت صحة قوله إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قيل: هو القرآن لأن فوائده عديد الحصى. وقيل: الإسلام أو الشفاعة أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 577 رفع الذكر أو العلم وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء: 113] أو الخلق الحسن وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] وقد يقال: إن هذه السورة مع قصرها معجزة من وجوه لما فيها من الإخبار بالغيوب وهو الوعد بكثرة الأتباع والأولاد وزوال الفقر حتى نحر مائة بدنة في يوم واحد وقد وقع مطابقا، ولأنهم عجزوا عن معارضتها مع قصرها فإنها أقصر سورة من القرآن. قوله فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ في الصلاة أقوال: فعن مجاهد وعكرمة معناه اشكر لربك، وفائدة الفاء أن شكر النعمة يجب على الفور لا على التراخي، وقيل: هي الدعاء كأنه قال: قبل سؤالك ودعائك ما بخلنا عليك بالكوثر فكيف بعد سؤالك فسل تعط واشفع تشفع وذلك أنه أبدا كان في هم أمته. والأقرب وعليه الأكثرون أنها الصلاة ذات الهيئات والأركان لأنها مشتملة على الدعاء والشكر وعلى سائر المعاني المنبئة عن التواضع والخدمة، ولأن حمله على الشكر يوهم أنه ما كان شاكرا قبل ذلك لكنه كان من أول أمره مطيعا لربه شاكرا لنعمه. أما الصلاة فإنه إنما عرفها بالوحي، يروى أنه حين أمر بالصلاة قال: كيف أصلي ولست على وضوء؟ فقال الله: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ وضرب جبرائيل بجناحه على الأرض فنبع ماء الكوثر فتوضا فقيل له عند ذلك فَصَلِ وإن حمل الكوثر على الرسالة فكأنه قال: أعطيتك الرسالة لتأمر نفسك وسائر الخلق بالطاعات فَصَلِّ وفي قوله لِرَبِّكَ إشارة إلى وجوب الأضحى مخالفة عبدة الأوثان. وإنما لم يقل لنا سلوكا لطريقة الالتفات وإفادة لنوع من التعظيم كقول الخلفاء «يرسم أمير المؤمنين كذا» ولأن الجمعية في هذا المقام توهم الاشتراك والعدول إلى الوحدة لوقال «لي» انقطع النظم، ولأنه يفيد أن سبب العبادة هو التربية، ثم الذين فسروا الصلاة بما عرف في الشرع اختلفوا فالأكثرون على أنها جنس الصلاة لإطلاق اللفظ، وإنما لم يذكر الكيفية لأنها كانت معلومة قبل ذلك. وقال الآخرون: إنها صلاة عيد الأضحى لاقترانها بقوله وَانْحَرْ وكانوا يقدمون الأضحية على الصلاة فأمروا بتأخيرها عنها. والواو تفيد الترتيب استحسانا وأدبا وإن لم تفده قطعا. وقال سعيد بن جبير: صل الفجر بالمزدلفة وانحر بمنى والمناسبة بين نحر البدن وبين جنس الصلاة أن المشركين كانت صلاتهم وقرا بينهم للأصنام فأمر صلى الله عليه وسلم بأن تكون صلاته وقربانه لله تعالى، وكان النحر واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم «ثلاث كتبن عليّ ولم تكتب على أمتي. الضحى والأضحى والوتر» . وإنما لم يقل ضح وإن كان أشمل لأن أعز الأموال عند العرب هو الإبل فأمر بنحرها وصرفها إلى طاعة الله ففي ذلك قطع العلائق الجسمانية ورفع العوائق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 578 النفسانية. يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب، فنحرها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعيا صلى الله عليه وسلم، ثم أمر عليا بذلك وكانت النوق يزدحمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أخذ علي عليه السلام السكين تباعدت منه عليه السلام، قال عامة أهل التفسير كابن عباس ومقاتل والكلبي: إن العاص بن وائل وجمعا من صناديد قريش يقولون: إن محمدا أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده، فإذا مات انقطع ذكره واسترحنا منه، وكان قد مات ابنه عبد الله ابن خديجة فأنزل الله تعالى هذه السورة كما مر في أول «المائدة» . والشنء البغض والشانئ المبغض والبتر في اللغة استئصال القطع ومنه الأبتر المقطوع الذنب، فاستعير للذي لا عقب له ولمن انقطع خبره وذكره، فبين الله تعالى بهذه الصيغة المفيدة للحصر أن أولئك الكفرة هم الذين ينقطع نسلهم وذكرهم، وأن نسل محمد صلى الله عليه وسلم ثابت باق الى يوم القيامة كما أخبر بقوله «كل حسب ونسب ينقطع إلا حسبي ونسبي» وإن دين الإسلام لا يزال يعلو ويزيد والكفر يعلى ويقهر إلى أن يبلغ الدين مشارق الأرض ومغاربها كما قال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرعد: 41] قال بعض أهل العلم: إن الكفار لما شتموه بأنه أبتر أجاب الله عنه من غير واسطة فقال إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وهكذا سنة الأحباب إذا سمعوا من يشتم حبيبهم تولوا بأنفسهم جوابه، ونظيره في القرآن كثير قالوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ إلى قوله أَمْ بِهِ جِنَّةٌ فقال سبحانه بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ [سبأ: 7، 8] وقالوا هو مجنون فأقسم الله ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 1، 2] وقالوا لست مرسلا فقال يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يس: 1، 3] وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات: 36] فرد عليهم بقوله بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 36] ثم ذكر وعيد خصمائه بقوله إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ [الصافات: 38] وحين قال حاكيا أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ [الطور: 30] قال وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [يس: 69] وقالوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان: 4] فأجابهم بقوله فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً [الفرقان: 4] وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الفرقان: 5، 6] فقال قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ [الفرقان: 5، 6] وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: 7] فأجابهم بقوله وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: 20] فما أجل هذه الكرامة! وقال أهل التحقيق السالكون: بل الواصلون لهم ثلاث درجات أعلاها أن يكونوا مستغرقين بقلوبهم وأرواحهم في نور جلال الله وأشار إليها بقوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 579 إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فإن روحه القدسية متميزة في الكثرة عن سائر الأرواح البشرية بالكم لأنها أكثر مقدمات، وبالكيف لأنها أسرع انتقالا من المقدمات إلى النتائج. وأوسطها أن يكونوا مشتغلين بالطاعات والعبادات البدنية وأشار إليها بقوله فَصَلِّ لِرَبِّكَ وأدناها أن يكونوا في مقام منع النفس عن الانتصاب إلى اللذات العاجلة وهي قوله وَانْحَرْ فإن منع النفس الشهوية جارية مجرى الذبح والنحر. ومن البيان أن ترتيب السالك هو الأخذ من الأدون إلى الأعلى، وإنما ورد القرآن بما ورد تنبيها على أنه صلى الله عليه وسلم كان في نهاية الوصول. وأن هذا الترتيب بالنسبة إليه ينعكس وذلك أنه جاء من الحق إلى الخلق. ثم أشار بقوله إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ إلى أن دواعي النفس التي هي أعدى الأعداء لا بقاء لها، وإنما هي لذات زائلة وتخيلات فانية وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف: 46] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 580 (سورة الكافرون) (مكية حروفها أربعة وتسعون كلمها ست وعشرون آياتها ست) [سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) القراآت عابِدُونَ وما بعده بالإمالة قتيبة والحلواني عن هشام ولي الدين بالفتح: نافع غير إسماعيل وحفص والمفضل وهشام وزمعة عن ابن كثير وديني بالإسكان في الحالين: يعقوب وأفق سهل وعباس في الوصل. الوقوف: الْكافِرُونَ هـ لا ما تَعْبُدُونَ هـ لا أَعْبُدُ هـ ج للتكرار مع العطف عَبَدْتُّمْ هـ لا أَعْبُدُ هـ ط دِينِ هـ. التفسير: هذه السورة تسمى أيضا سورة المنابذة وسورة الإخلاص والمقشقشة. وروي «من قرأها فكأنما قرأ ربع القرآن» «1» فأوّلها العلماء بأن القرآن فيه مأمورات ومنهيات، وكل منهما إمّا أن يتعلق بالقلب والجوارح، وإما أن يتعلق بالجوارح، وهذه السورة تتضمن القسم الثالث أعني النهي المتعلق بالقلب فكانت ربعا لما يتعلق بالتكاليف من القرآن بل ربعا للقرآن لأن المقصود الأصلي من المواعظ والقصص وغيرها هو التزام التكاليف كما قال سبحانه وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] يروى أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأمية بن خلف قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تعال حتى نعبد إلهك مدّة وتعبد إلهنا مدّة فيحصل الصلح بيننا وبينك وتزول العداوة من بيننا، فإن كان أمرك رشيدا أخذنا منه حظا، وإن كان أمرنا رشيدا أخذت منه حظا فنزلت هذه السورة ونزل قوله قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: 64] فتارة وصفهم بالجهل وتارة خاطبهم بالكفر، فالجهل كالشجرة والكفر كالثمرة، ولكن الكفر أشنع من   (1) رواه أحمد في مسنده (3/ 147، 221) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 581 الجهل، فقد يكون الجهل غير ضارّ كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال في علم الأنساب «علم لا ينفع ولا يضر» ولهذا خصت السورة بهذا الخطاب لأنها بأسرها فيهم. وروي عن علي عليه السلام أن «يا» نداء النفس و «أي» نداء القلب و «ها» نداء الروح. وبوجه آخر «يا» للغائب و «أي» للحاضر و «ها» للتنبيه. كان الله تعالى يقول أدعوك ثلاثا ولا تجيبني مرة ما هذا إلا لجهلك بحقي. ثم الخطاب مع جميع الكفار أو مع بعضهم، وعلى الأول يدخله التخصيص لا محالة لأن فيهم من يعبد الله كأهل الكتاب فلا يجوز أن يقول لهم لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وفيهم من آمن بعد ذلك فلا يجوز أن يخبر عنهم بقوله وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وعلى الثاني يكون خطابا لبعض الكفرة المعهودين الحاضرين وهو الذين قالوا نعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة، ولا يلزم التخصيص فيكون أولى. أما ظاهر التكرار الذي وقع في هذه السورة ففيه قولان: أحدهما أنه للتأكيد وأىّ موضع أحوج إلى التأكيد من هذا المقام فإنهم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما طلبوا منه مرارا، وسكت الرسول صلى الله عليه وسلم عن الجواب فوقع في قلوبهم أنه قد مال إلى دينهم بعض الميل. وروي أنهم ذكروا قولهم تعبد إلهنا مدة ونعبد إلهك مدة مرتين، فأجيبوا مكررا على وفق قولهم وهو نوع من التهكم فإن من كرر الكلمة الواحدة لغرض فاسد قد يجاب عنه بنفيه مكررا للاستخفاف وحسم مادة الطمع. القول الثاني: إن الأول للمستقبل وعلامته لا التي هي للاستقبال بدليل أن «لن» نفي للاستقبال على سبيل التوكيد أو التأبيد. وزعم الخليل أن أصله «لا أن» والثاني للحال والمعنى لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي. ثم قال وَلا أَنا عابِدٌ في الحال ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ في الحال بعابدين لمعبودي. وعلى هذا القول زعم بعضهم أن الأمر بالعكس إذ الترتيب أن ينفى الحال أوّلا ثم الاستقبال، وللأولين أن يجيبوا بأنهم إنما دعوه إلى عبادة غير الله في الاستقبال فكان الابتداء به أهم. وفائدة الإخبار عن الحال وكان معلوما أنه ما كان يعبد الصنم والكفار كانوا يعبدون الله في بعض الأحوال هي أن لا يتوهم أحد أنه يعبد غير الله سرا خوفا أو طمعا، وعبادة الكفار لم تكن معتدّا بها لأجل الشرك. ولأبي مسلم قول ثالث وهو أن ما في الأولين بمعنى الذي، وأما في الآخرين فمصدرية أي ولا أنا عابد عبادتكم المبنية على الإشراك، ولا أنتم عابدون عبادتي المبنية على اليقين. ووجه رابع وهو أن يحمل الأول على نفي الالتماس الصادر عنهم، والآخر على النفي المطلق العام المتناول لجميع الجهات كمن يدعو غيره إلى الظلم لغرض التنعم فيقول: لا أظلم لغرض التنعم بل لا أظلم رأسا لا لهذا الغرض ولا لسائر الأغراض. قوله ما تَعْبُدُونَ ليس فيه إشكال إنما الإشكال فى قوله ما أَعْبُدُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 582 فأجيب بعد تسليم أن «ما» ليست أعم بأن المراد به الصفة كأنه قيل: لا أعبد الباطل ولكن أعبد الحق، أو هي «ما» المصدرية على نحو ما مر، أو هي للطباق كقوله وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ [الشورى: 40] فإن قيل: لما كان المقام مقام التأكيد والمبالغة ولهذا كرر ما كرر فلم لم يقل «لن أعبد» كما قال أصحاب الكهف لن ندعو من دونه إلها [الكهف: 14] قلت: إن أصحاب الكهف كانوا متهمين بعبادة الأصنام لأنه قد وجد منهم ذلك قبل أن أرشدهم الله، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن متهما بذلك قط فلم يحتج إلى المبالغة ب «لن» . ثم أوّل السورة لما اشتمل على التشديد البليغ وهو النداء بالكفر والتكرير فاشتمل آخرها على اللطف من بعض الوجوه كأنه قال: قد بالغت في منعكم من هذا الأمر القبيح فإن لم تقبلوا قولي فاتركوني سواء بسواء. قال ابن عباس: لكم كفركم بالله ولي التوحيد والإخلاص. ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن السورة منسوخة بآية القتال. والمحققون على أنه لا نسخ بل المراد التهديد كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 40] وقيل: الدين الجزاء. وقيل: المضاف محذوف أي لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني. وقيل: الدين العبادة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 583 (سورة النصر) (مدنية وقيل مكية حروفها تسعة وتسعون كلمها تسع وعشرون آياتها ثلاث) [سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) الوقوف: وَالْفَتْحُ هـ أَفْواجاً هـ لا وَاسْتَغْفِرْهُ ط تَوَّاباً هـ. التفسير: السورة المتقدمة اشتملت على نصرة الله بقوله يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] وعلى فتح مكة القلب بعسكر التوحيد، وعلى تسخير جميع القوى البدنية في طاعة خالقها بقوّة البراءة عن الأديان الباطلة كلها فقال الله سبحانه: نصرتني بلسانك فكان جزاؤه إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ فتح مكة في الظاهر وسخرت قواك لطاعتي فجازيناك بدخول الناس في دين الله أفواجا. ثم إنه قابل هذه الخلع الثلاث بحكم تهادوا تحابوا بثلاثة أنواع من العبودية إن نصرتك فسبح تنزيها لفعلي عن مشابهة المحدثات وتنبيها على أن لا يستحق أحد عليّ شيء، وإذا فتحت مكة فاحمد لأن النعمة يجب مقابلتها بالحمد، وإذا رأيت الناس قد أطاعوك فاستغفر لذنبك وهو الاشتغال بما عسى أن يقع من لذة الجاه والقبول وللمؤمنين والمؤمنات، لأنهم كلما كانوا أكثر كانت ذنوبهم أكثر وكان احتياجهم إلى الاستغفار أشد. وقوله إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ معناه لا تذهب إلى النصر بل النصر يجيء إليك نظيره «زويت لي الأرض» يعني لا تذهب إلى الأرض بل تجيء الأرض إليك، ولا ترحل إلا إلى مقام قاب قوسين سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] بل أزيد على هذا فأفضل فقراء أمتك على أغنيائهم ثم آمر الأغنياء بالضحايا ليتخذوها مطايا، فإذا بقي الفقراء من غير مطية أسوق الجنة إليهم وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق: 31] وإنما قال في السورة المتقدّمة ما أَعْبُدُ [الكافرون: 3] وهاهنا قال نَصْرُ اللَّهِ إشارة إلى أنه يجب أن لا يذكر اسمي مع الأعداء حتى لا يهينوه ولكن اذكر اسمي مع الأحباب حتى يكرموه. والفرق بين النصر والفتح أن النصر أي الإعانة على تحصيل المطلوب هو الطريق، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 584 والفتح هو المقصود، ولهذا قدم الأول على الثاني. وقيل: النصر كمال الدين والفتح الإقبال الدنيوي له ولأمته كقوله أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] وقيل: النصر هو الظفر على المنى في الدنيا والفتح في الآخرة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا منصورا بالدلائل والمعجزات إلا أن الغلبة على قريش بل على أكثر العرب لما حصلت في هذا التاريخ صح التقييد به. ثم إن جمهور المفسرين ومنهم ابن عباس ذكروا أن الفتح هو فتح مكة الذي يقال له فتح الفتوح. يروى أن فتح مكة كان سنة ثمان ونزول السورة سنة عشر ولم يعش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها إلا سبعين يوما ولذلك تسمى سورة التوديع، وقد اتفق أكثر الصحابة على أنها دلت على نعي الرسول صلى الله عليه وسلم وفهمه بعض الصحابة منها، وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها فقال: إن عبدا خيرّه الله بين الدنيا وبين لقائه في الآخرة فاختار لقاء الله. قالوا: ومما يدل عليه أنه ذكر مقرونا بالنصرة وقد كان يجد النصر دون الفتح كبدر، والفتح دون النصر كإجلاء بني النضير فإنه فتح البلد لكن لم يأخذ القوم. أما يوم فتح مكة فاجتمع له الأمران، وصار الخلق له كالأرقاء حتى أعتقهم وذلك أنه صلى الله عليه وسلم وقف على باب المسجد وقال: لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. ثم قال: يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم؟ فقالوا: خير، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. فسموا بذلك. وقيل: فتح خيبر. وقيل: فتح الطائف. وعن أبي مسلم: النصر على الكفار وفتح بلاد الشرك على الإطلاق. وقيل: انشراح الصدر للخيرات والأعمال الفاضلة، والفتح انفتاح أبواب المعارف والكشوف. أما الذين قالوا إن الفتح فتح مكة وكان نزول السورة قبله على ما يدل عليه ظاهر صيغة إذا فالآية من جملة المعجزات لأنها إخبار بالغيب وقد وقع. واللام في الفتح بدل من الإضافة كأنه قيل: وفتح الله. قوله وَرَأَيْتَ ظاهره أنها رؤية القلب، وجوز أن تكون رؤية البصر فيكون يَدْخُلُونَ حالا. وظاهر لفظ الناس يقتضي العموم فيجب أن يقدر غيرهم كالنسناس بدليل قوله أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ [الأعراف: 179] وسئل الحسن بن عليّ فقال: نحن الناس وأشياعنا أشباه الناس وأعداؤنا النسناس، فقبّله عليّ بين عينيه وقال اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] قيل: إنهم لما دخلوا في الإسلام بعد مدة طويلة وتقصير كثير فكيف استحقوا المدح بأنهم الناس؟ وأجيب بأنه إشارة إلى سعة رحمة الله فإن العبد بعد أن أتى بالكفر والمعصية سبعين سنة فإذا أتى بالإيمان في آخر عمره قبل إيمانه كأن الرب تعالى يقول: ربيته سبعين سنة فإن مات على كفره وقع في النار وضاع إحساني إليه في سبعين سنة. ويروى أن الملائكة تقول لمثل هذا الإنسان: أتيت وإن كنت قد أبيت. وعن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 585 «لله أفرح بتوبة أحدكم من الضال الواجد والظمآن الواردة» «1» ويجوز أن يكون المراد بالناس أهل اليمن على ما روي عن أبي هريرة انه لما نزلت السورة قال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر جاء نصر الله والفتح. وجاء «أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم» الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية» «2» وقال «إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن» «3» قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمين: إن إيمان المقلد صحيح لأنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على نبيه. ثم إنا نعلم قطعا أنهم ما كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدلائل ولا صفات الكمال ونعوت الجلال، وكونه سبحانه متصفا بها منزها عن غيرها ولا ثبوت المعجز التام على يد محمد صلى الله عليه وسلم ولا وجه دلالة المعجزة على النبوة. وعن الحسن: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قالت العرب: لا يدي لنا به فقد ظفر بأهل مكة وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل وكل من أرادهم بسوء فأخذوا يدخلون في الإسلام أفواجا من غير قتال. ولا شك أن هذا القدر مما يفيد غلبة الظن فقط. والفوج الجماعة الكثيرة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون فيه واحدا واحدا واثنين اثنين. وروي أن جابر بن عبد الله بكى ذات يوم فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: دخل الناس في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا. ثم إنه أمره بالتسبيح ثم بالحمد ثم بالاستغفار فكأنه صلى الله عليه وسلم ضاق قلبه عن تأخير النصر كما قال وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة: 214] فأمر بالتسبيح تنزيها لله عما لا يليق بكماله وحكمته وعنايته بخلقه، وأمر أن يكون التسبيح مقرونا بالحمد لأن المقام يستدعي تذكير النعمة وهي الفتح والنصر ودخول الناس في الدين من غير متاعب الجهاد ومؤن القتال، ثم أمر بالاستغفار كفارة لما عسى أن يبدو ويدور في الخلد من ملاحظة حاله بعين الكمال، وكما أن التسبيح المقرون بالحمد نظر من الحق إلى الخلق فالاستغفار عكسه وهو التفات عن الخلق إلى الحق. وإنما قهمت الصحابة من السورة نعي النبي صلى الله عليه وسلم لأن كل كمال فإنه يدل على زوال كما قيل: إذا تم أمر يدا نقصه ... توقع زوالا إذا قيل تم ويمكن أن يقال: إنه أمر بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقا. ولا يخفى أن الاشتغال بهذه الأعمال يمنع من الاشتغال بأعباء التبليغ وبأداء ما كان يواظب عليه من رعاية مصالح   (1، 2) رواه البخاري في كتاب المغازي باب 74. مسلم في كتاب الإيمان حديث 82، 84، 89. الترمذي في كتاب المناقب باب 71. الدارمي في كتاب المقدمة باب 14. أحمد في مسنده (2/ 235، 252) (3/ 105) (4/ 154) . [ ..... ] (3) رواه أحمد في مسنده (2/ 541) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 586 الأمة، فكان هذا كالتنبيه على أن أمر الرسالة قد تم وكمل بسبب الموت والإلزام العزل. روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة كان يكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك. وفي رواية: كان يكثر أن يقول في ركوعه: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي. وفي رواية أخرى كان نبي الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: سبحان الله وبحمده. فقلت: يا رسول الله إنك تكثر من قول «سبحان الله وبحمده» قال: إني أمرت بها وقرأ السورة. وعن ابن مسعود أنه لما نزلت هذه السورة كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم. وفي الآية تنبيه على أن العاقل إذا قرب أجله وأنذره الشيب أقبل على التوبة والاستغفار وتدارك بعض ما فات في أوان الغفلة والاغترار وفي معنى الباء في قوله بِحَمْدِ رَبِّكَ وجوه للمفسرين منها: أن المراد قل سبحان الله والحمد لله تعجبا مما أراك من مقصودك. يقال: شربت اللبن بالعسل أي خلطتهما فشربت المخلوط. ومنها أن الباء للآلة أي سبحه بواسطة تحميده لأن الثناء يتضمن التنزيه عن النقائص، والدليل عليه أنه صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة بدأ بالتحميد قائلا الحمد لله الذي نصر عبده. ومنها أن المراد فسبح متلبسا بالحمدلة لأنك لا يتأتى لك الجمع بينهما لفظا فاجمعهما نية. وقيل: سبحه مقرونا بحمد الله على ما هداك إلى تسبيحه كما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: الحمد لله على الحمد لله. وقيل: الباء للبدل أي ائت بالتسبيح بدل الحمد الواجب عليك في مقابلة نعمة النصر والفتح لأن الحمد لا حصر له وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34] وقيل: فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد لله أمر أن لا يجوز تأخير أحدهما عن الآخر لوجوب الإتيان بكل منهما على الفور كما لو ثبت له حق الشفعة وحق الرد بالعيب وجب أن يقول اخترت الشفعة بردّي ذلك المبيع. وقيل: الباء صلة أي طهر محامد ربك عن النقائص والرياء. وفي تخصيص الرب بالمقام إشارة إلى أن التربية هي الموجبة للحمد، أما الاستغفار فإن كان لأجل الأمة فلا إشكال، وإن كان لأجل نفسه فإما للاقتداء وإما لترك الأولى والأفضل، وإما بالنظر إلى المرتبة المتجاوز عنها فإن السالك يلزمه عند الارتقاء في كل درجة يصل إليها أن يستغفر عما يخلفها. وفي قوله تَوَّاباً دون أن يقول «غفارا كما في سورة نوح إشارة إلى أن هذا النبي صلى الله عليه وسلم بل هذه الأمة امتثلوا فاستغفروا وتابوا فوجب على فضل الله قبول توبتهم بخلاف قوم نوح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 587 (سورة تبت) (مكية حروفها أحد وثمانون كلمها ثلاث وعشرون آياتها خمس) [سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) القراآت: أبي لهب بسكون الهاء: ابن كثير سيصلى بضم الياء: البرجمي حَمَّالَةَ بالنصب: عاصم جِيدِها ممالة: نصير. الوقوف: وَتَبَّ هـ كَسَبَ هـ لَهَبٍ ج هـ لاحتمال كون وَامْرَأَتُهُ مبتدأ خبره حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أو فِي جِيدِها إلى آخره واحتمال كونه عطفا على ضمير سَيَصْلى والأوجه الوصل وَامْرَأَتُهُ هـ لمن قرأ حَمَّالَةَ بالنصب على الذم، ويجوز الوقف لمن قرأ بالرفع أيضا على تقدير هي حمالة الحطب. ومن قرأ حَمَّالَةَ بالنصب فله أن يصل ذاتَ لَهَبٍ بما بعده ويقف على مَسَدٍ مَسَدٍ هـ. التفسير: لما أخبر عن فتح الولي وهو النبي صلى الله عليه وسلم نبه على مآل حال العدو في الدارين. قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتم أمره في أول المبعث ويصلي في شعاب مكة ثلاث سنين إلى أن نزل قوله وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] فصعد الصفا ونادى: يا آل غالب فخرجت إليه من المسجد. فقال أبو لهب: هذه غالب قد أتتك فما عندك؟ ثم نادى يا آل لؤي فرجع من لم يكن من لؤي فقال: هذه لؤي قد أتتك فما عندك؟ فقال يا آل- كلاب ثم قال بعده: يا آل قصي فقال أبو لهب: هذه قصي قد أتتك فما عندك، ثم قال: إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين وأنتم الأقربون، إني لا أملك لكم من الدنيا حظا ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله فأشهد لكم بها عند ربكم. فقال أبو لهب عليه اللعنة: تبا لك ألهذا دعوتنا؟ فنزلت السورة. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع أعمامه وقدم إليهم طعاما في صحفة فاستحقروه وقالوا: إن أحدنا يأكل الشاة فقال: كلوا فأكلوا فشبعوا ولم ينتقص من الطعام إلا قليل. ثم قالوا فما عندك؟ فدعاهم إلى الإسلام. فقال أبو لهب ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 588 قال. وروي أنه قال أبو لهب: فما لي إن أسلمت؟ فقال: ما للمسلمين. فقال: أفلا أفضل عليهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وبماذا تفضل؟ فقال: تبا لهذا الدين الذي يستوي فيه أنا وغيري فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ التباب الهلاك كقوله وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ [غافر: 37] وقيل: الخسران المفضي إلى الهلاك. وقيل: الخيبة. وقال ابن عباس: لأنه كان يدفع قائلا إنه ساحر فينصرفون عنه قبل لقائه لأنه كان شيخ القبيلة وكان له كالأب فكان لا يتهم، فلما نزلت السورة وسمع بها غضب وأظهر العداوة الشديدة فصار متهما فلم يقبل قوله في الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فكأنه خاب سعيه وبطل غرضه. قالوا: ولعله إنما ذكر اليد لأنه كان يضرب بيده على كتف الوافد عليه فيقول: انصرف راشدا فإنه مجنون. ويروى أنه أخذ حجرا ليرمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن طارق المحاربي أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى السوق يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد آدمي عقبيه وقال: لا تطيعوه إنه كذاب. فقلت: من هذا؟ فقالوا: محمد وعمه أبو لهب. وقال أهل المعاني: أراد باليدين الجملة كقوله ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الحج: 10] لأن أكثر الأعمال إنما تعمل باليد، فاليمين كالسلاح واليسار كالجنة، بالأولى يجر المنفعة وبالأخرى يدفع المضرة. وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما دعاه نهارا فأبى ذهب إلى داره ليلا مستنا بسنة نوح ليدعوه ليلا كما دعاه نهارا، فلما دخل عليه قال له: جئتني معتذرا. فجلس النبي صلى الله عليه وسلم أمامه كالمحتاج وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال: إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت واسكت. فقال: لا أو من بك أو يؤمن هذا الجدي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للجدي. من أنا؟ فقال: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلق لسانه يثني عليه فاستولى الحسد على أبي لهب وأخذ يدي الجدي ومزقه وقال: تبا لك أثر فيك السحر. فقال الجدي: بل تبت يداك فنزلت السورة على وفق ذلك لتمزيقه يدي الحيوان الشاهد بالحق الناطق بالصدق. وفي ذكر أبي لهب بالكنية الدالة على التعظيم المنبئة عن شبهة الكذب إذ لم يكن له ولد مسمى بلهب وجوه منها: أن الكنية قد تصير اسما بالغلبة فلا تدل على التعظيم، وإيهام الكذب منتف لأنهم يريدون بها التفاؤل فلا يلزم منه أن يحصل له ولد يسمى بلهب. ومنها أن اسمه كان عبد العزي فكان الاحتراز عن ذكره أولى. ومنها أنه إشارة إلى أنه من أهل النار كما يقال «أبو الخير» لمن يلازمه. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه «يا أبا تراب» لتراب لصق بظهره. وقيل: سمي بذلك لتلهب وجنتيه فسماه الله تعالى بذلك تهكما ورمزا إلى مآل حاله وفي قوله سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ قال أهل الخطابة: إنما لم يقل في أوّل هذه السورة «قل تبت» كما قال قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] لئلا يشافه عمه بما يشتد غضبه رعاية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 589 للحرمة وتحقيقا لقوله فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] وأيضا إن الكفار في تلك السورة طعنوا في الله فقال الله: يا محمد أجبهم عني قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] وفي هذه السورة طعنوا في حق محمد صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى اسكت أنت فإنيّ أشتمهم تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وفيه تنبيه على أن الذي لا يشافه السفيه كان الله ذابا عنه وناصرا له. يروى أن أبا بكر كان يؤذيه واحد فبقي ساكتا فجعل الرسول يذبه عنه ويزجر ذلك المؤذي فشرع أبو بكر في الجواب فسكت الرسول فقال أبو بكر: ما السبب في ذلك؟ فقال: لأنك حين كنت ساكتا كان الملك يجيب عنك، فلما شرعت في الجواب انصرف الملك وجاء الشيطان. قال أبو الليث: اللهب واللهب لغتان كالنهر والنهر ولكن الفتح أوجه، ولهذا قرأ به أكثر القراء. وأجمعوا في قوله ذاتَ لَهَبٍ على الفتح رعاية للفاصلة. وفي دفع التكرار عن قوله وَتَبَّ وجوه منها: أن الأول دعاء والثاني إخبار ويؤيده قراءة ابن مسعود و «قد تب» ، ومنها أن الأول إخبار عن هلاك عمله لأن المرء إنما يسعى لمصلحة نفسه باليد، والثاني إخبار عن هلاك نفسه وهو قول أبي مسلم. وقيل: الأول إهلاك ما له فقد يقال للمال ذات اليد، والآخر هلاك نفسه وهو قول أبي مسلم. وقيل: الأول نفسه والثاني ولده عتبة على ما روي أن عتبه ابن أبي لهب خرج إلى الشام مع ناس من قريش فلما هموا أن يرجعوا قال لهم عتبة: بلغوا عني محمدا أني كفرت بالنجم إذا هوى. وروي أنه قال ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفل في وجهه وكان مبالغا في عداوته فقال: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك. فوقع الرعب في قلب عتبة وكان يحترز دائما فسار ليلة من الليالي إلى قريب من الصبح فقال له أصحابه: هلكت الركاب. فما زالوا به حتى نزل وهو مرعوب فأناح الإبل حوله كالسرادق فسلط الله الأسد وألقى السكينة على الإبل فجعل الأسد يتخلل حتى افترسه. فقوله تَبَّتْ قبل هذه الواقعة على عادة إخبار الله تعالى في جعل المستقبل كالماضي المحقق. والفرق بين المال والكسب من وجوه أحدها: أن المال عني به رأس المال والمكسوب هو الربح. وثانيها أراد الماشية والذي كسبه من نسلها وكان صاحب النعم والنتاج. وثالثها أريد ماله الموروث والذي كسبه بنفسه. وعن ابن عباس: المكسوب الولد لقوله صلى الله عليه وسلم «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه» «1» روي أنه لما مات تركه أبناؤه ليلتين أو ثلاثا حتى أنتن في بيته لعلة كانت به خافوا عدواها. وقال الضحاك وقتادة: ما ينفعه ماله وعمله الخبيث يعني كيده في عداوة الرسول وسائر أعماله التي ظن أنه منها   (1) رواه النسائي في كتاب البيوع باب 1. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 1. الدارمي في كتاب البيوع باب 6. أحمد في مسنده (6/ 31، 42، 127) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 590 على شيء كقوله وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ [الفرقان: 23] وفي قوله أَغْنى بلفظ الماضي تأكيد وتحقيق على عادة إخبار الله تعالى وقد زاده تأكيدا بقوله سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ وطالما استدل به أهل السنة في وقوع تكليف ما لا يطاق قائلين إنه تعالى كلف أبا لهب بالإيمان، ومن جملة الإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه، ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن وأنه من أهل النار، فقد صار مكلفا بأن يؤمن وبأن لا يؤمن وهو تكليف بالجمع بين النقيضين. وأجيب بأنه كلف بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فقط لا بتصديقه وعدم تصديقه حتى يجتمع النقيضان، وغاية ذلك أنهم كلفوا بالإيمان بعد علمهم بأنهم لا يؤمنون وليس فيه إلا انتفاء فائدة التكليف، لأن فائدة التكليف بما علم الله لا يكون هو الابتلاء وإلزام الحجة وهذا لا يتصور بعد أن يعلم المكلف حاله من امتناع صدور الفعل عنه، والتكليف من غير فائدة جائز عندكم لأن أفعاله تعالى غير معللة بغرض وفائدة على معتقدكم. ثم إن امرأة أبي لهب أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب عمة معاوية كانت في غاية العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن المفسرين من قال: كانت تحمل الشوك والحطب وتلقيهما بالليل في طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فلعلها مع كونها من بيت العز كانت خسيسة أو كانت لشدة عداوتها تحمل بنفسها الشوك والحطب لتلقيه في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم من هؤلاء من زعم أن الحبل اشتد في جيدها فماتت بسبب الاختناق، فقوله فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ يحتمل على هذا أن يكون دعاء عليها وقد وقع كما أريد وكان معجزا. ومنهم من قال: عيرها بذلك تشبيها لها بالحطابات وإيذاء لها ولزوجها. وعن قتادة أنها كانت تعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر فعيرها بأنها كانت تحتطب. والأكثرون على أن المراد بقوله حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أنها كانت تمشي بالنميمة يقال للنمام المفسد بين الناس إنه يحمل الحطب بينهم أي يوقد بينهم النائرة. ويقال للمكثار هو كحاطب ليل. وقال أبو مسلم وسعيد بن جبير: أراد ما حملت من الآثام في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه كان كالحطب في مصيره إلى النار نظيره فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً [الأحزاب: 58] وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ [العنكبوت: 13] يروى عن أسماء أنه لما نزلت السورة جاءت أم جميل ولها ولولة وبيدها حجر فدخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أبو بكر وهي تقول: مذمما قلينا. ودينه أبينا. وحكمه عصينا فقال أبو بكر: يا رسول الله قد أقبلت إليك فأنا أخاف أن تراك. فقال صلى الله عليه وسلم: إنها لا تراني وقرأ وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً [الإسراء: 45] فقالت لأبي بكر: قد ذكر لي أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر: لا ورب الكعبة ما هجاك. قالت العلماء: لعل أبا بكر عني بذلك أن الله تعالى قد هجاها ولم يهجها الرسول، أو اعتقد أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 591 القرآن لا يسمى هجوا. ثم إن أم جميل ولت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها. قال الواحدي: المسد في كلام العرب الفتل. يقال: مسد الحبل مسدا إذا أجاد فتله. ورجل ممسود إذا كان مجدول الخلق. والمسد بالتحريك ما مسد أي فتل من أي شيء كان كالليف والخوص وجلود الإبل والحديد. وقد عرفت معنى قوله فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ على رأي بعض أهل التفسير. وقال الآخرون: المعنى أن حالها تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها في المعنى عند النميمة، أو في الظاهر حين كانت تحمل الحزمة من الشوك فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم وفي جيدها حبل من سلاسل النار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 592 (سورة الإخلاص) (مكية حروفها سبعة وسبعون كلمها خمس عشرة آياتها أربع) [سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) القراآت: كان أبو عمرو يستحب الوقف على قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وإذا وصل كان له وجهان من القراءة: أحدهما التنوين وكسره، والثاني حذف التنوين كقراءة عزيز بن الله لاجتماع الساكنين، وكل صواب وكفؤا بالسكون والهمزة: حمزة وخلف وعباس والمفضل وإسماعيل ورويس عن يعقوب. وكان حمزة يقف ساكنة الفاء ملينة الهمزة ويجعلها شبه الواو اتباعا للمصحف. وقرأ حفص غير الخراز مثقلا غير مهموز. الباقون: مثقلا مهموزا. الوقوف: أَحَدٌ هـ ج لاحتمال أن ما بعدها جملة أخرى أو خبران آخران الصَّمَدُ هـ ج لمثل ذلك وَلَمْ يُولَدْ لا أَحَدٌ هـ. التفسير: قد وردت الأخبار الكثيرة بفضل سورة الإخلاص وأنها تعدل ثلث القرآن فاستنبط العلماء لذلك وجها مناسبا وهو أن القرآن مع غزارة فوائده اشتمل على ثلاثة معان فقط: معرفة ذات الله تعالى وتقدّس، ومعرفة صفاته وأسمائه، ومعرفة أفعاله وسننه مع عباده. ولما تضمنت سورة الإخلاص أحد هذه الأقسام الثلاثة وهو التقديس، وازنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلث القرآن. وعن أنس أن رجلا كان يقرأ فى جميع صلاته «قل هو الله أحد» فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: يا رسول الله إني أحبها فقال: حبك إياها يدخلك الجنة. أما سبب نزولها فعن أبيّ بن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى هذه السورة. وعن عطاء عن ابن عباس قال: قدم وفد نجران فقالوا: صف لنا ربك أزبر جد أم ياقوت أم ذهب أم فضة. فقال: إن ربي ليس من شيء لأنه خلق الأشياء فنزلت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقالوا: هو واحد وأنت واحد فقال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] قالوا: زدنا من الصفة. قال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 593 اللَّهُ الصَّمَدُ فقالوا: وما الصمد؟ قال: الذي يصمد الخلق إليه في الحوائج فقالوا: زدنا فقال لَمْ يَلِدْ كما ولدت مريم وَلَمْ يُولَدْ كما ولد عيسى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ يريد نظيرا من خلقه. ولشرف هذه السورة سميت بأسماء كثيرة أشهرها الإخلاص لأنها تخلص العبد من الشرك أو من النار. وقد يقال لها سورة التفريد أو التجريد أو التوحيد أو النجاة أو الولاية لأن من قرأها صار من أولياء الله أو المعرفة لما روى جابر أن رجلا صلى فقرأ السورة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا عبد عرف ربه. أو الجمال لقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله جميل يحب الجمال» «1» ومن كمالات الجميل كونه عديم النظير. أو الأساس لقوله صلى الله عليه وسلم «أسست السموات السبع والأرضون السبع على قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» وهذا قول معقول لأن القول بالتثليث يوجب خراب السموات والأرض كما قال تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مريم: 90] فوجب أن يكون التوحيد سببا لعمارة العالم. وقد تسمى سورة النسبة لما مر أنها نزلت عند قول المشركين «انسب لنا ربك» فكأنه قيل: نسبه الله هذا. والمانعة لرواية ابن عباس أنه تعالى قال لنبيه حين عرج به: أعطيتك سورة الإخلاص وهي من ذخائر كنوز العرش، وهي المانعة تمنع فتان القبر ونفحات النيران، والمحضرة لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت، والمنفرة أي للشيطان، والراءة أي من الشرك، وسورة النور لقوله صلى الله عليه وسلم «إن لكل شيء نورا ونور القرآن قل هو الله أحد» قلت: وذلك لأن الله تعالى نور الله نور السموات والأرض، وكما أن نور الإنسان في أصغر أعضائه وهو الحدقة كذلك نور القرآن في أقصر السور سوى «الكوثر» . ثم إن العلماء أجمعوا على أن الوحدانية مما يمكن معرفتها بطريق السمع والعقل جميعا وليست كمعرفة ذات الصانع حيث لا يمكن معرفته إلا بطريق العقل فقال أهل العرفان في بيانه: إن العقل يريد عالما كاملا أمينا تودع عنده الحسنات، والشهوة تريد غنيا تطلب منه المستلذات بل العقل كالإنسان الذي له همة عليه لا تنقاد إلا لمولاه، والهوى كالمنتجع الذي يطلب غنيا يتكدى منه بل العقل يطلب معرفة المولى ليشكر له على النعم السابقة، والهوى يطلبها ليستفيد منه النعم اللاحقة. فلما عرفاه كما أرادا تعلقا بذيل عنايته فقال العقل: لا أشكر أحدا سواك. وقالت الشهوة: لا أسأل أحدا إلا إياك. فجاءت الشبهة وقالت: يا عقل كيف أفردته بالشكر ولعل له مثلا؟ ويا شهوة كيف اقتصرت عليه ولعل هاهنا بابا آخر؟ فبقي العقل متحيرا وتنغصت   (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 147. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب 10. أحمد في مسنده (4/ 133، 134) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 594 عليه راحة المعرفة حين أراد أن يسافر في عالم الاستدلال لتحصيل ربح التوحيد ويغوص في بحر الفكر ليعود بجوهرة النحر، فأدركته عناية المولى فقال: كيف أنغص على عبدي لذة الاشتغال بخدمتي وشكري؟ فبعث إليه رسولا صادقا وقال: لا تقله من عند نفسك فيوقعك الوهم في الشك ولكن اقبله من الصادق الأمين قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والضمير للشأن أي الشأن والحديث الله أحد. هذا قول جمهور النجاة وقريب منه قول الزجاج: إن المراد هذا الذي سألتم عنه الله أحد. وقيل: هو كناية عن الله فيكون كقولك «زيد أخوك قائم» قال الأزهري: لا يوصف شيء بالأحدية غير الله تعالى لا يقال: رجل أحد ولا درهم أحد. وقال غيره: الفرق بين الواحد والأحد من ثلاثة أوجه أحدها: أن الواحد يدخل في الأحد والأحد لا يدخل فيه. وثانيها أنك إذا قلت «فلان لا يقاومه واحد» جاز أن يقال لكنه يقاومه اثنان. وثالثها أن الواحد يستعمل في الإثبات كقولك «رأيت رجلا واحدا» والأحد يستعمل في النفي نحو «ما رأيت أحدا» فيفيد العموم. قلت: ولعلّ وجه تخصيص الله بالأحد هو هذا المعنى وذلك أنه أبسط الأشياء وكأنك قلت: إنه لا جزء له أصلا بوجه من الوجوه ومن هنا قال بعضهم: إن الأحد يدل على جميع المعاني السلبية ككونه ليس بجوهر ولا عرض ولا متحيز وغير ذلك كما أن اسم الله يدل على مجامع الصفات الإضافية لأن الله اسم للمعبود بالحق واستحقاق العبادة لا يتجه إلا إذا كان مبدأ لجميع ما سواه عالما قادرا إلى غير ذلك. وأما لفظة هُوَ فإنها تدل على نفس الذات فتبين أن قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يدل على الذات والصفات جميعا. وهاهنا لطيفة وهي أن قوله هُوَ إشارة إلى مرتبة السابقين الذين لا يرون معه شيئا آخر فيكفي الكناية بالنسبة إليهم، وأما اسم اللَّهُ فإشارة إلى مرتبة أصحاب اليمين وهم الذين عرفوه بالبرهان مستدلين على الوجوب بالإمكان فهم ينظرون إلى الحق وإلى الخلق جميعا فيحتاجون في التمييز إلى اسمه العلم. وأما «الأحد» فرمز إلى أدون المراتب الإنسانية وهم أصحاب الشمال الذين يثبتون مع الله إلها آخر فوجب التنبيه على إبطال معتقدهم بأن الله أحد لا شريك له أو لا جزء بوجه من الوجوه، وبعبارة أخرى هو للأخص والله للخواص وأحد للعموم. وأما «الصمد» فقيل: إنّه فعل بمعنى «مفعول» من صمده إذا قصده أي هو السيد المقصود إليه في الحوائج كما مرّ في الحديث الوارد في سبب النزول. وقيل: هو الذي لا جوف له ومنه قولهم لسداد القارورة «صماد» وشيء مصمد أي صلب ليس فيه رخاوة. قال ابن قتيبة: يجوز على هذا التفسير أن تكون الدال بدل التاء في «مصمت» . وقال بعض المتأخرين من أهل اللغة: الصمد هو الأملس من الحجر لا يقبل الغبار ولا يدخله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 595 شيء ولا يخرج منه شيء. ولا يخفى أن هذين المعنيين من صفات الأجسام حقيقة إلا أن مقدّمة الآية وهي اللَّهُ أَحَدٌ تمنع من حملهما على حقيقتهما لأن كل جسم مركب فوجب الحمل على المجاز وهو أنه لوجوب ذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وسائر صفاته، ومن هنا اختلفت عبارات المفسرين فعن بعضهم: الصمد هو العالم بجميع المعلومات لأن كونه مبدأ مرجوعا إليه في قضاء الحاجات لا يتم إلا بذلك. وعن ابن مسعود والضحاك: هو السيد الذي انتهى سودده. وقال الأصم: هو الخلق للأشياء لأن السيد الحقيقي هو هو. وقال السدي: هو المقصود في الرغائب المستغاث عند المصائب. وقال الحسن بن الفضل: هو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقال قتادة: لا يأكل ولا يشرب وهو يطعم ولا يطعم. وعن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه يغلب ولا يغلب. وسائر عباراتهم كلها متقاربة تدور حول ما ذكرنا. سؤال: لم جاء الخبر هاهنا معرفا وفي قوله اللَّهُ أَحَدٌ منكرا؟ الجواب لأنه كان معلوما عندهم أنه غني على الإطلاق ومرجوع إليه في الحوائج وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ [الزمر: 8] أما التوحيد فلم يكن ثابتا في أوهامهم بل ركز في أوهام العامة أن كل موجود فإنه محسوس وكل محسوس فهو منقسم فلا جرم جاء لفظ أَحَدٌ منكرا ولفظ الصَّمَدُ معرفا. آخر: لم مكرر ثانيا اسم الله ولم يقتصر على ضميره؟ الجواب لما قيل: هو المسك ما كررته يتضوّع ولأنه قد سبق ضمير الشأن ولأنه يلزم الاشتراك، ولما مر أن الإشارة بلفظة «هو» مرتبة الصديقين والخطاب بقوله اللَّهُ الصَّمَدُ لعموم الخلائق والسابقون منهم قليل فاعتبار الأغلب أولى. آخر: كون الشخص مولودا أقدم من كونه والدا فلم قدم قوله لَمْ يَلِدْ على قوله وَلَمْ يُولَدْ أجيب بأن النزاع إنما وقع في كونه والدا حين قالت النصارى المسيح ابن الله، واليهود عزيز ابن الله، ومشركو العرب الملائكة بنات الله، بل المتفلسفة الذين قالوا إنه يتولد عن واجب الوجود عقل، وعن العقل الأول عقل آخر ونفس إلى آخر العقول العشرة والنفوس وهو العقل الفعال المدبر بزعمهم لما دون فلك القمر، فكان نفي كونه والدا أهم. ثم أشار إلى طريق الاستدلال بقوله وَلَمْ يُولَدْ كأنه قال: الدليل على امتناع الوالد اتفاقنا على أنه ما كان ولدا لغيره. وأنا أقول: كون الشخص مولودا اعتبار لمعلوليته، وكونه والدا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 596 اعتبار لعليته، ولا ريب أن اعتبار العلية مقدم على اعتبار المعلولية كما أن العلة بالذات متقدمة على المعلول، فالسؤال مدفوع. قالوا: وإنما اقتصر على لفظ الماضي لأن النزاع كان واقعا في المسيح وعزيز ونحوهما فوقع قوله لَمْ يَلِدْ جوابا عما ادعوه عليه. وأما قوله وَلَمْ يُولَدْ فلم يكن مفتقرا إلى هذا التوجيه لأن كل موجود إذا لم يكن مولودا في مبدا تكوّنه فلن يكون مولودا بعد ذلك. وأقول: لعل المراد بقوله لَمْ يَلِدْ نفي أن يكون هو ممن شأنه الولادة وهذا المعنى يشمل كل زمان، وبهذا التفسير لا يصح على العاقر أنه لا يلد ويصح أنه يلد. واعلم أنه سبحانه بين كونه في ذاته وحقيقته منزها عن جميع أنحاء التراكيب بقوله هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثم بين كونه ممتنع التغير عما هو عليه من صفات الكمال ونعوت الجلال بقوله اللَّهُ الصَّمَدُ ثم أراد أن يشير إلى نفي من يماثله وهو إما لا حق وأبطله بقوله لَمْ يَلِدْ وإما سابق وأحاله بقوله وَلَمْ يُولَدْ وإما مقارن في الوجود وزيفه بقوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ويجوز أن يكون الأوّلان إشارة إلى نفي من يماثله بطريق التولد أو التوالد، والثالث تعميما بعد التخصيص. ويحتمل أن يراد بالأخير نفي المصاحبة لأن المصاهرة تستدعي الكفاءة شرعا وعقلا فيكون ردا على من حكى الله عنهم في قوله وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: 158] قاله مجاهد. سؤال: قد نص سيبويه في كتابه على أن الخبر قد يقدم على الاسم في باب «كان» ولكن متعلق الخبر حينئذ لا يتقدم على الخبر كيلا يلزم العدول عن الأصل بمرتبتين فكيف قدم الصرف على الاسم والخبر جميعا؟ أجاب النحويون عنه بأن هذا الظرف وقع بيانا للمحذوف كأنه قال: ولم يكن أحد فقيل: لمن؟ فأجيب بقوله «له» نظيره قوله وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف: 20] وقوله فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات: 102] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 597 (سورة الفلق) (مكية وحروفها تسع وتسعون كلمها عشر آياتها خمس) [سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) الوقوف: الْفَلَقِ هـ لا خَلَقَ هـ لا وَقَبَ هـ لا الْعُقَدِ هـ لا حاسِدٍ إِذا حَسَدَ هـ. التفسير: لما أمره بقراءة سورة الإخلاص تنزيها له عما لا يليق به في ذاته وصفاته وكان ذلك من أشرف الطاعات، أمره أن يستعيذ به من شر من يصده عن ذلك كالمشركين وكسائر شياطين الإنس والجن. يروى أن جبرائيل أتاه وقال: إن عفريتا من الجن يكيدك فقل إذا أتيت على فراشك: أعوذ برب الفلق أعوذ برب الناس. وعن سعيد بن المسيب أن قريشا قالوا نتجوع فنعين محمدا ففعلوا ثم أتوه وقالوا: ما أشدّ عضدك وأقوى ظهرك وأنضر وجهك! فأنزل الله المعوّذتين. وقال جمهور المفسرين: إن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة في وتر ودسه في بئر ذي أروان، فمرض النبي صلى الله عليه وسلم واشتدّ ذلك عليه ثلاث ليال فنزلت المعوّذتان، وأخبره جبرائيل بموضع السحر فأرسل عليا بطلبه وجاء به وقال جبرائيل: اقرأ السورتين. فكان كلما يقرأ آية تنحل عقدة فيجد بعض الراحة والخفة، حتى إذا أتمهما فكأنما أنشط من عقال. طعنت المعتزلة في هذه الرواية بأنها توجب تسلط الكفار والأشرار على الأنبياء. وأيضا لو صحت لصح قولهم إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الإسراء: 47] والجواب أن التسليط الكلي بحيث يمنعه عن تبليغ الرسالة لا يجوز، ولكن لا نسلم أن بعض الأضرار في بدنه لا يجوز لا سيما وقد تداركه الله تعالى بفضله وخصوصا إذا كان فيه لطف لغيره من أمته حتى يفعلوا في مثل تلك الواقعة كما فعل، ولهذا استدل أكثر العلماء على أنه يجوز الاستعانة بالرقى والعوذ ويؤيده ما روي أن رسول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 598 الله صلى الله عليه وسلم قال «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك والله يشفيك» «1» وعن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوّذ الحسن والحسين رضي الله عنهما بقوله «أعيذكما بكلمات الله التامّة من كل شيطان وهامّه ومن كل عين لامّه» «2» ويقول هكذا كان أبي إبراهيم يقول لابنيه إسماعيل وإسحق. وعنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا من الحمى والأوجاع كلعا «بسم الله الكريم أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ومن شر حرّ النار» «3» وعن علي رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض قال «أذهب البأس رب الناس اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت» «4» وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فنزل منزلا يقول «يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرّك ومن شرّ ما فيك وشرّ ما يخرج منك ومن شرّ ما يدب عليك، وأعوذ بالله من شرّ أسد وأسود وحية وعقرب، ومن شرّ ساكن البلد ووالد ما ولد» «5» وعن عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى شيئا من جسده قرأ قل هو الله أحد والمعوّذتين في كفه اليمنى ومسح بها المكان الذي يشتكي. وروي أنه صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون فعوّذه ب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وبهاتين السورتين. ثم قال: تعوّذ بهن فما تعوّذت بخير منها. وأما قول الكفار إنه مسحور فإنما أرادوا به الجنون والسحر الذي أثر في عقله ودام معه فلذلك وقع الإنكار عليهم. ومن الناس من لم يرحض في الرقى لرواية جابر نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرقى وقال «إن لله عبادا لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون» «6» وأجيب بأن النهي وارد على الرقى المجهولة التي يفهم معناها. واختلف في التعليق فروى أنه صلى الله عليه وسلم قال «من علق شيئا وكل إليه» «7»   (1) رواه البخاري في الطب باب 38. مسلم في كتاب السلام حديث 40. أبو داود في كتاب الطب باب 19. الترمذي في كتاب الجنائز باب 4. (2) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 10. أبو داود في كتاب السنّة باب 20. ابن ماجه في كتاب الطب باب 36. أحمد في مسنده (1/ 236، 270) . (3) رواه الترمذي في كتاب الطب باب 26. ابن ماجه في كتاب الطب باب 37. أحمد في مسنده (1/ 300) . (4) رواه البخاري في كتاب الطب باب 38، 40. مسلم في كتاب السلام حديث 46، 48. أبو داود في كتاب الطب باب 17، 19. الترمذي في كتاب الجنائز باب 4. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 64. أحمد في مسنده (1/ 76، 381) (3/ 151) . (5) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 75. أحمد في مسنده (2/ 132) ، (3/ 124) . (6) رواه البخاري في الطب باب 17. مسلم في كتاب الإيمان حديث 371- 372. الترمذي في كتاب القيامة 3 ب 16. أحمد في مسنده (1/ 271، 401) . (7) رواه الترمذي في كتاب الطب باب 24. النسائي في كتاب التحريم باب 19. أحمد في مسنده (4/ 310، 311) بلفظ «تعلق» بدل «علق» . . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 599 وعن ابن مسعود أنه رأى على أم ولده تميمه مربوطة بعضدها فجذبها جذبا عنيفا فقطعها. ومنهم من جوزه سئل الباقر رضي الله عنه عن التعويذ يعلق على الصبيان فرخص فيه. واختلفوا في النفث أيضا فروي عن عائشة أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفث على نفسه إذا اشتكى بالمعوذات ويمسح بيده، فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه صلى الله عليه وسلم بالمعوّذات التي كان ينفث بها على نفسه. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ فيهما بالمعوّذات ثم مسح جسده. ومنهم من أنكر النفث عن عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد. وعن إبراهيم: كانوا يكرهون النفث في الرقى. وقال بعضهم: دخلت على الضحاك وهو وجع فقلت: ألا أعوّذك يا أبا محمد؟ قال: بلى ولكن لا تنفث فعوّذته بالمعوّذتين. قال بعض العلماء: لعلهم كرهوا النفث لأن الله تعالى جعل النفث مما يستعاذ منه فوجب أن يكون منهيا عنه. وقال بعضهم: النفث في العقد المنهي عنه هو الذي يكون سحرا مضرا بالأرواح والأبدان، وأما الذي يكون لإصلاح الأرواح والأبدان فيجب أن لا يكون حراما. سؤال: كيف قال في افتتاح القراءة فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: 200] وقال هاهنا أَعُوذُ بِرَبِّ دون أن يقول «بالله» ؟ وأجيب بأن المهم الأوّل أعظم من حفظ النفس والبدن عن السحر والوسوسة فلا جرم ذكر هناك الاسم الأعظم. وأيضا الشيطان يبالغ في منع الطاعة أكثر مما يبالغ في إيصال الضرر إلى النفس وأيضا كأن العبد يجعل تربيته السابقة وسيلة في التربية اللاحقة. وفي الفلق وجوه فالأكثرون على أنه الصبح من قوله فالِقُ الْإِصْباحِ [الأنعام: 96] وخص هاهنا بالذكر لأنه أنموذج من صبح يوم القيامة ولأنه وقت الصلاة والجماعة والاستغفار إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وفيه إشارة إلى أن القادر على إزالة الظلمة عن وجه الأرض قادر على دفع ظلمة الشرور والآفات عن العبد بصلاح النجاح. روي أن يوسف عليه السلام حين ألقي في الجبّ وجعت ركبته وجعا شديدا فبات ليلته ساهرا، فلما قرب طلوع الصبح نزل جبرائيل عليه السلام يسليه ويأمره بأن يدعو ربه فقال: يا جبرائيل ادع أنت وأؤمن أنا. فدعا جبرائيل فأمن يوسف فكشف الله ما كان به من الضرّ، فلما حصل له الراحة قال: يا جبرائيل أنا أدعو وتؤمن أنت فسأل يوسف ربه أن يكشف الضرّ عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت، فلا جرم ما من مريض إلا ويجد نوع خفة في آخر الليل. وروي أن دعاءه في الجبّ: يا عدّتي عند شدتي، ويا مؤنسي في وحشتي، ويا راحم غربتي، ويا كاشف كربتي، ويا مجيب دعوتي، ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب، ارحم صغر سني، وضعف ركني، وقلة حيلتي، يا حي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 600 يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام. وقيل: هو كل ما يفلقه الله كالأرض عن النبات إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى [الأنعام: 95] والجبال عن العيون وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ [البقرة: 74] والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأولاد، والقبض عن البسط، والشدّة عن الفرج، والقلوب عن المعارف. وقيل: هو واد في جهنم إذا فتح صاح جميع من في جهنم من شدّة حره كأن العبد قال: يا صاحب العذاب الشديد أعوذ برحمتك التي هي أعظم وأكمل وأسبق وأقدم من عذابك. وصاحب هذا القول زعم أن المراد من شر ما خلق أي من شدائد ما خلق فيها. وعن ابن عباس: يريد إبليس خاصة لأن الله تعالى لم يخلق خلقا هو شرّ منه. ويدخل فيه الاستعاذة من السحرة لأنهم أعوانه وجنوده. وقيل: أراد أصناف الحيوانات المؤذية من الهوام والسباع. وقيل: الأسقام والآفات والمحن فإنها شرور إضافية وإن جاز أن تكون خيرات باعتبارات أخر والكل بقدر كما مر في مقدمة الكتاب في تفسير الاستعاذة. وذكر في الغاسق وجوه فعن الفراء وأبي عبيدة: هو الليل إذا جنّ ظلامه ومنه غسقت العين أو الجراحة إذا امتلأت دمعا أو دما. وقال الزجاج: هو البارد وسمي الليل غاسقا لأنه أبرد من النهار، فعلى هذا لعله أريد به الزمهرير. وقال قوم: هو السائل من قولهم غسقت العين تغسق غسقا إذا سالت بالماء، وسمي الليل غاسقا لانصباب ظلامه على الأرض. قلت: ولعل الاستعاذة على هذا التفسير إنما تكون من الغساق في قوله تعالى إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً [النبأ: 25] والوقوب الدخول في الشيء بحيث يغيب عن العين. هذا من حيث اللغة. ثم أن الغاسق إذا فسر بالليل فوقوبه دخوله وهو ظاهر. ووجه التعوذ من شره أن السباع فيه تخرج من آجامها والهوام من مكامنها، وأهل الشر والفتنة من أماكنها، ويقل فيه الغوث ولهذا قالت الفقهاء: لو شهر أحد سلاحا على إنسان ليلا فقتله المشهور عليه لم يلزمه قصاص ولو كان نهارا لزمه لوجود الغوث. وقد يقال: إنه تنشر في الليل الأرواح المؤذية المسماة بالجن والشياطين، وذلك لأن قوة الشمس وشعاعها كأنها تقهرهم، أما في الليل فيحصل لهم نوع استيلاء. وعن ابن عباس: هو ظلمة الشهوة البهيمية إذا غلبت داعية العقل. قال ابن قتيبة: الغاسق القمر لأنه يذهب ضوءه عند الخسوف، ووقوبه دخوله في ذلك الاسوداد. وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدها وقال لها: استعيذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب. وعلى هذا التفسير يمكن تصحيح قول الحكيم إن القمر جرم كثيف مظلم في ذاته لكنه يقبل الضوء عن الشمس ويختلف حاله في ذلك بحسب قربه منها وبعده عنها. ووقوبه إما دخوله في دائرة الظلام في الخسوفات، وإما دخوله تحت شعاع الشمس في آخر كل شهر، وحينئذ يكون منحوسا قليل القوة ولذلك تختار السحرة ذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 601 الوقت للتمريض والإضرار والتفريق ونحوها. وقيل: الغاسق الثريا إذا سقط في المغرب. قال ابن زيد: وكانت الأسقام تكثر حينئذ. وقال في الكشاف: يجوز أن يراد به الأسود من الحيات ووقبه خربه ونقبه. وقيل: هو الشمس إذا غابت وسميت غاسقا لسيلانها ودوام حركتها. وأما النفث فهو النفخ بريق. وقيل: النفخ فقط. والعقد جمع عقدة. والسبب فيه أن الساحر إذا أخذ في قراءة الرقية أخذ خيطا ولا يزال يعقد عليه عقدا بعد عقد وينفث في تلك العقد. ووجه التأنيث إما الجماعة لأن اجتماع السحرة على عمل واحد أبلغ تأثيرا، وإما لأن هذه الصناعة إنما تعرف بالنساء لأنهن يعقدن وينفثن وذلك أن الأصل الكلي في ذلك الفن هو ربط القلب وتعليق الوهم بذلك الأمر وأنه في النساء أوفر لقلة علمهن وشدّة شهوتهن. وقال أبو عبيدة: إنهن بنات لبيد بن الأعصم اليهودي اللاتي سحرن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو مسلم: العقد عزائم الرجال والنفث حلها لأن من يريد حل عقدة الحبل ينفث عليه بريق يقذفه عليه ليصير حله سهلا. والمعنى: إن النساء لكثرة حيلهن يتصرفن في عزائم الرجال يحوّلنهم من رأي إلى رأي ومن عزيمة إلى عزيمة، فأمر الله رسوله بالتعوّذ من شرهن، وهذا القول مناسب لما جاء في مواضع أخر من القرآن إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14] إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف: 28] والاستعاذة منهن الاستعاذة من إثم عملهن، أو من فتنتهن الناس بسحرهن، أو من إطعامهن الأطعمة الردية المورثة للجنون، أو الموت. والحاسد هو الذي تشتد محبته لإزالة نعمة الغير إليه حتى لو تمكن من ذلك بالحيل لفعل فلذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالتعوذ منه. وقد دخل في هذه السورة كل شر يتوفى ويتحرّز منه دينا ودنيا فلذلك لما نزلت فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بها لكونها مع أختها جامعة في التعوذ من كل شيء بل قوله مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ عام والبواقي تخصيص بعد تعميم تنبيها على أنها أعظم الشرور، وأهم شيء يستعاذ منه. وعرفت النفاثات لأن كل نفاثة شريرة. ونكر غاسِقٍ وحاسِدٍ لأنه ليس كل غاسق بشر بل الليل للغاسقين شر وليس كل حسد مذموما بل منه ما هو خير كما قال صلى الله عليه وسلم «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار ورجل أعطاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» «1» وفائدة الظرف هو قوله إِذا حَسَدَ أنه لا يستعاذ من الحاسد من جهات أخرى ولكن من هذه الجهة، ولو جعل الحاسد بمعنى الغابط أو بمعنى أعم وقوله حَسَدَ بالمعنى المذموم كان له وجه.   (1) رواه البخاري في كتاب العلم باب 15. كتاب التوحيد باب 45. أحمد في مسنده (2/ 9، 36) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 602 (سورة الناس) (مكية وقيل مدنية حروفها تسعة وسبعون كلمها عشرون آياتها ست) [سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) القراآت: النَّاسِ وما بعدها ممالة: قتيبة ونصير. والباقون: بالتفخيم. الوقوف: النَّاسِ هـ لا النَّاسِ هـ لا النَّاسِ هـ لا الْخَنَّاسِ هـ لا بناء على أن الفصل بين الصفة وموصوفها لا يصلح إلا للضرورة. ولو قيل إن محله النصب أو الرفع على الذم حسن الوقف النَّاسِ هـ لا وَالنَّاسِ هـ. التفسير: إنه تعالى رب جميع المحدثات ولكنه خص الناس هاهنا بالذكر للتشريف، ولأن الاستعاذة لأجلهم فكأنه قيل: أعوذ من شر الوسواس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم وهوالهم ومعبودهم كما يستغيث بعض الموالي إذا دهمهم أمر بسيدهم ومخدومهم وولي أمرهم. وقوله مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ عطف ثان لأن الرب قد لا يكون ملكا كما يقال «رب الدار» والملك قد لا يكون إلها. وفي هذا الترتيب لطف آخر وذلك أنه قدم أوائل نعمه إلى أن تم ترتيبه وحصل فيه العقل فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك وهو ملك تفتقر كل الأشياء إليه وهو غني عنهم، ثم علم بالدلائل العقلية والنقلية أن العبادة لازمة له وأن معبوده يستحق العبادة. ويمكن أن يقال: أوّل ما يعرف العبد من ربه هو كونه مربوبا له منعما عليه بالنعم الظاهرة والباطنة، ثم لا يزال ينتقل من معرفة هذه الصفة إلى صفات جلاله ونعوت كبريائه فيعرف كونه ملكا قيوما، ثم إذا خاض في بحر العرفان وغرق في تياره وله عقله وتاه لبه فيعرف أنه فوق وصف الواصفين فيسميه إلها من وله إذا تحير. وتكرير لفظ «الناس» في السورة للتشريف كأنه عرف ذاته في خاتمة كتابه الكريم بكونه ربا وملكا وإلها لهم، أو لأن عطف البيان يحتاج إلى مزيد الكشف والتوضيح. ولو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 603 قيل: إن الثاني بدل الكل من الأوّل فالأحسن أيضا وضع المظهر مقام المضمر كيلا يكون المقصود مفتقرا إلى ما ليس بمقصود في الظاهر مع رعاية فواصل الآي. وقيل: لا تكرار في السورة لأن المراد بالأوّل الأطفال ومعنى الربوبية يدل عليه لشدّة احتياجهم إلى التربية، وبالثاني الشبان ولفظ «الملك» المنبئ عن السياسة يدل عليه لمزيد افتقارهم إلى الزجر لقوّة دواعي الشهوة والغضب فيهم مع أن العقل الصادق لم يقو بعد ولم يستحكم، وبالثالث الشيوخ ولفظة «آله» المنبئ عن استحقاق العبادة له يدل عليه لفتور الدواعي المذكورة وقتئذ، فتتوجه النفس إلى تحصيل ما يزلفه إلى الله بتدارك ما فات. والمراد بالرابع الصالحون والأبرار فإن الشيطان مولع بإغوائهم. وبالخامس المفسدون والأشرار لأنه بيان الموسوس فإن الوسواس الخناس قد يكون من الجنة وقد يكون من الناس كما قال شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: 112] والخناس هو الذي من شأنه أن يخنس أي يتأخر وقد مر في قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ [التكوير: 15] عن سعيد بن جبير: إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى، وإذا غفل وسوس إليه فكما أن شيطان الجن يوسوس تارة ويخنس أخرى فكذلك شيطان الإنس يرى نفسه كالناصح المشفق، فإن زجره السامع انخنس وترك الوسوسة، وإن تلقى كلامه بالقبول بالغ فيه حتى نال منه. وقال قوم: الناس الرابع يراد به الجن والإنس جميعا وهو اسم للقدر المشترك بين النوعين كما روي أنه جاء نفر من الجن فقيل لهم: من أنتم؟ فقالوا: ناس من الجن. وقد سماهم الله رجالا في قوله وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 6] والناس الخامس هو المخصوص بالبشر، ومعنى الآية على هذا التقدير أن هذا الوسواس الخناس لا يقتصر على إضلال البشر ولكنه يوسوس للنوعين فيكون قوله مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيانا للناس. وفي هذا القول نوع ضعف لأنه يعد تسليم أن لفظ «الناس» يطلق على القدر المشترك يستلزم الاشتراك المخل بالفهم. وذكر صاحب الكشاف أنه إن جعل قوله مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيانا للناس فالأولى أن يقال: الناس محذوف اللام كقولك الداع والقاض. قال الله تعالى أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ [البقرة: 186] وحينئذ يكون تقسيمه إلى الجن والإنس صحيحا لأنهما النوعان اللذان ينسيان حق الله تعالى. وقيل مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بدل من الْوَسْواسِ كأنه استعاذ بربه من ذلك الشيطان الواحد، ثم عمم فاستعاذ به من جميع الجنة والناس. وقوله مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ المضاف محذوف أي من شر ذي الوسواس وهو اسم بمعنى الزلزلة. وأما المصدر فوسواس بالكسر ويحسن أن يقال سمي الشيطان به لأنه كأنه وسوسة في نفسه لأنها صنعته وعمله الذي هو عاكف عليه نظيره إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [هود: 46] وإنما قال فِي صُدُورِ النَّاسِ ولم يقل «في قلوبهم» لأن الشيطان لا تسلط له على قلب المؤمن الذي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 604 هو بين أصبعين من أصابع الرحمن واعلم أن المستعاذ به مذكور في السورة الأولى بصفة واحدة وهو أنه رب الفلق، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات: الغاسق والنفاثات والحاسد. وأما في السورة الثانية فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاث وهي الرب والملك والإله، والمستعاذ منه آفة واحدة وهي الوسوسة. وفيه إشارة إلى أن حفظ النفس والدين أهم من حفظ البدن بل الثاني مطلوب بالعرض والأوّل مقصود بالذات. التأويل: أعوذ بالرب الذي فلق ظلمات بحر العدم بنور التكوين والإبداع من شر عالم الخلق الممزوجة خيراتها بالآفات، ولا سيما عالم الكون والفساد الذي هو جماد ونبات وحيوان والجمادات أبعدها عن الأنوار لخلوها عن جميع القوى الروحانية وهو المراد بقوله وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ وفوقها النباتات الناميات في الأقطار الثلاثة الطول والعرض والعمق وهن العقد الثلاث فلذلك سميت قواها بالنفاثات فيها، وفوقها القوى الحيوانية من الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب المانعة للروح الإنسانية عن الانصباب إلى عالم الأمر كالحاسد يمنع المرء عن كماله ويغيره عن حاله. ثم أراد ذكر مراتب النفس الإنسانية التي هي أشرف درجات الحيوان فقال بِرَبِّ النَّاسِ إشارة إلى العقل الهيولاني المفتقر إلى مزيد تربية وترشيح حتى يخرج من معدنها ويظهر من حكمها. وقوله مَلِكِ النَّاسِ إشارة إلى العقل بالملكة لأنه ملك العلوم البديهية وحصلت له ملكة الانتقال منها إلى العلوم الكسبية لأن النفس في هذه الحالة أحوج إلى الزجر عن العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة والتأديب في الصغر كالنقش على الحجر. وقوله إِلهِ النَّاسِ إشارة إلى سائر مراتبها من العقل بالفعل والعقل المستفاد، فإن الإنسان إذ ذاك كأنه صار عالما معقولا مضاهيا لما عليه الوجود، فعرف المعبود فتوجه إلى عرفانه والعبادة له. وأيضا اتصف بصفاته وتخلق بأخلاقه كما حكي عن أرسطو أنه قال: أفلاطون: إما إنسان تأله أو إله تأنس. ثم إن العقل والوهم قد يتساعدان على تسليم بعض المقدمّات، ثم إذا آل الأمر إلى النتيجة ساعد العقل عليها دون الوهم فكان الوهم خنس أي رجع عن تسليم المقدّمة فلهذا أمر الله سبحانه بالاستعاذة من شره، وقد ورد مثله في الحديث. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته» «1» وهذا آخر درجات النفس الكاملة الإنسانية فلا جرم وقع ختم الكتاب الكريم والفرقان العظيم   (1) رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 3. مسلم في كتاب الإيمان حديث 212- 214. أبو داود في كتاب السنّة باب 18. أحمد في مسنده (2/ 282، 317) (3/ 102) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 605 عليه. ونحن أيضا نختم التفسير بهذا التحقيق والله وليّ التوفيق والهادي في العلم والعمل إلى سواء الحق والطريق. قال الضعيف مؤلف الكتاب، أحوج خلق الله إلى رحمته ورضاه، الحسن بن محمد بن الحسين المشتهر بنظام النيسابوري نظم الله أحواله في أولاده وأخراه: هذا أيها المعروف باعتلاء عرائك المجد، المشغوف باقتناء سبائك الحمد، الكامل شوقه إلى فهم غرائب القرآن والقرآن كله غرائب، الباذل طوقه في درك رغائب الفرقان والفرقان بأسره رغائب، عقائل مسائل جهزتها فطنة من مشايد الشدائد خامدة، وفرائد فوائد نظمتها قريحة من صنوف الصروف جامده، وقد نطفت بها عين خرساء باد شحوبها وتحركت بها لأجلي ولاء طالما عقر حوبها، على أنها مع سواد ما سقط من سنها بيضاء الخلال ومع مرارة مذاق ما بين لحييها حلوة المباني مليحة المقال. والذي قد مج فوها عفوصة ما فيها عذبة على العذبات سلسة على الأسلات يبكي ويضحك، ويملك ويهلك، ويفقر ويثري، ويريش ويبري، ويمنع ويعطي، ولولا الله لذكرت أنه يميت ويحيى. وفي رقتها دقة، ومع طلاوتها حلاوة، فإن شئت فيراعة فيها براعة، وأنبوب فيه من الحكم أسلوب وأيّ أسلوب، وكيف لا وقد اشتملت على مطاوي ما رسمه على فحاوى كتاب الله الكريم، واحتوت مباني ما رقمه على معاني الفرقان العظيم، الذي أخرس شقاشق الفصحاء حين أرادوا معارضته لعجزهم لا للخلل في أدمغتهم، وأوقر مسامع أولي العناد من العباد في البلاد بجهلهم لا لصمم في أصمختهم، صحيفة يلوح عنها أثر الحق، ولطيمة يفوح منها عبق الصدق، بضاعة يحملها أهل النهي في سفر الروح إلى مكانها، وتجارة أرباحها جنات النعيم، وإجارة أعواضها الفوز بلقاء رب العرش العظيم. وقد تضمن كتابي هذا حاصل التفسير الكبير الجامع لأكثر التفاسير جل كتاب الكشاف الذي رزق له القبول من أساتذة الأطراف والأكناف، واحتوى مع ذلك على النكت المستحسنة الغريبة، والتأويلات المحكمة العجيبة مما لم يوجد في سائر تفاسير الأصحاب، أو وجدت متفرقة الأسباب أو مجموعة طويلة الذيول والأذناب. أما الأحاديث فإما من الكتب المشهورة كجامع الأصول والمصابيح وغيرهما، وإما من كتاب الكشاف والتفسير الكبير ونحوهما إلا الأحاديث الموردة في الكشاف في فضائل السورة فإنا قد أسقطناها لأن النقاد زيفها إلا ما شذ منها. وأما الوقوف فللإمام السجاوندي مع اختصار لبعض تعليلاتها وإثبات للآيات لتوقفها على التوقيف. وأما أسباب النزول فمن كتاب «جامع الأصول والتفسيرين» أو من «تفسير الواحدي» . وأما اللغة فمن «صحاح الجوهري» ومن «التفسيرين» كما نقلا. وأما المعاني والبيان وسائر المسائل الأدبية فمن التفسيرين والمفتاح وسائر الكتب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 606 العربية، وأما الأحكام الشرعية فمنهما ومن الكتب المعتبرة في الفقه ولا سيما «شرح الوجيز» للإمام الرافعي. وأما التآويل فأكثرها للشيخ المحقق المتقى المتقن نجم الملة والدين المعروف بداية قدس نفسه وروّح رمسه. وطرف منها مما دار في خلدي وسمحت به ذات يدي غير جازم بأنه المراد من الآية بل خائف من أن يكون ذلك جرأة مني وخوضا فيما لا يعنيني. وإنما شجعني على ذلك سائر الأمة الذين اشتهروا بالذوق والوجدان وجمعوا بين العرفان والإيمان والإتقان في معنى القرآن الذي هو باب واسع يطمع في تصنيفه كل طامع، فإن أصبت فبها وإن أخطأت فعلى الإمام ماسها والعذر مقبول عند أهل الكرم والنهي والله المستعان لنا ولهم في مظان الخلل والزلل، وعلى رحمته التكلان في محال الخطأ والخطل، فعلى المرء أن يبذل وسعه لإدراك الحق ثم الله معين لإراءة الصواب ومعين لإلهام الصدق. وكذا الكلام في بيان الرباطات والمناسبات بين السور والآيات، وفي أنواع التكريرات وأصناف المشتبهات فإن للخواطر والظنون فيها مجالا، وللناس الأكياس في استنباط الوجوه والنسب هنالك مقالا، فعليك أيها المتأمل الفطن والمنصف المتدين أن لا تبادر في أمثال هذه المقامات إلى الاعتراض والإنكار، وتقرّ بأن للمؤلف في إعمال القريحة هنالك أجر الافتكار والابتكار، وتعمل فكرتك الصائبة وفطنتك الثاقبة في إبداء وجه جميل لما قرع سمعك، وتتعب خاطرك اليقظان وذهنك العجيب الشان في إبرار محمل لطيف لما ينافي الحال طبعك. ثم إن استبان لك حسن ذلك الوجه فأنصف تفلح، وإن غلب على ظنك قبحه فأصلح أو أسجع فإن لكل جواد كبوة ولكل حسام نبوة، وضيق البصر وطغيان القلم موضوعان، والخطأ والنسيان عن هذه الأمة مرفوعان، وإني لم أمل في هذا الإملاء إلّا إلى مذهب أهل السنة والجماعة فبينت أصولهم ووجوه استدلالاتهم بها وما ورد عليها من الاعتراضات والأجوبة عنها. وأما في الفروع فذكرت استدلال كل طائفة بالآية على مذهبه من غير تعصب ومراء وجدال وهراء، فاختلاف هذه الأمة رحمة، ونظر كل مجتهد على لطيفة وحكمة، جعل الله سعيهم وسعينا مشكورا، وعملهم وعملنا مبرورا. ولقد وقفت لإتمام هذا الكتاب في مدة خلافة علي رضي الله عنه وكنا نقدر إتمامه في مدة خلافة الخلفاء الراشدين وهي ثلاثون سنة، ولو لم يكن ما اتفق في أثناء التفسير من وجود الأسفار الشاسعة وعدم الأسفار النافعة، ومن غموم لا يعدّ عديدها وهموم لا ينادي وليدها، لكان يمكن إتمامه في مدّة خلافة أبي بكر كما وقع لجار الله العلامة، وكما أنه رأى ذلك ببركة جوار بيت الله الحرام فهذا الضعيف أيضا يرجو أن يرزقني الله تعالى ببركة إتمام هذا الكتاب زيارة هذا المقام ويشرفني بوضع الخد على عتبة مزار نبيه المصطفى محمد النبي الأمي العربي عليه وآله الصلاة والسلام فاسمع واستجب يا قدير ويا علام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 607 واعلموا إخواني رحمنا الله وإياكم وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، أن لكل مجتهد نصيبا قل أو أكثر، ولكل نفس عاملة قسطا نقص أو كمل، وأن الأعمال بالنيات وبها تجلب البركات وترفع الدرجات، وأن المرء بأصغريه وكل عمل ابن آدم سوى الخير كلّ عليه، والذي نفسي بيده وناصيتي بحكمه ومشيئته، عالم بسري ومحيط بنيتي أني لم أقصد في تأليف هذا التفسير مجرد جلب نفع عاجل لأن هذا الغرض عرض زائل ولا يفتخر عاقل بما ليس تحته طائل. سحابة صيف ليس يرجي دوامها وهل يشرئب إلى الأمور الفانية أو يستلذ بها من وهن من أعضائه عظامها، وكاد يفتر من قواه أكثرها بل تمامها؟ وإنما كان المقصود جمع المتفرق، وضبط المنتشر، وتبيين بعض وجوه الإعجاز الحاصل في كلام رب العالمين، وحل الألفاظ في كتب بعض المفسرين بقدر وسعي وحد علمي، وعلى حسب ما وصل إليه استعدادي وفهمي، والقرآن أجل ما وقف عليه الذهن والخاطر، وأشرف ما صرف إليه الفكر والناظر، وأعمق ما يغاض على درّه ومرجانه، وأعرق ما يكد في تحصيل لحينه. ولو لم تكن العلوم الأدبية بأنواعها، والأصولية بفروعها، والحكمية بجملها وتفاصيلها وسيلة إلى فهم معاني كتاب الله العزيز واستنباط نكتها من معادنها واستخراج خباياها من مكامنها لكنت متاسفا على ما أزجيت من العمر في بحث تلك القواليب، وأملت من الفكر في تأليف ما ألفت في كل أسلوب من أولئك الأساليب، ولكن لكل حالة آلة، ولك أرب سبب، وطالما أغليت المهور للعقائل وجنبت الوسائل للأصائل. قال الشاعر: أمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا وكان من معاصم المقاصد من إنشاء هذا التفسير أن يكون جليسي مدّة حياتي، وأنيسي في وقت مماتي حين لا أنيس للمرء إلا ما أسلف من بره، ولا ينفع الإنسان إلا ما قدّم من خيره. ولعمري إنه للمتبتل المنيب الأوّاه نعم العون على تلاوة كتاب الله العزيز ومحضرة مع القراءة ووجهها إن اشتبه عليه شيء منها، ومع الآي والوقوف إن ذهل عن أماكنها ومظانها. وكذا التفسير بتمامه إن أراد البحث عن الحقائق أو عزب عنه شيء من تلك الدقائق، وكذا التأويل إن كان مائلا إلى بطون الفرقان وسالكا سبيل الذوق والعرفان. وإني أرجو من فضل الله العظيم وأتوسل إليه بوجهه الكريم، ثم بنبيه القرشيّ الأبطحيّ، ووليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 608 المعظم العليّ وسائر أهله الغر الكرام وأصحابه الزهر العظام، وبكل من له عنده مكان ولديه قبول وشان، أن يمتعني بتلاوة كتابه في كل حين وأوان من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان على الوجه الذي ذكرت، ولأجل هذا لقيت في تأليفه من عرق الجبين وكد اليمين ما لقيت. وأن يعم النفع به لسائر إخواني في الدين ورفقائي في طلب اليقين، ثم أن يجعله عدّة في ليلة يرجع عن قبري العشائر والأهلون، وذخيرة يوم لا ينفع مال ولا بنون والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين خصوصا على رسوله المصطفى الأمين محمد وآله وصحبه أجمعين. تم بعونه تعالى تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري الجزء: 6 ¦ الصفحة: 609 الفهرس تتمة تفسير سورة الزمر الآيات: 32- 75 3 تفسير سورة غافر الآيات: 1- 22 19 الآيات: 23- 50 31 الآيات: 51- 85 39 تفسير سورة فصلت الآيات: 1- 24 46 الآيات: 25- 54 55 تفسير سورة الشورى الآيات: 1- 23 65 الآيات: 24- 53 75 تفسير سورة الزخرف الآيات: 1- 30 84 الآيات: 31- 56 90 الآيات: 57- 89 96 تفسير سورة الدخان الآيات: 1- 59 100 تفسير سورة الجاثية الآيات: 1- 37 108 تفسير سورة الأحقاف الآيات: 1- 20 115 الآيات: 21- 35 123 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 611 تفسير سورة محمد الآيات: 1- 18 127 الآيات: 19- 38 134 تفسير سورة الفتح الآيات: 1- 29 140 تفسير سورة الحجرات الآيات: 1- 18 155 تفسير سورة ق الآيات: 1- 45 171 تفسير سورة الذاريات الآيات: 1- 60 182 تفسير سورة الطور الآيات: 1- 49 191 تفسير سورة النجم الآيات: 1- 62 196 تفسير سورة القمر الآيات: 1- 55 214 تفسير سورة الرحمن الآيات: 1- 78 325 تفسير سورة الواقعة الآيات: 1- 96 236 تفسير سورة الحديد الآيات: 1- 29 248 تفسير سورة المجادلة الآيات: 1- 22 264 تفسير سورة الحشر الآيات: 1- 24 279 تفسير سورة الممتحنة الآيات: 1- 13 289 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 612 تفسير سورة الصف الآيات: 1- 14 295 تفسير سورة الجمعة الآيات: 1- 11 299 تفسير سورة المنافقون الآيات: 1- 11 303 تفسير سورة التغابن الآيات: 1- 17 307 تفسير سورة الطلاق الآيات: 1- 12 311 تفسير سورة التحريم الآيات: 1- 12 318 تفسير سورة الملك الآيات: 1- 30 323 تفسير سورة القلم الآيات: 1- 52 332 تفسير سورة الحاقة الآيات: 1- 52 343 تفسير سورة المعارج الآيات: 1- 44 354 تفسير سورة نوح الآيات: 1- 28 361 تفسير سورة الجن الآيات: 1- 28 367 تفسير سورة المزمل الآيات: 1- 20 376 تفسير سورة المدثر الآيات: 1- 65 384 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 613 تفسير سورة القيامة الآيات: 1- 40 398 تفسير سورة الإنسان الآيات: 1- 31 408 تفسير سورة المرسلات الآيات: 1- 50 420 تفسير سورة النبأ الآيات: 1- 40 428 تفسير سورة النازعات الآيات: 1- 46 437 تفسير سورة عبس الآيات: 1- 46 445 تفسير سورة التكوير الآيات: 1- 29 451 تفسير سورة الانفطار الآيات: 1- 19 457 تفسير سورة المطففين الآيات: 1- 36 461 تفسير سورة الانشقاق الآيات: 1- 25 468 تفسير سورة البروج الآيات: 1- 22 473 تفسير سورة الطارق الآيات: 1- 17 479 تفسير سورة الأعلى الآيات: 1- 19 482 تفسير سورة الغاشية الآيات: 1- 26 488 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 614 تفسير سورة الفجر الآيات: 1- 30 493 تفسير سورة البلد الآيات: 1- 20 501 تفسير سورة الشمس الآيات: 1- 15 506 تفسير سورة الليل الآيات: 1- 15 510 تفسير سورة الضحى الآيات: 1- 11 514 تفسير سورة الانشراح الآيات: 1- 8 521 تفسير سورة التين الآيات: 1- 8 524 تفسير سورة العلق الآيات: 1- 19 528 تفسير سورة القدر الآيات: 1- 5 535 تفسير سورة البينة الآيات: 1- 8 542 تفسير سورة الزلزلة الآيات: 1- 8 546 تفسير سورة العاديات الآيات: 1- 11 549 تفسير سورة القارعة الآيات: 1- 11 552 تفسير سورة التكاثر الآيات: 1- 8 554 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 615 تفسير سورة العصر الآيات: 1- 3 558 تفسير سورة الهمزة الآيات: 1- 9 561 تفسير سورة الفيل الآيات: 1- 5 564 تفسير سورة قريش الآيات: 1- 4 568 تفسير سورة الماعون الآيات: 1- 7 572 تفسير سورة الكوثر الآيات: 1- 3 575 تفسير سورة الكافرون الآيات: 1- 6 581 تفسير سورة النصر الآيات: 1- 3 584 تفسير سورة المسد الآيات: 1- 5 588 تفسير سورة الإخلاص الآيات: 1- 4 593 تفسير سورة الفلق الآيات: 1- 5 598 تفسير سورة الناس الآيات: 1- 6 603 خاتمة الكتاب 606 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 616